... ...
مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة
رسالة ماجستير
إعداد الطالب
حسن موسى محمد العقبي
إشراف الدكتور
صالح حسين الرقب
قدمت هذه الرسالة كمتطلب تكميلي لنيل درجة الماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة
1426هـ ـ 2005 م
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
شكر وتقدير
... الحمد لله الذي أعانني على كتابة هذا البحث وإنجازه وصلى الله عليه وسلم على عبده المصطفى الذي بذكره تتم الصالحات وبعد :
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يشكر الله من لا يشكر الناس).(1) فإنني أتوجه بالشكر لكل من كان عوناً لي في إنجاز هذا البحث وإتمامه على هذه الصورة التي أرجو أن تكون مرضية .
... وأخصّ بالشكر الأستاذ الدكتور صالح حسين الرقب المشرف على هذه الرسالة؛ لما قام به من قراءة ومتابعة وتوجيه رغم ضيق وقته، وكثرة أشغاله ولما اتسم به من سعة الصدر والأفق؛ فله من الله الثواب الجزيل.
... كما أتقدم بعظيم الشكر لكل الأخوة الذين وقفوا بجانبي أثناء إعداد بحثي وأخصّ بالشكر الأخ / سمير العقبي الذي عمل جاهداً على توفير المصادر الأساسية من الأردن، كما اتقدم بالشكر إلى الأخ الأستاذ عادل الحولي لما بذله من جهد وفير في تصحيح الرسالة لغوياً ونحوياً فله جزيل الشكر، كما أتقدم بالشكر إلى الأخ خليل شرف الذي قام بتنسيق هذه الرسالة على أكمل وجه.
... كما أتقدم بالشكر للجامعة الإسلامية بغزة التي هيأت لي شرف الانتساب إليها وأخص بالذكر كلية أصول الدين ممثلة في قسم العقيدة والذي كان للقائمين عليه فضل نجاح هذا القسم واستمراريته.
__________
(1) سنن أبو داوود : كتاب الأ دب ، باب في شكر المعروف، حديث 4811 . سنن الترمذي : كتاب البر والصلة ،باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك، وقال الترمذي ، حديث حسن صحيح.(1/1)
ولا يسعني أيضاً إلا أن أتوجه بالشكر الجزيل لكل من مكتبتي: الجامعة الإسلامية بغزة ومركز العلم والثقافة بالنصيرات ، ولكل مكتبةكان لها دور في مساعدتي أيمّا مساعدة في إثراء هذا البحث وإتمامه .
المقدمة
... إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما ، وبعد:
... فقد كثرت الأبحاث والدراسات حول شخصيات كثير من المفكرين والدعاة الذين عاشوا في القرن العشرين، وهناك قلّة لم ينالوا حظهم من الدراسة والبحث ، ومن هؤلاء المفكر الجزائري مالك بن نبي، على الرغم مما له من ريادة في إثارة العديد من القضايا الفكرية ومشكلاتها، فهو من القلائل الذين طرحوا مشكلات الحضارة المعاصرة من منظور إسلامي إلى جانب الطرق الأخرى الحديثة للحضارة غير الطريقين: الرأسمالي والاشتراكي.
... وقد كان له في كل ذلك أطروحاته وأفكاره التحليلية والتشخيصية المميزة ومصطلحاته الخاصة التي شاعت في السنوات الأخيرةعلى ألسنة وأقلام الكثيرين من المفكرين والكتّاب.
... إن الدارس لفكر مالك بن نبي سيكتشف أنه دون معاصريه من المفكرين المسلمين قد أولى اهتماماً كبيراً وعميقاً للإنسان المسلم، متابعاً في ذلك علله ونقائصه ومحللأ أبعاد الظواهر والمشكلات التي تحيط به، ومقترحاً الحلول في إطار إسلامي واضح وإجمالاً كان ابن نبى في فكره مدرسة وحده.
أهمية البحث وأسباب اختياره:
لقد وقع اختياري على موضوع (مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة) ليكون مجال بحثي ودراستي في مرحلة الماجستير( فرع العقيدة والمذاهب المعاصرة ) واخترت الكتابة فيه للأمور التالية:(1/2)
1ـ إن مالك بن نبي رائد في ميدان الفكر الإسلامي، ورائد في ميدان الصبر على الابتلاء في مواجهة التحدي والفتن، بذل حياته في سبيل نشر الفكر الإسلامي، ومواجهة الفكر الغربي.
2ـ إن من حق الأجيال المسلمة ـ وخاصة العاملين في حقل الفكر الإسلامي الحديث ـ أن يفيدوا من أفكار بن نبي، وأن يأخذوا العبر والدروس من صفحات حياته وجهاده وسيرته.
3ـ إن هذا المفكر لم يتناول فكره الباحثون المتخصصون في الدراسات الشرعية، بل بحث فكره الباحثون الاجتماعيون، بدون ربط فكره بالواقع الإسلامي، ولذلك يجب إعطاء هذا المفكر جهد الباحثين الإسلاميين، وإن هذه الدراسة تعتبر جديدة في هذا الموضوع من الجهة التي سأبحثها فلم يكتب بها ـ على حد علمي ـ أحد .
... لهذا آثرت الكتابة في هذا الموضوع متوكلاًعلى الله تعالى ، مستمداً منه ـ تعالى ـ السداد والتوفيق .
الدراسات السابقة :
1ـ كتاب ( التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي ) مؤلفه الدكتور علي القريشي وهذا الكتاب تناول فكرابن نبّى من الناحية التربوية والاجتماعية فقط .
2ـ كتاب ( مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً ) مؤلفه الدكتور أسعد السحمراني، حيث تناوله من ناحية الفكر الثوري .
3ـ كتاب ( ثغرة في الطريق المسدود) مؤلفه سيد دسوقي حسن تناول فكرمالك بن نبي من الناحية التربوية .
4ـ مقال بعنوان ( أسباب انحطاط المسلمين دراسة في أفكار مالك بن نبي) بقلم إبراهيم البيومي غانم في مجلة منبر الشرق لم يتجاوز أربع صفحات، والموضوع ـ في نظري ـ يحتاج إلى رسالة علمية كاملة، تتناول فكره الإسلامي، ومواقفه الإسلامية في الحضارة المعاصرة.
5ـ مقال بعنوان ( التغير الاجتماعي عند مالك بن نبي والمجتمع الإسلامي المعاصر ) حيث بلغ عشر صفحات للدكتور عمّار الطالبي .
6ـ مقال بعنوان ( التغير الاجتماعي عند مالك بن نبي بين تحديد العناصر ومعالجة الحركة) حيث بلغ أربع صفحات، مجلة الإسلام لا يوجد اسم لكاتب المقال.
منهج البحث :(1/3)
... أمّا بالنسبة للمنهج الذي سيسير عليه الباحث فهو : المنهج الوصفي التحليلي في دراسته عن ابن نبي حيث يذكر آراء وأفكار مالك بن نبي المتعلقة بالبحث ، ثم يقوم بتحليلها ونقدها في ضوء العقيدة الإسلامية .
1ـ توثيق مراجع ومصادر البحث .
2ـ تخريج الأحاديث والحكم عليها.
3ـ وضع فهارس للآيات والأحاديث التي وردت في البحث.
4ـ وضع فهارس للأعلام المترجم لها في البحث.
خطة البحث
ينقسم البحث إلى مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة على النحو الآتي:
المقدمة : وتتضمن أهمية البحث، وسبب اختيار دراسته، الدراسات السابقة ، ثم المنهج الذي سيسير عليه الباحث خلال دراسته.
الباب الأول : مالك بن نبي عصره وحياته.
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصره وتأثره به:
ويشتمل على أربعة مباحث.
المبحث الأول : الحياة السياسية.
المبحث الثاني: الحياة الثقافية والعلمية.
المبحث الثالث : الحياة الدينية.
المبحث الرابع: الحياة الاجتماعية.
الفصل الثاني : حياته.
ويشتمل على أربعة مباحث.
المبحث الأول : اسمه ومولده ونشأته ووفاته.
المبحث الثاني : طلبه للعلم وثقافته.
المبحث الثالث : أعماله ومؤلفاته وأقوال العلماء فيه .
المبحث الرابع : مذهبه الاعتقادي .
الباب الثاني: موقف ابن نبي من الحضارة الغربية المعاصرة والاستعمار والاستشراق
ويشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول : موقفه من الحضارة الغربية المعاصرة.
ويشتمل على مبحثين .
المبحث الأول : تعريف الحضارة ومفهومها عند مالك بن نبي وغيره.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول : تعريف الحضارة لغة واصطلاحا .
المطلب الثاني : مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي.
المبحث الثاني : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وغيره من المفكرين الإسلاميين .
ويشتمل على أربعة مطالب:
المطلب الأول : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وابن خلدون .
المطلب الثاني : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب .(1/4)
المطلب الثالث : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وأبى الأعلى المودودي.
المطلب الرابع : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسعيد حوّى.
الفصل الثاني : موقف مالك بن نبي من الاستعمار.
ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الاستعمار : تعريفه وأنواعه وأهدافه ونتائجه .
المبحث الثاني : الاستعمار والغزو الفكري .
المبحث الثالث : الاستعمار والابتعاث.
الفصل الثالث : موقف مالك بن نبي من الاستشراق.
ويشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : الاستشراق : تعريفه وأهدافه ونتائجه.
المبحث الثاني : موقف المستشرقين من الوحي .
المبحث الثالث : موقف المستشرقين من النبوة .
المبحث الرابع : موقف المستشرقين من القرآن .
الباب الثالث: موقف مالك بن نبي من المذاهب الفكرية المعاصرة.
ويشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول : موقف مالك بن نبي من الرأسمالية .
ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : الرأسمالية تعريفها وأسسها .
المبحث الثاني : مناقشة ابن نبي للرأسمالية ونقده لها.
الفصل الثاني : موقف مالك بن نبي من الديمقراطية .
ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : الديمقراطية تعريفها وأسسها .
المبحث الثاني : مناقشة مالك بن نبي للديمقراطية ونقده لها .
الفصل الثالث : موقف مالك بن نبي من الماركسية الشيوعية .
ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الماركسية تعريفها وأسسها وقوانينها.
المبحث الثاني : نقد مالك بن نبي للمادية الديالكتيكية.
المبحث الثالث : نقد مالك بن نبي للمادية التاريخية .
الفصل الرابع : موقف مالك بن نبي من القومية.
ويشتمل على مبحثين.
المبحث الأول : القومية تعريفها وأسسها.
المبحث الثاني : موقفه من دعاة القومية .
الباب الرابع : موقف مالك بن نبي من الفكر الإسلامي الحديث.
ويشتمل على فصلين.
الفصل الأول : موقفه من الدعوات الإصلاحية ورجالها .
ويشتمل على أربعة مباحث.
المبحث الأول : موقفه من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب .(1/5)
المبحث الثاني : موقفه من دعوة الأفغاني ومحمد عبده .
المبحث الثالث: موقفه من جمعية العلماء الجزائريين.
المبحث الرابع : موقفه من حركة الإخوان المسلمين .
الفصل الثاني : مستقبل الإسلام عند مالك بن نبي .
ويشتمل على ثلاثة مباحث.
المبحث الأول : أسباب ضعف المسلمين .
المبحث الثاني : شروط نهضة العالم الإسلامي ومعوقاتها .
المبحث الثالث : مستقبل الإسلام ودور المسلم فيه .
الخاتمة : وفيها أهم النتائج التي توصل إليها الباحث
الباب الأول
مالك بن نبي عصره وحياته.
الفصل الأول: عصره.
الفصل الثاني: حياته.
الفصل الأول
عصره
المبحث الأول : الحياة السياسية
المبحث الثاني : الحياة الثقافية والعلمية
المبحث الثالث : الحياة الدينية
المبحث الرابع : الحياة الاجتماعية
المبحث الأول
الحياة السياسية
الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي:
منذ أن فتح المسلمون الأتراك شمال أفريقية في القرن السادس عشر، ومنها الجزائر فقد حمل الحاكم الإقليمي لها لقب داي(1)
__________
(1) انظر : تاريخ الشعوب الإسلامية : كارل بروكلمان ، دار العلم للملايين ، بيروت ، بدون رقم ط ، ترجمة نبيه فارس ، منير البعلبكي ، ص619 .
(2) الدايات والبايات جمع داي وجمع باي ، وهو لقب يطلق على الحاكم الإقليمي الذي يحكم ولاية أو إقليم في الشمال الإفريقي في عصر الخلافة العثمانية .
(3) حقيقة الجزائر : عبد الحميد الجزائري ، مكتبة الجزائر للدعاية والنشر ، بدون رقم طبعة ، ص20 .
(4) الجزائر والحملات الصليبية : بسام العسلي ، دار النفائس ، ط1 ، 1980 ، ص161 ، 172 .
(5) حقبقة الجزائر : ص23 .(1/6)
"ولقد كان للجزائر من الحرية السياسية أكثر مما لأي دولة من الممالك المستقلة آنذاك... وإن من يراجع قائمة أسماء الدايات(1) وتاريخ حياتهم يجد الدليل على أن العدد الأكبر منهم من أصل جزائري، وأن حسين باشا خليفة الداي التركي خير الدين الأميرال التركي الذي حمى شواطئ المغرب من غزوات البرتغال، جاء نتيجة زواج خير الدين من جزائرية " (2) وقد "كان الولاة يستقلون بإدارة الجزائر الداخلية تمام الاستقلال، ولا تربطهم بالدولة العليا سوى روابط الود والاعتراف بالحماية، وهي رابطة أشبه ما تكون بروابط الأحلاف، بل إن هذه العلاقة أو الرابطة كثيراً ما تترك للجزائر الحرية لانتهاج سياسة خارجية، مغايرة لتلك التي تلتزم بها الخلافة وعلى سبيل المثال...الموقف الذي اتخذته الجزائر تجاه فرنسا التي كانت قد ارتبطت مع الخلافة العثمانية بمعاهدة (الامتيازات القنصلية )، وجاءت الجزائر لترفض منح فرنسا هذه الامتيازات، لأنها وجدتها تتناقض مع مصالحها "(3) ومما يدل على ذلك أيضاً أن الجزائر كانت " تمتلك زمام أمرها حيث أجرت علاقات دبلوماسية، مع عدة دول ومنها فرنسا حتى جاء أول قنصل فرنسي عام1564م، وقد حدث تحالف في القرن السادس عشر بين الجزائر وفرنسا، وبمقتضى هذا التحالف استنجدت فرنسا بالأسطول الجزائري لحماية شواطئها من العدو المشترك في ذلك وهو أسبانيا وملكها " شارل كان " فهل ممكن أن يحدث هذا والجزائر جزء طبيعي من فرنسا كما تدعي " (4) حيث ادعت ذلك عندما جهزت الجيوش لاحتلالها.
الاحتلال الفرنسي للجزائر :(1/7)
... لقد واجهت فرنسا أزمة اقتصادية ، فطلبت المساعدة من الجزائر، فقدمت الجزائركميات من الحبوب لفرنسا كدين عليها، وهذا الازدهار وجه أنظار فرنسا، للطمع في استغلال ثروة البلد مما شجعها إلى احتلال الجزائر، ويظهر ذلك أنه لمّا طالبت الجزائر بديونها، قامت فرنسا بالمماطلة، ثم اختلقت الذرائع؛ لاحتلال الجزائر فجيشت الجيوش وتوجهت للجزائر، فواجهتها المقاومة في أشكال متعددة تتغير وتتبدل حسب الواقع الذي تعيشه المقاومة الجزائرية (1).
المقاومة العسكرية :
... وقد كان في الإقليم الشرقي كان الباي أحمد يقاوم إلى أن انهزم هوالآخر في النهاية وذلك في عام 1837م، وفي الإقليم الغربي الأمير عبد القادر الجزائري، الذي بقى في مقاومته للفرنسيين إلى أن أسر في نهاية عام 1847م، ثم أخذت تجدد المقاومة العسكرية من سنة إلى أخرى حسب الظروف الموجودة ، إلى أن كان آخر المقاومة العسكرية عام 1916م حيث تمّ تجنيد الجزائريين للاشتراك مع فرنسا في الحرب العالمية الأولى(2).
وبعد فشل الثورات العسكرية، كان هناك نوع من الكمون المؤقت، ثم اتجه الشعب إلى نوع آخر من المقاومة من الممكن أن نسميه المقاومة السياسية .
المقاومة السياسية : من عام 1900 ـ 1962م
لقد كان ذلك عن طريق إنشاء الأحزاب السياسية ، للعمل على المطالبة بالحقوق عن طريق العمل السلمي أملاً فى تحقيق الاستقلال، أو على أقل تقدير المساواة بالفرنسيين ومن ثم بدأت التيارات والأحزاب السياسية تظهر على السطح ، ولأهمية ذلك في الحياة الجزائرية؛ فلابد من إلقاء الضوء على الحركة السياسية من خلال هذه الأحزاب :
1-الحزب الليبرالي:
__________
(1) انظر : الحركة الوطنية الجزائرية : أبو القاسم سعد الله ، ط1 عام 1922 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت لبنان 1/ 140.: هذه هي الجزائر : أحمد توفيق المدني ، بدون رقم طبعة ، بدون دار طبع ، ص84 ـ 154.
(2) هذه هي الجزائر : ص151، 154(1/8)
ترجع أولى الدعوات المنبثقة عن هذا الحزب إلى عام 1912م ، إلا أنه لم يظهر من الوجهة الرسمية إلا في 11 سبتمبر عام1927م ، وبعض الكتّاب ربط ميلاد هذا الحزب بانتخابات عام 1919م ، وكان يدعى هذا الحزب باسم (فيدرالية المسلمين الجزائريين المنتخبين )
وبرنامج هذا الحزب هو:
ـ احترام الحضارة الإسلامية.
ـ التخلي عن نظرية الامتياز العنصري.
ـ المساواة في الحقوق السياسية.
ـ تحويل المجتمع الجزائري إلى مجتمع حديث ، عن طريق جماعة النخبة ، لا عن طريق الفرنسيين .
ـ إن الجزائريين كاليابانيين ، يطمحون إلى وضع أنفسهم في المدارس الأوربية ، دون أن يفقدوا حضارتهم الخاصة .
ومن هذا البرنامج يتضح ، أن هذا الحزب من دعاة الاندماج مع فرنسا ، مع المحافظة على حقوق الجزائريين وحضارتهم(1).
2- الحزب الإصلاحي :
... " تأسس هذا الحزب في عام 1919م ، وكان يسمى (وحدة النواب المسلمين )
وبرنامج هذا الحزب هو :
ـ تمثيل الجزائر في المجلس الوطني الفرنسي بنسبة متساوية مع الفرنسيين .
ـ إلغاء كامل القوانين الاستثنائية والإجراءات المتخذة ضد الجزائريين فقط .
ـ إلغاء المحاكم الرادعة والمحاكم الاستثنائية ، ونظام المراقبة الإدارية (وهو اسم يطلق على الاحتجاز السري ) مع عودة كاملة وصريحة إلى العمل بالقانون العام .
ـ المساواة في المسئوليات والحقوق مع الفرنسيين بخصوص الخدمة العسكرية .
ـ دخول الجزائريين إلى كل المراتب المدنية والعسكرية دون تمييز؛ غير تمييز الجدارة والقدرة .
ـ حرية الصحافة والاجتماع .
ـ فصل الإسلام عن الدولة الفرنسية .
ـ إعلان العفو العام .
ـ تطبيق القوانين الاجتماعية والعمالية الفرنسية على الجزائر.
ـ الحرية المطلقة للجزائريين للعمل في فرنسا " .(2)
__________
(1) انظر : الحركة الوطنية الجزائرية : 2 / 351 ، 352 .
(2) المصدر السابق : 2 / 366 .(1/9)
ومن هذا البرنامج يتضح لنا أن هذا الحزب من دعاة الاندماج مع فرنسا ، ولم يراعي ديانة الجزائريين وهو علماني.
3-جمعية نجم شمال إفريقيا:
... تأسست هذه الجمعية في باريس عام 1925م من العمال الجزائريين والتونسيين والمغاربة . ثم انسحبوا وبقى الجزائريون فقط .
وبرنامج هذه الجمعية هو :
ـ الاستقلال الكامل للجزائر .
ـ إجلاء الجيش الفرنسي.
ـ إنشاء جيش وطني.
ـ مصادرة الأملاك الزراعية للفرنسيين والشركات الإقطاعية .
ـ احترام الأملاك المتوسطة والصغيرة للفرنسيين.
ـ إرجاع الأراضي والغابات التي أخذتها الدولة الفرنسية إلى الجزائر.
ـ الإلغاء الفوري لقانون الأهالي وجميع القوانين الاستثنائية الأخرى.
ـ العفو العام عن الجزائريين الذين كانوا قد سجنوا أو نفوا ،أو كانوا يعيشون تحت الرقابة الفرنسية.
ـ حرية الصحافة ، والاجتماع ، والتجمع ، ومنح الحقوق السياسية والنقابية، كتلك التي منحت للفرنسيين في الجزائر.
ـ إحلال مجلس وطني جزائري منتخب بطريقة التصويت العام .
ـ إنشاء مجالس منتخبة بطريقة التصويت العام .
ـ حق الجزائر في التمتع بجميع مستويات التعليم .
ـ خلق المدارس باللغة العربية تطبيق جميع القوانين الاجتماعية الفرنسية على الجزائر.
ـ زيادة القروض الفلاحية إلى الفلاحين الجزائريين الصغار.
وبعد أن حُلَّ الحزب ، من قبل الفرنسيين، أُسس مرة جديدة، تحت اسم آخر، هو حزب الشعب الجزائري .
ومن هذا البرنامج يتضح لنا ان هذا الحزب من دعاة الاستقلال .
4-الحزب الشيوعي الجزائري:
وبرنامج هذا الحزب هو:
ـ تأسيس جمهورية حرة .
ـ ارتباط هذه الجمهورية بفرنسا على أساس الحرية وحق تقرير المصير .
من برنامج هذا الحزب يظهر أنه من دعاة الاستقلال .
5ـ جمعية العلماء الجزائريين:
برزت هذه الجمعية إلى الوجود رسميا ًفي الخامس من شهر مايو عام 1931م.
وبرنامج هذه الجمعية هو:
ـ إصلاح عقيدة الشعب الجزائري، وتنقيحها من الخرافات والبدع .(1/10)
ـ محاربة الجهل بتثقيف العقول، والرجوع بها إلى القرآن والسنة، عن طريق التربية والتعليم.
ـ المحافظة على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، بمقاومة سياسة التنصير والفرنسة.
ـ الدعوة إلى استقلال الجزائر.
وبالرغم من المقاومة السياسية، التي مكثت مدة طويلة ، على أمل الحصول على الاستقلال ، إلا أنها لم تحقق شيئا للشعب الجزائري، وجاءت الحادثة التي غيّرت مسار التفكير الجزائري، والوصول إلي قناعة ثورية جديدة وهي أن طريق المطالبة والاستجداء ليست ذات فائدة، ففي يوم 8 مايو عام 1945م احتفل العالم الغربي الحر بعقد هدنة مع ألمانيا، وأراد الجزائريون أن يشاركوا في هذا الاحتفال، وأن يتخذوا منه وسيلة لإظهار عواطفهم، وبيان أهدافهم ، فأعدوا لمظاهرة سلمية بمدينة سطيف في ذلك اليوم، فتحرش بها الفرنسيون، وقتلوا غلاماً، وبدأت المذبحة حيث قتلوا في ذلك اليوم 45 ألفاً من المسلمين. ... فكانت المذبحة الشرارة الأولى للثورة الجزائرية الكبرى، وظهر أول منشور للثورة تحت إمضاء (لجنة الثورة للاتحاد والعمل )، ثم تخلى المسئولون عن هذا الاسم، وأعلنوا تشكيل (جبهة التحرير الوطني الجزائري )، التي فتحت أبوابها لقبول كل جزائري مخلص مهما كانت هويته القديمة ومهما كان حزبه السابق، حيث أعلنت الجبهة أهدافها ، وأهمها الاستقلال والتخلص من الحكم الاستعماري.
و أخيراً قررت الجزائر مصيرها ، فاختارت الاستقلال الكامل واعترفت به فرنسا في 2 يوليو عام 1962م. (1)
الحياة السياسية : 1962 ـ 1973م
__________
(1) انظر : موسوعة التاريخ الإسلامي : أحمد شلبي ، ط7 ، دار النهضة المصرية ،سنة 1984 ، 4 / ص266 ، الحركة الوطنية الجزائرية : 2 / 379 ، هذه هي الجزائر : ص168،ص 169 ،ص 177 ،ص 178،ص 179 ،ص197 ،ص 198 الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي : هنري كلود ، ترجمة محمد عيتاني منشورات مكتبة المعارف ،بيروت بدون تاريخ نشر ص147.(1/11)
... لقد انطوت جميع الأحزاب قبل الاستقلال تحت راية موحدة هي جبهة التحرير الوطني، وانتظم أفرادها تحت قيادة عسكرية موحدة باسم جيش التحرير الوطني، وبقى الجميع في صف واحد حتى تحقق الاستقلال، حيث استولى جيش الحدود حليف أحمد بن بيلا على السلطة، وبدأ الصراع يحتدم بين قيادة جبهة التحرير فيما بينها، وصار هناك تسابق إلى السلطة، حيث وجدت داخل هذه الجبهة أربعة تيارات سياسية منها:
1 ـ التيار الإسلامي:
وكان يقود هذا التيارالشيخ محمد بشير الإبراهيمي(1)، ممثل العلماء حيث هاجم برنامج بن بيلا بعنف ، واصفاً إيّاه بالشيوعي ومن برنامج هذا التيار:
أ ـ الإسلام مصدر مرجعي لتسوية المشاكل ذات الطابع السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ب ـ تعميم استعمال اللغة العربية.
ج ـ احترام الحريات السياسية، بما فيها حرية التعبير، واحترام حق الملكية والانفتاح على العالم الخارجي .
د ـ معارضة الاشتراكية والعلمانية (2) باعتبارهما مناقضتين للإسلام.
2ـ التيار الليبرالي:
... يتزعمه فرحات عباس كان يدعو إلى الليبراليه ومن برنامج هذا التيار:
__________
(1) محمد البشير الإبراهيمي : ولد في عام 1889 م ، وتوفى عام 1965 م ، كان وكيلاً لجمعية العلماء الجزائريين ، التي كانت برئاسة عبد الحميد بن باديس ، وله كتب مخطوطة منها ، شعب الإيمان في الأخلاق والفضائل ، أسرار الضمائر ،كاهنة أراس ،نشر الطي من أعمال عبد الحي، انظر : الأعلام :خير الدين الزركلي : دار العلم للمليين ، بيروت لبنان ، ط 1989م، 6 / 54 ،الموسوعة الحركية تراجم إسلامية من القرن الرابع عشر الهجري : فتحي يكن، مؤسسة الرسالة ط 1980 م ، ص43 .
(2) انظر : في أصل الأزمة الجزائرية : عبد الحميد براهيمي ، ط1 بيروت ، عام 1985 م ، 1999 م ، سلسلة مركز دراسات الوحدة العربية ، ص97 .(1/12)
أ ـ إنشاء نظام جمهوري وديمقراطي ذي طابع غربي، حيث الحكومة مسئولة أمام البرلمان الذي يجسد سيادة الشعب ، الذي هو مصدر السيادة.
ب ـ أن تكون جبهة التحرر الوطني تعددية، وأن لا تسخرها زمرة أوعصبة.
ج ـ فضح أيَ إقصاء للتيارات الإيدلوجية أو السياسية.
يوجد في الجزائر خلال تلك الفترة تياران شيوعيان هما: الحزب الشيوعي الجزائري ومناصروا التسيير الذاتي :
3 ـ التيارات الشيوعية :
... يوجد في الجزائر خلال تلك الفترة تياران شيوعيان هما: الحزب الشيوعي الجزائري ومناصروا التسيير الذاتي:
أولاً:الحزب الشيوعي الجزائري: هو امتداد للحزب الشيوعي الفرنسي .
أـ يعرف بإخلاصه للإتحاد السوفيتي، وبتقيده بأطروحاته التي لا صلة فعلية لها بعقيدة البلد.
ب ـ عرف بأنه كان ذا هيكلية حسنة ، ولذلك كان له حضور مهم في المنظمات الجماهيرية التي يقودها، وهي الاتحاد العام للشغيلة الجزائريين، والاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، وجبهة التحرير الوطني .
ثانياً : مناصروا التسيير الذاتي :
... كانوا ذوي تكوين فكري يتصل بالأصول الماركسية ، وبذلك هم يختلفون عن الحزب الشيوعي الجزائري، ولقد دعم هذا الإتجاه من قبل كل من أحمد بن بيلا، وهوّاري بومدين.
4 ـ التيار الشعبوي في جبهة التحرير الوطني :
إن مصدر الوطنية الشعبوية هو الكفاح ضد الاستعمار، وقد تعزز هذا التيار خلال حرب التحرير ، وفي عهد بن بيلا سيطر هذا التيار على جبهة التحرير الوطني.(1)
...
المبحث الثاني
الحياة الثقافية والعلمية
مرحلة الاحتلال الفرنسي:
... يرى الباحث تسهيلاً للدراسة، أن يقسم هذه المرحلة إلى قسمين أولاً: مرحلة التجهيل وثانياً: مرحلة الصحوة.
... ... أولاً : مرحلة التجهيل : 1830 –1910م
__________
(1) انظر :في أصل الأزمة الجزائرية : ص97 _ 100 .(1/13)
... ... إن أي دولة من الدول تضع ضمن برنامجها سياسة معينة، ولذلك كان على رأس الأولوية السياسية عند فرنسا بالنسبة للجزائر هو سياسة التجهيل، بمعنى العمل على تجهيل الشعب حتى تسهل السيطرة عليه، أو العمل على برمجته ضمن سياسة تعليمية خاصة تخرجه من ثقافته الإسلامية، وتجعله يدور في فلك ثقافة فرنسا، وفي كلا الحالتين سيتقبل الوجود الفرنسي بجهله أو بعلمه المبرمج، وهذا ما أتضح لنا من برامج الأحزاب التي كانت ترى سياسة الدمج.
... ... ... ولتطبيق سياسة التجهيل، فقد أتبعت " سياسة تعليمية تهدف إلى تهديم الثقافة الوطنية للجزائر، وإبعاد اللغة العربية، التي اعتبرت لغة أجنبية حتى عام 1947م، رغم أن جميع سكان البلاد يتكلمونها" (1) فقد بدأت منذ اللحظة الأولى في تحطيم مصادر الثقافة ... الموجودة في الجزائر، فوجهت جنودها إلى تخريب المكتبات وتمزيق الكتب أو سرقتها " (2) فهذا أحدهم، يروي أن المكتبات الفرنسية تضم مخطوطات من قسنطينة بعث بها جنود الحملة، هدايا إلى مساقط رؤوسهم ".(3)
__________
(1) الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي: ص138.
(2) الحركة الوطنية الجزائرية : 1/ 89.
(3) المصدر السابق : 1/ 89.(1/14)
... ... ... وقام الفرنسيون بإحراق وتخريب الكتب والمخطوطات التي كانت موجودة في مكتبة الأمير عبد القادر الجزائري (1) وكان هذا العمل منسحبا على كل المكتبات الخاصة والعامة الموجودة آنذاك، ومراكز التثقيف الأخرى، فهذه سياسة كل احتلال استعماري وبعد العمل على تدمير مصادر الثقافة بدأوا في إعادة تشكيل العقلية الجزائرية بطرق كثيرة منها: الصحافة، حيث قاموا بإصدار أول صحيفة تصدر في الجزائر اسمها (الاسطافيت دالجي) (المنيتور الجيران ) (2) تعمل من خلالهما على تشكيل عقلية ما بعد الاحتلال من دعاة الاندماج مع فرنسا.
... وبالنسبة للتعليم ففي عام 1944م كان " عدد الأطفال الجزائريين، الذين يتلقون العلم في المدارس الابتدائية، يبلغ (100000) طفل دراستهم في (699) مدرسة تشتمل على (1908 ) فصلاً دراسياً، أمّا الأطفال الفرنسيون الذين يتلقون العلم في نفس الفترة المذكورة فبلغ (200000) طفل، يتلقون دراستهم في (1400) مدرسة تشتمل على(4,200) فصل دراسي " (3) وهذه تفرقة واضحة، وأما التعليم الثانوي فقد كان كله فرنسي " يزاول في (49) مدرسة ثانوية... وهو يشمل(34,868) تلميذ، منهم (5,300) فقط من الفتيان الجزائريين و(952) من الفتيات ،والتعليم الجامعي فمن بين ((1546) طالباً في كليات الجامعة الجزائرية ،حيث لم يوجد يوم إعلان الثورة الكبرى إلا (557) طالباً ليس إلاّ.
__________
(1) انظر : الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الاصلاح والتربية : تركي رابح عمامرة ط4 ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ص98 .
(2) انظر : الحركة الوطنية الجزائرية : 2 / 31.
(3) الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية : ص97 .(1/15)
وهكذا يوجد طالب واحد لكل (227) نسمة من الأوربيين، بينما لا يوجد إلا طالب واحد لكل (15,500) من المسلمين " (1) من هذه الأرقام تظهر لنا الحالة التعيسة للتعليم في الجزائر، التي أنتجتها السياسة الثقافية والتعليمية الاستعمارية الفرنسية في الجزائر .
... وقد اعترف بذلك الفرنسيون، يقول أحد مفكريهم: " بالجزائر كانت نسبة التعليم العربي 65% من السكان تحت قيادة الأمير عبد القادر، بينما عند تحريرها أصبح بها 65% الأميين مع 8% فقط من الشعب الجزائري ذي ثقافة فرنسية ؟! ".(2)
... ... ثانياً : مرحلة الصحوة : 1910 –1962م.
... ... لقد ذهب كثير من الشباب إلي خارج الجزائر لكي يكملوا تعليمهم في بلاد أخري فمنهم من ذهب إلى تونس حيث جامع الزيتونة وجامعة القرويين، ومنهم من ذهب إلى مصر حيث الجامع الأزهر، والجامعات الأخرى، ومنهم من ذهب إلى فرنسا، فالذين ذهبوا إلى الجامعات العربية تأثروا بها، وبالصحوة الموجودة في تلك البلاد.(3)
والذين ذهبوا إلى جامعات فرنسا تأثروا بالفكر الفرنسي، فعادوا يحملونه إلى بلادهم وبدأت الصحوة فكلٌ يريد أن يغير من واقع الجزائر، حسب ما تعّرف عليه في الخارج فبدأت الأحزاب تظهر، وكلٌ منها يعمل للتغيير، وبدأت تصدر الصحف التي تعمل على نشر أفكارهم، فظهرت "جريدة الجزائر، والمتقد، والشهاب والإصلاح، وصدى الإصلاح، ثم جرائد جمعية العلماء المسلمين في الثلاثينات وهي: السنة والشريعة والصراط، والبصائر التي استمرت في الصدور، بعد فترات انقطاع إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وصحف أخرى كثيرة.
__________
(1) هذه هي الجزائر : ص 143 .
(2) حفارو القبور : رجاء جارودي ، ترجمة عزة صبحي ، دار الشروق ط3 ، عام 2000 م ، ص25 .
(3) انظر : عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية : مصطفى محمد حميداتو ، ط1 عام 1977م ، من كتب الأمة عدد 57 ص54(1/16)
... ... وانتبه الجزائريون إلى سياسة التجهيل فقاوموها، حيث قاموا "بإنشاء المدارس العربية الإسلامية الحرّة، وشادت ما يزيد عن 170 مدرسة... تحت إشراف ورقابة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين... ثم أسست معهد (عبد الحميد بن باديس) التكميلي، ليكون همزة وصل بين مدارس الجزائر الابتدائية الحرة، والمعاهد العليا بتونس والشرق ". (1)
... ... كما بدت هذه الصحوة واضحة من خلال " النوادي والجمعيات الثقافية التي ظهرت في ذلك الوقت ومنها " الجمعية التوفيقية "، التي أنشئت عام 1911م، وكان هدفها جمع أولئك الجزائريين الذين يرغبون في تثقيف أنفسهم، وتطوير الأفكار العلمية والاجتماعية ونادي" صالح باي" الذي كان من أهدافه: نشر التعليم، والمساعدة على تحرير الجماهير الجزائرية والتوفيق بين المجموعتين الفرنسية والجزائرية، وتنظيم دروس في التعليم العام والمهني وعقد محاضرات علمية وأدبية، وإيجاد جمعيات خيرية، والدعوة إلى العمل والأخوة والتعاون.
... ... وظهرت جمعية الرشيدية والتي يشير برنامجها إلى أن أهمّ هدف لها هو مساعدة الشباب الجزائري على العمل والتفكير والعيش عيشة حديثه ".(2)
... ... وكذلك وجد نادي الترقي الذي كان من أهدافه الدعوة الإسلامية من جهة، والتركيز على الوطنية والعروبة ضمن المفهوم العام للإسلام، ومقاومة نزعات الاندماج، ومقاومة طلب الجنسية الفرنسية، والعمل على إحراز الحقوق السياسية.
... وكل تلك الأحزاب كانت بمجهودات ذاتية من قبل أبناء الجزائر، وبقيت هذه الأحزاب والنوادي والجمعيات، تعمل على نشر الثقافة والتعليم؛ لمواجهة سياسة التجهيل إلى أن جاءت الثورة ثم الاستقلال، وبدأت الحكومة الجزائرية بوضع سياسة تعليمية جديدة.
المبحث الثالث
الحياة الدينية
__________
(1) هذه هي الجزائر : ص144،ص 155 .
(2) الحركة الوطنية الجزائرية : 1/ 138 ،ص 139 .(1/17)
... لقد كانت الجزائر، تعيش حياة دينية، واضحة المعالم، فلها مساجدها الكثيرة التي بلغت ( 700 ) مسجد والتي تنتشر بها الكتاتيب لتحفيظ القرآن ،حيث بلغت (3000) كتّاب(1) كما يذكر ذلك الرحالة الهولندي (دابر)في القرن السابع عشر(2)، وعندما جاء الفرنسيون لاحتلال الجزائر فقد كان على رأس أولوياتهم، الهدف الديني النصراني ، فلقد كان القساوسة والرهبان في طليعة الجيش ، فالجندي يحمل السيف، والقسيس يحمل الصليب لإتمام عملية التنصير والفرنسة(3) وكان لابد من أساليب معينة لإتمام ذلك، بإتباع سياسة التجهيل، ثم بعد ذلك التنصير.
فعملية التجهيل تسعى إلى تدمير اللغة العربية، والأصول الدينية العقائدية حتى يصبح الجزائريون بعيدين عن فهم القرآن، لكي يسهل بعد ذلك تنصيرهم، وذلك عن طريق خطة الهدم التي يوضحها أكبر المبشرين "المسيو شاتليه" حيث يقول: " إن الهدم ... نزع الاعتقادات الإسلامية ملازماً للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية " (4) ومنها كان الحقد الصليبي ـ المتمثل في كراهية الإسلام والمسلمين ـ متأصلاً في قلوب القساوسة، يقول المستر "بلس": " إن الدين الإسلامي، هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في إفريقية ، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا ".(5)
__________
(1) انظر : هذه هي الجزائر :ص130 .
(2) انظر : الحركة الوطنية الجزائرية :1/ 82 .
(3) انظر : مجلة الأصالة : موضوع بعنوان الحصانة الدينية للشخصية الجزائرية ، أحمد بن نعمان ، عدد 85 ،86 ، ص73 .
(4) الغارة على العالم الإسلامي: شاتليه ، ترجمة محب الدين الخطيب ، مكتبة أسامة بن زيد ، بيروت ، بدون رقم طبعة ،ص9
(5) المصدر السابق : ص15 .(1/18)
وأمّا عن الكراهية الموجودة عند ملوكهم وقادتهم ،فهذا شارل العاشر ملك فرنسا يقول في خطاب العرش يوم 2مارس عام 1830م ما نصه: "إن العمل الذي سأقوم به لترضية شرف فرنسا ،فسيكون بإعانة العلي القدير، لفائدة المسيحية جمعاء".(1)
وهذا أحد قادتهم "لافيجري"يقول: "علينا أن نجعل من الأرض الجزائرية، مهداً لدولة مسيحية تضاء أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل، تلك هي رسالتنا الإلهية ".(2)
... " وتطبيقاً لهذا التوجه فقد عملت الحكومة الفرنسية على هدم الكتاتيب القرآنية وتدمير المساجد "(3).
... " فلقد كان في مدينة الجزائر وحدها 112 مسجداً ، فلم تبق السلطات الفرنسية منها إلا خمسة وهدمت الباقي" (4) وقاموا بتحويل المساجد إلى كنائس، فمثلاً جامع القصبة أصبح كنيسة الصليب المقدس، وجامع ابن تاشفين أصبح كنيسة سيدة النصر، وجامع كتشاوة أصبح كاتدرائية الجزائر، ومسجد علي بن شتي أصبح قديسة الانتصار، ومسجد القائد أعطى إلى جمعية أخوات القديس جوزيف "(5) " ووضعت سلطات الاحتلال يدها على الأوقاف الإسلامية وعلى المتبقي من المساجد، وبلغت حالة الدين الإسلامي في الجزائركما وصفها مدير مكتب الشئون الإسلامية، وهو فرنسي "لقد أذللنا الدين الإسلامي "(6) " وقاموا بتكثيف نشاط الإرساليات الدينية والمسيحية، التي أخذت تتوافد على القطر الجزائري، تحت مختلف الأشكال والهيئات والأسماء، من هيئات تعليمية، وجمعيات خيرية".(7)
__________
(1) هذه هي الجزائر :ص78 .
(7) ابن باديس المجدد الإسلامي الكبير : صالح عبد العال ، سلسلة أعلام النهضة ،منشورات مركز التبشير للدراسات ،ص6 .
(2) انظر :هذه هي الجزائر : ص130 .
(2) المصدر السابق : ص140 .
(3) الحركة الوطنية الجزائرية : 1 / 89 .
(4) ابن باديس المجدد الإسلامي : ص6 ، ص7 .
(5) مجلة الأصالة ،مقال بعنوان الحصانة الدينية للشخصية الجزائرية : ص80 ـ 86 .
(6) الشيخ عبد الحميد بن باديس : ص48 .(1/19)
فشل سياسة التنصير والفرنسة:
وبرغم سياسة التجويع والتنصير والفرنسة، ومحاولة إبعاد الجزائريين عن دينهم الحنيف، إلا أن الجزائريين بقوا متمسكين بدينهم وعقيدتهم، حتى أن الأطفال الذين حاولوا استغلال فقرهم ويتمهم، من أجل إدخالهم في النصرانية، وعندما بلغوا سن الرشد عادوا إلى دينهم الإسلامي، يقول غوستاف لوبون: " فأما ما يختص بالعرب ،فقد استشهدت بقصة أربعة آلاف يتيم الذين تولى أمرهم الكاردينال لافيجري فعلىرغم تربية هؤلاء تربية مسيحية بعيدة عن كل تأثير عربي، رجع أكثرهم إلى الإسلام بعد أن بلغوا سن الرشد "(1).
الحياة الدينية بعد الاحتلال: 1962 ـ 1973 م.
... لقد تحررت الجزائر من ظلم الاحتلال العسكري، وأصبحت حرّة بقيادة الرئيس أحمد بن بيلا، وفي عام 1965م حدث إنقلاب هواري بومدين، وكلاً من ابن بيلا وهواري بومدين فقد كانا متأثرين بالفكر الماركسي، ويؤمنان بالقوانين الغربية، ولكن بومدين كان يعرف أن هناك ضغطاً جماهرياً مطالباً بتطبيق الإسلام، فأخذ يبني المساجد، وكلف وزارة الشئون الدينية بالإشراف على النشاطات الإسلامية فيها، ولكنه أوجد رقابة كاملة عليها لدرجة إعداد الخطبة التي يلقيها الإمام في صلاة الجمعة، وعمل على إبعاد الدين عن السياسة، وأدخل الدين في البرامج المدرسية إرضاءً للجماهير فقط لا غير، ووضع في الدستور مادة تنص على أن الدين الرسمي للدولة الإسلام، ولكنّ ذلك كان شكلياً فقط.(2)
المبحث الرابع
الحياة الاجتماعية
... المجتمع الجزائري يتكون من قبائل عربية، وبربرية، والبربر يكرهون هذا الاسم ويسمون أنفسهم (أمازيغ )أي الأشراف والسادة.
إلا أن هذه التركيبة للمجتمع انصهرت عند دخول الإسلام إلى الجزائر، مع جيوش الفتح الإسلامي، في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، فأسلم البربر وتعرّبوا نتيجة عدة عوامل:
__________
(2) انظر : في أصل الازمة الجزائرية ، ص112 .(1/20)
1-الامتزاج المتبادل الذي حصل بينهم، وبين العرب الفاتحين، عن طريق الجوار في المسكن والتعامل اليومي في ميادين الحياة العامّة المختلفة.
2-عن طريق الزواج والمصاهرة بينهم وبين العرب.
وامتاز المجتمع الجزائري بعدة خصائص منها:
1- أنه مجتمع عربي مسلم، شديد الاعتزاز بدينه، وعروبته.
2- أنه مجتمع محافظ، لا يندفع بسرعة إلى تغيير تقاليده، وعاداته الموروثة.
3- أنه مجتمع يتكون في أغلبيته الساحقة من الطبقة الفقيرة، ثم الطبقة المتوسطة.
... عندما احتل الفرنسيون الجزائر عملوا على سياسة التفرقة الاجتماعية، داخل المجتمع الجزائري، فأوجدوا النظام الطبقي الذي أصبح يتكون من:
ا ـ الطبقة الإقطاعية التي تستحوذ على أخصب الأراضي الزراعية في الريف.
2ـ الطبقة الرأسمالية التي تسيطر على النشاط الاقتصادي، وكان يمثلهم المستوطنون الفرنسيون، وبعض الجزائريين.
3ـ الطبقة الفقيرة من أبناء الجزائر، الذين يتمثلون في الفلاحين، وعمال الزراعة، والعمال الحرفيين، وغيرهم من الطبقة الكادحة.(1)
" وقام الاحتلال الفرنسي بالتفرقة، بين الجزائريين والمستوطنين الفرنسيين والأوروبيين، فحياة الأوروبي محاطة بكافة التسهيلات، والضمانات الاجتماعية في كافة الأمور الحياتية، في المسكن وفي الصحة، وفي كل شيء، مما خلق(2) حالة من الصراع الاجتماعي الحاد بين الجانبين، وخلقت ردود فعل سلبية إزاء المحتل، ومن معه من المستوطنين الأجانب ".(3)
__________
(1) انظر : الشيخ عبد الحميد بن باديس : ص20 ، ص22.
(2) الصواب أن يقال أوجد لأن الخلق من صفات الله تعالى .
(3) عبد الحميد بن باديس مفسراً : ص15- 16 .
(2) هذه هي الجزائر : ص133 .
(3) الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي : ص120 .
(4) انظر : المصدر السابق : ص126 ،ص126 .
(5) انظر : هذه هي الجزائر : ص134 .
(6) الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي: ص125(1/21)
في المسكن مثلاً: كان " الأوربيون كافّة يسكنون الدور والقصور، والمقاصف الجميلة في المدن والقرى... وكان السكان الجزائريون، يسكنون في مدن من القصدير شيدت من بقايا صفائح القصدير، تجمع إلى بعضها بأخشاب بالية ومسامير، ولا يتجاوز مساحة البيت فيها ستة أمتار " (1) " وهذه المساكن تخلو من المجاري، ومنتفعات الحياة وجميع الشروط الأخرى، التي تجعل البيت صالحاً للسكن والمعيشة ".(2)
... وبالنسبة للصحة مثلاً"فعدد الأطباء كان فيه نقص كبير، وتوزيعهم يتم على حسب الحاجات الأوربية، فنسبة الأطباء واحداً لكل ستة آلاف جزائري وكان عددهم عام 1953م بلغ (1735) طبيباً... إن الاستعماري هو المسئول عن هذا النقص، فلقد كانت الحاجات الأوروبية، هي العامل الرئيسي، في توزيع الأطباء والملكات الطبية، وكان هناك نقص في الصيادلة، والمؤسسات الصحية.
فبالنسبة للمستشفيات: كان يوجد فيها نقص في عدد الأسرّة، وهي حوالي (25000) سرير في الجزائر، وللتوضيح أكثر فلقد كان في عام 1943م حولي (4783) سريرا ً لمرضى السل، ويسمح بقبول مسلول واحد من كل مائة مسلول، في بلاد يبلغ عدد المسلولين فيها أربعمائة ألف !.(3)
وبالنسبة للأمراض فقد انتشرت أمراض السل، والكوليرا، والحصبة، وأمراض التهاب أنسجة الخلايا، وأمراض العيون، حيث تذهب أبصار نحو الثمانين من السكان المسلمين،(4) " ومن أسباب هذه الأمراض الجوع، والإهمال الاستعماري للنواحي الصحية المتعمد ".(5) ... حيث " حدثت المجاعات في الجزائر، وخاصة مجاعة الأعوام من 1868_1870م التي عمّت البلاد، واقتات الناس الحشائش... وهلك ما يزيد عن خمس مجموع السكان، من جرّاء هذه المجاعة ".(6)
__________
(6) تاريخ الأقطار العربية الحديث : فلاديميربورسيوفيتش لوتسكي،ترجمة عفيفه البستاني ، مطبعة دار الفكر ، بيروت ص319 .
(2) حوار الحضارات : رجاء جارودي ، ترجمة عادل العوّا بيروت ، باريس ،منشورات عويدات ط4 عام 1982م ص73 .
(3) الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي : ص126 .
(4) المصدر السابق : ص126
(5) هذه هي الجزائر : ص134
(6) انظر : الشيخ عبد الحميد بن باديس : ص26
(7) الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي : ص118(1/22)
... ولقد كثرت ظاهرة الوفيات، في الأطفال فقد "كانت وفيات الطفولة الأولى(39) بالألف لدى المستعمرين و(170) بالألف لدى الجزائريين " (1) وذلك نتيجة "النقص الكبير في عدد القابلات... حيث تتم عمليات الوضع دون المعونة الطبية" (2) ونتيجة سوء التغذية الذي كان يعانيه الجزائريون "فإن الجزائريين المسلمين، لا يذوقون اللحم عادة، إلا من خرفان الأضاحي، كل سنة في عيد الأضحى ".(3)
... " إن الأمة الجزائرية مريضة، والموت يحصد بين صفوفها حصدا ًذريعاً، فبينما تجد في الإحصاء الرسمي أن معدل حياة الأوروبي في قطر الجزائر هو(72,5)عام، تجد معدل حياة الجزائري لا يتجاوز (50)عاماً "(4) ، ولقد ظهرت ظواهر اجتماعية خطيرة ،عمل الاستعمار على ظهورها، وذلك من خلال نشر الكحول، وإشاعة الفساد ،وبث عقارب النزاع ،والفوضى بين الجزائريين(5).
ولقد أدّى ذلك الواقع الاجتماعي التعيس إلى ازدياد عملية الهجرة، وخاصة إلى فرنسا بحثاً عن العمل، والذي سمح لهذه الهجرة هي الإدارة الاستعمارية، وذلك لأن "هجرة السكان الجزائريين إلى فرنسا، تشكل بالنسبة إلى رأسماليي الصناعة الفرنسية، يدا عاملة غير متخصصة، وتشتغل بدون ضمانات استقرار في الأعمال المرهقة أو الخطرة " (6)(7)
ومع ذلك فقد لعب المهاجرون في فرنسا وأوروبا دورا ًرئيسيا في الحركة الوطنية وساهم كثير منهم في ثورة عام 1954م.
الفصل الثاني
حياته
المبحث الأول : اسمه ومولده ونشأته ووفاته.
المبحث الثاني : طلبه للعلم وثقافته.
المبحث الثالث : أعماله ومؤلفاته وأقوال العلماء فيه. ... المبحث الرابع : مذهبه الاعتقادي.
المبحث الأول
اسمه ومولده ونشأته ووفاته
أولاًُ – اسمه ومولده:(1/23)
... "مالك بن عمر بن خضير بن مصطفى بن نبي " (1) ولقد اشتهر باسم "مالك بن نبي" وكان يلقب بالصِِِِِدّيق، وكان والده متعلماً في وقت لم يكن الناس يتعلمون فيه بسبب سياسة التجهيل الفرنسية، وولد "مالك بن نبي " في مدينة "قسنطينه" في عام 1323 هـ الموافق يناير 1905م، وهو الابن الوحيد في أسرته الفقيرة ، بالإضافة إلى ثلاث بنات ماتت إحداهن وهو صغير(2)، ولقد عمل أبوه موظفاً بسيطاً في الإدارة الحكومية بمنطقة تبسه ،بينما أمه السيدة زهيرة كانت تساعد والده في تحسين دخل البيت عن طريق العمل في الخياطة .
وقد استبشر خيرا ًمن مولده في ذلك الوقت ، حيث كتب يقول في مذكراته عن مولده: " إن من ولد بالجزائر عام 1905م، يكون قد أتى في فترة ،يتصل فيها وعيه بالماضي ممثلا ًفي أواخر شهوده ، وبالمستقبل في أوائل صانعيه ، وعلى هذا كان لي ،حين ولدت تلك السنة الحظ الممتاز الذي يتيح لي أن أقوم بدور الشاهد،على تلك الحقبة من الزمان ".(3)
ثانياً ـ نشأته :
لقد نشأ مالك في أسرة متدينة، لها إطلاع على مجريات الأحداث ، متأثرة بالواقع الأليم الذي أصاب الجزائر ، فقد حدثته جدته عن هجرة أمها مع والدها إلى تونس، يوم دخول المستعمرين الفرنسيين، وذلك خوفاً على الأعراض التي كانت تنتهكها الجيوش الفرنسية الغازية (4)، وحدثته كيف هاجر جدّه لأمه من الجزائر إلى طرابلس الغرب، ضمن تلك المدن الجزائرية الكبيرة مثل قسنطينة، وتلمسان والتي كانت حوالي عام 1908م وذلك للتعبير عن رفض المساكنة مع المستعمر.(5)
__________
(1) 1 ) انظر: مذكرات شاهد القرن الطفل : مالك بن نبي ، ترجمة، القنواتي، مروان ، دار الفكر ط 1 ،بيروت1/38 ، انظر : ... مالك بن نبي ومشكلات الحضارة : زكي ميلاد ، دار الفكر ،ط1 ، 1998 ،ص38 .
(2) انظر : مذكرات شاهد القرن الطفل : 24 .
(3) انظر : المصدر السابق :ص 8 ، 9 .
(4) انظر : المصدر السابق : ص 10 ، 11 .
(5) انظر : المصدر السابق : ص21 .(1/24)
... كانت قصص جدته هي المدرسة الأولى، التي تعرّف منها مالك عن جرائم الاستعمار كما تعلم منها القيم والأخلاق الإسلامية، يقول: " تعلمت من جدتي أن الصدقة والعطف على الفقراء من أهم الأخلاق التي اعتنى بها الإسلام، وقد أثرت فيه أحاديث جدته حيث قام بتحويلها إلى سلوك عملي وهو في سن السادسة من عمره، حيث أعطى وجبته في يوم من الأيام لمتسول".(1)
... وكان هناك تأثير ديني آخر في أسرته، وهوصلتها بالحركةالإصلاحية، والصوفية الموجودة آنذاك، ومن ثم أرادت الأسرة منه أن يتربى تربية دينية ، فأرسلت به إلى الكتّاب مع فقر الأسرة، ويروي مالك أنه في يوم من الأيام اضطرت والدته ـ عندما وجب تسديد ما يستحق شهرياً إلى الكتّاب، الذي انتظم في حلقته ـ أن ترهن في مقابل أجرته سريرها(2).
وكان للعائلة اتصال بالصوفية، حيث أثّر في مالك عمه محمود الذي كان من أصحاب الزاوية العيسوية، وكان عمه يأخذه معه أحيانأ إلى هذه الزاوية(3)، وبذلك يتضح تكوين ذلك الطفل الديني منذ بداية حياته، وتنشئته تنشئة إسلامية دينيه.
يقول مالك عن نشاطه الديني: " كنت أتردد على المسجد، وأقوم بتأدية الصلاة منذ الصغر، وكنت في يوم الجمعة ألبس زياً خاصاً، وكان الجمهور في الليل يتوزعون على طائفتين: التي تذهب للمقاهي الأهلية حيث يقص القصاص حكايات ألف ليلة وليلة، أو ملحمة بني هلال، والتي تبقى في المسجد بعد صلاة العشاء لتسمع درس الإمام، وقد كان وعيي يتكون تحت تأثير التيارين".(4)
__________
(1) مذكرات شاهد القرن الطفل :ص 16 ،ص 17 ،ص 18 .
(2) انظر : المصدر السابق :ص 17 .
(3) انظر : المصدر السابق :ص 43 .
(4) المصدر السابق :ص 32 ،ص 33 .(1/25)
ودخل المدرسة وبعد تخرجه من الثانوية سافر إلى فرنسا، وهناك تزوج من امرأته الأولى الفرنسية، بعد أن أعلنت إسلامها، وسمّت نفسها خديجة، وكان لها الأثر الكبير في حياته فيقول: " أتصور أن الأقدار التي سخرتني كوسيلة ،تعرفت خديجة بواسطتها على الإسلام ، قد سخرها هي لأتعرف بواسطتها على الوجه الأصيل للحضارة الفرنسية ".(1)
وبقي يتنقل بين فرنسا والجزائر إلى أن استقر في مصر عام 1956م، ولم يرجع بعدها إلى فرنسا، وافترق عن زوجه خديجه إلا أنه ظلّ وفياً لها، وفي أواخر الخمسينات تزوج ثانية من قريبة له، يقول فوزي الحسن " ومن زواجه من الثانية أنجب عام 1961م توأم بنات سمّاهما: إيمان ونعمت " (2) " ثم بعد ذلك رزقه الله مولودة سماها رحمه ... وبقي في مصر يحاضر ويناقش ويؤلف إلى عام 1383 هـ / 1963 م، بعدها عاد إلى الجزائر، وبقى نشيطا في العمل الفكري ، إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى" (3).
رابعاً : وفاته :
__________
(1) المصدر السابق :ص 98 .
(2) مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً : أسعد السحمراني، مطبعة دار النفائس ط2 ، ص18 .
(3) شبكة المعلومات الدولية إنترنت: إسلام أون لاين مقال بعنوان :من هو مالك بن نبّى ، بدون اسم لكاتب المقال ، وبدون تاريخ.
(2) المصدر السابق .
(3) أنور الجندي : ولد عام 1917م ، وتوفى عام 2002م ، ولد في بلدة ديروط بمحافظة أسيوط بصعيد مصر ، له العديد من المؤلفات منها : اقباس من السيرة العطرة ، السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية، اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب ، القيم الأساسية للفكر الإسلامي والثقافة العربية، شبكة المعلومات الدولية إنترنت ، إسلام أون لاين، مقال لفايزة أنور الجندي ، بتاريخ 8 / 5/ 1423هـ الموافق 18 / 7 / 2002 م .
(4) أعلام القرن الرابع الهجري : أنور الجندي ، مكتبة الأنجلو المصرية، بدون رقم طبعة، ص139.(1/26)
... "وفي عام 1973م ، أثناء رحلته إلى مدينة الأغواط في الجزائر ، حيث كان يلقي بعض المحاضرات هناك اشتد عليه المرض ، وكان قد أصيب بسرطان البروستاتا ، فسافر للعلاج إلى فرنسا ، وأجرى عملية فيها اشتد المرض عليه بعدها ، فنصحه الطبيب بالعودة إلى بلده ، وعاد مالك بن نبى إلى الجزائر ، ليتوفاه الله ـ يرحمه الله ـ بعد ذلك بثمانية أيّام يوم الأربعاء شوال 1393 هـ الموافق 31 / 10 / 1973 م" (1).
وقد نعاه الأستاذ أنور الجندي(2) بقوله: " لبّى نداء ربه العلامة الجليل، مالك بن نبي، في أوائل شهر شوّال 1393هـ(نوفمبر 1973 )عن عمر لم يتجاوز الستين إلا قليلا ،بعد أن ترك ثروة وافرة من الفكر المتجدد ،الذي نشره باللغة الفرنسية ،ثم ترجم إلى اللغة العربية ،وقد أتيح له في السنوات الأخيرة ،أن يكتب بلغة الضاد ،وأن يلقي فيها أبحاثه في مؤتمرات القاهرة ،ومكة وطرابلس الغرب والجزائر".(3)
المبحث الثاني
طلبه للعلم وثقافته
لقد كان والد مالك متعلماً، حيث درس في المدارس الحكومية التي كانت موجودة آنذاك، وكان على اتصال بالحركة الثقافية، ويمتلك مكتبة ًخاصة به يقتني فيها كتباً قيمة عربية وفرنسية، وكان والده يطالع صحيفة الإقدام وصحيفة الراية، وكان مالك يطّلع علي مكتبة والده مما كان له أكبر الأثر في تكوين شخصيته فيما بعد. (4)
بدأ مالك دراسته في كتّاب مدينة تبسه وفيه حفظ أجزاء من القرآن الكريم ، كما التحق بالمدرسة الفرنسية الابتدائية الوحيدة في تبسه، كان في الصباح يدرس عدّة ساعات في الكتّاب بعد ذلك ودرس الثانوية في قسنطينة، وبعد ذلك نجح في امتحان المنح وأعفي من الرسوم، ثم دخل مدرسة سيدي الجليس، التي كانت بمثابة معهد إسلامي، حيث يتخرج منه الطلاب لممارسة الوظائف الحكومية في التدريس والمحاماة والطب، من مدرسين، ومحامين ،ومساعدين أطباء، وكتّاب عدل في المحاكم الشرعية.
__________
(4) انظر : مذكرات شاهد القرن الطفل : ص140 .(1/27)
ولقد كان هدف والديه أن يتعلم ليكون كاتب عدل (1) وفيها تعلم النحو والصرف على يد الشيخ عبد المجيد، وكان الشيخ المولود بن الموهوب(2) يعلمه علم الكلام وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ودرّسه بعض المدرسين الفرنسيين، فمارتن علمه فن التعبير والمطالعة، وبوبرته علّمه التاريخ والأدب الفرنسي، وبذلك جمع بين ثقافتين مختلفتين وطالع الكتب الأدبية وقرأ للأدباء والشعراء القدامى والمحدثين العرب منهم والفرنسيين، وبذلك تشكلت عقليته الأدبية من خلال تلك المطالعات(3).
__________
(1) انظر : المصدر السابق :ص 23 ،ص 26 ،ص 60
(2) المولود بن الموهوب : هو مولود بن محمد العيد بن الشيخ المدني بن العربي بن مسعود الموهوب، ولد عام 1866م، وتوفى عام 1930م ، أديب وهو من رجال الإصلاح الاجتماعي في الجزائر ولد بقسنطينه، وولي بها إفتاء الملكية والتدريس في الجامع الكبير 1895م ، من كتبه " مختصر الكافي في العروض ، ونظم الىجرومية، وشرح منظومة التوحيد للمجاوري ، الأعلام : خير الدين الزركلى ، دار العلم للملايين ، بيروت لبنان ، ط1984م ، 7 / 333
(3) انظر : مذكرات شاهد القرن الطفل : ص105ـ 110(1/28)
وكانت المقاهي تلعب دوراً رئيساً ـ في ذلك الوقت ـ في الحياة الثقافية الجزائرية حيث كانت ملتقى للأدباء والمفكرين ، ففي المدرسة التي كان يدرس فيها مالك بن نبي كانت قهوة تسمى قهوة أبى عربيط يقول عنها: " إنها كانت تقدم لي فرصاً كثيرة في أحاديث عن الأدب العربي " (1) وكانت هناك قهوة خارج المدرسة تسمى قهوة ابن يمينة لعبت دوراً في تكوينه الفكري يقول: " كنت أعي في قهوة ابن يمينه آثار التمزق الفكري والعقائدي حيث كان فيها مناقشات وأحاديث حادّة ومثيرة ، كان يغذيها التيار المدرسي ـ ذو الثقافة الفرنسية التي تعطى في المدارس الحكومية ـ والتيار الباديسي(2) " (3).
وكان مالك على اتصال بالصحف الإسلامية وغيرها التي كانت تنشرها الأحزاب السياسية آنذاك ومنها: "الإنسانية" ،" والنضال الاجتماعي "، "والعصر الجديد " "والجمهوري" "والإقدام " "وأم القرى "، "وصدى الصحراء " " والشهاب "، "والشئون العامّة" "الأمّة " (4).
__________
(2) نسبة إلى عبد الحميد بن باديس : أحد العلماء الجزائريين ولد في يوم 5/ 12 / 1889 م ، وتوفى في يوم 16 / 4 /1940 م من مؤلفاته ، العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية ، رجال السلف ونساؤة ، مجموعة دروس في التفسير ، من هدى النبوة ، انظر : الأعلام : خير الدين الزركلي ، 3 / ص289 ، الشيخ عبد الحميد بن باديس ، تركي رابح عمامرة ، 372 ، الموسوعة الحركية تراجم إسلامية من القرن الرابع عشر الهجري ،فتحي يكن ، مؤسسة الرسالة ط 1، 1982م ص58 ـ ص 67 .
(3) مذكرات شاهد القرن الطفل :ص 150.
(4) انظر : المصدر السابق :ص 135 ،ص 160 ، ص161.(1/29)
وكان مالك كثير المطالعة، يستعير الكتب من المكتبات الموجودة في مدينته، ومنها: مكتبة تسمى مكتبة النجاح، ومكتبة المدرسة، ومما قرأه وكان له تأثير في تكوينه الثقافي كتاب "الفشل الأخلاقي للسياسة الغربية في الشرق " لمحمد رشيد رضا ،" ورسالة التوحيد " لمحمد عبده ،"وأمّ القرى " لعبد الرحمن الكواكبي ، وكتاب "الإسلام بين الحوت والدب "لأوجين يوغ" و" في ظلال الإسلام الدافئة، لإيزابيل ابرهارت ، ومقدمة ابن خلدون "وكيف تفكر " لجون ديوي ،"والهند الفتاة "لرومان رولان ، "وتاريخ الإنسانية الاجتماعي "لكورتلمون ،وكتاب نيتشه ،"هكذا تكلم زرادشت "ولغيرهم من الكتّاب والأدباء والمفكرين والفلاسفة(1).وبعد إنهاء دراسته الثانوية ، توجه مالك بن نبي إلى فرنسا أكثر من مرّة بغرض الدراسة فيها ، وفي عام 1930م سافر مرّة أخرى كي يدرس الحقوق في معهد الدراسات الشرقية ولكنه لم يوفق في دخول هذا المعهد ، وهناك تعرف على جمعية اسمها " الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين" فانتسب اليها وكان هو المسلم الوحيد فيها ، حيث تعرَّف على الوجه الثقافي وبعدها تعرَّف على الوجه التكنولوجي للحضارة الغربية من خلال متحف الفنون والصناعات حيث درس الكيمياء التطبيقية فيه(2).
... ... وفي تلك الفترة سجل اسمه في مدرسة الكهرباء والميكانيك، قسم اللاسلكي للحصول ... ... على درجة مساعد مهندس، وواكب وجوده في فرنسا تأسيس مجموعة من طلبة شمال أفريقيا ... ... تسمى "وحدة طلبة الشمال الإفريقي المسلمين " وكان هو حلقة الوصل بين المجموعتين ولمّا ... ... أنشأت وحدة المسلمين مجلة شهرية كتب مقدمتها مالك، ووزعت منها نسخ كثيرة في فرنسا ... ... والجزائر (3)، ثم بدأ يظهر من خلال الوحدة المغربية.
__________
(1) انظر : المصدر السابق :ص 150 ـ ص 200 .
(2) انظر : مذكرات شاهد القرن الطالب : مالك بن نبي : دار الفكر ط1 ،1971م ص9 ـ ص 27 .
(3) انظر : مذكرات شاهد القرن الطالب ص43، ص44.(1/30)
... وحينئذ بدأ مالك بن نبي بإلقاء المحاضرات، وأول محاضرة ألقاها مالك في فرنسا كانت في شهر ديسمبر عام 1930 م بعنوان " لماذا نحن مسلمون "، وقد أدخل فيها مفاهيم فلسفية، متاثراً من دراسته في الكتب الفلسفية، حيث أثارت عبارته " الروح تصنع المادة " في المحاضرة، انتباه الجالسين بحيث أظهرت اتجاهه المثالي في الفلسفة المعارض للاتجاه المادي، ولقد أرسل إليه المستشرق ماسنيون لكي يراه فلم يذهب لملاقاته، ومن يومها أطلق على مالك " زعيم الوحدة المغربية ".
وبدأ مشواره السياسي، وأخذ الاستعمار الفرنسي يحاربه في عائلته، حيث بدأوا يضايقون أباه في العمل، ومن ثم تمّ طرده من العمل، وقام بالتحضير لمحاضرة ألقاها المهاتما غاندي في باريس، وكان له دور في إنشاء بعض الأحزاب، مثل حزب "نجم شمال إفريقيا " وقام بتوزيع منشورات "جمعية العلماء الجزائريين " في فرنسا، وكتب مقالاً بعنوان "مثقفون أم مثيقفون " رداً على مقال لأحد دعاة الدمج الجزائريين اسمه" أنا فرنسا " وفي فرنسا أخذ يتوجه إلى دراسة الفلسفة، وعلم الاجتماع، والهندسة، وفي أحد المعاهد الباريسية عام 1935م تخرج مهندسا ًكهربائياً.(1)
وتوجه مالك إلى القاهرة في عام 1956م، وفيها بدأ نجمه يظهر، وبدأعلماء الأزهر والمفكرون يتصلون به، وقد تأثر بعضهم بفكره، وبدأ يعيد صلته باللغة العربية، ويلقي المحاضرات، والندوات الفكرية، ولقد أخذ مع بعض أصدقائه للتحضير لفكرة الثورة وكان يتحدث معهم في سير الثورة الجزائرية.(2)
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص57، ص 58، ـ 79.
(2) انظر : المصدر السابق : ص113.(1/31)
وبعد نجاح الثورة لم يذهب إلى الجزائر في عهد بن بيلا، حيث انتقد حكومته بقوله: "عهد الحكومة المؤقتة الجزائرية،التي كانت تفرض على كل جزائري قانون الصمت "(1)وفي عهد هوّاري بومدين رجع إلى الجزائر، وبذلك حقق كلمته عند خروجه آخر مرّة من الجزائر حيث قال آنذاك "يا أرضاً عقوق !..تطعمين الأجنبي .. وتتركين أبناءك للجوع .. إنني لن أعود إليك .. إن لم تصبحي حرّة ! " (2) فعاد إليها فعلأً بعد أن أصبحت حرّة بعام واحد فقط وذلك عام 1963م.
ويقول المحامي عمر مسقاوي المسئول عن ندوة مالك بن نبِي " وفي بداية السبعينات أحسّ كأنما أوشكت مسيرته على طريق الرسالة تبلغ الأجل الذي أجّله الله لها، فمرّ ببيروت عام 1971م ثم بطرابلس لبنان وأودعني رحمه الله وصية، سجلها في 16 ربيع الثاني عام 1391هـ الموافق 10 حزيران 1971م في المحكمة الشرعية في طرابلس حملني فيها مسئولية الحفاظ على أفكاره والإذن بنشر كتبه... كما عاد في العام التالي عام 1972م فمرّ بدمشق، وهو قافل من رحلة الحج الأخيرة، ليقف على منبرها الفكري ويلقي وصيته الأخيرة في رحاب مسجد المرابط، وألقى محاضرة بعنوان " دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين".(3)
المبحث الثالث
أعماله ومؤلفاته وأقوال العلماء فيه
أولاً: أعماله:
__________
(1) المصدر السابق : ص90.
(2) مذكرات شاهد القرن الطالب : 314 .
(3) دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين : مالك بن نبي ، ط 1978 ‘ دار الفكر ، بدون رقم طبعة، ص7 ،ص8 .(1/32)
... بعد تخرجه من المدرسة الثانوية التي تؤهله للعمل ـ توازي المعهد التعليمي في هذه الأيام ـ عمل كاتب عدل في المحكمة الشرعية في منطقة آفلو"(1) ثم انتقل بعدها إلى محكمة" شلغوم العيد"، وكان اسمها يومها " شاتودان " ولم يعجبه تسلط كاتب محكمة الصلح آنذاك فقدم استقالته(2) ثم أصبح شريكا ًفي مطحنة مع صهره ولم تنجح المطحنة،(3) وبعدها قرر السفر إلى فرنسا، وفي فرنسا انخرط في الأحزاب السياسية، ثم أصبح رئيساً " لنادي المؤتمر الجزائري الإسلامي للثقافة " ولكن الفرنسيين أغلقوه، بحجة أن مالك لا يملك شهادة تدريس وأن المكان تنقصه التهوية(4) وعمل بعدها في طباعة وتوزيع الكتب العلمية المبسطة.(5)
... ثم انتقل إلى مصر" وفي القاهرة اتصل بالرئيس جمال عبد الناصر، وخصصت له الحكومة مرتباً شهرياً، مما ساعده على التفرغ للعمل الفكري"(6)وقد عيَّنه أنور السادات الأمين العام للمؤتمر الإسلامي آنذاك مستشاراً له(7)، ثم انتقل إلى الجزائر عام 1963م، وعيّن مستشاراً للتعليم العالي، ثم مديراً لجامعة الجزائر، ثم مدير التعليم العالي،(8) ولكنه استقال من منصبه عام 1967م، ليتفرغ للعمل الفكري والإصلاح
ثانياً: مؤلفاته
... لقد ألّف أغلب كتبه باللغة الفرنسية، وبعضها باللغة العربية، ثم ترجمت الكتب التي كتبها بالفرنسية إلى العربية، وله ما يزيد عن عشرين كتاباً مطبوعاً، وقد طبع كثيراً منها في القاهرة ودمشق والجزائر، وله أحد عشر مؤلفاً ما زال مخطوطاً لم يطبع بعد، وسيقوم الباحث بتصنيف كتبه بحسب الموضوعات:
__________
(1) انظر :مذكرات شاهد القرن الطالب :ص 303 .
(2) انظر : المصدر السابق :ص 338 ،ص 344 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص345.
(4) انظر : المصدر السابق :ص 298 .
(5) انظر : مذكرات شاهد القرن الطفل : ص 252 .
(6) مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً : ص17.
(7) انظر مجلة الفيصل : عدد 196 ، ص7
(8) انظر : مالك بن نبي ومشكلات الحضارة : ص50(1/33)
ـ الظاهرة القرآنية: وقد كتبه باللغة الفرنسية، وقام بترجمته الدكتور عبد الصبور شاهين ونشرته دار القرآن الكريم، تحت رعاية الإتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية السالمية، الكويت، عام 1398هـ ـ 1978م، وهو من القطع الصغير، وعدد صفحاته 363صفحة.
... وفيه يدرس مالك مفهوم النبوة، وأصول الإسلام، والرسول، وظاهرة الوحي وقضايا تتعلق بالقرآن.(1)
ـ شروط النهضة نشر بدار الفكر، ط عام 1960م، وقام بترجمته الدكتور عبد الصبور شاهين، وهو من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 159 صفحة.
... يبين فيه مالك، أهم شروط تركيب الحضارة، ويركّز فيه على الدور الذي تلعبه الفكرة الدينية، كمركب من عناصر التاريخ، وكحقيقة يؤيدها تاريخ الحضارات.(2)
ـ ميلاد مجتمع: وقد قام بترجمته الدكتور عبد الصبور شاهين، نشر دار الفكر ط عام 1962م، وهو من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 107 صفحة.
... وهذه الدراسة تشمل منهجية المفاهيم النظرية، التي ترجع إليها العناصر التاريخية الخاصّة "بميلاد مجتمع "
... ويرى مالك أننا نريد أن نعطي للقارئ المسلم فرصة التأمل في هذه المرحلة من تاريخ المجتمع، حين يولد، أو حين ينهض، وذلك عن طريق تمسكه بالمبادئ التي شيدت البناء الحضاري الإسلامي.(3)
ـ مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: وقام بترجمته" محمد عبد العظيم علىّ " نشر دار الدعوة، ط عام 1970م، وهو من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 71 صفحة وطبعة أخرى، ترجمة د. بسام بركة، ود. أحمد شعبو. ط دار الفكر ط الأولى، عام 1988م عدد صفحاته 182 صفحة.
__________
(1) انظر : الظاهرة القرآنية : مالك بن نبي ، ط الإتحاد الإسلامي العالمي .
(2) انظر : شروط النهضة : مالك بن نبي ، ط دار الفكر .
(3) انظر : ميلاد مجتمع: مالك بن نبي ، ط دار الفكر .(1/34)
... ويرى مالك أنه لا يقدم في هذا الكتاب لمشكلة الفكر في العالم الإسلامي، بل على العكس، في هذا الكتاب يحاول إلقاء الضوء على معالمها وتركيبها الخاص، ولم يتناول فيه مشكلة الفكر في العالم الإسلامي.
ـ مشكلة الثقافة: ترجمة عبد الصبور شاهين، ط4 عام 1984 م، وعدد صفحاته 152 صفحة.
... يتحدث فيه عن مفهوم الثقافة، وعلاقتها بعلم الاجتماع وتوجيه الثقافة.(1)
ـ إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث: نشرته مكتبة عمّار القاهرة ط عام 1970م، وهو من القطع الصغير وعدد صفحاته 62 صفحة.
... ويرى مالك أن علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية واستقلالنا في ميدان الفكر، حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي. (2)
ـ آفاق جزائرية: وقد نشرته مكتبة عمّار ط2 عام 1971م القاهرة.
... وهو مكُّون من ثلاث محاضرات، يجمع بينها أنها ألقيت جميعها في الجزائر، وهذه المحاضرات هي: مشكلة الحضارة، ومشكلة الثقافة، مشكلة المفهومية.(3)
ـ المسلم في عالم الاقتصاد: وقد نشرته دار الفكر1972 م، وعدد صفحاته 111 من القطع المتوسط.
... يرى مالك أن المختصين بالاقتصاد يوجهون العتاب أو اللوم إلى الفقهاء، ويرمونهم أحياناً بالجمود، ويجب أن ننزه فقهاءنا عن هذا العقاب، ونقول: إنه ليس من اختصاصهم أن يدلّوا على الحلول الاقتصادية سواء مستنبطة من القرآن والسنة، أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الحلول التي يراها أهل الاختصاص هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية.(4)
ـ بين الرشاد والتيه: نشر دار الفكر عام 1978م، وهو من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 174.
__________
(1) انظر : مشكلة الثقافة : مالك بن نبي ، ط دار الفكر .
(2) انظر : إنتاج المستشرقين : مالك بن نبي .
(3) انظر : آفاق جزائرية : مالك بن نبي.
(4) انظر : المسلم في عالم الاقتصاد : مالك بن نبي .(1/35)
وهو كتاب ضم مقالات كتبها الأستاذ مالك، ونشر معظمها في جريدة الثورة الأفريقية إثر عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال في الستينات، وقد جمعها مالك في صيف 1972م وترجمها إلى العربية، وهذه المقالات تعكس أحداث الستينات في العالم العربي والإسلامي وهي تطرح مشاكل العالم الثالث بعد الاستقلال فسلّط عليها أضواء كاشفة تبرز أبعادها وتنير طريق الكفاح من أجل القضاء عليها.(1)
ـ وجهة العالم الإسلامي: وقام بترجمته عبد الصبور شاهين، نشر دار الفكر عام 1954م، وهو من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 173.
... يؤكد الأستاذ محمد المبارك في مقدمته للكتاب، أن مالكا يبحث المشكلات المشتركة للعالم الإسلامي بمجموعه، فيستعرض تاريخها منذ ظهور الإسلام والمراحل التي مرت بها ثم يقف بنا طويلاً في المرحلة الحاضرة من مراحل الإنسانية، ليدلنا على هذه الرقعة من العالم التي تمتد من مراكش إلى أندونيسيا، ويؤكد مالك في صدر الكتاب أن صناعة تاريخ العالم الإسلامي لم تعد من مهمة المؤتمرات الخارجية، التي قعدت به إلى حين عن التطور والازدهار، وإنما من العمل الصامت المضني المنبعث من حركته الداخلية. (2)
ـ تأملات: وقد نشرته دار الفكر في دمشق عام 1961م، وهو من القطع المتوسط وعدد صفحاته 215.
__________
(1) انظر : بين الرشاد والتيه : مالك بن نبي .
(2) انظر : وجهة العالم الإسلامي : مالك بن نبي .(1/36)
... وهذا الكتاب صدر منه القسم الأول عام 1960م، تحت عنوان "حديث في البناء الجديد " وقسمه الآخر صدر عام 1961 م تحت عنوان "تأملات في المجتمع العربي، ثم تم طبعه بحيث ضم الكتابين معا، لأن مالك أراد أن يعطي لتأملاته شمولا يتلاءم مع نطاقها، فهو إذا تحدث عن المجتمع العربي يعالج الظواهر المرضية التي انتظمت العالم المتخلف من أقصاه إلى أقصاه، وإذا تحدث عن بناء جديد، فإنما يبرز الحاجة إلى حضارة تنقل البلاد المتخلف إلى مستوى المشاركة في مسيرة العالم، لذا سمي بتأملات، يدخل في نطاقها المجتمع العربي والإسلامي، كما يدخل العالم الإسلامي والعالم المتخلف في عمومة.(1)
ـ فكرة كمنويلث (2)إسلامي: وقد نشرته مكتبة عمّار ط1 عام 1960م، ونشرته دار الفكر ط2 عام 1990م، من القطع المتوسط وعدد صفحاته 94.
... يرى مالك في هذا الكتاب، أن الكمنويلث الإسلامي ضرورة تاريخية، تدعو الشعوب الإسلامية إلى العودة إلى حلبة التاريخ، ولكن في صورة حضارة لا في صورة إمبراطورية ولا يكون مجرد تنظيم سياسي اقتصادي، نظراً لصورة جديدة لتوازن القوى في العالم، بل يجب أن يكون مع ذلك نظماً أخلاقياً وإشعاعاً روحياً لمواجهة الأزمة الاجتماعية، داخل العالم الإسلامي.(3)
ـ دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين: نشر دار الفكر في كتاب واحد في بيروت عام 1977م، وهو من القطع الصغير وعدد صفحاته 62.
__________
(1) انظر : تأملات : مالك بن نبي.
(2) كمنويلث : commonwealth ، حكومات يربطها الصالح العام ، رابطة أمم تحت العلم البريطاني انظر قاموس العصري ط 1981 م ، ط دار الجيل بيروت ، إلياس انطون الياس ص 154 .
(4) انظر : فكرة كمنويلث إسلامي : مالك بن نبي .(1/37)
... ويتضمن هذا الكتاب محاضرتين ألقاهما مالك، إحداهما بمدينة دمشق برابطة الحقوقيين في مايو عام 1972 م بعنوان دور المسلم، والثانية بعنوان رسالة المسلم.(1)
ـ في مهب المعركة: وهو مجموعة مقالات كتبها الأستاذ:"مالك " في باريس في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، وحينما لجأ إلى القاهرة عام 1956 م بدا له أن يترجم هذه المقالات وينشرها بالعربية، فكانت الطبعة الأولى عام 1961 م، وقد سمّى مجموعة المقالات هذه:" في مهب المعركة" باعتبارها إرهاصا ًللثورة الجزائرية وتسويغاً لدوافعها ويرى "مالك " أن هذه المقالات تتضمن هذه العناصر التي تكون مادة الصراع الفكري وواقعة اليومي، الواقع الذي يريد الاستعمار أن يسدل عليه ستاراً من الظلام، حتى يبقى الرأي العام في قيود لا تراها إلا عين بصيرة.(2)
ـ الصراع الفكري في البلاد المستعمرة: نشر دار الفكر عام 1960م، وعدد صفحاته، 127 وهو أول كتاب لمالك بالعربية مباشرة، يتناول فيه بعض المواقف الشخصية للكتاب في البلاد المستعمرة، كما يتحدث فيه عن أوضاع تلك البلاد وعلاقتها بالاستعمار وأساليبه في السيطرة والغزو.(3)
ـ الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج: ويعتبر مالك أن مؤتمر باندونج كان قطعاً في نظر المختصين بالسياسة العالمية، من أهم الظواهر السياسية التي برزت في العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وقد نشرته دار الفكر ط 1957م، وعدد صفحاته 266، من القطع المتوسط. (4)
__________
(1) انظر : دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين : مالك بن نبي .
(2) انظر : في مهب المعركة : مالك بن نبي .
(3) انظر : الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ،مالك بن نبي .
(4) انظر :فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج : مالك بن نبي .(1/38)
ـ مذكرات شاهد القرن: ويتكون من جزأين: الجزء الأول بعنوان" الطفل" وقد ترجمة مروان القنواتي، والجزء الثاني بعنوان" الطالب" وقد ترجمه مالك بنفسه، نشرة دار الفكر بيروت، الجزء الأول ط عام 1969م، من القطع المتوسط، والجزء الثاني بعنوان " الطالب" ط عام 1970م (1)
وله قصة أدبية بعنوان" لبيك".
...
... وتوجد كتب غير منشورة للأستاذ مالك بن نبي، وهي ما زالت مخطوطات بخط يده ومنها:
خطاب مفتوح لخروتشوف وإيزنهاور.
دولة مجتمع إسلامي
مذكرات شاهد القرن – القسم الثالث – بعنوان" الأستاذ ".
نموذج لمنهج ثوري.
المشكلة اليهودية.
العفن.
اليهودية أم النصرانية.
دراسة حول النصرانية.
مجالس دمشق.
10ـ مجالس تفكير.(2)
ثالثاً - أقوال العلماء فيه:
__________
(1) انظر : مذكرات شاهد القرن : الجزء الاول الطفل والثاني الطالب
(2) انظر : مجلة الفيصل : عدد 196 ، ص7 ، انظر : مالك بن نبي ومشكالات الحضارة ، زكي ميلاد ، ص196 .(1/39)
يقول الأستاذ الكبير محمود محمد شاكر:(1) في مقدمة كناب في مهب المعركة لمالك بن نبِّي:" لعلي لا أبالغ إذا قلت: إن هذه المجموعة من مقالات أخي الأستاذ مالك بن نبِّي، هي عندي من أنفس ما كتب؛ لأنها تكشف لنا عن فكر رجل خبير، فكّر في الأمور ساعة بعد ساعة، وقيد هذا الفكر في حينه، فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كتب قديماً، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل... فهذا المفكر الخبير قد استطاع بحسن إدراكه وبقوة بيانه وبدقة ملاحظته، أن يفتح عيوننا على الخيوط التي تنسج منها حياتنا تحت ظلام دامس قد أطلقه المستعمر ليخفي عنا مكره بنا وخداعه لنا " (2) يقول الأستاذ محمد المبارك (3)
__________
(1) محمود محمد شاكر : ولد عام 1910م ـ وتوفي عام 1997 م ، عالماً باللغة العربية ، له العديد من الكتب والمقالات منها كتاب المتنبي ، وكتاب أباطيل وأسمار ، وله مقالات متعددة منها مقال بعنوان لا تسبوا أصحابي، انظر : شبكة المعلومات الدولية إنترنت مقال بعنوان الشيخ محمود شاكر ، كاتبه أحمد تمام بتاريخ 27 / 2 / 2004 م .
(2) مقدمة كتاب وجهة العالم الإسلامي ، مالك بن نبي ، وقام بترجمته عبد الصبور شاهين ، نشر دار الفكر ط عام 1954م ص11
(3) محمد المبارك : ولد في مدينة في سوريادمشق عام 1912م وتوفى في المدينة المنورة بالسعودية عام 1981م ، عمل عميداً لكلية الشريعة بجامعة دمشق ، وعين بعد ذلك رئيس قسم الشريعة في كلية الشريعة بمكة ، وعين بعد ذلك مستشاراً في جامعة الملك = عبدالعزيز ، له العديد من المؤلفات منها : كتاب نظام الإسلام العقيدة والعبادة ، ونظام الإسلام السياسي ، وكتاب العقيدة في القرآن الكريم ، انظر : شبكة المعلومات الدولية إنترنت ، ashaqalarabi,orq .
(1) مقدمة كتاب وجهة العالم الإسلامي : ص11
(2) انظر : مقدمة كتاب شروط النهضة : مالك بن نبي ، نشر دار الفكر ،ط عام 1965م ترجمة د.عبد الصبور شاهين ،ص 7(1/40)
في مقدمة كتاب وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبِي:" إن هذا الكتاب يكشف في مالك بن نبي عن مفكر كبير احتل بسرعة فائقة مكانه اللائق في طليعة العالم العربي الإسلامي... وهو في مجموع آثاره ليس مفكراً كبيراً صاحب نظرية فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعياً مؤمناً يجمع بين الفيلسوف المفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره... فأنا لا أقول إنه" ابن نبي" ولكني أقول أنه ينهل من نفحات النبوة وينابيع الحقيقة الخالدة ".(1)
... ويقول الأستاذ الدكتور عبد العزيز الخالدي في مقدمة كتاب شروط النهضة لمالك ابن نبي: " وابن نبي في الواقع ليس كاتباً محترفاً، أو عاملاً في مكتب مكبّاً على أشياء خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شعر في حياته الخاصّة، بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والاجتماعية، وتكوين المؤلف كمهندس قد ساعده دون شك في التصوير الفني للأشياء ولكن ثقافته المزدوجة تسمح له بأن يصل هذا التصور بالخطة الإنسانية ".(2)
__________
(1) مصطفى حسني السباعي : ولد عام 1915م في مدينة حمص بسوريا، وتوفى عام 1964م، قاد المقومة المسلمة ضد الفرنسيين في عام 1945م ، وشارك في عام 1948م في الجهاد ضد اليهود في فلسطين في مدينة القدس الشريف ، كان عالماً جليلاً له الكثير من المؤلفات منها ، أحكام الصيام وفلسفته ، وأخلاقنا الاجتماعية ، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ، والمرأة بين الفقه والقانون ، اشتراكية الإسلام ،انظر : الموسوعة الحركية في تراجم إسلامية ، فتحي يكن ، مؤسسة الرسالة ط1980م ،ص141
(4) مجلة المسليون ، دمشق ، المجلد السادس ، العدد العاشر ، جمادي الأول ـ شعبان ـ 1379 هـ ،ص67 ، نقلاً عن كتاب مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً ، أسعد السحمراني ، ص21(1/41)
... ويقول فيه الدكتور مصطفى السباعي:(1) " الأستاذ مالك جزائري الأصل، مجاهد في سبيل القضية الجزائرية بقلمه ولسانه، جهاداً يعرف له فضله فيه زعماء حركة التحرير الجزائرية منذ نشوئها... ويتميز الأستاذ مالك بن نبي في جميع مؤلفاته بعمق التفكير ومنطقيته، وواقعيته، وقوة أسلوبه في الدفاع عن الأفكار التي يتبناها... وقد استطاع مالك بأسلوبه الذي تفرد به، وثقافته الغربية الواسعة مع ثقافته العربية الإسلامية، أن يوجّه إليه أنظار جيل من شبابنا المثقف الذي يتوق إلى الإصلاح مع احتفاظه بقوة العقيدة، وسلامة التفكير، وبدأ يرى في الأستاذ مالك بن نبِي رائده الفكري البعيد النظر القوي الإيمان المناضل بقلمه، في سبيل الله والإسلام".(2)
... ويقول الأستاذ أنور الجندي: " ومثل مالك بن نبي بين مفكري العالم الإسلامي قليل فهو الرجل الذي ورد مورد الغرب، وجاءنا منه نقياً صافيا، وقد حفظ الله له أصالته وأفاد مما وجد، نصاعة فكر، وبعد نظر، وعمق فهم، وقدرة على كشف تلك التحديات والشبهات والأوضاع التي عمد التغريب والغزو الثقافي على نصب شباكها، لتدمير الفكر الإسلامي وإثارة أجواء الاضطراب والتخلخل بين جوانبه".(3)
المبحث الرابع
مذهبه الاعتقادي
مذهبه الاعتقادي:
لم يجد الباحث لابن نبِّي كتابات واضحة في العقيدة الإسلامية لدراستها، ومن ثم معرفة مذهبه الاعتقادي من خلالها، ولكن يمكن توضيح عقيدته من خلال عدة نقاط:
1ـ مدحه لمنهج السلف:
__________
(3) أعلام القرن الرابع الهجري ، ص139 .(1/42)
لقد مدح ابن نبي منهج السلف في كتبه، وثناؤه عليهم وعلى منهجهم ، وخاصة في اعتمادهم على القرآن والسنة، وهو يعتبر أن منهجهم هو الأساس الأول والأخير في إصلاح الأمة، لأنه يحرك الفكر والساعد، فهو أفضل ما في جعبة الحركة الإصلاحية في مجال التغيير، ويعرًف السلف ويمدحهم يقول:" ليس هناك أفضل من السلفية، التي هي العودة إلى الفكرة الأصلية في الإسلام فكرة السلف"(1) وهو أيضاً يحث أي حركة إصلاحية أن تتبع منهجهم، بالعودة إلى المصدر الأول، الذي عاد له السلف الصالح، ألا وهو القرآن والسنة ليؤديا دورهما العملي الحركي من جديد، بقوله:" فلابد من وجود المبدأ السلفي في عقول المصلحين، لأنه يواجه مشكلة الوظيفة الاجتماعية للدين، والمؤمن يستفيد من مدرسة تلقنه مبادئ الرجوع للسلف"(2).
... ولقد أخذ يمدح علماء السلف ومنهم الإمام ابن تيميه، فيقول عنه أنه:" لم يكن عالمأ كسائر الشيوخ ولا متصوفاً كالغزالي، ولكن كان مجاهداً يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي، في العالم الإسلامي"(3) ووضح تأييده لهذا المنهج من خلال مدحه لمن ينتهجون هذا النهج من الحركة الجزائرية فيقول: " ونرى من هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح، تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط " (4) " والرجوع إلى السلف، هو المبدأ التي نادت به الحركة الإصلاحية القائمة على أساس القرآن "(5).
2ـ ذمه لعلم الكلام:
إن علماء السلف كانوا يكرهون علم الكلام ويحذرون منه، فقد قال الإمام الشافعي ...
__________
(1) وجهة العالم الإسلامي : مالك بن نبي ، ص47 .
(2) المصدر السابق : ص49 .
(3) المصدر السابق : ص42 ،ص 43 .
(4) شروط النهضة : مالك بن نبي ، دار الفكر ، ترجمة عبد الصبور شاهين ، ص 25
(5) وجهة العالم الإسلامي: مالك بن نبي، ص145 ، 146(1/43)
ومالك وأحمد بن حنبل وجميع أهل الحديث من السلف بتحريم علم الكلام، فمن أقوال الإمام الشافعي: " لأن يلقى الله عزّ وجل العبد بكل ما خلا الشرك بالله، خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام، وقال أيضاً: " لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرّوا منه فرارهم من الأسد " (1) وقال الإمام أحمد بن حنبل: " لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل" وقال أيضاً علماء الكلام زنادقة، وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا " (2) واتباعاً لهذا المنهج السلفي، فإننا نرى أن ابن نبي ذم هذا العلم، لأنه لا ينبني عليه سلوك بل هو عبارة عن تركيب ألفاظ في قوالب جديدة، لا تعمل على تقوية الإيمان والعقيدة بل يعمل على إفساد المنهج السلفي الأصيل، وفي معرض نقده لهذا العلم يقول:" إنه رأى علم الكلام يمجد الجدال وتبادل الآراء، وهو في الوقت ذاته يشوه المشكلة الإسلامية ويفسد طبيعتها حين يغير المبدأ السلفي، في عقول المصلحين أنفسهم... فعلم الكلام لا يوجّه مشكلة الوظيفة الاجتماعية للدين، لأن المؤمن لا يفيد شيئاً من مدرسة تعلمه مسألة وجود الله فحسب دون أن تلقنه مبادئ الرجوع للسلف " (3) وبذلك يتضح لنا أن ابن نبي يمدح المنهج السلفي ويؤيده.
3ـ ذمه للبدع والخرافات:
... وإتباعاً لمنهجيته السلفية، فإنه كان يحارب الخرافات والبدع والخرافات الصوفية الباطلة التي تقوم بالدروشة، وعمل الأحجبة، والحروز(4)
__________
(1) إحياء علوم الدين : أبو حامد الغزالي ، ط دار الصابوني بدون رقم ط 1 / 87 .
(2) المصدر السابق :1 / 88 .
(3) المصدر السابق : ص49 .
(4) الأحجبة والحروز : هي التمائم التي يعلقها بعض الناس اعتقاداً منهم أنها تدفع عنهم الشر ّ كتعليق الخرز والودع الذي يشبه الصدف ، والأوراق التي تكتب فيها رمز وطلاسم غير مفهومه .(1/44)
وتعتمد على وجود الشيخ والمريد وهو يعد كل ذلك جهل لابد أن يحارب، وأن تنتهي من الواقع نهائياً يقول مالك بن نبي : " إن الجهل في حقيقته وثنيه لأنه لا يغرس أفكاراً، بل ينصّب أصناماً، وهذا هو شأن الجاهلية... فلم يكن من باب الصدفة، أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة، ولم يكن عجباً أن مرّ الشعب العربي بتلك المرحلة حين شيّد معبداً لأقطاب الدراويش، المتصرفين في الكون... وهكذا كانت الجزائر ـ على الرغم من إسلامها ـ تدين بالوثنية، التي قامت تصبها في الزوايا، هنالك كانت تذهب الأرواح الكاسدة لالتماس البركات، ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات ،وأهل الزردة ( الفتّة )وحمى الدراويش التي تبتلع العقارب والمسامير... والجنة التي وعدها المريدون بلا كد ولا عمل، إلا ما يتلمَّسون من رضا الشيخ ودعواته" (1) ومن هذه المواقف يتضح سلوكه للمنهج السلفي الواضح، الذي يعادي كل أشكال الوثنية، ما يظهر منها على مجال الفكر الصوفي، أو السياسي أوغيرهما.
4ـ الإقرار:
__________
(1) شروط النهضة : مالك بن نبي ، ص28 ،ص 29 .
(2) مذكرات شاهد القرن الطالب : ص131 .
(3) المصدر السابق : ص148 .
(4) المصدر السابق : ص150 .(1/45)
... لقد ذكر ابن نبي أنه يتبع المنهج السلفي، وذلك بقوله أنه ينتهج نهج الوهابية ومعروف أن الوهابية حركة إصلاحية سلفية، تحاول الرجوع بالناس إلى إتباع طريق السابقين الأولين من الصحابة الكرام، فلقد كان ابن نبي يدرس عن هذه الحركة نظرياً ولكن ما زاده رسوخاً فيها، ما حدثته به أمه من أنها " وجدت في الحج محفظة نقود، فأرادت أن تسلمها لوكيل الفندق، حتى لا تضيع على الحاج، فقال لها كان من الأليق تركها في مكانها ويعقب على هذه الحادثة بقوله:" فقصة والدتي زادتني رسوخاً في الوهابية وهابيتي" (1) وكل الأحاديث التي كانت تروى له عن هذه الحركة كانت تزيد من قناعاته الخاصة بالفكرة الوهابية فيقول:" وأصبحت عقيدتنا الوهابية، أنا وزوجتي، تزداد كل أسبوع يمر" (2) ويعتبر الوهابية منقذة للعالم الإسلامي لأنها:" الفكرة الإسلامية الوحيدة، التي تصلح لما فيها من طاقة متحركة، لتحرير العالم الإسلامي المنهار، منذ عهد ما بعد خلافة بغداد" (3) لما فيها من تأكيد على الجانب العقائدي والأصول ، وذلك المنهج هو ذاته منهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندما ربَّى أصحابه في مكة المكرمة ليؤسسهم للمرحلة المقبلة وبذلك يتضح منهجه ومذهبه الاعتقادي.
... ويرى الباحث أن مالك بن نبي وإن مدح السلف، إلا أنه لم يعتمد على الأدلة القرآنية كثيراً ولا السنة، ولا أقوال السلف في تحليلاته العقدية والفكرية، ولكنه أحب السلف، مع أنه ذكر في بعض تحليلاته للحركات أنها لم تتبع المنهج العملي كالسلف، وانتقد بشدة منهج علم الكلام، وبذلك اتبع السلف في رفض علم الكلام، ومن هنا يستطيع الباحث أن يقول أن ابن نبي كان يتبع السلف في بعض الجوانب، ولا يتبعهم في جوانب أخرى حيث لم يكن يستخدم طريقتهم في الاستدلال على والأفكار الأشخاص والأشياء من القرآن والسنة، فهو مثلاً لم يستدل بالقرآن الكريم والسنة في نقض الأفكار المعاصرة مثل الديمقراطية والقومية .(1/46)
الباب الثاني
موقف ابن نبي من الحضارة الغربية المعاصرة والاستعماروالاستشراق
الفصل الأول : موقفه من الحضارة المعاصرة .
الفصل الثاني : موقفه من الاستعمار .
الفصل الثالث : موقفه من الاستشراق .
الفصل الأول
موقفه من الحضارة المعاصرة
المبحث الأول:تعريف الحضارة ومفهومها عند مالك بن نبي وغيره
المبحث الثاني:مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وغيره من المفكرين
المبحث الأول
تعريف الحضارة ومفهومها عند مالك بن نبي وغيره
المطلب الأول
تعريف الحضارة لغة واصطلاحاً
1ـ الحضارة لغة:
... من حضر ،حضوراً، وحضارة، جاء في لسان العرب : " الحضارة : الإقامة في الحضر، وكان الأصمعي يقول: الحضارة بالفتح قال القطامي:
من تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا " (1)
وجاء في تاج العروس: " الحضر محركة، والحضرة بفتح فسكون، والحضارة بالكسر عن أبى زيد وبفتح عن الأصمعي، خلاف البادية والبداوة والبدو.
... والحضارة بالكسر الإقامة في الحضر، قاله أبو زيد، وكان الأصمعي يقول : "الحضارة بالفتح، الحاضر والحضرة الحضر، هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار، ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار، والبادية يمكن أن يكون اشتقاقها من بدا يبدو، أي برز وظهر، ولكنه اسم لزم ذلك الموضع خاصة دون سواه"(2).
2ـ الحضارة اصطلاحاً:
__________
(1) لسان العرب : ابن منظور، جمال الدين بن منظور ،دار الفكر، بيروت، 4 /197 .
(2) تاج العروس من جواهر القاموس :محب الخطيب أبى الفيض السيد محمد الزبيدي ،ط دار الفكر، 6 / 268 .(1/47)
... ليس هناك تعريفاً محدداً للحضارة يمكن أن يتفق عليه بين الباحثين والمفكرين، ويكاد يكون ابن خلدون أول من نبه إليها واستخدمها في مقدمته، إلا أن اصطلاحه الذي كان يستغني به معظم الأحيان عن هذه الكلمة هو ( العمران البشري ) الذي يقابل ( الحضارة البشرية ) "(1).
... يقول ابن خلدون: " الحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة
في وجوهه ومذاهبه، من المطابخ والملابس والمباني والفرش، وسائر عوائده وأحواله، فلكل
واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه" (2).
... ومفهوم الحضارة عند سيد قطب، يقوم على العقيدة الإسلامية التي تعمل على التحرر الحقيقي الكامل للإنسان، وتوجد الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع، وذلك عن طريق تحقيق الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده.
... وتحقيق العبودية لله وحده، والتجمع على أساس هذه العقيدة ، واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان، لا حيوانيته وتقيم الخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه، ويمكن أن تتخذ الحضارة أشكالاً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة لأنها هي مقومات الحضارة (3).
... ويعرّف النبهاني الحضارة بأنها " مجموع المفاهيم عن الحياة، وتكون الحضارة خاصة حسب وجهة النظر في الحياة " (4)
__________
(1) التفسير الإسلامي للتاريخ : عماد الدين خليل ط2 عام 1978م، دار العلم للملايين،ص173 .
(2) مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون، ط4 ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ص172 .
(3) انظر: معالم الطريق : سيد قطب، ط دار الشروق ، بدون رقم طبعة، ص107ص،108،ص120 .
(4) نظام الإسلام : تقي الدين النبهاني، ط5منشورات القدس،ص59 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص59 ،ص 60 .
(4) انظر: معالم في الطريق : ص119 .(1/48)
ويقسم النبهاني الحضارة إلى قسمين: الحضارة الغربية ويرى أنها تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة، والحضارة الإسلامية تقوم على أساس العقيدة القائمة على أساس الإيمان بالله، فهما حضارتان متناقضتان(1).
... ويرى الباحث أنه ليس هناك علاقة بين المعنى اللغوي والمعاني الاصطلاحية، وأن أغلب التعريفات للحضارة، تكون نابعة من عقائد المفكر وتصوراته، فالحضارة هي الهوية التي تعرّف الآخرين بعقلية أصحابها، وقد اجتمعت تعريفات أغلب المفكرين، على أن الحضارة هي التي تنظر إلى إعطاء رؤيا صحيحة عن الكون والإنسان والحياة، بحيث تعمل على طمأنينة الإنسان ضمن هذه الحياة، بتحقيق كرامته الآدمية، وحل مشاكله حلاً صحيحاً يوافق فطرته الإنسانية، فليست الحضارة ما يشاهده الإنسان من رقي معماري، وتقني ومادي، فهذه أشكال خارجية لأي حضارة كانت؛ صحيحة أم خاطئة، ولكن الحضارة هي التي تحقق الأمن النفسي والتوازن في النفس البشرية، وذلك لا يوجد إلا في الإسلام فالحضارة هي الإسلام فقط لا غير.(2)
المطلب الثاني
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
أولاً: تعريف الحضارة
... يرى ابن نبي أن الحضارة هي: " مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين، أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطواره" (3) " وهي ذات جانبين: الجانب الذي يتضمن شروطها المعنوية، في صورة إرادة تحرك المجتمع نحو تحديد مهماته الاجتماعية والاضطلاع بها، والجانب الذي يتضمن شروطها المادية، في صورة إمكان، أي أنه يضع تحت تصرف المجتمع الوسائل الضرورية للقيام بمهماته، أي الوظيفة الحضارية ".(4)
__________
(3) آفاق جزائرية : مالك بن نبي ، مكتبة عمّار ط2عام 1971م، ص38 .
(4) المسلم في عالم الاقتصاد : مالك بن نبي، ط دار الفكر، دمشق، طعام 1979م .(1/49)
... ومن هذا التعريف يتضح أنه لم يكن يقصد بالحضارة المدنية فقط، بل يفهم منه أن المدنية هي الأشكال المادية لمنتوجات الحضارة، ولكن الحضارة هي البعد الاعتقادي والمعنوي للحضارة.
ثانياً :المعادلة الحضارية والمركب الحضاري:
يرى مالك أن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:
ناتج حضاري= إنسان + تراب + وقت .
... بحيث تشير هذه الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة تنحلّ إلى ثلاث مشاكل أولية: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون من خلال تكديس المنتجات، وإنما بأن نحل تلك المشكلات من أساسها، ولكن هذا الناتج الحضاري، لا يتم تلقائياً حيثما توفرت هذه العناصر بل لابد من وجود مركب ما، وهو المركب الحضاري الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، هو: الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ ،(1) " فإن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة " (2).
فعندما يتحرك رجل الفطرة، ويأخذ طريقه لكي يصبح رجل حضارة لا زاد له سوى التراب، والوقت، وإرادة لتلك الحركة، وهكذا لا يتاح لحضارة بدئها رأسمال إلا ذلك الرجل البسيط الذي تحرك، والتراب الذي يمده بقوته الزهيد حتى يصل إلى هدفه
والوقت اللازم لوصوله، وكل ماعدا ذلك من قصور شامخات، ومن جامعات وطائرات، ليس إلا من المكتسبات، لا من العناصر الأولية ".(3)
ثالثاً : الرسم البياني للدورة الحضارية:
__________
(1) انظر: شروط النهضة: " ص45 ، 46 ، 60 .
(2) مشكلة الثقافة : مالك بن نبي ، دار الفكر دمشق، ط4عام 1959م ص100 .
(3) انظر : آفاق جزائرية : ص38 ، انظر : شروط النهضة : ص44 ،ص45 ،ص 60 .
(2) شروط النهضة : ص66(1/50)
... " إن كل حضارة تقع بين حدين اثنين: الميلاد والأفول، ونحن نملك نقطتين من دورتها، باعتبارها ليستا محل نزاع، والمنحنى البياني يبدأ بالضرورة من الأولى في خط صاعد، ليصل إلى النقطة الثانية في خط نازل...أما الطور الانتقالي الذي يتوسط هذين الخطين في طور وسيط، هو طور الأوج، ولو حاولنا ترجمة هذه الاعتبارات، في صورة تخطيطية، لحصلنا على التخطيط التالي(1):
رابعاً: تطبيق الرسم البياني على المراحل النفسية والتاريخية:
1ـ مرحلة سيادة الروح: وهي بداية الصعود
... إن الفرد في هذه المرحلة يكون عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية، أي في حالة الفطرة، وحين تجيء الفكرة الدينية تتولى إخضاع غرائزه بـ " عملية شرطية " ليس من شأنها القضاء على غرائزه، ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية، بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح.
2ـ مرحلة سيادة العقل: وهي مرحلة الانتشار والتوسع
... وبعد المرحلة الروحية " يواصل المجتمع تطوره... وتكتمل شبكة روابطه الداخلية...فتنشأ المشاكل المحسوسة لهذا المجتمع الوليد نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله... وفي كلا الحالتين فإن المنعطف هو منعطف العقل... حيث تشرع الغرائز في التحرر من قيودها، بالطريقة التي شاهدناها في عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها على الغرائز بالتدريج، وأخذت الغرائز لا تتحرر دفعة واحدة، وإنما هي تنطلق بقدر ما تضعف الروح".(2)
... 3ـ مرحلة سيادة الغريزة: وهي مرحلة الأفول والانهيار
__________
(2) شروط النهضة : ص52 ،ص 67 ،ص 66 .(1/51)
... " وعندما يبلغ التحرر من الروح تمامه... يبدأ طور الغريزة تكشف عن وجهها تماماً، وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها تماماً، في مجتمع منحل، يكون قد دخل نهائياً في ليل التاريخ، وبذلك تتم دورة الحضارة "(1) " فالدوافع السلبية التي خلقتها " صفين " في المجتمع الإسلامي تنمو فيه يوماً فيوماً، إلى أن أتى القرن الثامن الهجري، فأخذت الحضارة في الأفول وبدأت الظلمات تغمرها في الأندلس" (2) ويؤرخ لتلك الظاهرة " بسقوط دولة الموحدين، الذي كان في حقيقته سقوط حضارة لفظت آخر أنفاسها ".(3)
خامساً : نقد نظرية الدورة الحضارية عند مالك بن نبى:
1ـ " إن فكرة الدورة الحضارية اعترض عليها، فإنه ليس هناك ميلاد وشباب وشيخوخة، لا في حياة الدول ولا في حياة الحضارات، بل هناك إبطاء أو توقف في المسيرة الحضارية مرده عوامل قد يكون من أبرزها، سوء أنظمة الحكم والممارسات السيئة للحكام فقيام الحكم على أساس أو ممارسات مرفوضة، وحدوث تنافر بين الحكام والرعية من شأنه أن يؤدي إلى توقف الحوار والتفاعل الحيوي، وبالتالي تضاؤل المعطيات الحضارية، أو جفافها شيئاً فشيئاً"(4).
2ـ " إن تطبيق مالك للتفسير الدوري للحضارة، قد اقتصر على حضارتين فقط هما الحضارة المسيحية، والحضارة الإسلامية، فكيف يصح أن تعمم نظرية الدورة ومصيرها قانوناً يجري على كل الحضارات الإنسانية الأخرى؟".(5)
__________
(1) شروط النهضة : ص69 ،ص 70 .
(2) تأملات : مالك بن نبي ، ط دار الكر عام 1985م، ص40 .
(3) وجهة العالم الإسلامي : ص31 .
(4) التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي : علي القريشي، ط1 ، الزهراء للإعلام والنشر، عام 1989م ، ص296 ،ص 297 .
(5) التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي : ص297 .(1/52)
3ـ إن مالك يرد كل الأهواء والمحن، التي ألمت بالحضارة الإسلامية إلى ما حدث في معركة صفين من صراع، من خلال حمية الجاهلية، " إن هذا القول مبالغ فيه عند مالك بن نبّي... لأنه لم تكن حمية الجاهلية التي انبعثت، فالقضية بين علي ومعاوية كانت خلافاً على الرأي، وكل منهم يظن أنه يدافع عن الإسلام الصحيح، فعلي كان يرى أنه يدافع عن حق ولي الأمر في ترتيب الأمور، ومعاوية يرى أنه لابد من القصاص من القتلة والوقوف ضد الخارجين، وهذا أولى من استبدال خليفة".(1)
4ـ أما ما يراه من أن سقوط الحضارة الإسلامية، كان بسقوط دولة الموحدين فإن " دولة الموحدين كان فيها دخن كثير، فإن مؤسسها محمد بن تومرت(2) كان يدّعي العصمة... ولكن لماذا ينسى أستاذنا مالك، الدولة العثمانية التي استأنفت القوة الإسلامية، بدولة جامعة كبرى كانت أعظم من الموحدين وأكبر ؟" (3).
5ـ " ولقد وقع مالك بن نبي في خطأ حيث أعطى التراب قيمة زائدة عن حدوده إذ وضع هذه المعادلة: إنسان + تراب + وقت = حضارة .
فقد يكون : إنسان + تراب + وقت = دمار .
__________
(1) فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي :سليمان الخطيب، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، من حوار أجراه مع د. عبد الحليم عويس، استاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر بمصر، ص116 .
(3) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي الملقب بالمهدي ، مؤسس دولة الموحدين ، وهو من الذين ينفون الصفات ، ويسمي ذلك توحيداً وقد لقب عند أصحابه بالمهدي ، وذكر ابن تيمية أن له كتاباً في التوحيد صرّح فيه بنفي الصفات ، وذكر اسم كتاب آخر هو كتاب الدليل والعالم ، ومن كتبه : أعزّ ما يطلب ، وكتاب كنز العلوم ، ورسالة الرشده ، وقد اختلف في سنة مولده ، وقد توفى عام ، 524هـ ، انظر :الأعلام :للزركلي 7 / 104 ـ105
(4) المصدر السابق : نفس الحوار مع د . عبد الحليم عويس، ص118 ،ص119 .(1/53)
والوضع الصحيح للمعادلة هو: إنسان متوازن = حضارة .
... ولما كان المسلم هو الإنسان الوحيد الذي يمكنه أن يحقق التوازن ، لذا فإننا نستطيع أن نصيغ المعادلة السابقة بالشكل التالي: الحضارة فقط الإنسان المسلم ".(1) الملتزم
6ـ يرى الباحث أن الحضارة الإسلامية تقوم على أساس التوازن بين العقل والروح، وبين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة ، فمالك يرى التوازن فقط عندما تسيطرة الروح على العقل والجسد، ثم بعد ذلك لا يوجد توازن وذلك عندما يسيطرة العقل على الروح، ثم عندما تسيطرة الغرائز حيث تؤدي إلى دمار الحضارة.
7ـ والملاحظ في مفهوم الدورة الحضارية عند ابن نبى فيه نوع من الحتمية وكأن المسألة الحضارية التي تتعلق بالحياة الإنسانية، تظهر من خلال كلامه كأنها بناء هندسي ضمن معادلة رياضية.
المبحث الثاني
مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وغيره من المفكرين الإسلاميين. المطلب الأول : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وابن خلدون.
المطلب الثاني : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب.
المطلب الثالث : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي والمودودي.
المطلب الرابع : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسعيد حوى.
المطلب الأول
مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وابن خلدون
__________
(1) الفكر الإسلامي : غازي التوبة :ط3 عام 1977م ط دار القلم بيروت ،لبنان ، ص78(1/54)
... إن ابن نبي يرى أن مفهوم الحضارة هو عبارة عن مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، وأن أي حضارة في العالم لابد أن تسير ضمن دورة متكررة كالإنسان، من ميلاد وشباب وشيخوخة وهو ما أطلق عليه اسم الدورة الحضارية، موضحاً المؤثر الرئيس في التغيير الحضاري بأنه مقدار القرب والبعد من الجانب الروحي، فعامل الروح هو المؤثر في الميلاد لأي حضارة، وعامل العقل هو المؤدي إلى بداية الانهيار، ثم عامل الغريزة الذي يعني وفاة الحضارة وأنه لابد من توفر شروط مترابطة من الإنسان والوقت والتراب، مع اعتبار أن الإنسان هو العامل الرئيس في تحريك هذه الشروط لتكون مؤثرة على الواقع من أجل تغييره وهذا بمقدار قربه أو بعده من العامل الروحي الذي هو المركب الفعال في الربط بين شروط الحضارة فالمقصود من الدورة الحضارية، هو معرفة العامل الذي يؤثر في بناء الحضارة وعامل السقوط لهذه الحضارة، فمالك بن نبي يرى أن الفكر هو المؤثر في التغيير وأفضل مؤثر فيما يرى هو ما يطلق عليه الفكر الديني ويقصد به الدين أو العقيدة.(1)
... وإن ابن خلدون يرى أن الحضارة هي عبارة عن التفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في المجال المادي من ملابس ومطابخ وغيرها حيث عرّفها بقوله: "هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله"(2) فهو بذلك لم يميز بين المفهوم القيمي الأخلاقي والمجال المدني، ولكن ابن نبِّي ميّز بينهما، ولكن كل منهما متفق في وجود دورة حضارية،وهو أن وراء التغير التاريخي والدولي عوامل معينة.
__________
(1) انظر :شروط النهضة : ص66 ، انظر :مشكلة الأفكار :مالك بن نبي ، ط1 ، دار الدعوة ، ترجمة د عبد العظيم علي، ص 20 (2) مقدمة بن خلدون : ص172 .
(3) أسس التقدم الفكري عند مفكري الإسلام : فهمي جدعان ، دار الشروق ، ط2 عام 1988 م ، ص98 .(1/55)
... وقد كان ابن خلدون أول من درس عوامل البناء والدمار في بناء التاريخ الحضاري من خلال التنبيه إلى أن دراسة التاريخ تعني دراسة أسباب بناء ودمار الدول التي يعتبرها أساساً لبناء الحضارات فإن" ابن خلدون نفسه، لم يكن مشروعه مجرد عمل تاريخي اجتماعي تحليلي عابر، وإنما كان عملاً حافلاً بالدروس الثمينة، أكثرها جوهرية هذا الذي ينطوي عليه، السؤال التالي: كيف تُبنى الأمم وعمرانها ؟ وكيف تتطور ولماذا تنهار؟ ".(1)
... " وطريقة ابن خلدون في طرح " المسألة العمرانية" وفي الجري المستمر وراء تحديد علل الانحطاط، وبالتالي علل التقدم، تستقطب كل الجهود التي بذلها المحدثون، وتقع في مركز القلب منها "(2) ، حيث وضح ابن خلدون في أول مقدمته المشهورة، منهجاً جديداً لم يسبقه إليه غيره، وهو البحث عن الأسباب الخفية الحقيقية، وراء ميلاد الحضارات وانهيارها وقد قسم ابن خلدون التاريخ الحضاري إلي قسمين: ظاهر وباطن:
القسم الظاهر: فهو مجرد سرد لوقائع التاريخ وأحداثه سرداً تاريخياً.
... القسم التحليلي: فهو نظر للأحداث وتعليل الوقائع وبيان أسبابها ولقد مدح مالك بن نبي منهج ابن خلدون في دراسته لتاريخ الحضارات بقوله: " قبل ابن خلدون كان التاريخ ضرباً من الأحداث المتتابعة، حتى إذا جاء وجدناه يخلع على التاريخ نظرة جديدة، فهو حين وصله بمبدأ السببية، أدرك بتلك النظرة معنى تتابع الأحداث، من حيث كونه عملية تطور كما حدد معنى الواقع الاجتماعي من حيث كونه مصدراً لتلك الأحداث" (3)
__________
(2) أسس التقدم الفكري عند مفكري الإسلام : ص99 انظر : مقدمة ابن خلدون : عبد الرحمن ابن خلدون ص175 .
(3) مشكلة الثقافة : مالك بن نبي ، ط 4 عام 1984م ، ترجمة عبد الصبور شاهين، ص27 .
(3) شروط النهضة : ص19 .
(4) المصدر السابق : ص61 .
(5) المصدر السابق : ص62 .(1/56)
... ولقد أخذ مالك بنفس المنهج في دراسته للحضارات في البحث عن علل تكونها بقوله: " إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو أن يحل مشكلتهما ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها " (1) فلابد أن يكون " المنهج الذي يتناول واقعة الحضارة، لا على أنها سلسة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها؛ بل كظاهرة يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى قانونها أي إلى سنة الله فيها " (2) ويقرر مالك أخيراً " أن ابن خلدون تمكن من اكتشاف منطق التاريخ في مجرى أحداثه، فكان بهذا المؤرخ الأول الذي قام بالبحث عن هذا المنطق ، إذا لم نقل إنه قد قام بصياغته " (3).
نظرية ابن خلدون في الحضارة:
... لقد وضح ابن خلدون في مقدمته المشهورة أن بناء الدولة هي المقدمة لبناء الحضارة، وهو يرى أن أعمار الدولة أربعة أجيال، وكما أن الناس يتشابهون فيما يجرى عليهم أثناء رحلة العمر، فكذلك الدول تتشابه في ميلادها ومسارها وما يجري عليها، ولقد اعتبر ذلك محوراً لآرائه، فيرى أن البداوة هي المرحلة الأولى من حياة كل جماعة إنسانية فالتطور الاجتماعي الحضاري يبدأ عند ابن خلدون عند أهل البداوة، ويتطور حتى يصيروا أهل حضر (4).
... " وعلى هذا فالتاريخ والحضارة عند ابن خلدون دورة متصلة، وصراع دائم على الملك والرياسة، أو ما يسميه ابن خلدون بالمجد والشرف، فأهل البداوة يتطلعون أبداً إلى التغلب على بلاد الحضر للاستمتاع بخيراتها، فإذا وصلوا إلى الملك استناموا إلى الترف وأخذت أجياله تضعف نتيجة لانغماسهم في الحضارة وفساد طبائعهم، وهنا تتطلع أمة جديدة من أهل البداوة إلى الحلول محلهم في الملك والغنى والنعيم " (5)
__________
(4) انظر : الحضارة : حسين مؤنس ، ط2 ، عام 1978 م ، ص154 ، مقدمة ابن خلدون ، عبد الرحمن ابن خلدون ص172 .
(5) المصدر السابق : ص156 .(1/57)
... وبذلك يظهر أن ابن خلدون أول من ذكر مفهوم الدورة الحضارية، بمعنى أن أي حضارة تسير في مسار مشابه للإنسان، من ميلاد ثم شباب ثم موت، فعندما أراد دراسة التاريخ الإنساني بالبحث عن الأسباب والعلل ، بحث في عوامل البناء والدمار في التاريخ والحضارات على أساس أنها تولد وتموت عبر الزمن، من خلال ثلاثة أجيال، فإن " الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال ، الجيل الأول الذي لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها ، والجيل الثاني الذي تحول حالهم بالملك والترف من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، والجيل الثالث الذي ينسون عهد البداوة ، كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العز والعصبية، بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته... فهذه كما تراه ثلاثة أجيال، فيها يكون هرم الدولة " (1) وفي الجيل الرابع تسقط الحضارة لتبدأ حضارة جديدة من جديد.
... ولقد اعترف مالك بفضل ابن خلدون، في استنباط فكرة الدورة بقوله" كان ابن خلدون وحده هو أول من استنبط فكرة " الدورة " في نظريته عن الأجيال الثلاثة... فإنها تدفعنا إلى تأكيد الجانب الانتقالي في الحضارة، أي أننا لا نرى فيها سوى تعاقب ظواهر عضوية لك منها بالضرورة في مجالها المعين بداية ونهاية، وتأتي أهمية هذه النظرة، من أنها تتيح لنا الوقوف على عوامل التقهقر والانحطاط، أي على قوى الجمود داخل الحضارة، إلى جانب شرائط النمو والتقدم، فهي تتيح لنا أن نجمع كلاً لا تتجزأ مراحله".(2)
__________
(1) مقدمة ابن خلدون : ص170،ص 171 .
(2) وجهة العالم الإسلامي : ص24 .(1/58)
... ولقد أخذ مالك بهذه الفكره، وأقر بنظرية الدورة الحضارية، واعتمد على حدّي الميلاد والأفول في رسم التشكيل البياني لخطته الحضارية، وادخل ذلك ضمن ثلاثة أطوار حياتية طور الروح، وطور العقل، وطور الغريزة، وهو بذلك كان مقلداً لابن خلدون، إلا انه أدخل مفاهيم علم النفس في تحليلاته، مثل الغريزة، والعقل، وعملية الشرط، أي قد صاغ نظرية ابن خلدون بألفاظ معاصرة.
المفهوم الديني:
... إن ابن خلدون قد أولى اهتماماً كبيراً للمفهوم الديني في نشوء الدول والعمران ولأهمية ذلك فقد وضعه عنواناً لأحد فصول مقدمته، " أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك، أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق" حيث يقول فيه " وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يحصل بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالب، وجمع القلوب وتأليفها، إنما يكون بمعونة الله في إقامة دينه" (1) قال تعالى:( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2).
... ولقد أخذ مالك بهذا المفهوم، ولكنه أطلق عليه اصطلاحاً يوافق هذا العصر بقوله عنه المركب الحضاري: " إن هناك ما يطلق عليه " مركب الحضارة " أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة: الإنسان ـ التراب ـ الوقت ، بعضها ببعض، نجد أن هذا المركب هو الفكرة الدينية، التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ" (3).
نقد مالك لابن خلدون:
لقد وجه مالك نقده لابن خلدون فيما يتعلق بمفهوم العصبية:
... يقول فيها: " تختفي عمق فكرة الدورة في نظرية ابن خلدون، عن الأجيال الثلاثة خلف مصطلحات ضيقة ضحلة، فقد رد نطاق الحضارة إلى حدود العصبية"(4).
__________
(1) مقدمة ابن خلدون : ص157 .
(2) سورة الأنفال : آية : 63 .
(3) انظر: شروط النهضة : ص45 ، 46 .
(4) انظر: وجهة العالم الإسلامي : ص24 .(1/59)
... ويرى الباحث أن ابن خلدون لم يرد فكرته الدورية إلى العصبية، على أنها رابطة فوق الدين أو من الممكن ترك الدين من أجلها، بل أراد أن يدرس المسألة من باب تعميم الفكرة التي يريدها، ذلك لأنه وجد من استقرائه، وجود دولٍ وحضارات لم تؤسس على أصول دينية، بل على أصول عصبية، فلذلك جعل العصبية عامل من عوامل إنشاء الدول والعمران ولأنه وجد أيضاً أصول عصبية في بداية بعض الدول العمرانية والحضارات فلذلك ذكر مفهوم العصبية من خلال دراسته التاريخ، ومما يدل على ذلك، قول ابن خلدون في فصل: " " إن الملك والدولة إنما يحصلان بالقبيلة والعصبية" " إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية... يقع فيه التنافس غالباً، وقلّ أن يسلمه أحد لصاحبه، إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية ".(1)
... ومما يدلّل على أنه يريد نظرية عامه تنسحب على كل دول العالم بقوله: " إن الوجود وحياة البشر قد تتم دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية، التي يقتدر بها على قهرهم، وحملهم على جادته، فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة للمجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كان لهم الدول والآثار فضلاً عن
الحياة " (2).
... وإذا كان مالك قد أخذ على ابن خلدون بأنه أخذ بمفهوم العصبية فإن مالك نفسه قد ذكر أن العصبية لها دور بقوله: " الرابطة القبلية قد ظلت وحدها الرابطة الوثيقة التي توحد بين الرجال فيما يشبه وحدة رسالة، غير أن هذه الرابطة لم تكن بكافية لتأهيل شعب، ليؤدي رسالة تاريخية" (3).
__________
(1) مقدمة ابن خلدون : ص154
(2) المصدر السابق : ص44
(3) شروط النهضة : ص20(1/60)
... ويقول: " إنه وقف عند ناتج معين من منتوجات الحضارة، ونعني به ـ الدولة ـ وليس عند الحضارة نفسها... وهكذا لم نجد فيما ترك ابن خلدون، غير نظرية عن تطور الدولة، في حين أنه كان من الأجدى، لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة، حيث كنا نستطيع أن نرى فيها ثروة من نوع آخر، غير الذي أثرانا به فعلاً ".(1)
... والحقيقة أن ابن خلدون قد صاغ نظريته الحضارية لتشمل الحضارة الإنسانية جميعها باستخدامه مفهومي العصبية والدين، وذلك لتعميم تكوّن الدول والحضارات، ولكي لا يقف عند مفهوم الدولة فقط، وهذا ما أثبته الباحث من خلال نقولاته السابقة ويستطيع الباحث أن يوافق الدكتور فهمي جدعان في قوله: " إن ابن خلدون بالذات يظل أستاذ مالك بن نبِي وملهمه الأكبر" (2) فإن مالك قد صاغ ألفاظ ابن خلدون، لتواكب العصر الحديث في مفهومه الحضاري .
المطلب الثالث
مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب
__________
(1) شروط النهضة : ص62
(2) أسس التقدم الفكري عند مفكري الإسلام : ص416(1/61)
... اتجه مالك إلى نقد سيد قطب، وذلك عندما أعلن الأخير أن له كتاباً تحت الطبع بعنوان:" نحو مجتمع إسلامي متحضر" ثم عاد في الإعلان التالي فحذف كلمة متحضر مكتفياً بان يكون عنوان البحث ـ كما هو موضوعه ـ " نحو مجتمع إسلامي" (1) فهذا التغيير في اسم الكتاب أثار مالك، وكعادته في الإسراف في التحليل النفسي، فقد وجه نقداً لاذعاً لسيد قطب قال فيه:" وعندما يتعلق الأمر بموقف مثقف، يريد دراسة مشكلات العالم الإسلامي دراسة موضوعية، فإن عقدة نفسية تعقد مجهوده، وتسيطر فكرته بحيث تموه طبيعة هذه المشكلات، ويدخل في الدراسة بعض التحريف اللاشعوري... لقد أراد أحد هؤلاء المفكرين ـ سيد قطب ـ أن يضع خطة مؤلّف اختار له بحق هذا العنوان" نحو مجتمع إسلامي متمدن"، ولكنه فكر فعّدل العنوان إلى " نحو مجتمع إسلامي" فلقد استبعد المفكر المحترم إذن مشكلة العالم الإسلامي الحاسمة من بحثه، حين اعتقد وحملنا على الاعتقاد، بان المجتمع الإسلامي هو على وجه التحديد" متمدن"، وهكذا نراه وقد انجرّ مرغماً تحت تأثير " حالة إخلاص إلى موقف من المدح العقيم". (2)
... وانتبه سيد قطب لذلك، فردّ على مالك بقوله:" ولفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري ففسّره على أنه ناشئ من عملية دفاع نفسية داخلية عن الإسلام... وأنا اعذر هذا الكاتب، لقد كنت مثله من قبل، كنت أفكّر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن، عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع لأول مرّة! وكانت المشكلة عندي ـ كما هي عنده اليوم ـ هي مشكلة " تعريف الحضارة "!.(3)
__________
(1) انظر : معالم في الطريق : ص106 .
(2) فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج : مالك بن نبي ، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط دار الفكر، ص246 .
(3) معالم في الطريق : ص107 .(1/62)
... ويقول سيد عن نفسه آنذاك، إنه لم يكن قد تخلّص بعد من ضغط الرواسب الثقافية في تكوينه العقلي والنفسي، وهي رواسب آتية من مصادر أجنبية، غريبة عن حسّه الإسلامي، وعلى الرغم من اتجاهه الإسلامي الواضح في ذلك الحين، إلا أن هذه الرواسب كانت تغبش تصوره وتطمسه! كان تصور الحضارة ـ كما هو الفكر الأوروبي ـ يخايل له ويغبش تصوره، ويحرمه الرؤية الصحيحة الواضحة، ثم انجلت الصورة عنده، فالمجتمع ... المسلم هوالمجتمع المتحضر فكلمة المتحضر إذن هي لغو، لا يضيف شيئاً جديداً فالاختلاف إذن على تعريف الحضارة.(1)
... فالحضارة عند سيد قطب حين تكون الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده ـ متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية ـ تكون هذه الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً كاملاً وحقيقياً من العبودية للبشر، وتكون هذه هي الحضارة الإنسانية (2).
... ويرى الباحث أن هناك فرقاً بين الحضارة والمدنية ، فالحضارة تتعلق بالمفاهيم عن الحياة ، أي عن الكون والإنسان والحياة، فهي تتعلق بوجهة نظر في الحياة لها تعلق بالمبدأ الفكري الذي تحمله أمة من الأمم ، وتعمل على إعطاء حلول لمشاكل الإنسان الحياتية والآخروية، وذلك بتحقيق الاطمئنان للإنسانية المعذبة ، ولذلك يرى سيد أن ذلك لا يكون إلا بالإسلام لاغير، ولذلك فهو لا يرى الحضارة إلا في الإسلام، وأما المدنية فهي تتعلق بعالم الماديات من الصناعات والتقنيات ونحوها من الأشكال المادية.
__________
(1) انظر : معالم في الطريق : ص107 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص107 ، 108 .(1/63)
... وبناءً على ذلك فالمجتمع المتحضر هو المجتمع الذي تكون فيه العبودية لله وحده فيستمد منه معتقداته وتصوراته وشعائره، ونظامه الاجتماعي وتشريعاته، والمجتمع المتمدن هو الذي يهتم بالأشكال المادية فقط، وعلى ذلك فالمجتمع المتحضر هو متمدن بالضرورة وكل شكل مادي فيه منبثق من مفاهيمه عن الأشياء، ليحقق الطمأنينة للإنسانية، ولكن المجتمع المتمدن تكون فيه أشكال مدنية كثيرة تسعى لتحقيق شهوات الإنسان التي لا تحصى بغض النظر عن المفهوم الإنساني الذي يسعى لتحقيق كرامة الإنسان.
... ويرى الباحث أن مالك في نقده لسيد كان يقصد بالحضارة المدنية، بدليل قول مالك عن سيد: " حين اعتقد وحملنا على الاعتقاد بأن المجتمع الإسلامي، هو على وجه التحديد متمدن" (1)، مع أن سيد ذكر أنه كان يريد أن يكتب اسم الكتاب السابق" نحو مجتمع إسلامي متحضر" وليس كما ذكر الاسم مالك، فالملاحظ أن مالك قام بتغيير الألفاظ لأن هناك فرق كبير بين اللفظين، وعلى ذلك فكل ما بناه على هذا الأساس في نقده لسيد مردود عليه فالتمدن يتعلق بالأشكال المادية، وأما الحضارة فهي التي تعمل على تكريم الإنسان وإسعاده، قال تعالى:)وَلَقَد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(2) وتخاطب في الإنسان نزعتي الروح والجسد مجتمعتين دون طغيان إحداهما على الأخرى، مما يحقق الطمأنينة للنفس البشرية عن طريق تحقيق القيم الأربعة: الإنسانية والخلقية، والروحية، والمادية، في تناسق وتكامل فيما بينها، دون طغيان لقيمة على أخرى.
__________
(1) فكرة الافريقية الآسيوية : ص246 .
(2) سورة الإسراء : آية : 70 .(1/64)
ولقد ذكر القرآن عن أمم كان لها مدنية عظمى، ولكنها لم تكن تملك حضارة تستمد وجودها من الله، فكانت النتيجة إهلاكها، ومن ذلك مملكة سبأ حيث قال الله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) (1)
... ويوضح القرآن الكريم أن تتبع المنحى المادي فقط وهي المدنية دون النظر إلى البعد الروحي الصحيح، تجعل حياة الأمم التي تنهج هذا النهج في شقاء دائم قال الله تعالي:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ) (2) ولم يتحقق المفهوم القيمي إلا في الإسلام، ولم يتوفر في أي وجود لما يسمى " بحضارات الغرب " بل توفر وتحقق فقط في الحضارة الإسلامية، وعليه فإن رأي سيد قطب كان الأرجح بل هوالصواب.
__________
(1) سورة سبأ : آية : 15 ـ 17 .
(2) سورة طه : آية : 124ـ 128 .(1/65)
... وأيضاً مالك كان يتصور أن سيد قطب" كان يبحث في المجتمع المسلم الراهن، الذي هو فعلاً يعاني من أزمة غياب التحضر والتمدن معاً، في حين أن سيد قطب كان يبحث في المجتمع الإسلامي الأنموذج أو المثال، وما دام المثال أو الأنموذج الاجتماعي الإسلامي ـ في منطلقاته وأهدافه ونظمه وعلاقاته وحركته ـ يقوم على العقيدة التوحيدية، والقيم الربانية ونظرية النظم المستمدة من المنهج والشريعة الإسلاميين، فإن إسقاط كلمة متحضر هو إسقاط لصفة لا يحتاج إليها الموصوف، لأن المجتمع الإسلامي ـ المثال وليس الماثل ـ هو مجتمع متحضر بالضرورة " (1).
... ويرى الباحث أيضاً أن مالك قد أسرف كثيراً في استخدام المعادلات الرياضية والفلسفية والفكرية، في الإطلاق على مدنيات العالم بأنها حضارات، لمجرد وجود الأشكال المادية فيتكلم عن الاتحاد السوفيتي الذي كان في وقته يمثل قوة عظمى، بأنه شكلاً لحضارة بقوله: " فإن الأفكار الماركسية قد استخدمت لنموها واكتمالها، كل البنية التحتية النفسانية والمفاهمية المسيحية للإنسان الذي حوّل: إنجيل يسوع المسيح إلى إنجيل لماركس".(2)
... وقد حاول مالك إقحام الفكرة الدينية في تشكيل ما يسمى اليوم بالحضارات الغربية بغض النظر عن كونها صحيحة أم خاطئة، أم هي فلسفات أرضية، ليحقق بذلك نظريته في الحضارة، والدليل على ذلك قوله: " ولقد ولدت المجتمعات ، التي لم تنفك تسلط حتى هذا الحين، انعكاسات حضاراتها على الخارطة الجغرافية، واعني بها : الهندوسية، والبوذية والموسوية، والإسلامية، من هذه الانطلاقة الروحية التي أقامت هياكل " براهما " " ويهوه " ومعابد البوذية والكنائس... والمساجد الإسلامية، فكل هذه الحضارات ـ المعاصرة لنا ـ قد شكلت المتآلف الأصلي، للإنسان، والتراب، والزمن، في مهد الفكرة الدينية " (3).
__________
(1) التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي : ص274 .
(2) آفاق جزائرية : ص67 .
(3) المصدر السابق : ص66 .(1/66)
... ويرى الباحث أن مالك بن نبي أراد أن يعمّم فكرته القائلة بتأثير الجانب الروحي على بناء الحضارات ، فوقع في خطأ كبير، حيث سوّى بين الدين الحق وباقي الأديان المحرفة من يهودية ونصرانية، بل وأضاف لها الأفكار الجاهلية الكافرة من بوذية وبراهمية وهندوسية ، فكيف يسوي بينها وبين الإسلام الذي جاء من عند الله عزّ وجل.
... وهل تأثير الفكر الديني في الحضارات يتم من خلال إنشاء المعابد والهياكل، فالعالم الإسلامي اليوم فيه مساجد كثيرة فهل حقق المفهوم الحضاري ، بالطبع لا، لأنه يشمل الجانب العملي أيضاً المنبثق عن الجانب الإسلامي، على أساس أن الحضارة فقط هي الإسلام.
المطلب الثالث
مفهوم الحضارة بين ابن نبي وأبى الأعلى المودودي
مفهوم الحضارة عند أبى الأعلى المودودي:
... ينتقد أبو الأعلى المودودي الحضارة الغربية، بقوله: إنها حضارة غير إنسانية، وغير دينية" فالحضارة الغربية لا دينية بحته... مادية تماماً، لا إمكان فيها لمقصد أو غاية أجل وأسمى من المقاصد الحيوانية" (1)فالحضارة عنده هي التي تخضع" لإله في السماء عليم قدير وفيها وزن للنبوة أو الوحي ، وفيها تصور لحياة أخرى هي الموت، وفيها خوف من المحاسبة على أعمال الدنيا، وفيها وجود لمسئولية ملقاة على الإنسان، وفيها مقصد وغاية أجلّ وأسمى من المقاصد الحيوانية" (2) " حضارة إنسانية أساسها الدين " (3) يفهم من ذلك أن الحضارة عنده هي الإسلام.
الدورة الحضارية عند أبى الأعلى المودودي:
__________
(1) نحن والحضارة الغربية : أبو الأعلى المودودي ، ط1987، دار السعودية للنشر والتوزيع ،ص23 .
(2) المصدر السابق : ص23 .
(3) المصدر السابق : ص95 .
(4) المصدر السابق : ص77 .
(5) سورة الأحزاب ، آية : 62(1/67)
... إنه يقول بها لكنه لم يعتمد في تحليلها على معادلات فلسفية، أو من خلال التحليل النفسي، بل استنبطها من خلال القرآن الكريم، حيث يقول: " لا تزال أحداث هذا العالم تجري تتحرك فيما يشبه حركة دورية، فالولادة والموت والشيخوخة، والقوة والضعف، والربيع والخريف، والنضارة والذبول، كل أولئك وجوه مختلفة لتلك الحركة الدورية... سنة الله فيما خلق، وهذه السنة كما هي جارية في الموجودات، هي جارية أيضاً في الإنسان، سواء في حالته الفردية، أو في حالته الجماعية القومية،فلا يزال العز والذل، والعسر واليسر، والصعود والنزول، وما إلى ذلك من الحالات، تنتاب الأفراد والأمم المختلفة،وفق تلك الحركة الدورية"(1) قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(2).
... وقد بيّن المودودي أسباب وبواعث الهلاك والدمار، فهوالفساد الفردي، والشر والفساد الاجتماعي القومي، وإذا حدثت المفاسد الاعتقادية والعملية، تجاوز الأفراد إلى الأمة بأسرها وتخدر شعور الأمة الديني والأخلاقي، فحينها تنصرف العناية الإلهية عن هذه الأمة، وتأخذ بالهبوط (3) ويذكر أمثلة واضحة للدلالة على قوله من خلال القرآن الكريم منها :
__________
(3) نحن والحضارة الغربية ، ص234 ،ص 235 .(1/68)
قوله تعالى: ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) (1) وقال تعالى : ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (2) وقوله تعالى : (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (3) وقوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (4) وقوله تعالى عن بني إسرائيل: ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(5) وقوله تعالى:( كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) (6) وبهذه الآيات يدلل على ما يقول.
__________
(1) سورة نوح ، آية : 26 ،ص 27 .
(2) سورة هود ، آية : ص59 .
(3) سورة العنكبوت : آية : 29 .
(4) سورة هود : آية : 85 .
(5) سورة المائدة ، آية : 62 .
(7) سورة المائدة : آية : 79 .
(8) نحن والحضارة العربية ، ص217 .
(9) سورة الأنبياء ، آية : 73 .(1/69)
... وهو يرى أن بداية الفساد تأتي من الزعماء " إن القوة لأمة ما لا تكون في عامتها بل في خاصتها من الزعماء والرؤساء، فهؤلاء الذين يتوقف عليهم صلاح الأمة وفسادها، يؤدي رشدهم إلى رشد الأمة بكاملها، ويؤدي ضلالهم إلى ضلال الأمة جمعاء" (1) (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَاعَابِدِينَ )(2) ومتى كانت الأمة في إدبارها، ابتدأ الفساد في خاصتها الذين يتأثر العامة والجمهور بضلالهم وفساد أخلاقهم، فيقعون جميعاً في الضلال، وسيئات الأعمال، قال تعالى: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) (3) تدعي الخاصة في المصطلح القرآني " المترفين" ـ ... وهم الأمراء ـ الذين يكونون في نعمة واسعة من عند الله، ويشهد الله عزّ وجل بأن هؤلاء المترفين، هم الذين يرتكبون أولاً الفسق والظلم والعدوان في البلاد، ثم تبتلى كلها بالسيئات، وأي شك في هذه الشهادة الإلهية، انظروا إلى أمتنا نحن فقد نتج الفساد عن مترفيها لا غير"(4)
... مما سبق يستطيع الباحث أن يتعرف على الفرق بين رأي أبى الأعلى المودودي ومالك بن نبي في مفهوم الحضارة، فالمودودي يرى أن الدورة الحضارية تتم من خلال القرب من المنهج الإلهي أوالبعد عنه، فالحضارة تتم بالقرب من المنهج الإلهي، حيث يقل الظلم والفساد والكبرياء، فتكون الحضارة في أوجها، وإذا ابتعدت عن المنهج سقطت.
__________
(3) الإسراء : آية : 73 .
(4) نحن والحضارة الغربية : ص218 .
(3) شروط النهضة : 13 .
(4) المصدر السابق : ص67 .
(5) نحن والحضارة الغربية : ص23 .(1/70)
... بينما ابن نبي يرى أنه لابد من دخول الدورة الحضارية من خلال ثلاث مسارات الروح،والعقل، والغريزة، ثم تعود من جديد ففي ذلك نوع من الحتمية.
... ونرى المودودي يعتمد في تحليلاته للحضارة ودورتها على منهج واضح أصيل، ألا وهو منهج القرآن الكريم، بينما مالك اعتمد على علم النفس في تحليلاته للدورة الحضارية فقد قال : خصصت في هذه الطبعة، فصل أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة، سالكاً هذه المرة مسلك التحليل النفساني، الذي يبين بوضوح أكبر جانب الظاهرة في هذا المركب" (1) ولقد اعتمد على العلماء المشكوك في فكرهم مثل فرويد مثلاً، فقد قال في موضوع الفكرة الدينية " غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إخضاع غرائزه ـ الإنسان ـ إلى عملية شرطية، تمثل ما يصطلح عليه في علم النفس الفرويدي بالكبت "(2).
... والمودودي يرى أن الذي يؤثر في الدورة الحضارية، هو العقيدة الإسلامية قرباً أو بعداً، وذلك واضح من مفهوم الحضارة عنده بقوله أنها: " تخضع لإله في السماء عليم قدير"(3) واستدل على ذلك بالقرآن الكريم.
... بينما مالك قد استفاد من أفكار الغربيين وتطبيقاتهم على المسيحية، في مسألة التأثير الديني، ثم قام بتعميمها كفكرة دينية على ما سواها من الأديان ومنها الدين الحق " الإسلام " ولم يرتكز على العقيدة الإسلامية فيقول: " اعتمدت على " آراء لكسر لنج "التي استخلصها من دورة الفكرة المسيحية في تركيب الحضارة " (4) فمالك قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلاً عميقاً، واعتمد في كثير من كتاباته وتحليلاته على كتابات وأعمال بعض الفلاسفة الغربيين، واعتنى بالتحليلات الفلسفية المعاصرة. (5)
__________
(4) شروط النهضة : ص12 .
(5) انظر : أسس التقدم الفكري عند مفكري الإسلام : ص416 ،ص 427 .(1/71)
... ويرى الباحث أن مالكاً كان مقلداً للمفكرين الأوربيين الذين نقدوا حضارتهم من خلال نقدهم للديانة المسيحية ، التي وقفت حجر عثرة أمام العقل وإبداعاته العلمية، وأمام العلم ومكتشفاته، ولذا ابتعد مالك عن الصواب، وذلك لأن المسيحية ليس لها أي دور في حضارة الغرب اليوم، إذا أراد ابن نبي أن يسميها حضارة ، مع أن الصواب أن يطلق عليها مدنية وقد أخطأ عندما أخذ يحلِّل مفهوم الحضار الإسلامية معتمداً على أفكار فلاسفة الغرب كفرويد، ونيتشه، الذين حاربوا دينهم الذي يحارب العلم ، والأصل أن يعتمد علي القرآن الكربم في تحليلاته لمفهوم الحضارة، لأن ما يقال عن الدين الباطل لا يمكن أن يقال عن الدين الحق فالإسلام حثََّ على العلم والتعلم من أول سورة أُنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )(1) وقال الله تعالى ( ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )(2)، وقال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(3)وروى الإمام الترمذي في سننه بسنده المتصل عن أبى الدرداء قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ
__________
(1) سورة العلق : آية: 1ـ 5 .
(2) سورة القلم : آية : 1 ـ 2 .
(3) سورة المجادلة : آية : 11 .(1/72)
الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ َخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّهِ أَوْ بِحَظٍّ وَافِرٍ (1)
المطلب الرابع
مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسعيد حوَّى
أولاً: تعريف الحضارة:
... يعرف سعيد حوّى الحضارة بقوله: هي " مجموع ثقافة ومدنية أمة من الأمم" (2)ومن هذا التعريف يخلص الباحث إلى أنه يرى أن الحضارة تتميز بجانبين:
1ـ الجانب المادي: وهو الذي يتعلق بالأشياء المادية المحسوسة، من مخترعات ووسائل مادية، من سيارات وطائرات وعمارات إلخ، وهي المدنية .
2ـ الجانب الثقافي: وهو ما يتعلق بالعقائد والأفكار والتصورات والسلوك والآداب.
__________
(1) سنن الترمذي : كتاب العلم ،حديث رقم 2606 ، انظر سنن أبى داود :كتاب العلم ،حديث رقم 3157 .
(2) كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر : سعيدحوّى ، دار عمّار، عمّان ط1988م ، ص11 .(1/73)
... وعلى هذا الأساس فكل أمة من الأمم، يمكن أن تكون لها حضارة، إذ إن لكل أمة في هذه الحالة مدنية ما، أي جانب مادي، ولكل أمة ثقافة بصرف النظر عن مضمون هذه الثقافة ما إذا كان حقاً أو باطلاً، ما إذا كان مقبولاً أو غير مقبول (1) ومن خلال ذلك يخلص إلى أن هناك تقدم حضاري إذا ما اجتمع تقدم مدني وتقدم ثقافي، وهناك تخلف حضاري إذا ما اجتمع تخلف مدني وتخلف ثقافي، وإنه قد توجد أمة متقدمة مدنياً لكنها متخلفة ثقافياً، وقد توجد أمة متخلفة مدنياً لكنها متقدمة ثقافياً، ويضرب على ذلك مثال مجتمع من اللصوص، انتشرت فيه الإباحية والرذيلة والمخدرات، ولكن اجتمع له أعظم منجزات العلم، فهذا مجتمع متقدم مدني،إلا انه لا يمكن أن نقول عنه أنه متقدم ثقافي، وعلى ذلك فهو يعتبر أن هناك تقدماً حضارياً يتحقق عندما تجتمع لأمة ما تقدم مدني وتقدم ثقافي معاً، وأن هناك تخلفاً حضارياً عندما تجتمع لأمة ما تخلف مدني، وتخلف ثقافي(2).
... وهولا يرى التقدم الحضاري إلا بالإسلام " لأن الإسلام يفرض قوانين التقدم المدني فرضاً، وفي الوقت نفسه يفرض قوانين التقدم الثقافي، ويوجد الشرارة التي تتفاعل بها هذه المعاني، كما يوجد الأساس الذي تنبثق عنه هذه الأمور كلها، وهو في الوقت نفسه ضابط وموجه لهذه القضايا بمجموعها، ثقافة ومدنية، وهو في كل هذا حق خالص لا يستطيع علم أن يرفضه، ولا عقل أن ينقضه".(3)
شروط التقدم المدني والحضاري :
يرى سعيد حوّى أن مكونات التقدم المدني والحضاري هي:
1ـ التقدم المدني : أرض، وقت ،أهل اختصاص، نظام مناسب ، ثقافة، إذا توفرت هذه الشروط، ستتقدم الأمة مدنياً، سواء كانت شيوعية أو رأسمالية، أو كانت محافظة أو غير ذلك.
2ـ التقدم الحضاري : أرض، وقت، أهل اختصاص، نظام مناسب، ثقافة إسلامية.
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص11 .
(2) انظر: المصدر السابق :ص12
(3) المصدر السابق : ص18(1/74)
... فهو لا يرى أي وجود للحضارة، إلا في الإسلام، أمّا ما نراه في الغرب الرأسمالي أو الشيوعي إنما هو مدنية، لأنها تحمل مفهوم ثقافي يعمل على تدمير إنسانية الإنسان فالإسلام وحده الذي ينظر إلى المفهوم الإنساني (1) " فإنه لا تنمو إنسانية الإنسان إلا بالإسلام، فالثقافة التي تنمي إنسانية الإنسان وتضعه في محله الصحيح في هذا الكون ، وفي الوقت نفسه توجهه نحو جوانب التقدم البشري جميعها، نحو جوانب الحضارة كلها، هذه ثقافة وحيدة، يمكن أن تكون متقدمة، وما سوى ذلك فلا يوجد في العالم ثقافة متقدمة" (2)
قانون الدورة الحضارية:
... إن كل المفكرين يؤمنون بقانون الدورة الحضارية، ولكن تختلف آراؤهم حول المؤثر في الدورة الحضارية، فسعيد حوى يرى أن العامل المؤثر هو النظام المناسب، فيقول: " إن كل نظام في العالم، يمكن أن يتقدم مدنياً ولكن لمرحلة، ثم هو يحمل في طياته عوامل تدميره، النظام النازي حمل في طياته عوامل تدميره، والنظام الياباني، والنظام الشيوعي، والنظام الرأسمالي، يحوي في طياته عوامل تدميره... لماذا ؟ لأنه يوجد نظام مستقر مؤقت وليس دائم، أما عندما يكون النظام الإسلامي القائم على الشورى، القائم على العدل، القائم على أخذ المال من حلِِّه ووضعه في محله، فعندئذ يوجد نظام مستقر مؤقت وليس دائم وبالتالي فعندما يوجد مثل هذا النظام، فعندئذ توجد حضارة متقدمة ومتطورة، لا تحوي في طياتها إمكانيات دمارها، بل تحوي في طياتها إمكانية استمرارها وإمكانيات تطورها " (3).
__________
(1) انظر: كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر : ص15 ، 16 .
(2) المصدر السابق : ص23 ،24 .
(3) المصدر السابق : ص21 ، 22 .(1/75)
... إذا أراد الباحث أن يقارن بين المفكرين، سعيد حوى ومالك بن نبي، سيجد ما يلي: في شروط المجتمع الحضاري، أن مالك يرى الشروط هي " أن ناتج حضارة + إنسان + تراب + وقت" (1) أما سعيد حوى فهو يرى أن الشروط هي : أرض + وقت + أهل اختصاص + نظام مناسب + ثقافة.
... وبالنظر إلى شروط المجتمع الحضاري عند كليهما، يجد الباحث أنهما متفقان على الإنسان ، والتراب ، والوقت، ولكن بالنسبة للمركب الحضاري، فقد رأى مالك أنه المركب الديني بغض النظر عن كونه ديناً صحيحاً، أم محرفاً، أم فكرة أرضية، أما سعيد حوى فقد وضع مركب حضاري جديد أطلق عليه اسم ثقافة، وهي العاملة عنده على تحقيق المدنية عند الغرب، والثقافة الإسلامية القائمة على العقيدة الإسلامية، العاملة عنده على تحقيق الحضارة الإنسانية، ومن هنا يظهر الخلاف بينهما؛ لأن مالك يرى أن كل مدنية لها علاقة بالحضارة وكل حضارة مرتبطة بمركب ديني أياً كان أصله، ولذلك يرى الباحث أن مالك كان يحاول أن يضفي المفهوم الديني على كل مدنية من أجل أن يصفها بالحضارة، وأن كل مدنية ناتجة عن حضارة.
__________
(1) شروط النهضة : ص42.(1/76)
... فإن الماركسية والرأسمالية والهندوسية والبوذية، تعتبر عنده حضارات، حيث يقول: إن لها أصلاً دينياً " فإن الحضارة لا تظهر في أمّة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء... أوعن طريق توجيه الناس إلى معبود غيبي بالمعنى العام " (1) في حين أن سعيد حوَّى لا يرى الحضارة إلا في الإسلام، لأنه هو الدين الصحيح الذي يعطي حضارة، أما الثقافات الأخرى فتعطي مدنية لا حضارة، حيث يقول: " الثقافة إذا لم تكن مناسبة للتقدم المدني، فإن التقدم المدني لا يحدث، خذوا مثالاً على ذلك : الثقافة الهندوسية إنها ليست قابلة إطلاقاً أن ينشأ معها تقدم مدني، إن الثقافة التي تحرم قتل الفار مثلاً ، مع أن الفئران إذا توالدت يمكن أن تأكل خيرات الإنسان كلها، فهذه النقطة في الثقافة الهندية، يمكن أن تدمّر حضارة الهند، وكذلك الثقافة النصرانية التي تعتبر الزواج ليس هو الأفضل... والثقافة النصرانية لو أخذت مداها لقتل كل العلماء، الذين كان لهم دور في تقدم المدنية المعاصرة"(2).
... فسعيد حوَّى يخالف في ذلك مالك بن نبي حيث يرى أن عامل الدين ليس له أثر في مدنيات الغرب المعاصرة، وأنه لو طبقت الثقافة الدينية في الغرب لما كانت هناك مدنية كما نراها اليوم، بل إن مدنية الغرب اليوم هي نتيجة الانفصام عن العامل الديني، والاعتماد على الأفكار الأرضية.
__________
(1) شروط النهضة :ص51
(2) كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر : ص16 .(1/77)
أمّا بالنسبة للدورة الحضارية، فإن مالك يرى أن سقوط الحضارات، ينبع من الانتقال من عالم الروح إلى عالم العقل إلى عالم الغريزة (1) في حين يرى سعيد حوّى أن النظام الحاكم هو الأساس في صعود الأمة إلى مرتبة حضارية مدنية صحيحة أو سقوطها، إذا كان النظام مستقراً مستمراً توجد حينئذ حضارة، وإذا كان النظام مستقراً مؤقتاً وليس دائماً، فسيكون في وقت من الأوقات دمار الحضارة (2).
الفصل الثاني
موقف مالك بن نبي من الاستعمار.
المبحث الأول: الاستعمار: تعريفه وأنواعه وأهدافه ونتائجه.
المبحث الثاني: الاستعمار والغزو فكري.
المبحث الثالث: الاستعمار والابتعاث.
المبحث الأول
الاستعمار: تعريفه وأنواعه وأهدافه ونتائجه
الاستعمار لغة:
... اشتقت الكلمة من مادة، "العمران" في شيء من التفاؤل (3)من ذلك قول ابن منظور : وأعمره المكان، واستعمره فيه ، جعله يعّمره: وفي التنزيل، قال تعالي: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (4) " أي أذن لكم في عمارتها ، واستخراج قوتكم منها وجعلكم عمّارها " (5).
الاستعمار اصطلاحاً:
هناك عدّة تعريفات للاستعمار اصطلاحاً، أهمها:
1ـ " قيام دولة بفرض حكمها، أو سيطرتها السياسية، أو الاقتصادية، خارج حدودها على شعب دولة أجنبية، وعلى غير رضا أهلها، وتستهدف السيطرة الاقتصادية استغلال الإقليم وسكانه ".(6)
__________
(1) انظر: شروط النهضة : ص66 .
(2) انظر : كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر : ص21 ، ص22 .
(3) الاستعمار والمذاهب الاستعمارية : محمد عوض ، دار المعارف بمصر ، ط3 ، 1957 ، ص36 .
(4) سورة هود : آية : 61 .
(5) لسان العرب : ابن منظور 4 /601 .
(6) القاموس السياسي : أحمد عطية الله ، دار النهضة العربية ، ط4 ،1980 ، ص 74 ، ص75.
(5) الاستعمار والمذاهب الاستعمارية : ص36 .(1/78)
2ـ " مجموعة الأعمال التي من شأنها السيطرة، أو بسط النفوذ، بواسطة دولة أو جماعة منظمة من الناس، على مساحة من الأرض، لم تكن تابعة لهم، أو على سكان تلك الأرض أو على الأرض والسكان في آن واحد ".(1)
أنواعه:
من الممكن تقسيم الاستعمار إلى ثلاثة أنواع وهي:
أولاً: الاستعمار العسكري الاستيطاني: وهو أن تقوم دولة ما باحتلال أرض دولة أخرى بالقوة، وتعمل على تهجير أبناء البلد المحتل، ومن ثم توطين أفراد منها داخل البلاد المستعمرة، والاستيلاء على أراضيها من قبل المستوطنين بقوة دولتهم الاستعمارية، كما حدث للدول العربية والإسلامية في بداية القرن العشرين وكما يحدث مع أهل فلسطين اليوم.(2)
ثانياً: الاستعمار العسكري:
... " هو قيام دولة بفرض حكمها أو سيطرتها السياسية أو الاقتصادية خارج حدودها على شعب دولة أجنبية، وعلى غير رضا أهلها، بحيث تعتمد أساساً على الاحتلال العسكري"(3) كما هو حاصل في أفغانستان والعراق.
ثالثاً: الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي: هو قيام دولة قوية بإحكام السيطرة على دولة ضعيفة فتفرض عليها سيطرتها السياسية والاقتصادية، مع إبقاء الدولة المستعمرة الضعيفة أمام العالم كأنها دولة مستقلة، أي تعترف باستقلالها وسيادتها، فلا تستخدم الاستعمار العسكري، بل تستعمر العقول والأدمغة فتجعلها تبعاً لها، وتكوين جيل من الشباب يسير في ركابهم ويحملون ثقافتهم الغريبة عن واقعهم وتراثهم الثقافي والحضاري وتجعل القرارات السياسية لهذه الدولة بيد الدولة المستعمرة، وذلك عن طريق عقد الاتفاقيات بينهما بحيث تكون مقيدة للدولة المستعمرة.(4)
__________
(2) انظر : القاموس السياسي ،ص74 .
(3) المصدر السابق ، ص74 .
(4) انظر : السياسة الاقتصادية المثلى : ط1964م ، بدون رقم ط ص7 ، انظر : عبد الوهاب الكيالي ط دار الشفق ، كفر قرع ط2 ، عام 1989م ص176 . الموسوعة السياسية : ص75.(1/79)
... يرى الباحث أن هذه التقسيمات لا تعني أن الاستعمار العسكري قد انتهى دوره، بل يعني أن ذلك النوع هو أول ما استخدم ضد الدول المستعمرة، ولا يعني أن الاستعمار لم يعد يستعمله، بل يقوم الاستعمار باستخدام كل الأنواع حسب الظروف المتاحة له، وأكبر مثال على ذلك الاحتلال الصهيوني لفلسطين عن طريق الاستعمار العسكري الاستيطاني واحتلال أمريكا الحالي، للعراق وأفغانستان عن طريق الاستعمار العسكري، إذن فليس هناك قديم وحديث في الاستعمار، بل هي ألوان وكيفيات لطرق السيطرة الاستعمارية على الدول الضعيفة.
أهدافه:
إن أهداف الاستعمار كثيرة منها:
1ـ " إذلال المسلمين بغزوهم في عقر دارهم.
2ـ إقامة إمارات استعمارية تدوم إلى الأبد ، وتتوسع حتى تقضي على المسلمين ".(1)
3ـ استغلال خيرات البلاد من الأرض الزراعية والاقتصادية.
4ـ ضرب الإسلام من الداخل، عن طريق إضعاف فاعليته، وعزله عن التأثير في حياة المسلمين وتحويله إلى دين أشبه بدين النصارى لا يأبه بحياة الناس التشريعية، والسياسية والاجتماعية، والاقتصادية، أي فصل الدين وعزله عن الدولة والحكم وحياة الناس العامة.
5ـ وقف المد الإسلامي، وحصر الإسلام داخل حدود لا يتجاوزها، حتى لا يدخل فيه أحد من الغربيين، وحقن الشعوب الأخرى بكراهية الإسلام والمسلمين.
6ـ تجزئة المسلمين أرضاً وأمة وفكراً، وتشويه صورتهم الغابرة والحالية، والحيلولة دون مستقبل مشرق للإسلام والمسلمين.(2)
7ـ تغريب المواطن في البلدان المستعمرة عن مشاكل شعبه، وإيجاد نموذج معين من المثقفين العاجزين عن فهم هذه المشاكل.
8ـ تكريس النخبة الطبقية، مع الحرص على اختيار نماذج من أبناء الطبقات الشعبية مساهمة في إخفاء الدور الحقيقي لمؤسسات الاستعمار الثقافي.
__________
(1) التبشير والاستعمار ، عمر فروخ ، مصطفى الخالدي ، ط 2 ، عام 1980م، ص115 .
(2) انظر : دراسات في الثقافة الإسلامية : صالح ذياب هندي ، ط2 ،عام 1981 م ،ص30 ،ص31 .(1/80)
9ـ تكريس تبعية نظم البلدان المستعمرة، الاقتصادية والسياسية للاستعمار.(1)
نتائجه:
1ـ إسقاط الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وذلك في عام 1924م.(2)
2ـ تقسيم الخلافة الإسلامية إلى عدة أقسام هي تركيا، ومصر، والعراق، وفلسطين وشرق الأردن، والحجاز، ونجد، واليمن، وبعد ذلك تحولت إلى دول، الدولة التركية، والدولة المصرية، والدولة العراقية الخ
3ـ تطبيق النظام الرأسمالي الغربي في الاقتصاد، والنظام الديمقراطي في الحكم والسياسة والقوانين الغربية في الإدارة والقضاء ، وبث مفاهيمه عن الحياة.
4ـ رسم سياسة تعليمية تقوم على أساسين أحدهما: فصل الدين عن الحياة، وينتج عنه طبيعياً فصل الدين عن الدولة، وذلك يحتم أن يقوم أبناء المسلمين بمحاربة قيام دولة إسلامية والثاني جعل شخصية المستعمر المصدر الرئيسي لما تحشى به العقول الناشئة من معارف ومعلومات.
5ـ سنَّ الاستعمار قوانين تحول دون قيام أحزاب أو حركات سياسية إسلامية، خوفاً من عودة دولة الخلافة من جديد .
6ـ صرف المسلمين عن التفكير بالدولة الإسلامية، وإشغالهم بأعمال تافهة يتلهون بها، فقد شجع المؤتمرات لتكون ملهية للأمة عن العمل الحقيقي الجاد للدعوة الإسلامية، ولاستئناف الحياة الإسلامية.(3) 7ـ إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يحوَّل إلى دولة (إسرائيل ) لتكون رأس حربة في قلب العالم الإسلامي، وجسراً لتحقيق المصالح الاستعمارية.
المبحث الثاني
الاستعمار والغزو الفكري
الغزو الفكري :
__________
(1) انظر : الموسوعة السياسية : ص176 .
(2) انظر : أساليب الغزو الفكري : محمد جريشه ، محمد شريف الزيبق ، دار الاعتصام ط2 ، عام 1978 م ،ص40 .
(3) انظر : الدولة الإسلامية : تقي الدين النبهاني ، ط عام 1952 ، القدس ، بدون رقم ط ص174 ،ص175 ،ص176،ص 177 ،ص178.(1/81)
هو" تغيير أحوال المسلمين السياسية والثقافية، والاجتماعية والاقتصادية، عن طريق استعمار العقول والقلوب، وتبديل الأفكار والقيم والعقائد ، فيصبح المغزو فكرياً خاضعاً بشكل تام لقادة الغزو وجنوده" (1) أما بالنسبة لعلاقة الاستعمار بالغزو الفكري، فإن كل الكتابات التي كتبت فيه، تركز على احتلال الأراضي، وتقسيم البلاد، وعلى دراسة الأساليب الظاهرة مثل التبشير، والاستشراق، والتغريب.
ولم تحاول أكثر الكتابات أن تدرس كيفية استخدام الاستعمار للوسائل الفكرية الخفية في الغزو للعقول الإسلامية، يقول مالك: " الحق أننا لم ندرس الاستعمار دراسة علمية، كما درسنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر، فإن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية، إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة وأدرك فيها موطن الضعف فسخّرنا لما يريد ، كصواريخ موجهة ، يصيب بها من يشاء فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال، لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها، وأقلاماً يكتب بها إنه يسخِّرنا وأقلامنا لإغراضه، فسخََّرنا له بعلمه وجهلنا ".(2)
ومن هذا المنطلق أخذ مالك يدرس الاستعمار باستخدام أساليب الاستعمار نفسها من خلال استخدام نظريات علم النفس، والجبر والتاريخ، وغير ذلك من العلوم.
الاستعمار والمعامل الاستعماري :
لقد أخذ يدرس الاستعمار كواقع موجود أمامه، وقام بتقسيمه إلى قسمين، أطلق على الأول اسم المعامل الاستعماري، وأطلق على الثاني اسم معامل القابلية للاستعمار.
أولاً : المعامل الاستعماري :
__________
(1) واقعنا المعاصر : صالح الرقب : مطبعة الرنتيسي ، ط عام 2002م ، ص29 .
(2) شروط النهضة : ص155 .(1/82)
يقصد مالك بمصطلح المعامل" ما يفرضه الاستعمار على حياة الفرد من عامل سلبي يسميه بالمصطلح الرياضي اسم المعامل"(1) والمعامل الاستعماري يقصد به وجود الاستعمار خارج النفس البشرية، كواقع ظاهر للعيان، يعمل على تحطيم الفرد المستعمر بوسائل ظاهرة وذلك بوضع العراقيل أمام المستعمر فهو" تهديم في جوهر الفرد المستعمر ومحو عبقريته بالانتقاص من قيمته، وتحطيم قواه الكامنة فيه، وذلك عن طريق الحط من قيمته بطرق فنيه كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد، بقصد التنقيص من قيمته الإيجابية " (2) " حيث يحرّف منهجياً معادلة الفرد المستعمر، باستخدام أنواع من العراقيل متعددة، يصادفها الفرد في طريقه ، لتضييق نشاط الحياة في البلاد المستعمرة حتى تكون مصبوبة في قالب ضيق يهيئه الاستعمار في كل جزئياته، خوفاً من أن تتيح الحياة المطلقة لمواهب الإنسان أن تأخذ مجراها الطبيعي إلى النبوغ والعبقرية، فهذا من الناحية الجدلية، خارجي بكيفية ما، لأنه يرينا كيف يؤثر الاستعمار على الفرد من الخارج ليخلق(3) منه الكائن المغلوب على أمره".(4)
" وهذا المعامل يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها، يؤثر فيه وهو طفل، إذ لا يمده المجتمع بما يقوي جسده وينمي فكره، أو يهيء له مدرسة أو توجيهاً، ولسوف يؤول صاغراً إلى ماسح أحذية، أو سائل ، يتخلى عن كل عزة وكرامة بإراقة ماء وجهه، أما إذا دخل مدرسة وتعلم ثم تخرج من الجامعة، كم يلاقي ذلك الفتى المسلم! في سبيل الحصول على وظيفة حقيرة إذا بلغ مبلغ الرجال، فإن كل الأعمال التي تقوم عليها حياته الاجتماعية لا تنالها يداه إلا بشق الأنفس"(5).
ثانياً : معامل القابلية للاستعمار:
__________
(1) المصدر السابق : ص146 .
(2) شروط النهضة : ص14 .
(3) الصواب أن يقول يجد لأن الخلق يختص بالله عز وجل
(4) شروط النهضة :ص152 .
(5) المصدر السابق : ص147 بتصرف بسيط .(1/83)
والمقصود به الهزيمة النفسية التي يصاب بها المغزو؛ ليصبح قابلاً للاستعمار وتبعاته ومدافعاً عنه وهو معامل داخلي نفسي، وهو المفهوم الأشهر لمالك، فهو معامل يجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمر عنه، ويقبل بالحدود التي رسمها المستعمر لشخصيته ويقبل بالمصطلحات التي تقلل من شأنه، ويأخذ في ترديدها حتى تصبح لها أثراً نفسياً على ذاتية المستعمر، وليس ذلك فحسب بل يدافع عنها، ويكافح ضد إزالتها، فهذا المعامل "ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته، فنرى هذا الرجل يقبل اسم " الأهلي " وهذا الاسم أطلقه الاستعمار علي الجزائريين، أو أي اسم يطلقه عليه الاستعمار يوم استأهل لكل ما ترمي إليه المقاصد الاستعمارية، من تقليل قيمته من كل ناحية حتى من ناحية اسمه بحيث نأخذ أنفسنا بالمقياس الذي تقيسنا به " إدارة الشئون الاستعمارية".(1)
إن مالك يركز على هذا المعامل كثيراً، ويعتبره هو الانتكاسة النفسية للذات المغلوبة أمام الذات الغالبة، حتى تشعر بأن كل ما يقوله ويصفه ويضعه هو الصواب، حتى ولو وصفه المستعمر بأي شيء، فيعتبر في عرف المستعمر صحيحاً يدافع عنه، ولذلك يرى مالك أنه لكي نتخلص من الاستعمار الجاثم على قلوبنا علينا أن نتخلص أولاً من القابلية له فيقول: " إن القضية عندنا منوطة أولاً، بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا، من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا ، وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين" أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم "(2).
__________
(1) المصدر السابق : 146 ،ص 147.
(2) شروط النهضة: ص154 ،ص 155 .(1/84)
وقبول الاسم الذي يطلقه المستعمر لا يبقي في الشعور، بل ينغرس في أعماق اللاشعور عند الفرد المسلم، ولذلك فهو يرى" أنه لكي تتحرر من أثر هو الاستعمار يجب أن تتحرر أولاً من سببه وهو القابلية للاستعمار" (1) ولكن مالك لا يري بحتمية القابلية للاستعمار عند وجود كل حالة استعمارية، فقد يوجد استعمار ولا توجد قابلية له " فروما لم تستعمر اليونان، وإنجلترا التي استعمرت أربعمائة مليون من الهنود إذ كانت لديهم القابلية، لم تستعمر أيرلندا الخاضعة دون ما استسلام، وفي مقابل ذلك نجد اليمن التي لم تفقد استقلالها لحظة لم تفد من ذلك الاستقلال أدنى فائدة، لأنها قابلة للاستعمار" (2) إذن مالك يري أن المسألة الاستعمارية هي مسألةً نفسية بالأساس، ولذلك هو يطلب من الأفراد والدول العمل على تصفية الاستعمار من النفس الإنسانية، فيقول " فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض، ويجب أن تتقدمها "(3).
ثالثاً : الاستعمار وشبكة العلاقات الاجتماعية :
إن مالك يحدد طبيعة المجتمع من خلال ثلاثة عوالم، لابد من تواجدها وهي " عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء "(4) وبدون هذه الأسس الثلاثة، لا يمكن يتم بناء مجتمع فيقول: " لكن هذه العوالم الثلاثة لا تعمل متفرقة، بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقاً لنماذج أيدلوجية من عالم الأفكار، يتم تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء من أجل غاية يحددها عالم الأشخاص، ولابد من عمل منظم بين هذه العوالم الثلاثة، ولكي تؤدي إلى عمل تاريخي، فلابد من عالم رابع هو مجموع العلاقات الاجتماعية الضرورية أو ما يطلق عليه شبكة العلاقات الاجتماعية ".(5)
__________
(1) وجهة العالم الإسلامي : ص87 .
(2) المصدر السابق :ص85 .
(3) المصدر السابق ،:ص44 .
(4) ميلاد مجتمع : ص23 .
(5) ميلد مجتمع : ص24 .(1/85)
وعلى ذلك فإن الاستعمار ليس غبياً حيث يعرف طبيعة مكونات المجتمع، ودور شبكة العلاقات فيه، إنه يعرف أكبر مؤثر في تحديد طبيعة المجتمع، والأساس المحرك له ألا وهو الفكر، والاستعمار يسعى لتغيير المجتمع وفقاً لما يراه، فإذا استطاع أن يغير الفرد ليجعل القابلية للاستعمار مغروسة فيه، فهو أيضاً يسعى لتدمير المجتمع، والعمل لتسهيل قيادته، فهو يعلم" أن شبكة العلاقات الاجتماعية هي التي تؤمن بقاء المجتمع، وتحفظ له شخصيته، وإنها هي التي تنظم طاقته الحيوية ، لتتيح له أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ، وبدهي أننا لا نستطيع أن نفترض أن الاستعمار يجهل هذه العوامل في بلد مستعمر فهو يطبق في سياسته إزاء البلد المستعمر القاعدة " فرّق تسد ".(1)
ولكن مالك يرى أن المستعمر نفسه أصبح لا يرى إلا ما يريد أن يريه إيّاه الاستعمار " فنحن ندرك جيداً النشاط الاستعماري، عندما يكون مرئياً واضحاً ، كأنه لعبة أطفال ولكنا لا ندرك مجال هذا النشاط ولا وسائله منذ اللحظة التي يصبح فيها دقيقاً كلعبة الشيطان" (2) فهو يرى أننا ندرك الوسائل القاتلة ـ كالدبابة ـ والطائرة والقنابل والرصاص ـ ولكنا لا ندرك الوسائل المستورة، من أساليب الاستعمار فمنها مثلاً " أن يغتال رجلاً واحداً حتى يبث الفوضى والاضطراب، أو أن يشتري ضمير أحد الزعماء السياسيين، الذين تتجسد فيهم في فترة معينة ، طاقة البلاد الحيوية وفكرة نضالها ".(3)
__________
(1) المصدر السابق : ص76 ،ص 77 .
(2) المصدر السابق : ص77.
(3) المصدر السابق : بتصرف بسيط ، ص77 .(1/86)
ويقوم مالك بتصوير الطرق الخفية للاستعمار، ومنها استخدام الاستعمار القوارض لشبكة العلاقات الاجتماعية، وذلك من خلال استخدام عالم الأشخاص، بحيث يسيِّر سلوكهم من خلال عالم الأفكار فيقول: " يستخدم الاستعمار نوعاً من القوارض المجازة، الذين ربُّوا بعناية في بؤره الثقافية لمهاجمة شبكة العلاقات الثقافية والأخلاقية في بلد معين، وهم أنفسهم الذين يدّعون أنهم يمثلون ثقافته " (1) ويضرب أمثلة من الواقع على ذلك فيقول:" قد يقوم رجل بمنح مثقف ـ ذي أخلاق ـ منحة إقامة شهر في أي مكان ـ في فندق معين ـ وعندما يريد أن يخرج هذا المثقف فيوقع على قائمة حسابه، فيلاحظ أن جانباً من النفقات قد حمل على بند " بار " فهذه الكلمة هي حبة الرمل الصغيرة المخصصة لتحطيم علاقة ما ".(2)
" وإذا أراد أن يعطّل بعض المشروعات في إدارة معينة، هنالك يكفيه أن يخلق(3)في أجهزتها فراغاً مؤقتاً، موظف صغير يتغيب في اليوم نفسه، وهنا يتوقف التنفيذ" (4) إنه يري أن كل العوامل غير الفعّالة في المجتمع، أغلبها من الاستعمار مثل الروتين، والتغيب أوعدم تقبل النقد، كلها تعمل على تدمير شبكة العلاقات الاجتماعية، مما يؤدي في النهاية إلى سقوط المجتمع، تحت رحمة الاستعمار في أغلب تصرفاته وأفكاره.
رابعاً : الاستعمار والأفكار :
يرى مالك أن الاستعمار يركز على عالم الأفكار، لأن هذا العالم هو الذي يعتمد عليه وجود الكيان الحضاري كله، وهو يقسّم الأفكار إلى قسمين:
1ـ التجسيد:
__________
(1) المصدر السابق : ص78 .
(2) ميلاد مجتمع : ص80 .
(3) الصواب أن يقال : يوجد.
(4) ميلاد مجتمع : ص81 .(1/87)
وهي الفكرة التي تجسدت في ذات شخص، ولها واقع عسكري أو واقع سياسي بطولي في البلاد المستعمرة، فهو يتحدث عن مفهوم الأفكار فيقول: " إن السياسة التي تتمثل في أفكار مجسّدة في البلاد التي لم تبلغ درجة معينة من التطور، أو التي سببت لها بعض الظروف وعواصف التاريخ نكسة في التطور، وحركة تقهقر شامل كما حدث لألمانيا في عهد هتلر، فإن الفكرة تحل في شخص لتنشئ صورة سياسية خاصّة، وهذه بحكم شذوذها عن مقاييس العقل ، تتشبث بفرد تتجسد في ذاته ، فتتطور وتنمو وتنتظم طبقاً لمصالحه الخاصّة بحيث تصبح هذه المصالح تلقائياّ هي المبررات والدوافع والمقاييس لسياسة عاطفية " (1).
2ـ التجريد:
... وهي الأفكار التي تحملها ذات الشخص، كفكرة الجهاد، أو التحرير، أو الخلافة أو غيرها، فيقول عنها: " إن السياسة التي تتطور تبعاً لأفكار مجردة تعانق بحكم الضرورة الضمير الشعبي، ومن ناحية أخرى تلتزم المبادئ والمقاييس والقواعد التي تتحكم في سيرها فإنها بذلك تحمل في طبيعتها مبدأ التعديل الذاتي، الذي يفرض عليها رقابة من نفسها معدلاً بذلك حركتها واتجاهها عند الحاجة، وكل حركة من حركاتها تتطلب كأي عملية حسابية تعقيباً على نتيجتها، وتصحيحاً تابعاً لها، فإن السياسة المقعدة تراجع دائماً نتائجها، وهذه المراجعة تحميها من أي عامل أجنبي يحاول تغيير مجراها ومرساها، لأنها تكّون جهازاً معدلاً، يطلق إشارة الخطر، كلما حدث في الطريق أي حدث من شأنه أن يغيِّر في الحركة أو في الاتجاه ".(2)
__________
(1) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : مالك بن نبي ، ط دار الفكر ، دمشق ط عام 1960م ، ص24 ،ص 25 .
(2) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : ص24.(1/88)
... ولذلك فالاستعمار يعمل على محاربة الفكرة المجردة، وذلك لقوتها، لأنها تبقى الناحية المثالية لدى الشعوب، ولا يستطيع الاستعمار تدميرها، ولذلك يحاول دائماً أن يجسد هذه الفكرة، في ذات معينة، ثم يستخدم أساليب الترغيب والترهيب، لتركيع من تجسدت فيه هذه الفكرة، ومن ثم يوافق الشعب المستعمر على ما يقوله صاحب الفكرة المجسدة، وهو يرى أن الإسلام رفض تجسيد الفكرة في ذات محمّد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّاللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ).(1)
الاستعمار ووسائل الحرب ضد الأفكار المجردة:
1ـ صناعة الأبطال حيث يجعل أحد الرجال يحمل فكرة معينة، بحيث يجعل منه بطلاً، ثم يستخدم وسائل القوة والإغراء ضده، فما يتبناه بعد ذلك يسير عليه الشعب المحتل.
2ـ استخدام لغة الدين بطريقته الخاصة، بحيث يحاول أخذ فتاوى من بعض علماء السلاطين لكي يمرر فكرة خاصة به، وفي مستوى آخر تراه يفصل لغة الدين لأنها تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة (2).
3ـ استخدام الجهل: إننا نراه يستغل جهل الجماهير، لينشئ حول الفكرة، منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع.
__________
(1) سورة آل عمران : آية : 144 .
(2) انظر : الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : ص17 .(1/89)
4ـ استخدام سلاح المال إذ يكوّن لنفسه بهذه الوسيلة صداقات، أو كما يعبرون عنه بلغة الحرب اتفاقيات في البلاد المستعمرة، تساعده على توجيه هجمات محكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجهة الفكرية "(1) هذه هي الأسس البارزة في عملية الغزوالفكري عند مالك، وهناك فرعيات أخرى ما هي إلا توضيحات لهذه الأسس في حلبة الصراع الفكري، التي يدير الاستعمار مشاهدها من وراء الستار دون أن يرينا نفسه حتى لا ننتبه لأخطار المسرحية، فنعمل على إخراج الممثلين عن أدوارهم التي حددها لهم، فالاستعمار ليس غبياً لكي يرينا نفسه.
... يرى الباحث أن مالك بن نبي كان موفقاً في تحليلاته للاستعمار، فحقاً إن الهزيمة النفسية هي الأساس الأول في التبعية للاستعمار، وهذا ما سمّاه مالك بالقابلية للاستعمار، كما أن المحرك للسلوك الإنساني هو الفكر والاستعمار يعمل على تشويه الأفكار، وأنه يعتمد على تجسيد الأفكار في الأشخاص الذين يصنعهم ليكونوا قادة، ليتحكم من خلالهم في الشعوب المستضعفة.
... فقد يقوم مناضل ينادي بفكرة معينة للشعوب المُستَعمَرة، ويظل هذا الرجل يهاجم الاستعمار ويحاربه ، فيصبح لهذه الفكرة دور محرك في هذه الشعوب المستضعفة، وقد تكون هذه الفكرة هي الحرية، فيقوم الاستعمار بدل أن يحارب هذه الفكرة يعمل على الربط بين هذه الفكرة والشخص، بحيث يصبح لدى الشعوب تقديس لهذا الشخص، وبذلك يعمل على تجسيد هذه الفكرة في هذا الرجل ، ثم يستخدم أساليب الترهيب والترغيب لهذا الشخص، فإذا وافق الاستعمار في أمور معينة تبعه الشعب بعد ذلك .
__________
(1) المصدر السابق : ص17 .(1/90)
... ولذلك يسعى الاستعمار إلى تجسيد الفكرة من أجل القدرة على التحكم فيها، ولكن لوبقيت فكرة التحرر مجردة لا يحملها شخص معين بل تحملها عقول الناس في داخل الدول المستَعمرَة فستبقى قوية لا يمكن أن ترضخ للاستعمار وستكون عامة ، ولذلك يخاف الاستعمار من الأفكار المجردة، فيعمل دائماً على تجسيدها .
... وذلك مثل تجسيد الأفكار في قيادات العالم العربي والإسلامي في هذا الوقت ، وقد يسعى على وسائل معينة تساعده على محاربة الفكرة المجردة : ومنها صناعة الأبطال واستغلال علماء السلاطين ، وجهل الجماهير ، وتوزيع الأموال على الناس لمحاربة الفكرة المجردة .
المبحث الثالث
الاستعمار والابتعاث
المقصود بالابتعاث:
" ابتعاث عدد لا بأس به من خريجي المدارس الحكومية والأجنبية إلي دول الغرب الصليبي ، أو الشرق الشيوعي ، للتخصص في فروع العلم والمعرفة ، من أجل الشهادات العليا "(1) ولقد تحدث مالك عن موضوع الابتعاث ، محللأً كيفية دخوله ضمن حلبة الصراع الفكري، ولقد ذكر ذلك ضمن مراحل سير البعثة إلى انتهائها.
أولاً: مرحلة الصراع الفكري:
__________
(1) واقعنا المعاصر : ص 82 .(1/91)
إن البلاد التي ترسل أبناءها إلى الغرب تجهل بحق نتائج هذه البعثة، وكيفية دخولها ضمن عملية الصراع الفكري في المستقبل، فهي تبعث بهم دون اهتمام بما لديهم من احتياجات، وبما يريد هؤلاء الأفراد أن يعملوا في الخارج، ولا تعمل على الاهتمام بهم في الخارج من النواحي الأخلاقية، والفكرية، ولا تهتم بعودتهم إلى البلاد، فليس هناك طريقة منظمة لعملية الابتعاث، يقول مالك " إن البلاد المستعمرة لا تعرف على العموم ما هو الصراع الفكري، وهذه البلاد على العموم، تجهل قيمة الفكرة في مصير المجتمعات، كما تجهل الخطط التي ترسم من أجل التحكم في مصير الشعوب المتخلفة عن طريق أفكارها فحينما ترسل إلى الخارج بعثة من الطلاب للدراسات العليا، فقد قامت تلقائياً بعمل يتصل بالصراع الفكري، ولكنها لا تعلم بالضبط مقتضيات هذا الصراع، وأسلوبه ووسائله وأهدافه وعلى ذلك فإن عملها ينتهي بمجرد ما تخرج البعثة من أرضها ".(1)
ثانياً : مرحلة التّعرف:
إن أي بعثة دراسية تخرج إلى العالم الغربي فبمجرد ما تصل إلى هناك يبدأ الاستعمار بالتعرف على أفراد هذه البعثة، وعلى سلوكهم، وشهواتهم، وطريقة تفكيرهم بل إن الاستعمار يعمل على اختيارهم أصلاً من البلاد المستعمرة، ومن عائلات مرموقة وطلاب متفوقين، وتعمل عليهم دراسات كاملة، نفسية، واجتماعية، واقتصادية، لتقييم أفراد هذه البعثة، حتى قبل خروجها من البلاد، فيقول مالك: " إن البعثة التي خرجت من بلادها تتقبلها الدولة الاستعمارية برعاية خاصّة، وتحيطها برقابة دقيقة، وتعد لكل فرد من أفرادها ملفاً خاصأ، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، حتى تكون لدى الاستعمار عن تلك البعثة معلومات أكثر مما هي عند المصلحة أو الوزارة التي أرسلتها "(2)
ثالثاً : مرحلة التوجيه:
__________
(1) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : ص33 .
(2) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : ص33 .(1/92)
... إن الاستعمار يعمل جاهداً على توجيه أفراد البعثة إلى التخصصات العلمية التي تخدم مخططه الفكري وأغلبها تكون دراسات فلسفية وأدبية وتاريخية، والقليل منها يكون في العلوم التكنولوجية والتقنية، والهدف من ذلك تسميم عقليات أفراد البعثة، بأفكار الغرب الفلسفية اللادينية، وأما العلوم فتكون لتحقيق مآرب الاستعمار نفسه كي تستفيد العقليات التقنية الممتازة، فيسعى إلى استبقاء الطلاب في النواحي التكنولوجية والتقنية، فيقول مالك: " يبذل الاستعمار كل مواهبه الشيطانية حتى لا تعود البعثة بطائل لبلادها، إذ يتصرف من أجل ذلك طبقاً للمعلومات التي سجلتها الملفات، فهو يغذّي الهوى والشهوات، والبعض الآخر لا يريد العودة، لأن الاستعمار حينما لاحظ امتيازهم في العلوم مثلاً لم ير من مصلحته أن يتركهم يعودون فاتخذ كل الإجراءات اللازمة من أجل ذلك، بكل ما لديه من وسائل الإغراء " (1) والإرهاب .
... " ويستمر هذا التوجيه السلبي خفياً، كسرّ من أسرار ملفات الاستعمار الخاصّة بالصراع الفكري، السر الذي لا نعلم عنه شيئاً، نحن أبناء المستعمرات أو شبه المستعمرات"(2)
رابعأً: مرحلة النتائج:
__________
(1) المصدر السابق : ص33 .
(2) المصدر السابق : ص33(1/93)
... أما نتائج البعثة فتظهر بعد " سنوات من ذهاب البعثة التي أرسلتها الدولة للخارج فتأتي النتيجة النهائية، أن بعض أفرادها يعودون إلى البلاد بخفّي حنين، لأن التوجيهات الاستعمارية المحكمة حطمتها في الطريق "(1) والبعض الآخر يعودون " وهم يحملون في عقولهم وأذهانهم فكر وثقافة الغرب اللادينية، والاستعمار يعمل على إعادة بعض المبتعثين لأسباب يريدها، حيث يتم تسليم هؤلاء العائدين من الابتعاث المناصب، والمراكز المهمة ووضعهم في مواقع التأثير اللاديني في المجتمع المسلم " (2) " فيعينون ضباطاً وموظفين ويعملون كمدراء ومهندسين في المؤسسات الحكومية، ويتقلدون مناصب عالية كوزراء ورؤساء، وملوك ".(3)
الفصل الثالث
موقف مالك بن نبي من الاستشراق.
المبحث الأول:الاستشراق تعريفه وأهدافه ونتائجه.
المبحث الثاني: موقف المستشرقين من الوحي.
المبحث الثالث: موقف المستشرقين من النبوة.
المبحث الرابع: موقف المستشرقين من القرآن.
المبحث الأول
الاستشراق: تعريفه وأهدافه ونتائجه
تعريفه :
... " هو تعلم علوم الشرق الإسلامي، وتطلق كلمة الاستشراق على الدراسات التي يقوم بها غير المسلمين ـ من اليهود والنصارى ونحوهم ـ للدين الإسلامي وعلوم المسلمين وتاريخهم، ولغاتهم، وأوضاعهم السياسية والثقافية والاجتماعية وكلمة المستشرق بالمعنى العالم تطلق على كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق كله أقصاه ووسطه وأدناه في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه".(4)
__________
(1) المصدر السابق : ص34 .
(2) واقعنا المعاصر : ص82 .
(3) تاريخ الأقطار العربية الحديث : فلاديمير لوتسكي ، مطبعة الفارابي ، بيروت ، عام 1980م ، ص73 .
(4) واقعنا المعاصر : ص43 ،انظر : الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري : عبد الحميد زقزوق ط 2 سلسلة كتاب الأمة ، ص 18 .(1/94)
إن مالك لم يعتن بالاستشراق كفكرة، بل أراد أن يدرس العامل النفسي، لحملة فكر الاستشراق، وهم المستشرقين" الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية " (1) ثم قام بعد ذلك بتصنيفهم من خلال أسمائهم إلى طبقات من صنفين:
أولاً: من حيث الزمن: وهم طبقة القدماء مثل جرير ودوريياك والقديس توماس الاكويني
ثانياً : المحدثون وهؤلاء عنده طبقتان:
أـ طبقة المادحين للحضارة الإسلامية.
ب ـ طبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها. (2)
والملاحظ في هذه الخارطة العامة للمستشرقين أنه ركّز على الفرنسيين منهم، وذلك لاتصاله بهم فكرياً وواقعياً في فرنسا، وأمّا في توزيعه الثاني، فكان الأمر أعمّ، وذلك لأنهم في جميع أنحاء العال، إمّا مادحين أو ناقدين.
أهدافه:
أولاً: الهدف العلمي:
يرى مالك بن نبي أن الاستشراق في بدايته درس الفكر الإسلامي؛ لتحقيق الهدف العلمي فيقول: " إن أوروبا عن طريق الاستشراق تريد اكتشاف الفكر الإسلامي وترجمته من أجل إثراء ثقاقتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة " (3) ولقد اعترف المستشرقون المعتدلون بفضل الشعوب الإسلامية، وبمساهمتها في تكوين الرصيد الحضاري الإنساني، من خلال مجهودات العلماء المسلمين. (4)
ثانياً : الهدف الديني :
كان هذا الهدف وراء نشأة الاستشراق ،وقد صاحبه خلال مراحله الطويلة.
__________
(1) إنتاج المستشرقين : مالك بن نبي ، ط مكتبة عمار ، ص7 .
(2) المصدر السابق : ص7 .
(3) إنتاج المستشرقين : ص11 ، ص12 .
(4) انظر : المصدر السابق : ص12 .(1/95)
ا ـ التشكيك في صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عن طريق الطعن في ظاهرة الوحي واعتبار أنها ذاتية وما هي إلا إلهام نفسي أو هواجس داخلية تملكت ذات محمد فقال ما قال، وليس هناك وحي خارجي ، وأنها ما هي إلا مظاهر اختلاط وهلوسة.(1)
ب ـ التشكيك في صحة القرآن وإرجاع الإسلام كله إلى مصادر نصرانية ويهودية، فقد ادعى اليهود والنصارى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ القرآن من الكتاب المقدس، حيث قام الآباء اليسوعيون بابحاث لكي يحددوا مدى مساهمة شعراء النصرانية في الجاهلية في التأثير اليهودي والمسيحي في الحياة الجاهلية ومن ثم في القرآن الكريم وفي الإسلام.(2)
ثالثاً: الهدف السياسي:
يرى ابن نبي أنه يجب " أن نأخذ في حسابنا أن كل ما ينتجه العقل لا يخلو من بعد عملي يستغل في ميدان السياسة "(3) وهو بذلك يؤكد أن هناك عامل سياسي يوجه انتاج المستشرقين بحيث تسخر للصراع الفكري، بحيث يصبح إنتاجهم أدوات للمشاغبة، والتحلل الأخلاقي، أو مجرد أدوات إلفات وتلهية(4) ويوضح مالك أن هذا الهدف لم يكن من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية لتسيطر بشكل قوي على العالم الإسلامي.(5)
آثار المستشرقين:
إن مالك لم ينظر إلى إنتاج المستشرقين من خلال كتاباتهم جميعاً، ولكنه أخذ يحلل الاتجاه العام لكتاباتهم، من خلال تقسيمه الزمني لطبقاتهم.
__________
(1) انظر : الظاهرة القرآنية : مالك بن نبي ، ط دار القرآن ، الاتحاد الإسلامي العالمي ، عام 1978م ، ص167 ، ص193 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص308 ، ص310 ، ص312 .
(3) إنتاج المستشرقين : ص55 .
(4) انظر : المصدر السابق ، ص55 .
(5) انظر : إنتاج المستشرقين : ص11 ، ص12 .(1/96)
1ـ تأثير الطبقة الأولى: " فالقدماء أثروا وربما لا يزالون يؤثرون على مجرى الأفكار في العالم الغربي، دون أيما تأثير على أفكارنا نحن معشر المسلمين ولا نرى لهم أي أثر فيما نسميه النهضة الإسلامية اليوم ".(1)
2ـ تأثير الطبقة الثانية: وتظهر من حيث الاتجاه العام الناقد للفكر الإسلامي حيث يترك " المنتقدون للحضارة الإسلامية المحدثون حتى ولو كان لهم بعض الأثر في تحريك أقلام المفكرين المسلمين، فإنهم لا يدخلون في موضوع بحثنا، لأن إنتاجهم على فرض أنه مس ثقافتنا إلى حد ما، إلا أنه لم يحرك ولم يوجه بصورة شاملة مجموعة أفكارنا لما في نفوسنا من استعداد لمواجهة أثره تلقائياً، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي ".(2)
فمالك قد كان مصيباً في ذلك؛ لأن كل مواجهة واضحة يفهم منها الطعن في الإسلام ستحرك أقلام كل المفكرين والكتّاب للدفاع عن الإسلام، فهذه حرب ظاهرة وواضحة ومكشوفة وليس فيها خطورة كبيرة.
3ـ تأثير الطبقة الثالثة: من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام، وهي طبقة المادحين للحضارة الإسلامية، فهو يحذر منها تحذيراً كبيراً ، ويعتبرهم أخطر من الناقدين وسبب ذلك أنهم يدخلون أفكارهم المسمومة ضمن مديحهم، ويتقبلها المسلمون دون إدراك أو وعي حيث " نجد للمادحين الأثر الملموس، الذي يمكننا تصوره، بقدر ما ندرك أنه لم يجد في نفوسنا أي استعداد لرد الفعل، حيث لم يكن هناك في بادئ الأمر مبرر للدفاع الذي فقد جدواه وكأنما أصبح جهازه معطلاً لهذا السبب في نفوسنا ". (3)
__________
(1) إنتاج المستشرقين : ص8 .
(2) المصدر السابق : ص8 ، ص9 .
(3) المصدر السابق : ص9 .(1/97)
يرى مالك أن طبقة المادحين لم تقتصر نتائجها على الأثر المحمود، بل إن لها أثراً سيئاً، فالأثر السييء أن يعيش المسلمون على أحلام الماضي، حيث إن المستشرقين يعملون دائماً على أن يعيش المسلمون في أحلام سعيدة، فيدخلون في مواجهة هذه الصدمة ويعانون بسببها أثرين: مواجهة مركب نقص محسوس، ومحاولة التغلب عليه حتى بالوسائل التافهة ومركب النقص أدّى بالبعض إلى الهروب إلى طريق التقليد، والبعض يحاول التغلب على هذا المركب بالاعتزاز التبريري، ويرى أنهم وجدوا ذلك بالفخر والتمجيد(1) وهو يكره أسلوب المادحين ويرى أن المدح لا يشفي المرض، عند الأمة الإسلامية بذكر أمجاد الماضي.
ولذلك يرفض الافتخار بالماضي لأن "من أكثر البوادر دلالة على اتجاه مجتمع ما هو اتجاه أفكاره، فإمّا أن تكون متجهة إلى الأمام، أو إلى المستقبل، أو إلى الخلف اتجاهاً متقهقراً، اتجاهاً ملتفتاً إلى الماضي بصورة مرضية "(2) وهو يرى أن المدح والتمجيد يستخدمهما المستشرقون، لتخدير مشاعر وأحاسيس المجتمع الإسلامي(3) وبعد ذلك يقوم مالك بتقويم إنتاجهم بحيث يبين" أن الإنتاج الاستشراقي بكلا نوعيه، كان شراً على المجتمع الإسلامي، لأنه ركّب في تطوره العقلي عقدة حرمان، سواءً في صورة المديح والإطراء التي حوّلت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر، وأغمستنا في العيش في أحلام الماضي الذي نجده في ماضينا، والإتكال وترك العمل من أجل التغيير، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا، بحيث صيرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار، بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة طبعاً، ولكن دون هوادة، لا نراعي في كل ذلك سوى مراعاة الحقيقة الإسلامية غير المستسلمة لأي ظرف في التاريخ ".(4)
__________
(1) انظر : انتاج المستشرقين :ص13 .
(2) المصدر السابق : ص20 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص29 .
(4) المصدر السابق : ص33 .(1/98)
وهو يرى أن الجانب الإيجابي في إنتاجهم لا يوجد في صورة المديح، بل في صورة التفنيد (1).
ويرى مالك أنه لا يجوز نكران إنتاجهم من ناحية قيمته العلمية بل إنه يراه أحياناً يستحق كل التقدير من ناحية طابعه العلمي ، أو من ناحية طابعه الأخلاقي ـ وهو إعترافهم بفضل الإسلام على الغرب ـ بحيث لا يمكن نكرانه، كشهادة نزيهة، من شهود تعرف قيمتهم كعلماء.
المبحث الثاني
موقف المستشرقين من الوحي
الوحي: هو " إعلام الله رسولاً من رسله، أو نبياً من أنبيائه ما يشاء من كلام، أو معنى بطريقة تفيد النبي أو الرسول العلم اليقيني القاطعة بما أعلمه الله به " (2)وهو أساس الإسلام، والإيمان به واجب وعليه يقوم الإسلام كله، ولذلك انصبَّ جهد المستشرقين على إنكاره، وحاولوا إلباس هذا الإنكار ثوب العلم كما هي عادتهم، فقالوا إن ظاهرة الوحي عبارة عن تخيل ذاتي نفسي، أي لا يرى ملكاً ولا يسمع كلاماً من خارج نفسه، ولقد حاول المستشرقون إثبات ذلك، ولقد اتجه مالك باعتبار أنها ذاتية، ووضع تفسيراتهم لهذه الظاهرة على أساس أنها فرضيات، بحاجة إلى بحث وهذه الفرضيات هي:
1ـ أنها ظاهرة إلهام ومكاشفة، أي أن محمداً كان يغرق في تأمل عميق في المشكلة الدينية يقوده نوع من إلهام الدعوة المستقبلية.
2ـ أنها ظاهرة تشنج وصرع.
3ـ أنها ظاهرة نابعة من اللاشعور في داخل الذات.
__________
(1) انظر : المصدر السابق :ص33 .
(2) العقيدة الإسلاميه وأسسها : عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني : ط دار القلم ، دمشق ،ط 2 عام 1979م، ص528 .(1/99)
... واتجه مالك بمنهجية واضحة في دراسة هذه الفرضيات، فبدأ دراسته لمفهوم المكاشفة بالحديث " عن مدلولها، أنها معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، أو خاض فيه التفكير فعلاً"(1) ولكنه يرى أن المكاشفة لا تتفق مع الظاهرة الملاحظة لدى النبي، في حالة التلقي أثناء نزول الوحي(2) بمعنى أن الوحي قد أنزل على ذات محمد - صلى الله عليه وسلم - أموراً لم يكن يفكّر فيها أصلاً أو غير قابلة للتفكير، ولا خاض فيها التفكير، ولذلك يخلص إلى أن معنى الوحي في مقابلة مفهوم المكاشفةهو" المعرفة التلقائية، والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير، وأيضاً غير قابل للتفكير".(3)
... ولكن مالك بن نبي قد جانب الصواب في ذلك ؛ لأنه ثبت من كتب السيرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقضي وقته في غار حراء في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وما ورائه من قدرة مبدعة، حيث لم يكن مطمئناً لما كان عليه قومه من عقائد شركية(4)
وأيضاً فإن كلامه مناقضاً لقوله تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) (5) ثم يوجه نقضاً آخر لمفهوم المستشرقين، موضحاً أن " المكاشفة لا تصحبها أية ظاهرة نفسية بصرية، أو سمعية أو عصبية، كتقلص العضلات الذي نلحظه في حالة - صلى الله عليه وسلم -(6).
__________
(1) الظاهرة القرآنية : ص168.
(2) انظر : المصدر السابق :ص168 .
(3) المصدر السابق :ص168 :
(4) انظر : الرحيق المختوم ،:صفي الرحمن المباركفوري ، ط مكتبة الإيمان ، ط1 عام 1993م ، ص60 .
(5) سورة البقرة : آية ، 144 .
(6) انظر :الظاهرة القرآنية :ص168(1/100)
... ويرى الباحث أن ابن نبي كان متأثراً بدراسته الإستشراقية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تتقلص عضلاته؛ فإنه لم يذكر أحد من الناس أنه كانت تتقلص عضلاته ولم يصب في حياته بذلك التقلص الذي يوحي بمرض الصرع، فقد كان ينزل عليه الوحي ولا يظهر عليه تغير في عضلاته، بل كان يعرق ويسمع عنده دوياً فإذا فصم عنه الوحي كان يعي كل ما سمعه ويتذكره.
... والدليل على ذلك ما روي من أحاديث توضح حالات نزول الوحي بالقرآن حيث هناك حالتين هما:
الحالة الأولى: " وهي أن يأتيه مثل صلصلة الجرس والصوت القوي يثير عوامل الانتباه منبهاً النفس بكل قواها لقبول أثره، فإذا نزل الوحي بهذه الصورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نزل عليه وهو مستجمع القوى الإدراكية لتلقيه وحفظه وفهمه.
الحالة الثانية: أن يتمثل له الملك رجلاً ويأتيه في صورة بشر، وهذه الحالة أخف من سابقتها، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع، ويأنس رسول النبوة عند سماعه من رسول الوحي، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان "(1).
__________
(1) مباحث في علوم القرآن : منّاع القطان ، ط مؤسسة الرسالة ط 35 ، عام 1998 م ، ص34(1/101)
... وكلتا الحالتين مذكورتين فيما روى عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم - حيث قالت أن الحارث ابن هشام رضي الله عنه سال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو اشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول " قالت عائشة - رضي الله عنهم -: " ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً(1).
... فالقول بالإلهام أو المكاشفة ليس قولاً جديداً " إنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله، فقد صوروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلاً ذا خيال واسع عميق وقد زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه"(2).
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب بدء الوحي ، باب كيف بدأ الوحي ، انظر متن فتح الباري لابن حجر العسقلاني ط دار مصر ،ط1 عام 2001م، 1/ 27 ، انظر : صحيح مسلم : كتاب الفضائل ، حديث رقم 4303 ، 4304 ، سنن الترمذي : كتاب المناقب ، حديث رقم 3567 .
(2) النبأ العظيم : محمد عبد الله دراز ، ط دار القلم ، ط 2 عام 1970 م ،ص67 .(1/102)
... ويأخذ في مناقشة مفهوم المكاشفة من الوجهة العقلية، بدراسة نتيجتها فهي " لا تنتج عند صاحبها يقيناً كاملاً، بل تؤدي إلى ما يسمى احتمالاً (1) في حين أن " يقين النبي كان كاملاً وعنده ثقة بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية، وطارئة، وخارجة عن ذاته "(2) ويدلل على ذلك متسائلاً: " هل كان لرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفسر بالمكاشفة حالة أمّ موسى حين ألقت ولدها في اليم، وهل بالمكاشفة كان النبي يميّز فيما ينطق به بين نوعين من الإيحاء هما الآية القرآنية التي يأمر بتسجيلها فوراً ، والحديث الذي يستودعه ذاكرة صحابته فحسب ومعلوم أن القرآن من حيث المقاطع الصوتية جزء مما نطق به النبي،إن تمييزاً كهذا يكون من السخف الخالص ، لو لم يكن لدى صاحبه في الوقت ذاته علم تام بالفرق بين القرآن والحديث".(3)
__________
(1) الظاهرة القرآنية :ص168 .
(2) المصدر السابق :ص168.
(3) المصدر السابق :ص169.
(5) المصدر السابق : ص171.
(6) المصدر السابق : ص175 .(1/103)
... وبذلك يقرر أن المكاشفة لا تنتج يقيناً مؤسساً على إدراك(1)،ثم ينطلق في تحليله لظاهرة الوحي لإثبات أنها خارج أحوال الفرد النفسية، من خلال تحليله لهذه الذات من خلال اقتناعها الشخصي ويدخل مسألة الاقتناع الشخصي ضمن مقياسين، هما المقياس الظاهري ويقصد به التحقق من وقوع هذه الظاهرة من خلال ما يقع له شخصياً من أحداث ، تثبتها الروايات التاريخية الصحيحة والمقياس العقلي: ويقصد به مناقشة الظاهرة وتعريفها وتحليلها من الوجهة العقلية ،للوصول إلى اليقين الذاتي ،والقناعة الشخصية ، لذات الرسول- صلى الله عليه وسلم - قبل دعوة الآخرين للدخول في هذا الدين ويؤخذ على المستشرقين المحدثين أنهم " لم يأخذوا في اعتبارهم حقيقة نفسية جوهرية هي: اقتناع النبي- صلى الله عليه وسلم - الشخصي "(2) وهو يعتبر أن الشاهد الوحيد المباشر على ظاهرة الوحي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأخذ على المستشرقين أنهم يعتبرون هذه الظاهرة كشفاً أو إلهاماً بمعنى أنها ظاهرة ذاتية وهو قول متفق عليه عندهم ومع ذلك لا يلقون على هذه الظاهرة شهادة الذات المقترنة بها اقتراناً تاماً، ومن ثم يحاول أن يثبتشهادة الذات، من خلال قيمتين: القيمة الأدبية، وهي راجعة إلى المقياس الظاهري، والقيمة العقلية وهي راجعة إلى المقياس العقلي، فيدرس الظاهرة مرتبطة بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع مقياساً مدعماً بكل العناصر الخاصة بتجلية ( الذات ) التي هي موضوع القضية وشاهدها وقاضيها(3).
__________
(3) انظر :الظاهرة القرآنية :ص119.(1/104)
... ويتحدث عن القيمة الأدبية من خلال سيرته في مرحلة الطفولة، حيث خلص من تحليله لها إلى أن حياته لم تنطبع بأي ظرف خاص من نوع ثقافي، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة المراهقة مع تيسر كل سبل الانحراف لم ينحرف، وهذا ما شهد له بالقيمة الأدبية، وأثبتتها المراجع التاريخية، وفي خطبة أبى طالب ما يثبت ذلك حيث قال أمّا بعد: " فإن محمداً ممن لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً، وفضلاً وعقلاً "(1) وقد أصدر عليه أهل مكة حكماً موجزاً، حين أسموه الصادق الأمين لقد كان في أعينهم في ذلك العصر الصادق الأمين، وهذه الشهادة التاريخية تعطينا تفصيلاً ثميناً للصورة النفسية"(2) لتلك الذات، ثم إن هناك إرهاصات في مكة عن موعد ظهور نبي من نسل إسماعيل، وقد صارحته زوجه بأنه ذلك النبي المنتظر، إلا أنه دافع عن ذلك منكراً أنه هو، بمعنى أنه لم يكن يحضّر ذاته لذلك وهذه شهادة من هذه الذات على الإنكار.
... ويردّ مالك على المستشرق درمنجهام القائل بالإلهام: فيردّ عليه أنه لا ينكر صحة القرآن التاريخية والقرآن نفسه يذكر ذلك فقد يقول الله تعالى: ( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ) (3)
... ومن خلال ذلك ندرك " الأطوار المختلفة التي مرّت بها الذات المحمدية خلال تاريخها بحيث نرى في الآية المذكورة، الصورة الصحيحة لحالة النفس عند محمد- صلى الله عليه وسلم -، أيام غار حراء.
__________
(1) الكامل : ابن الأثير الجزري ط دار الفكر بيروت عام ، 1978م 2 / 25 .
(2) الظاهرة القرآنية : مالك بن نبي، ص127.
(3) سورة القصص : آية، 86(1/105)
... وإذن فليس هنالك من سبب، لأن ننسب للصادق الأمين، نية مبيتة للتأمل في مشكلة ميتا فيزيقية لحظة تهيئه للانسحاب والعزلة "(1)، ويضيف " ومن الخطأ فيما يبدو لنا أن يرى النقد الحديث، ولا سيما الأستاذ درمنجهام، في هذا المظهر مرحلة من البحث والقلق، أي نوعاً من إرادة التكيف، وتخلق الفكرة عند النبي- صلى الله عليه وسلم - بل على العكس تماماً تبرهن وثائق العصر على أن المشكلة الغيبية لم تساور ضميره، فقد كان عنده حلّها وجزء آخر موروث
لأن إيمانه بإله واحد، إنما يأتيه من الجد البعيد: إسماعيل " (2) ويرى أنه لم يكن يبحث عن دعوة من خلال عزلته، بل لم تعنيه المشكلة الدينية، بل كان يبحث عن سلوك أخلاقي على طريقة النسّاك، بل إنه لم يكن بين ذاته والواقع الغيبي أي رباط فكرة مقصودة. (3)
ثم ينتقل بعد ذلك لإثبات القيمة العقلية، لهذه الذات، من خلال دخول هذه الذات في مرحلة الشك الذاتي، الذي سيكون الطريق إلى الوصول إلى مرحلة اليقين الذاتي، قبل نقل ما سيحمله هذا اليقين إلى الآخرين موضحاً أنه " يشك في نفسه هو، ولكن الوثائق التاريخية من القرآن والسيرة، لا تفسران لنا الشك المحمدي، ولكنهما يشهدان بأنه ليس ناتجاً عن أمل أهوج، أو جنون الذات، أو تضخم في تلك الذات عند محمد - صلى الله عليه وسلم - " (4) فهذا الشك إلام يعزى ؟ قالوا يعزى إلى اللاشعور،(5) ثم يأخذ في الحديث عن مجيء الوحي في غار حراء، بقوله له اقرأ ثم تأخر الوحي عنه أكثر من عامين، مما جعل الشك يستولي عليه مرة أخرى، ظاناً أنه قد يكون خدع في جوارحه، هذه هي الأزمة الأولى له، وقد حاول فكره مناقشة حالته الفريدة دون أن يجد لها تفسيراً فيقع في الإعياء.(6)
__________
(1) الظاهرة القرآنية : ص133
(2) الظاهرة القرآنية : ص138.
(3) انظر: المصدر السابق : ص138.
(4) انظر: المصدر السابق : ص139 بتصرف .
(5) انظر : المصدر السابق : ص139 ،140.
(6) انظر : المصدر السابق : ص143.(1/106)
... يرى الباحث أن مالك بن نبي قد وقع في خطأ كبير، حيث وصف ما حدث من فتور الوحي على أساس أنه أزمة نفسية ألمّت بذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ وذلك نتيجة تأثر مالك بعلم النفس الغربي واعتماده عليه في أغلب تحليلاته، وكان الأجدر به العودة إلى المصادر الإسلامية في عملية التحليل، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية قد تحدثت عن أسباب الفتور أنها خارجة عن ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قال تعالى: ( وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى )(1) ذكرت كتب الحديث أن سبب الفتور قد كان خارجياً فقد روى الإمام مسلم بسنده المتصل عن عائشة- رضي الله عنهم - أنها قالت واعد رسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام في ساعة يأتيه فيها فجاءت تلك الساعة ولم يأته، وفي يده عصا فألقاها من يده وقال ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره فقال يا عائشة متى دخل هذا الكلب هاهنا فقالت والله ما دريت فأمر به فأخرج فجاء جبريل فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - واعدتني فجلست لك فلم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة (2) ثم بدأت الأزمة الثانية له، من بداية نداء الوحي في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرقُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ )(3) وعند ملاحظة موقفه بين الأزمتين كان في الأولى الإعياء والخوف وفي الثانية المثابرة والاجتهاد والدعوة.
__________
(1) سورة الضحى : آية : 1، 2 ،3 ،4.
(2) صحيح مسلم : كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الجيوان ،حديث رقم 2104 ، 5 / 1664 ، انظر: سنن النسائي : كتاب الصيد والذبائح ،حديث رقم 4209 ، أبو داود :كتاب اللباس ،حديث رقم 3626 ، ،مسند الإمام أحمد : مسند العشرة ، حديث رقم 612 .
(3) سورة المدثر : آية : 1، 2 ، 3 .(1/107)
... ويرى الباحث أن إستخدام مالك بن نبي لفظ الأزمة في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لأن حالة الرسول ليست حالة نفسية تدخل فيها الأزمات، بل هي حالة بحث عن الحقيقة وهذه تكون من حالات كل نفس سوية، تريد أن تتأكّد ممّا ألم بها من حوادث.
... وبعد أمر الله له بالدعوة اجتهد بكل ما يملك من طاقة ومن جهد، وهذا ما يؤكد استقلال ظاهرة الوحي عن ذات النبي، الذي هو موضوع هذه الظاهرة، وما كان لابن نبي أن يقرر أن الحل الثاني للحالة النفسية يمكن أن يتأخر لو كان مصدره اللاشعور لدى إنسان لم يسع إلى إخماد الظاهرة، وكبتها في نفسه، بل إنه على العكس، قد وجه كل إرادته، وكل وجوده لتسيير ظهورها(1) ويستخلص من حادثة موت ابنه إبراهيم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " (2) إثبات إخلاص محمد - صلى الله عليه وسلم - المطلق، واقتناعه الشخصي، الذي لا يقوم على شبه معجزه،(3) وهذه الرواية تثبت " أن هذا الاقتناع لم يكن نتيجة استعداد عقلي غير سليم ، واتجاه غير منحرف لتفسير بعض الأحداث العارضة داخل الذات، أو الخارجة عنها، بأنها آية علوية، إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذو فكر موضوعي لا يميل إلى تأييد دعوته بغير معجزته الوحيدة: " القرآن ".(4)
__________
(1) انظر : الظاهرة القرآنية : ص145 ، بتصرف .
(2) صحيح البخاري : كتاب الكسوف ، باب الصلاة في كسوف الشمس ، حديث رقم 1040 ، انظر متن فتح الباري 2 /868 ، انظر : صحيح مسلم : كتاب الكسوف ،حديث رقم 1522 ، مسند الإمام أحمد : مسند الكوفيين ، حديث رقم 17441
(3) انظر ،الظاهرة القرآنية :ص159 بتصرف بسيط.
(4) انظر المصدر السابق : ص159.(1/108)
... وهو يرى أن الاقتناع الشخصي لذات النبي- صلى الله عليه وسلم -، لم يكن تلقائياً بل كان ناشئاً عن تفكير وهذا ما لاحظناه من منهج الشك في نفسه، وهذا ما يمنع رؤية أن اقتناعه تلقائياً.(1)
... وفي معرض ردّه على من يقول: إن ظاهرة الوحي هلوسة واختلاط، وأن الوحي ظهر للرسول في هيئة رجل متشح بثوبه الأبيض يأمره قائلاً له: " اقرأ " حيث يتساءل ابن نبي قائلاً: هل يمكن للاختلاط أو الهلوسة أن تؤدي أصواتأً، ومع ذلك فإن الرؤية تتكرر آمره: " اقرأ " هذا الحوار الغريب، والرؤية التي تسبقه وتصحبه وتلحقه، يشكلان الأساس الأول الضروري للنبي- صلى الله عليه وسلم - في نظر النقد الذاتي لحالته، فها هي الظاهرة تحت سمعه وبصره فهو يرى ويسمع " (2)
__________
(1) انظر ، المصدر السابق : ص176.
(2) الظاهرة القرآنية :ص179 ،ص180.
(2) المصدر السابق : ص193.
(3) المصدر السابق : ص 194.
(4) المصدر السابق : ص 194.(1/109)
" فهو الحوار الوحيد، الثابت تاريخياً، والذي تجيب فيه الذات المحمدية بوضوح، وبمقاطع صوتية، على الصوت الذي سيبلغها قريباً دعوتها هل هذا اختلاط وهلوسة؟ فهذه الحالة يرى أنها مرئية مسموعة، والاختلاط العقلي الذي من هذا النوع إنما يحدث في هوامش النوم، ويطلق على الاختلاط الذي يحدث عندما يغشى الذات الواعية، أي بين اليقظة والنوم "(1) وعلم النفس يثبت ذلك فقد " قرر علم النفس العلاجي، أن كلتا الحالتين لا تصيب الأشخاص الأسوياء ـ كما هو شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ لوجود سبب حسي هو ترتيل أصوات مسموعة، ولقد تكرر السبب الحسي في الحوار المذكور ثلاث مرات، وعلى هذا فلو فرض أن الاختلاط أوالهلوسة لم تزل بتأثير الجزء الأول من الحوار فإنها لا يمكن أن تبقى بعد الصدمة الصوتية الأولى ـ أي خلال المرتين الأخريين اللتين سيبقى تفسيرهما معلقاً ـ دون أن نتسرع في الحكم على طبيعة الظاهرة نفسها ، لا يمكن على أية حال أن نفسرهما بالاختلاط العقلي " .(2)
... ويتساءل مالك أيضاً " هل الذات المخاطبة والذات المتكلمة، يمكن أن يجتمعا نفسياً في ذات واحدة هي ذات محمد " (3) ثم يبدأ بالتحليل لإثبات وجود ذاتين قائلاً " من الواجب أن نذكر أولاً: مدى التباعد الرئيسي البيّن في الحوار بين الذات المتكلمة الآمرة الحازمة والذات المخاطبة المضطربة المجفلة، فهذا الإجفال يعكس طبيعياً لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ الذي يعرف أنه لا يعرف القراءة ـ الشعور والفكرة اللذين يعرفهما عن نفسه، فإجابته السلبية الخاشعة ـ ولكنها القاطعة ـ هي النهاية الطبيعية لعملية نفسية، تنبثق عن هذه الفكرة، التي يدرك موضوعيتها تماماً: فكرة أميّته فهناك بالضرورة تعدد في الذوات؛ لأن ذلك الحوار لا يمكن أن تضمه وحدة نفسية واحدة " (4)
__________
(4) انظر : الظاهرة القرآنية : ص195.
(2) المصدر السابق : ص199.
(3) المصدر السابق : ص199.(1/110)
، فنحن مضطرون إلى أن نبحث عن مفتاح المشكلة خارج نفسية الذات المحمدية ".(1)
ويقرّر بعد ذلك ما توصل إليه" وبما أنه لا يمكننا أن نتصور هذا المستوى في ذات إنسانية أخرى ، فمن اللازم أن نراه ضرورة في ذات غيبية ( ميتا فيزيقية ) هي" الوحي".(2)
المبحث الثالث
موقف المستشرقين من النبوة
يعد المستشرقون النبوة مبدأ ذاتياً، ويرون أن كل ما يتنبأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجع إلى الذات من خلال اللاشعور، ويحاول ابن نبي في دراسته تقرير مبدأ النبوة من خلال شاهده الوحيد ـ النبي ـ باعتبار أنها ظاهرة موضوعية وليست ظاهرة ذاتية.(3)
__________
(3) انظر : الظاهرة القرآنية : ص93 .(1/111)
وهو يناقش المستشرقين، من خلال النبي إرميا الذي يعترف به المستشرقون أنفسهم من كتابهم المقدس، على أساس اعتماد ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي مونتيه، من خلال دراسته للوثائق الدينية، وتأكيده صحة كتاب إرميا مستخدماً في ذلك التحليل النفسي(1). ... وهو يرى أنهم " يهدفون إلى جعل النبوة من المجال الذاتي للنبي ، دون الاهتمام بشهادة النبي نفسه، الذي يؤكد بكل قوة أنه يرى ويسمع موضوعه خارج مجاله الشخصي"(2) ثم يأخذ في بيان الحالة النفسية للنبي إرميا وسبب ذكر هذا النبي؛ لأنه يناقش المستشرقين وهم إمّا يهود أو نصارى، فأراد أن يثبت لهم مفهوم النبوة من خلال تحليله لحياة هذا النبي النفسية، وأيضاً لأن أصح سفر عندهم هو سفر إرميا فقد قال إرميا: لقد صرت محور سخرية طيلة النهار، فالجميع يهزأون بي لأني كلما وجدتني مضطراً لأن أصرخ، وأعلن الجبروت والخراب، لقد صارت كلمة الله بالنسبة لي مصدر عار واستهزاء مستمر، فإذا قلت: لم أعد أذكره أو أتكلم باسمه، وجدت في قلبي كالنار المضطرمة المستكنة في عظامي، فأحاول أن أطفئها ولكني لا أستطيع.(3)
حيث يرى أنه" إن جاءت نبوة فيجب أولاً: أن تعتبر كسبب يثير الاضطراب في ذات إنسانية، ويدفعها دفعاً لا سبيل إلى مقاومته نحو رسالة ما، لا تتضح دوافعها وأهدافها كحقائق محددة لهذه الذات، فالأنبياء أفراد أرادوا أولاً أن يتملصوا طواعية من دعوة النبوة فقاوموا، ولكن دعوتهم استولت عليهم أخيراً، فمقاومتهم تدل على التعارض بين اختيارهم والحتمية التي تطوق إرادتهم، وتتسلط على ذواتهم، وفي هذه الدلائل قرينة قويه للنظرية الموضوعية، عن الحركة النبوية ".(4)
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص94 ،ص 95.
(2) المصدر السابق : ص99 .
(3) انظر : سفر إرميا : الإصحاح السادس ، ص1083 ، الظاهرة القرآنية : ص102 ، والنص مقتبسه من كتاب ، أنبياء إسرائيل بالفرنسية لاندريه لودز ص192 ، 1933 .
(4) المصدر ،السابق ،:ص99 ،ص100.(1/112)
النبوة وادعاء النبوة :
يقول مالك إن " النبي الموحى إليه يتميز عن منافسه المحترف ، بمقاومته العنيفة ضد الألوهية القومية(1) التي صارت لب العقيدة الشعبية، فجميع الاتجاهات الخلقية للنبي الموحى إليه قائمة على أساس الفكرة المتسلطة الملازمة: فكرة إله واحد عام، يريد النبي أن يثبت فرائضه الخاصة في شعائر قومه " (2) أمّا مدعي النبوة فيقف " موقف أحد الانتهازيين الذين يتبعون التيار الشعبي، فهو بهذا لا أثر له أخلاقياً، وليس ملهماً، بل إن موقفه تجاه عقائد عصره، هو موقف المبالغة في التساهل لدرجة التملق والملاينة، فمتى ميزنا بين هاتين الوظيفتين، فبدهي أن نمّيز بين العاملين الذين يؤديانهما، فمهمة الأول في سماتها الخالصة أن لها مبدأ وثيق الصلة بالأفكار العامة للحركة النبوية، ولها زمن يتناسب مع عرض هذا المبدأ أو تبليغه " (3) في حين أن مدعي النبوة لا مبدأ له، إن ابن نبي يريد أن يقول: أن النبي الحقيقي لا يداهن قومه، فلا يعترف بما يعبدون ولا يحاول أن يجعل الإله خاص بقومه حتى يتبعوه، بل يطلب منهم الإيمان بإله لكل العالمين، ولكن مدعي النبوة يداهن قومه والناس ويعترف بعقائد قومه فيداهنهم ويتملقهم من أجل أن يكسب مساعدتهم له، وقد ضرب على ذلك مثال من أنبياء بني إسرائيل وهوإرميا واستخلص من ذلك أن إرميا يرسم الخطوط الداخلية لذاته، ويستنبط من ذلك عدّة عناصر متميزة:
1ـ الاحتراق العميق لمشاعره المضطربة ، جراء الاستهزاء الذي يلقاه.
2ـ إرادته أن يتخلص من دعوته، بامتناع ناتج عن تأمل وإعمال فكر، وهذاعنصر ثابت يبدو أنه يطبع هذه الحالة النفسية كلها ، ويطوق إرادة ذات النبي، وهو الذي يشير إليه ما يجده في قلبه ( كالنار المضطرمة ).
__________
(1) المراد بالألوهية القومية : هو اعتبار شعب من الشعوب أن الله هو لهم فقط ، وهو خاص بهم دون غيرهم وذلك مثل إله بني إسرائيل .
(2) الظاهرة القرآنية : ص100.
(3) المصدر السابق :ص100 ،ص101 .(1/113)
وإذا كان ابن نبي يرى أن العنصر الأخير وهو محاولة التخلص من الدعوة، ولكنه يرى أن هناك دافع خارج عن ذاته يدفعه لحمل الدعوة، وهذا هو العنصر الجوهري في الحالة الداخلية للنبي حيث يحدد سلوكه الذي يتمسك به في المستقبل(1) ذلك العنصر له بعض القهر بالنسبة لذات إرميا،إذ هو ينتصر تماماً على مقاومته، ثم يحمل متاعب الدعوة(2).
وهناك قهر آخر وهو أحكام إرميا على أحداث عصره، والحق أن النبي قد حكم على هذه الأحداث على نحو يختلف تماماً عن أحكام معاصريه، وطريقته الفذة في النظر إلى الأشياء صدقتها الأحداث بشكل عجيب، ويتساءل ابن نبي هل يجب أن تعزى هذه النظرة العميقة إلى مواهب شخصيه، أي إلى مقدرة هائلة على الاستنتاج، وذوق نقدي نادر لمجرى التاريخ ؟!.(3)
ثم بعد هذا التحليل ، يستخلص ابن نبِّي خصائص النبوة ، لدى كل الأنبياء وهي:
1ـ صفة القهر من قبل الله للنبي، وذلك بإقصاء كل الشكوك لدى النبي من كون ما يراه أو يسمعه قد يكون جنوناً أو هواجس شخصية، ثم التأكد الكامل أن هذا من عند الله عزّ وجل ثم يتبع ذلك بالعمل والسلوك الجديد في السير في مجال الدعوة والثبات عليها.
2 ـ حكم صائب على أحداث المستقبل، يمليه نوع من القهر الذي ليس له أي أساس منطقي إن حكم النبي- صلى الله عليه وسلم - على المستقبل ليس ذاتياً، بل هو وحي من الله العالم بكل شيء فالحكم ليس من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر : المصدر السابق :ص103 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص104.
(3) انظر : الظاهرة القرآنية : ص105 .(1/114)
... ويرى الباحث أنه كان لزاماً على ابن نبي أن لا يصف أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مقهور عليها بل هي وحي من الله عزّ وجل عليه قبوله وتحمل أمانة الرسالة، وإن مفهوم القهر لا يجوز له إطلاقه على ذات النبي لأن ذلك يوحي بعدم إرادته لتحمل أعباء الدعوة، وإن كل أمر من الله عزّ وجل على الإنسان المؤمن أن يتقبله، لأنه في نهاية الأمر هو أمر تعبدي علمه عند الله وإن إرادة الله عزّ وجل لا تدخل ضمن مقاييس البشر.
3ـ استمرار مظاهر السلوك النبوية، وتماثلها الظاهر والخفي عند جميع الأنبياء.
... ويرى أنه من الصعب تفسير ظاهرة النبوة، تفسيراً ذاتياً شخصياً، ويخلص إلى أنه لا يمكن إلاّ أن نضعها خارج الذات، ومستقلة عنها(1).
... يرى الباحث أن ابن نبي قد أراد أن يفرّق بين النبي والمتنبي، فأخذ فكرته من أحد أنبياء بني إسرائيل؛ لأن كتابه كان يجادل فيه أفكار المستشرقين من اليهود والنصارى، وبم أنه كان يريد إثبات نبوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فلابد من تطبيق ما توصل إليه علىأفعال وأقوال النبي- صلى الله عليه وسلم - والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص107 ،ص108 .(1/115)
... ويمكن تطبيق خصائص النبوة كما يراها ابن نبِّي من خلال دراستنا للسيرة النبوية الخاصية الأولى: جاء في السيرة النبوية عن حادثة اللقاء الأول بين جبريل عليه السلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه في غار حراء وقال اقرأ ثم خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الغار حتى إذا كان في وسط الجبل سمع صوتاً من السماء يقول له يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فظن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البداية أن هذا هاجس من الشيطان(1)، ويفهم ذلك مما ورد في السيرة والأحاديث فقد جاء فيها " أنه قد حدّث عن خديجة رضي الله عنها أنه قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال نعم قالت : فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل - عليه السلام - كما كان يصنع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة، يا خديجة هذا جبريل قد جاءني قالت : قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، قالت فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عليها قالت هل تراه قال نعم، قالت: فتحول فاجلس على فخذي اليمنى، قالت: هل تراه؟ قال نعم قالت: فتحوّل فاجلس على حجري، قالت فتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس على حجرها، قالت هل تراه؟ قال نعم ، قال فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت يا ابن عم، اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان".(2) ...
__________
(1) السيرة النبوية : لابن هشام : ط دار إحياء التراث العربي بيروت ، 1/ 253 .
(2) المصدر السابق : 1 / 255 .(1/116)
... يفهم مما سبق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد شك في نفسه ظاناً أن ما جاءه هو شيطان رغم ما سمعه من تعريف جبريل له بنفسه، ويلاحظ من كلام خديجة - رضي الله عنهم - عنها أنه قد أسرّ لها بهواجسه، فقامت بعملية اختبار؛ لأن الملك لا يظهر في بعض الأماكن وعند بعض الكيفيات التي يقوم بها الإنسان، فتأكدت أنه ملك وليس بشيطان، ثم أتبع ذلك بالعمل في طريق الدعوة وذلك عندما نزل قوله الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) (1) وقوله تعالى( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر وَأَعْرِضْ عَن الْمُشْرِكِينَ )(2) وهذه هي المرحلة الأولى في عملية الاقتناع الذاتي، ويريد ابن نبّي أن يقول للمستشرقين أن هذه الخاصية قد استنبطها من خلال أقوال النبي الذي يؤمنون به، وقد انطبقت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذا يجب أن يؤمنوا به.
__________
(1) سورة المدثر : آية : 1، 2، 3 ،4 .
(2) سورة الحجر : آية : 94 .(1/117)
... الخاصية الثانية: وهي الحكم على أحداث المستقبل فقد كانت جلية واضحة، فقد حكم الرسول- صلى الله عليه وسلم - في بداية الدعوة على أمر مستقبلي، حيث كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة، يقولون إن الروم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فنزل قول الله تعالى : ( غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )(1) وتم النصر للروم بعد أقل من تسع سنين(2) وهناك أدلة كثيرة عن إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمور غيبية، وقد تحققت وقد أثبتهما القرآن الكريم والسنة النبوية.
... الخاصية الثالثة:وهي مظاهر السلوك النبوي، فقد كان واضح من خلال سيرته العطرة ومنها: ما رواه الأمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: ( كنت مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله، قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت رسول الله ثم ضحك ثم أمر له بعطاء ) (3).
... وهناك عشرات الأحداث التي تبين أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال سيرته العطرة وأحاديثه الكثيرة.
__________
(1) سورة الروم : آية :1 ـ 5 .
(2) انظر : النبأ العظيم : ص49 .
(3) صحيح البخاري : كتاب اللباس ، باب البرود والحبرة والشملة ، حديث رقم 5809 ، انظر متن فتح الباري 10/ 388 ، انظر : سنن ابن ماجه : كتاب اللباس ، حديث رقم 3543 ، مسند الإمام أحمد ، مسند المكثرين ، حديث رقم 12090.(1/118)
... ولذلك يرى الباحث أنه يجب على المستشرقين من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بأن الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم - هو رسول حق وهو خاتم النبيين، وإلّا فإنهم لا يؤمنون حتى بأنبيائهم الذين يصدّقون بهم.
المبحث الرابع
موقف المستشرقين من القرآن
لقد ادّعى المستشرقون أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أنشأ وضع القرآن الكريم وألفّه، ولقد قال ذلك من قبلهم مشركو مكة، وأول من قال وادعاه من المستشرقين المستشرق (جورج سيل)(1) في مقدمة ترجمته الإنجليزية لمعاني القرآن التي صدرت عام 1736 م حيث قال: "وأمّا أن محمداً كان في الحقيقة مؤلف القرآن، والمخترع الرئيسي له فأمر لا يقبل الجدل وإن كان من المرجح ـ مع ذلك ـ إن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته، هذه لم تكن معاونة يسيره ".(2)
وحاول بعض المستشرقين أن يجدوا مصادر اعتمد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تأليفه للقرآن، فمثلاً يرى " ريتشارد بل " مؤلف كتاب مقدمة القرآن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمد في كتابته للقرآن على الكتاب المقدس أي اعتمد على مصادر يهودية ونصرانية ".(3)
لقد قام مالك بن نبي بمناقشة المستشرقين في دعواتهم تلك، واتجه كما هي عادته بوضع فرضين بناء على ادعاءات المستشرقين ثم يقوم بتحديد موقفه من خلال دراسة هذين الفرضين.
الفرض الأول:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تشبع ـ دون علم ـ بالفكرة التوحيدية، التي ربما تمثلها لا شعورياً قي عبقريته الخاصة، كيما يفيضها بعد ذلك في آيات القرآن.
__________
(1) جورج سيل : هو مستشرق إنكليزي كان يحترف المحاماة تعلم العربية وحصل على مجموعة وافرة من مخطوطاتها وعني بتاريخ الإسلام له بالإنجليزية كتاب ترجمة القرآن ، وهو أول من حاول ترجمته إلى هذه اللغة كاملاً ، انظر الأعلام ، 2 / 146 .
(2) الاستشراق والخلفية الفكرية : ص83 .
(3) المصدر السابق : ص84 .(1/119)
الفرض الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تعلم الكتب المقدسة، اليهودية والمسيحية، تعلماً مباشرأً وشعورياً، لكي يستخدم ذلك فيما بعد في بناء القرآن ". (1)
ومن خلال هذا التقسيم يتضح أن ابن نبي وضع الفرض الأول بناءً على قول المستشرقين: أن محمداً هو مؤلف القرآن، ووضع الفرض الثاني بناءً على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمد على الديانتين اليهودية والنصرانية، من الكتاب المقدس.
وفي معرض نقاشه للفرض الأول، فإنه يقسّمه إلى أمرين:
الأمر الأول: وجود تأثير يهودي مسيحي في الوسط الجاهلي.
الأمر الثاني: الطريقة التي تسنى بها التأثير، أن يبرز في الظاهرة القرآنية.
... يبدأ ابن نبي بدراسة الأمر الأول، من خلال دراسة البيئة العربية قبل الإسلام، على أساس أن صورة هذه البيئة تنعكس في الأدب الجاهلي الذي يوضح أمية عامة آنذاك، فهي بيئة أميين وحسب المصدر الذي يعتبره تاريخياً موثوقاً به، وهو القرآن الكريم حيث قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )(2) ويتحدث على أن الثروة الفكرية، والأدب الشعبي الذي كان سائداً في العصر الجاهلي لم تحفظ إلا بطريق الرواية المشافهة، ويخلص إلى أن القرآن الكريم يعتبر حجة مخطوطة ذات وثاقة تاريخية عن العصر الجاهلي لا تقبل الجدل وتؤيدها الرواية المشافهة، إنها لا تعطي أي إجابة عن وجود فكرة توحيدية ذائعة في الوسط الجاهلي ، بل تؤكد على أنه لا وجود لأي تأثير ديني في العصر الجاهلي. (3)
__________
(1) الظاهرة القرآنية : ص307 .
(2) سورة الجمعة :آيه : 22 .
(3) الظاهرة القرآنية : ص308 ، ص 309 .(1/120)
... وهو يوضّح أن معنى هذه الآية قد أكدت بإسهاب في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(1) وقد عقد ابن نبّى مقارنة بين قصة يوسف في القرآن والتوراة، خلص منها إلى تأكيده خلو البيئة العربية من أي تاريخ توحيدي(2) وبناء على ذلك يؤكد نقضه الواضح للأمر الأول من الفرض الأول" بانعدام أي تأثير يهودي مسيحي في الحياة الجاهلية ، وهو ما أكده القرآن بقوة وأيدته الأخبار المتواترة ".(3)
ثم يقوم بالاستدلال على ذلك من خلال أبحاث قام بها بعض النصارى هدفها تحديد مدى مساهمة (شعراء النصرانية في الجاهلية ) ولم يجدوا لهم أي تأثير يذكر، وتأكيداً لذلك فإنه " لم يثبت أن كان بمكة أو ضواحيها، أي مركز ثقافي ديني، ليقوم بنشر الكتاب المقدس"(4)
__________
(1) سورة هود : آية : 49 .
(4) يذكر الأستاذ عبد الصبور شاهين ، أن المقصود بالتاريخ التوحيدي ، ما يتصل بالأديان المنزلة ، لا ما يتصل بفكرة الألوهية ، التي كان العرب ملمين بها في ثنايا إشراكهم بالله ،وهو ما تدل عليه الآية الكريمة ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) انظر هامش الظاهرة القرآنية ص 308 .
(5) الظاهرة القرآنية : ص310 .
(4) الظاهرة القرآنية : ص310 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص310 .
(3) سورة آل عمران: آيه : 93 .
(4) انظر : الظاهرة القرآنية : ص311 .
(5) صحيحالبخاري :كتاب تفسير القرآن ، باب ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا )حديث رقم 4485 انظر فتح الباري 8 /26(1/121)
مع أنه كان يوجد بعض الحنفاء، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان حنيفياً قبل بعثته، والآيات تثبت جهله بالكتب المقدسة قبل بعثته، وإن وجود الحنيفي كانت حالة نادرة في بيئة مشركة(1) بل يتجه ابن نبّي في تحليله إلى القول: أنه حتى لا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس آنذاك حتى القرن الرابع الهجري، مستدلاً على ذلك من توجه الإمام الغزالي إلى مخطوط قبطي في تحرير كتابه ( الرد على من ادعى ألوهية المسيح بصريح الإنجيل ) واستشهد على ذلك بقول للأب شدياق الذي أخذ يبحث عن المصدر الذي اعتمده الإمام الغزالي، فذكر أن أول نص مسيحي ترجم إلى العربية كان مخطوطاً بمكتبة القديس بطرسبرج كتب حوالي سنة 1060م بيد رجل يدعى ابن العسال، وبهذا يثبت أنه لم يكن توجد ترجمة للإنجيل في العصر الجاهلي من باب أولى.(1/122)
... وفي رده على وجود ترجمة للعهد القديم، يستخدم القرآن الكريم كوثيقة تاريخية، ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )(1) ثم يأخذ في الاستفهام الاستنكاري أفليس هذا دليلاً على أنه لم يكن يوجد من يقرأ العبرية من العرب، وعلى أنه لم توجد ترجمة عربية للتوراة(2) والدليل على ذلك ماروي عن أبى هريرة - رضي الله عنهم - قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولا آمنا بالله وما أنزل إلينا )(3) ومما يدل أيضاً على أن العرب لم يكونوا يقرأون التوراة لأنها لم تكن مترجمة ما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -(أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة زانية فقال لهم كيف تفعلون بمن زنى قالوا نحممهما ونضربهما فقال لا تجدون في التوراة الرجم فقالوا لا نجد فيها شيئاً فقال لهم عبد الله ابن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدرّسها الذي يدرّسها منهم كفّه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن آية الرجم فقال ما هذه فلما رأوا ذلك قالوا هي آية الرجم فأمر بهما فرجما )(4)
__________
(4) صحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن ، باب ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) حديث رقم 4556 ، انظر فتح الباري 8 / 103 انظر : سنن أبى داود : كتاب الحدود ، حديث رقم 3856 .
(2) انظر : الظاهرة القرآنية :ص 312.
(3) المصدر السابق : ص312 ـ313.
(4) سورة : البقرة : آية :23.
(5) سورة هود : آية : 13.(1/123)
وبعد ذلك يخرج بنتيجة واضحة مفادها، عدم وجود أي تأثير لليهودية والمسيحية في البيئة الجاهلية آنذاك لانعدام المصادر المكتوبة لهاتين الديانتين آنذاك بحيث يصبح من المستحيل حدوث امتصاص لا شعوري للذات المحمدية ، في الوسط الجاهلي.(1)
... ... ويرى الباحث أنه من خلال الأدلة السابقة من الأحاديث فإنه لم يكن في مكة أي وجود للتوراة أو الأناجيل، والدليل واضح من أن الأحاديث التي تحدثت عن اليهود والنصارى كانت في المدينة، وأيضاً لو كان هناك وجوداً لهما في مكة لتهّود أو تنصّر بعض أهلها وهذا تاريخياً لم يوجد، أو لأخرجوها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي معرض نقاشه للفرض الثاني، فهو يضع احتمالين:
1ـ أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ربما كان قد تعلم بطريقة منهجية كيما يؤلف أو ينظم القرآن.
2ـ أنه ربما كان قد تعلََّم أو عُلِّم ، ثم استخدم لا شعورياً المادة التي حصلت في يده.
... فإن ابن نبي يستبعد الاحتمال الأول من الاعتبار، وذلك بسبب إخلاص ذات النبي- صلى الله عليه وسلم - واقتناعها الشخصي(2)،وإن كان قد تعلّم فمن الذي علّمه، وقد تحدّى الله الإنس والجن بما فيهم كبار العلماء أن يأتوا بسورة أو عشر سور من القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )(3) وقال تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )(4).(1/124)
وفي الاحتمال الثاني وقف كثيراً عند كلمة لا شعورياً، على اعتبار أن تعلَّم محمد الشخصي كأنه حالة إدراك منسية لدى المتعلم نفسه، ويؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذا ذاكرة قوية جداً، وإذا كان عدم التذكر جزئياً ومقتصراً على مصدر تعلّمه الكتب، وأن حالة هذا النسيان من الصعب تصديقها، حين نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتذكر موضوع هذا التعلم تذكراً كاملاً كقصة يوسف - عليه السلام -، وإن موضوع سيدنا يوسف - عليه السلام - ليس صورة مكررة من التوراة وأيضاً المصادر العربية للتعلم غير موجودة إطلاقاً.
... ومن الناحية التاريخية إذا كان هذا المصدر قد وجد لتعليم النبي- صلى الله عليه وسلم - فإنه لن يكون سوى مصدر شفهي غير مكتوب، لكي يكون في متناول أمّي، بمعنى وجود ملقن دائم يهمس للذات المحمدية، ومن ذلك كله يستنتج مالك بن نبي عدم وجود تأثير يهودي أو نصراني في القرآن الكريم. (1)
... ومن هنا فإن دعوى الاقتباس من التوراة مرفوضة، لأن المقتبس لابد له من موقفين أحدهما أن يأخذ الفكرة كلها والثاني: أن يأخذ جزء الفكرة، والقرآن قد عرض الوقائع عرضاً يختلف عن التوراة، وأضاف جديداً لم تعرفه وصحح أخطاء خطيرة وردت فيها، وانفرد بذكر مادة خاصة به وأكبر مثال على توضيح رفض الاقتباس شواهد من قصة يوسف - عليه السلام - .(2)
أولاً: نصوص التوراة:
__________
(1) انظر : الظاهرة القرآنية : ص312 ،ص 313 ،ص314 .
(2) انظر : الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي : عبد العظيم المطعني ، دار الوفاء المنصورة ، ط1 عام 1987م ص314 .(1/125)
... " وحدث بعد هذه الأمور أن إمرأة سيده رفعت عينيها، وقالت : اضجع معي، فأبى وقال لامرأة سيده، هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت، وكل ماله قد دفعه إلى يدي، ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئاً غيرك لانك امراته، فكيف أصنع هذا الشر العظيم ، وأخطيء إلى الله، وكان إذا كلمت يوسف يوماً فيوماً أن لم يسمع لها ان يضطجع بجانبها ليكون معها.
... ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك فامسكته بثوبه قائلة اضطجع معي فترك ثوبه في يدها وخرج إلى خارج، وكان لمَا رأت أنه ترك ثوبه في يدها، وهرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا دخل إلىّ ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم، وكان لمّا سمع أني رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه وهرب وخرج إلى خارج، فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل إلىّ العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني وكان لمّا رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج فكان لمّا سمع كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمى، فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك
محبوسين فيه ".(1)
ثانياً : آيات القرآن الكريم:
__________
(1) سفر التكوين : الإصحاح (39 ) الفقرات من ( 7_ 19 ) .
(2) سورة يوسف : آية : 23 ، 34 .(1/126)
... ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاي َإِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَوَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ، وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ(1/127)
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ).(1)
... وبعد النظر الفاحص في المصدرين يرينا ابن نبي أنهما لم يتفقا إلا في أصل الواقعة، ويختلفان بعد ذلك في كل شيء ، فالقرآن قد أورد جديداً لم تعرفه التوراة، ومن أبرز هذا الجديد.
... 1ـ حديث النسوة وموقف المرأة منه .
... 2ـ شهادة الشاهد، الذي هو من أهل امرأة العزيز.
... كما أن القرآن قد قام بتصحيح أخطاء وقعت فيها التوراة ومن أبرزها.
... 1ـ لم يترك يوسف ثوبه لدى المرأة، بل كان لابساً إياه، ولكن تمزق من الخلف.
... 2ـ غياب يوسف حين حضر العزيز وإسقاطها دفاعه عن نفسه. (2)
... ... يرى الباحث أن ابن نبي استطاع أن يرد على المستشرقين بمنطقهم العقلاني وذلك من خلال استخدام القرآن كوثيقة تاريخية، ومن خلال الواقع العملي لأخلاق الرسول- صلى الله عليه وسلم - وقد أبطل زعمهم أن القرآن مقتبس من الإنجيل والتوراة . ...
الباب الثالث
موقف مالك بن نبي من المذاهب الفكرية المعاصرة.
الفصل الأول: موقف مالك بن نبي من الرأسمالية.
الفصل الثاني: موقف مالك بن نبي من الديمقراطية.
الفصل الثالث: موقف مالك بن نبي من الماركسية الشيوعية.
الفصل الرابع : موقف مالك بن نبي من القومية.
الفصل الأول
موقف مالك بن نبي من الرأسمالية.
المبحث الأول: الرأسمالية تعريفها أسسها.
المبحث الثاني: مناقشة مالك بن نبي للرأسمالية ونقده لها.
المبحث الأول
الرأسمالية تعريفها وأسسها
تعريفها :
__________
(2) انظر : الظاهرة القرآنية : ص261 ، 262 . انظر : الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي ، ص546 .(1/128)
الرأسمالية هي " نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية يقوم على أساس تنمية الملكية الفردية، والمحافظة عليها، متوسعاً في مفهوم الحرية" (1) يرى ابن نبي أن مصطلح رأس مال ليس من المصطلحات الإسلامية، ولا علاقة له بمفاهيم الفكر الإسلامي، ولكي يفهم هذا المصطلح، لابد من فهم المعنى الحركي العملي له، قبل أن يوجد كمذهب اقتصادي.(2)
ويبدأ دراسته لهذا المفهوم من خلال التفريق بين الثروة ورأس المال، فالثروة عنده هي المكاسب التي يكسبها الإنسان من خلال العمل، ولكنه يخزنها فتبقى ثابتة ليس لها أي نشاط في الحركة الاقتصادية، فهي مستقرة لدى صاحبها، وليس لها أي عمل في البناء الصناعي، ولا في المجال التجاري لا في التصدير ولا الإستيراد، ولا غير ذلك من المجالات الاقتصادية، بعكس رأس المال.(3)
__________
(1) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة :ص231 ، انظر : " القاموس السياسي "ص692 ، انظر : "نظام الإسلام " ص24 .
(2) انظر : شروط النهضة : ص110 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص 110 .(1/129)
وأما رأس المال عنده: فهو المال المتحرك الذي ينشط في مجال الحركة الاقتصادية فيدخل في المجالات الصناعية من خلال التصنيع، وفي المجال التجاري من خلال التصدير والاستيراد، وبذلك يتسع في المجال الاجتماعي بمقدار حركته المحلية والعالمية في محيط أوسع وأشمل من المحيط الفردي، وأبعد من مقدار حاجاته الشخصي(1) فالثروة هي الأصل ومنها يخرج رأس المال فهي عملية تحول الكم إلى الكيف وذلك عن طريق تحويل المال الثابت إلى مال متحرك، فالظاهرة الاجتماعية هي التي حولت الثروة المتكدسة عند صاحبها إلى ما يطلق عليه رأس المال، وذلك من خلال الحركة ما بين بني آدم، فالواقع الاجتماعي لم يحدد رأس المال من حيث الكم الثابت، بل حدده من خلال الكم المتحرك ضمن عجلة الحركة الاقتصادية، فالمقدار البسيط من المال الذي ينشط في الصناعات، ويدخل ويخرج عبر الحدود يسمى رأس مال، والمقدار الكبير من المال الثابت المتقوقع في مكانه بلا أي نشاط هو ثروة والثروة ليس لها أي محيط اجتماعي مؤثر في أية حركة اقتصادية.
فمالك بن نبي يربط بين المال والبعد الاجتماعي وحركته الاقتصادية، فبمقدار قرب المال من الوسط الاجتماعي وتداوله في النشاط الاقتصادي يعتبر رأس مال وبمقدار بعده منه يعتبر ثروة متكدسة عند صاحبها.(2)
بداية الرأسمالية:
... يرى ابن نبي أن بداية مذهب الرأسمالية هو تكّون رأس المال، والتاريخ سجل تكونه مع ظهور الصناعات الميكانيكية، من خلال المواد الأولية، والمصانع التي تحولها إلى منتجات وسلع، والأسواق التي تصرف بها السلع جعلت للمال دوراً متسعاً ينتقل من بلد إلى بلد ليقيم شبكة علاقات اقتصادية بين البلدان، وهذا التوسع الاقتصادي وجد في تطوره مفهوماً اجتماعياً سمي بالرأسمالية.(3)
أسس الرأسمالية:
__________
(1) انظر : المصدر السابق ،: ص111 .
(2) انظر :شروط النهضة : ص112 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص111 ،ص 112 .(1/130)
... المذهب الرأسمالي له عدة أسس رئيسه، يتألف منها كيانه الخاص، وهذه الأسس هي:
1ـ مبدأ الملكية بشكل غير محدود.
... فهي الأساس الذي ينطلق منه الفكر الرأسمالي إلى كافة المجالات الاقتصادية وميادين الثروة المختلفة، وعلى هذا الأساس تقدس الرأسمالية حرية التملك، وتعتبر الملكية الخاصة حق مقدس، له الحق بغزو جميع قوى الإنتاج من الأرض والآلات، والبترول والمعادن والمباني وكل ما يتعلق بالمجال الاقتصادي والعمل على تحويله من ثروة إلى رأس مال. (1)
2ـ مبدأ الحرية بشكل غير محدود.
... فهي ترتكز على الأساس السابق، ومتعلقة به فلا ملكية بدون حرية، وعليه فهي الأساس الثاني للفكر الرأسمالي، حيث تدخل في كل المجالات الاقتصادية بكل صورها، من تملك واستغلال واستهلاك وتوزيع، حيث تحل المشكلة الاقتصادية عندهم على هذا الأساس ومنها تنبثق المفاهيم الاجتماعية من القيم والحقوق التي ينادي بها الفكر الرأسمالي. (2)
3ـ مبدأ الربح الحر.
... إن من أسس الفكر الرأسمالي أيضاّ البحث عن الربح المادي، بغض النظر عن القيم والأخلاق، فتحقيق الربح بالغش والكذب، وأكل أموال الآخرين بالاحتيال والربا واغتصاب أراضي الغير بالقوة، وبكل الطرق والأساليب القذرة، فهذا كله جائر ومقبول في فكرهم ما دام أنه يحقق ربحاً مادياً، فالربح من مرتكزات هذا المذهب ودعامته.(3)
المبحث الثاني
مناقشة مالك بن نبي للرأسمالية ونقده لها
__________
(1) انظر : اقتصادنا : محمد باقر الصدر ، دار التعارف للمطبوعات بيروت، ط 16 ، عام 1982 م ص 252 ، انظر : فلسفتنا محمد باقر الصدر ، دار التعارف ، بيروت ، ط 10 ، 1980 م، ص15 ، انظر : الموسوعة الميسرة : ص233 .
(2) انظر : اقتصادنا : ص270 ، انظر : الموسوعة الميسرة : ص233 ، انظر : فلسفتنا ، ص 15 .
(3) انظر : الموسوعة الميسرة : ص233 ، انظر : المسلم في عالم الاقتصاد : مالك بن نبي ، ط دار الفكر العربي ، بيروت ، ص36(1/131)
... لقد رفض ابن نبي الرأسمالية، لما ترتب عليها من آثار سلبية ونتائج خطيرة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، ووجه لها عدّة انتقادات.
... وتسهيلاً للدراسة، فإن الباحث سيضع آثار الرأسمالية السلبية ـ كما يراها ابن نبي ـ في نقاط:
1ـ الطبقية:
... يرى ابن نبي أن الطبقية هي نتيجة مباشرة من نتائج الرأسمالية، وظهر ذلك في أوروبا، حيث ظهور طبقة الرأسماليين وطبقة العمال نتيجة للثورة الصناعية(1) من خلال وجود الأموال في أيدي فئة قليلة من الرأسماليين المنتفعين التي تستغل أكثر الناس لمصالحها الخاصة، فتحدث صراعات داخل المجتمع، تنتج من اضطهاد طبقة لأخرى(2) فيرى المواطن الحر نفسه عبداً لمصالح كبيرة تتحد ضده (3) من خلال طبقة معينة أو بعض الأفراد في يدهم السلطة المطلقة على الحياة الاقتصادية، والترقيع من خلال بعض الضمانات التي تعطيها الرأسمالية للفرد، والتي تكون على حساب حرياته السياسية.(4)
2ـ الاستعمار:
... إن الرأسمالية تقوم على الحرية في الربح، وفكرة المنفعة المادية(5) وهو يرى ذلك من ألوان النشاط في المجتمع الصناعي الحديث، حيث تنمو في حدود الزمن المادي وتقوم بساعات عمل(6) ولذلك اتجهت الدول الرأسمالية إلى الاستعمار، لتحقيق الربح والمنفعة المادية، مما أدّى إلى استعباد البشر الآمنين، وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي، من خلال ظاهرة التجارة بالرقيق، من القارة الإفريقية، لكي يكونوا قرابين للعملاق الرأسمالي وبعد ذلك اتجهت إلى احتلال أراضي الغير بالقوة. (7)
__________
(1) انظر : شروط النهضة : ص112 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص113 .
(3) انظر : تأملات : ص83 .
(4) انظر : المصدر السابق : ص84 .
(5) انظر : المسلم في عالم الاقتصاد : ص16 .
(6) انظر : المصدر السابق : ص17 .
(7) انظر : اقتصادنا : ص277 ،ص278 .(1/132)
ويرى ابن نبي أن الرأسمالية تحدّد علاقاتها مع الآخرين، على اعتبارات اقتصادية بحتة قائمة على مفهوم الإنتاج والتوزيع، الخاضعين لمفهوم تحقيق المنفعة المادية للرأسماليين دون النظر إلى حاجات أفراد المجتمع الخاص بها، أو حتى النظر إلى حرية الدول الأخرى(1) فتتجه إلى استعمار البلاد الأخرى؛ لكي تأخذ منها المواد الأولية، وتقوم بتحويلها إلى سلع ومنتجات، ثم تقوم بتصديرها إلى نفس البلاد التي أخذتها منها, بحيث تجعلها سوقاً دائماً لها وتكون أسعار تلك البضائع مرتفعة جداً (2) ومن الطبيعي ظهور مقدار الربح الكبير، الذي يحصل عليه الرأسماليون في كلتا حالتي الاستيراد والتصدير حيث يحصلون على المواد الأولية بأثمان زهيدة، وقد تكون بدون ثمن أصلاً، وتعيده لها بأثمان باهظة، " فنشأت عن ظاهرة الاستعمار كثير من المحن والكوارث، والمآسي والمصائب"(3) والقتل والتدمير والإرهاب العالمي، ومن أمثلته اليوم ما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلدان.
3 ـ الربا:
... لقد بدأ الربا في الرأسمالية عندما بدأ " استثمار المال كوسيلة وحيدة لدفع عجلة الاقتصاد، فتلجأ إلى عملية تجميع الأموال وتركيزها في مؤسسات معينة وعلى رأسها البنوك لتقوم هي بتوزيعها وتوظيفها في القطاعات الإنتاجية المختلفة ، على أساس الربا في عمليتي التجميع والتوزيع "(4) حيث إنَّ الهدف من ذلك هو تحقيق أكبر نسبة من الربح المادي، بأقل الطرق خسارة، بل بدون خسارة أصلاً ، وبدون جهد.
__________
(1) انظر : المسلم في عالم الاقتصاد : ص23 .
(2) انظر : شروط النهضة : ص 111 ، انظر : الموسوعة الميسرة :ص 236 .
(3) فلسفتنا : بتصرف بسيط ص20 .
(4) شروط النهضة : ص42 .(1/133)
فتظهر بذلك سلطة المال إلى أكبر درجة ممكنة، بحيث لا يكون مجال لمفهوم القيم الإنسانية، ويصبح الدرهم والدينار والدولار ذا سلطة على مفاهيم الناس ومعاملاتهم،(1) ثم يتجه ابن نبِّي إلى توضيح موقف الإسلام من الربا على أساس أن الإسلام واضح بالنسبة لتحريم الربا ، وكل ما يتعلق به من وسائل تهدف إلى تنمية المال بهذه الطريقة، فكل معاملة تقوم على أساس الربا محرمة، والرأسمالية مؤسسة على التعامل الربوي في المجال الاقتصادي فكل تجاراتها ومعاملاتها المالية والنقدية تقوم على هذا الأساس، ويتركز الاقتصاد الرأسمالي في التعاملات البنكية عليه، مما يجعل المال يحقق لطبقة معينة أو لأفراد: السلطة المطلقة في المجال الاقتصادي، فالربا يحقق الاحتكارفي التجارة والصناعة بواسطة البنك الذي يتركز فيه رأس المال.
... ولكن الإسلام ليس فيه مجال لتركز المال في أيدي قليلة، بل يسعى إلى تجزئة المال عن طريق توزيع الميراث، وتحريم الربا، وإخراج الزكاة والصدقة والهبة، فليس في الإسلام للفرد سلطة مطلقة للنقد، بل حركة النقد مقيدة بالشرع، وملتزمة المقياس الشرعي القيمي،(2) فالإسلام حرّم الربا، قال تعالى:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(3).
4ـ الاحتكار :
__________
(1) تأملات :مالك بن نبي : ط دار الفكر ، دمشق ، ط عام 1985 م ،ص86 .
(2) انظر : تأملات : ص85 ،ص 86 .
(3) سورة البقرة : آية : ص 275 .(1/134)
الاحتكار هو جمع السلعة من السوق وانتظار ندرتها وغلائها ليبيعها بالسعر الغالي وذلك متأصل في الرأسمالية، وتظهر أكثر ما تظهر في المجال الصناعيّ عندهم، وذلك عن طريق احتكار صناعة شيء بتدمير جميع المصنوعات المنافسة، ثم التحكم في حركة السوق التجارية.(1)
ويرى مالك بن نبي أنه يدخل في معنى الاحتكار ما تقوم به الرأسمالية من عملية تقليل الإنتاج من أجل تحقيق الندرة في السوق، مما يؤدي إلى ارتفاع سعر السلعة المقصودة في السوق، ثم تعمل على إنزالها في السوق بالقدر الذي يبقى محافظا على أغلى سعر لتحقيق أكبر ربح مادي للرأسمالي المحتكر، بغض النظر عن حاجة الإنسان المستهلك لهذه السلعة(2) ولمّا كانت الرأسمالية تقوم على المنفعة المادية فالاحتكار من أسسها الفكريةالاقتصادية فهي " مذهب احتكاري قائم على أساس المنفعة ".(3)
ويقوم مالك بن نبي بتوضيح موقفه من الاحتكار من خلال بيان حكم الإسلام في ذلك، إن الإسلام يقاوم كل أنواع الاحتكار الكبيرـ لا كما هي في الرأسمالية التي تعمل على تقليل الانتاج من أجل ارتفاع الأسعارـ أو الاحتكار الذي يقوم على تخزين السلع انتظاراً لإرتفاع أسعارها، وسواء كان ذلك فيما هو ضروري من القوت أو فيما هو كمالي، فهو يقاوم كل احتكار يؤدي لارتفاع سعر السلعة.
__________
(1) انظر : النظام الاقتصادي : تقي الدين الننبهاني ط 2 ، ط القدس 1953 م ، ص161 .
(2) انظر : تأملات : ص84 .
(3) المسلم في عالم الاقتصاد : ص23 .(1/135)
والتحريم واضح من قول الرسول: (من احتكر فهو خاطئ )(1) والتشريع الإسلامي يدين كل صور الاحتكار يدل على ذلك الحديث المروي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصّروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمر )(2) فهذا الحديث يفيد تحريم الاحتكار حتى في أصغر صورة له، وهذه النصوص الشرعية لها تأثير في واقع التعامل الإسلامي الظاهر حتى لا تستعبد الأوضاع الاقتصادية الإنسان المسلم، أو يصبح المسلم مستبداً طاغياً يبحث عن الربح المادي فقط دون النظر إلى المقياس الشرعي في تعامله الاقتصادي. (3)
5ـ القيم:
__________
(1) صحيح مسلم : كتاب المساقاة ، باب تحريم الاحتكار في الأقوات ، حديث رقم 1605 ، 3 / 1227، انظر سنن الترمذي : كتاب البيوع ، حديث رقم 1188 ، سنن أبي داود : كتاب البيوع ، حديث رقم 2990 ، سنن ابن ماجه : كتاب التجارات ،حديث رقم 2145 .
(2) صحيح البخاري :كتاب البيوع : باب النهي للبائع أن لا يحفِّل الإبل والبقر والغنم ، حديث رقم 2150 ، انظر فتح الباري 4 / 514 ، انظر صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، 1789 ، صحيح مسلم : كتاب النكاح ،حديث رقم 2532.
(3) انظر : تأملات : ص87 .(1/136)
... يرى ابن نبي أن الرأسمالية لا تحترم القيم الإنسانية، حيث لم يعد هناك ترابط بين القيم الاقتصادية والأخلاقية، فلقد أهملت الرأسمالية هذا الترابط، وذلك بسبب نظرتها الإباحية للاقتصاد(1) وفي نقده لمفهوم القيم عند الرأسماليين، يوضح مالك أن الرأسمالية سوف تسقط في يوم من الأيام، حيث إن الرأسمالية لا تنظر إلا للمنفعة المادية فقط، فهي قد صنعت آلات ثم فقدت السيطرة عليها، فأصبحت الآلة تتحكم في المجتمع الرأسمالي وأصبحت حياتهم تقاس بالكم، وتحسب بالأرقام، وأضحت السعادة تحقيق المنفعة المادية وإشباع الشهوات الغرائزية ومن ثمّ ماتت الأخلاق والفضائل، وسادت الرذائل والقبائح والسرقة والربا والغش والتجارة بأعراض الفقراء، لقد صارت الحياة أرقاماً وأضحت السعادة مقيسة بعدد ما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (كم) يخضع الضمير فيه لنزعة الكمية، كما صار عصر النسبية الأخلاقية، لقد مات معنى الفضيلة المطلقة، يوم وجد بعض الناس في أنفسهم جرأة ليؤكدوا أن التجارة هي السرقة، ولقد قتلت عدداً كبيراً من المفاهيم الأخلاقية (2) وأصبحت الرأسمالية " إخطبوط يضاعف بصورة هائلة شهوة الإنسان إلى المادة، فليس للفطرة الإنسانية دخل في الحياة الجديدة ".(3)
...
...
...
الفصل الثاني
موقف مالك بن نبي من الديمقراطية
المبحث الأول: الديمقراطية تعريفها أسسها.
المبحث الثاني: مناقشة مالك بن نبي للديمقراطية ونقده لها.
المبحث الأول
الديمقراطية تعريفها وأسسها
أولاً: تعريفها لغة:
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص89 .
(2) انظر : وجهة العالم الإسلامي : ص117.
(3) وجهة العالم الإسلامي ص118.(1/137)
الديمقراطية كلمة يونانية، الأصل تتكون من مقطعين: الأول "ديموس" بمعنى شعب والثاني: " كراتوس" بمعنى حكم.(1)
ثانياً: تعريفها اصطلاحا:
" هي نظام سياسي اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة، وفق مبدأي المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات، التي تنظم الحياة العامة أمّا أساس هذه النظرة فيعود إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ".(2) ... والديمقراطية اصطلاح" يستعمل في الغرب في أغلب الأحوال بالمعنى الذي أعطته إيّاه الثورة الفرنسية، ويشمل المضمون الواسع لهذا المصطلح، حق الشعب المطلق في أن يشرع لجميع الأمور العامة، بأغلبية أصوات نوابه، وعلى هذا فإن إرادة الشعب التي انبثقت عن النظام الديمقراطي تعني أن هذه الإرادة ذات حرة، لا تتقيد مطلقاً بقيود خارجية، فهي سيدة نفسها، ولا تسأل أمام سلطة غير سلطتها".(3)
ثالثاً : أسسها :
... من خلال ما سبق من التعريفات، تتضح الأسس التي تبني عليها الديمقراطية، وهي:
1ـ مبدأ السيادة للأمة والأمة مصدر السلطات:
... إن هذا الأساس يتكون من نظريتين، الأولى نظرية السيادة، والثانية نظرية السلطة.
أـ تعريف السيادة:
__________
(1) انظر : القاموس السياسي ، ص680 ، انظر : النظم السياسية : ثروت أباظه ، دار النهضة العربية ، 1999م ، القاهرة ، انظر : المدخل في علم السياسية بطرس غالي ومحمود عيسى ، ط9 ، 1990م ، مكتبة الأنجلو المصرية ، ص267 .
(2) الموسوعة السياسية ، ج2، ص751.
(3) منهاج الحكم في الإسلام ، محمد أسد، ط5،، 1978م، دار العلم للملايين، ص47،ص 48.(1/138)
... "ظهرت فكرة السيادة أول ما ظهرت على لسان القانونيين الذين كانوا يدافعون عن سلطات الملك في فرنسا ضد البابا في العصور الوسطى، ويؤكدون أنه يتمتع بالسيادة الكاملة في مملكته، ولمّا قامت الثورة الفرنسية، تأكد الفصل بين الملك والسلطة السياسية وأصبحت الجماعة صاحبة السلطة ونسبت بعد ذلك للأمة بدل الملك"(1) " فالسيادة في النظام الديمقراطي المراد بها في الواقع؛ أنها ممارسة الإرادة وتسييرها في العلاقات جميعها وفي الأشياء، وإن أدق تعبير يصف واقع السيادة هو أنها: سلطة عليا يخضع لها جميع المواطنين، وهي دائمة وغير محدودة ، وتفرض نفسها على الجميع "(2) وما دامت السيادة للأمة معناه السيادة للشعب، فالشعب هو السيد، ولذلك فلا سيادة لأحد عليه فهو الذي يملك التشريع والتنفيذ.
ب ـ الأمة مصدر السلطات:
... إن الشعب لا يستطيع أن يباشر السيادة بنفسه، ولكن ينيب غيره في ممارستها ،فيلقي عبء الحكم ومباشرة السلطة على هيئات يختارها، ويترك لها مباشرة تلك السلطة العليا، فالشعب لا يقرّر بنفسه، وإنما يقتصر على اختيار نوابه الذين سيقررون باسمه ونيابة عنه فوجدت من ذلك نظرية: الأمة مصدر السلطات(3) والمراد بالسلطات هنا :
ـ السلطة التشريعية: ومهمتها إصدار التشريعات، وتعديل القائم منها أوإلغاؤها .
ـ السلطة التنفيذية: ومهمتها القيام بتنفيذ القانون العام، وإعلان الحرب أو انهاؤهاوإرسال الدبلوماسيين ، وإقرار الأمن الداخلي.
ـ السلطة القضائية: ومهمتها تنفيذ مسائل القانون الداخلي، وبمقتضاها يحق لولي الأمر معاقبة المجرمين، والفصل في منازعات الأفراد (4).
2ـ مبدأ المشروعية:
__________
(1) النظم السياسية : ص41 ، انظر : المدخل في علم السياسة : ص187.
(2) انظر : المدخل في علم السياسة : ص188 ،وانظر : النظم السياسية ص 38 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص17.
(4) انظر : المصدر السابق :ص282 .(1/139)
... تعريفه: هو" السيادة القانونية، وهي سلطة عليا تملك حق إصدار القوانين ، والأوامر النهائية في الدولة " (1) ولكي تتحقق سيادة القانون فلابد من وجود ضمانات لذلك منها:
أـ جمود الدساتير:
... الدساتير جمع دستور، وهو مجموع القواعد القانونية التي تبين شكل الحكومة ونظام الحكم فيها (2)، والدساتير الجامده لا يجوز تعديل أحكامها أو بعضها بعد مرور فترة من الزمن لأن ذلك يكون معقداً لأنه يحتاج لأغلبية خاصة لا تتوافر كثيراً، وهذا الجمود ليس له قيمة في البلاد ذات الدساتير المرنة كإنجلترا.(3)
ب ـ الفصل بين السلطات:
... إن الفصل بين السلطات " مبدأ قانوني يستند إلى اعتبار كل وظيفة من وظائف الدولة جزءاً منفصلاً ومستقلاً من أجزاء السيادة، حيث تتجزأ إلى سلطات مختلفة، وأن الأمة حينما تختار ممثليها تفوض بعضهم في ممارسة السلطة التشريعية، وبعضهم في ممارسة السلطة التنفيذية، وبعضهم في ممارسة السلطة القضائية " (4) " وهذا لا وجود له في واقع دول كثير، والبلاد التي تحرص عليه مثل أمريكا، فإن شخصية الرئيس فيها الثقل الأول ويمثّل الكونجرس الثقل الثاني، بغض النظر عن الفصل بين السلطات" (5).
ج ـ الرقابة القضائية:
... وذلك" بإعمال دستورية القوانين، وشرعية اللوائح لإبطال أو إلغاء، أو الامتناع عن كل نص يخالف النص الأعلى منه، وهي وسيلة جديّة وجادة، بيد أنها تفتقر إلى مستوى القاضي الرفيع! فضلاً عن أن البلاد التي لا تأخذ برقابة المحاكم نصاً تتردد كثير منها في التطوع للرقابة، ويقف جهدها في هذه الحالة عند حد الامتناع فقط، عن تنفيذ التشريع المخالف".(6)
3 ـ مبدأ الحقوق والحريات:
__________
(1) المصدر السابق : ص185 .
(2) المدخل في علم السياسة : ص186 .
(3) المصدر السابق : ص286 .
(4) النظم السياسية : ص299 .
(5) الإتجاهات الفكرية المعاصرة : علي جريشه، دار الوفاء للطباعة والنشر، ط3، عام 1990م، ص126 .
(6) المصدر السابق ، ص127.(1/140)
... لا شك أن الديمقراطية هي الواجهة السياسية للمبدأ الرأسمالي، أو بمعنى آخر هي نظام الحكم للرأسمالية، والرأسمالية تقوم على قاعدة فصل الدين عن الحياة قالوا: بمبدأ المساواة والحرية ويقوم هذا المبدأ على المساواة في الحقوق، وضمان الحريات الأربع فالمساواة هي: المساواة أمام القانون، والمساواة أمام القضاء، والمساواة أمام الوظائف والمساواة أمام الضرائب، وذلك بإيجاد نظام الحكم الديمقراطي الذي يحافظ عليها. ... والحريات الأربع هي: حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية الملكية، وحرية الشخصية.(1)
المبحث الثاني
مناقشة ابن نبي للديمقراطية ونقده لها
... إن نقد ابن نبي للديمقراطية ينصّب على السؤال، هل هناك ديمقراطية في الإسلام؟ هذا هو السؤال الذي يريد الإجابة عليه، فإن ابن نبي يقوم في معرض الإجابة بتقسيم الديمقراطية إلى قسمين: الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية
القسم الأول: الديمقراطية السياسية:
__________
(1) الاتجاهات الفكرية المعاصرة : ص130 .(1/141)
... إن ابن نبي يرفض إطلاق ديمقراطية الإسلام، على الواجهة السياسية للفكر الإسلامي، وذلك من خلال دراسته لمفهومي الإسلام والديمقراطية، مبيناً الأساس الذي يعتمد عليه في تحديد المصطلحات؛ لأنه يعتبر أنها مرتبطة بظروفها الخاصة وأيدلوجيتها. ... يوضّح ذلك بقوله: " إن مشكلة الربط بين هذين المصطلحين، هي المشكلة الأساسية في الموضوع"(1) لذلك لابد من تعريف كليهما، قبل دراسة مسألة الترابط بينهما، فيبدأ في بيان وقت دخول هذين المصطلحين في اللغة، بم تحمله من معان خاصة، لأنه يرى أن كل مصطلح كان في أي وقت ما هو إلا كلمة محدثة لها ظروفها الخاصة بها واتفاق بين واضعي ذلك المصطلح(2)، ولذلك يجب عليه أن يعطي توضيحاً لشخصية كل من هذين التعريفين، للتأكد من وجود أي نوع من القرابة أو الالتقاء، بينهما فيوضح أنه يجب عليه أن يعرّف المصطلحين، ما هو الإسلام وما هي الديمقراطية؟.
... يبدأ في دراسته ببيان وقت دخول هذه المصطلحات في اللغة العربية بما تحمله من دلالات خاصة، أي لابد من معرفة وقت حدوثها زمنياً، ضمن لغتها الخاصة، وضمن اللغة المنقولة إليها، أمّا بالنسبة للإسلام فهو يرى أنه مصطلح درج في اللغة العربية وهو يعرف بالضبط متى حدث، إنه قد حدث من ابتكار القرآن.
... ولكنه يوضح أن معرفته قليلة بالنسبة لما يخص مصطلح الديمقراطية، من ناحية دخوله في القاموس العربي كمفردة مستوردة، بل إنه لا يعرف أصلاً تاريخه في لغته الأصلية(3) ثم يأخذ في بيان الديمقراطية، من ناحية الاشتقاق اللغوي فإنه يقول: " إن أي قاموس اشتقاق في اللغة الفرنسية، يدلنا على أن الكلمة مركبة من مفردتين يونانيتين هما "ديموس" و "كراتس" وتعني سلطة الشعب، أو سلطة الجماهير أي بتعبير تحليلي موجز تعني سلطة الإنسان"(4)
__________
(1) تأملات : مالك بن نبي ،ط دار الفكر ، عام 1985 م ، ص62 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص62 .
(3) انظر : المصدر السابق :ص62 .
(4) تأملات : ص63 .
(2) صحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن ، باب ( إن الله عنده علم الساعة ) حديث 4777 ، انظر فتح الباري 8 / 512 ، انظر :صحيح مسلم : كتاب الإيمان ، حديث رقم 10 ، انظر سنن النسائي : كتاب الإيمان وشرائطه ، حديث رقم 4905 .
(3) انظر : تأملات : ص63 .
(4) انظر : المصدر السابق :ص 62 ـ ص 64 .(1/142)
وأمّا بالنسبة لتوضيح الإسلام فهو يقول :أنه لا يجد جواباً أفضل عن هذا السؤال من جواب النبي- صلى الله عليه وسلم - حينما سأله رجل عن الإسلام،فعن أبى هريرة - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوما بارزا للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال يا رسول الله ما الإيمان قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر قال يا رسول الله ما الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان )(1) فيقول: إنه بهذين التعريفين قد حدد معنى المصطلحين في أبسط معانيهما (2).
ثم بعد ذلك يخلص من هذين التعريفين إلى عدة نتائج منها:
أ ـ أن الصلة مفقودة بين المصطلحين بالنسبة للزمان والمكان.
ب ـ أنه نظراً لهذا التباعد من حيث التاريخ والجغرافية، فإنه من الممكن القول أنه ليس هناك ديمقراطية في الإسلام.
ج ـ أنه لا يوجد مقارنة أبدا بين مفهوم سياسي، يفيد مجمله تقرير سلطة الإنسان في نظام اجتماعي معين، وبين مفهوم ميتا فيزيقي، يفيد مجمله تقرير خضوع الإنسان إلى سلطة الله.
د ـ إن الآمر في الإسلام هو الله، أو بمعنى آخر الشرع، وفي الديمقراطية الإنسان أو بمعنى آخر العقل البشري، وكل باحث ينتهي من خلال ذلك إلى وجود تباعد كبير بين المصطلحين.(3)
... يرى الباحث أن ما توصل إليه ابن نبِّي في ذلك يعدّ استنارة في التفكير، وبياناً واضحاً للمفاهيم، وذلك لأن المصطلحات تفهم من وضع الواضع، لا من خلال فهم الناقل لها، فوضع المصطلح يرتبط بمكانية وزمانية أخرجته إلى حيز الوجود في مكانه الخاص ولذلك لا يجوز نقله أبداً إلى واقع آخر، أو ربطه بمفهوم آخر، وذلك من أجل تغيير مضمونه، فهذا يعتبر انهزاماً فكرياً في حلبة الصراع الفكري، لأن المصطلحات تكون نابعة من أيدلوجية خاصة، ولا يجوز نزعها عن أيدلوجيتها كي توضع زخرفةً لأيدلوجية أخرى.(1/143)
القسم الثاني: الديمقراطية الاجتماعية:
... يرى ابن نبى أن الإسلام نظام ديمقراطي من الواجهة الاجتماعية بشقيها الذاتي والموضوعي، موضحاً ذلك من خلال تقسيمها إلى ثلاثة شروط هي:
أ ـ " الديمقراطية كشعور نحو الأنا.
ب ـ الديمقراطية كشعور نحو الآخرين.
ج ـ الديمقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين وتنمية الشعور في الفرد".(1)
... ويؤكد ذلك بقوله: " فهذه الوجوه الثلاثة، تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية الذاتية والموضوعية، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقراطي، والعدة التي يستند عليها النظام الديمقراطي في المجتمع" (2) " والحقيقة العامة بالنسبة إلى الشعور الديمقراطي تبرز عندما نخلِّص الموضوع من قيود التاريخ والسياسة، ونعبر عن الأشياء بمصطلح علم النفس وعلم الاجتماع، ثم يوضح القانون العام لهذا الشعور" فالقانون العام بالنسبة إلى هذا الشعور، نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي، الحد الوسط بين طرفين كل واحد منهما يمثل نقيضاً للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد من ناحية أخرى، فالإنسان الحر أي الإنسان الجديد، الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحد الإيجابي بين نافيتين، تنفي كل واحدة منهما، هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية، و نافية الاستعباد" (3)
__________
(1) تأملات : ص64 .
(2) المصدر السابق : ص 66 .
(3) تأملات : ص66 .
(2) صحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب صحبة المماليك ، حديث رقم 1657 ، 3 / 1278، انظر : سنن أبي داود :كتاب الأدب حديث رقم 4500 ، مسند الإمام أحمد : كتاب مسند المكثرين من الصحابة ،حديث رقم 4553 .
(3) تأملات : ص70 .
(4) المصدر السابق : ص70
(5) المصدر السابق : ص71 .
(6) انظر : المصدر السابق : ص71 .
(7) النصدر السابق : ص76 .(1/144)
فاعتبر أن مفهوم الحرية، هو المقياس العام، الذي يقاس بها كون المبدأ ديمقراطي أم لا، ولذلك أراد أن يضفي على الإسلام مفهوم الحرية، لكي يصل من خلالها إلى توضيح أن الإسلام ديمقراطي.فيذكر أدلة من الحديث الشريف يعتبرها تدل على الديمقراطية الاجتماعية، عن عبد الله ابن عمر قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ) (1) وذلك ضمن العموميات التي يراها وهي نفي الأنا فيقول :"فالقضية إذاً عندما تتحدث عن الديمقراطية في الإسلام منوطة بهذه العموميات وهذا المرجع، أي العناصر الثلاثة التي قدمناها، على أنها شروط عامة لوجود الشعور الديمقراطي في أي بيئة" (2) وبناءً على ذلك يذكر سؤالاً هو" هل الإسلام يتضمن ويتكفل هذه الشروط الذاتية والموضوعية، أي هل يكوّن نحو الأنا ونحو الآخرين، الشعور الذي يطابق الروح الديمقراطي كما بيّنا " (3) وبذلك يتوجه إلى نسف ما قد كان أقره في التقسيم الأول للديمقراطية عنده، وهي الديمقراطية السياسية فيناقض نفسه بقوله إن: " الديمقراطية ليست مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور" (4) ثم يأخذ في الاستدلال على ذلك بذكر أن إنجلترا ديمقراطية دون وجود نص دستوري خاص بها، وقد يأتي جبّار فيلغي الدستور مثل نابليون، ولكن الديمقراطية لا تفقد معناها لأنها مرتبطة بشعور وبعادات وتقاليد(5) " وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية تشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور" (6) وعلى ذلك فإنه يرى أن الحرية والقيم والانفعالات والمقاييس موجودة في الإسلام ولذلك يقرر قائلاً: منذ الآن متاح لنا التقرير بشرعية الحديث عن الديمقراطية في الإسلام".(7)
__________
(7) تأملات : ص76 .(1/145)
والقول بأن الإسلام ديمقراطي لأنه يقرر تكريم الإنسان، فابن نبِّي يرى أن الإسلام ديمقراطي من الواجهة الاجتماعية، ويعود فينسف ما قاله عن الديمقراطية السياسية فيقول: أن الديمقراطية السياسية موجودة في الإسلام فيذكر في مجال الحكم قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(1) وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(2) ثم يعلق ابن نبِّي على هاتين الآيتين بقوله: " فعلى هذه الاعتبارات يصح القول بأن الحكم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وفي عمله" (3) ثم يذكر بعد ذلك قوله: " وعليه فالإسلام يبدو جمع موفق، من مزايا الديمقراطية السياسية، والديمقراطية الاجتماعية" (4) ثم يقرر بعد ذلك بقوله:" وهكذا يتبين أن المبادئ التي قررها الإسلام، في المجال السياسي والمجال الاجتماعي، ووضعها في أساس ما يمكن أن نطلق عليه الديمقراطية الإسلامية".(5)
__________
(1) سورة آل عمران : آية : 159 .
(2) سورة : الشورى : آية :38 .
(3) تأملات : ص 83 .
(4) المصدر السابق : ص84 .
(5) المصدر السابق : ص 87 .(1/146)
... ... يرى الباحث أن ابن نبي في دراسته لموضوع الديمقراطية، كان متأثراً بالفكر الرأسمالي القائم على أساس الحريات، ومفهوم الحرية قد ارتكز عليه كثيراً في دراسته للإسلام وعلاقته بالديمقراطية، وأن ابن نبي قد عاش في فترة الانهزامية الفكرية، حيث أخذ المفكرون القيام بإلصاق المصطلحات الغربية بالإسلام، وذلك اعتقاداً منهم أنهم بذلك يضيفون على الإسلام بعداً حضارياً، وهناك من المفكرين المسلمين من رفضوا هذا التناغم والالتقاء غير المرضي عنه، فرفضوا كلياً أن يوصف الإسلام بأنه ديمقراطي أو اشتراكي، فأراد ابن نبِّي أن يمسك العصا من الوسط كما يقال، فأخذ بالنظرة المبنية على وجهة النظر الرأسمالية ذات الحل الوسط، حيث قسّم الديمقراطية إلى أقسام، ليقول إن الإسلام ليس فيه ديمقراطية سياسية، بل ديمقراطية اجتماعية، ثم يدرس الديمقراطية السياسية من خلال المصطلح، ليقول إن الإسلام ليس فيه ديمقراطية، ثم يحاول أن يدرس الإسلام من الواجهة الاجتماعية فيقول إن الإسلام فيه ديمقراطية اجتماعية، ولكنه يقع في تناقض كبير عندما يصرح في نهاية دراسته أن الديمقراطية السياسية هي مصدر الإسلام، فإن الإسلام ديمقراطي حتى من جانب الحاكمية وذلك لعدم وضوح الفكر عنده فالخلاف واضح بين الشورى في الحكم الإسلامي والديمقراطية؛ لأن كل منهما مصطلح خاص مرتبط بفكر خاص، يحمل في مفهومه مبادئ ومرتكزات أساسية تتعلق بالقاعدة الفكرية، وسلطة الحكم لكل منهما.(1/147)
... ... فابن نبي قد ذكر ذلك بقوله: " فعلى هذه الاعتبارات يصح القول: بأن الحكم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وفي عمله" (1) ولو حاول الباحث أن يسأل ابن نبّى ما مصدر الديمقراطية ؟ وما مصدر الإسلام ؟ فإنه سيجيب بقوله إن الديمقراطية: " مفهوم سياسي يفيد مجمله تقرير سلطة الإنسان في نظام اجتماعي معين، والإسلام مفهوم ميتافيزيقي يفيد في مجمله تقرير خضوع الإنسان إلى سلطة الله"(2) يظهر من ذلك التناقض الواضح في كلام ابن نبي، فإن مصدرية الإسلام والديمقراطية ليست واحدة، فإن مصدر الإسلام هو الله أو الشرع ومصدر الديمقراطية هوالإنسان أوالعقل، ولا يمكن أن نعتبر المصدرية واحدة في كليهما، لقد كان على ابن نب ي أن لا يتأثر بالفكر الوافد، وأن لا ينهزم أمام الغزو الفكري في حلبة صراع المصطلحات، وأن يبين رأيه بوضوح أن لا ديمقراطية في الإسلام، وأن الإسلام هو عقيدة متكاملة، وهو منهج يشمل كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ..إلخ.
__________
(1) تأملات : ص63 .
(2) المصدر السابق : ص14 .(1/148)
... إن الإسلام مبني على العقيدة الإسلامية " القاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي هي قاعدة " لا إله إلا الله " التي تعطي حق الحكم والتشريع والعبادة لله الواحد الأحد ، قال تعالى: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايَعْلَمُونَ )(1) والقاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي الديمقراطي هي قاعدة " حاكمية وسيادة الشعب " فالديمقراطية تعبّد البشر لغير الله تعالى، تعبّدهم لفئة من البشر يمارسون حق الحاكمية والتشريع" (2) ، قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ )(3) وقال تعالى : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ).(4)
__________
(1) سورة يوسف : آية : 40 .
(2) واقعنا المعاصر والغزو الفكري : ص235 .
(3) سوزة الشورى : آية: 21 .
(4) سورة المائدة : آية : 49 ، 50.
(2) سورة النجم : آية : 3، 4.
(3) سورة النساء : آية : 59.
(4) سورة الشورى : آية : 10 .(1/149)
... إن مصدر الإسلام هو الله عز وجل قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى )(1) والحاكم الذي يرجع إليه في إصدار الأحكام إنما هو الله سبحانه وتعالى أي الشرع وليس العقل ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )(2) وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْه أُنِيبُ)(3) أمّا مصدر الديمقراطية هو الإنسان، والحاكم فيها الذي يرجع إليه في إصدار الحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح هو العقل البشري .
... وأن السيادة في الإسلام للشرع وليست للأمة، فهي لا تملك أن تشرع ولو حكماً واحداً والسيادة في الديمقراطية للأمة ، فهي التي تقوم بالتشريع عن طريق نواب تختارهم.(4)
ومما سبق يتضح أن هناك فرقاً واضحاً بين الديمقراطية والإسلام، وأنه لا يجوز تقسيم الديمقراطية تقسيمات تخالف الواقع الاصطلاحي المتعارف عليه عن الديمقراطية، فهي متعلقة بالحكم والنظام السياسي وليست متعلقة بالاجتماع .
الفصل الثالث
موقف مالك بن نبي من الماركسية الشيوعية.
... المبحث الأول : الماركسية تعريفها أسسها قوانينها.
... المبحث الثاني : نقد مالك بن نبي للمادية الديالكتيكية.
... المبحث الثالث : نقد مالك بن نبي للمادية التاريخية.
المبحث الأول
الماركسية تعريفها أسسها قوانينها
تعريفها:(1/150)
هي مذهب فلسفي مادي إلحادي، يرى أن الكون والإنسان والحياة مادة فقط، وأن المادة هي أصل وأساس الأشياء، ومن تطورها صار وجود الأشياء، ولا يوجد وراء المادة شيء مطلقاً، وأن هذه المادة أزلية، قديمة لم يوجدها أحد، وتفسر التاريخ تفسيراً مادياً، بحيث ترجعه إلى العوامل الاقتصادية، وصراع الطبقات.(1)
أسسها: ...
أولاً: المادية الديالكتيكية:
1ـ المادية:
اعتبار كل شيء في العالم مادي، وهم يقومون بتعريف المادة من وجهة النظر الفلسفية بأنها" واقع موضوعي، توجد خارج الوعي ويعكسها الوعي"(2) وعليه فإن تعريف المادة بأنها واقع موضوعي ـ أي خارجي ـ يحمل مغزى إلحادي عميق، باعتبار أن المادة هي الأول، وهي غير مخلوقة، ولن تزول ، بل هي السبب الداخلي النهائي لكل موجود فهي السبب الأول والأساس الأول لكل شيء.(3)
2ـ الديالكتيك:
... الديالكتيك الماركسي يؤله المادة، ويعتبرها الأصل الذي انبثقت عنه المشاعر والتصورات والأفكار والحقائق بما في ذلك الوعي أو الفكر أو الروح.
__________
(1) انظر : الموسوعة الميسرة : ص309 ، انظر : واقعنا المعاصر والغزو الفكري : ص253 ، انظر : تهافت الفكر الماركسي : ط1 عام 1981م ، دار الطباعة المحمدية ،ص 39 ، انظر : فلسفتنا : ص26، انظر : نقض الاشتراكية الماركسية : غانم عبده ط1981م ، بدون رقو طبعة ، بدون دار نشر ، ص8 انظر : نظام الإسلام : ص26 .
(2) أسس الفلسفة الماركسية : قا آنا ، سييف ، ترجمة عبد الرّزاق الصافي ، دار الفارابي ، بيروت ، ط 4 ، ص32 ، انظر : في المادية الديالكتيكية والتاريخية : يوغسلافسكي وآخرون ، دار التقدم ،ط الاتحاد السوفيتي عام 1975 م 113. انظر: المادية الديالكتيكية : ياخوت ، ط دار التقدم الاتحاد السوفيتي ، بدون رقم طبعة ، ص39. .
(3) انظر : المصدر السلبق : ص33 .(1/151)
... ويقوم الديالكتيك الماركسي على قوانين ثلاثة هي : 1ـ وحدة الأضداد والصراع بينها 2ـ تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية 3ـ نفي النفي (1).
المادية الديالكتيكية :
... فهي مادية لأنها تنطلق من المسألة الأساسية في الفلسفة، من نقطة انطلاق تقول أن المادة ـ الوجود ـ هي الأولى، وأن الوعي ثانوي، وأن العالم مادي يمكن معرفته بالنظر إليه كما هو في الواقع، وهي ديالكتيكية لأنها تنظر إلى العالم المادي، باعتباره في حركة دائمة وتطور وتجدد مستمرين ".(2)
ثانياً : المادية التاريخية:
إن هذا المصطلح يعرّفه الماركسيون بأنه" الوجود الاجتماعي، وهو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، ومعنى الوجود الاجتماعي هوالحياة المادية للمجتمع الذي هو نشاط الناس الإنتاجي والعلاقات الاقتصادية التي تنشأ بين الناس في عملية الإنتاج، والوعي الاجتماعي هو حياة الناس الفكرية، والأفكار والنظريات والآراء التي يسترشدون بها في نشاطهم العملي".(3)
__________
(1) انظر :واقعنا المعاصر : ص261 .
(2) أسس الفلسفة الماركسية : ص14 .
(3) المصدر السابق : ص153 .(1/152)
فموضوع المادية التاريخية هو الدور الحاسم لأسلوب الإنتاج في تطور المجتمع وهو الذي يؤثر في علاقات الإنتاج ومن ثم يحدد التغيير في صورة المجتمعات، أي أن الحياة المادية في المجتمع هي التي تحدد في النهاية هيئة المجتمع وأفكاره وآراءه وأوضاعه السياسية، وأسلوب الإنتاج عندهم يتكون من أدوات الإنتاج، والناس الذين يستعملونها ومعرفة استخدامها تؤلف بمجموعها قوى المجتمع المنتجة، فتؤلف قوى الإنتاج وهو الجانب الأول الذي يعبّر عن سلوك الناس نحو أشياء الطبيعة، أمّا الجانب الآخر فهو علاقة الناس فيما بينهم أثناء سير الإنتاج، فالمبدأ الماركسي يرى أن الواقع الاجتماعي يؤخذ من أدوات الإنتاج لأن المجتمع الإقطاعي مثلاً تكون فيه الفأس هي أداة الإنتاج، ومنها يؤخذ نظام الإقطاع فإذا تطورت أداة الإنتاج إلى الآلة تطور المجتمع إلى الرأسمالية، وسيأتي يوماً تصبح فيه أداة الإنتاج مشتركة فتكون الشيوعية.(1)
المبحث الثاني
نقد مالك بن نبي للمادية الديالكتيكية
مفهوم مالك بن نبي للمادية الديالكتيكية:
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص 164 ، ص 165 ، 167 ، 168 ، ، انظر : أصول الفلسفة الماركسية : جورج بوليزر ، تعريب شعبان بركات ، منشورات المكتبة العصرية ، صيدا بيروت ، 2/ 14 .(1/153)
يحاول ابن نبي الوقوف عند أولئك الذين يقدسون المادة، ويعلنون بكل صلف أن المادة هي أصل الكون والإنسان والحياة، وأنها لا أول لها ولا آخر، وأنها تخضع للتطور من داخلها فلا يوجد خالق ولا مخلوق، وإنما تطور ذاتي في المادة، لقد هاجم مالك بن نبي المادية لكونها القاعدة الفكرية للماركسية،؛ لأنه إذا تهافتت وسقطت، سقط البناء الفكري الماركسي كله ؛ لأن أفكارها، ومفاهيمها، وقوانينها، مبنية عليها ومن ثمّ يعرّف المادة عند الماركسيين يقول: "هي العلة الأولى لذاتها، وهي نقطة البدء في ظواهر الطبيعة، وبدهي أنه لا يحق لنا أن نعد المادة شيئاً عرضياً حادثاً، إذ أنها ستكون منبثقة عن بعض الأشياء، أي عن سبب خالق مستقل، وهذا يتنافى مع الفرض، وإذن وبكل بساطة هي موجودة، وهي غير مخلوقة، وهكذا نتفق على أصل المادة مبدئياً ".(1)
وبهذا الكلام يريد ابن نبي أن يقرر أن مسألة أقدمية المادة وأزليتها هي مجرد فرض بحاجة للمناقشة، وهو قد ذكر فهمه للمادة من وجهة نظر الماركسية ، لينطلق من خلاله، في عملية التحليل والمحاورة، وأنها في أصلها تكون بسيطة ومتجانسة تجانساً تاماً(2) ومن خلال ذلك يريد أن يهتم بمفهوم تطور المادة على اعتبار أن الخاصة الوحيدة في المادة في مبدأ الأمر هي أنها كانت كماً معيناً أو كتلة، وأنها هي المؤثر الوحيد في عملية التطور، وذلك بتحول الكم ـ من خلال حركة ذاتية ضمن المادةـ إلى كيف جديد، بدون تدخل عوامل خارجية متنوعة.(3)
نقد مالك بن نبي للمادة:
أولاً: المادة والتنوع الجزئي:
__________
(1) الظاهرة القرآنية : ص79 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص80 .
(3) انظر : المصدر السابق : ص79 : ص80 .(1/154)
... إن ابن نبي قد استنبط من أقدمية المادة وأزليتها، مفهوم أنها كانت في حالة بساطة وتجانس تام، وأن التغير الذي يحدث لها يتبع عامل واحد ووحيد وهو الكم " ولكن التركيب الذري ـ الذي اكتشف العلم تنظيمه وتركيبه ـ يوحي بتدخل جزئيات متنوعة منذ البدء، مما يتنافى مع شرط البساطة والتجانس التام، والمادة من حيث أصلها في تحلل كلي وهي ـ كهربياً ـ متعادلة، أي لا توصف بأنها سالبة أو موجبة، فهي ـ مثلاً ـ كمية من النيترونات لا توجد بينها في ذاتها سوى علاقة تجاذب، فتنظيمها الذري في المستقبل سيكون مرحلة لتطورها، وتطورها هو الذي يؤدي إلى إظهار الجزئيات النووية: البوزيترون والميزوترون والإلكترون والقوى الكهربية الاستاتيكية المقابلة".(1)
... وهو بذلك يريد أن يبين أمرين، الأول: أن هناك تنوع في ذات المادة، وهذا يوحي بتدخل عوامل متنوعة، مما يبطل العامل الوحيد في التطور عندهم وهو الكم، كمؤثر وحيد.
... الأمر الثاني: أنه يوجد في المادة تنظيم دقيق، حتى في حالتها البسيطة، فمن أين جاء لها هذا التنظيم الذاتي؟ فشرط التجانس يتبعه فهم وجود نظام لهذه المادة، فمن أين جاء هذا النظام الدقيق للمادة.(2)
ثانياً: الذرة الأولى:
__________
(1) الظاهرة القرآنية : ص80 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص80 .(1/155)
... يتحدث ابن نبي عن موضوع ليس سهلاً تصوره، وهو إمكان تكوين الذرة الأولى وهو بذلك يريد أن يناقش أصل وجود الذرة الأولى للمادة وتكونها " إنه لمن الصعب أن نتصور كيف تكونت النواة الأولى من أجزاء من نفس النوع، وتسمى بنفس الاسم، وتتنافر بفعل قانون"(1)ولكن يسلّم جدلاً بإمكانية ذلك عن طريق الاندماج بين الجزئيات، بالنسبة للنواة الأولى وذلك في وقت واحد أطلق عليه اسم الاقتران الزمني، أو عن طريق التتابع من عنصر لآخر، ويذكر أن العناصر على حسب جدول ماندلييف (2) هي اثنان وتسعون عنصراً ثم يتحدث عن الاندماج من خلال الاقتران الزمني، فإن عنصراً واحداً يمكن أن يوجد طبيعياً بواسطة تدخل مؤثر واحد، ولكن ستبقى إحدى وتسعون حالة شاذة، لا يمكن أن يوجدها نفس المؤثر في نفس الوقت.(3)
__________
(1) المصدر السابق ،:ص80 .
(2) ماندلييف ، هو ديميري إيفانوفيتش مندلييف ، عالم كيميائي روسي ، ولد عام 1834م وتوفى عام 1907 م ،وقد اشتهر بالتصنيف الدوري للعناصر الكيميائية عام 1869 م. انظر : قاموس لاروس : LAROUSSE 2000ص1515 .
(5) الظاهرة القرآنية ، ص81 .(1/156)
ثم يحاول بيان الاندماج عن طريق التتابع " فإذا كان هناك تتابع في خلق المادة لعناصر الطبيعة، فمن الواجب تفسير تكون هذه العناصر على أنه مجموعة من واحد وتسعين تحولاً عنصرياً ابتداء من عنصر أولي، وليكن الإيدروجين" (1) ويتم ذلك عن طريق سلسلة واحدة بحيث تخلق المادة الأولى العنصر الأول، ثم تتوالد العناصر الباقية منه، أو عن طريق سلاسل متعددة، حيث تخلق المادة الأولى العنصر الأول الإيدروجين ومن هذا العنصر تتوالد عائلة من الأجسام البسيطة، يتسلسل منها مجموعة العناصر الباقية(2) ففي الحالة الأولى ذات السلسلة الوحيدة " تتطلب واحداً وتسعين تحولاً عنصرياً محدداً وبما أن كل عنصر يتشكل في الوقت الذي تبقى فيه العناصر التي سبقته، وهي على ذلك تتعرض لإحدى وتسعين حالة من التعادل الطبيعي الكيماوي المختلف، الذي يتضمن تدخل عامل مختلف أيضاً عن قانون الاندماج الأول، ولكننا افترضنا أصلاً أن هذا القانون وحيد، وأنه مستقل عن الزمان وعن سائر العوامل الحرارية الديناميكية، فلدينا إذن سلسلة مكونة من واحد وتسعين تحولاً عنصرياً تتولد من العنصر الأول، وهذه السلسلة لم تحظ بتفسير طبقاً لقانون واحد، وهذا يثبت ضعف المذهب المادي".(3)
ثالثا: التوالد الحيواني:
__________
(1) الظاهرة القرآنية : ص81 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص81 ، ص82 .
(3) المصدر السابق : ص82 ،ص 83 .(1/157)
إن المقصود من هذا المصطلح هو تكٌون الحياة الأولى، ثم كيفية التوالد من خلال العنصر الحيوي الأول وهي الخلية الأولى، فيقرر ابن نبِّي ما يذكره الماركسيون في تكون الإنسان الأول كفرضية ثم يناقشها فيقول: " فإذا نحن تتبعنا تطور المادة بعد أن أصبحت في حالة منظمة غير عضوية، ستصل إلى تحول عنصري حيوي، حيث ستصبح كمية منها عضوية حية هي البرتوبلازم، وعندما تتطور هذه المادة بدورها خلال سلسلة حيوانية معينة تصبح بناء على تحول عنصري جديد مادة مفكرة، هي الإنسان، ثم يذكر المعادلة التي يذكرها الماركسيون في كتبهم وهي:
مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيمائية = مادة حية الإنسان "(1)
وفي معرض نقده لهذه المعادلة التي تقرر مبدأ الحتمية المادية يقول:
1ـ إن هذه المعادلة تقر بوجود حتمية بيولوجية لا تستطيع العوامل المادية وحدها أن تبرهن عليها.
2ـ أن هذه المعادلة لا تعطينا تفسيراً لظاهرة التوالد الحيواني، حيث توجد مشكلة تخص النوع، التي لا يمكن أن ترى في الفرد، وإنما في الزوج: الذكر والأنثى، فإن هذه النظرية المادية لا تستطيع أن تقدم أي تسويغ لهذا الازدواج الذي يعد شرطاً لوظيفة التوالد الحيوانية.
3ـ إذا أريد الإقرار مبدئياً علي إمكان ذلك كحدث بيولوجي عرضي بالنسبة للرجل فكيف حدث ذلك بالنسبة للمرأة، وعلى فرض حدث مزدوج في أصل الخلية الأولى نتج عنه الزوج المتوالد الضروري لتناسل النوع الإنساني، فيكون من الصعب أن يقرر أن نتيجته كانت متسقة تماماً مع هدف وظيفة التناسل الواحدة المشتركة بين الذكر والأنثى.
4ـ ومن وجهة النظر الآلية: الثابت أن المادة تخضع لمبدأ ( القصور الذاتي ) خضوعاً تاماً فالمادة على هذا تعد استثناء من القاعدة؛ فإن الحيوان مزود بميزة تعديل وضعه بنفسه.(2)
رابعاً : غرائب المذهب المادي :
__________
(1) المصدر السابق : ص82 ،ص 83 .
(2) انظر : الظاهرة القرآنية :ص 83 ـ ص 85 .(1/158)
1ـ من الظواهر الغريبة التي تثبت ضعفه، ظهور بقع في بشرة الزنوج، فهل يمكن أن يعزى هذا إلى تأقلم عضوي في بيئات يؤثر عامل الشمس فيها تأثيرأً كبيراً ؟ مع كوننا نجد في نفس المستوى البشرة البيضاء والصفراء، فهل يمكن أن يعزى هذا إلى الغابة ؟ وفي هذه الحالة يجب أن تتلون بشرة الإنسان في البرازيل أيضاً.
2ـ وفي علم الفلك نصادف غرائب غامضة، في نطاق هذا المذهب، فقد كشف تحليل ألوان الطيف عام 1939 م لعالم الطبيعة ( هابل ) اتجاه حركة النجوم السديمية الخارجية عن سمائنا بالنسبة لعالمنا، فإن هذه السديميات تبتعد عن كوكبنا، فيما عدا ستة تقترب منه على عكس سالفاتها (1).
... أي أن هناك نظاماً دقيقاً مفروضاً على الكون يتحكم فيه، وهو ليس من المادة لأنها قاصرة عن التحكم في ذاتها، وبذلك يظهر سقوط المادية، وهكذا يقرر ابن نبّي أنه يوجد نقص وضعف، يثير عدم التوافق في مبدأ المذهب المادي " وهكذا تحتمل المادة في مجموعها ـ بالنسبة لنا ـ تفسيرين متعارضين، فإذا وضح أحدهما في ضوء قانون أساسي معين، فإن معنى الآخر يظل معلقاً ، وكل هذا الشذوذ الذي يتنافى مع الحتمية المادية المحضة ـ أساساً ـ يحتم إعادة النظر في بناء المذهب كله، فإن المبدأ الأساسي نفسه يبدو عاجزاً عن تزويدنا بنظرية متسقة عن الخلق، وعن تطور المادة(2).
المبحث الثالث
نقد مالك بن نبي للمادية التاريخية
__________
(1) انظر : المصدر السابق :ص 85 .
(2) المصدر السابق : 85 .(1/159)
إن العامل الوحيد في المادية التاريخية هو العامل الاقتصادي، ولذا فإن ابن نبي يركز عليه باعتباره الأساس والقاعدة عند الماركسية، فالقاعدة الفكرية للمادية التاريخية هو العامل المادي متمثلاً في العامل الاقتصادي، وعلى ذلك فقد رفض ابن نبي هذا العامل كعامل واحد ووحيد في عملية التغيير الاجتماعي، فالمادية التاريخية" تغفل بعض الأشياء الجوهرية في الظاهرة الاجتماعية وتغض من شأنها".(1)
نقد المادية التاريخية:
أولاً: العامل الاقتصادي:
... يبين أن العلاقات الموجودة في أي واقع، هي ليست علاقات إنتاج، بل هي علاقات تحمل في جوهرها قيمة فكرية ثقافية، يمثلها القانون الأخلاقي، موضحاً ذلك من خلال عادة الوأد في المجتمع الجاهلي، ودليله على وجودها، هو القرآن الكريم لا بصفته الدينية، بل كوثيقة تاريخية، مستدلاً عليها بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّن إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (2)، وقوله تعالى: ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم)(3) إن هذين النصين لا يدعان أدنى ريب فيما يتعلق بسبب نشأة عادة الوأد، فلقد كان للظروف الاقتصادية التي عاشها العصر الجاهلي، أكبر الأثر في نشأة تلك العادة الأليمة، إن لم تكن هي العامل الوحيد، ولكن النصين يعبران في الوقت ذاته عن قيمة خلقية معينة، في الوقت الذي تدخل فيه في حياة المجتمع ـ لا عن طريق الظروف الاقتصادية التي لم تكن قد تغيرت بعد ولكن مباشرة عن طريق النفس ـ لتحدث تغييره.
__________
(1) المسلم في عالم الاقتصاد : ص15 .
(2) سورة الأنعام : آية :151 .
(3) سورة الإسراء : آية :31 .(1/160)
ولكن إذا أردنا أن ندرس الآيتين اللتين تحدثتا عن الوأد أنه نتيجة للظروف الاقتصادية، التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي فإن هذا التفسير يؤدي بنا إلى تناقض صريح، إذ لا يمكن أن يحمل إثبات واقع اجتماعي معين، ونفي هذا الواقع على أسباب واحدة.
فلو قيل أن الوأد نشأ في البيئة الجاهلية بتأثير أسباب اقتصادية خاصة بذلك المجتمع فإن من العسير أن ينسب نفي هذا الوأد إلى تأثير العوامل الاقتصادية، ذاتها حيث أنها لم تتغير، وإذا كانت الآيتان إبطالاً للوأد ضمن واقع اقتصادي واحد، فهذا يجعلنا نقع في تناقض واضح إذا ما فسرنا عادة الوأد تفسيراً اقتصادياً، وعلى ذلك فإن القيمة الخلقية التي عبّر عنها هذا التشريع بتحريمها لا يمكن أن تكون ثمرة من ثمرات العامل الاقتصادي الناتج عن واقع المجتمع الجاهلي، الذي تحول إلى مجتمع إسلامي فهبّ فجأة لينتج حضارة رائعة منذ بدأ نشاطه يستقطب حول مجموع القيم الفكرية الخلقية لا حول المادة الجامدة، فالأفكار هي المؤثرة في عملية تغيير الواقع الاجتماعي لا المادة أو الواقع الاقتصادي، وهذا واضح من تغيّر مفاهيم الناس حول عادة الوأد مما ساعد على إبطالها مع وجود نفس الواقع الاقتصادي المادي.(1)
... ويضرب مثالاً آخر على سقوط هذا المفهوم من الواقع المعاصر ليأخذ منه دليلاً على أن التغيير في الظرف الاقتصادي لا يؤثر على التغيير في الواقع الاجتماعي، وذلك من خلال الواقع العربي فالبترول كقوة اقتصادية موجود، ولكنه لم يرفع المستوى الاجتماعي؛ أي لم يؤدي إلى وجود نهضة حضارية في هذه البلاد، ولذلك فالفكرة الماركسية مرفوضة ولا يمكن الأخذ بها.(2)
ثانيا: مفهوم الحاجة:
__________
(1) انظر : ميلاد مجتمع : ص45 ـ ص 48 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص30 ،ص 31 .(1/161)
في معرض نقده لهذا المفهوم فإنه يضرب الزواج كمثال على "علاقة اجتماعية جوهرية، وهي أول عقدة في شبكة العلاقات التي تتيح لمجتمع معين أن يؤدي نشاطه المشترك، ولو كان أمر الإنسانية يجري تبعاً لحاجة النوع، لكان مجرد الاختلاط بين الرجل والمرأة يتفق مع القواعد البيولوجية التي يخضع لها النوع، ولكننا نجد أن كل المجتمعات ـ بما فيها المجتمعات الماركسية نفسهاـ لا يتم فيها اتحاد الجنسين، إلاّ على أساس قيمة خلقية معينة، هي الزواج، الذي يبارك إتحادهما بإشهاره طبقاً لخطة دينية أو رمزية، وبهذا الإشهار يأخذ هذا الاتحاد معناه الاجتماعي باعتباره عقد يتفق مع غاية المجتمع لا مع حاجة النوع".(1)
ثالثاً: الأفكار:
إن ابن نبي يؤكد في ما يكتبه من نقد للمادية التاريخية، على دور الأفكار في عملية تغيير الواقع، فإن الثقافة الماركسية تهتم بعالم الأشياء وتقدس المادة، وكل اعتمادها على ذلك(2)
__________
(1) المصدر السابق : بتصرف بسيط ، ص 49 .
(2) انظر : مشكلة الأفكار : مالك بن نبي : ترجمة محمد عبد العظيم علي ، ط دار الدعوة ، ط 1 عام 1979 ، ص41 ، بتصرف بسيط .
(2) انظر : المصدر السابق : ص66 .
(3) انظر : آفاق جزائرية : مالك بن نبي ،ط2 ، عام 1971 م ، مكتبة عمّار ص55 .
(4) المصدر السابق : ص40 .
(5) انظر : مشكلة الأفكار : ص27 .(1/162)
وهذا يدل علي ضعف وقصور في الفكر الماركسي، لأنه كلما نضج الفكر يكون قد تعلق بعالم الأفكار، وكلما انحط الفكر يكون قد تعلق بعالم الأشياء، وهذا واضح في الماركسية، والصواب أن الأفكار هي التي ترسم النتائج الاجتماعية، ففي المجتمع الجاهلي مثلاً كانت عادة الرق والعبودية، وجاء الإسلام فتم إلغاؤها في مجال الأفكار، قبل مجال الأشياء، فهذا يدل على أن الذي يغير الأنظمة الاجتماعية والواقع هو الأفكار التي يحملها أصحاب المبادئ وليس وسائل الإنتاج كما تدعي الماركسية(1) فالمشكلة إذاً متعلقة بالإنسان، وخاصة المجال الفكري فيه، وأمّا المجال الاجتماعي للآلات منوط بسلوك الإنسان نحوها،(2) وإن كل سلوك للإنسان دائماً يكون مرتبطاً بمفاهيمه عن الشيء المتعلق به سلوكه، وعليه فإن أي تغيير اجتماعي لابد أن يسبقه تغيير فكري، " فعندما نريد أن نضع أصل النمو الاقتصادي للحضارة الراهنة موضعه، لا يتعين أن نضع هذا الاختراع أو ذاك ـ من مثل الآلة البخارية والبوصلة وآلة الطباعة ـ باعتباره مصدراً لذلك الأصل، ولكن الأصل هو جميع الظروف التاريخية التي تخلقت بها بذور الأفكار" (3)
وبذلك يقرر أن الأفكار هي التي تصنع المنتجات لا العكس؛ لأنها هي التي تعمل على التحكم في المادة وتكيفها كيفما تريد(4)ثمّ يضرب ابن نبي أمثلة من الواقع أيضاّ تبين تهافت الفكر المادي، وذلك في مفهوم وسائل الإنتاج، وكونه يؤثر على رقي الأفكار أو انحطاطها، وإن أهم وسيلة إنتاج هي الأرض، فهي الوسيلة المأمولة لضمان انطلاق مجتمع من مرحلة أولية إلى مرحلة ثانوية، وأكثر الأراضي خصوبة في العالم هي أراضي العراق وإندونيسيا، ومع ذلك لم تتمكن هذه البلدان من الانطلاق، مما يدل على وجود قصور حقيقي
عالم الأفكار، لا في عالم الأشياء، يظهر أثره في المجالين السياسي والاقتصادي.(5)
__________
(5) انظر : مشكلة الأفكار : ص16 .(1/163)
وابن نبي يرى أن الماركسية تقدّس وسائل الإنتاج المادية، وتعتبر أن الوجود الاجتماعي سابق على الوعي الاجتماعي، ولكنه يبين عكس ذلك، فيوضح سبق أثر الوعي الاجتماعي على الوجود الاجتماعي، فيرى أن أي نشاط حرفي يتم من خلال عنصرين منظورين هما الإنسان وأداته، وهذا النشاط لا يتم إلا من خلال عامل فكري يحمل سؤالين كيف ؟ ولماذا ؟ حتى لا يتم التصرف بعشوائية فتصبح المهمة مستحيلة، أو يتصرف الإنسان بدون أسباب، فتصبح المهمة غير معقولة، بمعنى أن أي نشاط لابد أن يتضمن أولاً عامل فكري.(1)
رابعاً: النشاط البشري والعامل الباعث:
يوضح ابن نبي أن كل نشاط بشري لابد أن يكون له باعث معلل، بمعنى أن كل فعل من الأفعال له علاقة ببواعث تفسّره وتبررّه، وأيضاً ليس بمعزل عن الطرائق التي تشرط إنجازه العملي، ولذا فإنه يتضمن بالضرورة محتوى فكرياً يتلخص فيه كل التقدم الفني والصناعي والأخلاقي لمجتمع ما، فالماركسية قد حللّت النشاط ولكن في حدود المعنى الذي يتعلق بشرط إنجازه العملي، وإن التحليل الماركسي قد سكت عن الباعث المعلل القائم على العامل الفكري، الذي يحدد وجه الدقة في الطابع الاجتماعي واللااجتماعي للنشاط، فالصانع اليدوي ومقصه يمكنهما أن ينجزا عملاً فنياً أو أن يقوما بتحطيمه، والإنسان وبندقيته يمكنهما أن يدافعا عن المجتمع أو أن يهدّدا أمنه، إذن فمشكلة الباعث المعلل داخل بالضرورة ضمن مشكلة النشاط الفردي أو الجماعي، ففي إمكان النشاط أن يصنع المجتمع أو يقوم بتقويضه وذلك بسبب العلاقة المقترنة بباعثه المعلل، ويتم ذلك ضمن سؤالين هما كيف ؟ ولماذا ؟.(2)
خامساً: فكرة التضاد والتناقض:
__________
(1) انظر : المصدر السايق : ص13 ، انظر : آفاق جزائرية : ص127.
(2) انظر : آفاق جزائرية : ص127 ،ص 128 ،ص 129 .(1/164)
لا شك أن الماركسية قد اكتسبت فكرة التضاد من الفكر المثالي الهيجلي(1) وأكسبته ثوباً مادياً، وهذا الثوب هو العامل الاقتصادي، وهذه الفكرة هي التي القوة الخالقة للحركة التاريخية، والاندماج أو التركيب، وهو الغاية المنشودة من هذا الكيان كله، ذلك الكيان الذي يجدد دورته، كلما نشأ تناقض جديد يزلزل التعادل القائم المستمر فالماركسية ترى أن الأسباب المتناقضة المؤدية إلى حدوث تغييرات اجتماعية، ذات طابع اقتصادي.(2)
" فلو أننا طبقنا على فكرة التعارض مقياسها الاقتصادي، فستظهر أمام أعيننا حدود امتدادها على الخريطة الاقتصادية للعالم، حيث يظهر لنا أن انتشار الفكرة الشيوعية محدود داخل هذه الحدود الاقتصادية المطابقة لحدود جغرافية معينة، وأن الفكر الماركسي لم يجد وراء هذه الحدود المزدوجة ظروف تأقلمه، فهو بهذه الصورة لا يستطيع أن يقدم لنا تفسيراً معقولاً للحالات التي لم ينتشر فيها على الخريطة، وعلى ذلك فنحن مضطرون إلى القول بأن المجتمع لا يخضع في تطوره لحكم العوامل الاقتصادية وحدها ".(3)
سادساً: علاقات الإنتاج:
إن الماركسية لا تعترف بأي علاقات بين البشر، إلا بما يسمى علاقات الإنتاج، وهي علاقة الناس فيما بينهم أثناء سير الإنتاج، وإن هذه العلاقات تكون متأثرة بقوى الإنتاج المتمثلة بالناس والأدوات ومعرفة استخدامها، فقوى الإنتاج وعلاقاته هي وحدها المؤثرة في التغيير الاجتماعي.(4)
__________
(1) هيجل هو : جورج فليلهم فردريش هيجل ، ولد في ألمانيا عام 1770م ، وتوفى عام 1831م ، له العديد من المؤلفات في الفلسفة والمنطق منها : علم المنطق ، فلسفة الحقوق ، موسوعة العلوم السياسية ، فنومولوجيا الروح ، انظر : هيجل : ابراههيم زكريا دار مصر للطباعة ، عام 1970م ، ص10
(2) انظر : ميلاد مجتمع : ص18 .
(3) المصدر السابق : ص19 .
(4) انظر : أسس الفلسفة الماركسية :ص168 ،ص 169.
(4) انظر : ميلاد مجتمع : ص28 .
(5) المصدر السابق : ص33 .(1/165)
إن النظرية الماركسية لا تستطيع أن تفسِّر ظاهرة تلاشي الحضارات، دون أن يظهر أي تغير في وسائل الإنتاج، مثل حضارات أمريكا السابقة على العهد الكولومبي وأيضاً الحضارة الرومانية، وهذا يظهر سقوط القول بالحتمية المادية في عملية التغيير الاجتماعي (1)وتوضيحاً لذلك يأخذ ابن نبي مثلاً من الواقع الكائن الحي فالطعام من ناحية المادة يبقى كما هو، فالأيدروجين يبقى كما هو عند دخول عناصر الغذاء في خلايا الجسم ولكن الذي يتغير ليست المادة ولكن العلاقات بين هذه العناصر، وكذلك الحياة الحيوانية والنباتية خاضعة لهذه العلاقات، وكذلك في الحياة الاجتماعية فالاقتصاد خاضع لعلاقات سابقة له نابعة من الوعي الفكري الذي يعمل على صناعة التاريخ الإنساني(2) ثم يخرج بعد ذلك بمفهوم واضح للعلاقات، وذلك بربطها بالفكر الأخلاقي المنبثق من مصدر قدسي" فالعلاقة بين الله والإنسان هي التي تنشئ العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإنها توجدها في صورة القيمة الخلقية، فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتماعية والعلاقة الدينية معاً من الوجهة التاريخية على أنها حدث، ومن الوجهة الكونية على أنهما عنوان على حركة تطور اجتماعي واحد، فالعلاقة التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني"(3) أو بمعنى آخر فالأفكار هي التي تغيّر الواقع، سواء كانت ذات مصدر قدسي، أو مصدر وضعي، ولكن المرتبطة منها بمفهوم مثالي غيبي هي القادرة على معالجة الحركة الإنسانية ضمن التاريخ البشري كله.
الفصل الرابع
موقف مالك من القومية.
المبحث الأول: القومية تعريفها وأسسها ونقضها.
المبحث الثاني: موقفه من دعاه القومية.
المبحث الأول
القومية تعريفها وأسسها ونقضها
__________
(3) ميلاد مجتمع :ص52.(1/166)
... "إن فكرة القومية قديمة قدم الاجتماع البشري، ولكنها تسمى قديماً " العصبية " فالعصبية كانت تجمع أفراد القبيلة الواحدة في تكتل واحد، وكان العرب قبل الإسلام تسود فيهم ـ وبصورة جامحة ـ العصبية القبلية والدموية، وكان أساسها جاهلياً تتمثله الجملة المأثورة عنهم: ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )، فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين وبسبب الروح العصبية نشبت حروب وأريقت دماء غزيرة، منها حرب داحس والغبراء وحرب البسوس".(1)
تعريفها لغة:
" هي مصدر صناعي مقيس على ما تواضع عليه العرب المعاصرون على اشتقاقه من لفظة " قوم " ـ والقوم الجماعة من الناس ـ بإضافة ياء النسب، وتاء التأنيث ".(2)
اصطلاحاً:
... هي" حركة سياسية فكرية ضيقة متعصبة، تمجد ّجماعة محدودة من الناس، يضمها إطار جغرافي ثابت، ويجمعها تراث مشترك، وتنتمي إلى أصول عرقية واحدة، تدعو إلى إقامة دولة موحدة لهم، على أساس من رابطة الدم والقوم، واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين".(3)
أسسها:
إن دعاة القومية مختلفون حول الأسس التي تقوم عليها الفكرة القومية، ولكن الباحث سيجمعها كلها، ويرد عليها، لأنه إذا سقط الأساس سقط البناء.
أولاً: العرق:
إن هذا الأساس" يقوم على وجود اجتماع الأمة ذات الأصل الواحد على قومية واحدة، فالقومية الألمانية مثلاً تقوم على نظرية العرق الآري المختار، والقومية اليهودية تقوم على نظرية الشعب اليهودي شعب الله المختار.
هذا الأساس منقوض من وجهين:
1ـ أن الأنساب امتزجت، والدماء اختلطت، إذ لا نجد في العالم عرقاً سليماً لم يختلط بغيره
من العروق الأخرى.
__________
(1) واقعنا المعاصر والغزو الفكري : ص95 .
(2) الإسلام والحضارة الغربية :محمد محمد حسين ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط7 عام 1985 م ، ص195،ص 224 .
(3) الموسوعة الميسرة : ص 401 ، انظر : الإسلام والحضارة الغربية ، ص195 ، انظر : القاموس السياسي : ص1177 .(1/167)
2ـ أن إثارة هذه النعرات العرقية المزعومة تعمق في الأمة وفي الشعوب المختلفة روح الحقد، والأنانية، والطائفية، العصبية، والعنصري ".(1)
ثانياً: اللغة:
... تعدّ اللغة أساساً آخر من أسس القومية، فالأمة التي تتكلم بلغة واحدة تربطها بنظرهم ـ وحدة قومية واحدة ذات أهداف واحدة.
... وهذا الأساس غير صحيح، وذلك لأن الواقع يكذب ذلك، فسويسرا يسكنها شعب واحد، ولكنه يتكلم ثلاث لغات أصليات مختلفات وسكان القارة الهندية يتكلمون بأكثر من ثلاثمائة لغة تختلف بعضها عن بعض وهناك أمم تتكلم لغة واحدة وهي شعوب مختلفة اختلافاً كلياً فأمريكا وإنجلترا تتكلمان اللغة الإنجليزية الواحدة، ومع ذلك فهما شعبان مختلفان وأمتان متباينتان لم تجمع بينهما اللغة الواحدة.(2)
ثالثاً: التاريخ:
التاريخ من الأسس المتينة للقومية، ويرد على ذلك أن التاريخ إنما يصنعه الرجال الأبطال وعوامل أخرى من العقيدة أو المصلحة المشتركة، وهي لا تختص بأمة دون أخرى فقد تشترك أمتان لاشتراك مصالحهما، فتسجلان في التاريخ صفحات من الانتصار والمجد ومع ذلك فهما أمتان متباينتان، فإذا انتهت هذه المصالح فلا جامع بين هاتين الأمتين فمثلاً قاتلت أمريكا وبريطانيا وروسيا، ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وعند انتهاء الحرب بدأ الصراع المعادي بين هذه الدول.(3)
رابعاً: الأرض:
__________
(1) القومية في الميزان : عبدالله ناصح علوان : دار السلام للطباعة ، ط 3 ، 1987 م ، ص19 ،وانظر : المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام : محمد محمود الصوّف ، دار الاعتصام ، ط3 ، ص23 ،ص 24 .
(2) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام : ص25 ، القومية في الميزان : ص19 ، 20 .
(3) انظر : المخططات الاستعمارية لمكافحة الاسلام : محمد الصواف ، ص26 .(1/168)
الأرض من العوامل الأساسية في الفكر القومي، فالشعب الذي يلتقي في سكناه في أرض واحدة شعب واحد له قومية واحدة، تجمع بين أواصره، وتوحد بين صفوفه، وتكون منه وحدة بشرية، ولكن ذلك منقوض بكون الأرض العربية قد سكنتها شعوب كثيرة، مثل: الفينيقيون والآشوريون، والفراعنة، ولكن المسلمين وغير المسلمين من العرب، قد لا يشعرون بأي شعور يربطهم ويشدهم إلى هذه الشعوب.(1)
خامساً: المصالح المشتركة:
يعتبر القوميون أن من الأسس المهمة لقوميتهم المصالح المشتركة، ولكن ذلك غير صحيح لأن المصالح لا تحديد لها، ولكل بلد مصلحته الخاصة، ونرى بعض الأمم تجمعها مصالح مشتركة، وهي متباينة كل التباين، فالمصالح جمعت كلاً من روسيا وأمريكا لمقاومة ألمانيا، وبعد انتهاء الحرب بينهما عادتا دولتين متخاصمتين متناحرتين.(2)
... ولكن يجب إظهار الحكم على الفكر القومي بشكل عام من خلال العقيدة الإسلامية ومن ناحية العقل الصريح.
نقد القومية شرعاً وعقلاً:
أولاً : شرعاً :
... فجميع الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية تبين أن الرابطة بين المسلمين يجب أن تكون رابطة العقيدة الإسلامية ولا شيء غيرها، وإنه يحرم على المسلم التفاخر على أساس القوم أو اللون أو الجنس، وبيان ذلك:
1ـ إنّ القومية تفرق بين المسلمين، وتجعلهم أحزابا وقوميات متنافرة، وبذلك تخالف مقاصد الإسلام القائم على التجمع والاعتصام على أسس من الأخوة الإيمانية، فقد قال الله تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تفَرَّقُواْ ) (3) وقال الله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ).(4)
__________
(1) انظر : المصدر السابق : ص26 ،ص 27 .
(2) انظر : المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام : ص28 .
(3) سورة آل عمران : آية : 103 .
(4) سورة الحجرات : آية : 10 .(1/169)
2ـ أنها دعوى جاهلية وعصبية وهي مناقضةللقرآن والسنة، قال الله تعالى: ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ).(1)
... روى الإمام البخاري قال : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ قَالَ: يَرَوْنَ أَنَّهَا غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَكَسَعَ(2) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ )(3).
__________
(1) سورة الفتح : آية: 26 .
(2) كسع : أن تضرب بيدك أو برجلك بصدر قدمك على دبر إنسان أو شيء : انظر : لسان العرب : ابن منظور : 8 / 309.
(3) صحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن ، باب ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة) ، حديث رقم 4907 ، انظر فتح الباري 8 / 710 ، انظر : صحيح مسلم ،كتاب البر والصلة والآداب ،حديث رقم 4681.(1/170)
3ـ أنها تؤدي إلى موالاة الكفار والمنافقين، وقد حرّم الإسلام موالاتهم، وحصر الموالاة في المؤمنين فقط قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)(1) وقال تعالى :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).(2)
4ـ إن الإسلام يوضح أنه يجب أن تكون الرابطة بين المسلمين فقط هي رابطة العقيدة الإسلامية، وليست رابطة القوم ولا الجنس، قال تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).(3)
__________
(1) سورة المائدة : آية : 51 .
(2) سورة التوبة : آية : 71 .
(3) سورة المجادلة : آية : 22 .(1/171)
... وقال تعالى ) :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (1)
5ـ إن الدعوة القومية تفضي بالمجتمع إلى إقصاء الإسلام عقيدة وشريعة ، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا ـ ضرورة كونهم ليسوا بمسلمين ـ تحكيم القرآن وشرع الله وهذا يوجب لزعماء القومية اتخاذ الأحكام والقوانين الوضعية التي تخالف شرع الله وحكم القرآن الكريم حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام والقوانين(2) قال تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون )(3) وقوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ).(4)
ثانياً : عقلاً :
إن القومية مرفوضة من ناحية الميزان العقلي لعدة أسباب منها :
1ـ إن القومية رابطة غريزية وليست عقلية، فليس للإنسان خيار في قبولها أو رفضها، بل هي مفروضة عليه، ولذلك فهي ليست ذات أصول فكرية.
2ـ أنها رابطة مؤقتة، تظهر عند الاعتداء على القوم والوطن، أما في حالة الاستقرار فلا تظهر لانشغال أهلها بالنزاع والخصومة فيما بينهم .
3ـ هي رابطة تؤدي إلى التطاحن بين الجماعات البشرية، بهدف سيادة جنس على آخر
4ـ هي رابطة لا تحمل أنظمة للحياة منبثقة عنها، ولذلك يحصل التطاحن بين أتباعها عند معالجة مشاكل الحياة .(5) ...
__________
(1) سورة المممتحنة : آية : 4 .
(3) سورة المائدة : آية : 50 .
(4) سورة المائدة : آية : 44 .
(5) انظر : نظام الإسلام : تقي الدين النبهاني ، ص21 .(1/172)
يتبين مما سبق بيانه من الأدلة الشرعية والعقلية، تهافت الرابطة القومية، لأنها مخالفة للشرع؛ لأنه يوجب أن تكون الرابطة الأساسية هي الإيمان والعقيدة وليس رابطة القوم أو الجنس أو اللون؛ ولأنها لا تقوم على أسس عقلية.
المبحث الثاني
موقفه من دعاة القومية
... لقد مدح ابن نبي رائد القومية الرئيس المصري جمال عبد الناصر في أكثر من موضع في كتبه، فعدّه مثلاً للفكر القومي وأنّه يعمل لإنشاء النهضة العربية المنطلقة من صميم حياة العرب وتاريخهم، آخذة معناها من الوسائل الفنية الضخمة، يقول في مدحه لأفكار عبد الناصر: " على أننا اليوم نتوقع بفضل ما يطرأ ويدور في المجتمع العربي الناشئ من نهضة جديدة تحقق مجتمعاً أفضل، وعلى ضوء هذه الكلمات نفهم ما عنى به عبد الناصر في تصريحاته حيث قال: إن بناء المجتمع يتطلب تنمية اقتصادية وطاقات روحية ".(1)
... لقد أيد ابن نبي دعوة جمال عبد الناصرإلى القومية العربية وذكر أمله في أن نحقق الحضارة العربية، وتسريع إيجادها من خلال التخطيط، الذي يؤدي إلى تحقيق مصير الأمة العربية،ومصير الإنسانية، وإن ذلك سيتحقق من خلال معادلته الحضارية، الإنسان والتراب والوقت، مبيناً أن المشروعات التي وضعتها مصر بقيادة عبد الناصر ستحقق طفرة في تاريخ الأمة العربية، وقد تمنىأن يجد الشباب العربي في نفسه الاستعداد لبناء الحضارة العربية.(2)
... وقد مدح ابن نبي ما ابتدعه عبد الناصر فيما يسمى الإشتراكية العربية، كمذهب اقتصادي يمتلك طريقة للإنتاج والتوزيع مع التقدم الفني والمعنوي، والاشتراكية العربية محددة بما فيه الكفاية عن طريق مفاهيم الإسلام والعروبة، وليست الاشتراكية المادية.(3)
__________
(1) تأملات : ص162 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص180 ،ص 200 .
(3) انظر:آفاق جزائرية : ص162 ، 166.
(4) انظر :المصدر السابق : ص162(1/173)
... بل إنه يمجد السياسة الاقتصادية لمصر في عهد جمال عبد الناصر، من خلال تطورها نحو الاشتراكية القومية في الداخل والاشتراكية الدولية في الخارج، بحيث تحتفظان باستقلال كلي، وإن هذه الحلول لا تستتبع أي اتجاه مذهبي(1).
... وأيضا قام بن نبي بالدفاع عن الفكر الناصري في تحديد السياسة الخارجية للقومية العربية ، موضحاً أن من يخطّ سياسته على مبدأ الحياد الإيجابي فإنه يضمن للنهضة العربية
الاتجاه الصحيح. (2)
... يرى الباحث أنه كان يجب على ابن نبي كمفكر إسلامي أن يضع المقياس الصحيح الذي تقاس به الأفكار وهو الإسلام، فما وافقه أخذ به وأيده، وما خالفه رفضه وتركه، بحيث يدرس حقيقة الفكر القومي ثم يحكم عليه من خلال الإسلام لبيان موقف المسلم منها، لا أن يحكم من خلال مشاريعها وتقنيتها ومدنيتها، بل من خلال فكرها وأيدلوجيتها .
... وأما بالنسبة للاشتراكية فقد وقع ابن نبي في خطأ واضح، وذلك لوصفه للاشتراكية العربية بأنها ليست مادية، وزعمه بأنها تنبع من مفاهيم الإسلام والعروبة، والصواب أنها عكس ذلك تماماً، إنها اشتراكية مادية اختلطت بمفاهيم قومية مناقضة للإسلام عقيدة وشريعة. ... لا كما يتصور مالك بن نبي "وعلى هذا نستطيع القول إذن أن الاشتراكية العربية اشتراكية غربية، سقطت النقطة عن ال(غ) فأصبحت عربية، لأنها لم تأت بخصيصة جديدة تختلف كلياً أو جزئياً عن الاشتراكية".(3)
__________
(2) انظر : فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج ، ص 111، انظر : المسلم في عالم الاقتصاد ، ص25 ، 26ص ، 27ص، 28 .
(3) حكم الإسلام في الإشتراكية : عبد العزيز البدري ، ط 5 ، منشورات المكتبة العلمية ، ص144 .(1/174)
... فهذه الاشتراكية إنما وجدت في العالم الغربي، لمواجهة الاشتراكية الماركسية، فهي سور لحماية الرأسمالية من الانهيار، حيث تقوم على فكرة التأميم لتحويل الملكية الخاصة إلى عامة، وتقييد أصحاب الملكية الخاصة، ووضع حد أقصى للربح ، ووضع حد معين للإجارة وحد أدنى لأجور العمال، فهي عملية ترقيع للاقتصاد الرأسمالي، وطريقة تنفيذها سن القوانين من قبل الدولة.(1)
... فهي فكرة مستوردة لها علاقة بمذهب كامل ، ولكن حب ابن نبي لجمال عبد الناصر أفقده الدراسة الواعية لها، وأوقعه في تناقض فكري كبير فابن نبي يرفض بشدة استيراد المذاهب الاقتصادية حيث يرى أنها " محاولة تركيب روح إسلامية على جسم أجنبي يرفضها وترفضه، لأنه حتى في تجربته الاشتراكية المطبقة في بعض البلدان العربية، فهو يحاول تسخير جسم مفصول عن روحه الشيوعية، ولا يضير المسئولين العرب الذين يطبقون هذه التجربة في بلادهم، إذا لم يقدر لها النجاح" (2) من هذه الفقرة يتضح للباحث التناقضات العجيبة في أفكاره، يرفض الاستيراد ثم يؤيد الاشتراكية، ثم يحاول إيجاد العذر للمسئولين العرب في تطبيقها.
... ولقد مدح بشكل واضح سياسة عبد الناصر الخارجية القائمة على الحياد وعدم الانحياز بقوله: " فإن كل عربي يعلم أن نظرة جمال عبد الناصر،خطّت للنهضة العربية الاتجاه الصحيح الذي يحقق وحدة المصير، ومن يخط سياسته الخارجية على مبدأ الحياد الايجابي مثل ما فعل عبد الناصر فإنه يضمن للأمة العربية ولنهضتها شروط الانسجام مع القانون العام، فيما يتصل بوحدة المصير".(3)
__________
(1) انظر : السياسة الاقتصادية المثلى ، عبد الرحمن المالكي ، طبعة 1963م بدون دار نشر ولا رقم ط ص21 ،ص 23 ،ص 24
(2) المسلم في عالم الإقتصاد : ص66 .
(3) تأملات : ص 178 .(1/175)
... يرى الباحث أن مدح ابن نبي لجمال عبد الناصر ولفكره القومي لا يمكن أن يبرر وهو الذي أقام الدنيا ولم يقعدها على سيد قطب، لكونه غيّر اسم أحد كتبه من " نحو مجتمع إسلامي متحضر " إلى نحو مجتمع إسلامي " أي رفع كلمة متحضر؛ لأن الإسلام هو الحضارة ، في حين لم يقم بنقد الفكر القومي الدخيل على الإسلام عقيدة وحضارة.
الباب الرابع
موقف مالك بن نبي من الفكر الإسلامي الحديث.
... الفصل الأول : موقفه من الدعوات الإصلاحية ورجالها.
الفصل الثاني : مستقبل الإسلام عند مالك بن نبي.
الفصل الأول
موقفه من الدعوات الإصلاحية ورجالها.
المبحث الأول : موقفه من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
المبحث الثاني : موقفه من الأفغاني و محمد عبده .
المبحث الثالث : موقفه من جمعية العلماء الجزائريين .
المبحث الرابع : موقفه من حركةالاخوان المسلمين .
المبحث الأول
موقفه من دعوة محمد بن عبد الوهاب
دعوة محمد بن عبد الوهاب:(1)
إن هذه الدعوة ليست مذهباً جديداً، بل هي حركة إصلاحية، تعتبر أصلأ لحركات التغيير التي تليها، فأساسها إعادة الناس إلى أصول العقيدة السليمة، والسلفية الحقّة، المتبعة لمنهج السلف رضوان الله عليهم " حيث ترسّم الشيخ في دعوته أعلاماً ثلاثة استن طريقتهم وهم:
1ـ الإمام أحمد بن حنبل ( 164 ـ 241 هـ)
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب التيمي النجدي : ولد سنة ( 1115 ـ 1206 هـ ) ، ( 1703 ـ 1791م ) ،زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب ، ولد ونشأ في العيينة ( بنجد ) ، ورحل مرتين إلى الحجاز ، فمكث في المدينة قرأ على بعض أعلامها ، انتهج منهج السلف الصالح ، له العديد من الكتب منها : كتاب التوحيد ، ورسالة كشف الشبهات ، تفسير شهادة أن لا إله إلاّ الله انظر : انظر : الأعلام : خير الدين الزركلي 257 ، الموسوعة الميسرة ، ص273 ، انظر : زعماء الإصلاح ، أحمد أمين ، مكتبة النهضة المصرية للطبع والنشر ط4 1979م، ص10 .(1/176)
2ـ ابن تيمية ( 661 ـ 728 هـ )
3ـ محمد بن القيم الجوزية ( 691 ـ 751 هـ )
فكانت دعوته صدى لافكارهم، وترجمة لأهدافهم في واقع عملي "،(1) وقد أطلق خصومها على دعوته مصطلح الوهابية نسبة إليه.
... ولقد ارتبطت في الفروع والأصول بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولكن ابن نبّى ربط بينها وبين فكر ومنهج ابن تيمية، وذلك عندما بدأت كتبه تعود إلى الساحة الفكرية، فابن تيمية هو الذي استقى منه محمد بن عبد الوهاب فكره ومنهجه، والرجوع إلى السلف؛ هو المبدأ الذي نادى به كل منهما.(2)
أهم أفكار ومعتقدات الوهابية:
1ـ إنها ترتكز على مذهب الإمام أحمد في العقائد والفقه، وتأثرت بدعوة شيخ الإسلام بن تيمية.
2ـ دعت إلى فتح باب الإجتهاد الذي ظلَ مغلقاً منذ سقوط بغداد سنة656 هـ .
3ـ أكدت ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسنة ، وعدم قبول أي أمر في العقيدة ما لم يستند إلى دليل واضح منهما.
4ـ اعتمدت منهج أهل السنة والجماعة في فهم الدليل والثناء عليه.
5ـ دعت إلى تنقية مفهوم التوحيد مما لحقه من الخرافات والبدع.
6ـ محاربة كل البدع والخرافات ، المنتشرة آنذاك ، بسبب الجهل والتخلف.(3)
مناصرة ابن نبي لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
__________
(1) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : ص278 ، انظر : دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين المعارضين والمؤيدين، محمد جميل زينو ، ط2 ، المطبعة الأهلية للأوفست ، بالطائف ، ص80 ، انظر : الموسوعة الحركية: فتحي يكن ص169.
(2) انظر : وجهة العالم الإسلامي : ص42 ،ص 43 ،ص 149 .
(3) انظر : الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : ص275 ، 276 ، انظر : دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين المعارضين والمؤيدين : محمد جميل زينو ، ص74.(1/177)
لقد ناصرابن نبِّي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي في نظره قد تكون منقذة العالم الإسلامي من الفوضى، وبداية طريق الإصلاح والتغيير، فهي " الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة، لتحرير العالم الإسلامي المنهار "(1) وقد أعجب بها، وتفاءل وهويرىضرورة الإلتزام، بها كمنهج تغييري وكتيار إصلاحي سلفي يسعى لإزالة كل منكر لا تقبله العقيدة الإسلامية، وهذا التوجه لديه أثار السلطات الإستعمارية الفرنسية ضده، ولكنه لم ييأس ولم يتقاعس بل أخذ يدعو في فرنسا لهذه الدعوة. (2)
المبحث الثاني
موقفه من دعوة الأفغاني ومحمد عبده
أولاً : جمال الدين الأفغاني:(3)
إن شخصية جمال الدين الأفغاني(4) قد أختلف فيها كثيراً، فهناك من يعدّه سنياًً من بلاد الأفغان، وهناك من ينسبه إلى الشيعة من بلاد إيران، وفكرالرجل يحمل المتناقضات وثبت أن حركته ذات مدلول سياسي يعمل من خلالها على تدمير دولة الخلافة العثمانية أهم أفكار الأفغاني:
1ـ يتحدث عن وحدة المسلمين مرة، وعن حكومات إسلامية مستقلة يرتبط بعضها ببعض في شبه اتحاد مرة أخرى.
2ـ يطالب الأخذ مما عند الغرب من حضارة ومدنية وعلم.
__________
(1) مذكرات شاهد القرن الطالب : ص150 .
(2) انظر : المصدر السابق ، ص43 ،ص 52 ، انظر : شروط النهضة : ص34.
(3) ذكرت الرجلين ضمن الحركات الاصلاحية باعتبار ما أطلق عليهما من الأستاذ أحمد امين وغيره، لا لكونهما في نظر الباحث من أصحاب الدعوات الإصلاحية الأصلية .
(2) جمال الدين الإفغاني : هو جمال الدين محمد بن صفدر الحسيني : ولدسنة 1254 ـ 1315 هـ الموافق 1838 ـ م من كتبه :تاريخ الأفغان ، رسالة الرد على الدهريين انظر: زعماء الإصلاح : أحمد أمين مكتبة النهضة المصرية للطبع ، ط4 ، عام 1979 م ، ص63 ،ص 64 .
(3) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي : محمد البهي ، ط دار الفكر ، ط 6 سنة 1973 م ، ص82 ،ص 83 .(1/178)
3ـ دعا إلى مقاومة الإستعمار الغربي وخاصة الاستعمار الإنجليزي، ومع ذلك يعمل علاقات مع الإنجليز.
4ـ وجه جملة من الانتقادات إلى دولة الخلافة العثمانية، وكان يدخل في صراع مع الخليفة نفسه.
5ـ يدعو إلى الترابط الوثيق بين المسلمين وغير المسلمين في الأوطان الإسلامية وإلى عدم التمييز بين مسلم وغير مسلم، مع مخالفة هذا لعقيدة الولاء والبراء.
6ـ يدعو إلى التقريب بين الشيعة والسنة ، ونبذ الخصومة بينهما، مع أن الخلاف بينهما عقائدي كبير.
7ـ حارب المذهب الطبيعي ـ الدهري ـ الذي انتشر في الهند سنة 1879 م.(1)
مدح ابن نبى لجمال الدين الأفغاني :
إن مالك بن نبي ينسب الأفغاني إلى بلاد الأفغان بقوله: " وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد ، صوت ينادي حيّ على الفلاح، إنه صوت جمال الدين الافغاني، موقظ الامة إلى نهضة جديدة "(2) وقد مدحه في أكثر من موضع من كتبه على أساس أنه رائد النهضة، وباعث للحركة الإصلاحية الحديثة واصفاً إيّاه بأنه رجل فطرة ذو ضمير حي عكس ضمير العالم الإسلامي، واعتبره فاتحة رجل الثقافة والعلم في العالم الإسلامي الحديث، وذلك عندما شهد الإفلاس الروحي والمادي فأعلن الحرب ضد النظم البالية والأفكار المميتة،(3) وهو من وجهة نظره باعث نهضة ورائد للحركة الإصلاحية الحديثة حمل همّ النهضة والتغيير، ومجاهد في سبيل إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي.(4)
ويأخذ بعد ذلك بمناقشة فكر الأفغاني من خلال ذكره لهدفين له وهما:
1ـ تقويض دعائم نظم الحكم الموجودة آنذاك، وإعادة بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس الأخوة الإسلامية.
2ـ مكافحة المذهب الطبيعي أو المادي ـ الدهري ـ . (5)
نقد مالك بن نبي لجمال الدين الأفغاني:
__________
(2) شروط النهضة ، ص21 .
(3) انظر : وجهة العالم الإسلامي ، ص43 ،ص 44.
(4) انظر : المصدر السابق ، ص45
(5) انظر : المصدر السابق ، ص44(1/179)
1ـ إن الأفغاني كان رجل سياسة، فهو ينظر إلى مشكلة العالم الإسلامي باعتبارها مشكلة سياسية، وتحل بوسائل سياسية، ولكن ابن نبي يرىأنه جانب الصواب، لأن المشكلة في نظره ليست في السياسة، والمشكلة السياسة ما هي إلا عرض من أعراض المرض في العالم الإسلامي، وليست هي جوهر المرض، فلذلك اجتهد الأفغاني في إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي خلال تنظيم جموع الشعب وإصلاح القوانين، دون أن يقصد إصلاح الإنسان نفسه فبدلاً من أن ينصرف إلى دراسة العوامل الداخلية التى أصابت العالم الإسلامي بالفساد والظلم والذل والهوان اتجه إلى محاولة تغيير النظم والقوانين المحيطة بالإنسان.(1)
2ـ إن ابن نبي يرى أنّه من الممكن أن يكون التغيير السياسي الذي رآه الأفغاني صادقاً لو ادّى فكره إلى ثورة، لأنّ ابن نبي يرى أن الثورات توجد قيماً جديدة صالحة لتغيير الإنسان والأفغاني في نظره لم يحسن تشخيص الدافع إلى الثورة، لأنه كان ينظر أنه يرجعها للأخوة الإسلامية الغير متعلقة بالعمل، في حين ابن نبي كان يرى أنه كان يجب أن تعتمد على مبدأ المؤاخاة بين المسلمين، موضحاً الفرق بين المصطلحين في وجهة نظره، فالمؤاخاة الإسلامية تقوم على عقيدة صحيحة وعلى فعل عملي، بينما الأخوة ماهي إلاّعنوان على معنى مجرد أو شعور متحجر.(2)
__________
(1) انظر : المصدر السابق ، ص45 ، 46
(2) انظر :وجهة العالم الإسلامي: ص46.(1/180)
... يرى الباحث أن ابن نبي قد جانب الصواب في نسبة الأفغاني إلى بلاد أفغانستان "لأن البحث الحديث أثبت بأدلة لا تقبل الشك أنه كان إيرانياً، وليس أفغانياً واسمه باعتراف ابن أخته ميرزا لطف الله خان هو (جمال الدين صفدر الأسد بادي )، وهو من أسد آباد بالقرب من همذان ، وليس من أسعد أباد ( من أعمال كابل بأفغانستان ) ولم يكن سنّياً حنفي بل شيعياً إيرانياً ، والذي يدل على ذلك اسم والده (صفدر ) يعني مفرق الأعداء وهي عند الشيعة صفة لسيدنا علي - رضي الله عنهم -، والاسم نفسه وقف على الشيعة، لا يتسمى به أحد من الأفغانيين واسم خادمه الذي كان يلازمه أبو تراب، وهي كنية سيدنا علي - رضي الله عنهم - ".(1)
وأيضاً " مما يريب الباحث في أمر جمال الدين وأهدافه أن أكثر نشاطه كان سرياً فقد كان أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في مصر " (2) ثم أنشأ محفلاً ماسونياً (3) ضم إليه عددا كبيرأً من أصحاب النفوذ في مصر.
__________
(1) الإسلام والحضارة الغربية ،محمد محمد حسين ، ط7 ، 1985 م ، مؤسسة الرسالة بيروت ، ص61 ،ص 62 .
(3) المصدر السابق : 63 .
(4) الماسونية : هي منظمة يهودية إرهابية غامضة محكمة التنظيم تهدف إلى سيطرة اليهود على العالم عن طريق تقويض الاديان ـ غير اليهودية ـ والأخلاق ، وإشاعة الإلحاد والإباحية والفساد، واستخدام الشخصيات المرموقة في العالم يوثقهم عهد متين بحفظ الأسرار وتنفيذ ما يطلب منهم ، انظر : الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : ص449 ، انظر : والقعنا المعاصر والغزو الفكري : صالح الرقب : ص 160 .
(5) انظر : الإسلام والحضارة الغربية : ص64 انظر : جمال الدين الأفغاني : محمود قاسم ،ص98 .(1/181)
... ... وأنشأ جمعية ( مصر الفتاة ) السرية، وكان أغلب أعضائها من اليهود، ثمّ أنشأ محفلاً ماسونياً تابعاً للشرق الفرنسي، ضم إليه عدداً كبيراً من أصحاب النفوذ في مصر بمساعدة رياض باشا رئيس الوزراء، وهو الذي استقدمه إلى مصر، وأجرى عليه راتباً شهرياً ، وأعد له سكناً في خان الخليلي ويقال: إنه كان في حارة اليهود.(1)
... ... وأمّا بالنسبة لدولة الخلافة العثمانية فقد كان يعمل الأفغاني جاهداً على تدميرها تحت شعارات الإصلاح السياسي، والملاحظ أن ابن نبي كان يؤيده في التغيير السياسي، وإن اختلف معه في كيفية التغيير، والباحث يلاحظ تغاضي ابن نبي عن فترة عبد الحميد الثاني في الخلافة العثمانية وهوالذي ضحّى بملكه، ولم يرضخ للماسونية العالمية عندما طلبت منه موطئ قدم لليهود في فلسطين.
والسلطان عبد الحميد الثاني كان على علم ودراية بمكر الأعداء وعملائهم ضد دولة الخلافة آنذاك، قال رحمه الله " وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وانجليزي يدعى بلنت، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك، واقترحا على الإنجليز إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين كنت أعرف جمال الدين الأفغاني ، كان في مصر، وكان رجلاً خطراً، ويدعي المهدية (2).
__________
(2) مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني : إعداد محمد حرب، سلسلة كتاب الهلال ، ص98.(1/182)
ثانياً : موقفه من محمد عبده :(1)
هو محمد بن حسين خير الله عبد، وهو تلميذ وفي لأستاذه الأفغاني حيث أنه لم يشذ في حركته الفكرية، وسلك ذات الطريق الذي سلكه جمال الدين الأفغاني، وسعى لنفس الغاية التي وضعها هدفاً له ولقد تناول محمد عبده في تفكيره عدّة جوانب رئيسة، هي:
1ـ الجانب القومي والوطني.
2ـ الجانب الاجتماعي.
3ـ جانب الإعتقاد.
4ـ الجانب التربوي والتوجيهي العام.(2)
... ولكي يحقق هذه الجوانب فقد دعا إلى إصلاح الأزهر، وإصلاح مناهج التعليم وذلك بمحاولة إصلاح علم الكلام في تناول القضايا العقائدية.(3)
... إن مالك بن نبي يحاول أن يحلل منهجية تفكير محمد عبده من خلال تأثير الواقع على التفكيرحيث قال: أنه عاش في مصر في بيئة زراعية، حيث يتكون الفرد في وسط جماعة، فلذلك تأثر بغريزة الحياة الإجتماعية، مما جعله ينظر إلى مشكلة الإصلاح كمشكلة اجتماعية، ولذلك اتجه في مفهومه الإصلاحي إلى الفرد كعنصر اجتماعي، مستدلاً على ذلك من قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَِاباَنْفُسِهِمْ)(4)
__________
(1) محمد عبده : هو محمد بن حسين خير الله عبده ، ولد عام 1266هـ ـ الموافق 1849 م ، في قرية محلة نصر من مديرية البحيرة ، حفظ القرآن وهو صغير ، وتعلم في الأزهر حيث نال شهادة العالمية من الأزهر عام 1294هـ ـ الموافق 1877م ، من مؤلفاته ، رسالة التوحيد ، تفسير المنار ، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ، انظر : الموسوعة العربية الميسرة ، إشراف محمد شفيق غربال ،ج 2 ط دار إحياء التراث العربي بدون رقم ط ص انظر : الفكر الإسلامي المعاصر ، غازي التوبة ، ص13، 14
(3) الفكر الإسلامي المعاصر وصلته بالاستعمار الغربي : ص123 .
(4) انظر : الفكر الإسلامي المعاصر : ص123 .
(3) سورة الرعد : آية 13 .
(4) انظر : وجهة العالم الإسلامي : ص46 ،ص 47 .(1/183)
ومن هذه الآية استنبط مفهومه الجوهري، وهو أن نفس الفرد هو الأساس في كل مشكلة اجتماعية، واضعاً السؤال التالي: كيف نغير هذه النفس؟ وللإجابة على هذا السؤال تدخل تأثره بالفكر الأزهري الأصولي في مسألة التغيير، فاتجه إلى أنه لابد من إصلاح علم الكلام، وذلك بوضع فلسفة جديدة، حتى يمكن تغيير النفس.(1)
... ومن ثم يتجه ابن نبي إلى نقض مفهوم الإصلاح عند محمد عبده، الذي ينبني كما يرى على علم الكلام، وذلك بتوجيه نقده لعلم الكلام في نقاط منها:
1ـ أن علم الكلام واستخدامه في الحركة الإصلاحية، مخالف لمبدأ السلف الذي هو العودة إلى الفكرة الأصيلة في الإسلام.
2ـ إن علم الكلام لا يتصل في الواقع بمشكلة النفس إلا في ميدان العقيدة أو المبدأ ،والمسلم لم يتخلّ مطلقاً عن عقيدته، ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها وتأثيرها في النفس بسبب الجهل والغفلة، والمنهج السيء في عرض العقيدة وتقريرها، وعليه فليست المشكلة أن نعلّم المسلم فقط العقيدة، وإنما أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي.
3ـ إن تغيير ما بالنفس معناه إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف، وليس هذا من شأن علم الكلام، بل هو من شان علم يسميه ابن نبي " تجديد الصلة بالله ".
4ـ يرى ابن نبي أن موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا علماء كلام ينطقون أفكاراً مجردة ، بل جمعوا طاقة أخلاقية أوصلوها إلى نفوس فطرية.
5ـ إن علم الكلام يرتكز على الجدال، وتبادل الآراء ومناقشتها، وهو يشوه المشكلة الإسلامية ويفسدها، وهذا خلاف المنهج السلفي الذي يعنى بالمشكلة النفسية كمشكلة اجتماعية بينما علم الكلام يواجه الوظيفة الاجتماعية، والمؤمن لن يستفيد من مدرسة تعلمه وجود الله فحسب، دون أن تلقنه مباديء السلف ومنهجهم في الإصلاح الحقيقي.(2)
__________
(2) انظر : وجهة العالم الإسلامي: ص47 ـ ص 49 .(1/184)
... ولكن ابن نبي رغم هذا النقد إلا أنه يرى لو جمع بين فكرمحمد عبده وفكرالافغاني لكان أفضل فيقول: " إن المدرسة الإصلاحية لو أنها استطاعت أن تقوم بتركيب أفكارها وتجميع عناصرها ، بحيث توحد ما بين الأفكار الأصوليه التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده وبين الآراء السياسية والإجتماعية التي نادى بها حمال الدين الأفغاني لأدى ذلك إلى طريق أفضل" .(1)
... يرى الباحث أن تفسير التوجه الاجتماعي عند محمد عبده راجع إلى طبيعة الواقع الاقتصادي غير صحيح ، فإن محمد عبده سافر إلى بلدان كثيرة ، ولكن الأثر الأساسي في تكوين شخصيته الثقافية راجع إلى أستاذه جمال الدين الافغاني.(2)
... ولقد جانب مالك بن نبي الصواب عندما ظن أن الخطأ الوحيد في فكر محمد عبده هو محاولته إصلاح علم الكلام، وإدخاله في مجالات الدراسة العقائدية، مع اعتقادنا صحة نقد علم الكلام لآثاره السيئة، ولكن المشكلة الأساسية في توجه محمد عبده إلى القول بإصلاح المؤسسات كطريق لإصلاح الفرد، لأنها هي التي ستغذي الفرد بالأفكار، والخطورة لا تكمن في هذا القول بل في توجهه لكي يحقق هدفه إلى التعاون مع أفراد السلطة الحاكمة من رجالات الاحتلال الإنجليزي، مثل علاقته مع اللورد كرومر الذي قدّم له لائحة لإصلاح التعليم، وفي هذا دلالة على استعداده للتعاون مع الإنجليز والرضا بالإحتلال،(3) ومن المعلوم أن الإحتلال يضع الخطط لتحقيق أهدافه الاستعمارية لا لمصلحة البلاد المستعمرة .
__________
(1) انظر : المصدر السابق :ص 48
(2) انظر : مالك بن نبّى مفكراً إصلاحياً : ص 111 .
(3) انظر : الفكر الإسلامي المعاصر : ص20 .(1/185)
... كما كان للشيخ محمد عبده علاقة وثيقة مع الإنجليزي المستر بلنت،(1) لدرجة أنه طلب منه المساعدة في تمويل صحيفة "العروة الوثقى"حيث ذكر بلنت في رسالة بعثها لمحمد عبده بخصوص هذا الموضوع " أما فيما يتعلق بصحيفتكم: فيسعدني أن أبذل كل ما بوسعي لمعونتكم، ولكني أنصحكم بكل قواي أن تلتزموا الاعتدال في لغتكم حين تكتبون عن الحكومة الإنجليزية" (2) وقد ردّ محمد عبده على هذه الرسالة يقوله: " أمّا بعد: فقد اغتبطنا للنصيحة التي تكرمت بها علينا، ووعدك بمساعدة صحيفتنا " العروة الوثقي" وقد كان هذا أملنا فيك وما من شك في أن الله عز وجل خلقك لفعل الخير، ومساعدة قضية الحق والدفاع عن المظلومين، وهذا هو الوجه الحقيقي لصحيفتنا "(3) وقد كان معروفاً أن بلنت يدعو إلى إثارة الحمية القومية العربية ويدعوهم إلى إنشاء خلافة عربية على أنقاض الخلافة الإسلامية(4)
__________
(1) بلنت : هو ويلفرد سكاون بلنت : وشهرته بلنت بكسر الباء وفتح اللام ، وقد عاش 82 عاماً ( 1840م _ 1922م ) ، وله من المؤلفات : التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر ، الهند في عهد ريبون ، جوردون في الخرطوم ، يومياتي ، انظر : الإسلام والحضارة الغربية : ص79 .
(2) الأفغاني ومحمد عبده : علي شلش ، سلسلة كتب الهلال ، العدد يناير عام 1986م ، ص75 .
(3) المصدر السابق : ص90 .
(4) انظر : الإسلام والحضارة الغربية ، ص79.
ا(4) يوسف النبهاني بن اسماعيل النبهاني: ولد عام 1849 م ـ وتوفى عام 1932م ، شاعر واديب من رجال القضاء ، نسبته إلى بني نبهان من عرب البادية بفلسطين ، استوطنوا قرية إجزم التابعة لحيفا به ولد ونشأ، وتعلم في الأزهر بمصر ن من كتبه ن جامع كرامات الاولياء ، رياض الجنة في أذكار الكتاب والسنة ن وامجموعة النبهانية في المدائح النبوية، انظر : انظر الأعلام للزركلي، 8 / 218 مقدمة كتاب جامع كرامات الاولياء ، 1/ 4 ، طالمكتبة الثقافية ، بيروت لبنان ، ط 1988م .
(5) الإسلام والحضارة الغربية : ص90 .
(6) مصطفى صبري : من علماء الحنفية فقيه وباحث تركي الأصل والمولد والمنشأ ، ولد في توقات وتعلم في الأناضول ، وعين مدرساً في جامع محمد الفاتح في استانبول، ثم تولى مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية وله العديد من المؤلفات منها ، موقف العقل والعلم والعام من رب العامين وعباده المرسلين، موقف البشر تحت سلطان القدر ، النكير على منكري النعمة في الدين والخلافة والأمة، القول الفصل في الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون ، الأعلام ، للزركلي 7 / 236 .(1/186)
وقد أصبح معلوماً لدى كثير من الباحثين أن كلاً من الأفغاني ومحمد عبده كانا يدعوان لإلغاء الخلافة العثمانية.
... وقد كان محمد عبده وأستاذه الأفغاني على اتصال بالماسونية وأكد ذلك عدد من الباحثين ومنهم المعاصرون لهما كالشيخ يوسف النبهاني،(1) قال في مناقشة لمحمد رشيد رضا: " ثم قلت له : ومما لا يختلف فيه أحد أنه كان ـ محمد عبده ـ وشيخه الشيخ جمال الدين الأفغاني داخلين في الجمعية الماسونية، وهي لا تجتمع مع الدين بوجه من الوجوه، بل هي ترفض الأديان كلها وهي ضد السلطات كلها الدينية، وغيرها فكيف يمكن أن يكون قدوة في دين الإسلام مع كونه ماسونياً وكذلك شيخه، فقال الشيخ محمد رشيد رضا نعم هما داخلان في الماسونية ولكن أنا لم أدخل فيها ".(2)وذكر شيخ الإسلام مصطفى صبري(3) أن محمد عبده وأستاذه الأفغاني لهم علاقة بالماسونية حيث قال: " إن حملة الأقلام عندما أكبروا محمد عبده أوجدوا له من السمعة العلمية السامية ما لا يزال طنينه في أذن الشرق الإسلامي، كان ذلك حثاً للذين يحبون الشهرة والظهور من شباب العلماء وكهولهم على نيل ما أرادوا بواسطة الشذوذ على الرأي والتزلف إلى الكتّاب المتفرنجين، بل الإنتماء إلى الماسونية " وقد نال محمد عبده رتبة البلح والصدف ـ رتبة ماسونية ـ من المندوب الأمريكي في محفل لبنان.(4)
المبحث الثالث
موقفه من جمعية العلماء الجزائريين
أولاً: مؤسس جمعية العلماء الجزائريين:
هو عبد الحميد بن محمد بن المصطفى بن مكي بن باديس(5) ولد في مدينة قسنطينة في الجزائر، وهو أحد المفكرين الذين كان لهم دور كبير في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وقد كان من أهم الأمور التي نالت الحظ الأوفر من جهده وعمله، ما يأتي:
1ـ الشخصية القومية للشعب الجزائرية.
2ـ الإسلام.
3ـ اللغة العربية.
4ـ الحرية.
5 ـ الاستقلال.
__________
(4) انظر الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: ص328 ، 329.
(5) ترجم له سابقاً ص 25 .(1/187)
يعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس من المناضلين الكبار عن الشخصية الجزائرية العربية الإسلامية في العصر الحديث بدون منازع، فقد كان المدافع عنها بحرارة وبكل قوة والعامل على حفظها وبعثها وازدهارها ليلاً ونهاراً حتى آخر يوم في حياته، وقد حلّل هذه الشخصية تحليلاً علمياً دقيقاً ، وكان لا يتصور مستقبلاً آخر للجزائر خارج دائرة الإسلام فالإسلام وحده هو الذي تبنى عليه الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري ، ولقد قاد حركة إصلاحية سلفية شاملة للإسلام في الجزائر مدة تقرب من ثلاثين عاماً، كانت من أقوى الحركات الإصلاحية السلفية التي قامت في العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين .
وقد قضى ابن باديس الشطر الأكبر من حياته، وركز الجزء الأعظم من نشاطه في العمل الجاد الهادف لإحياء اللغة العربية في الجزائر ونشرها بين أبناء الجزائريين، الذين عمل الاستعمار على حرمانهم من تعلمها في المدارس التي يشرف عليها، ونادى بمفهوم الحرية كمفهوم عام وشامل يتناول حرية الفرد وحرية المجتمع في وقت واحد، حرية الفرد في أن يعبر عن رأيه وأفكاره في حدود الشرعية التي أقرها الدين، وحرية المجتمع بعدم استبداد أي حاكم برعيته وقد كان الهدف الذي يسعى إليه هو استقلال الجزائر.(1)
لقد مدح ابن نبي الشيخ بن باديس في أكثر من موضع من كتبه، حيث عدّه معجزة البعث الإسلامي،(2)
__________
(1) انظر : الشيخ عبد الحميد بن باديس ، ص222 ـ ص 231 .
(2) انظر: شروط النهضة :ص24 .
(2) انظر : وجهة العالم الإسلامي : ص51 .
(3) شروط النهضة : ص24 .
(4) انظر : شروط النهضة : ص25 .
(5) فكرة الإفريقية الآسيوية : ص254 .(1/188)
وذلك عن طريق مواجهته للأفكار الهدامة، حيث قام بتنقية الثقافة الإسلامية من المقدسات الوهمية، والعمل على تخليص الجزائر من التقاليد الزائفة(1) ولكنه لم يعتمد فقط على المجال الفكري، بل إن أفكاره أخذت تنطلق لتتلاقى وتتصارع ومن ثم تتحول إلى المجال العملي، في صورة مدرسة، أو مسجد أو مؤسسة إصلاحية وقد ربط ابن نبّى بين الشيخ عبد الحميد بن باديس وجمال الدين الأفغاني بقوله: " ولكن شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل، من قمة الجبل، فلم يلبث أن محت آياته من الظلمة من سماء الجزائر فحوالي عام 1922م، بدأت في الأرض هيمنة وحركة، وكان ذلك إعلانا لنهار جديد، وبعثًا لحياة جديدة، فكأنما هذه الأصوات استمدت من صوت جمال الدين قوتها الباعثة، بل كأنها صدى لصوته البعيد". (2)
يرى الباحث أنه لا وجود لأي تقارب بين فكر الشيخ عبد الحميد والأفغاني، وإن ابن نبي قد جانب الصواب باعتبار فكر ابن باديس هو نسخة أصلية لفكر الأفغاني، وأنه صدى لصوته، الدليل على ذلك مأخوذ من كلام ابن نبي نفسه، إذ ينسب فكر ابن باديس إلى التيار السلفي البعيد عن منهجية علم الكلام التي ينتهجها الأفغاني، فهو يرى أن مدرسة ابن باديس ـ كما يسميهاـ تعمل على نهج السلف الصالح عن طريق العمل وليس عن طريق علم الكلام والجدل، (3) ولكن ابن نبي يقع في تناقضات كبيرة بالنسبة لابن باديس، فهو يصفه أنه سلفي ثم يعود فيربط فكره ووعيه بالحضارة الغربية فيقول: " فالوعي الذي بدأ يتكلم بتأثير ابن باديس في إفريقيا الشمالية كان غنياً بتجربة حاسمة قطعاً، ولكنه كان غنياً بذاتية جديدة فالحقيقة النفسية تكمل هنا الحقيقة التاريخية، التي ربما تبقى دون ذلك جزئياً في الظلام ، أو تظل غير مفهومة،وعلى ذلك فالنفسية المسلمة الجديدة لا يمكن أن تتضح في ذاتها، إلا إذا اعتبرنا الثروات الذاتية التي استمد وعيها من عرين الحضارة الغربية ".(4)(1/189)
يقال لابن نبي أي ثروة استمدها وعي وفكر ابن باديس من عرين الحضارة الغربية وهو الذي تكّون فكره ووعيه من خلال عاملين، أولهما: العقيدة الإسلامية، وثانيهما: عوامل شخصية، أي لا فضل لحضارة الغرب في تكوين وعيه(1) لقد كان ابن نبِّي متناقض الرأي في هذه الشخصية التي كان لها تأثير كبير على الواقع الجزائري، ولها دور واضح بعد ذلك في الثورة الجزائرية من خلال حاملي فكره المستنير.
ثانياً: جمعية العلماء الجزائريين:
لقد تأسست هذه الجمعية بتاريخ 5/ مايو / 1931م، وبرنامجها هو:
1ـ إصلاح عقيدة الشعب الجزائري، وتنقيحها مما لحق بها من الخرافات والبدع.
2ـ محاربة الجهل بتثقيف العقول.
3ـ الرجوع إلى القرآن والسنة، عن طريق التربية والتعليم.
4ـ المحافظة على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، بمقاومة سياسة التنصير والفرنسة.
5ـ الدعوة إلى استقلال الجزائر.(2)
... لقد أيّد ابن نبي هذه الجمعية في مبادئها وأفكارها، لأنها تقوم على مفهوم التغيير النابع من أداء الواجبات وليس من خلال المطالبة بالحقوق، فهي عنده أقرب الحركات والقيادات إلى النفوس، لأنها تعمل على تغيير ما بالنفس، وذلك كمقدمة لتغيير الإنسان، فهي تسير على هدى شرعة السماء، غيّر نفسك تغيّر التاريخ، فبعثت في الشعب الجزائري روحاً وثّابة أشرقت معها بوادر النهضة الكبرى، وبدأت المعجزة تشق طريقها بقوة، وقد قام بتأسيس هذه الجمعية مجموعة من العلماء حيث اتخذوا شعاراً لهم قوله تعالى:( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (3) وبتمسك هذه الجمعية الإصلاحية بهذه الآية، فلن تتهدد البلاد بأي خطر، طالما بقوا يدعون الناس إلى العودة إلى الإسلام كمنهج للحياة.(4)
__________
(1) انظر : الفكر الإسلامي المعاصر : ص69 .
(2) عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية : ص98 .
(3) سورة الرعد : آية : 11 .
(4) انظر : شروط النهضة : ص32 ،ص 33 ،ص 34 .(1/190)
ولكنه انتقد الجمعية عندما عقدت مؤتمر عام 1936م، واعتبر قادتها قد انصرفوا عن مبادئهم وأفكارهم، وخالفوا المفهوم الاجتماعي للآية السابقة، معتبرا إيّاهم قد انحرفوا عن الطريق القويم، متبعين رجال السياسة، وبذلك فقد ضلُوا الطريق يقول ابن نبِّي: " ولئن كان هناك شيئاً يؤسَف له منذ عام 1925م فإن أكبر أسفنا على زلّة العلماء التي كانت نزيهة، لما توفر فيها من النية الطاهرة، والقصد البريء، ومع ذلك فإنه يجب أن لا يغرب عن بالنا أن الحكومة الاستعمارية كانت هي السبب الخارجي لتلك الخطوة المشؤومة التي خطاها العلماء نحو السراب السياسي، ولكن ألم تكن المعجزة الحقة في تحويل الأمة وتقدمها شيئاً أغلى من هذا السراب ؟.
ألم تكن المعجزة هي ما دل عليه القرآن؛ أي في النفس ذاتها ؟ أو لم يكن العلماء أنفسهم ينهلون من ذلك الينبوع معجزتهم من عام 1925م حتى عام 1936م، إذ كانوا يغيرون ما بنفس الفرد، ذلك التغيير الذي هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد".(1)
__________
(1) شروط النهضة : ص30 .(1/191)
"إن المؤتمر الذي عقد في 7/ يوليو / 1936م(1) حضرته جميع التنظيمات السياسية في الجزائر ما عدا حزب الشعب الجزائري، وكان ابن باديس نفسه من بين من أيدوا عقد المؤتمر ودعوا إليه، وقد نجح في إقناع أعضائه بتبني مطالب جمعية العلماء التي تتعلق بترسيم اللغة العربية، وتعليمها في المدارس الحرّة، وتأسيس كلية لعلوم الدين، وتنظيم القضاء الإسلامي وتسليم المساجد مع أوقافها للمسلمين، حيث شكل وفد عهد إليه بالسفر إلى فرنسا لعرض المطالب الجزائرية، التي لا تخرج في جوهرها عن المطالبة بمساواة الجزائريين بالفرنسيين وتحقيق فكرة الاندماج مع المحافظة على الشخصية الجزائرية العربية ".(2)
__________
(1) المؤتمر الاسلامي 1936 م : انعقد في نادي الترقي ، وشارك فيه اتحاد المنتخبين المسلمين ،الذي يدعو إلى فكرة الاندماج مع فرنسا ، وشارك فيه الحزب الشيوعي ، والحزب الاشتراكي ، وجمعية العلماء المسلمين ، وقد خرج بقرارات منها : الغاء سائر القوانين الاستثنائية التي لا تطبق الا على الجزائرييين ،، المحافظة على الحالة الشخصية الاسلامية مع اصلاح المحاكم الشرعية ، ارجاع سائر المعاهد الدينية إلى الجماعة الإسلاميية ، إرجاع أموال الاوقاف لجماعة المسلمين ،إلغاء كل ما اتخذ ضد اللغة العربية ، التعليم الإجباري للبنين والبنات ، الشروع بسرعة في بناء المدارس ، تساوي الأجور إذا تساوى العمل ، اعلان العفو السياسي العام عن المسجونين السياسييين ، الحاق الجزائر بفرنسا رأساً . انظر : الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح ص77 ،ص 78 .
(2) عبد الحميد مفسراً : ص25 ،ص 26 .(1/192)
يرى الباحث أن ابن نبي لم ينظر إلي هذا الموضوع من الجانب السياسي بل من الجانب الاجتماعي، وعلى ذلك يكون قد أصاب لو أرادت جمعية العلماء من خلال هذا المؤتمر تغيير الواقع، والصواب أنهم أرادوا إثبات زيف حكومة فرنسا أمام كافة الأحزاب وخاصة المنادية بالاندماج، وثانياً أرادوا أن يكسبوا نوعاً من الحرية لمواصلة الدعوة فالجمعية لم تتخل عن فكرتها في المحافظة على الشخصية الوطنية، لتحقيق برامجها وأهدافها البعيدة.
وقد أكد ذلك الشيخ البشير الإبراهيمي(1)بقوله : " أن جمعية العلماء لم تشارك في المؤتمر المذكور، ولم توافق على مطالبه إلا من أجل المحافظة على الشخصية الإسلامية للشعب الجزائري، وأن تدمج مطالبها في حرية الدين الإسلامي والتعليم العربي ، وترسيم اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة، وتنظيم القضاء الإسلامي واستقلاله عن القضاء الفرنسي"(2)
وأيضاً لا يجوز لأي باحث أن يهاجم جمعية لها أصولها الفكرية الخاصة، ويعتبرها قد انتهت من خلال موقف واحد ليس له أي صلة بأفكارها ومبادئها.
المبحث الرابع
موقفه من حركة الإخوان المسلمين
أولا ً : موقفه من مؤسس الحركة: (3)
هو حسن بن أحمد عبد الرحمن البنّا ولد في المحمودية بمصر ، وهو أحد المفكرين التربويين الذين كان لهم دور كبير في الإصلاح الاجتماعي، وفي مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وشارك هو وإخوانه في الدفاع عن أرض فلسطين في حرب عام 1948م، وقد كان من أهم الأمور التي نالت الحظ الأوفر من جهده وعمله، ما يأتي:
__________
(1) ترجم له : ص 9 .
(2) الشيخ عبد الحميد : ص79 .
(3) حسن البنا : ولد في المحمودية بمصر في 17 / تشرين أول / 1906 م ، واستشهد في 12/ شباط / 1949م ، نشأ في بيت علم ، وكان والده عالماً في الحديث ، وعمل مدرساً في إحدى مدارس الإسماعيلية الابتدائية ، ومن آثاره ، مذكرات الدعوة والداعية ، أحاديث الجمعة ، مجموعة الرسائل ، انظر : الفكر الإسلامي المعاصر ، ص197 ، 198(1/193)
1ـ تطبيق الإسلام .
2ـ تكوين الشخصية الإسلامية العاملة .
3 ـ الإيمان بشمولية الإسلام .
4 ـ إحياء فكرة الجهاد في سبيل الله .
5ـ إنشاء المؤسسات التربوية والاقتصادية والصحية(1) .
6ـ إحياء دور المسجد في بناء المجتمع المسلم .
إن ابن نبي كان يحب المنهج الحركي، الذي يعمل على تحويل الفكر إلى واقع عملي يبرز على أرض الواقع المعاش، ولذلك فلم يكن يحب المنحى الفلسفي في الفكر الذي لا يتحول إلى واقع عملي، وعندما وصل ابن نبي إلى مصر سمع عن شخصية الإمام حسن البنا وعلم أنه كان من منهجيته العناية بالواقع العملي، فمدحه بكلمات رائعة، فوصفه بلفظ الزعيم يقول في ذلك: " ولقد ظفرت الحركة بزعيم لم يكن فيلسوفاً أو عالم كلام، فقد اكتفى بأن بعث في الناس إسلاماً خلع عنه سدول التاريخ، وما كان له من نظرية يركن إليها سوى القرآن نفسه، ولكنه القرآن الذي يحرك الحياة " (2) وإن تأثير هذا الرجل ليس نابعاً من سحر خاص به كما يتصور البعض، بل كان ذلك المدرس الذي يؤدي الصلاة في كل مساجد القاهرة ثم ينتهز الفرصة ليذكر الناس ببعض آيات القرآن، رابطاً مفهومها بالواقع الاجتماعي لإحداث التغيير الذي كان يريد تحقيقه، حيث كان يستخدمها بنفس الطريقة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستخدمها فيه، وكذلك الصحابة، بانتهاج المنحى السلفي، فقد كان يوحي القرآن إلى الضمائر فيزلزل كيانها، فتدب الحياة في الآيات فتتحول إلى واقع يتحرك في سلوك الناس وذلك بتركيب كل من للفكر والعمل معاً.(3)
أهم أفكار ومبادىء الإخوان:
__________
(1) انظر : الفكر الإسلامي المعاصر : ص197 ـ 208 .
(2) وجهة العالم الإسلامي ، ص146 .
(3) انظر : وجهة العالم الإسلامي :ص 146 ـ ص 148.
(2) مجموعة رسائل حسن البنّا ، حسن البنّا ، المؤسسة الإسلامية للطباعة والنشر ، بيروت ، بدون رقم طبعة ، ص156.
(3) المصدر السابق ، ص157 ،ص 158 .(1/194)
... ... لقد عرض الإمام البّنا بعض مفاهيم وأفكار ومعتقدات هذه الحركة بقوله: " إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة ورابطة علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية" (1)ومعنى ذلك أنه اهتم بالشمولية في إصلاح المجتمع.
خصائص حركة الإخوان:
1ـ البعد عن مواطن الخلاف.
2ـ البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء.
3ـ البعد عن الأحزاب والهيئات.
4ـ العناية بالتكوين والتدرج في الخطوات.
5ـ إيثار الناحية العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات.
6ـ شدة الإقبال من الشباب.
7ـ سرعة الانتشار في القرى والبلاد.(2)
ولكنه يعود فيذكر أن أخص خصائص الإخوان أنها حركة:
1ـ ربانية : لأنها الأساس الذي تدور عليه أهدافنا، فغاية ما ندعو إليه، أن يتعرف الناس إلى ربهم.
2ـ عالمية : لأنها موجهة إلى الناس كافة؛ لأن الناس في حكمها إخوة، أصلهم واحد وأبوهم واحد، ونسبهم واحد، لا يتفاضلون إلا بالتقوى وبما يقدم أحدهم للمجموع من خير سابغ وفضل شامل.
أهداف الحركة:
1ـ إعداد الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه.
2ـ إعداد البيت المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته وفي عمله وتصرفه.
3ـ إعداد الشعب المسلم، وذلك بنشر الخير ومحاربة الرذائل.
4ـ تحرير الوطن بتخليصه من الاحتلال .
5ـ إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق.
6ـ إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها.
7ـأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .(3)
موقفه من حركة الإخوان المسلمين:
__________
(3) مجموعة رسائل حسن البنا : ص 109 .(1/195)
... إن ابن نبي قد مدح مؤسس هذه الحركة، وأمّا بالنسبة للحركة فلم يوضح رأيه فيها بشكل واضح إلا من خلال عباراته المطاطة بقوله: " ولقد أدرك الشباب المصري ـ الذي طالما احترق بلهيب الخطب في المطالبة بحقوقه ـ أن الطريق الوحيد لنيل مطالبه هي طريق العمل الدؤوب والمتواصل ، ومدحهم من باب تمثلهم بمفهوم الاخوة العملية على أساس العلاقة العضوية بين المبدأ الاجتماعي وموضوعه، حيث التضامن الإسلامي الذي أحالته الحركة إلى مؤاخاة ، أي عملاً أساسياً يصبح الناس به أخوة، حيث التغيير الشامل للإنسان " (1) ولقد مدح الحركة لوجود الفعالية في برامجها، والتي ظهرت بوادرها من خلال إقامة المؤسسات الاقتصادية الإسلامية، وإنشاء الصحافة الصادقة وغيرها.
... يقول ابن نبي: " ودار الجهاز الضخم ليحرك بدوره وجوه الحياة في البلاد، فينشئ المصارف لتوجيه رأس المال، والصحافة القوية لتوجيه الثقافة، والصناعة الناهضة لخلق العمل وتوجيهه، وجمع الجهاز الضخم أموالا طائلة استثمرت لتأسيس القاعدتين الضرورتين لحياة الفرد: قاعدة الروح وقاعدة المادة ".(2)
يرى الباحث أنّه رغم هذا المدح الذي ذكره ابن نبي للحركة، وكونه يعدّها أنها الطريق للنهضة لاهتمامها بالإنسان وبالفعالية والتوجيه إلا أنه وقف ضدها من الناحية العملية عندما أيّد رئيس النظام المصري عبد الناصر في فكره القومي، واعتبره طريقا للنهضة وهذا بحد ذاته تناقضاً واضحاً، وأيضاً رغم هذا المدح فإنه لم يوضح موقفه لما حدث للحركة من قبل الطاغية جمال عبد الناصر، فأين موقفه من إعدام سيد قطب وغيره من قيادات الإخوان؟ أم أنه لم يقل موقفه خوفاً من قطع الراتب الذي كان يتقاضاه من الحكومة المصرية آنذاك !.
الفصل الثاني
مستقبل الإسلام عند مالك بن نبي
المبحث الأول : أسباب ضعف المسلمين.
__________
(1) وجهة العالم الإسلامي : بتصرف بسيط، ص147 ،ص 149 .
(3) المصدر السابق : ص149 .
(4) وجهة العالم الإسلامي : ص149.(1/196)
المبحث الثاني : شروط نهضة العالم الإسلامي ومعوقاتها.
المبحث الثالث : مستقبل الإسلام ودور المسلم فيه .
المبحث الأول
أسباب ضعف المسلمين
يرى ابن نبي وجود ضعف واضح في العالم الإسلامي، ويستخدم مصطلح المرض بدل مصطلح الضعف، وهو يرى أن بداية العلاج تتم بتحديد أسباب المرض لا أعراضه وأن أي محاولة لمعالجة أعراض المرض لا يمكن أن تؤدي إلى علاج الجسم المريض، يقول في ذلك: " فإن من الواجب أن نضع أعيننا على المرض بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة، لأن الحديث عن المرض والشعور به لا يعني بداهة الدواء" (1) وإن كل محاولة للتعرف على الأسباب وراء ضعف المسلمين" لم يكن فيها تحليل منهجي للمرض بمعنى دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي، بحيث لا تدع مجالأ للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون"(2) ألا وهو الضعف الحاصل من خلال تأثير الأمراض الفتاكة على هذا الجسم الإسلامي، وإن الأطباء كانوا يعالجون أعراض المرض مثاله " كطبيب يواجه حالة مريض بالسل الجرثومي، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريض. ... والمريض نفسه يريد أن يبرأ من آلام كثيرة من الاستعمار، من الأمية، من الكساح العقلي وهولا يعرف حقيقة مرضه، بل شعر بألم، فاشتد في الجري نحو الصيدلي، يأخذ من آلاف الزجاجات، ليواجه آلاف الآلام، فالعالم الإسلامي يتعاطى هنا حبة ضد الجهل، ويأخذ هناك قرصاً ضد الاستعمار، وفي مكان قصي يتناول عقاراً كي يشفى من الفقر، فهو يبني هنا مدرسة، ويطالب هناك باستقلاله، وينشئ في بقعة قاصية مصنعاً، ولكنا حين نبحث حالته عن كثب لن نلمح شبح البرء"(3)لأن ذلك كان علاجاً لأعراض المرض، لا جوهره.
ومن هنا وجدنا ابن نبي يقوم بتشخيص المرض ليعرف سببه الرئيس فيرجع كل الأعراض إلى سبب واحد ووحيد وهو الخلل العقائدي.
1ـ الخلل العقائدي:
__________
(1) شروط النهضة : ص40 .
(2) المصدر السابق : ص40 .
(3) المصدر السابق :ص42 .(1/197)
إن ابن نبي يبين أن أساس المرض متمثل بالخلل العقيدي، فهو الذي أدّى إلى ضعف المسلمين أمام الحضارة الغربية(1) ويذكر من صور ذلك الخلل:
أ ـ الوثنية :
لا يقصد ابن نبي من طرحه مصطلح الوثنية عودة العالم الإسلامي إلى عبادة الأصنام المعبودة قديماً سواء كانت من الحجر، أم القمر، أم الخشب، بل يرى تطور تلك العبادة تبعاً لتطور أفكار البشر ويقول في ذلك: " فإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكاراً بل ينصب أصناماً، وهذا هو شأن الجاهلية فليس من باب الصدفة المحضة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة، ولم يكن عجيباً أن مرّ الشعب العربي والإسلامي بتلك المرحلة، حين شيّد معبداً للأقطاب ( الدراويش ) المتصرفين في الكون، ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح "(2) وهو يرى أن ذلك أكثر وضوحا في الفكر الصوفي المنحرف حيث أهل الفتة والدروشة والرقص، وبلع العقارب، ونسج الخرافات والأوهام، والجنة التي يوعد بها المريدون بلا كد ولا عمل، إلا ما يتلمسون من رضا الشيخ القطب. (3)
ب ـ عدم الفعَّالية:
__________
(1) انظر : ميلاد مجتمع : ص100 .
(2) شروط النهضة : ص28 .
(3) انظر : شروط النهضة : ص28 .(1/198)
يرى ابن نبي أن المسلم لم يتخلّ مطلقاً عن عقيدته، فلقد ظلّ مؤمناً متديناً، ولكن الخلل كان في أن العقيدة قد تحررت من فاعليتها وتأثيرها في سلوكه الاجتماعي، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جاذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صلاته مع أفراد المجتمع الذي يعيش فيه(1) أي أن هناك انفصال بين العقيدة والسلوك، ولتوضيح ذلك فلننظر إلى فكرة العقيدة ذاتها، وهي التي نعرف تأثيرها العميق في ضمير المسلمين الأوائل هذه العقيدة لم يعد لها اليوم التأثير نفسه، وقوة التوجيه لسلوكنا الفردي، ولأعمالنا، وأفكارنا ومشاعرنا فالبعض يكرر القول:" إننا لم نعد مسلمين إلا بشهادة الميلاد" فهذه هي الحقيقة وذلك نتيجة ما نراه في عدم فعّالية العقيدة.
ويضرب مثلاً على ذلك: أولئك الذين يشهدون صلاة الجمعة، وينصتون إلى خطبتها فبعض الخطباء تكون كلماته مؤثرة، تجعل بعض المصلين ذائباً في دموعه، بل قد نرى الإمام نفسه قد خنقته شهقاته وانفعالاته، فإذا قضيت الصلاة بقيت الحقيقة التي زلزلت كيانه محبوسة في المسجد، ولم تتبعه إلى الشارع، أي هناك انفصال بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي، هناك افتراق بين المبدأ والحياة، لقد أصبح المسلم يعيش هذا الانفصال،(2) والتجربة اليومية برهنت على أمرين:
1ـ أن العقيدة الإسلامية لم يعد لها تأثير أو فاعلية في سلوك الفرد كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم -.
2ـ أن العقيدة الإسلامية تستعيد دورها بصورة تلقائية، في محيط المسجد فقط.
__________
(1) انظر : وجهة العالم الإسلامي : ص48 .
(2) انظر : ميلاد مجتمع : ص97 ،ص 89 ،ص 99 .
(2) انظر : ميلاد مجتمع : ص104 ،ص 105 .
(3) فكرة كمنويلث إسلامي : : مالك بن نبي ، ط دار الفكر دمشق ، ترجمة الطيب الشريف ، ط 2 ، عام 1999 م ،ص22 .(1/199)
ويستخلص من الأمر الأول، أن المسلم لا يحتفظ باستقلاله الأخلاقي، ابتداءً من اللحظة التي يغادر فيها المسجد، فهو يسقط تحت سطوة قانون العدد، وبدلاً من أن يؤثر على الوسط طبقاً لمثله الأعلى ومبادئه، نجد أن الوسط هو الذي يؤثر عليه، فيجرده من مثله إلى ويهدم مبادئه.
ويستخلص من الأمر الثاني، أن المسلم يعثر على استقلاله في جو المسجد، إذ يكون اجتماع أشخاص، يوجد تأثير الوعظ لديهم مثل الظروف التي ظهر فيها تأثير العقيدة الإسلامية على عهد المسلمين الأولين، وقد كانت العقيدة لدى صحابة النبي صلى الله عليه وسلمفي تلك الظروف لا منظّمة لنشاطه فحسب، وإنما موجهة لأداء نشاط مشترك، نعرف تاريخه.
فإذا ما شعر المسلم المعاصر في جو المسجد أن العقيدة الإسلامية تسيطر على غرائزه، ثم يضل عن هذا الشعور بمجرد خروجه إلى الشارع، فمعنى ذلك أنه لا يجد في الحياة الإطار الضروري الذي ينقذ استقلاله الأخلاقي(1) " فيحس بطريق غامضة أن بينه وبين هذا العالم تخلفاً وانقطاعاً معينين".(2)
جـ ـ ضعف الأساس المفاهيمي:
يرى ابن نبي أن هناك غياب للمفاهيم والأفكار في حس المسلمين، وخاصة العلاقة التي تنظم بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، حيث تبقى الفكرة معزولة ومحايدة، وبالتالي فقدانها لفعّاليتها، فإن الفكر في المجتمع الإسلامي المعاصر يتسم بانعدام الفعالية،كما يتسم الفقر حتى في الأفكار نفسها، في الوقت الذي تمثل فيها الأفكار الثروة الوحيدة التي يعّول عليها، فالعالم الإسلامي أصبح مجرداً من المفاهيم الصحيحة في وقت تحتاج فيه المفاهيم كسلاح في مواجهة الغرب، وأصبحت الأشياء التي نحتاجها نشتريها من مجتمعات قوية مفاهيمياً.(3)
د ـ الفوضى والتمزق الفكري:
__________
(3) انظر :فكرة كمنويلث إسلامي : ص 51 ـ ص 54.(1/200)
... يرى ابن نبي أن العالم الإسلامي لا يعيش منغلقاً على ذاته، فهو جزء من مجتمع عالمي، يبيعه الأشياء، ويفرض عليه في الوقت نفسه مقاييسه، ويرغمه على أخذ معاييره الخاصة به، وعلى تمثل أفكاره حسنها ورديئها، فيصبح تطوره مشروطاً بهذه الرابطة المادية، وقد كان موقف المجتمع الإسلامي من ذلك اعتبارها إلزاماً في الحقل الاقتصادي، وفوق الإلزام في المجال الفكري، فهذا الرد لكي يتمكن من تحمل الثقل الساحق لكم الأشياء التي أدخلها في حياته، ولكي يستوعب الضغط الضخم التي تهدد شخصيته وبقائه(1)وفي مواجهة ذلك، اتجه العالم الإسلامي إلى التأقلم مع أفكار شديدة الأصالة بالنسبة إلى وسطها الأصلي، ولكنها في وسطنا غريبة، حيث نجهل تاريخها واستعمالها، فتم تأييد بعض الأفكار التي لفظت في عالمها الأصلي كالماركسية، فأدى ذلك إلى فوضى في عالم الأشياء وعالم الأفكار، كعالمين لا مجال في داخلهما لأي تنظيم(2) فيقع التمزق الفكري لدى الإنسان المسلم بين الرغبة في الاندماج في عالم زمني هو مرغم على الحياة فيه، والرغبة في إنقاذ عقيدته التي يعرف مدى قيمتها.(3)
هـ ـ الاضطراب:
__________
(1) انظر: المصدر السابق : ص29 .
(2) انظر : المصدر السابق : ص30 ،ص 31 .
(4) انظر : المصدر السابق : ص25 .(1/201)
... يذكر ابن نبي أن الفوضى في الأشياء والأفكار يكون من تبعاتها الحتمية انعدام الأمن في المجتمع، والاضطراب في الأرواح، فالفوضى الفكرية تنتج الاضطراب الأخلاقي ويترجم ذلك بالسلبية في التعامل مع التراب والوقت، وأيضاً نرى من المسلمين من يكتب أن الإسلام أصبح شيئاً فات أوانه، ويتعين استبداله بما يحل محله، وهذا يكون مواجهاً للمسلم الذي ينادي بالعودة إلى الإسلام العملي، بوصفه الوسيلة الوحيدة للنجاة، إنهما قطبان متقابلان في حياة المجتمع الإسلامي المعاصر:القطب الفكري والعاطفي، وكل هذا النشاز، وعدم الانسجام من شأنهما أن يضيفا مفعولهما النفسي للاضطراب الأخلاقي السائد في المجتمع وهذا الاضطراب يترجم بدوره في سلوك الأفراد، وهذا ناتج عن وهن في الرأي أوالتطرف في وجهات النظر حتى يؤول الأمر ببعض الأفراد إلى الارتداد عن الإسلام واعتناق المسيحية بدافع من اضطرابهم.(1)
2ـ الاستعمار والقابلية له:
... يرى ابن نبي أن الاستعمارهو الذي أدّى لضعف المسلمين، إنه عامل خارجي حيث يدرسنا دراسة واعية لكي يبقينا في الهزيمة، حيث " درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريد" (2) فالاستعمار يراقب حركة الأفكار، فكل ما يمرّ في العالم الإسلامي من أفكار يهمه بصفة خاصة، بقدر ما يهمه البترول، بل أكثر من ذلك بكثير وهو يراقب حركتها باهتمام بالغ، وله فلسفته الخاصة إلى تتمثل في التخلص من الأفكار التي تضايقه، وفي الانحراف بها عن مراميها، بتوجيهها خارج المدار الذي أراد أصحابها استبقاءها فيه ".(3)
__________
(1) انظر :فكرة كمنويلث إسلامي: ص31 ـ ص 35 .
(2) شروط النهضة :ص 155.
(3) انظر : فكرة كمنويلث إسلامي ،ص 54 ،ص 55 .
(4) انظر: شروط النهضة :ص 145ـ ص 153 .(1/202)
وابن نبي يتفرد في بيان ما هو أخطر وأشد في عملية إضعاف المسلمين، ألا وهي القابلية للاستعمار، لأنها عامل داخلي في نفوسنا، حيث نتقبل كل ما يطلقه المستعمر علينا بدون وعي وإدراك منا، فما يطلقه من مصطلحات ضدنا نتقبلها ونرددها على أساس أنها من المسلمات الصحيحة، وما يصفه لنا نعتبره صحيحاً وجيداً، حيث نقيس أنفسنا بمقياسه، وذلك نتيجة الضعف في شخصيتنا الفكرية والنفسية، فنحن نخدمه باستغلاله لما في أنفسنا من استعداد لخدمته، فنفوسنا معلولة من باطنها، بها معوق داخلي يمسكها عن التقدم، ونحط من قيمة أنفسنا بأنفسنا، فنحن مسخّرون لهم بحيث أصبحنا أبواقاً يتحدث من خلالها، وأقلاماً يكتب بها، ومسخرين له بعلمه وجهلنا.(1)
يرى الباحث أن ابن نبي قد أصاب عندما أرجع واقع العالم الإسلامي المهلهل المضطرب إلى الضعف بل الى العجز الفكري، وأن مشكلة العالم الإسلامي هي في الذات وذلك لأن الإنسان يتميز بعقله، وسلوكه مرتبط بمفاهيمه عن الأشياء ، ولكي يتغيّر سلوكه لابد أن تغير مفاهيمه عن الأشياء ، وذلك لأن علاج ما أصاب المسلمين اليوم لا يكون إلا بإعادة القاعدة التي يسير عليها في التفكير عن طريق بناء طريقة تفكير تعتمد على الأصول التي اعتمد عليها السلف الصالح من العودة إلى العقيدة السلفية التي تعنى بالجانب العملي واقتباس نفس منهج التفكير والعمل التي اعتمد عليها الجيل الإسلامي الأول من أجل إستئناف الحياة الإسلامية من جديد.
المبحث الثاني
شروط النهضة ومعوقاتها(1/203)
إن ابن نبي يحدد شروط النهضة من خلال ثلاثيته المشهورة، فهي الزاد الأساسي لإرادة التغيير التي لابد منها لرجل الفطرة الذي يريد أن يتحرك لكي يصبح رجل النهضة فلا زاد سوى: الإنسان، والتراب، والوقت، وإرادته لتلك الحركة ، فهذه هي رأسمال المبدئي وكل ما عدا ذلك: من القصور الشامخات، والجامعات والطائرات، ما هي إلا مكتسبات النهضة، وليست عناصر أولية لعملية النهضة.(1)
__________
(1) انظر : مشكلة الثقافة : دار الفكر ، ط4 ، 1984م ،ص67 ، انظر : شروط النهضة ، ص60 .(1/204)
... " وليس من الضروري ولا من الممكن أن تكون لمجتمع فقير المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه من الإنسان والتراب والوقت "(1) فالإنسان إذن هو محور الفاعلية في حركة النهضة، وذلك بتحقيق الخلافة على هذه الأرض مصداقاً لقوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )(2) وذلك بإعمارها لقوله تعالى: ( هُو أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(3) والنهضة رهن بمدى فعّالية الإنسان وحركته من أجل إنجازها ، وليست المادة وحدها العاملة على التغيير بل التركيبة الثلاثية بقيادة الإنسان، فإن " القضية ليست قضية أدوات ولا إمكانيات إن القضية في أنفسنا، إنَ علينا أن ندرس أولاً الإنسان، فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن؛ سكن المجتمع والتاريخ، ذلك ما تشير إليه النظرة في تاريخ الإنسانية منذ أن بدأ التاريخ ، فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط، وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات، وهل هذه المظاهر غير تعبير عن حركة الإنسان أو ركوده(4) " فالمسألة هي: أنه يجب أن نصنع رجالاً يمشون في التاريخ ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى ".(5)
الشرط الأول : الإنسان
لقد بين ابن نبي أهمية الإنسان في النهضة، بكونه المحرك لعناصر النهضة الأخرى ولكن كيف تتحقق فعّالية الإنسان في الحركة التغييرية، إنه يرى ذلك من خلال توجيهه في ثلاث نواح هي:
1ـ توجيه الثقافة.
2ـ توجيه العمل.
3ـ توجيه الرأسمال.
__________
(1) بين الرشاد والتيه : ص60 .
(2) سورة البقرة : آية : 30 .
(3) سورة هود : آية : 61 .
(4) تأملات : ص125.
(5) شروط النهضة : ص75 .(1/205)
ثم يبين مفهوم فكرة التوجيه بأنها " قوة في الأساس، وتوافق في السير، ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف نستخدمها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى، صادرة عن نفس المصدر متجهة إلى نفس الهدف، فالتوجيه هو تجنب هذا الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل، المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية، والإنتاجية، المناسبة لكل عضو من أعضائه، وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساساً فكرة توجيه الإنسان "(1).
ويذكر ابن نبي أن التاريخ فيه منعطفات خطيرة، ومنها النهضة في العالم الإسلامي وأول شرط من شروط تحقيقها هو الإنسان الذي يتمثل فيه مفهوم التغيير قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(2) وأول ما يراد تغييره هو منهجية التفكير وطريقته، وذلك عن طريق توجيهه الثقافي؛ لأن الثقافة هي " مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها منذ ولادته كرأسمال في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته ".(3)
__________
(1) شروط النهضة : ص78 ، انظر : مشكلة الثقافة : ص67 .
(2) سورة الرعد : آية : 13.
(3) شروط النهضة : ص83 ، انظر : مشكلة الثقافة : ص74 .(1/206)
ولكن كيف تعود الثقافة إلى العمل ضمن وظيفتها في النهضة ؟ يرى ابن نبي أنه لكي تعود لذلك فلابد من تنظيفها من الانحراف، وذلك بتصفية العادات والحياة مما يشوبها من معوقات للنهضة، المتمثلة في المتعالمين، فالتعالم مرض عضال ، فقد يجد الإنسان مرض الجهل والأمية، ومن الممكن علاجه، أمّا مرض التعالم فمن الصعب علاجه " لأن عقل هذا المريض لم يتقن العلم ليصيره ضميراً فعالاً، بل ليجعله آلة للعيش وسلماً يصعد به إلى منصة البرلمان، وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة، غير قابلة للصرف فهذا الجاهل لا يقّوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما بحسب حروفها فلابد من إزالة هذا المريض ، ليصفو الجو للطالب الجاد ". (1)
وهو يرى أن التوجيه مرتبط بالمفاهيم الفكرية المؤسسة على أصول ثقافية، والثقافة الإسلامية هي الأساس في كل تغيير، فلابد من التوجيه لأنه " ينبغي أن يكون المهمة الأولى في خطة النهضة الإسلامية، لأن تحقيقه هو الذي يوجد الشرط الأول لتحويل الجهود في نطاق هذه النهضة إلى جهود فعّالة ": (2)
أولاً : توجيه الثقافة:
أ ـ التوجيه الأخلاقي:
إن المقصود من التوجيه الأخلاقي هو تأثير العقيدة الدينية في مجال السلوك البشري إذ هي عنصر أساسي في الثقافة، من خلال تأصل غريزة الحياة في جماعة، بحيث يستخدم هذه الغريزة ويهديها ويوظفها بروح خلقية سامية، هذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض، تأتيها مع نزول الدين، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضها ببعض(3) قال الله تعالى :( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (4)
__________
(1) انظر : شروط النهضة : ص84 ،ص 85 .
(2) ميلاد مجتمع :ص101 .
(3) انظر : مشكلة الثقافة : ص79 ، انظر : شروط النهضة ، ص88 .
(4) سورة الأنفال : آية : 63 .(1/207)
إنه يرى أن الدين هو الأساس الأخلاقي الضروري لعمل النهضة، لأنه منهج تغيير يوجد من المتفرقات تآلف يعمل على بناء النهضة، وهذا واضح في الإسلام حيث عمل على تجميع الأنصار والمهاجرين، وتمّ ميلاد أول مجتمع إسلامي، أصبح كجسد واحد، وظهر ذلك من خلال اكتساب قيم جديدة، حتى كان الرجل في المجتمع يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له، لكي يبني بذلك أسرة مسلمة ! فهو يرى أن التغيير النهضوي مرتبط بالتغيير المتعلق بالفكر، الذي له ارتباط بالمنحى الثقافي، المؤسس على أصول العقيدة الإسلامية، لأن " قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟ الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام حركي، وقوة التماسك هذه تؤلف النهضة المنشودة، وفي يدهاـ ضماناً لذلك ـ تجربة طويلة وحضارة ولدت على أرض قاحلة، وسط البدو ورجال الفطرة والصحراء" (1) ب ـ التوجيه السلوكي العملي :
يطلق ابن نبي على هذا المفهوم المنطق العملي، ويقصد به العقل التطبيقي الذي يجسد الفعالية في النشاط سواء على صعيد الفكر أو العمل، فالمجتمع الإسلامي الأول كان يعيش طبقاً لمبادئ القرآن، أمّا اليوم فهو يتكلم تبعاً لمبادئ القرآن، وذلك لعدم وجود المنطق العملي السلوكي، (2) فإن العقيدة الإسلامية لم يعد لها فعّالية في سلوك الفرد ما كان لها من فعّالية على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث يوجد انفصام بين العقيدة والسلوك " لا يحتفظ المسلم باستقلاله ابتداء من اللحظة التي يغادر فيها المسجد، فهو يسقط تحت سطوة قانون العدد، وبدلاً من أن يؤثر في الوسط طبقاً لمثله الأعلى ومبادئه، نجد أن الوسط هو الذي يؤثر عليه ". (3)
__________
(1) مشكلة الثقافة : ص81 ، انظر : شروط النهضة ، ص90 .
(2) انظر : شروط النهضة : ص96 .
(3) ميلاد مجتمع : ص105 .(1/208)
إن ابن نبي يرى أن أساس النهضة هو تمثل العقيدة الإسلامية، وذلك بتحديدها من خلال كونها مصدراً للثقافة الإسلامية، من خلال ربطها بالمفاهيم المنطلقة من الأساس العقائدي وتحويلها إلى منطق عملي لا عمل منطقي، فإنه في هذه الحالة نكون قد سرنا في الاتجاه الصحيح ونحن " لسنا في حاجة إلى حديث طويل لكي نؤكد أن الفكر الإسلامي قد وضع حلولاً لمشكلات العالم الإسلامي، وما يعانيه إنسان العصر من قضايا ومواقف، فالقرآن قد وضع حلولاً لها، فمن ناحية المشكلات الاجتماعية فقد وضع القرآن لها حلولاً حيث شرع الزواج والمعاشرة والطلاق، كما وضع تشريعاً للمسائل الدنيوية كالبيع والشراء والتجارة فالقرآن يضع في أعماق عقيدتنا الاستعدادات التي تؤهلنا لتطبيق المعاملات المتعددة" (1) وهو يرى أن من أسس شروط النهضة: الإنسان والوقت والتراب ولكن لابد من ربطها بالعقيدة الإسلامية فهو يرى" أن السبب في ذلك أن هذه العوامل الثلاث تتطلب إلى جانبها عاملاً آخر لا غنى عنه، وهو العامل النفساني، هذا العامل الذي يصطلح على تسميته بالعقيدة، فنحن إذن أمام قضية واضحة وضوحاً كاملاً، إن الشروط اللازمة لتكون النهضة موجودة بين أيدينا فعندنا أكرم العناصر الموجودة في العالم، وعندنا أخصب المساحات الترابية وعندنا الساعات الزمنية الكافية للإبداع والابتكار" (2) ثم يتساءل ابن نبي عن الشيء الذي ينقص هذه الأمور ويجيب عن ذلك بقوله: " إنه العمل بموجب العقيدة الإسلامية الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يعيد المسلمين إلى قيادة العالم، ولكن شريطة أن يعتبروا أن هذه العقيدة رسالة ضرورية، ولا غنى عنها، ولكن العقيدة لا يمكن أن تحرك الطاقات إلا بقدر تسخيرها لحاجات أبعد وأسمى وأجل من الحياة اليومية، ونحن لا نرى لعقيدتنا الإسلامية هيمنة على
__________
(1) مجلة الشبان المسلمين : حوار مع مالك بن نبي ، ص16 ، ص17 عدد 161 ، ربيع أول 1391 هـ الموافق مايو 1971م .
(2) المصدر السابق : ص17.(1/209)
طاقاتنا الاجتماعية بينما كانت في عصر الرسول عليه صلوات الله وأزكى سلام، وسيلة النجاة في الحياة الأخروية وأيضاً وسيلة المجد والعز والنهضة في الحياة اليومية ".(1)
... ولكي يتحول الإيمان والعقيدة إلى حيز الفعالية في الواقع المعاش، فإنه لابد من أن تدخل ضمن التغيير الداخلي للإنسان المؤثرة على السلوك لأن" أول شيء في هذه الطريق هو تكون الانعكاسات التي يغير سلوك الفرد، وهذا التغيير النفسي هو الذي يسهل حياة المجتمع وهو أيضاً الشرط النفسي في كل تغيير اجتماعي، أليس ذلك بواضح في قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (2) وهكذا نرى أن كل ما يغير النفس يغير المجتمع، ومن أعظم التغييرات وأعمقها في النفس قد وقعت في مراحل التاريخ مع ازدهار العقائد " (3).
فالذي ينظم سلوك الإنسان هو الشرائع المنبثقة عن العقائد، فالشريعة الإسلامية بميزة الوسطية توصل الإنسان إلى نهضة صحيحة، لأن التكليف هو الذي ينظم العلاقة الداخلية بحيث يكون عمل الغرائز واندماجها مطابقاً لرسالة المسلم التغيرية في المجتمع(4) فإن العقيدة تدخل في تكوين الطاقة النفسية لدى الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية الواقعة في تصرف الفرد، ثم توجيه هذه الطاقة إلى النشاط العملي داخل المجتمع والتاريخ "(5) وابن نبي يركز على مصطلح المنطق العملي، ويعني به ارتباط العمل بوسائله ومعانيه، بحيث لا يستسهل أو يستصعب الإنسان شيئاً، فالمنطق العملي هو استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة، فالعالم الإسلامي يوجد لديه عقل مجرد، لكنه بحاجة إلى العقل التطبيقي المتكون من الإرادة والانتباه، وهذا غير موجود.
__________
(1) مجلة الشبان المسلمين : ص17.
(2) سورة الرعد : آية : 13 .
(3) ميلاد مجتمع : ص73 .
(4) انظر:ميلاد مجتمع : ص60 ، 71 ، 72 ، 73 .
(5) انظر: ميلاد مجتمع : ص68 .(1/210)
فالمسلم يقتل الوقت، والعلم، والمال، فكيف ينفق العلم ويستغل المال؟ ينفقها في وجوه غير فعّالة، حيث العبثية واللافعالية متجذرة في ذواتنا فالعالم الإسلامي اليوم يفتقد الضابط الذي يربط بين العمل وهدفه، وبين السياسة ووسائلها، وبين الثقافة ومثلها، وبين الفكرة وتحقيقها والسياسة تجهل الوسائل، والثقافة لا تعرف المثل العليا، وعندما أراد المجتمع أن يسير طبقاً لمبادئ القرآن فقد سار في الاتجاه المعاكس، حيث بدأ يتكلم تبعاً لمبادئ القرآن وذلك لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي، فليس الذي ينقص المسلم منطق الفكرة بل الذي ينقصه منطق العمل، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاماً مجرداً، فنحن نعيش في أحلام التغيير وينقصنا المنطق العملي، (1) وما ذكره ابن نبّى حق، فإن الله تعالى يقول:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).(2)
جـ: توجيه العمل :
__________
(1) انظر : شروط النهضة ، ص95 ، 96 ، انظر : مشكلة الثقافة ، ص 85 .
(2) سورة الصف : آية : 2، 3 .(1/211)
إن ابن نبي يقصد من توجيه العمل: سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد بما في ذلك جهد الراعي، والحرفي، والتاجر، والطالب، والمثقف والفلاح، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء، فهو تأليف لكل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وإيجاد بيئة جديدة فإن العمل مهم في تحقيق مصير الأشياء، والإسلام يحث على العمل لقول الرسولصلى الله عليه وسلم: ( ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)(1)وتوجيه العمل ليس عنصراً أساسياً في المجال النهضوي، ولكنه متولد من شروط النهضة الثلاث، فالخطب والمواعظ لا تأتي ثمارها ما لم تتوج بالعمل، فالمسلمون بدأوا يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة حيث كانت أول ساحة للعمل، فكان أول درس لتوجيه العمل حيث قبضوا لأول مرة على عصا النهضة، فليس في المجتمعات الناشئة شيء اسمه أجر، لأن العامل لا علاقة له بصاحب العمل، ولكن بجماعة يشاطرها بؤسها ونعماءها، وهذا التوجيه المنهجي للعمل: هو شرط عام أولاً، ثم وسيلة خاصة لكسب الحياة بعد ذلك، لأنه كلما تقدم التوجيه المثلث ـ توجيه الثقافة والعمل ورأس المال ـ للإنسان المسلم تغير وجه الحياة حتماً فيكتمل ويحتل مستوى أرفع دائماً.(2)
ثانياً : توجيه رأس المال :
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب البيوع: باب ( كسب الرجل من عمل يده ) حديث رقم 2072 ، انظر : متن فتح الباري 4 / 431 ، انظر : سنن ابن ماجه ، كتاب التجارات ،حديث رقم 2129 ، مسند الإمام أحمد : مسند الشاميين ،حديث رقم ، 16552 .
(2) انظر : شروط النهضة ، ص 108.(1/212)
... ... إن ابن نبي يرى أن العالم الإسلامي غني في المجال المادي من حيث التراب والمال حيث البترول الذي هوعصب أي نهضة، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يركب عوامل النهضة إذا لم يوجه توجيهاً نابعاً من العقيدة المحركة التي تربط بين الفكر والعمل، كما كان السلف الصالح وهو يرى أن العالم الإسلامي يملك ثروة ولكنه لا يملك رأسمال لأنه يرى أنه هو الذي يتحرك، ومن ثم يوجّه على أساس المنهج الثقافي العقائدي المنتج، فهو يرى ارتباط بين توجيه رأس المال والنهج الثقافي، ويرى أن الثروة عنده هي المال غير المتحرك، فالدرهم الذي يتحرك هو رأس مال، والمليار من الدراهم المستقر الساكن هو ثروة، فالمقصود من توجيه رأس المال هو إنه " لا يتصل بالكم، بل بالكيف، لتصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة توجد معها العمل والنشاط، أما الكم فإن ذلك الدور الثاني دور التوسع والشمول(1)إذن فلابد من تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة البسيطة، وذلك بتحويلها من ثروة مكدسة إلى رأس مال متحرك، ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد، فلابد من منهاج يحدد تخطيطاً مناسباً نبني عليه حياتنا الاقتصادية.
الشرط الثاني : التراب :
__________
(1) شروط النهضة : ص 112.(1/213)
إن ابن نبي عندما يضع هذا العنصر لا يقصد منه دراسة خصائص التراب وطبيعته ولكنه يدرسه من خلال قيمته الاجتماعية، حيث تتحقق من خلال قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة يكون التراب غالي القيمة، وعندما تكون الأمة متخلفة يكون التراب رخيص، ثم يضرب مثالاً من الجزائر، حيث موت الأرض الخضراء، وانتشار الصحاري وعدم فعالية الإنسان في مواجهتها؛ لتقاعسه عن العمل، ولذلك فهو يوجه الإنسان إلى العمل مع هذا العنصر الأساسي فيقول: " ومهما يكن من بدائية وسائلنا فإن علينا أن نعمل، فالعمل لازم لزوم دراسة طبيعة الأرض والمناخ، فإننا لن نستطيع أن ننقذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق، وعندما تتحقق تلك المعجزة بانتصارنا على أنفسنا وعلى أهوال الطبيعة فإننا سوف نرى أية رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها، لأننا نكون قد شرعنا في بناء حياة جديدة ، ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية ، ولسوف تظهر أمامنا بعد ذلك أعمال جليلة خطيرة ، ولكنها سوف لا تخيفنا ، لأن شعبنا أخضع التراب ، ومهد فيه لحضارته ، ولم يعد شعباً يخاف نوائب الزمن ".(1)
الشرط الثالث : الوقت:
__________
(1) المصدر السابق : ص135 ،ص 136 .(1/214)
إن ابن نبي يريد من خلال هذا العنصر أن تعود الأمة عملياً لإدراك قيمة الوقت وكيفية استغلاله، فالوقت " يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد ... ولكنه في مجال ما يصير ثروة، وفي مجال آخر يتحول عدماً " (1) " فإن العملة الذهبية ممكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن الوقت إذا ضاع فلن تستطيع قوة في ... العالم أن تعيده، فالعالم الإسلامي يعرف شيئاً يسمى الوقت الذي ينتهي إلى العدم؛ لعدم إدراك معنى الوقت ومعنى الزمن، لأن إدراك معنى الزمن يحدد معنى التأثير والإنتاج إذا دخل في تكوين الفكرة والنشاط، فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت الذي كان وما يزال يفوتنا قطارهما ، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا " (2) وذلك إذا حاول كل فرد منا " تخصيص نصف ساعة يومياً لأداء واجب معين فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة النهضة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية، وسيثبت نصف الساعة هنا عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع ، وفي سلوك أفراده ، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي " (3) وبذلك تتحقق النهضة المطلوبة.
وفي نفس الوقت الذي يؤكد فيه مالك على أهمية عنصر الزمن في حركة النهضة وصعودها فإنه يحذر من الاستغراق في العمل والجهد من أجل الإنتاج ، حتى لا ننسى الجوانب النفسية في حياتنا كالغرب الصناعي.
__________
(1) شروط النهضة :ص135 .
(2) المصدر السابق : ص140.
(3) المصدر السابق : ص140 ، ص141.(1/215)
يرى الباحث أن ابن نبي في كلامه هنا عن النهضة، لم يكن متأثراً بالنظرة الإنفصالية بين العقل والغريزة والروح ، بل هنا حاول إدخال العقيدة الإسلامية كعامل فعّال في المفهوم التغييري، وهو بذلك يكون قد تخلّى عن الفكرة الأولى بأن أي مركب ديني سيحقق النهضة وهنا يظهر عودته إلى ما نادى به سيد قطب من قبل وهو العودة إلى أساس العقيدة ، وإدخالها كعنصر حركي في الواقع العملي، ومع هذا الوضوح في الفهم لدى ابن نبي إلا أنه لم يٌحوِّل هو بذاته هذا الفكر النظري إلى واقع حركي يتبناه ، وهذا واضح من عدم انخراطه في أي وجود جماعي يحقق من خلاله أفكاره، بخلاف سيد قطب الذي حوَّل أفكاره إلى طبيعة حركية.
المبحث الثالث
مستقبل الإسلام ودور المسلم فيه
... ... يوضح ابن نبي دور المسلم من خلال المنهج القرآني، فإن اختيار المسلم لا يمكن أن يكون إلا ما يختاره له الله سبحانه وتعالى وذلك من قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )(1) وبهذه الآية " يحدد الله دور المسلم بعامة، وليس لنا أن نختار له دوراً أشرف وأفضل منه، وإنما نلفت النظر إلى خطورة هذا الدور وإلى مقتضياته"(2) ذلك لأن الشاهد يحمل أمانة عظمى، وكون الذي اختار هذه الميزة لهذه الأمة هو الله عزّ وجل، فان في ذلك تزكية من الله عزّ وجل للأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم، فهي تزكية للناحيتين العقلية والأخلاقية.
__________
(1) سورة البقرة : آية :143.
(2) دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين : مالك بن نبّى ، ط2 ، عام 1977م ، ص12 .(1/216)
ويبين ابن نبي الكيفية التي يتم من خلالها بيان دور المسلم كشاهد على جميع الأمم بدون استثناء" فالشاهد في أساسه هو الحاضر في عالم الآخرين، والصفة الأولى لإثبات قيمة أي شهادة هي حضور الشاهد، وعندئذ إذا كان متعيناً على المسلم أن يقوم بالدور الملقى على عاتقه كما حددته الآية السابقة، فهو مجبر على الحياة في اتصال وثيق بأكبر عدد من الذوات البشرية، ومن ثم يتعين على حضوره أن ينتشر بأقصى حد ممكن في المكان، لكي تعانق شهادته أقصى كم ممكن من الوقائع، وعلاوة على ذلك فإن المسلم في هذه الحالة ليس صاحب دور سلبي محض، إذ أن حضوره نفسه يؤثر على الأشياء وعلى أعمال الآخرين".(1)
وهو يرى أن رسالة المسلم لا تقوم على مجرد ملاحظة الوقائع، بل في تبديل مجرى الأحداث، بالعمل على تسييرها إلى جهة الخير، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)(2).
" لقد ختم النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع كما نعلم بإشهاد ذي أهمية خاصة من وجهة النظر الأخلاقية، إذ توجه بخطابه إلى جموع المؤمنين التي كانت تستمع إليه في صمت وخشوع بعد أن أدّى إليهم آخر وصاياه، متخذاً السماء شهيداً (3)
__________
(1) فكرة كمنويلث إسلامي : ص72 .
(2) صحيح مسلم : كتاب الإيمان باب ( كون النهي عن المنكر من الإيمان) ، حديث رقم 78 ، 1 / 69 ،انظر سنن الترمذي ،كتاب الفتن ،حديث رقم 2098 ، سنن النسائي : كتاب الإيمان وشرائطه ،حديث رقم 4922 ، مسند الإمام أحمد : مسند امكثرين ، حديث رقم 11068 .
(3) انظر : فكرة كمنويلث إسلامي ، ص73 .
(6) صحيح البخاري : كتاب العلم : باب ( ليبلغ الشاهد الغائب ) انظر متن فتح الباري 1 / 289 . ، سنن الترمذي =
= كتاب الحج ،حديث رقم 737 ، سنن النسائي : كتاب مناسك الحج ، 2817 ، مسند الإمام أحمد : مسند المدنيين ،15778.
(1) سورة الأعراف : آية 172 ، 174 .
(2) فكرة كمنويلث إسلامي ، ص73 ، 74.
(3) سورة الصف : آية :9
(4) انظر : دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ، ص33 .(1/217)
فقال: " وليبلّغ الشاهد الغائب".(1)
... ... " فهذه العبارة تسجل رمزياً ختام رسالة النبي، ولكنها تسجل في الوقت ذاته اللحظة التي تصبح فيها هذه الرسالة، الرسالة الخاصة بكل مسلم " حاضر " بازاء " الغائبين " فالمسلم" الحاضر في هذا اليوم بسفح جبل عرفات، لا يمثل شخصه وجيله فحسب ولكنه يمثل الأجيال التي تأتي بعده كذلك، لأن عبارة النبي- صلى الله عليه وسلم - لم تكف ولن تكف عن التّصادي والرنين في أسماع الأجيال المسلمة المتعاقبة منذ الجيل الأول الذي سمعها، فقد كانت هذه الأجيال جميعها حاضرة في شخص السامعين ذلك اليوم، كما أن الأجيال البشرية قد حلفت يمين آدم في شخصه قبل أن توجد في هذا العالم قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ). (2)
فكل مسلم كان حاضراً معنوياً في عرفات، واستمع إلى وصايا الرسول الأخيرة ولذلك يتعين عليه اليوم أن يحمل الرسالة الإسلامية إلى كل الذين غابوا في ذلك اليوم وإلى الذين لا يزالون غائبين الآن، وما بعد الآن فهل يحمل المسلم هذه الرسالة"؟.(3)
__________
(1) تاب الحج ،حديث رقم 737 ، سنن النسائي : كتاب مناسك الحج ، 2817 ، مسند الإمام أحمد : مسند المدنيين ،15778.
(2) سورة الأعراف : آية 172 ، 174 .
(3) فكرة كمنويلث إسلامي ، ص73 ، 74.(1/218)
... وكيف يتحدد دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين ـ الذي عاش جزءاً منه ابن نبي ـ إنه يتحدد طبقاً لهذه الظاهرة التي نرى جانبيها، جانبها الغربي وجانبها الإسلامي، يجب أن يفكر المسلم كيف يسير في اتجاه التاريخ، كيف يستغل الظروف السانحة التي تتهيأ على المحورين، المحور الذي فقد المبررات التقليدية، والذي ينتظر مبررات جديدة وهو محور ( واشنطن ـ موسكو ) والمحور الذي أشار إليه الله عزً وجل في الآية الكريمة )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )(1) وهو محور ( طنجه ـ جاكرتا ) ويقصد به العالم الإسلامي.(2)
ويرى ابن نبي أنه لتحقيق معنى الآية فإن على المسلم أن يبلغ الإسلام، وأن يقدم المبررات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد المسلم ذلك فليرفع مستواه بحيث يستطيع فعلاً القيام بهذا الدور، إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادراً على تعميم ذلك الفضل، الذي أعطاه الله له ـ أعني دينه ـ إذ عندها فقط يصبح قادراً أيضاً على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة فيرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى، وبذلك يضيف إليها بعداً جديداً، لأن الحضارة العلمانية، حضارة الصاروخ حضارة الإلكترون اكتسبت هذه الأشياء، وضيعت بعداً آخر تشعر بفقدانه وهو بعد السماء".(3)
__________
(1) سورة الصف : آية :9
(2) انظر : دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ، ص33 .
(3) دور المسلم ورسالته ، ص34 ، 35 .(1/219)
" أما المسلم فإنه كإنسان معاصر للناس، شاهد عليهم بالتقى والورع بنزاهة الشاهد الصادق، الصادق الخبير، الواعي لقيمة شهادته، إذا أتى المسلم هكذا في صورة الإنسان المتحضر الذي اكتملت حضارته بالبعد الذي يضيفه الإسلام إلى الحضارة ( وهو بعد السماء) عندئذ ترتفع الحضارة كلها إلى مستوى القداسة، أي أن الوجود الذي فقد القداسة في القرنين الأخيرين خصوصاً في هذا القرن تعود إليه قداسته، لأن القداسة من الله وحده، ولا شيء يعطي القداسة لهذا الوجود غير الله".(1)
" إن دور المسلم كممثل وشاهد، هو اشتراك مزدوج يفرض عليه التوفيق بين حياته المادية الروحية وبين مصائر الإنسانية، لكي يقوم بدور فعال في حركة التطور العالمي ينبغي أن يعرف العالم، وأن يعرف نفسه، وأن يعرًف الآخرين بنفسه، فيشرع في تقويم قيمه الذاتية إلى جانب تقويمه لما تملكه البشرية من قيم".(2)
__________
(1) المصدر السابق ، ص35 ، 36 .
(2) وجهة العالم الإسلامي ، ص153 .(1/220)
... إن العالم كله يعيش في حالة يطلق عليها ابن نبِّي حالة طوارئ، فالبشرية في شقاء مادي وروحي، وهذه الحالة تتطلب الإنقاذ، إنقاذ الذات وإنقاذ الآخرين، فهذه هي رسالة المسلم، وإنه بفضل إسلامه لا غير يستطيع اليوم إنقاذ الإنسانية المتورطة في الضياع رغم علمها، ولكي يقوم برسالته لابد من تحقق أمرين: الاقتناع والإقناع، وأول الإعجاز هو الاقتناع، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وذلك بان يقتنع أن له رسالة لابد من تبليغها، ثم يقوم بعد ذلك بإقناع الآخرين، ولا يتوفر ذلك إلا بتغيير في داخل المسلم، في أغوار نفسه، وحول المسلم في محيطه الخاص أو في محيطه العالمي، وهذا شرط جوهري لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(1) إذن لكي يتحقق التغيير في الواقع المحيط لابد أن يتحقق أولاً في أنفسنا، ولكي يتحول التغيير إلى واقع عملي يفي بمهمة الإنقاذ فيجب على كل مسلم أن يحقق ثلاثة شروط:
1ـ أن يعرف نفسه.
2ـ أن يعرف الآخرين.
3ـ أن يعرّف الآخرين بنفسه.
__________
(1) سورة الرعد ، آية :13 .(1/221)
وبما أن المسلم يحمل رسالة الإنقاذ، فهذه فكرة، وكل فكرة تحمل جانبين: جانب الصحة، وجانب الصلاحية، فقد تكون فكرة ما صالحة وليست صحيحة، وقد تكون فكرة صحيحة وفقدت صلاحيتها لأية أسباب، ويضرب على ذلك مثلاً للتوضيح بأن ديننا صحيح ولكن بسبب تكاسلنا ونومنا فقد صلاحيته، أين كرامة المسلم؟ أين عزّة المسلم"(1) " المسلم فرّط في كل هذا، والغرب أو الحضارة الغربية فقدت مبررات وجودها، وتعاني الآن من أزمة، والمسلم يضّيع القيم الإسلامية التي كانت تشرق على وجهه في نظر الآخرين أجمل صورة إنسانية في التاريخ، أقول هذه الكلمات كوصية لإخواني، وأدعو الله أن تتحقق رسالة المسلم لإنقاذ المسلم من كساده، ولإنقاذ الإنسانية من استهتارها ".(2)
ملخص الرسالة
تناول الباحث بالدراسة موضوع" مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة"، وقد أبرز تلك المواقف بموضوعية من خلال الحكم عليها من القرآن والسنة ثم من العقل الصريح.
وقد قسمت الدراسة إلى أربعة أبواب، مقسمة إلى فصول، ثمّ إلى مباحث، تحاول أن تسلّط الضوء على مواقف مالك بن نبي من القضايا الفكرية المعاصرة:
درس الباب الأول الحياة السياسية، والحياة الثقافية والعلمية، والحياة الدينية، والحياة الاجتماعية، واسمه ومولده ونشأته ووفاته، وطلبه للعلم وثقافته، وأعماله ومؤلفاته وأقوال العلماء فيه، ومذهبه الاعتقادي.
وتناول الباب الثاني، تعريف الحضارة لغةً واصطلاحاً، ومفهوم الحضارة عند مالك بن نبِّي، والحضارة بينه وبين ابن خلدون، وسيد قطب، وأبى الأعلى المودودي، وسعيد حوّى والاستعمار: تعريفه وأنواعه وأهدافه ونتائجه، والاستعمار والغزو الفكري، والابتعاث والاستشراق: تعريفه وأهدافه ونتائجه، وموقف المستشرقين من الوحي، وموقفهم من النبوة وموقفهم من القرآن.
__________
(1) انظر : دور المسلم ورسالته: مالك بن نبى ، ص44 ـ 55 .
(2) المصدر السابق ، ص55 ـ 56.(1/222)
وفي الباب الثالث، ألقيت الضوء على الرأسمالية تعريفها وأسسها، ومناقشة ابن نبي للرأسمالية ونقده لها، والديمقراطية تعريفها وأسسها، ومناقشتة ونقده لها، والماركسية تعريفها وأسسها وقوانينها، ونقده للمادية الديالكتيكية، ونقده للمادية التاريخية والقومية تعريفها وأسسها، وموقفه من دعاة القومية.
وعرض الباب الرابع موقفه من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن دعوة الأفغاني ومحمد عبده، ومن جمعية العلماء الجزائريين، ومن حركة الإخوان المسلمين وأسباب ضعف المسلمين، وشروط نهضة العالم الإسلامي ومعوقاتها، ومستقبل الإسلام ودور المسلم فيه.
وفي الختام ذيَّلت البحث بخاتمة تحتوي على أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.
الخاتمة
الحمد لله الذي أعانني على إتمام هذه الدراسة، وأرجو أن يكون عملي هذا خالصاً ... لوجه الله الكريم، وأن يكون خطوة في السير على المنهج العلمي الصحيح.
وفي ختام هذه الرسالة أشير إلى أهم النتائج التي توصلت إليها:
1ـأن مالك ابن نبي عاش في ظل الاحتلال الفرنسي للجزائر وعمل على مقاومته ... بكل الوسائل الممكنة.
2ـ كان محباً للعلم والعلماء من الصغر، ومحباً للقراءة والثقافة حيث قرأ العديد من ... الكتب العلمية والثقافية.
3ـ له العديد من المؤلفات الفكرية، والدينية ومنها بعض الكتب غير المنشورة.
4ـ لقد مدحه كثير من العلماء والمفكرين أمثال الأستاذين أنور الجندي و محمود ... محمد شاكر وغيرهما .
5ـ إن عقيدة هذا المفكر ترجع من حيث الأصول إلى السلفية، حيث يطالب في كتبه ... بالعودة إلى القرآن الكريم لدراسة آياته لتكون منهجاً عملياً في حياة المسلم ... المعاصر,وإن لم يتبع هو منهج السلف في الاستدلال على المسائل الفكرية .
6ـ إن مفهومه للحضارة لم يكن واضحاً في دراسته، حيث أدخل فيه مفاهيم ... رياضية ورسومات بيانية، تظهر فيه حتمية النهج الحضاري الذي رسمه، وفي ... دراسته لا يفرق بين الحضارة والمدنية.(1/223)
7ـ لقد كان مالك بن نبي مقلداً لابن خلدون في مفهوم سقوط الحضارات، ولكن ... بذكر أسباب جديدة للدمار .
8ـ إن المفهوم الحضاري لمالك يختلف عن مفهوم سيد قطب للحضارة، وهذا هو ... سبب الخلاف بينهما.
9ـ إن ابن نبي يحلّل الحضارة من خلال مفكرين غربيين أمثال كسر لنج ... وفرويد ونيتشه، وذلك نتيجة تأثره بالفكر الغربي بينما كل من سيد قطب وأبى الأعلى ... المودودي وسعيد حوّى يحللّون مفهوم الحضارة من خلال الإسلام .
10ـ لقد حارب ابن نبِي الاستعمار الفكري، وكتب في ذلك أكثر كتاباته، وذلك ... نتيجة كرهه للاستعمار الفرنسي المحتل لبلده .
11ـ يظهر البحث قدرته الفائقة على التحليل، وخاصة في دراسته للاستعمار.
12ـ أبدع في الرد العقلي على المستشرقين، مما جعل العديد منهم يسلم.
13 ـ قدّم نقداً قوياً للفكر الاقتصادي الرأسمالي.
14 ـ وقع في تناقض كبير في مناقشته للديمقراطية.
15 ـ ناقش الفكر الماركسي الشيوعي بموضوعية وعقلانية كبيرة، حيث أثبت فساد ... هذا الفكر، في الوقت الذي انبهر به كثير من المفكرين .
16ـ لمالك بن نبي قدرة فائقة على استنباط مصطلحات خاصة به في كثير من ... القضايا التي يدرسها .
17ـ يؤخذ عليه دعمه لرائد الفكر القومي جمال عبد الناصر، ونقده غير الصواب ... للمفكر الإسلامي سيد قطب.
18 ـ أيّد الوهابية واعتبرها الفكرة المنقذة للعالم الإسلامي.
19ـ عدم توفيقه بالنسبة لموقفه من الأفغاني وعبده، وذلك بمدحه الخاطئ لهما.
20 ـ كان يميل إلى طريقة عبد الحميد بن باديس السلفية التغييرية.
23ـ قد كان له موقف واضح بالنسبة للإمام حسن البنّا، واصفاً إيّاه بالزعيم من ... حيث قدرته على تحويل الآيات إلى منهج عملي حركي ، واتباع المنهج السلفي .(1/224)
24ـ كان يعتمد في كثير من تحليلاته على العقل مستخدماً مفاهيم علم النفس ... والفلسفة ، وقد يسرف في بعض الأحيان بالاعتماد على مفكرين مرفوضين من ... وجهة النظر الإسلامية مثل فرويد وغيره.
25ـ انبهاره بالتقدم المدني عند الغرب، وهذا ما أوقعه في عدم الوضوح في مفهوم ... الحضارة.
توصيات الباحث:
1ـ لمالك بن نبي تحليلات خاصة بالنسبة للاستعمار، حيث أولى اهتماماً كبيراً به ... ولذلك يوجه الباحث الدارسين إلى دراسة موقف مالك بن نبى من الاستعمار في ... بحث مستقل وليكن بعنوان " فلسفة الاستعمار عند مالك بن نبي "
2ـ إن مالك بن نبي كانت له آراء تربوية وفكرية، حبذا لو درست حياته وفكره بعد ... أن تقلد منصب مديراً عاماً للتعليم في الجزائر ومدى تطبيقه لهذه الأفكار على أرض ... الواقع في بحث بعنوان " المفهوم التربوي عند مالك بن نبي بين النظرية والتطبيق ".
3 ـ حبذا لو درس موقفه من المسيحية واليهودية، في بحث مستقل بعنوان " ... موقف مالك بن نبي من المسيحية واليهودية " .
الفهارس
أولاً: ثبت آيات القرآن الكريم.
ثانياً: ثبت الأحاديث النبوية.
ثالثاً: ثبت الأعلام المترجم لهم.
رابعاً: ثبت المراجع والمصادر.
خامساً: ثبت الموضوعات.
أولاً: ثبت الآيات القرآنية في البحث
الآية ... رقمها السورة ... الصفحة
"وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْل..." ... 23 البقرة ... 103
"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..." ... 441 = ... 88
"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا..." ... 275 = ... 114
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..." ... 30 = ... 178
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء..." ... 143 = ... 186(1/225)
"قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ..." ... ... 93 آل عمران ... 102
"وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ..." ... 159 = ... 126
"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تفَرَّقُواْ ..." ... 103 = ... 145
"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل..." ... 144 = ... 77
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ..." ... 59 النساء ... 128
"وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَان..." ... 62 المائدة ... 60
"كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ..." ... 79 = ... 60
"وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ..." ... 49 ، 50 = ... 128
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى..." ... 51 = ... 146
"أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما..." ... 50 = ... 147
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون..." ... 44 = ... 147
"وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّن إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..." ... 151 الأنعام ... 136
"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ..." ... 172 الأعراف ... 187
"لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ..." ... 63 الأنفال ... 52،180
"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض..." ... 71 التوبة ... 146
"وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ..." ... 85 هود ... 60
"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..." ... 61 = ... 178(1/226)
"تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ..." ... 49 = ... 101
" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ..." ... 13 = ... 103
"وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ ... 59 = ... 60
"وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ..." ... 23 يوسف ... 105
"إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ..." ... 40 = ... 127
"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَِأَنْفُسِهِمْ..." ... 13 الرعد ... 159
"فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين..." ... 94 الحجر ... 98
"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..." ... 70 الإسراء ... 56
"وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم..." ... 31 = ... 136
"وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا..." ... 73 = ... 61
"وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا..." ... 125 طه ... 57
"وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَات..." ... 73 الأنبياء ... 60
"وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ..." ... 86 القصص ... 90
"أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ..." ... 29 العنكبوت ... 60
"غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ..." ... 1 الروم ... 99
"سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا..." ... 62 الأحزاب ... 59
"لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ..." ... 15 سبأ ... 57(1/227)
"وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه..."ِ ... 10 الشورى ... 128
"وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..." ... 38 = ... 126
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ... 21 = ... 127
"إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّة..." ... 26 الفتح ... 145
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..." ... 10 الحجرات ... 145
" وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى..." ... 3 النجم ... 128
"لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّه ..."َ ... 22 المجادلة ... 145
" يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ..." ... 11 = ... 62
" قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ..." ... 4 الممتحنة ... 146
"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ..." ... 9 الصف ... 187
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ...." ... 2 = ... 183
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ..." ... 22 الجمعة ... 101
" ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ..." ... 1،2 القلم ... 62
"وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا..." ... 26 نوح ... 60
"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرقُمْ فَأَنذِرْ..." ... 1،2 المدثر ... 92 ،98
"وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى..." ... 1، 2 الضُّحَى ... 91(1/228)
" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ..." ... 1، 2 العلق ... 62
ثانياً : ثبت أطراف الأحاديث النبوية الواردة في البحث
الحديث ... الصفحة
حرف الألف ... ـ
" أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس..." ... 88
" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر..." ... 123
" أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -..." ... 102
"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ..." ... 92
حرف الدال ... ـ
" دعوها فإنها منتنة.... " ... 146
حرف القاف
" قال كان أهل الكتاب ..." ... 102
حرف الكاف ... ـ
" كنت مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية..." ... 99
" كيف تفعلون بمن زنى..." ... 102
حرف اللام ... ـ
" لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض..." ... 115
" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولا آمنا بالله وما أنزل إلينا..." ... 102
" لا يشكر الله من لا يشكر الناس..." ... ب
حرف الميم ... ـ
" من احتكر فهو خاطئ..." ... 115
" ما أكل أحد ..." ... 183
" مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ..." ... 125
"من رأى منكم منكراً..." ... 186
" من سلك طريقاً يلتمس به علماً ..." ... 62
حرف الواو ... ـ
" ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه..." ... 88
" وليبلغ الشاهد الغائب..." ... 186
ثالثاً: ثبت الأعلام المترجم لهم في البحث
الرقم ... العلم ... الصفحة
حرف الألف ... ـ
1ـ ... أنور الجندي ... 23
حرف الجيم ... ـ
2ـ ... جمال الدين الأفغاني ... 155
3ـ ... جورج فليلهم هيجل ... 139
4ـ ... جورج سيل ... 100
حرف الحاء ... ـ
5ـ ... حسن البنّا ... 168
حرف الدال ... ـ
6ـ ... ديميري مندلييف ... 133
حرف العين ... ـ
7ـ ... عبد الحميد بن باديس ... 25
حرف الميم ... ـ
8ـ ... محمد البشير الإبراهيمي ... 9(1/229)
9ـ ... محمد بن تومرت ... 46
10ـ ... محمد المبارك ... 33
11ـ ... محمد بن عبد الوهاب ... 153
12ـ ... محمد عبده ... 158
13ـ ... محمود محمد شاكر ... 33
14ـ ... مصطفى حسني السباعي ... 34
15ـ ... مصطفى صبري ... 161
16ـ ... المولود بن الموهوب ... 24
17ـ ... ويلفرد بلنت ... 160
18ـ ... يوسف النبهاني ... 161
رابعاً: ثبت المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الكتاب المقدس .
أ ـ المصادر : مؤلفات مالك بن نبي :
1ـ آفاق جزائرية: مكتبة عمّار ط2عام 1971م .
2 ـ إنتاج المستشرقين: مكتبة عمّار ، 1971م .
3 ـ تأملات : ط دار الفكر ، دمشق ، ط عام 1985م .
4 ـ دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين: ط2 ، ط عام 1977م .
5 ـ شروط النهضة: ترجمة عبد الصبور شاهين ،ط دار الفكر دمشق،عام 1960م .
6 ـ الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : دمشق ، دار الفكر ، عام1979م .
7ـ الظاهرة القرآنية : الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية ،ط 1978م .
8 ـ فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج : ترجمة عبد الصبور شاهين، ط دارالفكر ط عام 1981م.
9 ـ فكرة كمنويلث إسلامي : ترجمة الطيب الشريف ط دار الفكر دمشق، ط 2، عام 1999م .
10 ـ في مهب المعركة : دمشق ، دار الفكر،ط عام 1981م .
11 ـ مذكرات شاهد القرن الطالب : بيروت ، دار الفكر، عام 1969م .
12 ـ مذكرات شاهد القرن الطفل : ترجمة مروان القنواتي، دار الفكر بيروت ط1 عام 1969م .
13 ـ المسلم في عالم الاقتصاد: ط دار الفكر، دمشق، ط عام 1979م .
14 ـ مشكلة الأفكار: ترجمةعبد العظيم علي، ط دار الدعوة، ط 1، عام 1979م.
15 ـ مشكلة الثقافة : دار الفكر دمشق، ط4عام 1959م .
16 ـ ميلاد مجتمع : ترجمة عبدالصبور شاهين ، دار الفكر دمشق ، عام 1974م .
17 ـ وجهة العالم الإسلامي" ترجمة عبد الصبور شاهين ، نشر دار الفكر ط عام 1954م.
ب ـ المراجع :(1/230)
1ـ ابن باديس المجدد الإسلامي الكبير: صالح عبد العال ، سلسلة أعلام النهضة ،منشورات مركز التبشير للدراسات، ط1 ، بدون عام طبعة.
2ـ الاتجاهات الفكرية المعاصرة:علي جريشة، دار الوفاء للطباعة والنشر، ط3،بدون عام طبعة
3ـ الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت ، 1970م.
4ـ أجنحة المكر الثلاثة: عبد الرحمن الميداني، دارالقلم ، ط 1،عام 1975م .
5ـ إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، ط دار الصابوني بدون رقم ط.
6ـ أساليب الغزو الفكري: محمد جريشة ، محمد شريف الزيبق ، دار الاعتصام ،ط2 ،عام 1978 م .
7ـ أسباب النزول: علي بن أحمد النيسابوري ، ط مكتبة المتنبي، القاهرة بدون رقم ط، وبدون عام طباعة .
8 ـ الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: عبد الحميد زقزوق ط2،سلسلة كتاب الأمة، 1985م.
9 ـ الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي: هنري كلود ، ترجمة محمد عيتاني منشورات مكتبة المعارف ،بيروت بدون تاريخ نشر
10 ـ الاستعمار والمذاهب الاستعمارية: محمد عوض، دار المعارف بمصر، ط3، عام1957م .
11 ـ أسس التقدم الفكري: فهمي جدعان ، دار الشروق ، ط2،عام 1988م.
12 ـ أسس الفلسفة الماركسية: قا آنا ، سييف ، ترجمة عبد الرّزاق الصافي ، دار الفارابي ، بيروت ، ط 4 ، عام 1984م.
13 ـ اقتصادنا : محمد باقر الصدر ، دار التعارف للمطبوعات بيروت، ط 16، عام 1982م .
14 ـ الإسلام والحضارة الغربية: محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة بيروت، ط7 ، 1985م .
15 ـ الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي: عبد العظيم المطعني ، دار الوفاء المنصورة، ط1،عام 1987م .
16 ـ أصول الماركسية : جورج بوليترز ، تعريب شعبان بركات منشورات المكتبة العصرية، ط1 ، بدون عام نشر .
17 ـ الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، 1984م.
18ـ أعلام القرن الرابع الهجري: أنور الجندي ، مكتبة الأنجلو المصريه ،بدون رقم ط(1/231)
19 ـ الأفغاني ومحمد عبده: علي شلش ، سلسلة كتب الهلال ، العدد يناير،عام 1986م.
ت
20 ـ تاج العروس من جواهر القاموس: محب الخطيب أبى الفيض السيد محمد الزبيدي دار الفكر، عام 1994م.
21 ـ تاريخ الأقطار العربية الحديث: فلاديميربورسيوفيتش لوتسكي،ترجمة عفيفه البستاني مطبعة دار الفكر ، بيروت، ط7 ، 1980م.
22 ـ تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان ، دار العلم للملايين ، بيروت ، بدون رقم طبعة ، ترجمة نبيه فارس منير البعلبكي
23 ـ التبشير والاستعمار: عمر فروخ ، مصطفى الخالدي، ط3،عام 1964م .
24ـ التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبّى: علي القريشي، الزهراء للإعلام والنشر،ط1،عام 1989م .
25 ـ التفسير الإسلامي للتاريخ: عماد الدين خليل،دار العلم للملايين، ط2، عام 1978م.
26 ـ تهافت الفكر الماركسي: صلاح عبد العليم، دار الطباعة المحمدية، ط 1،عام1981م.
ج
27 ـ الجزائر والحملات الصليبية: بسام العسلي، دار النفائس ، ط1 ، 1980م.
ح
28 ـ الحركة الوطنية الجزائرية: أبو القاسم سعد الله ، دار الغرب الإسلامي، ط1 عام 1922م.
29 ـ الحضارة: حسين مؤنس ، ط دار الشروق، ط2 ،عام 1978م.
30 ـ حفاروا القبور: رجاء جارودي ، ترجمة عزة صبحي ، دار الشروق ط3 ،عام 2000 م.
31 ـ حقيقة الجزائر: عبد الحميد الجزائري ، مكتبة الجزائر للدعاية والنشر ، بدون رقم طبعة
32 ـ حقيقة الديمقراطية: محمد الشريف ط دار الوطن للنشر ،بدون رقم ط،ط عام 1993م.
33 ـ حكم الإسلام في الإشتراكية : عبد العزيز البدري ، منشورات المكتبة العلمية ط5، 1983م .
34 ـ حوار الحضارات: رجاء جارودي ، ترجمة عادل العوّا بيروت ، باريس ،منشورات عويدات، ط4، عام 1982م.
د
35 ـ دراسات في الثقافة الإسلامية: صالح ذياب هندي ، ط2 ،بدون اسم الناشر1981م.
36 ـ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين المعارضين والمؤيدين: محمد جميل زينو ، ط2 ، المطبعة الأهلية للأوفست ، بالطائف(1/232)
37 ـ الدولة الإسلامية: تقي الدين النبهاني، القدس،عام 1952م .
38 ـ الديمقراطية نظام كفر: عبد القديم زلّوم، بدون دار نشر ، بدون رقم ط، 1990م .
ر
39ـ الرحيق المختوم: صفي الرحمن المباركفوري، مكتبة الإيمان، ط1، عام 1993م.
ز
40 ـ زعماء الإصلاح: أحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية للطبع والنشر، ط4، 1979م.
س
41 ـ السياسة الاقتصادية المثلى: عبد الرحمن المالكي، بدون رقم ط ، عام 1963م .
42 ـ السيرة النبوية: لابن هشام ، ط دار إحياء التراث العربي بيروت ، بدون رقم ط ، وبدون عام الطبع .
ص
43 ـ صحيح البخاري : مطبوع مع شرحة فتح الباري، لابن حجر العسقلاني ، دار مصر للطباعة ، ط1 ـ 2001م .
44 ـ صحيح مسلم : ط دار إحياء الكتب العربية ، بدون رقم ط ، وعام ط
ع
45 ـ عبد الحميد بن باديس رائد الاصلاح والتربية: تركي رابح عمامرة ط4 ، المؤسسة الوطنية للكتاب، عام 1984م.
46 ـ عبد الحميد مفسراً: حسن عبد الرحمن سلوادي، المؤسسة الوطنية للكتاب، بدون رقم ط، الجزائر عام 1984م
47 ـ عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية : مصطفى حميداتو ،ط1 ، 1977م .
48 ـ العقيدة الإسلامية وأسسها :عبد الرحمن حسن الميداني، دار القلم ، ط2 عام 1979م
غ
49 ـ الغارة على العالم الإسلامي: شاتليه ، ترجمة محب الدين الخطيب ، مكتبة أسامة بن زيد ،بيروت ، بدون رقم طبعة ، بدون عام نشر.
ف
50 ـ الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي : محمد البهي، دار الفكر، ط6 عام 1973م.
51ـ الفكر الإسلامي المعاصر: غازي التوبة، دار القلم بيروت، ط3، عام 1977 م.
52ـ فلسفة الحضارة عند مالك بن نبّي: سليمان الخطيب، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1 ، عام 1993م.
53ـ فلسفتنا: محمد باقر الصدر ، دار التعارف ، بيروت ، ط 10، 1980م.
54ـ في أصل الأزمة الجزائرية: عبد الحميد براهيمي، سلسلة مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، ط1 ، عام 1985 م، 1999 م.(1/233)
55ـ في المادية الديالكتيكية والتاريخية: يوغسلافسكي وآخرون، دار التقدم، بدون رقم ط، عام 1975م.
ق
56ـ القاموس السياسي: أحمد عطية الله ، دار النهضة العربية ، ط4 ،1980م.
57ـ قاموس لاروس: LAصلى الله عليه وسلمOUSSE 2000.
58ـ القومية في الميزان: عبدالله ناصح علوان، دار السلام للطباعة، ط 3، 1987م.
ك
59ـ " الكامل " ابن الأثير الجزري ط دار الفكر بيروت، بدون رقم ط، عام 1978م .
60ـ كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر: سعيد حوّى ، دار عمّار، عمّان 1988م.
ل
61 ـ لسان العرب: ابن منظور، جمال الدين بن منظور، دار الفكر، بيروت
م
62 ـ المادية الديالكتيكية: ياخوت ، ط دار التقدم الاتحاد السوفيتي ، بدون رقم طبعة بدون عام ط .
... 63 ـ مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً: أسعد السحمراني، مطبعة دار النفائس ط2، 1986م.
64 ـ مالك بن نبّى ومشكلات الحضارة: زكي ميلاد ، دار الفكر ،ط1 ، 1998م.
65 ـ مباحث في علوم القرآن: منَاع القطان، مؤسسة الرسالة، ط 35،عام 1998م.
66ـ مجموعة رسائل حسن البنّا: حسن البنّا ، المؤسسة الإسلامية للطباعة والنشر بيروت ، بدون رقم طبعة،بدون عام ط .
67 ـ المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام: محمد محمود الصوّف ، دار الاعتصام ط3
68 ـ "المدخل في علم السياسة : بطرس غالي، ومحمود عيسى ، مكتبة الأنجلو مصرية، ط9، عام 1990م.
69 ـ مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني: إعداد محمد حرب ، سلسلة كتاب الهلال، بدون رقم ط ، عام 1985م.
70ـ معالم الطريق: سيد قطب، ط دار الشروق ، بدون رقم طبعة، بدون عام ط .
71ـ مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون، ط4 ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4 ، عام 1978م.
72ـ منهاج الحكم في الإسلام: محمد أسد، دار العلم للملايين ط5،، 1978م.
74ـ موسوعة التاريخ الإسلامي: أحمد شلبي، دار النهضة المصرية، ط7، عام 1984م.(1/234)
75ـ الموسوعة الحركية تراجم إسلامية من القرن الرابع عشر الهجري: يكن فتحي مؤسسة الرسالة، ط 1، 1982م.
76ـ الموسوعة السياسية: عبد الوهاب الكيالي ، دار الشفق ، كفر قرع، ط2، 1989م.
77ـ الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: الندوة العالمية للشباب الإسلامي الرياض، ط2 ،1989م.
78ـ الموسوعة العربية الميسرة: إشراف محمد شفيق غربال ، ج 2 ط دار إحياء التراث العربي بدون رقم ط، ط عام 1965م.
ن
79ـ النبأ العظيم: محمد عبد الله دراز، ط دار القلم ، ط 2 عام 1970م.
80ـ نحن والحضارة الغربية: أبو الأعلى المودودي، دار السعودية للنشر والتوزيع، بدون رقم ط، ط1987م.
81ـ نظام الإسلام: تقي الدين النبهاني، منشورات القدس، ط5 ، عام 1953م.
82ـ النظام الاقتصادي في الإسلام: تقي الدين النبهاني، منشورات القدس ط2، عام 1953م.
83ـ النظم السياسية: ثروت أباظه ، دار النهضة العربية، 1999م.
84ـ نقض الاشتراكية الماركسية: غانم عبده ،عام1981م.
85 ـ نقض النظام الديمقراطي: محمود الخالدي، ط1،عام 1984م.
هـ
86 ـ هذه هي الجزائر: أحمد توفيق المدني، دار الإتحاد العربي للطباعة ، بدون عام ط .
87 ـ هيجل: زكريا ابراهيم / دار مصر للطباعة القاهرة ، بدون رقم ط ، عام 1970م.
و
88 ـ واقعنا المعاصر والغزو الفكري: صالح الرقب، مطبعة الرنتيسي ط 4،عام 2002 م.
المجلات :
89 ـ" مجلة الأصالة " موضوع بعنوان " الحصانة الدينية للشخصية الجزائرية " أحمد بن نعمان ، عدد 85 ،86 .
90ـ" مجلة الشبان المسلمين " حوار مع مالك بن نبّي ، ص16 ، ص17 عدد 161 ،ربيع أول 1391 هـ الموافق مايو 1971م .
91ـ" مجلة الفيصل " عدد 196.
شبكة المعلومات الدولية إنترنتت
92ـ أنور الجندي حياته وفكره : فايزة أنور الجندي ـ تاريخ 8/5 /1423هـ ،الموافق 18/ 7 / 2002 م، إسلام أون لاين.(1/235)
93ـ الشيخ محمود شاكر: أحمد تمام ـ تاريخ 27 / 2 / 2004 م ـ اسم الموقع ashaqalaصلى الله عليه وسلمabi,oصلى الله عليه وسلمq .
94 ـ من هو مالك بن نبي : بدون اسم لكاتب المقال ـ وبدون تاريخ ـ إسلام أون لاين .
خامساً : فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة .......................................................... ... جـ
الباب الأول: عصره وحياته ........................... ... 2
الفصل الاول:عصره .................................. ... 3
المبحث الأول: الحياة السياسية................................. ... 4 4
أولاً : الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي.............................. ... 4
ثانياً : الاحتلال الفرنسي للجزائر.................................... ... 5
ثالثاً : المقاومة العسكرية............................................ ... 5
رابعاً : المقاومة السياسية (1900 ـ 1962م )...................... ... 5
1ـ الحزب الليبرالي................................................ ... 5
2ـ الحزب الإصلاحي............................................. ... 6
3ـ جمعية نجم شمال إفريقيا........................................ ... 7
4ـ الحزب الشيوعي الجزائري..................................... ... 7
5ـ جمعية العلماء الجزائريين...................................... ... 8
خامساً : الحياة السياسية : (1962 ـ 1973م )..................... ... 9
1ـ التيار الإسلامي................................................ ... 9
2ـ التيار الليبرالي................................................. ... 9
3ـ التيارات الشيوعية................ ... 10
المبحث الثاني : الحياة الثقافية والعلمية............................ ... 11
مرحلة الاحتلال الفرنسي............................................ ... 11(1/236)
أولاً : مرحلة التجهيل : ( 1830 ـ 1910 )....................... ... 11
ثانياً : مرحلة الصحوة : ( 1910 ـ 1962 ) ..................... ... 12
المبحث الثالث : الحياة الدينية...................................... ... 14
1ـ فشل سياسة التنصير........................................... ... 15
2ـ الحياة الدينية بعد الاحتلال ( 1962 ـ 1972 ).............. ... 16
المبحث الرابع : الحياة الاجتماعية.................................. ... 17
الفصل الثاني : حياته...................................... ... 20
المبحث الأول : اسمه ومولده ونشأته ووفاته....................... ... 21
أولاً : اسمه ومولده................................................. ... 21
ثانياً: نشأته........................................................ ... 21
ثالثاً : وفاته......................................................... ... 23
المبحث الثاني : طلبه للعلم وثقافته................................. ... 24
المبحث الثالث : أعماله ومؤلفاته وأقوال العلماء فيه................ ... 28
أولاً : أعماله....................................................... ... 28
ثانياً : مؤلفاته...................................................... ... 28
1ـ الظاهرة القرآنية................................................ ... 28
2ـ شروط النهضة................................................. ... 29
3ـ ميلاد مجتمع................................................... ... 29
4ـ مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.............................. ... 29
5ـ مشكلة الثقافة................................................... ... 29
6ـ إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي..................... ... 30(1/237)
7ـ آفاق جزائرية ................................................ ... 30
8ـ المسلم في عالم الاقتصاد....................................... ... 30
9ـ بين الرشاد والتيه............................................... ... 30
10 ـ وجهة العالم الإسلامي........................................ ... 30
11 ـ تأملات...................................................... ... 31
12ـ فكرة كمنويلث إسلامي........................................ ... 31
13 ـ دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين..... ... 31
14 ـ في مهب المعركة............................................ ... 32
15ـ الصراع الفكري في البلاد المستعمرة.......................... ... 32
16 ـ الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج................... ... 32
17 ـ مذكرات شاهد القرن: الطفل ـ الطالب....................... ... 32
18 ـ أسماء كتب غير منشورة للأستاذ مالك بن نبي............... ... 33
ثالثاً : أقوال العلماء فيه............................................. ... 33
المبحث الرابع : مذهبه الاعتقادي................................... ... 36
1ـ مدحه لمنهج السلف............................................. ... 36
2ـ ذمه لعلم الكلام................................................. ... 36
3ـ ذمه للبدع والخرافات........................................... ... 37
4ـ الإقرار........................................................ ... 38
الباب الثاني : موقف مالك بن نبي من الحضارة الغربية المعاصرة والاستعمار والاستشراق ... 39
الفصل الأول : موقفه من الحضارة المعاصرة.............. ... 40
المبحث الأول : تعريف الحضارة ومفهومها عند مالك بن نبى ... 41
المطلب الأول : تعريف الحضارة لغة وإصطلاحاً.................... ... 41(1/238)
1ـ الحضارة لغة................................................... ... 41
2ـ الحضارة إصطلاحاً............................................ ... 41
المطلب الثاني : مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي................. ... 43
أولاً : تعريف الحضارة............................................. ... 43
ثانياً : المعادلة الحضارية والمركب الحضاري....................... ... 43
ثالثاً : الرسم البياني للدورة الحضارية............................... ... 44
رابعاً : تطبيق الرسم البياني على المراحل النفسية والتاريخية........ ... 44
1ـ مرحلة سيادة الروح............................................ ... 44
2ـ مرحلة سيادة العقل............................................. ... 45
3ـ مرحلة سيادة الغريزة........................................... ... 45
خامساً : نقد نظرية الدورة الحضارية عند مالك بن نبى.............. ... 45
المبحث الثاني : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وغيره من المفكرين الإسلاميين ... 48
المطلب الأول : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وابن خلدون..... ... 49
1ـ نظرية ابن خلدون في الحضارة................................. ... 51
2ـ المفهوم الديني ................................................. ... 52
3ـ نقد مالك لابن خلدون.................................... ... 52
المطلب الثاني : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب... ... 55
المطلب الثالث : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وأبوالأعلى المودودي.. ... 59
أولاً : مفهوم الحضارة عند أبى الأعلى المودودي................... ... 59
ثانياً : الدورة الحضارية عند أبى الأعلى المودودي................. ... 59
المطلب الرابع : مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وسعيد حوّى... ... 63
أولاً : تعريف الحضارة............................................. ... 63(1/239)
1ـ الجانب المادي.................................................. ... 63
2 ـ الجانب الثقافي................................................. ... 63
ثانياً : شروط التقدم المدني والحضاري.............................. ... 64
1ـ التقدم المدني................................................... ... 64
2 ـ التقدم الحضاري.............................................. ... 64
ثالثاً : قانون الدورة الحضارية..................................... ... 64
الفصل الثاني : موقفه مالك بن نبي من الاستعمار.... ... 67
المبحث الأول : الاستعمار تعريفه وانواعه وأهدافه ونتائجه........ ... 68
أولاً : الاستعمار لغة............................................... ... 68
ثانياً : الاستعمار اصطلاحاً......................................... ... 68
ثالثاً : أنواعه....................................................... ... 68
1ـ الاستعمار العسكري الاستيطاني................................ ... 68
2ـ الاستعمار العسكري............................................ ... 69
3ـ الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي....................... ... 69
رابعاً : أهدافه....................................................... ... 69
خامساً : نتائجه..................................................... ... 70
المبحث الثاني : الاستعمار والغزو الفكري.......................... ... 72
أولاً : الغزو الفكري.......................................... ... 72
ثانياً : الاستعمار والمعامل الاستعماري.......................... ... 72
1ـ المعامل الاستعماري...................................... ... 72
2ـ معامل القابلية للاستعمار................................... ... 73
3ـ الاستعمار وشبكة العلاقات الاجتماعية....................... ... 74(1/240)
ثالثاً : الاستعماروالأفكار...................................... ... 76
1ـ التجسيد....................................................... ... 76
2ـ التجريد....................................................... ... 76
3ـ الاستعمار ووسائل الحرب ضد الأفكار المجردة ........... ... 77
المبحث الثالث : الاستعمار والابتعاث............................... ... 79
1ـ المقصود بالابتعاث............................................. ... 79
أولاً : مرحلة الصراع الفكري...................................... ... 79
ثانياً : مرحلة التًعرف............................................... ... 79
ثالثاً : مرحلة التوجيه............................................... ... 80
رابعاً : مرحلة النتائج............................................... ... 80
ا الفصل الثالث : موقف مالك بن نبي من الاستشراق ... 82
المبحث الأول : الاستشراق ـ تعريفه ـ أهدافه ـ نتائجه ... 83
1ـ تعريفه................................................. ... 83
2ـ طبقات المستشرقين...................................... ... 83
3 ـ أهدافه................................................ ... 83
أولاً : الهدف العلمي.......................................... ... 83
ثانياً : الهدف الديني........................................... ... 84
ثالثاً : الهدف السياسي......................................... ... 84
4 ـ آثار المستشرقين......................................... ... 85
أ ـ تأثير الطبقة الأولى....................................... ... 85
ب ـ تأثير الطبقة الثانية...................................... ... 85
ج ـ تأثير الطبقة الثالثة....................................... ... 85(1/241)
المبحث الثاني : موقف المستشرقين من الوحي..................... ... 87
المبحث الثالث : موقف المستشرقين من النبوة .............. ... 95
ا ـ النبوة وادعاء النبوة............................ ... 96
2 ـ خصائص النبوة......................................... ... 97
المبحث الرابع : موقف المستشرقين من القرآن.................... ... 100
الباب الثالث : موقف مالك بن نبي من المذاهب الفكرية ... 107
الفصل الأول : موقف مالك بن نبي من الرأسمالية.... ... 108
المبحث الأول : الرأسماليةـ تعريفهاـ أسسها..................... ... 109
1ـ تعريفها............................................ ... 109
2ـ بداية الرأسمالية...................................... ... 110
3ـ أسس الرأسمالية................................................ ... 110
أ ـ مبدأ الملكية بشكل غير محدود......................... ... 110
ب ـ مبدأ الحرية بشكل غير محدود................................ ... 110
ج ـ مبدأ الربح الحر............................................... ... 110
المبحث الثاني : مناقشة مالك بن نبي للرأسمالية ونقده لها......... ... 112
1ـ الطبقية......................................................... ... 112
2ـ الاستعمار...................................................... ... 112
3ـ الربا........................................................... ... 113
4ـ الاحتكار....................................................... ... 114
5ـ القيم........................................................... ... 115
الفصل الثاني : موقف مالك بن نبي من الديمقراطية........ ... 117
المبحث الأول : الديمقراطية تعريفها وأسسها....................... ... 118
أولاً : تعريفها لغة.................................................. ... 118(1/242)
ثانياً : تعريفها إصطلاحاً........................................... ... 118
ثالثاً : أسسها...................................................... ... 118
1ـ مبدأ السيادة للأمة والامة مصدر السلطات...................... ... 118
أ ـ تعريف السيادة................................................. ... 118
ب ـ الأمة مصدر السلطات........................................ ... 119
2ـ مبدأ المشروعية............................................... ... 119
أـ تعريفه.......................................................... ... 119
ب ـ جمود الدساتير................................................ ... 120
ج ـ الفصل بين السلطات.......................................... ... 120
د ـ الرقابة القضائية................................................ ... 120
3 ـ مبدأ الحقوق والحريات........................................ ... 120
المبحث الثاني : مناقشة مالك بن نبي للديمقراطية ونقده لها........ ... 122
القسم الأول : الديمقراطية السياسية.................................. ... 122
القسم الثاني : الديمقراطية الاجتماعية............................... ... 124
الفصل الثالث:موقف مالك بن نبي من الماركسية الشيوعية.
المبحث الأول : الماركسية تعريفها ـ أسسها ـ قوانينها........... ... 130
1ـ تعريفها......................................................... ... 130
2ـ أسسها.......................................................... ... 130
أولاً : المادية الديالكتيكية............................................ ... 130
أ ـ المادية......................................................... ... 130
ب ـ الديالكتيكية.................................................... ... 130(1/243)
الماديةالديالكتيكية..................... ... 131
ثالثاً : المادية التاريخية :.......................................... ... 131
المبحث الثاني : نقد مالك بن نبي للمادية الديالكتيكية........... ... 132
1ـ مفهوم مالك بن نبي للمادية الديالكتيكية.......................... ... 132
2ـ نقد مالك بن نبي للمادة.......................................... ... 132
أولاً : المادة والتنوع الجزئي........................................ ... 132
ثانياً : الذرة الأولى........................................... ... 133
ثالثاً : التوالد الحيواني......................................... ... 134
رابعاً : غرائب المذهب المادي................................. ... 135
المبحث الثالث: نقد مالك بن نبي للمادية التاريخية.................. ... 136
أولاً : العامل الاقتصادي ........................................... ... 136
ثانياً : مفهوم الحاجة.......................................... ... 137
ثالثاً : الأفكار................................................ ... 137
رابعاً : النشاط البشري والعامل الباعث.............................. ... 139
خامساً : فكرة التضاد والتناقض..................................... ... 139
سادساً : علاقات الإنتاج............................................. ... 140
الفصل الرابع : موقف مالك من القومية..................... ... 142
المبحث الاول : القومية تعريفها وأ سسها ......................... ... 143
1ـ تعريفها لغة.................................................... ... 143
2ـ اصطلاحاً...................................................... ... 143
3ـ أسسها.......................................................... ... 143(1/244)
أولاً : العرق........................................................ ... 143
ثانياً : اللغة......................................................... ... 144
ثالثاً : التاريخ...................................................... ... 144
رابعاً : الأرض.................................................... ... 144
خامساً : المصالح المشتركة........................................ ... 145
3ـ نقد القومية شرعاً وعقلاً ....................................... ... 145
أولاً : شرعاً........................................................ ... 145
ثانياً : عقلاً ....................................................... ... 147
المبحث الثاني : موقفه من القومية ........................... ... 148
الباب الرابع :موقف مالك بن نبي من الفكر الإسلامي ... 151
الفصل الأول: موقفه من الدعوات الإصلاحيةورجالها............... ... 152
المبحث الأول: موقفه من دعوة محمد بن عبد الوهاب ............. ... 153
أ ـ دعوة محمد بن عبد الوهاب ..................... ... 153
ب ـ أهم أفكار ومعتقدات الوهابية .......... ... 153
جـ ـ مناصرة ابن نبي لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... 154
المبحث الثاني : موقفه من دعوة الأفغاني ومحمد عبده ... ... 155
أ ـ جمال الدين الأفغاني .......................................... ... 155
ب ـ أهم أفكار الأفغاني ......................................... ... 155
جـ ـ مدح ابن نبي لجمال الدين الأفغاني ....................... ... 156
ء ـ نقد مالك بن نبي لجمال الدين الأفغاني........................ ... 156
ج ـ موقفه من محمد عبده .......................... ... 158
المبحث الثالث : موقفه من جمعية العلماء الجزائريين ....... ... 163
أولاً : مؤسس جمعية العلماء الجزائريين ............ ... 163(1/245)
ثانياً : جمعية العلماء الجزائريين ................................... ... 165
المبحث الثالث: موقفه من الإخوان المسلمين...... ... 168
أولاً: موقفه من مؤسس الحركة.......................... ... 168
ثانيا: أهم أفكار ومباديء الإخوان....................... ... 169
ثالثاً: خصائص حركة الإخوان المسلمين ....................... ... 169
رابعاً: أهداف الحركة ...................................... ... 169
خامساً: موقفه من حركة الإخوان المسلمين ................. ... 170
الفصل الثاني : مستقبل الإسلام عند مالك بن نبي............. ... 171
المبحث الأول : أسباب ضعف المسلمين .......... ... 172
أولاً : الخلل العقائدي : ................................... ... 172
أ: الوثنية ................................................ ... 173
ب: عدم الفعَّالية................................................... ... 173
ت: ضعف الأساس المفاهيمي ..................................... ... 174
ث: الفوضى والتمزق الفكري ..................................... ... 175
ج: الاضطراب ................................................... ... 175
ثانياً : الاستعمار والقابلية له ...................................... ... 176
المبحث الثاني : شروط نهضة العالم الإسلامي ومعوقاتها........... ... 178
الشرط الأول : الإنسان ............................................ ... 179
أولاً : توجيه الثقافة ............................................... ... 180
أ : التوجيه الأخلاقي ............................................... ... 180
ب: التوجيه السلوكي العملي ........................................ ... 181
ج : توجيه العمل .................................................. ... 183(1/246)
ثانياً : توجيه رأس المال .......................................... ... 183
الشرط الثاني : التراب ............................................. ... 184
الشرط الثالث : الوقت ............................................. ... 184
المبحث الثالث : مستقبل الإسلام ودور المسلم فيه ................. ... 186
ملخص الرسالة : ............................................. ... 190
الخاتمة : وفيها أهم النتائج التي توصل إليها الباحث ................ ... 191
الفهارس .......................................................... ... 199
فهرس الآيات ..................................................... ... 200
فهرس أطراف الأحاديث ........................................... ... 203
فهرس الأعلام ..................................................... ... 204
فهرس المصادر والمراجع ......................................... ... 205
فهرس الموضوعات ............................................... ... 213(1/247)