القران في الأصل مصدر على وزن فعلان بالضم ,كالغفران والشكران والتكلان .تقول : قرأته قرءا وقراءة وقرآنا بمعنى واحد, أي تلوته تلاوة.
وقد جاء استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله تعالى :(إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه) أي قراءته.
ثم صار علما شخصيا لذلك الكتاب الكريم . وهذا هو الاستعمال الأغلب ومنه قوله تعالى: (إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم ) سورة الإسراء.
روعي في تسميته قرآنا كونه متلوا بالألسن ,كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام , فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه.(1/12)
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد , اعني انه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا , أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى . فلا
ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب , المنقول إلينا جيلا بعد جيل
على هيئته التي وضع عليها أول مرة . ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز , انجازا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) سورة الحجر , ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند , حيث لم يتكفل الله بحفظها , وبل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى : ( والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله ) سورة المائدة- أي بما طلب إليهم حفظه – والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت (1/13)
لا التأييد ، وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها ، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة ، زائدا عليها بما شاء الله زيادته ، وكان سادا مسدها ولم يكن شيء منها ليسد مسده ، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة وإذا قضى الله أمرا يسر له أسبابه ، وهو الحكيم العليم .
ولما كان القرآن بهذا المعنى الأسمى جزئيا حقيقيا كان من المتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص . وذلك شأن كل الجزئيات الحقيقية لا يمكن تحديدها بهذا الوجه ، لأن أجزاء التعاريف المنطقية كليات ، والكلى لا يطابق الجزئي مفهوما ، لأنه يقبل الإنطباق على كل ما يفرض مماثلا له في ذلك الوصف ذهنا وإن لم يوجد في الواقع فلا يكون مميزا له عن جميع ماعداه ، فلا يكون حدا صحيحا .
وإنما يحدد الجزئي بالإشارة إليه حاضرا في الحس , أو معهودا في الذهن .
فإذا أردت تعريف القرآن تعريفا تحديديا فلا سبيل لذلك إلا بأن تشير إليه مكتوبا في المصحف أو مقروءا باللسان فتقول : هو ما بين هاتين الدفتين أو تقول . هو (بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين ......إلى . من الجنة والناس).
أما ما ذكره العلماء من تعريفه بالأجناس والفصول كما تعرف الحقائق الكلية فإنما أرادوا به تقريب معناه وتمييزه عن بعض ما عداه مما قد يشاركه في الاسم ولو توهما ذلك أن سائر كتب الله تعالى والأحاديث القدسية وبعض الأحاديث النبوية تشارك القران في كونها وحيا إلهيا فربما ظن ظان أنها تشاركه في اسم القران أيضا ، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الانواع . فقالوا .
((القران هو كلام الله تعالى ، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاواته)).
((فالكلام)) جنس شامل لكل كلام ، وإضافته إلى ((الله)) تميزه عن كلام (1/14)
من سواه من الإنس و الجن والملائكة .
و((المنزل )) مخرج للكلام الإلهي الذي استأثر الله به في نفسه ، أو ألقاه إلى ملائكته ليعملوا به لا لينزلوه على أحد من البشر ، إذ ليس كل كلامه تعالى منزلا ، بل الذي أنزل منه قليل من كثير ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) الكهف ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) .
وتقيد المنزل بكونه ((على محمد)) لإخراج ما أنزل على الأنبياء من قبله ، كالتوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزلة على عيسى ، والزبور المنزل على داود ، والصحف المنزلة على إبراهيم ، عليهم السلام .
وقيد ((المتعبد بتلاوته)) ـ أي المأمور بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة ـ لإخراج ما لم نأمر بتلاوته من ذلك ، كالقراءات المنقولة إلينا بطريق الآحاد ، وكالأحاديث القدسية وهي المسندة إلى الله عز وجل إن قلنا إنها منزلة من عند الله بألفاظها.
أما الأحاديث النبوية فإنها بحسب ما حوته من المعاني تنقسم إلى قسمين ((قسم توفيقي)) إستنبطه النبي بفهمه في كلام الله أو بتأمله في حقائق الكون وهذا القسم ليس كلام الله قطعا. و((قسم توفيقي)) تلقى الرسول مضمونة من الوحي فبينه للناس بكلامه . وهذا القسم وإن كان ما فيه من العلوم منسوبا إلى معلمه وملهمه سبحانه ، لكنه ــ من حيث هو كلام ــ حرى بأن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأن الكلام إنما إلى واضعه وقائله الذي ألفه على نحو خاص ولو كان ما فيه من المعنى قد تواردت عليه (1/15)
الخواطر وتلقاه الآخر عن الأول . فالحديث النبوي إذا خارج بقسيمه القيد الأول في هذا التعريف .
وكذلك الحديث القدسي إن قلنا انه منزل بمعناه فقط .
وهذا هو اظهر القولين فيه عندنا , لأنه لو كان منزلا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني , إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله , فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه , وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعا : وحرمة مس المحدث لصحيفته . ولا قائل بذلك كله . وأيضا فان القرآن لما كان مقصودا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه , والحديث القدسي لم ينزل للتحدي ولا للتعبد بل لمجرد العمل بما فيه وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه . فالقول بإنزال لفظه قول بشيء لا داعي في النظر إليه , ولا دليل في الشرع عليه , اللهم الا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة (( يقول الله تبارك وتعالى كذا )) لكن القرائن التي ذكرناها آنفا كافية في إفساح المجال لتأويله بان المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه .
وهذا تأويل شائع في العربية , فانك تقول حينما تنثر بيتا من الشعر (( يقول الله تعالى كذا )) وتقول حينما تفسر آية من كتاب الله بكلام من عندك : (( يقول الله تعالى كذا )) وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم وأسلوب غير أسلوبهم ونسب ذلك إليهم .
فإذا زعمت انه لو يكن في الحديث القدسي شيء آخر مقدس وراء المعنى لصح لنا إن نسمي بعض الحديث النبوي قدسيا أيضا , لوجود هذا المعنى فيه , فجوابه أننا لما قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه لورود النص الشرعي على نسبته إلى الله , بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((قال (1/16)
الله تعالى كذا )) سميناه قدسيا لذلك بخلاف الاحاديث النبوية فإنها لما لم يرد فيها مثل هذا النص جاز في كل واحد منها ان يكون مضمونه معلما بالوحي وان يكون مستنبطا بالاجتهاد والرأي , فسمي الكل نبويا وقوفا بالتسمية عند الحد المقطوع به , ولو كانت لدينا علامة تميز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيا كذلك.
على أن هذا الامتياز لا يؤدي إلى نتيجة عملية , فسواء علينا عند العمل بالحديث أن يكون من هذا القسم او من ذاك , إذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تبليغه صادق مأمون , وفي اجتهاده فطن موفق , وروح القدس يؤيده فلا يقره على خطأ ان اخطأ في أمر من أمور الشريعة , فكان مرد الأمر في الحقيقة إلى الوحي في كلتا الحالتين , إما بالتعليم ابتداء وإما بالإقرار أو النسخ انتهاء . ولذلك وجب أن نتلقى كل سنته بالقبول ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) سورة الحشر , ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) الأحزاب (1/17)
لقد علم الناس أجمعون علما لا يخالطه شك أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي ولد بمكة في القرن السادس الميلادي. اسمه محمد ابن عبد لله بن عبد المطلب , صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد , لان شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض. أما بعد. فمن أين جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلي آله وسلم ؟ أمن عند نفسه ومن وحي ضميره . أم من عند معلم ؟ ومن هو ذلك المعلم ؟
نقرأ في هذا الكتاب ذاته انه ليس من عمل صاحبه , وإنما هو قول رسول كريم , ذي قوة عند ذي العرش مكين , مطاع ثم أمين . ذلكم هو جبريل عليه السلام , تلقاه من لدن حكيم عليم , ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد صلى لله عليه وعلى اله وسلم. فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصا من النصوص , ولم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا: الوعي والحفظ ثم الحكاية والتبليغ , ثم البيان والتفسير , ثم التطبيق والتنفيذ.
أما ابتكار معانيه وصياغة مبانيه فما هو منها بسبيل . وليس له من أمرهما شيء , إن هو إلا وحي يوحى. (1/20)
هكذا سماه القران حيث يقول: ( وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ) سورة الأعراف , ويقول: ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحي إلي ) سورة يونس , وأمثال هذه النصوص كثير في شأن إيجاد المعاني ثم يقول في شأن الإيحاء
اللفظي : (إنا أنزلناه قرانا عربيا) سورة يوسف, (سنقرئك فلا تنسى ) سورة الاعلى, (لا تحرك به لسانك لتجعل به إن علينا جمعه وقرانه فإذا قراناه فاتبع قرانه , ثم إن علينا بيانه ) سورة القيامة (اقرأ) أول سورة العلق, (واتل ) سورة الكهف , (ورتل )سورة المزمل , فانظر كيف عبر بالقراءة والإقراء. والتلاوة والترتيل , وتحريك اللسان , وكون الكلام عربيا , وكل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة.
القران أذا صريح في أنه (( لا صنعة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم , ولا لأحد من الخلق , وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه)).
والعجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسالة , وهو انه ليس من عند محمد.
في الحق إن هذه القضية لو وجدت قاضيا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه , ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل , ذلك أنها ليست من جنس (( الدعاوي )) (1/21)
فتحتاج إلى بينة , وإنما هي من نوع (( الإقرار )) الذي يؤخذ به صاحبه , ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه , إن أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة , نقول أي مصلحة له في إن ينسب بضاعته لغيره , وينسلخ منها انسلاخا ؟ على حين انه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شان , ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدا يعارضه ويزعمها لنفسه .
الذي نعرفه أن كثيرا من الأدباء يسطون على آثار غيرهم فيسرقونها او يسرقون منها ما خف حمله وغلت قيمته وأمنت تهمته , حتى أن منهم من ينبش قبور الموتى ويلبس من اكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأثواب المستعارة. أما أن احدا ينسب لغيره أنفس آثار عقله وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد .
ولو أننا افترضناه افتراضا لما عرفنا له تعليلا معقولا ولا شبه معقولا اللهم الا شيئا واحدا قد يحيك في صدر الجاهل , وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في (( نسبة القرآن الى الوحي الإلهي )) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم ونفاذ أمره فيهم , لان تلك تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه.
وهذا قياس فاسد في ذاته , فاسد في أساسه .
أما انه فاسد في ذاته فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب الى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبته ما نسبه الى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئا , ولا نسبة إلى ربه بزائدة فيها شيئا , بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء فكانت حرمتها في النفوس على سواء , وكانت طاعته من طاعة الله , ومعصيته من معصية الله فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم . (1/22)
وأما فساد هذا القياس من أساسه فلأنه مبني على افتراض باطل , وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء فان من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته , وعباراته وإشاراته , في رضاه وغضبه, في خلوته وجلوته لا يشك في انه كان ابعد الناس عن المداجاة والمواربة , وان سره وعلانيته كانا سواء في دقة الصدق وصرامة الحق في جليل الشؤون وحقيرها , وان ذلك كان اخص شمائله واظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقائه وأعدائه إلى يومنا هذا ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) سورة يونس.
وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلا واضحة الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده , وانه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه , فإليك طرفا من ذلك:
لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول , وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له (1/23)
مقالا ومجالا , ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شانها قرآنا يقرؤه على الناس .
الم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها وأبطأ الوحي , وطال الأمر والناس يخوضون , حتى بلغت القلوب الحناجر وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس (( إني لا اعلم إلا خيرا )) ثم انه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب , ومضى شهر بأكمله والكل يقولون ما علمنا عليها من سوء , لم يزد على أن قال لها آخر الأمر (( يا عائشة , أما انه بلغني كذا وكذا , فان كنت بريئة فسيبرئك الله , وان كنت ألممت بذنب فاستغفري الله )).
هذا كلامه بوحي ضميره , وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب , وكلام الصدّيق المتثبت الذي لا يتبع الظن ولا يقول ما ليس له به علم . على انه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها , ومصدرا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها . الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما.
فماذا كان يمنعه – لو أن أمر القرآن إليه – أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذب بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي لتنقطع السنة المتخرصين , ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حاجزين ) سورة الحاقة.
وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه. فيخطّئه في (1/24)
الرأي يراه . ويأذن له في الشيء لا يميل إليه. فإذا تلبث فيه يسيرا تلقّاه القران بالتعنيف الشديد , والعتاب القاسي , والنقد المر , حتى في اقل الأشياء خطرا :( يأيها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ) أول سورة التحريم , ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) سورة الأحزاب, (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) سوره التوبة , ( ما كان للنبي والذين امنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) سورة التوبة أيضا , (ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) سورة الأنفال, ( أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ) سورة عبس.
أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وجدانه , معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل و التشنيع الم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه واستبقاء لحرمة آرائه بل هذا القرءان لو كان يفيض عن وجدانه لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئا من ذلك الوجدان ولو كان كاتما شيئا لكتم أمثال هذه الآيات. ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه (1/25)
( وما هو على الغيب بضنين ) سورة التكوير.
وتأمل آية الأنفال المذكورة , تجد فيها ظاهرة عجيبة , فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أساري بدر وقبول الفداء منهم , وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة , ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطبيب النفوس بعدها . فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام – لو كان عن النفس مصدره – يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان ؟ كلا , وان هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابا عن الأول ماحيا له , ولرجع آخر الفكر وفقا لما جرى به العمل . فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله , على ما فيه من تقريع علني بغير حق , وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالا طيبة ؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص ان ها هنا البتة شخصيتين منفصلتين , وان هذا صوت سيد يقول لعبده : لقد أسأت ولكني غفوت عنك وأذنت لك .
وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع فيها العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد , وهو انه عله السلام كان إذا ترجح بين ولم يجد فيهما إثما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه , وأبعدهما عن الغلظة والجفاء , وعن إثارة الشبه في دين الله. لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحا , أو جاوزه خطأ ونسيانا , بل كل ذنبه مجتهد بذل وسعه في النظر , ورأى نفسه مخيرا فتخير . هبه مجتهدا أخطا باختيار خلاف الأفضل. أليس معذورا ومأجورا على أن الذي اختاره كان (1/26)
هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية وإنما نبهه القرءان إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الالهية . هل ترى في ذلك ذنبا يستوجب عند العقل هذا التأنيب و التثريب ؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية , وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب ؟
توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين . فكفنه النبي في ثوبه وأراد أن يستغفر له ويصلي الله عليه , فقال عمر رضي :" اتصلي عليه وقد نهاك ربك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " انما خيرني ربي فقال ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ) وسأزيده على السبعين " وصلى عليه , فانزل الله تعالى: ( ولا تصل على احد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ). سورة التوبة, فترك الصلاة عليهم – اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى ؟ - انها لتمثيل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتخذ من القران دستورا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية , وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييرا له بين طريقين فسرعان ما سلك أقربهما الى الكرم والرحمة , ولم يلجا إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع. وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القران في هذه المواطن او غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة , وتجلى (1/27)
لك في مقابل ذلك من جانب القران. معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل , وميزانا للخبيث والطيب , أحب الناس ام كرهوا , رضوا أم سخطوا , ءامنوا أم كفروا إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها معصية العاصين. فترى بين المقامين ما بينهما . وشتان بين سيد ومسود. وعابد ومعبود.
ولقد كان يجيئه الأمر أحيانا بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلاما لا يفهم هو معناه , وتأمره أمرا لا يعقل هو حكمته ؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على انه ناقل لا قائل , وانه مأمور لا آمر .
نزله قوله تعالى (وان تبدوا ما في أنفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله) سورة البقرة , فأزعجت الصحابة إزعاجا شديدا , وداخل قلوبهم منها شىء لم يدخلها من شئ آخر لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شئ حتى حركات القلوب وخطراتها _ فقالوا: يا رسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها .- فقال لهم النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم ((أتريدون ان تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا بل قولوا: سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير)) فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى انزل الله بيانها بقوله: ( لا يكلف الله نفسا الا وسعها...) الى آخر السورة المذكورة وهنالك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شان القلوب وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم (1/28)
المستقرة , لا من الخواطر والاماني الجارية على النفس بغير اختيار. الحديث في مسلم وغيره وأشار إليه البخاري في التفسير مختصرا . وموضع الشاهد منه ان النبي لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره , لأنه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في اشد الحاجة إليه , ولم يكن ليتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم. ولكنة كان مثلهم ينتظر تأويلها . ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان . ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: ( ثم ان علينا بيانه ) سورة القيامة.
واقرأ في صحيح البخاري وسنن ابي داود وغيرهما قضية الحديبية , ففيها آية بينه: أذن الله للمؤمنين ان يقتلوا من يعتدي عليهم اينما وجدوه , غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه , فقال تعالى : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) الايات من سورة البقرة , فلما اجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة اخذوا أسلحتهم حذرا ان يقاتلهم احد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع . ولما اشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشا قد جمعت جموعها على مقربة منهم فلم يثن ذلك من عزمهم , لأنهم كانوا على تمام الأهبة , بل زادهم ذلك استبسالا وصمموا على المضي الى البيت فمن صدهم عنه قاتلوه , وكانت قريش قد نهكتها الحروب فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه , وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور , فقالوا خلأت القصواء , خلأت القصواء , أي حرنت الناقة . فقال النبي صلى (1/29)
الله عليه وعلى اله وسلم ((ما خلأت القصواء , وما ذاك لها بخلق , ولكن حبسها حابس الفيل )) يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة . وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم من هذا العام لدخول مكة مقاتلين , لا بادئين ولا مكافئين . وزجر الناقة فثارت الى ناحية أخرى فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية . وعدل بهم عن متابعة السير امتثالا لهذه الإشارة الإلهية التي لا يعلم حكمتها , وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلا((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )) ولكن قريشا أبت أن يدحلها هذا العام لا محاربا ولا مسالما . وأملت عليه شروطا قاسية بأن يرجع من عامه , وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسلما . وألا ترد هي أحدا يجئها من المدينة تاركا لدينه , فقبل تلك الشروط التى لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم . وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا . فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيء في نفوس المسلمين , حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضا ذهولا وغما. وكادت تزيع قلوب فريق من كبار الصحابة فاخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين " لم نعطي الدنية في دنينا ؟ - وهكذا كاد الجيش يتمرد على امر قائده ويفلت حبله من يده . افلم يكن من الطبيعي اذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه او اشترك في وضعها او وقف على اسرارها ان يبين لكبار اصحابه حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول , حتى يطفيء نار الفتنة قبل ان يتطاير شررها ؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر : (( اني رسول الله , ولست اعصيه , وهو ناصري )) يقول انما انا عبد مأمور ليس لي من الامر شيء إلا ان أنفذ أمر مولاي واثقا بنصره قريبا او بعيدا . وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل (1/30)
هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح فبيت لهم الحكم الباهر والبشارات الصادقة فاذا الذي ظنوه ضيما واجحافا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر وأين تدبير البشر من تدبير القدر. ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكهم عنهم ببطن مكة من بعد ان أظفركم عليهم وكان الله بما تعلمون بصيرا هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ان يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم فتصيبكم منها معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فانزل اله السكينة على رسوله والمؤمنين والزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها واهلها وكان الله بكل شيئ عليما لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لا تعلمون فجعل من دون ذلك فتحا قريبا )
ولقد كان حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلا (1/31)
فيحرك به لسانه وشفتيه طلبا لحفظه , و خشية ضياعه من صدره . ولم يكن ذلك معروفا من عادته في تحضير كلامه , لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها , ولا كان ذلك من عادة العرب , انما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم . فلو كان القران منبجسا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم. ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته من إنضاج الرأي وتمحيص الفكرة . ولكنه كان يرى نفسه امام تعليم يفاجئه وقتيا ويلم به سريعا. بحيث لا تجدي الروية شيئا في اجتلابه لو طلب , ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء وكان عليه ان
يعيد كل ما يلقى اليه حرفيا. فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه ان يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية , حتى ضمن الله له حفظه و بيانه بقوله: ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) الآيات من سورة القيامة, وقوله (ولا تعجل بالقران من قبل أن يقضى إليك وحيه , وقل رب زدني علما ) سورة طه .
هذا طرف من سيرته بإزاء القرآن . وكلها شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد اليه , وانه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه.
فإذا أنت صعدت بنظرك الى سيرته العامة لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الاخلاق العظيمة. وحسبك الآن منها امثلة يسيرة اذا ما تأملتها صورت ل كانسانا الطهر ملء ثيابه , والجد حشو إهابه , يأبى لسانه ان يخوض فيما لا يعلمه , وتأبى عيناه تخفيا خلاف ما يعلنه , ويأبى سمعه ان يصغى الى غلو المادحين له : تواضع هو حلية العظماء , وصراحة نادرة في الزعماء , وتثبت قلما تجده عند العلماء , فأنى من مثله الختل أو التزوير , أو الغرور أو التغرير ؟ حاش لله . (1/32)
جلست جويرات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الانصارية , وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن : وفينا نبي يعلم ما في غد , فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تقولي هكذا , وقولي ما كنت تقولين )) رواه البخاري . ومصداقه في كتاب الله تعالى : (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب) سورة الانعام ( ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) الأعراف.
وكان عبدالله بن ابي السرح احد النفر الذين استثناهم النبي من الايمان يوم الفتح لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الاسلام , فلما جاء الى النبي لم يبايعه الا بعد ان شفع له عثمان رضي الله عنه ثلاثا , ثم اقبل على اصحابه فقال :اما كان فيكم رجل رشيد يقوم الى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟ )) فقالوا : ما ندري ما في نفسك , الا أومات إلينا بعينك , فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((انه لا ينبغي لنبي ان تكون له خائنة الأعين )) رواه ابو داود والنسائي.
وجيء بصبي من الانصار يصلى عليه, فقالت عائشة رضي الله عنها : طوبى لهذا , لم يعمل شرا , فقال صلى الله عليه وآله وسلم (( او غير ذلك يا عائشة , ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب (1/33)
آبائهم , وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم )) رواه مسلم وأصحاب السنن .
ولما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت ام العلاء امرأة من الأنصار: " رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد اكرمك الله, فقال صلى الله عليه وعلى اله وسلم: (وما يدريك ان الله اكرمه) فقالت: " بابي انت يا رسول الله فمن يكرمه الله قال ( اما هو فقد جاءه اليقين والله اني لارجو له الخير والله ما ادري وانا رسول الله ما يفعل بي) قالت فوالله لا ازكي احدا بعده ابدا " رواه البخاري والنسائي , ومصداقه في كتاب الله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما ادري ما يفعل بي ولا بكم ) سورة الاحقاف .
أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاء وسياسة , خشية ان يكشف الغيب قريبا او بعيدا عن خلاف ما يقول , ما الذي كان يمنعه ان يتقول ما يشاء في شان ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه , ولا يهاب حكم التاريخ عليه, بل منعه الخلق العظيم , وتقدير المسؤولية الكبرى امام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) سورة الأعراف.
واعلم انك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين وأرخيت لها عنان (1/34)
الشك وتركتها تفترض أسوا الفروض في الواقعة الواحدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة فانك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك ألا بعد أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك . فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة تتمثل فيها عقائده وعوائده وأخلاقه ومجرى تفكيره و أسلوب معيشته, و لا يمنعهم زخرف الشعر وطلاؤه عن استنباط خليته, و كشف رغوته عن صريحة , ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان فتقرا بين السطور وتعرف في لجن القول, والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله تتم علي طبعه إذا أحفظ أو اخرج أو احتاج أو ظفر أو حلا بمن يطمئن إليه.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وان حالها تخفى على الناس تعلم
فما ظنك بهذه الحياة النبوية التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها فتريك باطنه من ظاهره وتريك الصدق والإخلاص ماثلا في قول من أقواله وكل فعل من افعاله. بل كان النظر اليه اذا قويت فطنته وحسنت فراسته يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم او يعمل ومن هنا كان ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله على ما قال برهانا فمنهم العشير الذي عرفه بعظمة سيرته ومنهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت في الناس لأنظر ان وجهه ليس بوجهه كذاب) رواه الترمذي بسند صحيح .
والآن قد وفينا لك الوعد بعرض هذه النماذج من السيرة النبوية نعود الى تقرير ماقصدناه من هذا العرض فنقول ان صاحب .(1/35)
العظيم وصاحب تلك المواقف المتواضعة بإزاء القران . ما كان ينبغي لأحد أن يكترى في صدقه حينما أعلن عن نفسه أنه ليس هو واضع ذلك الكتاب وأن منزلته منه منزلة المتعلم المستفيد.بل كان يجب أن نسجل من هذا الاعتراف البريء دليلا آخر على صراحته وتواضعه.
على أن الأمر أمامنا أوضح من أن يحتاج إلى سماع هذا الاعتراف القولي منه أو يتوقف على دراسة تلك الناحية الحلقية من تاريخه.
أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من طبيعة شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل .
فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي صلوات الله عليه أهلا بمقتضى وساءله العلمية الآن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية ؟
سيقول الجهلاء من الملحدين : نعم , فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يوه له لإدراك الحق والباطل من لآراء والحسن والقبيح من الأخلاق . والخير والشر من الأفعال .حي لو أن شيئا في سماء تناله الفراسة أو تلهمه الفطرة أو توحي به الفكرة لتنوله محمد بفطرته السلمية , وعقله الكامل وتأملاته الصادقة .
ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله . ولكننا نسأل : هل كل ما في القران مما يستنبطه العقل والتفكير , ومما يدركه الوجدان والشعور ؟ اللهم كلا , ففي القران جانب كبير من المعاني النقلية البحته التي لا مجال فيها للذكاء و الاستنباط . ولا سبيل إلي علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة و التلقي والتعلم . ماذا يقولون فيما قصة علينا القرآن من انباء ما قد سبق و ما فصله من تلك الانباء على وجهه الصحيح كما وقع ؟ أم يخرجون الى المكابرة العظمى فيقولون أن محمد قد عاصر تلك الأمم الخالية , وتنقل (1/36)
فيها قرنا فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان ,أوانه ورث كتب الأولين و عكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها ؟
إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك ، لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه السلام لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) سورة آل عمران (وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) سورة يوسف (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر) الآيات من سورة القصص .
( وما كنت تتلوا من قبله, من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون.) سورة العنكبوت (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا )سورة هود (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القران . وان كنت من قبله لمن الغافلين ) سورة يوسف.
لا نقول أن العلم بأسماء بعض الأنبياء و الأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين , فان هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن احد من أهل البدو أو الحضر . لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال. وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدارسين.وانك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محررا في القران. (1/37)
حتى الأرقام طبق الأرقام : فترى مثلا في قصة نوح عليه السلام في القران انه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وفي سفر التكوين من التوراة انه عاش تسعمائة وخمسين سنة وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية وفي القران انهم لبثوا في كهفهم (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ) وهذه السنون التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية . قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر . فانظر الى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب .
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية التأديب في اليتيم
نعم انها لعجيبة حقا : رجل أمي بين أَظهر قوم أميين. يحضر مشهدين- في غير الباطل والفجور- ويعيش معيشتهم مشغولا برزق نفسه وزوجته وأولاده. رعيا بالأجر. او تاجرا بالأجر. لا صلة له بالعلم والعلماء . يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره. ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به سالف حياته ؤ بما لم يتحدث الي احد بحرف واحد منه قبل ذلك ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في دفاترهم . أفي مثل هذا يقول الجاهلون انه استوحى عقله واستلهم ضميره ؟ أي منطق يسوغ ان يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ انه لا مناص في قضية العقل من ان يكون لهذا الانتقال الطفري سر اخر يلتمس خارجا عن دائرة المعلومات القديمة . وان ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البداية كانوا في الجملة اصدق تعليلا لهذا الظاهر و اقرب فهما لهذا السر من ملاحدة هذا العصر , اذ لم يقولوا كما قال هؤلاء انه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه . بل قالوا انه لابد ان تكون قد امليت عليه منذ يومئذ علوم جديد . فدرس منها ما لم يكن قد درس . وتعلم ما لم يكن يعلم (وكذالك نصرف الآيات (1/38)
وليقولوا درست )سورة الانعام (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه وأصيلا ) سورة الفرقان .
ولقد صدقوا , فانه درسها , ولكن على أستاذه الروح الأمين واكتتبها , ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بايدي سفرة كرام بررة (قل لوشاء الله ما تلوته عليكم ولا ادراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) سورة يونس
ذلك شأن ما في القران من الانباء التاريخية , لا جدال في ان سبيلها النقل لا العقل , وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها .
فاما سائر العلوم القرآنية فقد يقال انها من نوع ما يدرك بالعقل , فيمكن ان ينالها الذكي بالفراسة او بالروية . وهذا كلام قد يلوح حقا في بادئ الرأي , ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختيار .
ذلك ان العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه , وحده محدود تقف عنده ولا تتجاوزه . فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة , ولم يكن مركوزا في غزيزة النفس , انما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل الى ذلك المجهول , اما بسرعة كما في الحدس وأما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة .
وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن ان تناله يد العقل بحال . وانما سبيله الإلهام , او النقل عمن جاءه ذلك الالهام . فهل ما في القران من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟ (1/39)
ذلك ما سيأتيك نبؤه بعد حين . ولكننا نعجل لك لان بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد (احدهما) قسم العقائد الدينية (والثاني) قسم النبؤات الغيبية .
فأما أمر الدين فان غاية ما يجتنيه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه , بعد معاونة الفطرة السليمة له , هو ان يعلم ان فوق هذا العالم إلها قاهرا دبره وانه لم يخلقه باطلا بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة . فلابد أن يعيده كرة اخرى لينال كل عامل جزاء عمله ان خيرا وان شرا.
هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من امر الدين . ولكن القران لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة , بل نراه يشرح لنا حدود الايمان مفصلة , ويصف لنا بدء الخلق ونهايته , ويصف الجنة وانواع نعيمها , والنار والوان عذابها , كأنهما رأى عين , حتى انه ليحصي عدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب . فعلى أي نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحساسية , و تلك الأوصاف التحديدية ؟ إن ذلك ما لا يوحي به العقل البتة بل هو إما باطل من وحي الخيال والتخمين , واما حق , فلا ينال الا بالتعليم والتلقين . لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه اهلها (وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين اوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا ايمانا ) سورة المدثر ( وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ) سورة الشورى ( ما كان لي من علم بالملإ الاعلى اذا يختصمون ) سورة ص ( وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) سورة يونس. (1/40)
وأما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحاً يكتشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة ، جاعلاً الشاهد من هذه مقياساً للغائب من تلك ثم يصدر فيها حكمه محاطاً بكل تحفظ وحذر ، قائلا: (( ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها ولم يقع ما ليس في الحسبان )). أما أن يبت الحكم بتاً ويحدده تحديداً حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية ، ولا تلوح منه أ مارة من الأمارات الظنية العادية ، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين : إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول ألناس فيه صدق أو كذب ، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين ، وإما رجل اتخذ عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده ، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين ، ولا ثالث لهما إلا رجلاً روى أخباره عن واحد منهما . فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام ، وما سيكون أبد الدهر ، وما لن يكون أبد الدهر ؟ ذلك وهو لم يتعاط علم المعرفة والتنجيم ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتفحم ، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطاً من الصدق والكذب ، والصواب والخطأ. بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه , يجيئه عفوا ما تعجز صروف الدهر وتقلباته في الأحقاب المتطاولة ان تنقض حرفا واحدا مما ينبئ به ( وانه لكتاب عزيز لا ياتيه الباطل من يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) سورة فصلت.
ولنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملا بساتها التاريخية , لترى هل كانت مقدماتها القريبة او البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية ؟ وسنحصر الكلام (1/41)
في ثلاثة أنواع : - 1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام في نفسه أو في شخص كتابة ونبيه - 2 و 3- ما يتعلق بمستقبل الحزبين : حزب الله وحزب الشيطان.
(مثال النوع الاول) ما جاء في بيان ان هذا الدين قد كتب الله له البقاء وا لخلود , وان هذا القران قد ضمن الله حفظه وصيانته ( كذلك يضرب الله الحق والباطل : فاما الزبد فيذهب جفاء , وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض ) سورة الرعد ( الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي اكلها كل حين باذن ربها ) سورة ابراهيم ( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ) سورة الحجر اتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة , بل العهود الوثيقة .
انها آيات مكية من سور مكية . وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة ؟... عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرانه , وصد لغيرهم عن الإصغاء له , واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به , ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة , ثم مؤامرات سرية او علنية على قتله او نفيه .فهل للمرء ان يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام , شعاعا ولو ضئيلا من الرجاء إن يتنفس صبحة عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم . ولو شام المصلح تلك الباقة من الامل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته , لا في افق الحوادث , فهل يتفق له في مثل هذه الظروف ان يربو في نفسه الامل حتى يصبر حكما .وهبه امتلأ (1/42)
رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه , فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية ؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين ؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبث أصواته أن ذهبت ادراج الرياح . وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها . وكم من نبي قتل . وكم من كتاب فقد أو إنتقص أو بدل.
وهل كان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن تستخفه الآمال فيجرى مع الخيال ؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في نبيا يوحي إليه (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلآ رحمة من ربك) سورة القصص , ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظا لديه ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ) سورة الإسراء.
فلابد اذا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه . ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت ؟ الا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها , والذي قدر مبدأها ومنتهاها , واحاط علما بمجراها ومرساها . فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لما استطاع القران ان يقاوم تلك الحروب العنيفة التي اقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.
سل التاريخ : كم مرة تنكر الدهر لدول الاسلام وتسلط الفجار على المسلمين فاثخنوا فيهم القتل , واكرهوا امما على الكفر , واحرقوا الكتب , وهدموا المساجد , وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا (1/43)
القران كلا أو بعضا كما فعل بالكتب قبله , لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه . حافظا آياته وأحكامه . بل اسأل صحف الأخبار اليومية : كم من القناطير المقطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القران وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) سورة الانفال.
ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا .
ذلك بأن الله (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الذين كله ولو كره المشركون ) سورة الصف وسورة التوبة , والله بالغ أمره , ومتم نوره , فظهر وسيبقى ظاهرا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله.
(مثال آخر ) ما جاء في التحدي بهذا القرآن وتعجيز العالم كله عن الإتيان بمثله ( قل لِِِئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ّلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) سورة الإسراء (فان لم تفعوا ) سورة البقرة .
فانظر هذا النفي المؤكد , بل الحكم المؤبد , هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب.(1/44)
مفتوح على مصراعه ، وأن المتأخر متى أعمل الروية في تعقب قول القائل المتقدم لا يعييه أن يجد فيه فائتا ليستدرك , أو ناقصاً ليكمل ، أو كاملاً ليزداد كمالاً ؟ ألم يكن يخشى بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته وهم جميع حذرون ؟ وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يضع احدهم صيغة المعارضة ، ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب كما كانوا يصنعون في نقد الشعر ، فيكمل ثانيهم ما نقصه أولهم ، وهكذا , حتى يخرجوا كلاماً ان لم يبزه فلا أقل من أن يساميه ولو في بعض نواحيه ؟ ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الاجيال القادمة الى يوم القيامة , بل على الانس والجن ؟ ان هذه مغامرة لا يتقدم اليها الا رجل يعرف قدر نفسه الا وهو ماليء يديه من تصاريف القضاء , وخبر السماء . وهكذا رماها بين اظهر العالم , فكانت هي القضاء المبرم سلط على العقول والافواه , فلم يهم بمعارضته إلا باء بالعجز الواضح , والفشل الفاضح , على مر العصور والدهور.
(ومثال ثالث) تلك الآية التي يضمن الله بها لنبيه حماية شخصه والأمن على حياته حتى بلغ رسالات ربه ( يأيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين )
ان هذا وايم الله ضمان لا يملكه بشر , ولو كان ملكا محجبا تسير به الحفظة من بين يديه ومن خلفه . فكم راينا وراى الناس من الملوك والعظماء من اختطفتهم يد الغيلة وهم في مواكبهم تحيط بهم الجنود والأعوان . ولكن انظر مبلغ ثقة الرسول بهذا الوعد الحق : روى الترمذي والحاكم عن عائشة , وروى الطبراني عن ابي سعيد الخدري قال : كان النبي يحرس (1/45)
بالليل , فلما نزلت هذه الاية ترك الحرس وقال: يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.
و حقا لقد عصمه الله منهم في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها اقرب اليه من شراك نعله , و لم يكن له فيها عاصم الا الله وحده .
ومن ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحة عن ابي هريرة , ورواه مسلم في صحيحه عن جابر قال : كنا إذا اتينا في سفرنا على شجرة ضليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلَق سيفه فيها . فجا ء رجل من المشركين فا خذ السيف فاخترطه وقال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أتخافني؟ قال : لا . قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك ضع السيف فوضعه . وحسبك ان تعلم ان هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف.
ومن أعظم الوقائع تصديقا لهذا النبأ الحق ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي في غزوة حنين , منفردا بين الأعداء , وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين , فطفق هو يركض بغلته الى جهة العدو , والعباس ابن عبد المطلب اخذ بلجامها يكفَها إرادة ألا تسرع , فاقبل المشركون الى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم , فلما غَشوه لم يفر ولم ينكص بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه , وجعل يقول : ( انا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب ) كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه . فوالله ما نالوا منه نيلاً, بل ايده اللهَ بجنده , وكف عنه ايديهم بيده . الحديث روا ه الشيخان عن البراء بن عازب . ورواه مسلم عن العباس وسلمة بن الاكوع , ورواه احمد واصحاب السنن عن غيرهم هم ايظاً .
وهكذا امتع الله به امته فلم يقبضه إليه حتى بلغَ الرسالة وأدى الأمانة , وحتى انزل عليه قوله ( اليوم اكملت لكم دينكم , واتممت عليكم نعمتي , (1/46)
ورضيت لكم الإسلام دينا ) سورة المائدة .
(واليك مثالا من النوع الثاني)
كان القران في مكة يقص على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم , ويعدهم لأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) سورة غافر فلما هاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم , ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كان جانب , فانتقلوا من خوف أشد . وأصبحت كل أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم وفي هذه الأوقات العصبية ينبئهم القران بما سيكون لهم من الخلافة والملك علاوة بالقسم : ( وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم : وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) سورة النور . روى الحاكم وصححه عن ابي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم واصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة . وكانوا لا يبيتون الا بالسلاح ولا يصبحون الا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش حيث نبيت امنين مطمئنين لا نخاف الا الله ؟ فنزلت الاية . وروى ابن ابي حاتم عن البراء قال : نزلت هذه الاية ونحن في خوف شديد. (1/47)
فانظر كيف جاء تاويلها على اوسع معانيها في عصر الصحابة الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله (منكم ) فبدلوا من بعد خوفهم امنا لا خوف فيه : واستخلفوا في اقطار الارض فورثوا مشارقها ومغاربها.
وتأمل في قوله في هذه الآية ( وعملوا الصالحات ) وقوله في الآية الأخرى (ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) سورة الحج, تجد فيها نبأ آخر عن سر ما يبتلى به المؤمنون أحيانا من انتقاص أرضهم وتسلط أعدائهم عليهم ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم انى هذا قل هو من عند أنفسكم ) سورة آل عمران ( ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) سورة الانفال.
( ومثالا آخر ) :
منع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية , واشترطت عليهم قريش اذا جاءوها في العام المقبل ان يدخلوها عزلا من كل سلاح الا السيوف في القرب. فهل كان لهم ان يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود وقطع الارحام وانتهاك شعائر الله ؟ أليسوا اليوم يحبسون هديهم ان يبلغ محله ؟ فماذا هم صانعون غدا ؟ على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يامن المسلمون جانبهم اذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعهم وقوتهم , الا تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ ؟ وآية ذلك اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب (1/48)
وهو سلاح قد يطمئن به المسلمون إلى أنهم لن ينالوهم بأيدهم ورماحهم , ولكنهم لا يأمنون معه أن ينالوهم بسهامهم ونبالهم . في هذه الظروف المريبة يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثلاثة مجتمعة الدخول , والأمن , وقضاء الشعيرة (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله امنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون ) سورة الفتح , فدخلوها في عمرة القضاء آمنين , ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم وقضوا مناسكهم.. الحديث أخرجه الشيخان.
(ومثالا ثالثا) كان المشركون يجادلون المسلمون في مكة قبل الهجرة , يقولون لهم إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب , وقد غلبتهم المجوس. وانتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي انزل عليكم , فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم فنزلت الآية (الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) أول سورة الروم
لقد كان الإخبار بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معين إخبارا بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون . ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حدا يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها كما قال تعالى (في أدنى الأرض ) فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة , فضلا عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر . ولذلك كذّب به المشركين وتراهنوا على تكذيبه على أنّ القرآن لم يكتف بهذين الوعدين ، بل عززهما بثالث ، حيث يقول ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) إشارة إلى أنّ اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه هاهنا نصر للمسلمين على المشركين . وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدا عند الناس أشد الإستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين (1/49)
في يوم ؟ لذلك اكده اعظم تاكيد بقوله: ( وعد الله لا يخلف وعده ولكن اكثر الناس لا يعلمون).
ولقد صدق الله وعده , فتمت للروم الغلبة على الفرس , باجماع المؤرخين في اقل من تسع سنين . وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى , كما رواه الترمذي عن ابي سعيد , ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره .
وهذه امثلة من النوع الثالث:
استعصى اهل مكة على النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم , فدعا عليهم بسنين كسني يوسف , فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء (فارتقب يوم تاتي السماء بدخان مبين يغشى الناس : هذا عذاب اليم ) سورة الدخان , فماذا جرى ؟ اصابهم القحط حتى اكلوا العظام , وحتى جعل الرجل ينظر الى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد . رواه البخاريعن ابن مسعود. ثم انظر قوله بعد ذلك ( انا كاشفوا العذاب قليلا , انكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى انا منتقمون ) تر فيها ثلاث نبوءات اخرى : كشف البؤس , ثم عودتهم الى مكرهم السيء , ثم الانتقام منهم بعد ذلك . وقد كان ذلك كله كما بينه الحديث الصحيح المذكور , فانهم لما جاءوا الى رسول الله يستسقون وتضرعوا الى الله ( ربنا اكشف عنا العذاب انا مومنون ) سقاهم الله فاخصبوا , ولكنهم سرعان (1/50)
ما عادوا إلى عتوهم واستكبارهم , فبطش الله بهم البطشة الكبرى يوم بدر , حيث قتل من صناديدهم سبعون , وأسر سبعون
وقد تكرر في القرآن المكي إنباؤهم بهذا الانتقام على صور شتى :
فتارة يأتي مجملا كما في قوله ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله )سورة الرعد , وقوله ((فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون ) سورة الصافات.
وتارة يعين نوع العذاب بأنه الهزيمة الحربية كما في قوله (سيهزم الجمع ويولون الدبر ) سورة القمر , وهذا كما ترى من عجيب الأنباء في مكة , حيث لا مجال لأصل فكرة الحرب والتقاء الجموع , فضلا عن توقع فرارها وهزيمتها , حتى إن عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية جعل يقول : أي جمع هذا ؟ قال فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم يقولها . رواه ابن أبي حاتم وابن مروديه , وعجزه في الصحيحين .
وتارة ينص على حوادث جزئيه محددة - وهذا أعجب واغرب - كما في قوله شأن الرجل الزنيم الذي كان يقول في القران انه أساطير الأولين (سنسمه على الخرطوم ) سورة ن , فأصيب بالسيف في انفه يوم بدر . وكان ذلك علامة له يعير بها ماعاش . رواه الطبري وغيره عن ابن عباس.(1/51)
ونظير هذه الأنباء في كفار قريش ما ورد في كفار اليهود، انظر كيف يقول فيهم ( لن يضروكم إلا أذى وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون )سورة آل عمران وقد فعل . ثم يقول ( ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس). ويقول ( وإذا تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) سورة الأعراف.
فيا عجبا لهذه الآيات هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات ؟ أم كانت أغلالا وضعت في أعناقهم إلى الأبد, وأصفادا شدت بها أيديهم فلا فكاك ؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتا في كل واد , أذلاء في كل ناد , لم تقم لهم في عصر من العصور دولة , ولم تجمعهم قط بلدة . وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات . بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون أنواع الخسف والنكال , ثم تكون عاقبتهم الجلاء عنها مطرودين . وبلاد الإسلام التي هي أرحب أرض الله صدرا – إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين .
وهل أتاك آخر أنبائهم ؟
لقد زينب الآن لهم أحلامهم أن يتخذوا من " الأرض المقدسة " وطنا قوميا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض , حتى إذا ما تألف منهم هنالك شعب ملتم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد , سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد . وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافات ووحدانا, وينزلون بها خفافا أو (1/52)
ثقالا..فهل استطاعوا ان يتقدموا هذه الخطوة الأولى- او لعلها الأولى والأخيرة - مستندين الى قوتهم الذاتيه ؟ كلا. ولكن مستندين الى (حبل من الناس..) فماذا تقول ؟ قل: صدق الله , ومن اصدق من الله حديثا .
اما ظنهم الذي يظنون وهوانهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم فذلك ما دونه خرط القتاد . يريدون ان يبدلوا كلام الله , ولا مبدل لكلماته ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) سورة النساء . والله من ورائهم محيط.
فانظر إلى عجيب شان النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبا وبعيدا ,وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتا وتأييدا, وكيف يكون الدهر مصداقا لها فيما قل وكثر, وفيما قرب وبعد ؟
بل انظر الى جملة ما في القران من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم ما وراء حسه وعقله من انباء ما كان وما سيكون وما هو كائن . وكيف انه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ , وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام , وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشؤون غيبه صدقته الأنبياء والكتب .
ثم اسأل نفسك ذلك (( اترين هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه ؟)).
تسمع منها جواب البديهة الذي لا تردد فيه ((إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الانباء من مصدر علمي وثيق واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق . ولا يمكن أن تكون تلك الانباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه وعبقريته )) وإلا فأين هذا الذكي أو العبقري الذي أعطاه الدهر عهدا بأن (1/53)
يكون عاصما لظنونه كلها من الخطأ في كشف وقائع الماضي مهما قدم , وانباء المستقبل مهما بعد ؟
ان الانبياء أنفسهم - وهم في الطبقة من الذكاء والفطنة بشهادة الكافة - لم يظفروا من الدهر بهذا العهد اقرب الحوادث اليهم فقد كانوا فيما عدا تبليغ الوحي اذا اجتهدوا رايهم فيما غاب عن مجلسهم اصابت فراستهم حينا واخطأت حينا . هذا يعقوب عليه السلام نراه يتهم بنيه حين جاءوا على قميصه بدم كذب , ثم يعود فيتهمهم حين قالوا له ان ابنك سرق , فيقول لهم في كل مرة ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ) سورة يوسف وقد اصاب في الاولى ولكنه في الثانية اتهمهم وهم براء , وهذا موسى عليه السلام براه يقول للعبد الصالح ( ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصي لك أمرا ) سورة الكهف , ثم ينسى فلا يطيق معه صبرا ولا يطيع له امرا .
وهذا محمد صلى الله عليه واله وسلم كان ربما هم الناس ان يضللوه في الاحكام , فيدافع عن المجرم ظنا انه بريء , حتى ينبئه العليم الخبير .
فان كنت في شك من ذلك فاقرا قوله تعالى ( ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ) الآيات من سورة النساء , وقد صح في سبب نزولها أن لصا عدا على مشربة لرجل من الأنصار يقال له رفاعة , فنقب مشربته وسرق ما فيها من طعام وسلاح . فلما أصبح الانصاري افتقد متاعه حتى ايقن انه في بيت بني ابيرق وكان فيهم منافقون , فبعث ابن اخيه إلى النبي يشكو اليه . فقال صلى الله عليه وعلى اله وسلم : " سانظر في ذلك " . فلما سمع بنو ابيرق جاءوا إلى النبي فقالوا : (1/54)
يا رسول الله , ان قتادة بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. فجاء قتادة فقال له النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم : يا قتادة (( عمدت إلى أهل البيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة )) فرجع قتادة الى عمه فاخبره , فقال عمه : الله المستعان. ثم لم تلبث أن نزلت الآية تبين للنبي خيانة بني أبيرق , و تأمره بالاستغفار مما قال لقتادة . الحديث رواه الترمذي , وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم .
بل اسمع قوله صلى الله عليه وعلى اله وسلم عن نفسه فيما يرويه أحمد و ابن ماجه : (( إنما أنا بشر . وإنكم تختصمون إلي . فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له على نحو ما اسمع . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليأخذها أو ليتركها )) رواه مالك و الشيخان و أصحاب السنن .
فمن كان هكذا عاجزا بنفسه عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين في زمنه وفي بلده وقد رأى أشخاصهما وسمع أقوالهما هو بلا شك اشد عجزا عن إدراك ما فات وما هو ات.
تلك هى شقة الغيب تنطفى عندها مصابيح الفراسة والذكاء , فلا يدنو العقل منها الا وهو حاطب ليل وخابط عشواء : ان اصاب الحق مرة اخطاء مرات , وان اصابه مرات اخطاء عشرات. على ان الذي يصادفه من الصواب لا يمكن الوثوق ببقائه معصوما من التغيير والتبديل بل عسى ان تذهب به ريح المصادفة كما جاءت به ريح المصادفة ( ولو كان مند غير الله لوجدوا اختلافا كثيرا ) سورة النساء. (1/55)
لا مناص إذا للباحث عن مصدر القرآن من توسيع دائرة بحثه فإذا لم يظفر بمطلبه عند صاحب القران في ناحية عقله وفراسته , وجب أن يلتمسه – وان يظفر به حتما - في ناحية تعليمه ودراسته , لان المتكلم بكلام ما لا يعدو أن يكون قائلا له أو ناقلا . ولا ثالث لهما .
نعم إن صاحب هذا القران لم يكن ممن يرجع بنفسه الى كتب العلم ودواوينه , لأنه باعتراف الخصوم كما ولد أميا نشا أميا وعاش أميا فما كان يوما من الأيام يتلو كتابا في قرطاس ولا يخطه بيمينه . فلا بد له من معلم يكون قد وقفه على هذه المعاني لا بطريق الكتابة والتدوين بل بطريق الإملاء والتلقين . هذا هو حكم المنطق.
سنقول : فمن هو ذلك المعلم ؟
نقول : هذا هو الشطر الثاني من مسألة القرآن .
وأنت إذا تأملت فيما سقناه لك من البراهين على الشطر الأول وجدت بجانب كل منها برهانا آخر على هذا الشطر الثاني وعرفت من هو ذلك المعلم ؟ غير أننا نحب أن نزيدك به معرفة حتى تقول معنا فيه : (( ما هذا بشرا , إن هذا إلا ملك كريم , مبلغ عن رب العالمين )) .
أما أن محمدا صلى الله عليه و على اله وسلم لم يكن له معلم من قومه الأميين فذلك ما لا شبهة فيه لأحد ولا في حاجة إلى الاستدلال عليه بأكثر من اسم " الأمية " الذي يشهد عليهم بأنهم كانوا خرجوا من يعلون أمهاتهم لا يعلمون من أمر الدين شيئا . وكذلك اسم " الجاهلية " الذي كان أخص الألقاب بعصر العرب قبل الإسلام فهؤلاء الذين فقدوا أساس العلم في أنفسهم حتى اشتق لهم من الجهل اسم , كيف يحملون وسام التعليم فيه لغيرهم , بله التعليم لمعلمهم الذي وسمهم بالجهل غير مرة في كتابه , وسرد جهالاتهم في غير سورة من هذا الكتاب , حتى قيل : اذا(1/56)
سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام . وأما انه لم يكن له معلم من غيرهم فحسب الباحث فيه ان نحيله على التاريخ وندعه يقلب صفحات القديم منه والحديث. والإسلامي منه والعالمي, ثم نسأله هل قرأ فيه سطرا واحدا يقول إن محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب لقي قبل إعلان نبوته فلانا من العلماء فجلس اليه يستمع من حديثه عن علوم الدين , ومن قصصه عن الأولين والاخرين ؟
ليس علينا نحن أن نقيم برهانا اكبر من هذا التحدي لإثبات أن ذلك لم يكن , وإنما على الذين يزعمون غير ذلك أن يثبتوا أن ذلك قد كان . فان كان عندهم علما فليخرجوه لنا إن كانوا صادقين .
لا نقول انه عليه السلام لم يلق ولم ير بعينه أحدا من العلماء هذا الشأن لا قبل دعوة النبوة ولا بعدها. فنحن قد نعرف انه رأى في طفولته راهبا اسمه بحيرا في سوق بصرى بالشام , وانه لقي في مكة نفسها عالما اسمه ورقة بن نوفل , وكان هذا على اثر مجيء الوحي العلني له قبل إعلان نبوته بثلاثين شهرا . كما نعرف انه لقي بعد إعلان نبوته كثيرا من علماء اليهود والنصارى في المدينة. ولكننا ندعى دعوى محدودة , نقول: انه لم يتلقى عن احد من هؤلاء العلماء لا قبل ولا بعد , وانه قبل نبوته لم يسمع منهم شيئا من هذه الأحاديث البتة.
اما الذي الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه. ولكنهم كانوا له سائلين وعنه اخذين , وكان هو لهم معلما وواعظا ومنذرا ومبشرا .
وأما الذين رآهم قبل فان أمر لقائه إياهم لم يكن سرا مستورا , بل كان معه في كل مرة شاهد : فكان عمه أبو طالب رفيقا له حين رأى راهب الشام , وكانت زوجه خديجة رفيقة له حين رأى ورقة. فماذا سمعه هذان الرفيقان من علوم الأستاذين ؟ هلا حدثنا التاريخ بخبر ما جرى ؟ وماله لا يحدثنا هذا (1/57)
الحديث العجب الذي جمع في تلك اللحظة القصيرة علوم القران والتفاصيل أخباره فيما بين بداية العالم و نهايته ولماذا لم يتخذ خصومه من هذه الحجة الواضحة سلاحا قاطعا لحجته مع شدة سعيهم في هدم دعواه والتجأ هم لأوهن الشبهات في تكذيبه, وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم, وكان وحده أمضى في إبطال أمره من كل ما لجئوا إليه من مهاترة ومكابرة.
إن سكوت التاريخ عن ذلك كله حجة كافية على عدم وجوده لأنه ليس من الهنات الهيّنات التّي يتغاضى عنها الناس الواقفون لهذا الأمر بالمرصاد.
على أن التاريخ لم يسكت, بل نبأنا بما كان من أمر الرجلين: فقد حدثنا راهب الشام أنه لما رأى الغلام رأى فيه من سيما النبوة الأخيرة وحليتها في الكتب الماضية ما أنطقه بتبشير عمه قائلا : إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم . وحدثنا عن ورقة أنه لما سمع ما قصه عليه النبي من صفة الوحي وجد فيها من خصائص الناموس الذي نزل على موسى ما جعله يتعرف بنبوته ويتمنى أن يعيش حّتى يكون من أنصاره.
فمن عرف للتاريخ حرمته وآمن بوقائعه كما هي كانت. هذه الوقائع حجة لنا عليه . ومن لم يستحي أن يزيد في التاريخ حرفا من عنده فيقول إن محمدا ضم السماع إلى اللقاء فليتقول ما يشاء, وليعلم أنه سوف يخرج لنا بهذه الزيادة تاريخا متناقصا يكذب أوله آخره , وآخره أوله , إذا كيف يعقل رجلا رأى علامات النبوة في فبشره به قبل وقوعها, أو آمن بها بعد وقوعها, تطاوعه نفسه أيقف من صاحب هذه النبوة موقف المرشد فأين يذهبون.
على أننا نعود فنسأل: هل كان في العلماء يومئذ من يصلح ان تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العليا؟
يقول الملحدون أنفسهم : (( إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي (1/58)
يمثل روح عصره اصدق تمثيل )) . وهذه كلمة حق في حدود معناها الصحيح فنحن نأخذهم باعترافهم وندعوهم إلى استجلاء تلك الصورة التي حفظها القرآن في مرآته الناصعة مثالا واضحا لعلماء عصره . فليقرءوا الزهراوين البقرة وال عمران وما فيهما من المحاورة لعلماء اليهود والنصارى في العقائد والتواريخ والأحكام أو ليقرؤا ما شاؤا من السور المدينة او المكية التي فيها ذكر أهل الكتاب , ولينظروا بأي لسان تحدث عنهم القران , وكيف يصور لنا علومهم بأنها الجهالات , وعقائدهم بأنها الضلالات والخرافات وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات , فإن أنت أحببت زيادة البيان فإليك نموذجاً من وصفه وتفنيده لأغلاطهم ومغالطاتهم التاريحية ( يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل الا من بعده أفلا تعقلون ) الآيات من سورة آل عمران ( أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارا ) سورة البقرة ( إن أول بيت وضع للناس للذين بمكة ) سورة آل عمران ( كل الطعام كان حِلاًً لبني اسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على نفسه ) سورة آل عمران .
وهذا طرف من وصفه وتفنيده لخرافاتهم الدينية ( وما من لغوب ) سورة ق ( وما كفر سليمان ) سورة البقرة ( ولقد سمع (1/59)
الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء ) سورة آل عمران (وقالت اليهود يد الله مغلولة ) سورة المائدة ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) سورة التوبة ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه - لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم ، لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ) سورة المائدة (قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله )سورة آل عمران فانظر كيف صور القرآن عقيدة علماء الدين في زمنه ولاسيما علماء النصارى فقد كان طابع الشرك في ديانتهم لا يخفى على أحد ، حتى إن الأميين فظنوا له فاتخذوا منه عزاء لهم في شركهم ( ولمّا ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ ) سورة الزخرف بل اتخذوا منه حجة على أنّ التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن بدع في الدين لم يسبق إليه فقالوا (ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة ) سورة ص يعنون ملة النصرانية . وهذه سلسلة أخرى من جرائمهم يسردها القرآن متواصلة الحلقات ( فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف . إلى أن قال : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ، وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم - إلى أن قال :- وبصدّهم عن سبيل الله كثيرا ، وأخذهم الربا (1/60)
وقد نهوا عنه وأكلهم وأموال الناس بالباطل ) سورة النساء فهل تري في هذا كله صورة أساتذة يتلقى عنهم صاحب القران علومه أم بالعكس منه معلما يصحح لهم أغلاطهم وينعي عليهم سوء أحوالهم .
لا ننكر انه كان في أهل الكتاب قليل من العلماء الراسخين لكن الراسخون في العلم منهم امنوا بالقرآن وبنبي القرآن وقل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) آخر سورة الرعد , فلو كانوا له معلمين لآمنوا بأنفسهم بدل أن يؤمنوا به.
ولنعد مرة أخرى فنسأل : هل كان علم العلماء يومئذ مبذولا لطالبيه مباحا لسائليه ؟ أم كان حرصهم على هذا العلم اشد من حرصهم على حياتهم , وكانوا يضنون به حتى على أبنائهم استبقاء لرياستهم أو طمعا في منصب النبوة الذي كانوا يستشرفون له في ذلك العصر ؟
لنستنطق القرآن الذي رضيه الملحدون حكما بيننا وبينهم ، فإنه يكفينا مؤونه الجواب عن هذا السؤال . وها هو ذا يقول لنا : إنهم كانوا في سبيل الضن بكتبهم وعلومهم لا يتورعون عن منكر ، فكانوا تارة ( يكتبون الكتب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) سورة البقرة , وتارة ( يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبون من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } سورة آل عمران , وتارة {يحرفون الكلم عن مواضعه } سورة المائدة , وتارة يبترون الكتب فيظهرون بعضها ويخفون بعضها ( قل من (1/61)
أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا و هدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) سورة الأنعام , وتارة يحاجون بمحفوظهم فإذا قيل لهم ( فاتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين ) سورة آل عمران , بهتوا فلم يجيبوا . وربما جاءوا بها فقرءوا ما قبل الشاهد وما بعده و ستروا بكفهم مكان النص المجادل فيه , كما وقع في قصة الرجم . انظر صحيح البخاري في تفسير الآية الأنفة .
فجاء الحق يرميهم علنا باللبس والكتمان (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) سورة آل عمران , بل جاء كاشفا لما ستروه مبينا لما كتموه حاكما فيما اختلفوا فيه ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) سورة المائدة. ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) سورة النمل, ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) سورة النحل .
أنظر إلى هذه الآيات من سورة النحل والنمل المكيتين كيف جعلت من مقاصد القرآن الأساسية بيان ما اختلف فيه أهل الكتاب بل جعلته أول المقاصد حيث بدأت به , وثنت بالهدى والرحمة للمؤمنين.
ونعود للمرة الثالثة فنقول لمن يزعم أن محمدا كان يعلمه بشر: قل لنا (1/62)
ما أسم هذا المعلم ومن ذا الذي رآه وسمعه وماذا سمع منه ومتى كان ذلك وأين كان فان كلمة ((البشر )) تصف لنا هذا العالم الذي يمشون على الأرض مطمئنين, ويراهم الناس غادين ورائحين .فلا تسمع دعواها بدون تحديد و تعيين .بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون الله شر كاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم . فيقال له كما قيل لهم ( قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض , أم بظاهر من القول ) سورة الرعد.
بل نقول هل ولد هذا النبي في المريخ , أو نشأ في مكان قصي عن العالم ’ فلم يهبط على قومه الا بعد أن بلغ أشده واستوى , ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا إلماما ؟ ألم يولد في حجورهم ؟ الم يكن يمشي , بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم ؟ الم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ؟ ( ام لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ) سورة المؤمنون.
نعم ان قومه قد طوعت لهم أنفسهم ان يقولوا هذه الكلمة ( انما يعلمه بشر ) سورة النحل ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادين , وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العلمية ؟ كلا انهم ما كان يعنيهم ان يكونوا جادين محقين . وإنما كان همهم ان يدرءوا عن انفسهم معرة السكوت والافحام , باي صورة تتفق لهم من صور الكلام : بالصدق او بالكذب , بالجد أو باللعب.
وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا انه يعلمه ؟
أتحسب أنهم اجترءوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم ؟ كلا فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلا من ان يعّلموا رجلا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم (1/63)
أم تحسب أنهم لما وجدوا أرض مكة مقفرة من علماء الدين والتاريخ في عهد البعثة المحمدية عمدوا إلى رجل من أولئك العلماء في المدينة أو في الشام أو غيرهما فنسبوا ذلك التعليم إليه كلا إن ألسنتهم لما تطاوعهم على النطق بهذه الكلمة أيضا فمن ذا إما لا لقد وجدوا أنهم مضطرين أن يلتمسوا شخصا يتحقق فيه شرطان أحدهما أن يكون من سكان مكة نفسها لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرة واصيلا وثانيهما أن يكون من غير جلدتهم وملتهم ليمكن أن يقال إن عنده علم ما لم يعلموا وقد التمسوا هذه الأوصاف فوجدوها أتدري أين وجدوها في حداد رومي نعم وجدوا في مكة غلاما تعرفه الحوانيت والأسواق ولا تعرفه تلك العلوم في قليل ولا كثير غير أنه لم يكن أميا ولا وثنيا مثلهم بل كان نصرانيا يقرأ ويكتب فكان من أجل ذلك خليقا في زعمهم أن يكون أستاذا لمحمد وبالتالي أستاذا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها ورد متشابهها إلى محكمها وهل كان مزودا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم لعرفت أنه كان حدادا منهمكا في مطرقته وسندانه وأنه كان عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل فكان مثلهم كمثل من يقول إن العلم يستقى من الجهل وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا (1/64)
لسان عربي مبين سورة النحل نعم إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة ما يسيغ مرارة الزور والباطل ورأوا في هذه الصورة الخيالية من التهكم والسخرية ما يشفي صدورهم ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم ولكنهم ما دروا أن في طي هذه السخرية سخرية بهم وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم وأن كل غريب عنهم ولو كان غلاما سوقيا أهل لأن يقال عنه أن عنده من العلم ما ليس عندهم فيا له من نطق كان العي في موضعه خيرا لهم وأستر عليهم ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون أما الحق الذي كانوا يخاصمونه فقد والله زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته ذلك أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرا تعليميا خارج حدود قريته بل كان آخر جهد بذلوه من حيلتهم وآخر سهم رموه من كنانتهم أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره فيا ليت شعري لو كان لهذا الغلام أن يكون مرجعا علميا كما أرادوا أن يصفوه فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته فينال في التاريخ شرف الأستاذية أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها من الربانيين والأحبار في المدينة أو من القسيسين والرهبان في الشام اولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها أليس ذلك لو كان ممكنا أو شبيها بالممكن كان هو أحسن تلفيقا وأجود سبكا وأدنى إلى الرواج (1/65)
وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد بمكة أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدا أمثل منه ولا أعلم بالدين والتاريخ تالله لو أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدا من سائر الأبواب وأدخل منها في معنى المكابرة التي لا تروج لما ضيقوا على أنفسهم دائرة الاتهام حتى تورطوا في هذا المحال المكشوف وافتضحوا بهذه المقالة الشوهاء هؤلاء قوم محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا أحرص الناس على خصومته وأدرى الناس بأسفاره ورحلاته وأحصاهم لحركاته وسكناته قد عجزوا كما ترى أن يعقدوا صلة علمية بينه وبين أهل العلم في عصره فما للملحدين اليوم وقد مضى نيف وثلاثة عشر قرنا انفضت فيها سوق الحوادث وجفت الأقلام وطويت الصحف لا يزالون يبحثون عن تلك الصلة في قمامات التاريخ وفي الناحية التي أنف قومه أن ينبشوها ألا فليريحوا أنفسهم من عناء البحث فقد كفتهم قريش مؤونته وليشتغلوا بغير هذه الناحية التي قضى التاريخ والمنطق على كل محاولة فيها بالفشل فإن أبوا فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته ونعود رابعا وأخيرا فنقول لو كانت نسبة العلوم القرآنية إلى تعليم البشر من الدعاوى التي تعبر عن فكرة أو شبهة قائمة بنفس صاحبها لوقف عندها الطاعنون ولم يجاوزوها ذلك لأن العقل إذا خلي ونفسه في تعليل تلك المفارقة الكلية بين ماضي الحياة المحمدية وحاضرها أعني ما قبل النبوة وما بعدها لم يسعه إلا الحكم بأن هذا العلم الجديد وليد تعليم جديد وإذ لا عهد للناس بمعلمين في الأرض من غير البشر كان أول ما يخطر بالبال واقعية أو ممكنة تجعل له شيئا من الاقتناع بهذا العليل فيما بينه وبين نفسه لما رضي به بديلا ولما عدل عنه إلى تعليل آخر أيا كان لكن (1/66)
هؤلاء الطاعنين ما فتئوا منذ نزل القرآن إلى يومنا هذا حائرين في نسب هذا القرآن لا يدرون أينسبونه إلى تعليم البشر كما سمعنا آنفا أم يرجعون به إلى نفس صاحبه كما سمعنا من قبل أم يجمعون له بين النسبتين فيقولون لصاحبه إنه معلم مجنون كما جاء في سورة الدخان ومن تتبع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقل الكلمات دورانا على ألسنتهم وأن أكثرها ورودا في جدلهم هي نسبته إلى نفس صاحبه على اضطرابهم (1/67)
في تحديد الحالة النفسية التي صدر عنها القرآن أشعر هي أم جنون أم أضغاث أحلام فانظر كم قلبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة حتى إنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلام رصين كالقرآن وفي عقل رصين كعقل صاحبه بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر ليثيروا بها غبارا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة وليلقوا بها أشواكا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين ولقد نعلم أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضونه من بين تلك الآراء وأنهم كانوا كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبا وجدوه نابيا عنه في ذوقهم غير صالح لأن يكون لبوسا له فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان فإذا هو ليس بأمثل قياسا مما رفضوه فيعمدون إلى تجربة ثالثة وهكذا دواليك ما يستقرون على حال من القلق فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجلية فاقرأ وصفها في القرآن بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر سورة الأنبياء فهذه الجلمة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال انظر كيف ضربوا لك الأمثال (1/68)
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا سورة الإسراء وسورة الفرقان والآن وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين من البحث وأريناك أنه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر وأن كل من حاول أن يجعل هذا القرآن عملا إنسانيا أعياه أمره وأقام الحجة على فشله باضطرابه ولحاجته وإحالته ومكابرته فقد وجب علينا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة لنبحث عن ذلك المصدر في أفق خارج عن هذا الأفق الإنساني جملة وألا نقف بالقرآن حيث وقف به الملحدون قديما وحديثا مذبذبين فيه بين هذين الطرفين يأخذون بأحدهما تارة وبالثاني تراة وبهما مجتمعين تارة أخرى متنقلين هكذا من فاسد إلى فاسد إلى مركب منهما أشد فسادا من كليهما كلا فإن العقل يقضي علينا أن نبطل ما أبطله البرهان غير مكابرين وأن نتابعه في سيره حتى نصل إلى الحق المبين أما هؤلاء الملحدون فإنهم ما قعد بهم عن متابعة البحث زعموا إلا رعايتهم لحرمة السنن الكونية ومحافظتهم على الأسباب العادية التي يصدر عنها كلام الناس في معقولهم ومنقولهم فقد أبى عليهم وفاؤهم لهذه العلوم الطبيعية أن يقتحموا حدودها ويخرجوا إلى التماس شيء لا تناله أعينهم ولم يجربوا مثاله في أنفسهم وأنت قد عرفت أن هذا الذي ظنوه وفاء بطبيعة الأشياء قد انقلب بهم إلى ضده إذ خرقوا في سبيله السياج الطبيعي للعقل الإنساني وللواقع التاريخي فجمعوا المتناقضات وغيروا معالم التاريخ وأرهقوا طبائع الأشياء فحملوها ما لا تطيق فأي عاقل يرضى أن يقف (1/69)
موقفا كهذا ينصر فيه عادته بإهدار عقله بل الحق أن هناك مانعا آخر يعوقهم عن متابعة السير معنا ولكنهم يكتمونه عنا كبر في صدورهم أن يعطوا مقادتهم لإنسان جاءهم من فوق رءوسهم يزعم أنه رسول الله إليهم فيأمرهم وينهاهم ويستوجب الطاعة عليهم ثم هو على ذلك يواجههم بالحقائق المرة فيحول بينهم وبين ماض هم به مستمسكون وهوى هم له عابدون بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون سورة المؤمنون فلنذرهم قاعدين حيث رضوا لأنفسهم القعود ولنتابع البحث عن هذا الحق راغبين إلى الله في الهدى إليه وإنا إن شاء الله لمهتدون لا تحسبن أننا في هذه المرحلة الثالثة سنضرب في بيداء تيهاء أو أننا سيترامى بنا السير إلى شقة بعيدة وسفر غير قاصد كلا فلن نخرج ببحثنا عن دائرة محدودة نراها مظنة للسر الذي نطلبه وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان يظهر فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم في كل مرة حين ينزل عليه القرآن وكان أمرها لا يخفى على أحد ممن ينظر إليه فكانوا يرونه قد احمر وجهه فجأة وأخذته البرحاء حتى يتفصد جبينه عرقا وثقل جسمه حتى يكاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جانبه وحتى لو كان راكبا لبركت به راحلته وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتا مختلطة تشبه دوي النحل ثم لا يلبث أن تسري عنه تلك الشدة (1/70)
فإذا هو يتلو قرآنا جديدا وذكرا محدثا فمن شاء أن يبحث عن مصدر هذا القرآن فهاهنا أقرب مظانة ففيها فليحصر الباحثون بحوثهم ولينشد طلاب الحق ضالتهم وأين تلتمس الأسباب الصحيحة لأثر ما إن تلتمس حيث يظهر ذلك الأثر وحيث يدور وجوده وعدمه فلننظر الآن في هذه الظاهرة هل كانت شيئا متكلفا مصنوعا وطريقة تحضيرية يستجمع بها الفكر والروية أم كانت أمرا لا دخل فيه للاختيار وإذا كانت أمرا غير اختياري فهل كان لها في داخل النفس منشأ من الأسباب الطبيعية العادية كباعثة النوم أو من الأسباب الطبيعية الشاذة كاختلال القوى العصبية أم كانت انفعالا بسبب خارجي منفصل عن قوى النفس وإن نظرة واحدة نلقيها على عناصر هذه الظاهرة لتهدينا إلى أنها لا يمكن أن تكون صناعة وتكلفا وبخاصة لو تأملت تلك الأصوات المختلطة التي كانت تسمع عند الوجه النبوي الشريف وأيضا لو كانت صناعة وتكلفا لكانت طوع يمينه فكان لا يشاء يوما أن يأتي بقرآن جديد إلا جاء به من هذا الطريق الذي اعتاده في تحضيره وقد علمت أنه كثيرا ما التمسه في أشد أوقات الحاجة إليه وكان لا يظفر به إلا حين يشاء الله فهي إذا حال غير اختيارية ثم إننا نرجع البصر كرة أخرى فنرى البعد شاسعا بينها وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم فإنها كانت تعروه قائما أو قاعدا وسائرا أو راكبا وبكرة أو عشيا وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو أعدائه وكانت تعروه فجأة وتزول عنه فجأة وتنقضي في لحظات يسيرة لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان وكانت تصاحبها تلك (1/71)
الأصوات الغريبة التي لا تسمع منه ولا من غيره عند النوم وبالإجمال كانت حالا تباين حال النائم في أوضاعها وأوقاتها وأشكالها وجملة مظاهرها في إذا عارض غير عادي ثم نرى المباينة التامة والمناقضة الكلية بينها وبين تلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفر فيها الوجوه وتبرد الأطراف وتصطك الأسنان وتتكشف العورات ويحتجب نور العقل ويخيم ظلام الجهل لأنها كانت كما علمت مبعث نمو في قوة البدن وإشراق في اللون وارتفاع في درجة الحرارة وكانت إلى جانب ذلك مبعث نور لا ظلمة ومصدر علم لا جهالة بل كان يجيء معها العلم والنور ما تخضع العقول لحكمته وتتضاءل الأنوار عند طلعته ها نحن أولاء قد كدنا نصل فلتقف بنا وقفة يسيرة لنرى مبعث هذا الضوء الذي كان يبدو حينا ويختفي أحيانا من حيث لا يد لصاحبه في ظهوره ولا في اختفائه هل عسى أن يكون منبعا من طبيعة هذه النفس المحمدية إذا والله لكان خليقا أن ينبعث منها أبدا ولكان أحق بأن ينبعث منها في حال اليقظة العادية والروية الفكرية أكثر مما ينبعث منها في تلك اللحظات اليسيرة حينما تغشيها هذه السحابة الرقيقة التي قد تشبه السنة أو الإغماء فلا بد إذا أن يكون وراء هذه السحابة مصدر نوراني يمد هذه النفس المحمدية بين آن وآن فيسمو بها عن أفق شعرها المحدود ويزودها بما شاء الله من العلوم ثم يرسلها إلينا محملة بهذه الشحنة العلمية إلى أن يلاقيها مرة أخرى وكما آمن الناس بأن نور القمر ليس مستفادا من ذاته وإنما هو مستفاد من ضياء الشمس لأنهم رأو اختلاف نوره تابعا أبدا لاختلاف مواقعه منها قربا وبعدا فكذلك فليؤمنوا بأن نور هذا القمر النبوي إنما كان شعاعا منعكسا من ضوء تلك الشمس التي يرون آثارها وإن كانوا لا يرونها نعم إنهم لم يروها بأعينهم طالعة في رابعة النهار ولم (1/72)
يسمعوا صوتها بآذانهم جرسا مفهوما وكلاما يفقهه الناس ولكنهم كانوا يرون قبسا منها في الجبين وكانوا يسمعون حسيسها حول الوجه الكريم وإن في ذلك لهدى للمهتدين هي إذا قوة خارجية لأنها لا تتصل بهذه النفس المحمدية إلا حينا بعد حين وهي لا محالة قوة عالمة لأنها توحي إليه علما وهي قوة أعلى من قوته لأنها تحدث في نفسه وفي بدنه تلك الآثار العظيمة علمه شديد القوى ذو مرة سورة النجم وهي قوة خيرة معصومة لأنها لا توحي إلا الحق ولا تأمر إلا بالرشد فلا جرم أنها لا تكون قوة طائشة شريرة كقوة الجن والشياطين إذ ما للجن وعلم الغيب ولقد تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سورة سبأ وما للشيطان خبر السماء وهي محفوظة من كل شيطان رجيم وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون سورة الشعراء بل نقول أليست الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إئتلف وما تناكر منها اختلف أو ليس المرء يعرف بقرينه وشبه الشيء ينجذب إليه فكيف تأتلف تلك الأرواح الخبيثة وذلك القلب النقي الطهور أم كيف تأتلف تلك القوى الطائشة وهذا العقل الكامل الرصين هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فماذا عسى أن تكون هذه القوة إن لم تكن قوة ملك كريم (1/73)
ذلك هو مبلغ العلم في وصف هذه القوة الغيبية حسبما يهدي إليه البحث العقلي السليم وليس بالمؤمن المقتصد حاجة إلى أكثر من هذا القدر في إرضاء شهوته العلمية ولا في تثبيت عقيدته الدينية فمن شاء المزيد من وصفها وحليتها فليس سبيله الرجوع إلى دلالات العقول وإنما سبيله الرجوع إلى النقل الصحيح عن مهبط سرها ومظهر نورها صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن صاحب هذا السر حديث شاهد العيان الذي رأى شخصه وسمع صوته بل حديث التلميذ الذي جلس إلى أستاذه غير مرة فأما الذي يؤمن بالغيب سيؤمن بهذا الحديث عنه وإن لم يره لأنه رأى أثره ولأنه يؤمن بمن أخبره وأما الجاهلون الذين أوتوا قليلا من علم ظاهر الحياة فظنوا أنهم أحاطوا بكل شيء علما فإنهم سيكذبون بكل ما لم يحيطوا بعلمه وسيقولون لك لعله اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئا من لا شيء وأنت فاستعذ بالله من عمى القلوب والعيون وقل كلا ما زاغ البصر وما طغى سورة النجم أو يقولون لعله اضطراب في قوى الفكر صور له المعاني أشباحا ماثلة والأحلام حقائق مجسمة فابرأ إلى الله من هذا الجنون وقل كلا ما كذب الفؤاد ما رأى نعم لقد عجبوا أن يكون إنسان يرى الملائكة عيانا ويكلمهم جهارا بل عجبوا أن يكون في الدنيا خلق لا يرونه بأعينهم وصوت لا يسمعونه بآذانهم فقالوا كيف يرى محمد ما لا نرى ويسمع ما لا نسمع ولعمري لنحن أحق أن نعجب من هذا العجب فإننا نفهم أنه لو (1/74)
ساغ مثله في عصور الجاهلية الأولى ما كان ليسوغ اليوم وقد ملئت الأرض بالآيات العلمية التي تفسر لعقولنا تلك الحقائق الغيبية وإن من أقرب هذه الآيات إلى متناول الجمهور آية الهاتف التليفون فقد أصبح الرجلان يكون أحدهما في أقصى المشرق والآخر في أقصى المغرب ثم يتخاطبان ويتراءيان من حيث لا يرى الجالسون في مجلس التخاطب شيئا ولا يسمعون إلا أزيزا كدوي النحل الذي في صفة الوحي فإن كانوا يريدون آية علمية أوضح من هذه تمثل لهم الوحي تمثيلا وتريهم من طريق التجارب التي لا يؤمنون إلا بها أن اتصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها قد يحدث فيها ظاهرة من جنس هذه الظاهرة وينقش فيها معلومات لم تكن مخزونة في العقل ولا في الحس قبل ذلك فها قد أراهم الله تلك الآية العجيبة في أعجوبة التنويم المغناطيسي فقد أصبح الرجل القوي الإرادة يستطيع أن يتسلط بقوة إرادته على من هو أضعف منه حتى يجعله ينام بأمره نوما عميقا لا يشعر فيه بوخز الإبر وهنالك يكون رهين إشارته وتنمحي إرادته في إرادته فلو شاء أن يمحو من نفسه رأيا أو عقيدة لمحاها بكلمة واحدة بل لو شاء أن يمحو من صدره اسم نفسه ويلقنه اسما آخر يقنعه بأنه هو اسمه لما وجد منه إلا إيمانا وتسليما ولأصبح اسمه الحقيقي نسيا منسيا ولبقي هذا الاسم المصنوع منقوشا على قلبه ولسانه بعد أن يستيقظ إلى ما شاء الله فإذا كان فعل هذا الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة(1/75)
فذلك مثل حامل الوحي ومتلقيه عليهما السلام هذا بشر مطواع ذو روح صاف يقبل انطباع العلوم فيه وذاك ملك شديد القوى ذو مرة يحمل إليه رسالته ويقرئها إياه فلا ينسى إلا ما شاء الله بيد أن بعدا شاسعا بين هذا الوحي النبوي وحي الناس بعضهم لبعض فالناس كما عرفت قد يوحون زخرف القول غرورا وكثيرا ما يترك وحيهم في نفس متلقيه أعراضا عقلية أو بدنية يصعب علاجها فأين هذا من الوحي بين رسولين مؤيدين اصطفاهما الله لرسالته رسول من الملائكة ورسول من الناس فأما السول الملكي فإنه كما علمت لا يوحي إلا الحق ولا يأمر إلا بالخير وأما الرسول البشري فإنه لا يزال من بعد كما كان من قبل ثابت الفؤاد كامل العقل قوي النفس والبدن الله أعلم حيث يجعل رسالته سورة الأنعام وبعد فإننا في هذا المنهج الذي سلكناه من أول البحث إلى هذا الحد لم نرد أن نعرض للقرآن في جوهره بل كان قصارى ما صنعناه أنا درسنا الطريق التي جاء منها فما وجدنا في اعترافات صاحبه ولا في حياته الخلقية ولا في وسائله وصلاته العلمية ولا في سائر الظروف العامة أو الخاصة التي ظهر فيها القرآن إلا شواهد ناطقة بأن هذا القرآن ليس له على ظهر الأرض أب ننسبه إليه من دون الله وتلك كلها دراسات خارجية إنما يسلكها رجل وقف معنا على طرف (1/76)
صالح من هذه الحياة النبوية وملابساتها وكان مع ذلك سليم الفطرة يتعرف الأشياء بمثالها ويهتدي إليها بأقرب أماراتها فمثل هذا سيرضى منا بهذا القدر ويهتدي به وأما الذين لا يعلمون عن تلك الحياة النبوية إلا قليلا وكثير ما هم والذين يريدون أن يأخذوا حجة القرآن لنفسه من نفسه فهؤلاء لا غنى لهم أن نتقدم بهم خطوة أخرى نبين لهم فيها أن هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر حتى أنه لو وجد ملقى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه ذلك أن قدرة الناس وإن تفاوتت فإلى حدود محدودة لا تتعداها وقدرة الخالق على الممكنات لا حد لها فكل كائن يجاوز حدود القدرة العالمية واقع في حدود القدرة الإلهية ألبتة ولا ثالث مثال ذلك أن الرجل قد يصرع الرجل وقد يصرع الرجلين وقد يصرع الآحاد والعشرات ولكن هل من الناس من يقف في وجه العالم كله فيقهر الأمم أفرادا وجماعات والله يأتي بالشمس من المشرق فمن ذا الذي يأتي بها منالمغرب وأنت تستطيع أن تطفئ المصباح وأن توقده حين تشاء ولكن هل يستطيع الناس جميعا أن يطلعوا الشمس قبل وقتها أو يؤخروها عن ساعتها أو يطفئوا نورها أو يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستقذوه منه فأنى لهم أن يضاهئوا تلك الكائنات العلوية التي لا تنالها أيديهم ولا قذائفهم والتي لا يملكون من أمرها سوى النظر إليها وألإعجاب بها والاستفادة منها والخضوع لها فذلك العجز العام عن مضاهاة الخلق وعن محاكاة الصنعة هو آية كونها (1/77)
ليست من صنع الناس وذلك هو الطابع الإلهي والمظهر السماوي الذي تمتاز به صنعة الخالق عن صنعة المخلوق وهذا هو المثل الذي نريد أن نطبقه على القرآن الكريم غير أن من الناس فريقا غريقا في حمأة العناد يقولون مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وآخرين لا يجدون طمأنينتهم إلا في اضطراب الشك يقولون إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين فهؤلاء وأولئك لا سبيل لنا عليهم ولا ينفعهم نصحنا إن كان الله يريد أن يغويهم إذ ليس من شأننا أن نسمع الصم أو نهدي العمي ولا الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم فإذا هم لا يسمعون أو يضعون أكفهم على أعينهم فإذا الشمس الطالعة ليست بطالعة ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا وإنما سبيلنا أن ننصب الحجة لجاهلها من طلاب الحق ونوضح الطريق لسابلها من رواد اليقين ها نحن أولاء ندعو كل من يطلب الحق بإنصاف أن ينظر معنا في (1/78)
القرآن من أي النواحي أحب من ناحية أسلوبه أو من ناحية علومه أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغير به وجه التاريخ أو من تلك النواحي مجتمعة على أن تكون له الخيرة بعد ذلك أن ينظر إليه في حدود البيئة والعصر الذي ظهر فيه أو يفترض أنه ظهر في أرقى الأوساط والعصور التاريخية وسواء علينا أيضا أن ينظر إلى شخصية الداعي الذي جاء به أو يلتمس شخصا خياليا تجمعت فيه مرانات الأدباء وسلطات الزعماء ودراسات العلماء بكافة العلوم الإنسانية ثم نسأله هل يجد فيه إلا قوة شاذة تغلب على مغالب وتتضاءل دونها قوة كل عالم وكل زعيم وكل شاعئ وكاتب ثم تنقضي الأجيال والأحقاب ولا ينقضي فيه من عجائب بل قد تنقضي الدنيا كلها ولم يحط الناس بتأويل كل ما فيه يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق سورة الأعراف فلنأخذ الآن بعون الله وتوفيقه في دراسة هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني أعني ناحية الإعجاز اللغوي وناحية الإعجاز العلمي وناحية الإعجاز الإصلاحي التهذيبي الاجتماعي ولتكن عنايتنا أوفر بناحيته اللغوية لأنها هي التي وقع من جهتها التحدي بالقرآن جملة وتفصيلا في سورة منه ولذلك نبدأ بها (1/79)
القرآن معجزة لغوية من كان عنده شيء من الشك في هذه القضية فليأذن لنا أن نستوضحه فيم ذلك الشك هل حدثته نفسه بأنه هو يستطيع أن يأتي بكلام في طبقة البلاغة القرآنية أم هو قد عرف من نفسه القصور عن تلك الرتبة ولكنه لم يعرف عن الناس ما عرف من نفسه أم علم أن الناس جميعا قد سكتوا عن معارضة القرآن ولكنه لم يعلم أن سكوتهم عنه كان عجزا ولا أن عجزهم جاء من ناحية القرآن ذاته أم علم أنهم قد عجزوا عنه وأنه هو الذي أعجزهم ولكنه لم يعلم أن أسلوبه كان من أسباب إعجازه أم هو يوقن بأن القرآن الكريم كان وما زال معجزة بيانية لسائر الناس ولكنه لا يوقن بأنه كان معجزا كذلك لمن جاء به أم هو يؤمن بهذا كله ولكنه لا يدري ما أسراره وما أسبابه هذه وجوه ستة لكل وجه منها علاج يخصه وسنعالجها على هذا الترتيب فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئا من ثناعة الشعر أو الكتابة وآنس من نفسه اقتدارا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين وإنما يعرض إن عرض للأغرار الناشئين (1/80)
ومثل هذه دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب وأن يستظهر علىفهمها بدراسة طرف من علوم الأدب حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني ويستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته ثم ينظر في القرآن بعد ذلك وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة وإحسانا في تصريف القول وامتلاكا لناصية البيان ازداد بقدر ذلك هضما لنفسه وإنكارا لقوته وخضوعا بكليته أمام أسلوب القرآن وهذا قد يبدو لك عجيبا أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه ولكن لا عجب فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانا لعظمتها وثقة بالعجز عنها ولا كذلك صناعات الخلق فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون فإن أبى المغرور إلا أصرارا على غروره وكبر عليه أن يقر بعجزه وقصوره دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه ويروز قوته وقلنا له أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين غير أننا نعظه بواحدة أخرى ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة وحتى يستيقن الإحسان والإجادة فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها وإن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم (1/81)
بل نزلوا به إلى ضرب من السخف والتفاهة باد عواره باق عاره وشناره فمنهم عاقل استحيا أن يتم تجربته فحطم قلمه ومزق صحيفته ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن ترودج فيهم سخافاته فطوى صحفه وأخفاها إلى حين ومنهم طائش برز بها إلى الناس فكان سخرية للساخرين وثملا للآخرين (1/82)
فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها ومن لم يستحي فليصنع ما يشاء وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبا في هذه الصناعة فقال في نفسه لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان لعل هذا الأمر يكون يسيرا علىمن هو أفصح مني لسانا وأسحر بيانا فمثل هذا نقوله له إرجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله فإن قالوا لك لو نشاء لقلنا مثل هذا فقل هاتوا برهانكم وإن قالوا لا طاقة لنا به فقل أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله ما بال القرون الأولى ينبئك التاريخ أن أحدا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره وأن بضعة النفر الذين انغضوا رؤوسهم إليه باؤوا بالخزي والهوان وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان أجل لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن وما أدراك ما عصر نزول القرآ، هو أزهى عصورة البيان العربي وأرقى أدوار التهذيب اللغوي وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها حتى (1/83)
أدركت هذه اللغة أشدها وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم وما هي إلا بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة يتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها والمفاخرة بها وتنافسون فيها أشد التنافس يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدب فما هو إلا أن جاء القرآن وإذا الأسواق قد انقضت إلا منه وإذا الأندية قد صفرت إلا عنه فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه أو يقتر فيه إبدال كلمة بكلمة أو حذف كلمة أو زيادة كلمة أو تقديم واحدة وتأخير أخرى ذلك على أنه لم يسد عليهم باب المعارضة بل فتحه على مصراعيه بل دعاهم إليه أفرادا أو جماعات بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله ثم بسورة واحدة من مثله وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة فقال لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا سورة الإسراء وقال فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي (1/84)
وقودها الناس والحجارة سورة البقرة فانظر أي إلهاب وأي استفزاز لقد أجهر عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله ولن تفعلوا ثم هددهم بالنار ثم سواهم بالأحجار فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء وأباة الضيم الأعزاء وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته ولا سلما يصعدون به إلى مزاحمته بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف واستنطقوا السيوف بدل الحروف وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان وكل من لا يستطيع دفعا عن نفسه بالقلم واللسان ومضى عصر القرآن والتحدي قائم ليجرب كل امرئ نفسه وجاء العصر الذي بعده وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم ولم تنحرف ألسنتهم ولم تتغير سليقتهم وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه وثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم لفعلوا ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ثم مضت تلك القرون وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد كانوا أشد عجزا وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم وكان برهان الإعجاز قائما أمامهم من طريقين وجداني وبرهاني ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها فإن قال لنا نعم قد علمت أنه لم يأت أحد بشيء في معارضة (1/85)
القرآن ولكن ليس كل ما لم يفعله الناس يكون خارجا عن حدود قدرتهم فربما ترك الإنسان فعلا هو من جنس أفعاله الاختيارية لعدم قيام الأسباب التي من شأنها أن تبعث عليه أو لأن صارفا إلهيا ثبط همته وصرف إرادته عنه مع توافر الأسباب الداعية إليه أو لأن عارضا فجائيا عطل آلاته وعاق قدرته عن إحداث ذلك الفعل بعد توجه إرادته نحوه فعلى الفرضين الأولين يكون عدم معارضة القرآن قلة أكتراث بشأنه لا عجزا عن الإتيان بمثله وعلى الفرض الأخير يكون تركه عجزا عنه حقا لكن ليس لمانع فيه من جهة علو طبقته عن مستوى القدرة البشرية بل لمانع خارجي هو حماية القدرة العليا له وصيانتها إياه عن معارضة المعارضين ولو أزيل هذا المانع لجاء الناس بمثله قلنا له هذه الفروض كلها لا تنطبق على موضوعنا بحال أما الأول فإن الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة وأي شيء أقوى في استثارة حمية خصمك من ذلك التقريع البليغ المتكرر الذي توجهه إليه معلنا فيه عجزه عن مضاهاة عملك إن هذا التحديث كاف وحده في إثارة خفيظة الجبان وإشعال همته للدفاع عن نفسه بما تبلغه طاقته فكيف لو كان الذي تتحداه مجبولا على الأنفة والحمية وكيف لو كان العمل الذي تتحداه به هو صناعته التي بها يفاخر والتي هو فيها المدرب الماهر وكيف لو كنت مع ذلك ترميه بسفاهة الرأي وضلال الطريق وكيف لو كنت تبتغي من وراء هذه الحرب الجدلية هدم عقائده ومحو عوائده وقطع الصلة بين ماضيه ومستقبله (1/86)
وأما الثاني فإن هذه الأسباب قد رأيناها آتت بالفعل ثمراتها وأيقظت همم المعارضين إلى أبعد حدودها حتى كان أمر محمد والقرآن هو شغلهم الشاغل وهمهم الناصب فلم يدعوا وسيلة من الوسائل لمقاومته باللطف أو بالعنف إلا استنبطوها وتذرعوا بها أيخادعونه عن دينه ليلين لهم ويركن قليلا إلى دينهم أم يساومونه بالمال والملك ليكف عن دعوته أم يتواصون بمقاطعته وبحبس الزاد عنه وعن عشيرته الأقربين حتى يموتوا جوعا أو يسلموه أم يمنعون صوت القرآن أن يخرج من دور المسلمين خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم أم يلقون فيه الشبهات والمطاعن أم يتهمون صاحبه بالسحر والجنون ليصدوا عنه من لا يعرفه من القبائل القادمة في المواسم أم يمكرون به ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه أم يخاطرون بمهجهم وأموالهم وأهليهم في محاربته أفكان هذا كله تشاغلا عن القرآن وقلة عناية بشأنه ثم لماذا كل هذا وهو قد دلهم على أن الطريق الوحيد لإسكاته هو أن يجيئوه (1/87)
بكلام مثل الذي جاءهم به ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب وكان القتل والأسر والفقر والذل كل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي لهم عليهم فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز لا ريب أن هذه الحملات كلها لم تكن موجهة إلى شخص النبي وأصحابه فقد كانوا من قبل تعطفهم عليهم أرحامهم وتحببهم إليهم مكارم أخلاقهم كما أنها لم تكن موجهة إلى القرآن في الصدور ولا في داخل البيوت فقد قبلوا منهم أن يعبد امرؤ ربه في بيته كيف يشاء إنما كانت مصوبة إلى هدف واحد ومقاومة لخطر واحد هو إعلان هذا القرآن ونشره بين العرب ولا يهجسن في روعك أنهم ما نقموا من الإعلان بالقرآن إلا أنه دعوة جديدة إلى دين جديد فحسب كلا فقد كان في العرب حنفاء من فحول الخطباء والشعراء كقس بن ساعدة وأمية بن أبي الصلت وغيرهما وكانت خطبهم وأشعارهم مشحونة بالدعوة إلى ما دعا إليه القرآن من دين الفطرة فما بالهم قد أهمهم من أمر محمد وقرآنه ما لم يعنهم من أمر غيره ما ذاك إلا أنهم وجدوا له شأنا آخر لا يشبه شأن الناس وأنهم أحسوا في قرآنه قوة غلابة وتيارا جارفا يريد أن يبسط سلطانه حيث يصل صدى صوته وأنهم لم يجدوا سبيلا لمقاومته من طريق المعارضة الكلامية التي هي هجيراهم والتي هي الطريق المباشر الذي تحداهم به فلا جرم كان الطريق الوحيد عندهم لمقاومته هو الحيلولة بمختلف الوسائل بين هذا القرآن وبين الناس مهما كلفهم ذلك من تضحية وكذلك فعلوا وكذلك (1/88)
مضت السنة فيمن بعدهم من أعدا ءالقرآن إلى يوم يومنا هذا وأما الثالث فإنه لو كان عجزهم عن مضاهاة القرآن لعارض أصابهم حال بينهم وبين شيء في مقدورهم لما استبان لهم ذلك العجز إلا بعد أن يبسطوا ألسنتهم إليه ويجربوا قدرتهم عليه لأنه ما كان لامرئ أن يحس بزوال قدرته عن شيء كان يقدر عليه كقدرته على القيام والقعود إلا بعد محاولة وتجربة ونحن قد علمنا أنهم قعدوا عن هذه التجربة ولم يشرع منهم في هذه المحاولة إلا أقلهم عددا وأسفههم رأيا فكان ذلك آية على يأسهم الطبيعي من أنفسهم وعلى شعورهم بأن عجزهم عنهم عجز فطري عتيد كعجزهم عن إزالة الجبال وعن تناول النجوم من السماء وأنهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عن بادئ ذي بدء وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم لكان عجبهم إذا من أنفسهم كيف عيوا به وهو منهم على طرف الثمام ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم أي داء أصابنا فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام الذي هو ككل كلام أو لرجعوا إلى بيانهم القديم قبل أن يصيبهم العجز فجاءوا بشيء منه في محاذاته ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ولا جديد وكان القرآ، نفسه هو مثار عجبهم وإعجابهم حتى إنهم كانوا يخرون سجدا لسماعه من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيهابينه وبين كلامهم بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور فيفيض لسانه اعترافا صحيحا ما هذا بقول بشر فإن قال قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزا وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذا السر لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية فمن حروفهم ركبت كلماته ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه (1/89)
العرب من موادها وأبينتها وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها حتى نقول إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية قلنا له أما أن القرآ، الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادا وتركيبا فذلك في جلمته حق لا ريب فيه وبذلك كان أدخل في الإعجاز وأوضح في قطع الأعذار ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءأعجمي وعربي سورة فصلت وأما بعد فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض ولايخرجونفي صنعتهم عن قواعدها العامة ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانا مرفوعة وسقفا موضوعة وأبوابا مشرعة ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهل وأكنها للناس من الحر والقر وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان وتخفيف المحمول منها على حامله والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء فمنهم من يفي بذلك كله أو جله ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتا بعيدا كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك ويثلج صدرك ويملك قلبك وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك وتغثي منه نفسك وينفر منه طبعك (1/90)
ذلك أن اللغة فيها العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء وفيها الخبر والإنشاء وفيها الجمل الاسمية والفعلية وفيها النفي والإثبات وفيها الحقيقة والمجاز وفيها الإطناب والإيجاز وفيها الذكر والحذف وفيها الابتداء والعطف وفيها التعريف والتنكير وفيها التقديم والتأخير وهلم جرا ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة بل هم في شعابها يتفرقون وعند حدودها يلتقون بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يجمل في كل موطن وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن إذا لهان الأمر على طالبه ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعما واحدا وفي سمعهم نغمة واحدة كلا فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينا ويقصر بك عن غايتك حينا آخر ورب كلمة تراها في موضع ما كالحرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر كالدرة اللامعة فالشان إذا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض وأيها أقرب توصيلا إلى مقصد مقصد ففي الجدال أيها أقوم بالحجة وأدحض للشبهة وفي الوصف أيها أدق تمثيلا للواقع وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع وفي موطن الشدة أيها أشد إطلاعا على الأفئدة بتلك النار الموقدة وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان والأمر في هذه الاختيار عسير غير يسير لأن مجال الاختيار كثير الشعب مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان فضلا عن الموازنة بينها فضلا عن حسن الاختيار فيها فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غفل عنه صاحبه ويغفل كل منهما عما هدى إليه الآخر ورب وجه واحد يفوتك هاهنا يعدل وجهين تحصلهما هناك أو بالعكس (1/91)
وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل المزاج في تلك المركبات العنصرية المادية وهذا المزاج هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة وعلى حسبه يقع التفاوت في دراجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شؤون القول يتخير له أشرف المواد وأمسها رحما بالمعنى المراد وأجمعها للشوارد وأقبلها للامتزاج ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين لا يوما أو بعض يوم بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور فلا المكان يريد بساكنه بدلا ولا الساكن يبغي عن منزله حولا وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان هذا مطلب له دليله وإجمال له تفصيله وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله وإنما أدرنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتفاوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز أو صاعدة إلى حد الإعجاز فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وبلوغه الغاية في هذا المضمار وأنت بعد لم ترزق قوة الفصل بين درجات الكلام فاعلم أنه لا سبيل لك إلى القضاء في هذا الشأن عن حس وخبرة وإنما سبيلك أن تأخذ حكمة مسلما عن أهله وتقنع فيه بشهادة العارفين به وإذا يكون من حقك أن نقدم لك مثالا من شهاداتهم فخذ الآن هذا المثال جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتتعرض لما قبله قال الوليد لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل (1/92)
فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلوا ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته الحديث رواه الحاكم عن ابن عباس وقال صحيح على شرط البخاري نعم إن كنت لا تفرق بين كلام وكلام فهذه شهادة حسبك من شهادة وناهيك أنها شهادة أهل اللغة أنفسهم بل شهادة الأعداء لعدوهم وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار وأما إن كنت قد أوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والميز بين أساليبه فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها وحكمها وأمثالها ورسائلها ومحاوراتها متتبعا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها ثم افتح صفحة من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى أسلوب عجب ومنهج من الحديث فذ مبتكر كأن ما سواه من (1/93)
أوضاع الكلام منقول وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء وضع مرتجل لا ترى سابقا جاء بمثاله ولا لاحقا طبع على غراره فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء لدلت على مكانها واستمازت من بينها كما يستميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابا من الشك ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابا جديدا ألم تقولوا لنا إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى فما نرى إذا علينا حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرا مشاعا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه ألبتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورا كلامية بعدة الناطقين بها بحيث لا تجدون كاتبا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء ولا قائلا كذلك بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجا خاصا في الأداء فليس البدوي كالحضري ولا الذكي كالغبي وليس الطائش كالحليم ولا المريض كالسليم وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى بل المتشابهان فطرة ومزاجا المتساويان تربية وتعليما قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن ....... بعضهم بمثل كلام بعض وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلاما بشريا كسائر كلام البشر غير (1/94)
أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه وجوابنا لهذا القائل أن نقول له لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صور كلامهم ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة كل هذا نسلمه ولا ننكره ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئا من حجتنا ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية كلا ذلك ما لا نطمع فيه ولا ندعو المعارضين إليه وإنما نطلب كلاما أيا كان نمطه ومنهاجه على النحو الذي يحسنه المتلكم أيا كانت فطرته ومزاجه بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء وفيه يتماثلون أو يتقاربون وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلا قوما يستبقون إلى غاية محدودة وقد اتخذوا لذلك مجالا واسعا لا يزاحم بعضهم فيه بعضا ولا يضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيا لقرنه في المبدأ والوجهة ثم يكون منهم المجلي والمصلي والمقفي والتالي ويكون منهم من لا حظ له في الرهان ويكون منهم المتكافئون المتعادلون وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه ثم يقع بينهم التماثل (1/95)
أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجات البيان أو ينقصون منها وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم هب إذا المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداد لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية أو من هم أكمل منه فيها أو هبهم جميعا دونه في تلك الموازنة فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله وشيء من هذه المراتب الثلاث لو تم لكان كافيا في رد الحجة وإبطال التحدي ستقول بل أختار الواقع وهو أن العرب على اختلاف مراتبهم في البيان لم يرتفعوا إلى طبقة البلاغة المحمدية وأزعم أن هذا القصور الذاتي الذي قعد بهم عن مجاراته في عامة كلامه هو الذي قعد بهم عن معارضة قرآنه وإذا لا يكون هذا العجز حجة لكم على قدسية الأسلوب القرآني كما لم يكن حجة عندكم على قدسية الأسلوب النبوي فنجيب أما أن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان هو أفصح العرب وكان له في هذه الفضيلة البيانية المقام الأول بينهم غير مزاحم فذلك ما لا نماري بل لا نمتري فيه نحن ولا أحد ممن يعرف العربية غير أننا نسأل ما مبلغ هذه التفاوت الذي كان بينهم وبينه أكان مما يتفق مثله في مجاري العادات بين بعض الناس وبعض في حدود القوة البشرية أم كان أمرا شاذا خاقا للعادة بالكلية فأما إن كان كما نعهد شبيها بما يكون في العادة بين البليغ والأبلغ وبين الحسن والأحسن فلا شك أن هذا النحو من العلو إن حال بينهم وبين (1/96)
المجيء بمثل كلامه كله لم يكن ليحول بينهم وبين قطعة واحدة منه ولئن أعجزهم هذا القدر اليسير أن يحتذوه على التمام لم يكن ليعجزهم أن ينزلوا منه بمكان قريب ألا وإننا قد أرخينا لهم العنان في معارضة القرآن بهذا أو ذاك وأغمضنا لهم فيها يجيئوننا أن يكون كلا أو بعضا وكثيرا أو يسيرا ومماثلا أو قريبا من المماثل فكان عجزهم عن ذلك كله سواء وأما إن قيل إن التفاوت بينه عليه السلام وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة لاختصاصه من بين العرب ومن بين الناس بفطرة شاذة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ولا كثير إلا كما تنتسب القدرة إلى العجز أو الإمكان إلى الاستحالة فلا شك أن القول بذلك هو أخو القول بأن من الإنسان ما ليس بإنسان أو هو التسليم بأن ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان ذلك أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة والطبائع الشخصية تقع فيها الأشباه والأمثال في الشيء بعد الشيء وفي الواحد بعد الواحد إن لم يكن ذلك في كل عصر ففي عصور متطاولة وإن لم يكن في كل فنون الكلام ففي بعض فنونه وكائن رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم وعقولهم وألسنتهم فتتوافق خواطرهم وعباراتهم حينا وتتقارب أحيانا حتى لقد يخيل إليك أن الروح الساري في القولين روح واحد وأن النفس هاهنا هو النفس هناك وكذلك رأينا من الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع وعبد الحميد ومن يكتب بأسلوب الهمذاني والخوارزمي وهلم جرا فلو كان أسلوب القرآن من عمل صاحبه الإنسان لكان خليقا أن يجيء بشيء من مثله من كان أشبه بهذا الإنسان مزاجا وأقرب إليه هديا وسمتا وألصق به رحما وأكثر عنه أخذا وتعلما أو لكان جديرا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهم فقرأوه واستظهروه وتذوقوا معناه وتمثلوه وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله أن يدون أسلوبهم شيئا من أسلوبه على ما تقضي به غزيزة التأسي وشيمة نقل الطباع من الطباع ولكن شيئا من (1/97)
ذلك كله لم يكن وإنما قصارى فضل البليغ فيهم كما هو جهد البليغ فينا أن يظفر بشيء يقتبسه منه في تضاعيف مقالته ليزيدها به علوا ونباهة شأن بل نقول لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن لأن الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين والنفس الواحدة لا تكون نفسين ونحن نرى الأسلوب (1/98)
القرآني فنراه ضربا وحده ونرى الأسلوب النبوي فنراه ضربا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودا ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربا واحدا لا تعلو عن سطح الأرض فمنها ما يحبو حبوا ومنها ما يشتد عدوا ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة السيارات الأرضية إلى تلك السيارات السماوية نعم لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوي فتطمع في اقتناصها ومجاراتها (1/99)
كما تطمع في اقتناص الطائر أو مجاراته ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها أمن كلمات النبوة هي أم كلمات الصحابة أو التابعين ذلك على ما علمت من امتياز الأسلوب النبوي بمزيد الفصاحة ونقاء الديباجة وإحكام السرد ولكنه امتياز قد يدق على غير المنتهين في هذا الفن وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه فيلجأ إلى النقل يستعينه في تمييز بعض الحديث المرفوع من الحديث الموقوف أو المقطوع أما الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعا لا يلتبس معه بغيره ولا يجعل طامعا يطمع أن يحوم حول حماه بل يدع الأعناق تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كفتي ميزان ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي وأساليب سائر الناس وكان قد رزق حظا ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها استدلالا بصنعة ليس كمثلها شيء على صانع ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فإن كان السائل من طلاب الحق كما وصفنا وانتهى من بحثه إلى حيث أشرنا فأبصر وسمع وقايس ووزان وذاق ووجد فسوف يتقدم إلينا بكلمته الأخيرة قائلا نعم لقد نثلت كنانة الكلام بين يدي وعجمت سهامها فما وجدت كالقرآن أصلب عودا ولقد وردت مناهل القول وتذوقت طعومها فما وجدت كالقرآن أعذب موردا والآن آمنت (1/100)
أنه كما وصفتموه نسيج وحده وأنه يعلو وما يعلى وأنه يحطم ما تحته غير أنني وقد أدرت من قوة الأسلوب القرآني وحلاوته ما أدركت لم يزل الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله وما زالت النفس بعد هذا وذاك نزاعة إلى درس تلك الخصائص والمزايا التي استأثر القرآن بها عن سائر الكلام وكان فيها سر إعجازه اللغوي فهل من سبيل إلى عرض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا ونزداد إيمانا إلى إيماننا نقول أما الآن فقد والله طلبت منا جسيما وكلفتنا مراما بعيدا لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا فحفيت من دونه أقلامهم ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا له وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم ولم تقف به إشاراتهم ونحن وقد أفضت إلينا النوبة من بعدهم هل تحسب أننا سنسلك سبيلا غير سبيلهم فنزعم أننا في هذه العجالة سنبرز لك سر الإعجاز جملة كلا ولا استقراء ما كشفه الناس من جوانبه كلا ولا استقصاء ما نحسه نحن من تلك الجوانب وإنما نريد أن نصور لك بعض تلك الخصائص التي تلاقينا من كتاب الله كلما سمعناه أو تلوناه وتدبرناه لعلك واجد في القليل منها ما لا تجده في الكثير مما يعده الناس كإن زادك الناس من ذلك أنواعا رجونا أن نزيدك من النوع الواحد إقناعا وانتفاعا أول ما يفجؤك أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على (1/101)
هوى القرآن وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جرس حروفه ولكن تسمع حركاتها وسكناتها ومداتها وغناتها واتصالاتها وسكتاتها ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريدا وأرسلت ساذجة في الهواء فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب لا تجده في الكلام آخر لو جرد هذا التجريد وجود هذا التجويد ستجد اتساقا وائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر وستجد شيئا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد في الأوزان فيها بيتا بيتا وشطرا شطرا وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبا متقاربا فلا يلبث سمعك أن يمجها وطبعك أن يملها إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع متجدد تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم بل لا تفتأ تطلب منه المزيد هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن حتى الذين لا يعرفون لغة العرب فكيف يخفى على العرب أنفسهم وترى الناس قد يتساءلون لماذا كانت العرب إذا اختصمت في القرآن قارنت بينه وبين شعر نفيا وإثباتا ولم تعرض لسائر كلامها من الخطابة وغيرها (1/102)
وأنت فهل تبينت ها هنا الجواب وهديت إلى السر الذي فطنت له العرب ولم يفطن له المستعربون إن أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيما منوعا يجدد نشاط السامع لسماعه ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعا بالقسط يساعد على ترجيح فيجد عندها راحته العظمى وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء ثم إلى حد الإملال في التكرير فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه لا عجب إذا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلا في الشعر ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها فتقول ما هو بشعر لأنه كما قال الوليد ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيرا إلى أنه ضرب من السحر لأنه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط فكان له من النثر جلاله وروعته ومن الشعر جماله ومتعته فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها هذا ينقر وذاك يصفر وثالث يهمس ورابع يجهر وآخر ينزلق عليه النفس وآخر يحتبس عنده (1/103)
النفس وهلم جرا فترى الجمال اللغوي ماثلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة ولا رخاوة ولا معاظلة ولا تناكر ولا تنافر وهكذا ترى كلاما ليس بالحضري الفاتر ولا بالبدوي الخشن بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها وقدر فيه الأمر أن تقديرا لا يبغي بعضهما على بعض فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل عندها تلتقي أذواقهم وعليها تأتلف قلوبهم من هذه الخصوصة والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها أنظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قواما لبقاء الإنسان فردا وجماعة فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صوانا يحببها إلى الناس بعذوبته ويغريهم عليها بطلاوته ويكون بمنزلة الحداء يستحث النفوس على السير إليها ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره وينفذون بها إلى بعيد غوره إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (1/104)
هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزة وغرابة وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع فاعرف الآن أن هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي والإعجاز واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدلين وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه بل كان أجدر أن يغريهم به ذلك أن الناس كما يقول الباقلاني إذا استحسنوا شيئا اتبعوه وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الأساليب وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة ومسالك معبدة تؤخذ بالتعلم وتراض الألسنة والأقلام عليها بالمرانة كسائر الصناعات فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم وهم شرع في استحسان طريقته وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته ما ذاك إلا أن فيه منعة طبيعية كفت ولا تزال تكف أيديهم عنه ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صورناه لك من غريب تأليفه في بنيته وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته وجمله وآياته من نظام له سمت وحده وطابع خاص به خرج فيه عن هيئة كل نظم تعاطاه الناس أو يتعاطونه فلا جرم لم يجدوا له مثالا يحاذونه به ولا سبيلا يسلكونه إلى تذليل منهجه وآية ذلك أن أحدا لو حاول أن يدخل عليه شيئا من كلام الناس من السابقين منهم أو اللاحقين من الحكماء أو (1/105)
البلغاء أو النبيين والمرسلين لأفسد بذلك مزاجه في فم كل قارئ ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع وإذا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغل دخيل ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد وإنه لكتب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون بل فليت القشرة عن لبها وكشفت الصدفة عن درها فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي تجلي لك ما هو أبهى وأبهر ولقيك منه ما هو أروع وأبدع لا نريد أن نحدثك ها هنا عن معاني القرآن وما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر فإن لهذا الحديث موضعا يجيء إن شاء الله تعالى في بحث الإعجاز العلمي وحديثنا كما ترى لا يزال في شأن الإعجاز اللغوي وإنما اللغة ألفاظ بيد أن هذه الألفاظ ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها وهذه الناحية قد مضى لنا القول فيها آنفا وتارة من حيث هي أداة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها وهذه هي الناحية التي سنعالجها الآن ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثرا في الإعجاز اللغوي الذي نحن بصدده إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام أما النظر في المعاني القرآنية من جهة ما فيها من العلوم العجيبة فتلك خطوة (1/106)
أخرى ونظرة خارجة عن البحث اللغوي جملة إذ الفضيلة البيانية إنما تعتمد دقة التصوير وإجادة التعبير عن المعنى كما هو سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تتناوله عقول الناس أولا يكون بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى حقيقة أو خيالا وأن يكون هدى أو ضلالا عكس الفضيلة العلمية فإنها عائدة إلى المعنى في نفسه على أي صورة أخرجته وبأي لغة عبرت عنه نعم قد تتفاوت اللغات في الوفاء بحث المعنى فيكون التعبير الجيد مما يزيد في قيمته العلمية لكن النظر ههنا في قيمة البيان لا في قيمة المبين فلا تعجل علينا بتلك النظرة العلمية حتى نفرغ من هذه النظرة اللغوية والآن فلنبدأ وصفنا لبعض خصائص القرآن البيانية ولنرتبها على أربعة مراتب القرآن في قطعة قطعة منه القرآن في سورة سورة منه القرآن فيما بين بعض السور وبعض القرآن في جملته (1/107)
القرآن في قطعة قطعة منه لسنا ندري والله ماذا نقول لك في أسلوب معجز في وصفه كما هو معجز في نفسه غير أننا نقول كلمة هي جملة القول فيه وفي أنه تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها هذه كلمة تحتاج تفسيرا طويلا يمتلئ به الصدر ولا ينطلق به اللسان وكل ما سنحاوله أن نفسر لك جانبا منها بقدر الطاقة غير أننا قبل أن نحدثك في هذه الجانب عن القرآن سنحدثك عن كلام الناس حديثا يفهمه كل من عالج صنعة البيان بنفسه لتعرف من وجوه النقص هاهنا وجوه الكمال (1/108)
هناك ومن أبواب العجز هاهنا أسباب العجز عناك القصد في اللفظ و الوفاء بحق المعنى نهايتان كل من حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرتين لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل ما إلى إحداهما فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلا أو كثيرا ذلك أنه إما أن يؤدي لك مراده جملة لا تفصيلا فيكون سبيله سبيل من يقول باب المحاجة صدقوا أو كذبوا وفي باب الوصف حسن أو قبيح وفي باب الإخبار كان أو لم يكن في باب الطلب افعل أو لا تفعل لا زائد على ذلك وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق ووسائل التقرير والتثبيت وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان حتى يخرجه ثوبا متقلصا يقصر عن غايته أو هيكلا من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب ورب حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه ويكشف شمس فصاحته ورب اختصار بطوي الكلام طيا يزهق روحه ويعمي طريقه ويرد إيجازه عيا وإلغازا والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره وإبراز كل دقائقه بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه لا يجد له بدا من أن يمد في نفسه مدا لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه ويبطئ بك في الوصول إلى غايته فتحس بقوة نشاطك وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال (1/109)
عامة من نعرفهم من الفصحاء قدامى ومحدثين يؤتون من هذا الجانب غالبا أعني جانب الإملال والإسراف لا جانب الإخلال والإجحاف وأكثرهم تجمع بهم شهوة البيان إلى أبعد من هذا الحد فمنهم من يذهب إلى التكلف والتفصح باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب فيكلفك أن تبدي وتعيد وتقبل وتدبر حتى تهتدي إلى وجه مراده وهكذا لا يزداد كلامه بالبسط إلا ضيقا عن الفهم ومنهم من يلقي حول المعنى ركاما من الحشو والفضول ينوء بحمله أو يلبسه ثوبا فضفاضا من المترادف والمتقارب يتعثر في أذياله يحسب أن يوفي لك المعنى ويحدده وفي الحق إنما ينشره ويبدده ولعل أمثل هؤلاء طريقة من لو حذفت شطر كلامه لأغناك عنه ثاني شطريه ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم ومهما أجلبوا بخيلهم ورجلهم لا يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله وإنما يصل كما قلنا إلى كمال نسبي بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه في الحال أما الوفاء بالمعنى حق وفائه بحيث لا يخطئه عنصر منه ولا حلية من حلاه ولا ينضاف إليه عرض غريب عنه يعد رقعة في ثوبه ولا ينقلب فيه وضع من أوضاعه يغض من حسن تقويمه وبحيث لا سبيل فيه إلى نقض أو اقتراح جديد فذلك أمر لا يستطيع أ، ينتحله رجل اكتوى بنار البيان فضلا عن أن ينحله لإنسان غيره وآية ذلك أنك تراه حين يتعقب كلام نفسه في الفينة بعد الفينة يجد فيه زائدا يمحوه وناقصا يثبته ويجد فيه ما يهذب ويبدل وما يقدم أو يؤخر حتى يسلك سبيله إلى النفس سويا ولعله لو رجع إلى سبعين مرة لكان له في كل مرة نظرة وكلما كان أنفذ بصرا وأدق حسا كان أقل في ذلك قناعة وأبعد هما إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى (1/110)
الذي يطمح إليه ولا يطاوعه والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله إلا كباسط كفيه إلا الماء ليبلغ فاه وما هو ببلغه هذا حظ الكلام البليغ عند قائله فما ظنك بناقديه ومنافسيه وهذا وهو إنما يعمد إلى غاية واحدة فكيف لو عمد معها إلى الغاية الأخرى وحاول أن يضع هذه الثروة المعنوية في لفظ قاصد وأني يكون له ذلك وهو سجين هذه الفطرة الإنسانية التي لا تقرب به من أحد طرفي الطريق إلا بمقدار ما تبعد به عن الطرف الآخر ولئن ظفرت بأحد وفق لتقريب تينك الغايتين إلى حد ما في جملة أو جملتين فتربص به كيف يكون أمره بعد ذلك وانظر كيف يدركه الكلال والإعياء وفترة الطبع الإنساني فينحل من عقدة كلامه ما كان وثيقا ويذبل من زهرته ما كان غضا طريا ثم لا يعود إلى قوته إلا في الشيء بعد الشيء كما تصادف في التراب قطعة من التبر هاهنا وقطعة هنالك فتقول هذا نفيس جيد وهذا أنفس وأجود وهذا هو واسطة العقد وبيت القصيد سل العلماء بنقد الشعر والكلام هل رأيتم قصيدة أو رسالة كلها أو جلها معنى ناصع ولفظ جامع ونظم رائع لقد أجمعت كلمتهم على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة من قصائد معدودة وكان لهم من وراء ذلك المتوسط والرديء والغث والمستكره وكذلك قالوا في الكتاب والخطباء والأمر فيهم أبين فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع فانظر حيث شئت من القرآن الكريم تجد بيانا قد قدر على حاجة النفس أحسن تقدير فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير يؤدي لك من كل معنى صورة نقية وافية نقية لا يشوبها شيء مما هو (1/111)
غريب عنها وافية لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه ففي كل جملة منه جهاز من أجهزة المعنى وفي كل كلمة منه عضو من أعضائه وفي كل حرف منه جزء بقدره وفي أوضاع كلماته من جمله وأوضاع جمله من آياته سر الحياة الذي ينتظم المعنى بأداته وبالجملة ترى كما يقول الباقلاني محاسن متوالية وبدائع تترا ضع يدك حيث شئت من المصحف وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدا ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجا عن الدفتين وانظر نسبة ما حواه هذه الكلام من المعاني إلى ذلك ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله وأي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك فكتاب الله تعالى كما يقول ابن عطية لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب لفظة أحسن منها لم توجد بل هو كما وصفه الله كتاب أحكمت آيته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1/112)
خطاب العامة و خطاب الخاصة وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم فلا غنى لك إن أدرت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملا من بيانك أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء وإلى الأذكياء والأغبياء وإلى السوقة والملوك فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم فهو قرآن واحد يراه البلغاء أو في كلام بلطائف التعبير ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة فهو متعة العامة والخاصة على السواء ميسر لكل من أراد ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر إقناع العقل وإمتاع العاطفة وفي النفس الإنسانية قوتان قوة تفكير وقوة وجدان وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته وعن الخير للعمل به وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في (1/113)
الأشياء من لذة وألم والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء وعرفنا كلام الأدباء والشعراء فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوا في جانب وقصورا في جانب فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعرى ونبو عن الطباع وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك وتحريك أوتار الشعور من نفسك فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيا أو رشدا وأن يكون حقيقة أو تخيلا فتراهم جادين وهم هازلون يستبكون وإن كانوا لا يبكون ويطربون وإن كانوا لا يطربون والشعراء يتبعهم الغاون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير فسل علماء النفس هل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة يجيبوك بلسان واحد كلا بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها فالذي ينهمك (1/114)
في التفكير تتناقص قوة وجدانه والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدا واحدا وإلا لكانت مقبلة مدبرة معا وصدق الله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت هذا ثمرة الفكرة وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها وقبضها أو بسطها واستثارة كوامن لذتها أو ألمها قلت هذا ثمرة العاطفة وإذا رأيته قد انتقل من أحد الضربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه كما ينتقل من غرض إلى غرض عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضى حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين (1/115)
ذلك الله رب العالمين فهو الذي لا يشغله شأن عن شان وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان وأن يمزج الحق والجمال معا يلتقيان ولا يبغيان وأن يخرج من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق وتحذير وتنفير وتهويل وتعجيب وتبكيت وتأنيب يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله إنه لقول فصل وما هو بالهزل (1/116)
البيان و الإجمال وهذه عجيبة أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه ذلك أن الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع لتأويل وإذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام أو الإلباس أو إلى اللغو الذي لا يفيد ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد وتقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كد خاطر ولا استعادة حديث كأنك لا تسمع كلاما ولغات بل ترى صورا وحقائق ماثلة وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خبرا ووقفت على معناه محدودا هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة وكذلك حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوها عدة كلها صحيح أو محتمل للصحة كأنما هي فص من الماس يعطيك كل ضلغ منه شعاعا فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف (1/117)
كلها فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت وهكذا تجد كتابا مفتوحا مع الزمان يأخذ كل منه ما يسر له بل ترى محيطا مترامي الأطراف لا تحده عقول الأفراد ولا الأجيال ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين لا يتناقض ولا يتبدل يحتج به كل فريق لرأيه ويدعيه لنفسه وهو في سموه فوق الجميع يطل على معاركهم حوله وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ها نحن أولاء قد عرضنا لك جانبا من تلك العجائب البيانية التي لا تنال مثلها أيدي الناس وها قد أعطيناك في حاشية كل منها نموذجا صغيرا يفتح لك الباب إلى احتذائه في سائر القرآن فهل ترى في هذا وفاء بما وعدناك وبما عودناك من التقفية على آثار التفصيل بشيء من التطبيق والتمثيل أم لا تزال بحاجة إلى المزيد من هذه الأمثلة (1/118)
سنزيدك وسنوجه نظرك بنوع خاص إلى دقة التعبير القرآني ومتانة نظمه وعجيب تصرفه حتى يؤدي لك المعنى الوافر الثري في اللفظ القاصد النقي إذ كانت هذه الخاصة الأولى من الخواص التي ذكرناها أحوج إلى التوقيف والإرشاد ولا تحسبن أننا سنضرب لك الأمثال بتلك الآيات الكريمة التي وقع اختيار الناس عليها وتواصفوا الإعجاب بها كقوله تعالى وقيل يا أرض ابلغي ماءك الآية وقوله ولكم في القصاص حياة وأشباههما بل نريد أن نجيئك بمثال من عرض القرآن في معنى لا يأبه له الناس ولا يقع اختيارهم على مثله عادة ليكون دليلا على ما وراءه يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود وإذا قيل لهم ءامنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة فيما يلي مقالة ينصح بها الناصح لليهود إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه وأقسم لو أن محاميا بليغا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في (1/119)
هذه القضية ثم هدى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف هذه الكلمات ولعله بعد ذلك لا بفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق قال الناصح لليهود آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله فالقرآن الذي جاء به محمدا أنزله الله فآمنوا به كما آمنتم بها فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز آمنوا بما أنزل الله وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل آمنوا بما أنزل الله على محمد مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة أتدري لم ذلك لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدا وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدا أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح ذلك إلى ما في هذا الحذف من الإشارة إلى طابع الإسلام وهو أنه ليس دين تفريق وخصومة بل هو جامع ما فرقه الناس من الأديان داع إلى الإيمان بالكتب كلها على سواء بما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين شيء من كتبه كما لا نفرق بين أحد من رسله كان جواب اليهود أن قالوا إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس (1/120)
هو كونها أنزلها الله فحسب بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا والقرآن لم ينزله علينا فلكم قرآنكم ولنا توراتنا ولكل أمة شرعة ومنهاج هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله نؤمن بما أنزل علينا وهذا هو المقصد الأول وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة لأنه تقدم ذكره في نظيرتها من البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم وهذا هو المقصد الثاني ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر فأراد القرآن أن يبرزه انظر كيف أبرزه إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبا لهم ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال ويكفرون بما وراءه أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل ثم انظر إلى التعبير عن القرآن بلفظ ما وراءه فإن لهذه الكلمة وجها تعم به غير القرآن ووجها تخص به هذا العموم ذلك أنهم كما كفروا بالقرآن المنزل على محمد كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى وكلاهما وراءه التوراة أي جاء بعدها ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلا وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم بل يتركها مؤقتا كأنها مسلمة ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثا على الكفر بما هو حق مثله لا (1/121)
بل هو الحق كله وهل يعارض الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبا للكفر بالآخر ثم يترقى فيقول وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق فقد يكون الشيء حقا وغيره حقا فلا يتكاذبان ولكنهما في شانين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدا ومصدقا لما بين يديه من الكتب فأنى يكذب به من يؤمن بها ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلا ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعض العذر في تكذيبهم بالقرآن إذ يحق لهم أن يقولوا إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق فليس الإيمان بها موجبا للإيمان به بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين لكان لهم مثل ذلك العذر أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنى يذهبون هذا المعنى كله يؤديه لنا القرآن بكلمة لما معهم فانظر إلى الأحكام في صنعة البيان إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها فكانت هذه الكلمة حسما لكل (1/122)
عذر وسدا لكل باب من أبواب الهرب بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم أتمت في خطوة واحدة وفي غير ما جلبه ولا طنطنه ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوي الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي يبجحوا بإعلانه والافتخار به وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم فأوسعهم إكذابا وتفنيدا وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله وانتهاكهم لحرمة أنبيائه وتمردهم على أوامره قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك غير أن هذا المعنى إنما أخذ استنباطا من أقوالهم وإلزاما لهم بمآل مذهبهم ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد وهكذا كانت كلمة مصدقا لما معهم مغلاقا لما قبلها مفتاحا لما بعدها وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض الثاني فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان تدريجا له على مدارجها وتنزيلا (1/123)
له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة فما هو إلا أن آنس تطلع النفس واستشراقها من تلك الكلمة إلى غاية إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم فلم يقل فلم قتل آباؤكم أنبياء الله واتخذوا العجل وقالوا سمعنا وعصينا إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي مثلها كمثل محاجة الذئب للحمل في الأسطورة المشهورة فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا وما لنا ولآبائنا تلك أمة قد خلت ولا تزر وازرة وزر أخرى ولو زاد مثلا وأنتم مثلهم قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت ولتراخي حبل الكلام وفترت قوته فكان اختصار الكلام على ما ترى بوقفهم بادئ ذي بدء في موقف الاتهام إسراعا بتسديد سهم الحجة إلى هدفها وتنبيها في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض وأنهم سواسية في الجرم فعلى أيهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم لأنهم لا ينفكون على الاستنان بسنة أسلافهم أو الرضى عن أفاعيلهم أو الانطواء على مثل مقاصدهم وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحا بإخراج الجريمة الأولى وهي جريمة القتل في صيغة الفعل المضارع تصويرا لها بصورة الأمر (1/124)
الواقع الآن كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح بابا من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم وبابا من الاطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله من قبل فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به من التجوز المذكور آنفا في الإسناد وفي الصيغة وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطأ لها بهذه الكلمة من قبل فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعي حين لم تبق هناك حاجة إلى مثل التعبير الأول وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية وهي جريمة الشرك فإنها لما كانت أغلظ من سابقتها وأشد نكرا في العقول نبه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها فلم يقل اتخذتم العجل إلها بل طوى هذا المفعول الثاني استبشاعا للتصريح به في صحبة الأول وبيانا لما بينهما من مفارقة وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل فرب صمت هو أنطق بالحكم وأنكى في الخصم ثم انظر إلى النواي التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل إعراضا عن كل زيادة لا تمس إليها حاجة البيان في الحال فقد قال إن القرآن مصدق لما معهم ولم يبين مدى هذا التصديق أفي أصول الدين فحسب أم في الأصول والفروع جميعا أم في الأصول وبعض الفروع وإلى أي حد ذلك أن هذا كلام الملوك لا يتنزل إلا بقدر معلوم وماذا يعني الداعي إلى أصل الإيمان أن يتمد التطابق بين الأديان إلى فروعها (1/125)
أو لا يمتد فليبحث علماء التشريع وقال إنهم يقتلون أنبياء الله فمن هم أولئك الأنبياء ليبحث علماء التاريخ وقال إن موسى جاءهم بالبينات فكم هي وما هي وقال إنه أخذ عليهم ميثاقهم فعلى أي شيء كان الميثاق إن حكمة البيان القرآني لأجل من أن تعرض لهذه التفاصيل في مثل هذا الموضع ولو ذكرت ها هنا لكان مثلها مثل من يسأل لم ضربت عبدك فيقول لأنه ضرب غلاما اسمه كذا واسم أبيه كذا وحليته كذا وولد في عام كذا ألا ترى أن زائد وكثير ولو ذهبنا نتتبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه فلنكتف بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق لا تراه في كلام الناس ذلك أن المرء إذا أ÷مه أمر من الدفاع أو الإقناع أو غيرهما بدت على كلامه مسحة الانفعال بأغراضه وكان تأثيره بها في نفسك على قدر تأثره هو طبعا أو تطبعا فتكاد تحس بما يخالجه لو أعرض الناس عن هداه إذا كان مؤمنا بقضيته مخلصا في دعوته كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام أما هنا فإنك تلمح وراء الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض قوة تؤثر ولا تتأثر تصف لك (1/126)
الحقائق خيرها وشرها في عزة من لا ينفعه خير واقتدار من لا يضره شر هذا الطابع من الكبرياء والعظمة تراه جليا من خلال هذا الأسلوب المقتصد في حجاجه أخذا وردا المقتصد في وصفه مدحا وقدحا انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة هو الحق نعم إنها كلمة تملأ النفس ولكن هل تشبعك أيها الإنسان تلك الكلمة إذا أردت أن تصف حقيقة من الحقائق التي تقتنع بها وتحب أن تقنع بها الناس وانظر إليه بعد أن سجل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى إن هذا ظلم وفي الثانية بئسما صنعتم أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات نعم إنهما كلمتان وافيتان مبقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما ولكن الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام بل أين الإفذاع والتشنيع وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم لله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر قلنا إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من الفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني أجل تلك ظاهرة بارزة فيه كله يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب ولذلك نسميه إيجازا كله لأننا (1/127)
نراه في كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما (1/128)
ونرى أن مراميه في كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلى (1/129)
بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها مقحمة (1/130)
وفي بعض حروفه إنها زائدة زيادة معنوية ودع عنك قول الذي يستخف كلمة التأكيد فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به أجل دع عنك هذا وذاك فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل مستورا أو مكشوفا بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن وخذا نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف قل الله أعلم بأسرار كلامه ولا علم لنا إلا بتعليمه ثم إياك أن تركن إلا راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلا أين أنا من فلان وفلان كلا فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجية المشهورة فجد في الطلب وقل رب زدني علما فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عمي على غيرك والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور (1/131)
ولنضرب لك مثلا قوله تعالى ليس كمثله شيء أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة فرارا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله فتكون تسليما بثبوت المثل له سبحانه أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه لأن السالبة كما يقول علماء المنطق تصدق بعدم الموضوع أو لأن النفي كما يقول علماء النحو قد يوجه إلى المقيد وقيده جميعا تقول ليس لفلان ولد يعاونه إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد لا يعاونه وتقول ليس محمدا أخا لعلي إذا كان أخا لغير علي أو لم يكن أخا لأحد وقليل منهم من ذهب إلى أنه لا بأس ببقائها على أصلها إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصا ولا احتمالا لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقلي المثل أيضا وذلك أنه لو كان هناك مثل لله لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب وقصارى هذا التوجيه لو تأملته أنه مصحح لا مرجح أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا (1/132)
من التعمية والتعقيد وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول هذا فلان فقال هذا ابن أخت خالة فلان فمآله إذا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا ألبتة وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظا بقوة دلالته قائما بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى أو لتهدم ركن من أركانه ونحن نبين لك هذا من طريقين أدق مسلكا من الآخر الطريق الأول وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور أنه لو قيل ليس مثله شيء لكان ذلك نفيا للمثل المكافئ وهو المثل التام المماثلة فحسب إذ أن هذا المعنى هو الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه وإذا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء أو للكواكب وقوى الطبيعة أو للجن والأوثان والكهان فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه وشرك ما في خلقه أو أمره فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاء للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها كأنه قيل ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى على حد قوله تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما نهيا عن يسير الأذى صريحا وعما فوق اليسير بطريق الأحرى (1/133)
الطريق الثاني وهو أدقهما مسلكا أن المقصود الأولى من هذه الجملة وهو نفي الشبيه وإن كان يكفي لأدائه أن يقال ليس كالله شيء أو ليس مثله شيء لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تيد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت فلان لا يكذب ولا يبخل أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها فإذا زدت فيه كلمة فقلت مثل فلان لا يكذب ولا يبخل لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة مثله تعالى لا يكون له مثل تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه فلا جرم جيء فيها بلفظين كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة ليقوم أحدهما ركنا في الدعوى والآخر دعامة لها وبرهانا فالتشبيه المدلول عليه بالكاف لما تضرب إليه النفي تأدى به أصل التوحيد المطلوب ولفظ المثل المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذه الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية حسبما أرشد إليه قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله (1/134)
لفسدتا أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار فكأننا بها تقول لنا إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها كلا فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينية لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شيء وإنشاء لكل شيء فاطر السموات والأرض وحققت سلطانا على كل شيء وعلوا اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا ومنشئا منشا ومستعليا مستعلى عليه أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة (1/135)
إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا فأنى يكون كل منهما إلها وللإله المثل الأعلى أرأيت كم أفدنا من هذه الكاف وجوها من المعاني كلها شاف كاف فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفا حرفا وبعد فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه من اجتناب الحشو والفضول بتة وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي بطبيعتها اللغوية أتم تحديدا للغرض وأعظم اتساعا لمعانيه المناسبة لا بل إنه كثيرا ما يسلك في إيجازه سبيلا أعز وأعجب فلقد تراه يعمد بعد حذف فضول الكلام وزوائده إلى حذف شيء من أصوله وأركانه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها ولا يستقيم المعنى إلا بها ولقد يتناول بهذا الحذف كلمات وجملا كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح وفي طلاوة وعذوبة حتى يخيل إليك من سهولة مسلك المعنى في لفظة أن لفظه أوسع منه قليلا فإذا ما طلبت سر ذلك رأيته قد أودع معنى تلك الكلمات أو الجمل (1/136)
المطوية في كلمة هنا وحرف هناك ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمر عليها جندرة البيان صناع فأحكم بها خلقه وسواه ثم نفخ فيه من روحه فإذا هو مصقول أملس وإذا هو نير مشرق لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطي ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء إلا بعد تأمل وفحص دقيق لا نكران أن العرب كانت تعرف شيئا من الحذف في كلامها وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها فإذا قيل للعربي أين أخوك قال في الدار وإذا قيل له من في الدار قال أخي ولو قال أخي في الدار لعد ذلك منه ضربا من اللغو والحشو لكن الشأو الذي بلغه القرآن في هذا الباب كغيره من أبواب البلاغة ليس في متناول الألسنة والأقلام ولا في متناول الأماني والأحلام خذ لذلك مثلا قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغينهم يعمهون الآية مسوقة في شأن منكري البعث الذي قال لهم النبي إن رسول الله إليكم وإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقالوا متهكمين اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فلما لم يجبهم الله إلى اقتراحهم وأخر عنهم العذاب إلى ساعته المحدودة أطغاهم طول الأمن والدعة والعافية الحاضرة حتى نسوا ريب الدهر وأمنوا مكر الله فجعلوا يستعجلون بالشر استعجالهم بالخير ويقولون متى هو وما يحبسه لو كان آتيا (1/137)
أراد القرآن أن يقول في جواب هذا الاستعجال لو كانت سنة الله قد مضت بأن يعجل للناس الشر إذا استعجلوه كتعجيله لهم الخير إذا استعجلوه لتعجله لهؤلاء ولكنه قد جرت سنته التي لا تتبدل بأن يمهل الظالمين ويؤخر حسابهم إلى أجل مسمى وعلى وفق النظام المسنون سيترك هؤلاء وشأنهم حتى يجيء وقتهم هذا هو الوضع الذي يوضع عليه الكلام في ألسنة الناس وفي طبيعة اللغة لتأدية المعنى الإجمالي الذي ترمي إليه الآية فانظر ماذا جرى كان الكلام في وضعه العادي مؤلفا من قضايا ثلاث اثنتان منها بمثابة المقدمات والثالثة بمنزلة النتجية فاقتصر القرآن على الأولى والأخيرة أما الوسطى وهي الاستدارك أو الاستثنائية كما يسميها علماء المنطق فقد طواها طيا وكانت المقدمة الأولى في وضعها الساذج تتألف من أربعة أطراف تعجيل من الله في الخير وفي الشهر واستعجال من الناس كذلك ولكن الكلام هاهنا ليس فيه إلا تعجيل واحد من الله واستعجال واحد من الناس وكانت المقابلة في التشبيه بحسب الظاهر إنما هي بين تعجيل وتعجيل أو بين استعجال واستعجال فأدير الكلام في الآية على وجه غريب وجعلت المشابهة بين تعجيل واستعجال وبعد هذا التصرف كله هل ترى كلاما مبتورا أو طريقا ملتويا يتغير فيه الفهم أم ترى مغزى الآية لائحا للعامة والخاصة كالبدر ليس دونه سحاب فارجع إلى طلب شيء من أسرار البيان وقل كيف جاء هذا الإشراق مع هذا الاختصار البليغ (1/138)
نقول أما الأول فإنه لم يدع تلك المقدمة المطوية إلا بعد أن رفع لها علمين من جانبيها يدلان على مكانها ويوحيان بها إلى النفس من وراء حجاب فقد أقام عن يمينها كلمة لو الامتناعية التي صدر بها المقدمة الأولى دلالة على أنه لا يكون منه هذا التعجيل وعن يسارها حرف التفريع التي صدر به النتيجة في قوله فنذر لكي ينم على أن لهذا الفرع أصلا من جنسه يقال فيه ولكن شأنه أن يذر الناس فلذلك يذر هؤلاء ولما كانت الفاء وحدها ليست نصا في المطلوب لأنها كما تكون للتفريع تكون لمجرد العطف فربما اتصل القارئ عاطفا بها على جزاء الشرط قبلها من قبل أن يتبين له فساد المعنى لو عطف لم يكتف بالفاء بل عززها بقوتين أخريين إذ حول صيغة النتيجة من الماضي إلى المضارع ثم من الغيبة إلى التكلم ليكون هذا الانقطاع اللفظي بينها وبين ما قبلها إيذانا بانقطاعها عنه معنى وإذنا بالوقوف دونها حتى لا تقع النفس لحظة ما في أدنى اضطراب أو لبس ذلك إلى ما في هذا التحويل من الافتنان في الأسلوب تجديدا لنشاط السامع ومن إلقاء الرعب في القلوب بصدور نطق الوعيد والاستدراج على لسان الجبروت الملكي نفسه أما الثاني فإنه لما حذف طرفين من الأطراف الأربعة لم يحذفهما من جنس واحد بل أبقى من كل زوجين واحدا هو نظير ما حذفه من صاحبه لينبه بالمذكور على المحذوف فكانت كلمة التعجيل منبهة على نظيرتها في المشبه به وكلمة الاستعجال منبهة على مقابلتها في المشبه أما الثالث فإنه نبه به على معنى هو غاية في اللطف وهو سر الإمهال وحكمة عدم التعجيل من الله ذلك بأنه صور هذا التعجيل (1/139)
المفروض بصورة تشبه التماس الطالب وحرصه الشديد على إرضاء شهوته وسد حاجته الملحة التي تبعثه على استعجاله ولا سيما إذا كان يطلب الخير لنفسه كأنه قيل إنه تعالى لو عجل لهم ذلك لكان مثله بهذا التعجيل كمثل هؤلاء المستعجلين في استفزاز البواعث إياه وحاش لله هذا إلى تصرفات عجيبة أخرى منها أن كلمة لو بحسب وضعها وطبيعة معناها تتطلب أن يليها فعل ماض ولكن المطلوب هاهنا ليس هو نفي المضي فحسب بل بيان أن هذا الفعل خلاف سنة الله التي لن تجد لها تبديلا فلو أدى المعنى على هذا الوضع لطال الكلام ولقيل لو كانت سنة الله المستمرة في خلقه أن يعجل الخ فانظر كيف اختصر الكلام في لفظ واحد بإخراج الفعل في صورة المضارع الدال على التكرار والاستمرار واكتفى بوضع لو قرينة على أن ما بعدها ماض في معناه وهكذا أدى الغرضين جميعا في رفق ولين ومنها أنه كان مقتضى التطابق بين الشرط والجواب أن يوضع الجواب عدلا له فيقال لعجله ولكنه عدل إلى ما هو أفخم وأهول إذ بين أنه لو عجل للناس الشر لعجل لهؤلاء منه نوعا خاص هم له أهل وهو العذاب المستأصل الذي تقضى به آجالهم ومنها أنه كان مقتضى الظاهر في تقرير النتيجة أن يقال فنذرهم أو فنذر هؤلاء ولكنه قال فنذر الذين لا يرجون لقاءنا تحصيلا لغرضين مهمين أحدهما التنبيه على أن منشأ هذا الاستعجال منهم هو عدم إيمانهم بالبعث والثاني التنبيه على أن قاعدة الإمهال من الله قاعدة عامة لهم ولأمثالهم ومنها غير ذلك (1/140)
قل لنا بربك لو ظفرت في كلام البشر بواحدة من هذه التصرفات ففي أي أسلوب غير أسلوب القرآن تظفر بهذه المجموعة أو بما يدانيها في هذا القدر أو في ضعفيه من الألفاظ وإليك مثالا آخر في المعنى نفسه قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بيتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءالآن وقد كنتم به تستعجلون يقول الله تعالى نبئوني عن خالكم إن جاءكم العذاب بغتة في ليل أو نهار ماذا أنتم يومئذ صانعون إنكم هنالك بين أمرين فإما الإصرار على ما أنتم عليه الآن من تكذيب واستعجال وإما الإيمان فأيهما تختارون أتستعجلون بالعذاب يومئذ كما تستعجلون به اليوم كلا فإنكم مجرمون وكيف يتشوق المجرم لرؤية العذاب الذي إن جاء فهو لا محالة مواقعه ثم نبئوني أي نوع منه تستعجلون فإنه ليس نوعا واحدا بل هو ألوان وفنون أم أنتم اليوم تكذبون ثم إذا وقع بعد حين آمنتم به ألا إنه لن ينفعكم يومئذ إيمانكم بعد أن ماطلتم وسوفتم حتى ضيعتم الفرصة وفاتكم وقت التدارك بل هنالك يقال لكم تنديما وتحسرا آلآن تؤمنون وقد كنتم به تكذبون وتستعجلون هذا هو المعنى في ثوبه الطبيعي فانظر كم من كلمة وكم من جملة طويت في صدر الكلام وفي شقيه وكيف أنها حين طويت لم يترك شيء منها إلا وقد جعل في اللفظ مصباح يكشف عنه ومفتاح يوصل إليه فوضع استفهامين متقابلين في الكلام دل على أن هنالك استفهاما جامعا لهما مرددا بينهما يقال فيه (1/141)
ماذا تصنعون وأي الطريقين تسلكون والاستفهام عن الصنف المستعجل به من العذاب دل على استفهام تمهيدي قبله عن حصول أصل الاستعجال وكلمة المجرمون دلت على استحالة هذا الشق من الترديد وكلمة ثم العاطفة دلت على المعطوف عليه المطوى بينها وبين الهمزة ولفظ الظرف الآن دل على عامله المقدر وقس على ذلك سائر المحذوفات حتى إن مدة الاستفهام الداخلة على هذا الظرف قد دلت على طول مدة التسويف الذي منع من قبول إيمانهم لأنهم عمروا ما يتذكر فيه من تذكر فمن ذا الذي يستطيع أن يجري في هذا المضمار شرفا أو شرفين ثم لا تضطرب أنفاسه ولا تكبو به ركائب البيان وافراسه اللهم إن من دون ذلك لشقة بعيدة وسفرا غير قاصد وإن في دون ذلك لحدا للإعجاز القرآن في سورة سورة منه الكثرة و الواحدة هذا الذي حدثناك عنه من عظمة الثروة المعنوية في أسلوب القرآن على وجازة لفظه يضاف إليه أمر آخر هو زينة تلك الثروة وجمالها ذلك هو تناسق أوضاعها وائتلاف عناصرها وأخذ بعضها بحجز بعض حتى إنها لتنتظم منها وحدة محكمة لا انفصام لها وأنت قد تعرف أن الكلام في الشأن الواحد إذا ساء نظمه انحلت وحدة معناه فتفرق من أجزائها ما كان مجتمعا وانفصل ما كان متصلا (1/142)
كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة إذا لم يكن سطحها مستويا أليس الكلام هو مرآة المعنى فلا بد إذا لإبراز تلك الوحدة الطبيعية المعنوية من إحكام هذه الوحدة الفنية البيانية وذلك بتمام التقريب بين أجزاء البيان والتأليف بين عناصره حتى تتماسك وتتعانق أشد التماسك والتعانق ليس ذلك بالأمر الهين كما قد يظنه الجاهل بهذه الصناعة بل هو مطلب كبير يحتاج مهارة وحذقا ولطف حس في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء أيها أحق أن يجعل أصلا أو تكميلا وأيها أحق أن يبدأ به أو يختم أو يتبوأ مكانا وسطا ثم يحتاج مثل ذلك في اختيار أحسن الطرق لمزجها بالإسناد أو بالتعليق أو بالعطف أو بغيرها هذا كله بعد التلطف في اختيار تلك الأجزاء أنفسها والاطمئنان على صلة كل منها بروح المعنى وأنها نقية من الحشو قليلة الاستطراد وأن أطرافها وأوساطها تستوي في تراميها إلى الغرض ويستوي هو في استهدافه لها كما تستوي أبعاد نقط الدائرة بالقياس إلى المركز ويستوي هو بالقياس إلى كل منها تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالا طبيعيا فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها المنفصلة بطبيعتها كم من المهارة والحذق بل كم من الاقتدار السحري يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعبة حتى لا يكون الجمع بينها في الحديث كالجمع بين القلم والحذاء والمنشار والماء بل حتى يكون لها مزاج واحد واتجاه واحد وحتى يكون عن وحداتها الصغرى وحدة جامعة أخرى إنه من أجل عزة هذا المطلب نرى البلغاء وإن أحسنوا وأجادوا إلى حد ما في غرض غرض كان منهم الخطأ والإساءة في نظم تلك الأغراض كلا أو جلا فالشعراء حينما يجيئون في القصيدة الواحدة بمعان عدة أكثر ما يجيئون بها أشتاتا لا يلوي بعضها على بعض وقليلا (1/143)
ما يهتدون إلى حسن التخلص من الغرض إلى الغرض كما في الانتقال من النسيب إلى المدح والكتاب ربما استعانوا على سد تلك الثغرات باستعمال أدوات التنبيه أو الحديث عن النفس كقولهم ألا وإن هذا ولكن بقي علينا ولننتقل نعود قلنا وسنقول هذا شأن الأغرض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد في المجلس الواحد فكيف لو قد جيء بها في ظروف مختلفة وأزمان متطاولة ألا تكون الصلة فيها أشد انقطاعا والهوة بينها أعظم اتساعا فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه حيث الموضوع واحد بطبيعته فهلم إلى النظر في السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة والتزام جانب الإيجاز بقدر ما يتسع له جمال اللغة قد جعله هو أكثر الكلام افتنانا نعني أكثره تناولا لشؤون القول وأسرعه تنقلا بينها (1/144)
من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شؤون وشؤون أو لست تعلم أن القرآن في جل أمره ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة بل كان يتنزل بها آحادا مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة وأن هذا الانفصال الزماني بينها والاختلاف الذاتي بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعا للتواصل والترابط ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحد خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة وتناولت أغراضا متباينة أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك وحاول أن تجيء بها سردا لتجعل منها حديثا واحدا من غير أن تزيد بينها شيئا أو تنقص شيئا ثم انظر (1/145)
كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكا ووحدتها تمزيقا ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني فتعال وانظر انظر إلى الإنسان حين يزاول صناعة ما من صناعاته التركيبية ألا تراه يبدأ عمله دائما بتعرف أجزاء المركب ومقوماته والوقوف على عناصره ومتمماته قبل أن يبت الحكم في تحديد موقع كل جزء منها هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها فلا جرم أن عكس القضية فيهما لا يكون إلا سيرا بالعقل البشري في غير سبيله وإدلاجا به في مزلة لا قرار للإقدام عليها ولا هدى للسالك فيها وهل رأيت أحدا سلك هذه السبيل المؤتفكة ثم استقام له الأمر عليها إلى نهايته (1/146)
بل انظر إلى الإنسان حين يأخذ في ترتيب أجزاء المركب بعد جمعها ألا تراه خاضعا لسنة السير الطبيعي التي يخضع لها كل سائر إلى غرض ما حسي أو عقلي فهو إن قطع سبيله خطوات لم يستطع أن يجتاز أخراها قبل أولاها وإن صعد فيه درجات لم يستطع أن يؤخر أسفلها عن أعلاها تلك حدود رسمتها قوانين الفطرة العامة فلا يستطيع أحد أن يتخطاها سواء في صناعاته المادية أو المعنوية فالبناء والحائك والكاتب والشاعر في هذه الحدود سواء ونضرب لك مثلا قد في نفسك أن رجلا نزل واديا فسيحا ليس عليه بنيان قائم وليس به شيء من مواد البناء وأنقاضه فما لبث أن أحس برجفة أرضية أو عاصفة سماوية وإذا قمة الجبل تنصدع قليلا فتلقى بجانبه صخرا أو بضعة صخور ثم تمضي فترة طويلة أو قصيرة وإذا هزة ثانية أو ثالثة تلقى إليه شظيات من الحديد والحمم أو نثارات من الفضة والذهب أترى أن هذا الرجل أو أن أحدا من العقلا يستطيع منذ اللحظات الأولى أن يضع تصميمه على إقامة مدينة جامعة من تلك المواد المتناثرة ومما عساه أن يجيء من أمثالها وأن يبدأ بالعمل في مهمة التخطيط والبنيان فما يدريه لعل هذه الظواهر لا تتكرر أمامه نزلة أخرى ثم ما يدريه أنها إن عادة كم مرة تعود وما نوع المادة التي تتساقط معها في كل مرة وكم عدة القطع في كل مادة من هذه المواد وكم عدة الأبنية التي يمكن إقامتها منها وما النظام الهندسي الخاص بكل بناء سعة وارتفاعا ونقشا وزخرفا وما ذرع الفضاء الذي ستشغله هذه الابنية جملة في هذا الجو المملوء غموضا وإبهاما لا يجرؤ عاقل أن يغامر بتصميمه في بناء كوخ حقير فضلا عن بلد كبير فضلا عن أن يهب من (1/147)
فوره لإنقاذ عزمه فيمضي في مهمة البناء منذ وصلت إلى تلك اللبنات الأولى ولئن افترضت إنسانا غامر هذه المغامرة وأن المقادير سارعت في هواه وأسعفته بما شاء من مواد البناء الذي تخيله وتمناه أتراه يعمد إلى مخاطرة أخرى فيتخذ له في البناء أسلوبا يراغم به قانون الطبيعة بأن يؤلى على نفسه ألا يدع لبنة تصل إلى يديه إلا أنزلها في ساعة وصولها منزلها الخليق بها حيث كان ذلك على حين أن تلك اللبنات تتناثر خفافا وثقالا مختلفا ألوانها وأحجامها وعناصرها وطاقاتها فربما وقعت له الزخارف والشرفات قبل أن تقع له بعض القواعد والسافات وربما وقعت له على التوالي أجزاء ناقصة لتوضع في أماكن متفرقة من أبنية متباينة أفلا تراه إن ذهب يضع كل جزء ساعة نزوله في موضعه المعين لم يجد مناصا من أن يبدد أجزاء البناء هنا وهنا على أبعاد غير متساوية ولا متناسبة فيقارب بينها طورا ويباعد طورا ويعلو بها تراة وينزل تارة أخرى حتى لقد يبني أعلى البيت قبل أسفله ويمسك المحمول معلقا بدون حامله فكيف يطيق بشر كائنا من كان أن يضطلع بهذه المهمة ثم كيف يمضي قدما في هذا الأمر إلى نهايته فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله فيه أول مرة أو ليلتجئ فيه إلى كسر أو نحت أو حشو أو دعامة ثم كيف تكون عاقبة أمره أنه في الوقت الذي يضع فيه آخر لبنة على هذا المنهاج يرفع يده عن مدينة منسقة ليس فيها قصر ولا غرفة ولا لبنة ولا جزء صغير ولا كبير إلا وقد نزل منزله الرصين الذي يرتضيه ذوق الفن حتى لو تبدل واحد منها مكان غيره لاختل البنيان أو ساء النظام أليس ذلك إن وقع يكون تحديا للقدرة البشرية جمعاء (1/148)
ألا فقد وقع مصداق هذا المثل في مسألتنا وإليك البيان أما الرجل فهو هذا النبي الأمي صلوات الله عليه وأما المدينة الجامعة التي شرع في بنائها منذ وقعت له لبناتها فذلك الكتاب العزيز الذي أخذ هو منذ وصلت إليه باكورة رسائله يرتب أجزاءه ترتيب الواثق المطمئن إلى أن سيكون له منها ديوان تام جامع وأما القصور والغرفات واللبنات فهي أجزاء ها الديوان من السور والنجوم والآيات وأما تلك العوامل الفجائية التي جعلت تستنزل من مختلف معادن الجبال ما ركبت منه هذه القصور المشيدة فتلك هي الأحداث الكونية والاجتماعية والمشاكل الدينية والدنيوية التي كانت تعترض الناس آنا بعد آن في شؤونهم العامة والخاصة فكان يتقدم بها المؤمن منهم مستفتيا ومسترشدا والمكذب مستشكلا ومجادلا وكان على وفق ذلك يتنزل الكلام نجما فنجما بمعان تختلف باختلاف تلك المناسبات والبواعث وبمقادير تتفاوت قلة وكثرة وعلى طرق تتنوع لينا وشدة ومن هذه النجوم المختلفة المتفرقة صارت تتألف تلك المجاميع المسماة بالسور لا على أساس التجانس بين أجزاء كل مجموعة منها بل على أن يأوي إلى الحظيرة الواحدة ما شئت من فصائل الجنس الواحد والأجناس المتخالفة وأما الطريق العجب الذي اتبع في تأليف تلك الأبنية من أجزائها وهو السبب الثالث الذي رفع المسألة من حد العسر إلى حد الإحالة فهو أن ذلك الذي نزل عليه الذكر لم يتربص بترتيب نجومه حتى كملت نزولا بل لم يتريث بتأليف سورة واحدة منه حتى تمت فصولا بل كان كلما ألقيت إليه آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة على حين أن هذه الآيات والسور لم تتخذ في ورودها التنزيلي سبيلها الذي اتبعته في وضعها الترتيبي فكم من سورة (1/149)
نزلت جميعا أو أشتاتا في الفترات بين النجوم من سورة أخرى وكم من آية في السورة الواحدة تقدمت فيها نزولا وتأخرت ترتيبا وكم من آية على عكس ذلك نعم لقد كان للنجوم القرآنية في تنزيلها وترتيبها ظاهرتان مختلفتان وسبيلان قلما يلتقيان ولقد خلص لنا من بين اختلافهما أكبر العبر في أمر هذا النظم القرآني فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها ونظرت إلى ما مهد لها من أسبابها فرأيت كل نجم رهينا بنزول حاجة ملمة أو حدوث سبب عام أو خاص إذا لرأيت في كل واحد منها ذكرا محدثا لوقته وقولا مرتجلا عند باعثته لم يتقدم للنفس شعور به قبل حدوث سببه ولرأيت فيه كذلك كلا قائما بنفسه لا يترسم نظاما معينا يجمعه وغيره في نسق واحد ولو أنك نظرت إليها في الوقت نفسه فرأيتها وقد أعد لكل نجم منها ساعة نزوله سياج خاص يأوي إليه سابقا أو لاحقا وحدد له مكان معين في داخل ذلك السياج متقدما أو متأخرا إذا لرأيت من خلال هذا التوزيع الفوري المحدود أن هنالك خطة تفصيلية شاملة قد رسمت فيها مواقع النجوم كلها من قبل نزولها بل من قبل أن تخلق أسبابها بل من قبل أن تبدأ الأطوار الممهدة لحدوث أسبابها وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أبرمت بآكد العزم والتصميم فما من نجم وضع في سورة ما ثم جاوزها إلى غيرها وما (1/150)
من نجم جعل في مكان ما من السورة آخرا أو أولا ثم وجد عنه أبد الدهر مصرفا ولا متحولا وهنا تقف موقف الحيرة في أمرك وتكاد تنكر ما تحت سمعك وبصرك ثم ترجع إلى نفسك تسائلها عن وجه الجمع بين ما رأيت وما ترى أليس هذا التنزيل قد معته الآن جديدا وليد يومه ووحيدا رهين سببه فمالي أراه ليس جديدا ولا وحيدا لكأني به وبالقرآن كله كان ظاهرا على قلب هذا الرجل قبل ظهوره على لسانه وكان على هذه الصورة مؤلفا في صدره قبل أن يؤلفه ببيانه وإلا فما باله يؤلف هذا التأليف بين آحاد لا تتداعى إلى الاجتماع بطبائعها لماذا لم يذرها كما جاءت فرادى منثورة وهلا إذ أراد الاجتماع بطبائعها لماذا لم يذرها كما جاءت فرادى منثورة وهلا إذ أراد جمعها أدخلها كلها في مجموعة واحدة أو هلا قسمها إلى مجاميع متساوية أو متجانسة ترى على أي قاعدة بني توزيعها وتحديد أوضاعها هكذا قبل تمامها أو تمام طائفة منها هل عسى أن تكون هذه الأوضاع كلها جارية على محض المصادفة والاتفاق كلا فقد ظهر في كل وضع منها أنه مقصود إليه بعينه كما ظهر القصد في كل طائفة أن تنتظم منها وحدة محدودة ذات ترتيب ومقدار بعينه أم هل عسى أن تكون هذه الأوضاع وإن قصدت ليست وليدة تقدير سابق وإنما هي تجربة اختبارية أثمرتها فكرة وقتية كلا فإن واضعها حين وضعها قد ضربها ضربة لازب ثم لم يكر عليها بتبديل ولا تحويل فعلام إذا بني ذلك القصد وهذا التصميم ولن يكون الجواب الذي تسمعه من نفسك لو أصاخت إلى بديهة العقل إلا أن نقول إنه لا يجرؤ في قراره الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصممة إلا أحد اثنين جاهل جاهل في حضيض الجهل أو عالم عالم فوق أطوار العقل لا ثالث فأما إن كان فرغ من نظام تأليفها وصورة تركيبها من قبل أن يستحكم له العلم بأسباب ذلك ومقاصده وأدباره وعواقبه (1/151)
وإنما بنى أمره على الظن والتحسس وعلى التخيل والتمني فذلك امرؤ بلغت به الجرأة على نفسه أن أعلن ملك مالا يملكه وادعى علم ما ستكشف الأيام عن جهله وما عليك إلا أن تتربص به قليلا لترى بطلان أمره وفساد صنعته فهيهات أن يلد الجهل نظاما جاريا وإحكاما باقيا وأما إن كان قد فصلها على علم وبصر وأعطى كل جزء منها موقعه بميزان وقدر فلا ريب أن سيكون نظامها مثال الإتقان وآية الجمال ولكن واضعها إذا لا يمكن أن يكون هو هذا الإنسان إلا أن يكون قد استمدها من أفق أعلى من أفق نفسه ومحيط أوسع من ميحط علمه إذ أني للإنسان وهو هذا المحكوم بطبيعة الدهر أن يكون عليها متحكما أم كيف يتهيأ له وهو في جهله العتيد بمقدمات عمله أن يكون بنتائجها التفصيلية عالما أفيكون بالشيء الواحد جاهلا وعالما معا أم يكون من وجه واحد حاكما ومحكوما معا وهل رأيت أو سمعت أن أحدا من الكتاب أو الشعراء استطاع في مفتتح حياته الأدبية أن يحصى كل ما سيجيء على لسانه من جيد الشعر أو النثر في المناسبات المتنوعة إلى آخر عهده بالدنيا وأن يضع من أول يوم منهاجا لديوانه المنتظر يفصله تفصيلا لا يقنع فيه بتقدير أبوابه وفصوله حتى يقدر لكل باب عدة ما يحويه من خطاب أو قصيد ويحدد لكل واحد من هذين مكانا معلوما لا يستقدم عنه ولا يستأخر حتى إذا جاء عند داعيته رده إلى مكانه غير متلبث ولا متوقف ثم ينجح في هذه التجربة نجاحا مطردا تنفذ فيه أحكامه وتتحقق به أحلامه فيستقيم له النسق بين هذه المقطوعات كلها من غير أن يقدم فيها شيئا أو يؤخر شيئا ومن غير أن يزيد بينها أو ينقص شيئا لعمري لئن صح هذا الفرض في أحد من البشر لصح مثله في نبي القرآن ولكن الإنسان هو الإنسان ومن لم يحط علما بما سيعترضه في دهره من بواعث القول وفنونه فهو عن الإحاطة بنصوص هذا القول (1/152)
أبعد وهو عن الإحاطة بمراتب هذه النصوص أشد بعدا بل الإنسان حين تحفزه باعثة القول وترد إليه سانحته لا يعدو فيها إحدى خطتين فهو إما أن يدعها كما هي سانحة منعزلة وكذلك يفعل في أمثالها حتى إذا بلغ الغاية رجع أدراجه فأخذ فيها جمعا وتفريقا وتبويبا وترتيبا وإما أن يأخذ في ضم هذه النصوص ولاء على وفق ورودها الأول فالأول أما الثالثة وهي أن يجعلها هكذا عزين ولا يزال يظاهرها من قريب وبعيد عن أيمانها وعن شمائها وفي خلالها بهذه الطريقة المحددة وبهذه الطريقة المشتتة المعقدة على أن يجعل المكان الذي أحل كل سانحة فيه مكانا مسجلا لا تحول عنه ولا تزول ثم يطمع أن يخرج له بتلك الصنعة ديوان كامل التقسيم والتبويب جيد التنسيق والترتيب مترابط متماسك في جملته وتفصيله كلمة كلمة وحرفا حرفا فتلك أمنية لا يظفر المرء منها إلا بعكس ما تمنى ها أنت ذا قد عرفت نهج التأليف الإنساني في صنعة البيان وغير البيان ورأيت بعد ما بينه وبين نهج التأليف في نجوم القرآن وعرفت ماذا كان يجب أن يحدث في النظم القرآني من جراء هذا النهج العجيب في أسبابه ثلاثة من شأنها ألا يستقيم بها للكلام طبع ولا يلتئم له معها شمل فانظر الآن هل استطاعت هذه الأسباب على تضافرها أن تنال شيئا من استقامة النظم في السور المؤلفة على هذا النهج أما العرب الذين تحداهم القرآن بسورة منه فلقد علمت لو أنهم وجدوا في نظم سورة منها مطمعا لطامع بله مغمز لغامز لكان لهم (1/153)
معه شأن غير شأنهم وهم هم وأما البلغاء من بعدهم فما زلنا نسمعهم يضربون الأمثال في جودة السبك وإحكام السرد بهذا القرآن حين ينتقل من فن إلى فن وأما أنت فأقبل بنفسك على تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأي يد وضع بنيانه وعلى أي عين صنع نظامه حتى كان كما وصفه الله قرآنا عربيا غير ذي عوج اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن فهي جمهرته وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة ثم ارجع البصر كرتين كيف بدئت وكيف ختمت وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت وكيف تلاقت أركانها وتعانقت وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطأت أولاها لأخراها وأنا لك زعيم بأنك لن تجد ألبتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى ولسوف تحسب أن السبع الطول من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها قد نزلت نجوما أو لتقولن إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق فلقد كانت في (1/154)
تنزيلها مفرقة عن جمع كمثل بنيان كان قائما على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته ثم فرق أنقاضا فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم وإذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة أجل إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثا من المعاني حشيت حشوا وأوزاعا من المباني جمعت عفوا فإذا هي لو تدبرت بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق بل ترى بين الأجنسا المختلفة تمام الألفة كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحام كل ذلك بغير تكلف ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه يريك المنفصل متصلا والمختلف مؤتلفا ولماذا نقول إن هذه المعاني تنتسق في السورة كما تنتسق الحجرات في البنيان لا بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسها كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين وتؤدي بمجموعها غرضا خاصا كما يأخذ الجسم قواما واحدا ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد مع اختلاف وظائفه العضوية (1/155)
فيا ليت شعري إذا كانت كافة الأجزاء والعناصر التي تتألف منها وحدة السور منوطة بأسباب لم تكن كلها واقعة ولا متوقعة وكان لا بد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل لماذا لم يتفق في حادثة واحدة منها أن تخلفت عن عالم الوجود يومئذ لينخرم هذا النظام فتجيء سورة من السور مبتورة في مفتتحها أو في مختتمها أو فيما بين ذلك أليست مطاوعة تلك الأحداث الكونية ومعاونتها بدقة دائما لنظام هذه الوحدات البيانية شاهدا واضحا على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته بل ليت شعري لو أن هذا الإنسان الغريب الذي جاء القرآن على لسانه كان قد أحصى ما سوف يلده الزمان من مفاجآت الحوادث المستقبلة صغيرة وكبيرة في مدى دهره ثم قدر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من تعاليم الفرقان فما علمه بالنظام البياني الذي ستوضع عليه صيغة تلك التعاليم ثم ما علمه أي هذه التعاليم سيكون قرينة لهذا الجزء أو ذاك ليتأهب لتلك القرائن قبل ورودها فيودع في كل جزء ساعة نزوله عروة لائقة بقرينته المعينة حتى إذا قدمت استمسكت بعروتها فازدوجت بقرينها ذلك الازدواج المحكم ولماذا حين وردت كل قرينة وجدت من قرينها جارا لا يجور ولا يجار عليه ووجدت بجانبه المكان الذي ينتظرها لا ضيقا فيزاحمها ويتبرم بها ولا واسعا فتنقطع الصلة بينهما بل وجدته مقدرا بمقدارها حتى لا حاجة إلى الاستدراك على الماضي بمحو حرف ولا بزيادة حرف ولا بتبديل وع وحتى لا مجال هناك لقول ليت ولا لو إن (1/156)
بل كيف عرف كل جزء من هذه الأجزاء أين مجموعته وأين مستقره بينها في رأس أو صدر أو طرف من قبل أن تتبين سائر الآحاد والفصائل حتى إذا تم توزيع تلك الأجزاء المتفرقة والأشلاء الممزقة إذا الستار يرتفع في كل سورة عن دمية حسناء كاملة الأعضاء متناسقة الحلي أي تدبير محكم وأي تقدير مبرم وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى ولا يتردد ولا يتمكث كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها وهداها في إبان تشتيها إلى ما قدره لها حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم وسرى بينها هذا المزاج العجيب سبحان الله هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري وإن هذا الرأي الأنف البدائي الذي يقول في الشيء لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت ولقدمت أو أخرت لم يك أهلا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآني ليس من وضع بشر وإنما هو صنع العليم الخبير بلى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا أما إن طلبت شاهدا من العيان على صحة ما أصلناه في هذا الفصل من نظام الوحدات في السور على كثرة أسباب اختلافها وأما إن أحببت أن نريك نموذجا من السور المنجمعة كيف التأمت منها سلسلة واحدة من الفكر تتلاحق فيها الفصول والحلقات ونسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات فأي شيء أكبر شهادة وأصدق مثالا من سورة نعرضها عليك هي أطول سور القرآن كافة وهي أكثرها جمعا للمعاني المختلفة وهي أكثرها في التنزيل نجوما وهي أبعدها في هذا التنجيم تراخيا (1/157)
تلك هي سورة البقرة التي جمعت بضعا وثمانين ومائتي آية وحوت فيما وصل إلينا من أسباب نزولها نيفا وثمانين نجما وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددا واعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير ذلك ولو نشاء لأريناك في القطعة الواحدة منها أسبابا ممدودة عن أيمانها وعن شمائلها تمت بها إلى الجار ذي القربى والجار الجنب في شبكة من العلائق يحار الناظر إلى خيوطها مع أيها يتجه ولا يدري أيها هو الذي قصد بالقصد الأول وإنما نريد أن نعرض عليك السورة عرضا واحدا نرسم به خط سيرها إلى غايتها ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة موقعها من تلك السلسلة العظمى بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه نحب أن نقول كلمة ساق الحديث إليها وهي أن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء منه وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومطالعها ومقاطعها إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون معوانا (1/158)
له على السير في تلك التفاصيل عن بينة فقديما قال الأئمة إن السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله وأوله بآخره ويترامى بجملته إلى غرض واحد كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة وإنه لا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية وبهذا تعرف مبلغ الخطأ الذي تعرض له الناظرون في المناسبات بين الآيات حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور القصد وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم وهل يكون مثله في ذلك إلا كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشى ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطا خيطا ورقعة رقعة لا يجاوزه بصره موضع كفه فلما رآها يتجاور فيها الخيط الأبيض والخيط الأسود وخيوط أخر مختلف ألوانها اختلافا قريبا أو بعيدا لم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه ويونقه ولكنه لو مد بصره أبعد من ذلك إلى طرائف من نقوشها لرأى من حسن التشاكل بين الجملة والجملة ما لم يره بين الواحد والواحد ولتبين له من موقع كل لون في مجموعته بإزاء كل لون في المجموعة الأخرى ما لم يتبين له من قبل حتى إذا ألقي على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأساطها بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعتها ما هو أبهى وأبهر (1/159)
فكذلك ينبغي أن يصنع الناظر في تدبره لنظم السورة من سور القرآن وكلمة أخرى تمس إليها حاجة الباحث في النسق إذا أقبل على تلك المناسبات الموضعية بين أجزاء السورة وهي أن يعلم أن الصلة بين الجزء والجزء لا تعني اتحداهما أو تماثلهما أو تداخلهما أو ما إلى ذلك من الصلات الجنسية حسب كما ظنه بعض الباحثين في المناسبات فجعل فريق منهم يذهب في محاولة هذا النوع من الاتصال مذاهب من التكلف والتعسف وفريق آخر متى لم يجد هذه الصلة من وجه قريب أسرع إلى القول بأن في الموضع اقتضابا محضا جريا على عادة العرب في الاقتضاب ألا أن هذا الرأي بشعبتيه لأوغل في الخطأ من سابقه وإن الأخذ به على علاته في القرآن لغفلة شديدة عن مستوى البلاغة التي تميز بها القرآن عن سائر الكلام فلو أن ذاهبا ذهب يمحو تلك الفوارق الطبيعية بين المعاني المختلفة التي ينتظمها القرآن في سورة منه إذا لجرده من أولى خصائصه وهي أنه لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالا يرده إلى الإطالة المملة كيف وهو الحديث الذي لا يمل (1/160)
ولو أنه من أجل المحافظة على استقلال هذه المعاني ذهب يفرقها ويقطع أرحامها ويزيل التداعي المعنوي والنظمي من بينها إذا لجرده من خاصته الأخرى وهي أنه لا ينتقل في حديثه انتقالا طفريا يخرجه إلى حد المفارقات الضبيانية التي تجمع شتى الأحاديث على غير نظام والتي لا تدع نفس السامع تستشرف إلى اختتام كلام وافتتاح كلام كيف وهو القول الرصين المحكم كلا بل الحديث فيه كما علمت ذو شجون ولكنه حين يجمع الأجناس المختلفة لا يدعها حتى يبرزها في صورة مؤتلفة وحتى يجعل من اختلافها نفسه قواما لائتلافها وهذا التأليف بين المختلفات ما زال هو العقدة التي يطلب حلها في كل فن وصنعة جميلة وهو المقياس الدقيق الذي تقاس به مراتب البراعة ودقة الذوق في تلك الفنون والصناعات فإن تقويم النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر الكثيرة أصعب مراسا وأشد عناء منه في أجزاء اللون الواحد والعنصر الواحد وعلى هذه القاعدة ترى القرآن يعمد تارة إلى الأضداد يجاور بينها فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلى مظاهرها ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها بسوق بعضها إلى بعض مساق التنظير أو التفريع أو الاستشهاد أو الاستنباط أو التكميل أو الاحتراس إلى غير ذلك وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي أو تجاور شيئين في الوضع المكاني دعامة لاقترانهما في النظم فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجا وما هو بخروج وإنما هو إجابة لحاجات النفوس التي تتداعى فيها تلك المعاني فإن لم يكن بين المعنيين نسب ولا صهر بوجه من هذه الوجوه ونحوها رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلى الآخر إما بحسن التخلص (1/161)
والتمهيد وإما بإمالة الصيغ التركيبية على وضع يتلاقى فيه المتباعدان ويتصافح به المتناكران وهذه كلها وجوه حسنة لو نظر إليها بين آحاد المعاني لأغنى بعضها عن بعض في إقامة النسق على أن روعة النظم القرآني كما علمت لا تقوم دائما على حسن التجاور بين الآحاد بل ربما تراه قد أتم طائفة من المعاني ثم عاد إلى طائفة أخرى تقابلها فيكون حسن الموقع في التجاور بين الطائفتين موجبا لحسن المقابلة بين الأوائل من كل منهما أو بين الأواخر كذلك لا بين الأول من هذه والآخر من تلك (1/162)
وملاك الأمر في ذلك أن تنظر إلى النظام المجموعي الذي وضعت عليه السورة كلها كما وصيناك به من قبل ونحن ذاكرون لك الآن نموذجا منه لو وضعته نصب عينيك واحتذيته في سائر السور لكان ذلك نعم الدليل في دراستك وبالله التوفيق نظام عقد المعاني في سورة البقرة اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة على هذا الترتيب المقدمة في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم وإنما يعرض عنه من لا قلب له أو من كان في قلبه مرض المقصد الأول في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام المقصد الثاني في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق المقصد الرابع ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم عن مخالفتها الخاتمة في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم (1/163)
رغبتنا إليك أيها القارئ الكريم حين تدرس معنا تفاصيل هذا النسق أن تستظهر بالمصحف بين يديك لتكون من الموقنين بصحة ما نشير إليه في كل خطوة المقدمة في عشرين آية بدئت السورة الكريمة بثلاثة أحرف مقطعة لا عهد للعرب بتصدير مثلها في الإنشاء والإنشاد وإنما عهدوها من القراء الكاتبين في بدء تعليمهم النهجي للناشئين ومهما يكن من أمر المعنى الذي قصد إليه بهذه الأحرف والسر الذي وضعت هنا من أجله فإن تقديمها بين يدي الخطاب مع غرابة نظمها وموقعها من شأنه أن يوقظ الأسماع ويوجه القلوب لما يلي هذا الأسلوب الغريب وألحقت بهذه الأحرف الثلاثة جمل ثلاث أما أولادهن فإعلان للسامع أن ما سيتلى عليه الآن هو خير كتاب أخرج للناس وأنه ليس في الوجود ما يصلح أن يسمى كتابا بالقياس إليه ذلك الكتاب وأما الأخريان فيدعمان هذا الحكم بالحجة والبرهان أليس تفاضل الكتب إنما هو بمقياس ما تحويه من حق لا يشوبه باطل أو ليس كمال هذا الحق أن يكون نيرا لا يثير شبهة أو ليس أكمل الكمال بعد هذا وذاك أن يكون ذلك الحق مما تمس إليه حاجة الناس في إنارة السبيل وإقامة الدليل إذا ما اشتبهت عليهم السبل وتفرقت المسالك فذلكم القرآن هو جماع هذه الفضائل الثلاث فهو الحق المحض الذي لا باطل فيه بل هو الحق اللائح الذي لا شبهة باطل فيه ثم هو بعد ذلك الهدى المبين الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور لا ريب فيه هدى هكذا كان موقع هذه الجمل الثلاث بعد تلك الأحرف الثلاث موقع التنويه بالمقصود بعد التنبيه إليه (1/164)
وكذلك المربي الصالح يبدأ خطابه الجليل الشأن باستنصات الناس واسترعاء أسماعهم ويثني باتخاذ الوسائل المشوقة التي تثير فيهم بواعث الإقبال على طلب الاستفادة أول ما تتشوف إليه النفس بعد سماع هذا الوصف البليغ للقرآن وهدايته هو تعرف الأثر الذي سيحدثه في الناس ومقدار إجابتهم لدعوته فمست الحاجة إلى أن ينساق الحديث لبيان هذه الحقيقة العجيبة وهي انقسام الناس في شأنه إلى فئات ثلاث فئة تؤمن به وأخرى كافة وثالثة مترددة حائرة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف ترى ينتقل من الحديث عن الكتاب إلى الحديث عن الناس أيجعل الحديث عنهم حديثا مؤتنفا ائتنافا بحتا أم يسوقه مساق الاستدراك على ما قبله شيء من ذلك لم يكن ولكن انظر إليه وقد مزج الحديثين مزجا عجيبا يدع أدق الناس فطنة لتصريف وجوه القول لا يفطن لما حدث بينهما من الانتقال ذلك أنه في أول الأمر لم يعرض لذكر الطائفتين الأخيرتين بل أعرض عنهما كأن القرآن لم ينزل من أجلهما ثم عمد إلى الطائفة الأولى فجعل الحديث عنها من تمام الحديث عن هداية القرآن نفسه قائلا إنه هدى للمتقين الذين يؤمنون فكانت هذه اللام الجارة هي المعبرة السرية التي انزلق عليها الكلام وانصب انصبابا واحدا إلى نهاية الحديث عن المؤمنين ولقد كان قصر الانتفاع بهداية القرآن على هذه الطائفة وحدها بعد وصف القرآن بأنه الحق الواضح الذي لا ريبة فيه حريا في بادئ الرأي أن يعد من المفارقات التي تثير في نفس السامع أشد العجب إذ كيف تكون الحقائق القرآنية بهذه المرتبة من الوضوح ثم لا تنفذ إلى قلب كل من يسمعها (1/165)
ومن جهة أخرى فقد كان موقف هذا النبي الرحيم في جده البالغ في دعوة أمته وحرصه الشديد على هدايتهم مصورا له في عين من يراه بصورة الطامع في إيمان الناس أجمعين الظان أن هذه الأمنية ستصبح في متناول يده متى أخذ في أسبابها العادية كأنه يرى أن ليس بينهم وبين هذه الهداية إلا أن يصل صوت القرآن إلى آذانهم فإذا هم مسلمون ذلك مع أن القرآن يكاد يحدد الآن مهمته ويقول إن الذي سينتفع بهداه إنما هو المتقون فكان هذا التحديد مظنة لأن يبتهل الرسول إلى ربه قائلا سبحانك اللهم ولم لا يهتدي به الناس أجمعون وجب إذا أن تقرر الحقيقة بصورة حاسمة لكل طماعية وتردد مريحة للنفس من طلب ما لا سبيل إليه وأن تبين مع ذلك الموانع الطبيعية من عموم هداية القرآن بأسلوب ينزه القرآن نفسه عن شائبة القصور ويرد النقص إلى قابلية القابل لا إلى فاعلية الفاعل وهل يغض من مهارة الطبيب أن يعرض المريض عن تناول الدواء منه فيموت بجهله وهل يضير الشمس ألا ينتفع بنورها العمى أو المتعامون إن الذين كفورا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون هكذا انتقل الحديث عن المؤمنين الذين سبقت لهم الحسنى إلى الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا على وجه اقتران الحديثين في القصد من أول الأمر إذا لعطف أحدهما على الآخر بل على وجه يبنى فيه بعض الكلام على بعض إجابة لهذا السؤال الذي نطقت به الحال وإزالة لذلك التعجب الذي أثاره سابق المقال وهذا هو ما يسميه علماء البلاغة بالاستئناف البياني وجرى الحديث عن هؤلاء إلى نهايته فانضم الشكل إلى شكله وعطفت الطائفة الثالثة على أختها لأنهم في التجافي عن الهدى مشتركون تتشابه قلوبهم وإن اختلفت ألسنتهم ومن الناس من يقول آمنا (1/166)
بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين وارجع الآن قليلا إلى نظام الأحاديث عن الطوائف الثلاثة لترى كيف تقابلت أوضاعها أتم التقابل فقد اشتمل الحديث في كل طائفة على ثلاثة عناصر مرتبة على هذا النمط وصف الحقيقة الواقعة فبيان السبب فيها فالإخبار عن نتيجتها المنتظرة فحقيقة الطائفة الأولى أنهم قوم حصلوا فضيلة التقوى بركنيها العلمي والعملي وسبب ذلك استمساكهم بالهدى وإمدادهم بالتوفيق من ربهم ومآل أمرهم الفوز والفلاح وحقيقة الطائفة الثانية أنهم مجردون من أساس التقوى وهو الإيمان وأنهم مصرون على ذلك إصرارا لا ينفع معه إنذار والسبب عدم انتفاعهم بما وهبهم الله من وسائل العلم فلهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وعاقبة أمرهم العذاب العظيم وحقيقة الطائفة الثالثة صفة مركبة من ظاهر خير وباطن سوء فهم يقولون بألسنتهم إنهم مؤمنون وليس في قلوبهم من الإيمان شيء ولكل من الوصفين سبب وجزاء أما دعواهم الإيمان فسببها قصد المخادعة وجزاء الخداع عائد عليهم وأما إسرارهم الكفر فسببه مرض قلوبهم وجزاؤه زيادة المرض والعذاب الأليم وكما بين في الطائفة الثانية أنها بلغت من الإصرار والغباوة مبلغا لا يجدي معه الإنذار بين في الطائفة الثالثة أنها بلغت من الغرور والجهالة المركبة مبلغا لا ينفع فيه نصح الناصحين فهم المفسدون ويزعمون أنهم المصلحون وهم السفهاء ويزعمون أنهم الراشدون ومن لك بشفاء سقيم يعتقد أنه سليم ثم كما ختم الكلام في شأن الطائفة الأولى بأن سجل لهم وصف الهدى (1/167)
والفلاح ختم الكلام في شأن الطائفتين الأخريين بأن سجل عليهما وصف الضلالة والخسران على أن هذه الأوصاف التحقيقية للطائفتين لم تكن وحدها لتشفي النفس من العجب في أمرهم فالعهد بالناس أنهم إنما يختلفون في الأمور الغامضة لا في الحقائق البينة فاختلاف هؤلاء في شأن القرآن على وضوحه يعد شاذا عن العادات الجارية محتاجا إلى وصف تمثيلي يقربه من المشاهد المحس حتى يطمئن القلب إلى إمكانه لذلك ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلا يناسبها (1/168)
فضرب مثلا للمصرين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فقام فيهم رجل استوقد لهم نارا يهتدون بضوئها فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعيتهم لهذا الضوء الباهر بل لأمر ما سلبوا نور أبصارهم وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجئة فذلك مثل النور الذي طلع به محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الأمة الأمية على (1/169)
فترة من الرسل فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك لكنه لم يوافق (1/170)
أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية فلم يرفعوا له رأسا بل نكسوا على رؤوسهم ولم يفتحوا له عينا بل خروا عليه صما وعميانا قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد وضرب مثلا للمترددين المخادعين بقوم جادتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعود وبروق فأما الغيث فلم يلقوا له بالا ولم ينالوا منه نيلا فلا شربوا منه قطرة ولا استنبتوا به ثمرة ولا سقوا به زرعا ولا ضرعا وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم ومناط تفكيرهم ولذلك جعلوا يترصدونها ويدبرون أمورهم على وفقها لابسين لكل حال لبوسها سيرا تارة ووقوفا تارة واختفاء تارة أخرى ذلك مثل القرآن الذي أنزله الله غيثا تحيا به القلوب وتنبت به ثمرات الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة ثم ابتلي فيه المؤمنين بالجهاد والصبر وجعل لهم الأيام دولا بين السلم والحرب وبين الغلب والنصر فما كان حظ بعض الناس منه إلا أن لبسوا شعاره على جلودهم دون أن يشربوا حبه في قلوبهم أو يتذوقوا ما فيه من غذاء الأرواح والعقول بل أهمتهم (1/171)
أنفسهم وشغلتهم حظوظهم العاجلة فحصروا كل تفكيرهم فيما قد يحيط به من مغانم يمشون إليها أو مغارم يتقونها أو مآزق تفقهم منه موقف الروية والانتظار وهكذا ساروا في التدين به سيرا متعرجا متقلبا مبنيا على قاعدة الربح والخسر والسلامة الدنيوية فكانوا إذا رأوا عرضا قريبا وسفرا قاصدا وبرقت لهم بروق الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنبا إلى جنب وإذا دارت رحا الحرب وانقضت صواعقها منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين إن بيوتنا عورة أو رجعوا من بعض الطريق قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور وتلبد الجو بالغيوم فنالك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون ولكن يلزمون شقة الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ذلك أبدا دأب المنافقين في كل أمرهم إن توقعوا ربحا عاجلا التمسوه في أي صف وجدوه وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء من المكروه وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيدا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبلة واحدة يولي وجهه شطرها هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم (1/172)
وليس يبالي حين يقتل مسلما على أي جنب كان الله مصرعه هنا تمت المقدمة بعد أن وصفت القرآن بما هو أهله ووصفت متبعيه ومخالفيه كلا بما يستحقه ولا مرية أن وصف هذه الطوائف جميعها راجع في المآل إلى الثناء على القرآن فإن الشيء الذي يكون متبعوه هم أهل الهدى والفلاح ومخالفوه هم أهل الضلالة والخسر لا يكون إلا حقا واضحا لا ريب فيه فما هو ذلك الحق الذي لا يتبعه إلا مهتد مفلح ولا يعرض عنه إلا ضال خاسر بل ما هو ذلك الحق الذي ضربت له الأمثال بالضياء الباهر والغيث الكثير لا شك أن هذا كله تشويق أي تشويق لسماع الحقائق التي يدعو القرآن الناس إليها فانظر على أي نحو ساق بيانها لقد كان ظاهر السياق يقضي بأن يقال أن هذه الحقائق هي أن يعبدوا ربهم وحده ويؤمنوا بكتابه ونبيه الخ جريا على أسلوب الغيبة الذي جرى عليه في وصف الكتاب وفي وصف الناس ولكنه حول مجرى الحديث من الأخبار والغيبة إلى النداء والمخاطبة قائلا يأيها الناس اعبدوا ربكم أتعرف شيئا من سر هذا التحويل إن ذلك الوصف الدقيق الذي وصف القرآن به الطوائف الثلاث متقين وكافرين ومخادعين قد نقلهم عند السامع من حال إلى حال فبعد أن كانوا غيبا في مبدأ الحديث عنهم أصبحوا الآن بعد ذلك الوصف الشافي حاضرين في خيال السامع كأنهم رأي عين وفي مكان ينادون منه فاستحقوا أن يوجه الحديث إليهم كما يوجه إلى الحاضرين في الحس (1/173)
والمشاهدة هذا من الناحية العامة وأما من الناحية الأخرى فإن هذه الأمثال البليغة التي ضربت في شأن المعرضين خاصة قد أبرزتهم أمام السامع في صورة محزنة تبعث في نفسه أقوى البواعث لنصحهم وتحذيرهم حتى أنه لا يشفي صدره إلا أن يناديهم أو يسمع من يناديهم أن افتحوا أعينكم أيها القوم وتعالوا إلى طريق النجاة وهكذا استعدت النفس أتم استعداد لسماع هذا النداء يأيها الناس اعبدوا ربكم الآيات إلى آخر المقصد الأول المقصد الأول من مقاصد السورة في خمس آيات في هذه الآيات الخمس تسمع نداء قويا موجها إلى العالم كله بثلاثة مطالب أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا أن آمنوا بكتابه الذي نزله على عبده أن اتقوا أليم عذابه وابتغوا جزيل ثوابه هذه المطالب الثلاثة هي الأركان الثلاثة للعقيدة الإسلامية تراها قد بسطت مرتبة على ترتيبها الطبيعي من المبدأ إلى الواسطة إلى الغاية وترى كل واحد من الركنين الأولين قد أقيم على أساس من البرهان العقلي القاطع لكل شبهة أما الركن الثالث فقد جيء به مجردا عن هذا النوع من البرهان ولكنه نفخ فيه من روح الإلهاب وتحريك الوجدان بالتحذير والتبشير ما يسد في موضعه مسد البرهان على أنك إذا أنعمت النظر في هذا الركن وجدته في غنى عن برهان جديد بعد تقرر سابقيه إذ هو منهما بمنزلة النتيجة المنطقية من مقدماتها أرأيت لو أن ملكا عظيم السلطان نافذ الحكم وجه إلي سفيرا يحمل (1/174)
رسالة منه أيقنت أن الذي بيد السفير هو كتاب الملك المختوم بخاتمه أكان يعوزك برهان جديد لتحقيق ما يحويه الكتاب من عجيب الأنباء والنذر بعدما وقر في نفسك من العلم بأنه كلام من إذا قال صدق وإذا وعد أنجز فكذلك ترى الحديث هنا عن السمعيات جيء به مفرعا على ما تقرر في أمر النبوات وبضرب من التخلص هو غاية في الحسن والبراعة فإن لم تفعلوا فاتقوا النار عود على بدء في أربع عشرة آية بدأ الكلام في السورة كما علمت بوصف القرآن بما فيه من الهدى إجمالا فكان من الحق أن يعود إلى وصف طريقة القرآن في هذه الهداية ليقول إنها هداية كاملة بالبيان الوافي الشامل لكل شيء فانظر كيف مهد لهذا الانتقال تمهيدا يتصل من أول السورة إلى هذا الموضع أما المقدمة فقد وصف فيها الفرق الثلاث وصفا شافيا ضرب للناس أمثالهم وحقق أن الذي كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم وأما المقصود فقد بين فيه أن لله وحده المثل الأعلى الذي يشاركه فيه شيء من الأنداد ثم وضع فيه الفيصل بين النبي والمتنبي بتلك المعجزة العالمية التي لا يستطيع أحد من دون الله أن يأتي بمثلها ثم ذكر مثل النار التي أعدت للكافرين ومثل الجنة التي وعد المتقون فتراه قد تناول في هذه الأمثال ضروبا شتى من الحقائق علوية وسفلية مادية ومعنوية حتى كانت نهاية الحديث أن عرض ما في الجنة من (1/175)
أنواع المتع واللذائذ الشخصية والجنسية تلك المعاني التي قد يستحي المرء ذكرها وقد يخالها الجاهل نابية عن سنن الخطاب الإلهي الأعظم غافلا عن أنه الحق الذي لا يستحي من الحق وأنه الرحيم الذي يتنزل برحمته إلى مستوى العقول البشرية فيبين لهم كل ما يحتاجون إلي بيانه مما يحبون أو يكرهون ومما يرجون أو يحذرون وهكذا انساق الحديث من ذكر هذه النماذج المتفاوتة إلى استنباط القاعدة الكلية منها ببيان أن هذه هي طريقة القرآن في هدايته فهو يضرب الأمثال كلها ويبين الحقائق حلوها ومرها واضعا كل شيء في موضعه مسميا له باسمه لا يبالي أن يتناول في بيانه جلائل الأمور أو محقراتها إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها حقا إن شأن الكتاب في تفصيل الحق والباطل والضار والنافع شأن كتاب الأعمال في تفصيل الحسنات والسيئات كلاهما لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وكما أن وصف القرآن بالهدى إجمالا قد جر هناك إلى ذكر انقسام الناس في قبول هدايته وإلى النعي على من أعرض عنه كذلك وصف طريقته في الهداية قد جرها هنا إلى مثل هذا التقسيم يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وإلى النعي على الضالين بذكر مساوئهم وتفصيل نقائصهم وما يضل به إلا الفاسقين وكما أن بيان أوصافهم هناك قد جلاهم أمام السامع في صورة تحرك داعيته لسماع ندائهم بالنصح والتعليم كذلك بيان أوصافهم هنا قد استفز النفوس إلى سماع مخاطبتهم بالتعجيب والإنكار كيف تكفرون بالله الآيات وكذلك عاد الكلام إلى المقصد الأول بأركانه الثلاثة ولكن في ثوب جديد (1/176)
أما في الركن الأول فقد سمعته هناك يأمر بعبادة الله وتسمعه هنا ينهى عن الكفر بالله وهناك ذكرهم بنعمة إيجادهم مجملة وهنا يذكرهم بها مفصلة متممة وهناك عرفهم بنعمة تسخير الأرض والسماء لهم وهنا يعرفهم بذلك في شيء من التفصيل وأما في الركن الثاني فقد ذكر هناك نبوة هذا النبي الخاتم وهنا يذكر نبوة ذلك النبي الأول آدم لنعلم أن نبينا لم يكن بدعا من الرسل وأن أمر التشريع والنبوات أمر قديم يتصل بنشأة الإنسان وقد مهد لهذا البيان بذكر تاريخ تلك النشأة العجيبة وما جرى في شأنها من الحديث مع الملائكة ذلك الحديث الدال على مزيد العناية الإلهية بهذا النوع البشري إذ اختاره الله لخلافة الأرض وآثره على سائر الخلق بفضيلة العلم ليكون الامتنان بذلك جاريا مع الامتنان بالنعم المذكورة في الركن الاول على أحسن نسق ثم اتصل من هذا التفضيل إلى شرح ما نشأ عنه من حسد إبليس وعداوته القديمة للإنسان الأول ومخادعته إياه بوساوسه وما انتهى إليه أمر الخادع والمخدوع من ابتلائهما وابتلاء ذريتهما بالتكاليف وهو كما ترى حديث يطلب بعضه بعضا ويأخذ بعضه بأعناق بعض وأما في الركن الثالث فقد رأيته هناك يصف الجنة والنار بما لهما من وصف رائع أو مروع وتراه هنا يكتفي عن وصفهما بذكر اسمهما وتعيين أهلهما ناظما وضع الأجزية مع وضع التكاليف في سلك واحد ومتخلصا أحسن تخلص من أحدهما إلى الآخر بتقرير أن اتباع التكاليف أو عدم اتباعها هو مناط السعادة أو الشقاوة في العقبى ولقد ختم الكلام هنا كما ختمه في المقدمة بشأن المخالفين تمهيدا للانتقال مرة أخرى إلى نداء فريق منهم ودعوتهم إلى الإسلام وهو المقصد الثاني (1/177)
المقصد الثاني من مقاصد السورة في ثلاث وعشرين ومائة آية بحسبك أن تعلم أن هذه السورة هي غرة السور المدنية وأن المدينة كان يسكنها أشد الناس عداوة للذين آمنوا وأكثرهم جدالا في دينهم بما أوتوه من العلم قبلهم بحسبك أن تعلم هذا وذاك لتعرف سر تلك العناية الموفورة بهذا الجانب من الدعوة نعني دعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوة الناس عامة ولتعلم حكمة ذلك التبسط في الحديث معهم تارة والحديث عنهم تارة أخرى بألوان تختلف هجوما ودفاعا واستمالة واستطالة إلى ما بعد نصف السورة وسترى حين تنتقل في هذه الأحاديث مرحلة مرحلة ما يملك قلبك من جمال نظامها ودقة تقسيمها بدأ الكلام معهم بآية فذة هي على قلة كلماتها جامعة لأغراض الحديث كله ففيها يناديهم بأحب أسمائهم وأشرف أنسابهم ويذكرهم بسابق نعمة الله عليهم إجمالا ويبني على ذلك دعوتهم إلى الوفاء بعهدهم ويرغبهم ويرهبهم ثم رجع إلى هذه الأغراض يفصلها على تدرج وبقدر معلوم فشرح العهد الذي طلب منهم الوفاء به في ست آيات وبين مقدار النعمة التي امتن بها عليهم في آية ومقدار المخافة التي خوفهم منها في آية أخرى ثم قسم الحديث إلى أربعة أقسام القسم الأول يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى عليه السلام القسم الثاني يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية (1/178)
القسم الثالث يذكر فيه أولية المسلمين منذ إبراهيم عليه السلام القسم الرابع يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة ذكر سالفة اليهود استهل الخطاب في هذا القسم بثماني آيات يعرف فيها بني إسرائيل بتفاصيل المنن التي امتن بها عليهم مرة بعد مرة وهي تلك النعم التاريخية القديمة التي اتصل أثرها وسرى نفعها من الأصول إلأى الفروع فجعل يذكرهم بأيام الله فيهم يوم أنجاهم من آل فرعون ويوم أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه ويوم واعدهم بإنزال الكتاب عليهم ويوم حقق وعده بإنزاله ويوم قبل توبتهم عن الردة والشرك بالله ويوم قبل توبتهم عن التمرد على نبيهم واقتراح العظائم عليه وإنها لنعم جليلة سابقة للذنب ولاحقة تلين ذكراها القلوب وتحرك الهمم لشكر المنعم وامتثال أمره وقبل أن ينتقل من تذكيرهم بتلك النعم الجليلة المطمعة للشاكرين في المزيد إلى تذكيرهم بجرائمهم وما حاق بهم من ضروب النكال الموجبة للامتثال والاعتبار جعل بين الحديثين برزخا مزج فيه ذكر بعض النعم بذكر ما قابلوها به بعد أن أعد النفس للسير على هذا البرزخ بالتفاتة يسيرة فيها رمز الإعراض وعدم الرضا فبين أنه تعالى متعهم فوق هذا كله متاعا حسنا إذ ظلل عليهم الغمام ورزقهم من الطعام والشراب رزقا هينئا من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا كد ولا نصب فظلموا أنفسهم وبطروا تلك النعمة وحرفوا كلمة الشكر بتبديلها هزوا ولعبا واقترحوا بدل ذلك الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء فألزمهم الله ما التزموا وضرب عليه الذلة والمسكنة وهنا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات فذكر أنهم باءوا بغضب من الله لأنهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين غير أنه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب وتمردوا على أوامر التوراة جملة حتى (1/179)
أرغموا عليها ثم تولوا عنها بعد ذلك حتى صاروا جديرين بأن ينزل بهم ما نزل بأهل السبت لولا فضل الله عليهم وأنهم تباطئوا في تنفيذ أمر نبيهم وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في بعض تبليغه عن ربه أنه هازل فيه غير جاد حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني وأراد القرآن أن يصل حاضرهم بماضيهم فانظر كيف وضع بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية التي ختم بها القسم الأول ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة فقوله من بعد ذلك كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته كأنها بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع حتى يظن أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر ثم لم يلبث هذا الظن أن ازداد قوة بصيغة الجملة الاسمية في قوله فهي كالحجارة دون أن يقول فكانت كالحجارة ثم انظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئة لتغيير الأسلوب فيهم فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرار الخطاب معه نابيا عن الحكمة ويصير جديرا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا في شأنهم أنفسهم ذكر اليهود المعاصرين للبعثة افتتح الكلام في هذا القسم بجملة طريفة ليست على سنن ما قبلها وما بعدها من السرد الإخباري جملة استفهامية يكتنفها حرفان عجيبان أحدهما يعيد إلى الذاكرة كل ما مضى من وقائع القسم الأول والآخر يفتح الباب لكل ما يأتي من حوادث هذا القسم وتقع هي (1/180)
بين التاريخين القديم والحديث موقع العبرة المستنبطة والنتيجة المقررة بين أسباب مضت وأسباب تأتي أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم فهذه الفاه تقول لنا أبعد كل ما قصصناه يطمع طامع في إيمان هؤلاء القوم وهم الوارثون لذلك التاريخ الملوث وهذه الواو تقول هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ويعود السرد الإخباري إلى مجراه التفصيلي فيقص علينا من مساوئ أوصاف الحاضرين منهم ومنكرات أفاعيلهم وأقاويلهم زهاء عشرين سببا لا تبقى مطمعا لطامع في إيمانهم سواء منها ما كان مختصا بهم وما كان يشاركهم فيه غيرهم من أسلافهم أو من النصارى أو الوثنيين ثم لا يدع زعما من مزاعمهم إلا قفى عليه بما يليق به من الرد والتفنيد وقد بدأ هذا الوصف بتقسيمهم إلى فريقين علماء يحرفون كلام الله ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم لئلا يكون حجة عليهم وجهلاء أميين هم أسارى الأماني والأوهام وضحايا التضليل والتلبيس الذي يأتيه علماؤهم فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلل مخدوع يأخذ باسم الدين ما ليس بدين وعالمها مضلل خادع يكتب الكتاب بيده ويقول هذا من عند الله وثنى ببيان منشأ اجترائهم على كل موبقة ألا وهو غرورهم بزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة ولقد أمر النبي أن يوسع هذا الزعم دحضا وإبطالا وأن يتدرج معهم في هذه المجادلة على درجات المنطق السليم والبحث المستقيم فيبدأ بمطالبتهم البرهان على ما زعموا ثم ينقضه ببيان مخالفته لقانون العدل الإلهي الذي لا يعرف شيئا من الظلم ولا المحاباة لأحد بل الخلق أمامه سواء كل امرئ رهين بعمله ومن يعمل سوءا أو حسنا يجز به ثم يعارضه بقلب القضية عليهم مبينا (1/181)
لهم أنهم من أولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم ألم يؤخذ عليكم الميثاق بتقوى الله والإحسان إلى الناس فتوليتم ألم يؤخذ عليكم الميثاق بترك الإثم والعدوان فاعتديتم ثم آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض وحكمتم أهوءكم في الشرائع فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ثم أتبع ذلك سائر هناتهم فذكر تصامهم عن سماع الحق بدعوى أن قلوبهم مقفلة كفرهم بالكتاب الجديد لأنه أنزل على غيرهم بعد أن كانت أعناقهم مشرئبة إليه ينتظرون ظهوره على يد نبي ينصرهم على المشركين دعواهم القيام بواجبهم وهو الإيمان بما أنزل عليهم وكفى مع أنهم كافرون حتى بما أنزل عليهم وتلك شنشنتهم منذ عبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم زعمهم أن لهم الدار الآخرة خالصة ثم مناقضتهم أنفسهم في ذلك بكراهتهم الموت وشدة حرصهم على الحياة عداوتهم لجبريل لأنه أنزل الكتاب على غيرهم مع أنه إنما أنزل بعلم الله تكرر نبذهم للعهود اشتغالهم بكتب السحر وترك كتب الله وراء ظهورهم ليهم ألسنتهم في خطاب الرسول بكلمة تنطوي على الاستهزاء (1/182)
به والطعن في دينه وإن كان ظاهرها التعظيم له أو يراد منها إحراجه بكثرة الأسئلة والمقترحات كما سئل موسى من قبل وقد سيق هذا في قالب تحذير المؤمنين من أن يقولوا تلك الكلمة حقدهم وأثرتهم هم وسائر المخالفين من أهل الكتاب والمشركين وكراهيتهم أن ينزل الوحي على غيرهم مع أن لله أن يختص بنبوته من يشاء وله أن ينسخ شريعة ويأتي بشريعة أخرى مثلها أو خير منها رغبة كثير منهم في أن يردوا المؤمنين كفارا زعم كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة غيرهم أماني يتمنونها بغير برهان طعن كلتا الطائفتين في أختها بقول اليهود ليست النصارى على شيء وقول النصارى ليست اليهود على شيء وطعن المشركين في كلتيهما اشتراك الطوائف الثلاث في السعي لإخلاء المساجد من ذكر الله اشتراكهم في الجهل بالله ونسبتهم الولد إليه اشتراكهم في التوقف عن الإيمان بالرسل حتى يكلمهم الله بغير واسطة أو ينزل عليهم آية ملجئة ثم ختم هذه الهنات بأدعاها إلى اليأس من إيمانهم وهو أنهم يطمعون في تحويل الرسول نفسه إلى اتباع أهوائهم فكيف يطمع هو في استتباعهم إلى هداه كلا ولكن حسبه أن الراسخين في العلم منهم وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته يؤمنون بهذا الهدى الذي جاء به والكافرون هم الخاسرون ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم شأن المصلح الحكيم في دعوته شأن الزارع يبدأ بالأرض فيقتلع أشواكها وينقيها من حشائها الضارة قبل أن يلقي فيها البذور الصالحة أو يغرس فيها الأشجار النافعة وكذلك الداعي الحكيم يبدأ بالنفوس فيلويها عن الباطل والفساد ثم يوجهها إلى طريق الحق والهدى فهذان (1/183)
دوران يقوم في أحدهما بالتطهير والتخلية وفي الثاني بالتكميل والتحلية وأنت قد رأيت الكلام في دعوة بني إسرائيل قد مضى إلى هذا الحد في بيان عوج الطريق الذي يسلكونه ورأيته قد أوسع البيان في ذلك حتى أتى على نهاية الدور الأول أليس من الحق إذا أن يبدأ الدور الثاني فيبين الطريق السوي الذي يجب أن يسلكوه ثم رأيت كيف اختتم البيان السابق هدى الله والعلم الذي علمه لنبيه وذكر الفريق الذي يرجى إيمانهم به من أهل الكتاب وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته أليس هذا الاختتام نفسه مطلعا تشرف النفس منه على هذا الافتتاح ثم رأيت الحديث في الدور الأول منقسما إلى قسمين قسم يتحدث فيه عن ماضي اليهود وقسم يتحدث فيه عن حاضرهم ألا يكون من حسن التقابل أن يقسم الحديث الثاني إلى القسمين عن ماضي المسلمين وعن حاضرهم ذلك هو ما ترى فيما يلي بل سترى ما هو أتم مقابلة ومشاكلة فسيجري الكلام في القسم الأول هنا على سنن الخطاب مع بني إسرائيل والكلام في القسم الثاني على سنن التحدث عنهم كما جرى هنالك في القسمين سواء وأكبر من هذا كله أنك ترى الآيتين الكريمتين اللتين صدر بهما أول الحديث هناك قد صدر بهما أول الحديث هنا ليدعوهم إلى اعتناق الحق بمثل ما دعاهم به إلى اجتناب الباطل وليتقرر في نفس السامع من أول الأمر أن الحديث سيعود كما بدأ ولكن في طريق يقابل ذلك الطريق وبمعنى جديد هو عدل لذلك المعنى القديم يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة (1/184)
ولا هم ينصرون وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات وهكذا أنشأ يدعو بني إسرائيل إلى طريق السلف الصالح لا بأسلوب الأمر والتحريض الذي جرب من قبل فلم ينجع فيهم بل بأسلوب قصصي جذاب يعرض فيه ذلك التاريخ المجيد لإبراهيم عليه السلام وأبنائه وأحفاده في العصور الذهبية التي لا يختلف أحد من أهل الكتاب ولا المشركين في تعظيمها ومحبتها ومحبة الانتساب إليها مكررا على لسانهم جميعا تلك الكلمة العذبة التي تركها إبراهيم باقية في عقبه فتوارثها أبناؤه وأحفاده يوصي كل منهم بها بنيه كلمة الإسلام لله رب العالمين وتراه في أثناء عرضه لتاريخ إبراهيم عليه السلام وإمامته للناس لا ينسى أن يحكي كلماته التي دعا به ربه أن يجعل من ذريته إماما للناس كما جعله هو ثم تراه حين يروي قيام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت المعظم الذي جعله الله حراما آمنا ومثابة للناس وقبلة لصلاتهم لا ينسى أن يحكي تضرعهما إلى الله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة وأن يبعث فيهم رسولا منهم يعلمهم ويزكيهم ممهدا بهذا وذاك لتقرير تلك الصلة التاريخية المتينة التي تربط هذا النبي وأمته بذينك النبيين الجليلين لا صلة البنوة النسبية فحسب بل صلة المبدأ ورابطة الوحدة الدينية أيضا فهم من ذريتهما ووجودهم تحقيق لقبول دعوتهما وملتهم ملتهما وقبلتهم قبلتهما ومثابتهم في حجهم مثابتهما ومقررا في الوقت نفسه انقطاع مثل هذه النسبة المشرفة عن اليهود الذين ينتسبون بالبنوة لإبراهيم ويعقوب وهم عن ملتهما منحرفون ولوصيتهما مخالفون فماذا يغني النسب عن الأدب ومن بطأ به عمله لم (1/185)
يسرع به نسبه تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة واتصل ذكر الخلف بذكر السلف وخرج الكلام من التلويح إلى التصريح فأقبل يقرر في جلاء صلة هذه الأمة المسلمة بتلك الأمة الصالحة في أصول ملتها وفي أهم فروعها ويقص علين ما يحاوله سفهاء الأحلام من بني إسرائيل وغيرهم لحرمان المسلمين من تلك الصلة وذلك بدعوتهم المسلمين إلى اتباع ملتهم تارة وبالطن في قبلتهم تارة أخرى ويكر على كلتا المحاولتين الهدم والاستئصال وقد رأيت الحديث الآنف كيف امتزج فيه ذكر ملة إبراهيم بذكر قبلته فانظر كيف كان ذلك تأسيسا قويا لما يبني عليه هنا من ذكر ملة المسلمين وذكر قبلتهم قال في شأن الملة إن أهل الكتاب يدعونكم بعد هذا البيان أن تكونوا هودا أو نصارى فقولوا لهم بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا وعرفوهم جلية الأمر في هذه الملة الحنيفية وأنها إيمان بالله وإيمان بكل ما أنزل على النبيين لا نفرق بين أحد منهم هذه عقيدتنا بيضاء ناصعة فأي ركنيها تنقمون منا وفي أيها تخاصموننا أفي الله وهو ربنا وربكم أم في إبراهيم وبنيه وهم كانوا هودا أو نصارى تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون وكان هذا الترديد وحده كافيا لإفحامهم وإغلاق الباب في وجوههم من هذه الناحية إذ تبين أن أصول هذه الملة أمنع من أن نقبل الجدال في شيء منها فانتقل عنها وشيكا إلى إبطال محاولتهم الأخرى في مسألة الكعبة المعظمة التي عليها يدور العمل بشعيرتين هما أعظم شعائر الإسلام وأظهرها الصلاة والحج والتي قد تقرر ما لها من الأصل الأصيل (1/186)
في الدين باتخاذ إبراهيم وإسماعيل إياها مثابة ومصلى ولكن هذا لم يكن كافيا لإسكات المجادلين الذين اتخذوا من تحول المسلمين إليها وتركهم القلة التي كانوا عليه مطعنا على النبوة فتنوا به بعض ضعفاء المؤمنين فمست الحاجة إلى مزيد بسط في شأنها تتقرر به الحجة وتدحض به الشبهة ولذلك تراه يوجه إليها أكبر الشطرين من عنايته فيأمر النبي بادئ ذي بدء أن يجيب المتسائلين عن حكمة هذا التحويل جواب عزة وإباء يرد الأمر فيه إلى من لا يسأل عما يفعل قائلا لهم إن الجهات كلها سواء يوجهنا الله منها إلى ما يشاء وهو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم ثم أخذ يأمر النبي تارة والمؤمنين تارة ويأمرهما معا تارة أخرى في أسلوب مؤكد مفصل أن يثبتوا على هذه القبلة حيث هم وفي كل مكان يقيمون فيه حضرا وفي كل مكان يخرجون منه سفرا وطفق ينثر في تضاعيف هذه الأوامر المؤكدة ما شاء من تعريف بأسرار التشريع القديم والجديد فيقول إن تشريع تلك القبلة الوقتية ما كان إلا اختبارا لإيمان المهاجرين ليتبين من تتبع الرسول ممن يتقلب على عقبيه وأما تشريع هذه القبلة الباقية فإنه ينطوي على الحكم البالغة والمقاصد الجليلة فهي القبلة الوسطى التي تليق بكم أيتها الأمة الوسطى وهي القبلة التي ترضاها يأيها النبي والتي طالما قلبت وجهك في السماء مستشرفا إلى الوحي بها وهي القبلة التي يعلم أهل الكتاب أنها الحق من ربهم وإن كانوا يكتمون ذلك حسدا وعنادا وهي القبلة التي يشهد الله بأنها الحق من عنده وأخيرا هي القبلة التي لا يبقى لأحد من المنصفين حجة عليكم أما الظالمون فلن ينقطع جدالهم في شأنها ما بقيت عداوتهم لكم ولكن لا تخشوهم بل وطنوا أنفسكم على التضحية في سبيل الله واصبروا ولا تحزنوا على من سيقتل منكم في هذه السبيل فإن الموت فيها هو الحياة الباقية (1/187)
ثم أومأ إلى أن الجدال في هذه القبلة ليس صدا عن الشعائر التي في داخل المسجد الحرام فحسب بل هو كذلك صد عما حوله من الشعائر إن الصفا والمروة من شعائر الله ثم أكد أمر هاتين الشعيرتين على نحو ما أكد أمر القبلة بالتعريض بأهل الكتاب الذين يعلمون أصلهما في تاريخ إبراهيم ولكنهم يكتمون ما أنزله الله من البينات وهم يعلمون أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل كيف رتبها مرحلة مرحلة وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين متنائيين فهي في جملتها مناجات من الله للنبي والمؤمنين في خاصة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم ولكنه جعل هذه النجوى طرفين لون كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلاها بيضاء للناظرين فكانت هذه البداية كما ترى نهاية لتلك المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان ثم رأيت كيف ساق الحديث فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية ويحرضهم على الاستمساك بها في غير ما آية أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يراد به هداية المؤمنين إلى تعاليم الإسلام مفصلة بلى إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة التي (1/188)
مدت في خطاب المؤمنين مدا وحولت مجرى الحديث معهم رويدا رويدا حتى صار كل من ألقي سمعه إليها مليا يسمع في طيها نداء خفيا أن قد فرغنا اليوم من الأعداء جهادا وأقبلنا عن الأولياء تعليما وإرشادا وأن قد طوينا كتاب الفجار وجئنا نفتتح كتاب الأبرار وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تكن إلا طليعة من كتائب الحق تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار أو شعاعة من فجر الهدى سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار ألا ترى الميدان قد أصبح خاليا من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها وتهاجمك هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا أو لا ترى هذه الأشعة الأولى من شمس الشريعة الإسلامية قد انبعثت يسوق بعضها بعضا أصول جامعة نظرية تتبعها طائفة من فروعها الكبرى العملية ألم يأن لسائر الفروع أن تجيء من خلفها حتى تبلغ الشمس ضحاها هكذا تفتحت الآذان لسماع شرائع الإسلام مفصلة فلو أنها أقبلت علينا الآن عدا وسردا ما حسبنا الحديث عنها حديثا مقتضبا لكن القرآن قد وضع على أدق الموازين البيانية وأرفقها بحاجات النفوس لم يشأ أن يهجم على المقصود مكتفيا بهذا التمهيد بل أراد أن يقدم بين يديه شقة تستجم النفس فيها من ذلك السفر البعيد وتأخذ أهبتها لرحلة أخرى إلى ذلك المقصد الجديد فانظر فيما يلي المدخل إلى المقصد الثالث في خمس عشرة آية نيف وعشر من الآيات الكريمة هي بمثابة الدهليز بين الباب والدار يقطعها السائر في خطوات ثلاث الخطوة الأولى تقرير وحدة الخالق المعبود الخطوة الثانية تقرير وحدة الأمر المطاع الخطوة الثالثة (1/189)
فهرس إجمالي للأوامر والطاعات المطلوبة الخطوة الأولى تقرير وحدة الخالق المعبود لقد جاءت هذه الخطوة في أشد أوقات الحاجة إليها بين سابقها ولاحقها فإن ما مضى من تعظيم أمر الكعبة والمقام والصفا والمروة كان من شأنه أن يلقي في روع الحديث العهد بالإسلام معنى من معاني الوثنية الأولى في تعظيم الأحجار والمواد ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد وألا نترك هذا الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة وتمسح الطائفتين بأركانها وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة كل أولئك لا يقصد به الإسلام توجيه القلوب إلى هذه الأحجار والآثار تزلفا بعبادتها أو رجاء لرحمتها أو طلبا لشفاعتها وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس وتمكين محبتهم في القلوب باقتفاء آثارهم والتأسي بحركاتهم وسكانتهم حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها وحتى تنتظم منها أمة واحدة تدور حول محور واحد وتتجه إلى مقصد واحد هو أعلى المقاصد وأسماها وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو أتدرون من هو إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم ولكنه الرحمن الرحيم الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة إن في خلق السموات والأرض لآيات لقوم يعقلون والذي بيده القوة كلها والبأس كله لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب هذا من جانب المقصد الذي وقع الفراغ منه (1/190)
وأما من جانب المقصد الذي أقبلنا عليه فإن هذه الخطوة كانت أساسا وتقدمة لا بد منها قبل الشروع في تفصيل الأحكام العملية لتكون توجيها للأنظار إلى الناحية التي ينبغي أن يتلقى منها الخطاب في شأن تلك الأحكام ذلك أن المرء إذا عرف له سيدا واحدا وأسلم وجهه إليه وجب ألا يصدر إلا عن أمره ولا يأخذ التشريع إلا من يده ومن كانت له أرباب متفرقون وتنازعت فيه شركاء متشاكسون تقاضاه كل واحد منهم نصيبه من طاعته وكثرت عليه مصادر الأمر المطاع فأمر للآباء والعشيرة وأمر للعرف والعوائد الموروثة والمستحدثة وأمر للسادة والكبراء وأمر للشياطين والأهواء ولذلك عززها بالخطوة الثانية الخطوة الثانية تقرير وحدة الأمر المطاع وهي ركن من عقيدة التوحيد في الإسلام فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلها من دون الرحمن الذي بيده الخلق والرزق والضر والنفع كذلك من أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكما في سائر تصرفاتك بل تعتقد أن لا حكم إلا له وأن بيده وحدة الأمر والنهي والحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله ومن استحل حرامه أو حرم حلاله فقد كفر وكما أنه لا يليق أن يكون هو الخالق ويعبد غيره والرازق ويشكر غيره لا يليق أن يكون هو الحاكم ويطاع غيره يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان ولقد سلك في تقرير هذه الوحدة التشريعية نحوا من مسلكه في تقرير وحدة الإلهية فبدأها بأن تعرف إلى الناس بنعمة الله الشاملة ورحمته الكاملة في سهولة الشريعة وملاءمتها للفطرة إذ أنه في سعة الاختيار لم يحرم عليهم من الطعام إلا أربعة أشياء كلها رجس خبيث وأحل لهم ما وراء ذلك (1/191)
أن ينتفعوا بسائر ما في الأرض من الحلال الطيب وفي ضيق الاضطرار جعل المحظورات كلها تنقلب مباحات مرفوعا عنها الحرج فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم وناهيك بهذا الأسلوب تليينا للقلوب وحملا لها على الخضوع لأمر هذا الرب الرءوف بعباده أفمن يحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث أحق أن يطاع أم من يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ثم ختمها بتعريفهم مبلغ غضبه وانتقامه ممن يكتم أمر نهية ويبدلهما بغير ما أمر ونهي ويأخذ على ذلك الرشا والسحت أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم والناظر في منهج هذا التقرير إذا تأمل في وجه اختيار حديث المطاعم والمكاسب من بين ضروب الحلال والحرام يرى من لطائف موقعه هنا ما يعرف به أنه هو العروة الوثقى التي شد بها وثاق البيان وسدت بها الفروج بين خطواته السابقة واللاحقة فهو من الوجهة العملية أحد تلك الفروع التي سينتقل إليها الحديث عما قريب فذكره ه هنا يعد إشعارا بقرب الشروع في المقصد الجديد ثم هو من الجهة الاعتقادية يتصل اتصالا تاريخيا وثيقا بعقيدة التوحيد التي هو بصددها ذلك أن أهل الجاهلية من وثنيين وكتابيين لما اتبعوا خطوات الشيطان فازلهم عن توحيد المعبود حتى اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله لم يطل عليهم الأمد حتى فتح لهم باب التشريك في التشريع بعد التشريك في العبادة فجعلوا يحرمون من الحرث والأنعام حلالها ويحلون حرامها بل جعلوا عند ذبح أنعامهم يهلون بها لغير الله يهتفون بأسماء آلهتهم ويستحلون طعمتها بذلك فجمعوا فيها بين مفاسد (1/192)
ثلاث المعصية والبدعة والشرك الأكبر وكأن باب التحريم والتحليل في المطاعم والمكاسب كان هو أول باب فتح في الجاهلية للتشريع بغير إذن الله ولذلك كان هو أول باب سده القرآن بعد باب الشرك الأكبر فترى النهي عنه والنص عليه وبيان الحق فيه تاليا لذكر العقائد حتى في السور المكية كسورة الأنعام والأعراف ويونس والنحل وغيرها ومما زاد موقعه هنا حسنا أن مجيئه في سياق ذكر التوحيد وقع عدلا لمجيء حكم القبلة في سياق ذكر ملة إبراهيم فكلاهما فرع عظيم يتصل بأصل عظيم ألا ترى كيف ختم الكلام في شأنه بمثل ما ختم به هناك من وعيد المعاندين الذين يكتمون ما أنزل الله أو لا ترى كيف أن الإسلام جعل مسألتي القبلة والذبائح كليهما من الشعائر التي يتميز بها المسلم عن غيره كما يتميز بالشهادة والصلاة من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله على أن بدعة التحريم بالرأي في هذا الباب لم تقتصر على الفئة الخارجة عن الملة بل إن بعض المسلمين في عصر النبوة كادت تصيبهم عدوى الأمم قبلهم إذ هموا أن يترهبوا ويحرموا على أنفسهم الطيبات من الطعام وغيره لا تحريما لما أحل الله منها بل زهادة فيها وحملا للنفس على الصبر عنها بضرب من النذر أو اليمين أو العزيمة المصممة فرد عليهم القرآن هذا الابتداع وأغلق بابه إغلاقا حتى لا يكون مدرجة لما وراءه (1/193)
ونبههم إلى أن من قضية توحيدهم لله أن ينزلوا على حكمه فيما أحل لهم قياما فيه بشريعة الشكر كما نزلوا على حكمه فيما حرم عليهم قياما فيه بشريعة الصبر يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون فانظر كيف كان خطاب الناس عامة بهذا الأصل ولو أحقه توطئة لخطاب المؤمنين خاصة به وبما سيتلوه من الأحكام كما أن خطاب الناس عامة بأركان الإسلام في صدر السورة كان توطئة لما تلاه من خطاب بني إسرائيل خاصة بدعوتهم إلى الدخول فيه قلبا وقالبا هل ترى أحسن من هذا النسق المتقابل المتعادل والآن وقد أخذت النفس أهبتها لتلقي سائر الأوامر والنواهي انظر كيف خطا إليها الخطوة الثالثة والأخيرة الخطوة الأخيرة إجمال الشرائع الدينية وترى فيها عجائب من صنعة النسق انظر إلى حسن التخلص في ربطه بين المقصد القديم والمقصد الجديد على وجه به يتصلان لفظا وبه ينفصلان حكما فهو في جمعها لفظا كأنه يضع إحدى قدميك عند آخر الماضي وثانيتهما عند أول المستقبل ولكنه في تفريقها حكما بأداتي النفي والاستدراك كأنما يحول قدميك جميعا إلى الأمام ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن يقول إن مسألة تعيين الأماكن والجهات في مظاهر العبادات تلك المسألة التي شغلت بال المخالفين والمؤالفين نقدا وردا ليست هي كل ما يطلب الاشتغال به من أمر البر بل هي شعبة واحدة من جملة الشعب التي تشتمل عليها خصلة واحدة من جملة خصاله وإنما البر كلمة جامعة لخصال الخير كلها نظرية وعملية في معاملة المخلوق وعبادة الخلق وتزكية الأخلاق فبتلك الخصال جميعها فلتشغل المؤمنون المصادقون (1/194)
ثم انظر إليه حين أقدم على تفصيل تلك الخصال كيف أنه لم يقبل عليها دفعة واحدة بل أخذ يتدرج إليها في رفق ولين فتقدم بكلمة فوق الإجمال ودون التفصيل هي بمثابة فهرس لقواعد الإيمان ولشرائع الإسلام ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين وآتى المال على حبه وانظر إلى سرد قواعد الإيمان هنا كيف عدل بها عن ترتيبها المطبوع الذي راعاه في صدر السورة غير مرة فتراه هنا يجمع بين الطرفين الإيمان بالله واليوم الآخر وختم بالواسطة الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين ذلك لأن من هذه الوسائط تعرف الأحكام الشرعية وعن يدها تؤخذ فأخرها لتتصل بها تلك الأحكام حتى لا يحول بين الأصل وفرعه حائل ولذلك راعى ترتيب أركان هذه الواسطة فيما بينها فصدر بالملائكة وهم حملة الوحي وثنى بالكتاب وهو الوحي المحمول وثلث بالنبيين وهم مهبط الوحي ومن هناك اتصل ببيان تلك الشرائع التي وصلت إلينا عن طريق النبوة المقصد الثالث من مقاصد السورة في ست ومائة آية بعد إرساء الأساس تكون إقامة البنيان وبعد الاطمئنان على سلامة الخارج يجيء دور البناء والإنشاء في الداخل نعم لقد تم إصلاح العقيدة التي هي روح الدين وجوهره فليبدأ تفصيل الشريعة التي هي مظهر الدين وهيكله لقد أزيلت شبه المعاندين وأقيمت الحجة عليهم فلم يبق إلا إنارة السبيل للسالكين وإيضاح المحجة بين يديهم كانت العناية من قبل موجهة إلى بيان حقائق الإيمان فلتتوجه الآن إلى بسط شرائع الإسلام وأنت فقد رأيت كيف مهدت السورة لهذا التحول إذ وضعت (1/195)
برزخا يربط أطراف الحديث ويلتقي فيه سباقها وسياقها ولو أنك تلفت الآن التفاتة يسيرة إلى جنابك لرأيت أدنى هذا البرزخ إليك تلك الآية الجامعة آية البر التي انتظمت أصول الدعوة بشطريها النظري والعملي ولرأيت أدنى هذين الشطرين إليك هو هذا الشطر العملي فاعلم الآن أن هذا الشطر العملي الذي لمحناه من قبل مطويا في فهرس موجز سنراه فيما يلي مبسوطا في بيان مفصل ففي نيف ومائة آية سنرى فنا جديدا من المعاني مهمته رسم نظام العمل للمؤمنين وتفصيل الواجب والحرام والحلال لهم في شتى مناحي الحياة في شأن الفرد وفي شأن الأسرة وفي شأن الأمة بيانا مؤتنفا تارة وجوابا عن سؤال تاره أخرى متناولا في جملته عشرات من شعب الأحكام هذه الحكمة العامة في تأخير إقامة البنيان ريثما أرسيت قواعده وفي تأجيل الفروع حتى أحكمت أصولها ستبدو من ورائها حكم جزئية وأسرار دقيقة لمن أقبل على هذه الفروع ينظر إلى تلاصق لبناتها في بنيتها وتناسق حباتها في قلادتها ثم رجع ينظر في وجه التقابل بين ذلك الإجمال السابق وهذا التفصيل اللاحق فلنأخذ في استعراض الحلقات الرئيسية لهذه السلسة الجديدة لقد ختمت آية البر كما رأيت بخصلة من خصال البر ميزت في إعرابها تمييزا فكان ذلك تنويها بشأنها أي تنويه تلك هي خلة الصبر التي شعبتها الآية المذكورة إلى ثلاث شعب الصبر في البأساء والصبر في الضراء والصبر حين البأس فهل تعلم أنه الآن وقد بدئ دور التفصيل ستكون هذه الخصلة بشعبها الثلاث أول ما تعنى السورة بنشره من تلك الخصال وأنها ستنشرها نشرا مرتبا ترتيبا تصاعديا على عكس ترتيب الطي الصبر حين البأس ثم الصبر في الضراء ثم الصبر (1/196)
في البأساء وهل تعلم أن هذا النظام التصاعدي نفسه سيتبع في سائر الخصال الوفاء بالعهود والعقود ثم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والبذل والتضحية في سبيل الله إليك البيان مفصلا الصبر حين البأس لا تحسبنه هنا صبرا على الجروح والقروح في الحرب فذلك معنى سلبي استسلامي ولا تحسبنه صبرا في البطش والفتك بالأعداء فذلك جهد عملي إيجابي حقا ولكن مرده إلى قوة العضل والعصب لا إلى قوة الخلق والأدب ليس الشديد بالصرعة ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب هكذا سيختار الله لنا من مثل الصبر أمثلها ومن موازينه أوزنها في معايير القيم ذلك هو ضبط النفس حين البأس كفا لها عن الاندفاع وراء باعثة الانتقام وردعا لها عن الإسراف في القتل ووقوفا بها عند حد التماثل والتكافؤ العادل القصاص وإذ كانت تداعي المعاني يسوقنا من الحديث عن القتلى إلى الحديث عمن هم بشرف الموت ناسب تتميم الكلام ببيان ما يجب على المحتضر من الوصية لأقاربه برا بهم الوصية الصبر في الضراء وكذلك سيختار الله لنا من أبواب الصبر في الضراء أعلاها ليس الصبر على الأمراض والآلام بإطلاق ولكنه الصبر على الظمأ والمخمصة في طاعة الله الصوم وينساق الحديث من الصوم المؤقت عن بعض الحلال إلى الصوم الدائم عن السحت والحرام الصبر على البأساء وعلى هذا النمط نفسه سترى الصبر في البأساء هنا ليس هو ذلك الصبر الاضطراري على الفقر والأزمات المالية والجوائح السماوية (1/197)
ولكنه الصبر الاختياري على التضحية بالأموال إنفاقا لها في سبيل الله والمثال الذي يختاره التنزيل الحكيم هنا مثال مزدوج ينتظم الصبر في البأساء والضراء جميعا إذ يجمع بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال الحج إلى بيت الله ولا تنس ها هنا أن تنظر إلى المعبرة اللطيفة التي انتقل بها الحديث من الصوم إلى الحج تلك هي مسألة الأهلة التي جعلها الله مواقيت للصوم وللحج جميعا ولنقف بك ها هنا وقفة يسيرة نشير فيها إلى أن شأن عجيب من شؤون النسق القرآني في هذا الموضع ذلك أنه حين بدئ بذكر الحج لم تتصل به أحكامه ولاء بل فصل بين اصمه وحكمه بست آيات في أحكام الجهاد بالنفس والمال في قتال الأعداء فاصلة يحسبها الجاهل رقعة غريبة في ثوب المعنى الجديد ولكن الذي يعرف تاريخ الإسلام وأسباب نزول القرآن يعرف ما لهذه الفاصلة من شرف الموقع وإصابة المحز لا لمجرد الاقتران الزماني بين تشريع الحج وبين غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ولكن لأن أداء المناسك في ذلك العام كان عزما لم ينفذ وأملا لم يتحقق إذ أحصر المسلمون يؤمئذ عن البيت وهموا أن يبطئوا بأعدائهم الذين صدوهم عنه لولا أن الله نهاهم عن البدء بالعدوان وأمرهم ألا يقاتلوا في المسجد الحرام إلا من قاتلهم فيه فانصرفوا راجعين مستسلمين لأمر الله منتظرين تحقيق وعد الله فكذلك فلينصرف القارئ أو المستمع ها هنا وهو متعطش لإتمام حديث الحج على أن يعود إليه بعد فاصل كما انصرف المسلمون إذ ذاك عن مكة وهم إليها متعطشون على أن يعودوا إليها من عام قابل هكذا كانت هذه الآيات الفاصلة (1/198)
تذكارا خالدا لتلك الأحداث الأولى وهكذا كان القرآن الحكيم مرآة صافية نطالع فيها صور الحقائق من كل لون نقتبسها طورا من تصريح تعبيره وطورا من نهجه وأسلوبه في تعجيل البيان أو تأخيره ثم كانت هذه الآيات الفاصلة في الوقت نفسه درسا عمليا في صبر المتعلم على أستاذه لا يعجله بالسؤال عن أمر في أثناء حديثه ولكن يتلبث قليلا حتى يحدث له منه ذكرا في ساعته الموقوتة وهكذا لن يطول بنا الانتظار حتى نرى أحكام الحج والعمرة تجيء في إثر ذلك على شوق وظمأ فتشبع وتروى بالبيان الشافي الوافي وبتمام هذا البيان تتم الحلقة الأولى من الأحكام أعني فريضة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس استجمامة وشاءت حكمة الله وتلطفه بنا في تربية نفوسنا على طاعة أمره ألا يصعد بنا إلى الحلقة الثانية من فورنا هذا ولكن بعد استرواحة فيها شيء من الموعظة العامة يثبت بها القلوب على ما مضى ويوطئ لها السبيل إلى ما بقي وكان من حسن الموقع لهذه الموعظة العامة أنها اتصلت بالموعظة الخاصة التي ختم بها حديث الحج والتي قسمت الناس من حيث آمالهم ومطامحهم إلى فريقين فريق يطلب خير الدنيا ولا يفكر في أمر الآخرة وفريق لا تنسيه دنياه مصالح أخراه فجاءت الموعظة العامة تقسم الناس من حيث ما فيهم من خلق الأثرة أو الإيثار إلى فئتين فئة لا تبالي أن تضحي في سبيل أهوائها بحياة العباد وعمران البلاد وفئة على العكس من ذلك لا تضن أن تضحي بنفسها في سبيل مرضاة الله وتخلص الآيات الحكيمة من هذا التقسيم إلى توجيه النصح للمؤمنين بأن يخلصوا نفسهم من شوائب الهوى ويستسلموا بكليتهم لأوامر الله دون تفريق بين بعضها وبعض محذرة إياهم من الذلل عنها بعد أن هدوا إليها ووقفوا عليها معزية لهم عما قد (1/199)
يصيبهم من البأساء والضراء في سبيل إقامتها ضاربة لهم المثل في ذلك بسنة السلف الصالح من الأمم السابقة هنا تمت الاسترواحة بالموعظة العامة وستكون الحلقة التالية في تفصيل الخصلة الثانية من الخصال العملية التي أجملت في آية البر وهي الوفاء بالعهود والعقود وستختار من بين هذه العقود أحقها بالعناية والرعاية عقدة الزواج وما يدور حول محورها من شؤون الأسرة أليست الأسرة هي المجال الأول للتدريب على حسن العشرة وعلى التنزه من زذيلة الأنانية والأثرة ثم أليست الأمور متى استقامت في هذا المجتمع الصغير استقامت بالتدريج في المجتمع الكبير ثم في المجتمع الأكبر ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية هل يصعد القرآن بنا توا إلى تفصيل هذه الشؤون المنزلية المشتبكة المتشعبة كلا إن هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة تتصل أوائلها بالأحكام الماضية الإنفاق والجهاد وتتصل أواخرها بالأحكام التالية مخالطة اليتامى وشرائط المصاهرة وموانع المباشرة وهكذا نصل في رفق ولين دون اقتضاب ولا ابتسار إلى صميم الحلقة الثانية حيث نتلقى في شأن الحياة الزوجية دستورا حكيما مؤلفا من شطرين شطره الأول يعالج شؤون الأسرة (1/200)
في أثناء اتصالها وشطره الأخير يعالج شؤونها في حال انحلالها وانفصالها فخذ هذه الحلقة الجديدة من السورة الكريمة وتعرف أسباب نزولها وانظر كيف كانت كل قضية منها فتيا في حادثة معينة منفصلة عن أخواتها ثم عد لتنظر في أسلوبها البياني جملة وحاول أن ترى عليه مسحة انفصال أو انتقال أو أن تحس فيه أثرا لصنعة لصق أو تكلف لحام واعلم منذ الآن أنك ستحاول عبثا فإن لن تجد أمامك إلا سبيكة واحدة يطرد فيها عرق واحد ويجري فيها ماء واحد على رغم أنها جمعت من معادن شتى تأمل أول كل شيء في خط سير المعاني انظر كيف استهل الحديث بإرساء الأساس وذلك بتقرير حق العشرة والمخالطة الزوجية ثم انظر كيف تلاه النهي عن إدخال اليمين في أمثال هذه الحقوق المقدسة سواء بالحلف على منع البر عن مستحقه أو على قطع ما أمر الله به أن يوصل وكيف عقبه بحكم فرع من فروع هذا المبدأ متصل بالعلاقة الزوجية وهو حكم من حلف على الامتناع عن زوجته وكيف اتصل من هنا بأحكام الطلاق وما يتبع الطلاق من حقوق وواجبات فإذا أعجبك هذا التسلسل المعنوي وهذا التدرج المنطقي في شؤون كانت متفرقة ارتجلتها الحوادث ارتجالا فتعال معي لأضع يدك في هذه القطعة على حرف واحد تلمس فيه مبلغ الإحكام في التأليف بين هذه المتفرقات حتى صارت شأنا واحدا ذا نسق واحد ذلك هو موضع النقلة من فتيا الإيلاء إلى فتيا الطلاق وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربصن ألا ترى كيف أدير الأسلوب في حكم الإيلاء على وجه معين يطل القارئ منه على (1/201)
أفق متلبد ينذر باحتمال الفراق فلما جاء بعده الحديث عن أحكام الفراق لم يكن غريبا بل وجد مكانه مهيأ له من قبل كأن خاتمة حكم الإيلاء كانت بمثابة عروة مفتوحة تستشرف إلى عروة أخرى تشتبك معها فلما جاءت فتيا الطلاق في إبانها كانت هي تلك العروة المنتظرة وما هو إلا أن التقت العروتان حتى اعتنقتا وكانت منهما حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها وهكذا أصبح الحديثان حديثا واحدا ترى من علم محمدا لو كان القرآن من عنده أنه سوف يستفتى يوما ما في تلك التفاصيل الدقيقة لأحكام الطلاق ومن علمه أنه سيجد لهذا السؤال جوابا وأن هذا الجواب سيوضع في نسق مع حكم الإيلاء وأنه ينبغي لاستقامة النسق كله أن يساق حكم الإيلاء الذي وقع الاستفتاء فيه الآن على وجه يجعل آخر شقيه هو أدناهما إلى حديث الطلاق الذي سوف يسأل عنه بعد حين لكي ينضم الشكل إلى شكله متى جاء وقت بيانه هيهات أن يحوم علم البشر حول هذا الأفق الأعلى فإنما ذلك شأن عالم الغيب الشهادة الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وتمضي السورة في هذا النمط الجديد مفصلة آثار الطلاق وتوابعه كلها عدة ورجعة وخلعا ورضاعا واسترضاعا وخطبة وصداقا ومتعة إلى تمام هذه الحلقة الثانية وهنالك تبدأ الحلقة الثالثة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلننظر كيف تمت النقلة بين هاتين الحلقتين إننا بمقدار ما رأينا من التلبث والتمكث والاستجمام والتنفس بين الحلقة الأولى والثانية سنرى على عكس ذلك بين الحلقة الثانية والثالثة نقلة شبه خاطفة بل لفتة جد مباغتة قد يحسبها الناظر اقتضابا وما هي باقتضاب إلا في حكم النظر السطحي أما من تابع معنا سير قافلة (1/202)
المعاني منذ بدايتها وقطع معنا ثلثي الطريق الذي رسمته آية البر من الوفاء بالعهود والصبر في البأساء والضراء وحين البأس فإنه لا ريب سوف يستشرف معنا إلى ثلثه الباقي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبذل المال على حبه في سبيل الله وسوف يرى أن هذه الحلقة الثالثة قد جاءت هنا في رتبتها وفي موضعها المقدر لها وفق ترتيبها في الآية الجامعة سيقول قائل نعم لقد جاءت في موضعها ورتبتها ولكن الانتقال إليها قد تم دون إعداد نفسي ولا تمهيد بياني نقول بل كان هذا الإعداد والتمهيد في الآية الكريمة التي ختمت بها الحلقة السابقة وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير فهذه لو تدبرت معبرة ذهبية وضعت في وقت الحاجة إليها بعد أن استطال الحديث في تفصيل الحقوق والواجبات المنزلية معبرة جيء بها لتنقلنا من ضوضاء المحاسبة والمخاصمة إلى سكون المسامحة والمكارمة فكانت معراجا وسطا صعد بنا إلى أفق أعلى تمهيدا للعروج بنا فيما يلي إلى الأفق الأعلى ألا تسمع إلأى هذه الكلمات ولا تنسوا الفضل بينكم لا تنسوا الفضل بينكم إن كل حرف في هذه الكلمات ينادي بأنها كلمات حبيب مودع كان قد أقام بيننا فترة ما ليفصل في شؤوننا ثم أخذ الآن يطوي صحيفة أحكامه ليتحول بنا عنها إلى ما هو أهم منها فقال لنا وهو يطويها دعوا المشادة في هذه الشؤون الجزئية الصغرى سووها فيما بينكم بقانون البر والفضل الذي هو أسمى من قانون الحق والعدل وحولوا أبصاركم معي إلى الشؤون الكلية الكبرى التي هي أحق بأن يتوفر عليها العزم والقصد وأحرى أن يشتغل بها العقل والقلب نعم نعم لقد كفاكم هذا حديثا عن حقوق الزوج والولد فاستمعوا الآن إلى الحديث عن حقوق الله والوطن حافظوا على الصلاة أنفقوا في سبيل الله جاهدوا في سبيل الله (1/203)
وبعد فهل حديث الصلاة هنا يعتبر مقصدا أصليا مستقلا أم هو جزء من مقصد آخر لكي نحسن الجواب عن هذا السؤال يجمل بنا أن نرجع البصر كرة أخرى لننظر في جملة الخصال التي جمعت في آية البر والتي فصلت في الآيات من بعدها إلى قرب آخر السورة ولنقارن بين حظوظها من عناية الذكر الحكيم فماذا نرى نرى التنويه بفضيلتي الإنفاق والجهاد في سبيل الله لا يزال يعاد ويردد في مطالع الحديث ومقاطعه في إجماله وفي تفصيله ترديدا ينادي بأنه هو المقصود الأهم والهدف الأعظم من التشريع في هذه السورة فلو أننا في ضوء هذا الأسلوب تمثلنا تلك البيئة وأحداثها وتمثلنا القوم وهم تتلى عليهم شرائع هذه السورة وأحكامها لتمثلنا معسكرا ثابتا للجهاد المزدوج المالي والبدني ولتمثلنا على رأس هذا المعسكر قائدا يقظا حريصا لا يعزب عنه شأن من شؤون جنوده خاصها وعامها ولا يفتأ يلقي عليهم أوامره وإرشاداته في مختلف تلك الشؤون كلما فرغ من إفتائهم في نوازلهم العارضة الوقتية رجع بالحديث إلى مجراه العتيد في شأن مهتمهم الرئيسية ضع هذه اللوحة الجندية أمام عينيك فلن يكون عندك عجبا أن ترى الحديث في شأن الجهاد يبرز الآن على إثر تلك الشؤون ذلك أن بساطه كان أبدا منشورا وأن داعيته كانت دائما قائمة فإذا عاد ذكره بعد أن زال ما حوله من الشواغل الوقتية فإنما يجيء على أصله وسجيته فلا يسأل عن علته ماذا نقول شأن الجهاد أليس الحديث سيفتتح الآن بشأن الصلاة وعدة الوفاة لا بشأن الجهاد بل نقول ونحن نعني ما نقول إن الحديث يعود الآن إلى شأن (1/204)
الجهاد وإن الخطاب هنا بالصلاة وغيرها يتوجه إلى المجاهدين من حيث هم مجاهدون ليحل المشاكل التي يثيرها موقف الجهاد نفسه قبل أن يوجه إليهم الأمر الصريح بالقتال فأول هذه المشاكل مشكلة الصلاة في الحرب ألا يكون الجهاد رخصة في إسقاط هذا الواجب أو في تأجيله يجيبنا الكتاب العزيز لا رخصة في ترك الصلاة ولا في تأجيلها لا في سلم ولا في حرب لا في أمن ولا في خوف حافظوا على الصلوات وإنما الرخصة عند الخوف في شيء واحد في صفات الصلاة وهيأتها فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون والصلاة كما نعلم قوة معنوية على العدو وعدة من عدد النصر لا جرم كان من الحكمة أن تزود بها أرواح المجاهدين قبل أن يؤمروا بالقتال أمرا صريحا والصلاة في الوقت نفسه طهرة للنفس من مساوئ الأخلاق تنقيها من دنس الشح والحرص على حطام الدنيا لا جرم كان من الحكمة كذلك جعلها دعامة للوصية الآنفة التي أمرتنا بالتسامح والتكارم في المعاملات هكذا كان وضع حديث الصلاة مزدوج الفائدة دواء وغذاء معا ينظر إلى الأمام وإلى الوراء جميعا بل قل إنه مثلث الفائدة لأنه في نظره إلى الخلف لا ينظر إلى الآية الآنفة وحدها بل ينظر كذلك إلى الآية الجامعة ليفصل إجمالها في هذا الجانب (1/205)
والجندي في الحرب تشغله على الأقل مخافتان مخافة على نفسه وعلى المجاهدين معه من أخطار الموت أو الهزيمة ومخافة على أهله من الضياع والعيلة لو قتل لذلك انساق البيان الكريم يطرد عن قلبه كلتا المخافتين أما أهله فقد وصى الله للزوجة إذا مات زوجها بأن تمتع حولا كاملا في بيته وكذلك مطلقته سيتقرر لها حق في المتعة لا ينسى فليقر عينا من هذه الناحية وأما خوف الموت فليعلم أن الذي يطلب الموت قد توهب له الحياة ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وأما خوف الهزيمة فإن النصر بيد الله وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وتلك سنة الله في المرسلين هكذا أبعدت المخاوف كلها عن قلوب المجاهدين بعد أن زودت أرواحهم بزاد التقوى وهكذا أصبحوا على استعداد نفسي كامل لتلقي الأوامر العليا فليصدر إليهم الأمر صريحا بالجهاد في سبيل الله (1/206)
بأموالهم وأنفسهم ولتفصل لهم العبر التاريخية التي تثبت أقدامهم حين البأس والتي تزيدهم أملا في النصر والجهاد كما فلنا جهادان جهاد بالنفس وجهاد بالمال وليس الجهاد بالمال وقفا على شؤون الحرب بل هو بذله في كل ما يرفه عن الأمة ويقوي شوكة الدولة ويحمي حمى الملة ولقد أخذ الجهاد بالنفس حظه من الدعوة في آية قصيرة ثم في آيات كثيرة وأخذ الجهاد بالمال بعض حظه في آية قصيرة فمن العدل أن يأخذ تمام حظه في آيات كثيرة كذلك وهكذا نرى الدعوة إليه تأخذ الآن قسطها مطبوعا بطابع الشدة تارة وطابع اللين تارة وطابع التعليم المفصل (1/207)
لآداب البذل تارة أخرى ثم ينساق الحديث من فضيلة التضحية والإيثار التي هي أسمى الفضائل الاجتماعية إلى رذيلة الجشع والاستئثار التي هي في الطرف المقابل أحط أنواع المعاملات البشرية أعني رذيلة الربا التي تستغل فيها حاجة الضعيف ويتقاضى فيها المحسن ثمن المعروف الذي يبذله وكان هذا الاقتران بينهما في البيان إبرازا لمدى الافتراق بين قيمتهما في حكم الضمائر الحية وبين هذين الطرفين المتباعدين يقيم القرآن ميزان القسط في الحد الأوسط جاعلا لصاحب الحق سلطانا في المطالبة برأس ماله كله لا ينتقص منه شيء لا تظلمون ولا تظلمون غير أنه يحذرنا من سوء استعمال هذا الحق بإزاء المعسرين فيأمرنا أن نتخذ فيهم إحدى الحسنيين إما الانتظار إلى الميسرة وإما التنازل لهم نهائيا عن الدين وهذه أكرم وأفضل وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ولما كان الطابع البارز في هذا التشريع القرآني وهو طابع القناعة والسماحة قد يوحي إلى النفوس شيئا من التهاون في أمر المال روبما مال بها إلى التفريط في حفظه وتثميره جاءت آيتا الدين والرهان تدفعان عن نفوسنا هذا التوهم وتصوغان للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل تمهيدا لإنفاقها في أحسن الوجوه فمن لم يجد سبيلا إلى التوثيق بوثيقة ما ولم يبق أمامه إلا أن يكل عميله إلى ذمته وأمانته فليؤد الذي اؤتمن أمانته وهكذا ختم الشطر العملي من السورة بهذه القاعدة المثلى التي هي (1/208)
أساس كل معاملة شريفة أعني قاعدة الصدق والأمانة جعلنا الله من أهل الصدق والأمانة آمين المقصد الرابع من مقاصد السورة في آية واحدة في الآية السابقة انتهت مهمة الأحكام التفصيلية عند الحد الذي أراد الله بيانه في هذه السورة وبها ختم الشطر الثاني من الحقيقة الدينية وهو شطرها العملي بعد أن أرسى شطرها الاعتقادي في الآي وما بعدها وهكذا تناول البيان حتى الآن حقائق الإيمان شرائع الإسلام هل بقي في بنيان الدين شيء فوق هذه الأركان نعم لقد بقيت ذروته العليا وحليته الكبرى بعد الإيمان والإسلام بقي الإحسان وهو كما فسره صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه أن تراقب الله في كل شأنك وأن تستشعر مشاهدته لك في سرك وإعلانك وأن تستعد لمحاسبته لك حتى على ذات صدرك ودخيلة نفسك مطلب عزيز لا يطيق الوفاء به كل مؤمن ولا كل مسلم وإنما يحوم حول حماه صفوة الصفوة من المتقين وكأنه لعزة هذا المطلب ونفاسته صان الله درته اليتيمة في هذه الآية الواحدة التي توج بها هامة السورة وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الخاتمة في آيتين اثنتين والآن وقد تناول البيان أركان الدين كلها وألم بعناصره جميعها الإيمان والإسلام والإحسان لم يبق بعد تمام الحديث إلا طي صحيفته وإعلان ختامه (1/209)
فهل تعرف كيف طويت صحيفة هذه السورة وكيف أعلن ختامها لنعد بذاكرتنا إلى الآيات الخمس التي افتتحت بها سورة البقرة لنرى كيف تتجاوب تلك المقدمة مع هذه الخاتمة ثم كيف يتعانق الطرفان هكذا ليلتحم من قوسيهما سور محكم يحيط بهذه السورة فإذا هي سورة حقا أي بنية محبوكة مسورة ألم يكن مطلع السورة وعدا كريما لمن سيؤمن بها ويطيع أمرها بأنهم أهل الهدى وأهل الفلاح ألسنا نترقب الآن صدى هذا الوعد بلى إننا ننتظر الآن أن تحدثنا السورة هل آمن بها أحد وهل اتبع هداها أحد ثم ننتظر منها إن كان ذلك قد وقع أن تحدثنا عن جزاء من استمع واتبع وهكذا سيكون مقطع السورة بلاغا عن نجاح دعوتها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون وقالوا سمعنا وأطعنا وفاء بوعدها لكل نفس بذلت وسعها في اتباعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فتحا لباب الأمر على مصراعيه أمام هؤلاء المهتدين فليبسطوا إذا أكفهم مبتهلين ربنا ربنا ربنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين تلك هي سورة البقرة أرأيت وحدتها في كثرتها أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها أرأيت كيف التحمت لبناتها من غير ملاط يمسكها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها أرأيت كيف انتظم من رأسها وصدرها وأحشائها وأطرافها لا أقول أحسن دمية بل أجمل صورة(1/210)
حية كل ذرة في خليتها وكل خلية في عضوها وكل عضو في جهازه وكل جهاز في جسمه ينادي بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقا لحظ جامع مرسوم رسمه مربي النفوس ومزكيها ومنور العقول وهاديها ومرشد الأرواح وحاديها ..فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها لكان جمع شتاتها على هذه الصورة معجزة فكيف وكل نجم منها كسائر النجوم في سائر السور كان يوضع في رتبته من فور نزوله وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله وهكذا كان ما لم ينزل منها معروف الرتبة محدد الموقع قبل ان ينزل ثم كيف وقد اختصت من بين السور المنجمة بأنها حددت مواقع نجومها لا قبل نزولها بعام أو بعض عام بل بتسعة أعوام
لعمري لئن كان للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات وفي أساليب تربيته معجزات وفي نبوءاته الصادقة معجزات وفي تشريعاته الخالدة معجزات وفي كل ما استخدمته من حقائق العلوم النفسية والكونية (معجزات) ومعجزات لعمري إنه في ترتيب آيه على هذا النحو لهو معجزة المعجزات(1/211)