اعترافات ..
كنت قبوريًا
للأستاذ : عبد المنعم الجداوي
((الخرافة )) عجوز متصابية تتعلق بصاحبها ... !…
(( التوحيد )) يهدم أولاً .. ثم يبني من جديد ..!…
ليس سهلاً أن يتراجع (( القبوري)) ..!…
(( التوحيد )) يحتاج إلى إرادة واعية ... !…
تردّدت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات لأكثر من سبب .. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب ، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة .. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون : ما لنا ولتخريف أحد معظِّمي القبور .. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي .. فيقرأون اعترافاتي فيفهمون ، ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة - وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس - ما دام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد .. ؟ …
ولقد كنت من كبار معظّمي القبور ، فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أو ضريح لشيخ عظيم إلا وأهرع فوراً للطواف به ... سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها .. أحياناً أخترع لهم كرامات ... أو أتصورها .. أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام .. كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور ..وإذا شُفيت زوجتي ، كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله !..
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي ، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلان والنشر عن جمعية العزيز بالله القاهرية ، والتي تضم مساجد أخرى ، ورسالتها الأولى ((التوحيد ))، وتصحيح العقيدة ، وبحكم اللقاءات المتكررة .. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله .. وهاجم (( الدكتور جميل )) في بساطة ، وبعقلانية شديدة هذا المنحنى المخيف في العقيدة ، وسماه : شركاً بالله ؛ وذلك لأن العبد في غفلة من عقله يطلب المدد والعون من مخلوق ميت!!..(1/1)
أفزعني الهجوم ، وأفزعتني الحقيقة .. وما أفزع الحقيقة للغافلين ... ولو أن (( الدكتور جميل )) اكتفى بذلك لهان الأمر .. لكنه في كل مرة يخطب لا بدّ أن يمس الموضوع بإصرار .. فالضّريح لا يضم سوى عبد ميت فقط .. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضرّ ..!
* في أول الأمر اهتززت .. فقدت توازني .. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً .. شيء ما يجثم فوق صدري .. يقيد أحاسيسي ومشاعري .. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر ... هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام ؟ ..أم أن صديقي (( الدكتور )) قد بالغ في الأمر .. فأنا أعتقد أن كل من نطق بالشهادة لا يمكن أن يكون كافراً لهفوة من الهفوات أو زلةٍ من الزلات .. !
شيءآخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء ... إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء ، والخطباء على المنابر صباح مساء .. يعلنونها صريحة : إن الذي يؤذي ولياً .. فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى ، وهناك حديث صحيح في هذا المعنى .. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة ؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه - جل جلاله- ...!…
وقلت : إن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم .. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب ((الغزالي)) (( إحياء علوم الدين )) ، وصفحات أخرى من كتاب (( لطائف المنن ))(لابن عطاء الاسكندري )،وحفظت عن ظهر قلب الكرامات ، وأسماء أصحابها ، ومناسبات وقوعها ، وذهبت الجمعة الثانية ، وكظمت غيطي وأنا أستمع إلى الدكتور ، فلما انتهى من الدرس وأصرَّ على أن يدعوني لتناول طعام الغداء، وبعدالغداء .. تسلمته هجوماً بلا هوادة ، معتمداً على عاملين :…
الأول : هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات .…(1/2)
والثاني : أنني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين ؛ لأنني في بيته ! وتناولت طعامه فأمنت غضبه ، وقلت له : والآتي هو المعنى ، وليس نص الحوار : (( إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء ، والشفافية ، وأنهم رجال أخلصوا لله .. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات وأن .... وأن ... وأن .. وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي .. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله .. وإذا به يقول : …
• هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله ..؟……… • قلت مذهولاً : لا ..……
-إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء ... أو يطير في الهواء .. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض .. ورسول الله لم يفعل ذلك .. ؟…
كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي .. لكنه التعصب - قاتله الله - !! كَبُرَ عليّ أن أسلّم بهذه البساطة ، كيف ألقي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً .. قد تكون مغلوطة .. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة ، ولا حقيقة سواها !! …
*وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي .. وأعود إلى (( الدكتور )) ، ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل - فقد كنتُ من كبار عشاق الصوفية .. لماذا ؟ لأني أحب أشعارهم وأحبّ موسيقاهم ، وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي ، وخليط من ألحان قديمة متنوعة ... شرقية ، وفارسية ، ومملوكية ، وطبلة إفريقية أحياناً تدقّ وحدها .. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين ، مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السَّحر ..!(1/3)
لهذا وللأسباب الأخرى .. أحببت الصوفية .. وكنت أعشقها ، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها ..لاسيما (( ابن الفارض ))، وكل حجتي التي أبسطها في معارضة (( الدكتور )) ، أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى (( التوحيد )) لا يريدون للدين روحاً ، وإنما يجردونه من الخيال ، وأنهم لا بد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات ؛ لكي يدركوا ما هي الكرامات .. ! فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر ، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب - وهذا أسلوب صوفي - أيضاً - في الاستدلال ، ولهم بيت شهير في هذا المعنى!.
وحتى لا يضطرب وجداني ، وتتمزق مشاعري ... حاولت أن أنقطع عن لقاء (( الدكتور )) .. ولكنه لم يتركني .. فوجئت به يدق جرس الباب ، ولم أصدق عيني .. كان هو .. قد جاء يسأل عني .. وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً .. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه ... قلت له بصراحة :
- لقد يئست منك !..…
قال : ولكني لم أيأس منك .. أنت فيك خير كثير للعقيدة .
قلتُ : إنه يستدرجني على طريقته ، ولمحت معه كتاباً من وضعه عن سيرة الإمام (( محمد بن عبد الوهاب ))
فقلت له : أعطني هذه النسخة .. هل يمكن ذلك ... ؟
قال : هذه النسخة بالذات ليست لك ، وسوف أعدك بواحدة .
وهذه هي طريقته للإثارة دائماً .. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة .. فخطفتُ النسخة ، ورفضت إعادتها له !..
… * وبعد منتصف الليل بدأت القراءة .. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً .. فلم أنم حتى الصباح !..
كان الكتاب - على حجمه المتواضع - كالإعصار ، كالزلزال .. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة .. حكاية الشيخ (( محمد بن عبد الوهاب )) نفسه .. ثم قصة دعوته ، وما كابده من معاناة طويلة .. حينما كانت في صدره حنيناً ، وكلما(1/4)
قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور . فإذا أغلقت الكتاب لأمر من الأمور يتطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى .. استشعرت الذنب؛ لأنني تركت الشيخ في (( البصرة )) ولم أصبر حتى يعود .. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى ( كردستان ) .. ولا بد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده !..
يقول الدكتور في كتابه (( مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب )) .
وبعد هذا التطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة ..؟ لا ، فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر .. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً ممضّاً ، لما أصاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم .
عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار .
لماذا لا يدعو الناس إلى الله ؟
لماذا لا يذكرهم بهدي رسول الله .. ؟
لماذا ... لماذا ...
إذًا ، فهذه العقيدة التي يريدها (( الدكتور)) لم تأت من فراغ ... فمنذ القرن الثاني عشر الهجري ... والإمام محمد بن عبد الوهاب ... يُفكّر ، ويقدّم ؛ لكي يهدم صروح الأضرحة ، ويحطّم شبح الخرافات ، ويُطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء...بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسة ، تخلع قلوب المؤمنين ... إذا فكروا في إزالتهاوفي ذلك يقول الكاتب : (( ماذا كان وقْع هذه الأعمال على نفوس القوم ..)) .
ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه (( مشاهداتي في جزيرة العرب )) (( إن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار ، وهدم القباب ، بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل ، حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده ..!)) .(1/5)
هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته .. ؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة ( العُيَيْنة ) : موطن الشيخ ، يتركونه يزيل الأشجار ، وقبة قبر ( زيد بن الخطاب ) بنفسه .. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المختلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها .
ومضيت أقرأ ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً .. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوةً كبيرةً داخلي قد انفتحت ، وتسلل منها ومعها نور اليقين .. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشعش في داخلي .. كان الشعاع يُومض لحظة ويختفي لحظات ..!
* لقد استطاع (( الدكتور )) أن ينتصر ... تركني أحارب نفسي بنفسي ، بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهاب ، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده ، وحوله، وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في ( العيينه )..غضب حاكم (( الإحساء )) ( سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي ) ، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها ... فكتب إلى حاكم العيينه (( ابن معمر )) يأمره بكتم أنفاسها ، وقتل المنادي بها ، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات .
ولما كان (( ابن معمر )) قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة ... فقد زوجه ابنته ... فإنه تردد في قتله ، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق ، وقرأ عليه رسالة حاكم (( الإحساء )) ثم رسم اليأس كله على ملامحه ، وقال له : إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم (( الإحساء )) ، لأنه لا قِبَل له به .... ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان (( ابن معمر )) ... ولم تزد الشيخ إلا إصرارًا على عقيدته ، وقوة توحيده .. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق .. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر ( العيينة )..مهاجراً في سبيل الله بتوحيده .. باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها !..
في الصباح استيقظتُ على ضجة في البيت غير عادية .. واعتدلت في فراشي ،(1/6)
ووصَلَتْ إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة ، ولا حيوانية خالصة .. ثغاء ، وصياح ، وكلام ..غير مفهوم العبارات .. وقلت : لا بد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل .. فتأكدت من يقظتي ، ولكن (( الثغاء )) هذه المرة اخترق طبلة أذني .. ودخلت عليّ زوجتي تحمل إليَّ أنباء سارةً جدًا ... وهي تتلخص في أن ابنة خالتي ـ التي تعيش في أقصى الصعيد ، ومعها زوجها ، وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات ـ قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً، ومعهم (( الخروف )) ...!
وظننت أن زوجتي تداعبني .. أو أن ابنة خالتي - وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى -، قد أطلقت على طفل لها اسم ( خروف ) لكي يعيش مثلاً . وهي عادات معروفة في الصعيد . وقبل أن أتبين المسألة .. أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي .. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب (( خروف )) له فروة ، وقرون ، وأربعة أقدام ... واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له .. فحطّم ما اعترض طريقه .. ثم اتجه إلى المرآة ، وفي قفزة (( عنترية )) اعتدى على المرآة بنطحة قوية ، تداعت بعدها ، واحدثت أصواتاً عجيبة ، وهي تتحطم !..
تَمَّ كل ذلك في لحظة سريعة .. وقبل أن استرد أنفاسي ، وخيل إليّ أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات .. رغم أنني أسكن في العباسية ، والحديقة في الجيزة .. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير ، وخشيت زوجتي ثورة (( الخروف )) ، وتضاءلت فانزوت في ركن .. ترمقني بعينيها ، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون .. الذي اقتحم علينا خلوتنا .. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من صياج الحيوان .. ولمحت في عينيه ، وفي قرنيه الموت الزؤام .. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران ، وأمسكت بملاءة السرير ، وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع (( الخروف )) دخلت ابنة خالتي وهي في حالة انزعاج كامل .. فقد خيل لها أنني سوف أقتله ... وصاحت - وهي على يقين من أنني سأصرع :(1/7)
- حاسب ، هذا خروف (( السيد البدوي)) .
ونادته فتقدّم إليها في دلال ، وكأنه الطفل المدلّل .. فأمسكت به تُربتُ على رأسه ، وروت لي أنها قدمتْ من الصعيد ، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي انفقت في تربيته ثلاثة أعوام هي عمر ابنها؛ لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها .. أن تذبح على أعتابه (( خروفاً )) ، وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر !..
* كانت تقول كل هذه العبارات وهي سعيدة .. وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها ، وهو في ابتهاج عظيم .. يطلب مني أن أرافقهم إلى (( طنطا )) .. لكي أرى هذا المهرجان العظيم ؛ لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف .. فأما الذي على مقربة من (( السيد البدوي )) فإنهم يبعثون بِجِمال .. وأصبح عليّ أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها ، وإلا اعتُبرت قاطعاً للرحم ... لا يهمني أن يعيش ابن خالتي أو يموت، ولا بد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك ، وفي نفس الوقت كنت أسأل نفسي .. كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر .. ؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات ... ؟
وقلت : أبدأ بزوجها أولاً ؛ لأن الرجال قوامون على النساء .. وأخذت الزوج إلى زاوية في البيت ، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب : (( الإمام محمد بن عبد الوهاب )) .. ومدّ يده فجعل الغلاف في ناحيته ، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار!..
قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب - الذي يقول : إن في الصفحات قصة(1/8)
(( الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) ودعوته - وهتف صارخاً : ما هذا الذي أقرؤه ...؟ وكيف وصلني هذا الكتاب ..؟ لا بد أن أحدهم دسه عليَّ !!.. فهو يعرف أنني رجل متزن ... أحرص على ديني ، وعلى زيارة الأضرحة ، وتقديم الشموع ، والنذور ، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية ، كما يفعل هو تماماً .. ورأيت في عينيه نظرة رثاء... إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة ... وكان عليَّ أن أقف منه موقف الدكتور جميل غازي مني سابقاً .. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي .. وهل في استطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا .. ؟ وهل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا .. ؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها - أيضاً - ، فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه .. هو صاحب عقيدة سلبية ... غير إيجابية .. فليس من المعقول في شيء .. أن أطوي (( توحيدي )) على نفسي ، وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة ؛ لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم .. وعليه فلا بد أن أجادلهم بالتي هي أحسن .. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هينّ .. لا بد أن أنفرهم من شركهم .. وهم لا بد أن يتراجعوا ؛ لأن (( الخرافة )) - نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة - لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها .. والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً .. قضى عليها ... أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين .. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله ، وأبدأ الشرح للرجل ... ولم تكن المهمة سهلة .. فلا بد أولاً أن أطمئنه ، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ (( محمد بن عبد الوهاب )) .. ثم ما ترسّب في ذهنه من زمن عن ( الوهابية والوهابيين ) .. ففي أول الحديث.. اتهم (( الوهاب (( بعدد من الاتهامات يعلم الله أن دعوة (( التوحيد )) بريئة منها .... براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام !..(1/9)
ورحت أحاول في حماس شديد .. أشرح له سر حملات الكراهية ، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة (( التوحيد )) .. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة ، وأصول العبادات ، وفي ذلك القضاء على محترفي الدّجل ، وحراس المقابر ، وسدنة الأضرحة ، والذين يُكدّسون الأموال عاماً بعد عام .. من بيع البركات ، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة .. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف ..! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..!
ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير .. نظر في دهشة .. كأنه يفيق من غيبوبة ... ورغم ذلك فقد راح يتشنج ، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون ، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب ... وحتى النساء من الشهيرات يلتقين - أيضاً - مع الرجال الأقطاب ، وينظرون في شؤون الكون ...!
* ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة ... فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر .. هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة... أكرم عند الله أم رسول الله ؟!! ثم يفكر طويلاً ، ويجيء إلىَّ بالنتيجة ... دون ما تحيّز أوتعصّب .. ووعدني بأن يُفكّر ، ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى (( طنطا )) ... فقلت له : إن هذا هو المستحيل لن يحدث .. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى (( السيد البدوي (( حتى يعيش ابنهما .. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد (( السيد البدوي).(.. وحملق فيَّ وصاح :
لا تكفر يا رجل ..؟
فقلت له :
- أينا يكفر الآن .. ؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله .. ؟ أم أنت الذي تُصرّ على أن تتوجه إلى (( السيد البدوي )) ..؟(1/10)
وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته ، وأخذت زوجته والخروف وابنها ، وانصرفوا من العباسية في القاهرة إلى (( طنطا )) ، وحيثما وقفت أودعهم .. همست في أذن الزوج : أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك .. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل ... و إلا لقي مني ما يضايقه .. وازداد ذهول الرجل ، ومضى الركب الغريب .. يسوق الخروف نحو (( طنطا(( ..!
وانثنت زوجتي تلومني ؛ لأنني كنت قاسياً معهم ، وهم الذين يخافون على طفلهم .... الذي عاش لهم بعد أن تقدم بهما العمر ، ومات لهما من الأطفال الكثير .. وصحت في زوجتي ، إن الطفل سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش ، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يُريد له ذلك.. ولا شريك لله في أوامره ولا شريك له في إرادته.
وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها .. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً ؛ ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني : ماذا فعل بي الكتاب ؟ أو ماذا فعلت به ؟ واضطررت أن أقول له : إنني في حاجة إلى مناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه ... والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد ، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم .. مع أنني منذ أيام فقط .. كنت لا أقل شركًا عنهم ، وقلت له : ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي ..؟
قال في هدوء يغيظ : إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة .. وأردت الاحتجاج على أنني من ( الأشياء ) ولست من الآدميين ، لكن الدكتور لم يتوقف ، وقال : لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب ، فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى ؟! وأغرق في الضحك!! .
وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادت من (( طنطا )) إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة ، وأنها غاضبة مني ، وشكتني لكل شيوخ الأسرة ، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدقّ .. وذهب ابني الصغير ؛ ليستطلع الأمر .. ثم عاد يقول لي :(1/11)
- إبراهيم الحران ...
(( الحران )) .. إنه زوج ابنة خالتي .. ماذا حدث ..؟
هل جاءوا بخروف جديد ، ونذر جديد لضريح جديد ... أم ماذا .. ؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة ، ولو بالضرب .. ومشيت في ثورة إلى الباب .. وإذا بهذا (( الحران )) يمد يده ليصافحني ، ودَعَوْته إلى الدخول فرفض .. إذًا لماذا جاء ..؟ وفيم جاء ؟ ، وابتسم ابتسامة مغتصبة وهو يقول : إنه يطلب كتاب (( الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) الذي عندي ، وحملقت فيه طويلاً ، وجلست على أقرب مقعد ..!
سقطت قلعة من قلا ع الجاهلية .. لكن لماذا ؟ وكيف كان السقوط ؟ جاء صاحبي إبراهيم يسعى بقدميه .. يطلب ويلحّ في أن يبدأ مسيرة التوحيد .. لا بد أن وراء عودته أمراً ، ليس من المعقول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح ، وتفيق .. على حقائق غفل عنها طويلاً .. !
ورحمة بي من الذُّهول ، والإغماء الذي أوشك أن يصيبني .. بدأ يتكلم ، وكانت الجملة التي سقطت من فمه ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل .. صكت سمعي .. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض .. تصيب وتدمي شظاياها ، وقال :
- لقد مات ابني عقب عودتنا ... ! إنا لله وإنا إليه راجعون .. هذا هو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً ، وكلما بلغ الطفل العام الثالث .. لحق بسابقه .. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعالج مع زوجته ، بعد التحليلات اللازمة .. فقد يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم .. اقتنع ، وقنع بأن ينذر مع زوجته مرة للشيخ هذا ، ومرة للضريح ذاك ، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف .. إذا عاش طفله ، ولكن ذلك كله لم ينفعه .. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه .. إلا أنني حزنت من أجله .. تألمت حقيقة .. أخذته من يده .. أدخلته .. جلست أستمع إلى التفاصيل ..!(1/12)
لقد عاد من طنطا مع زوجته إلى بلدهما ، وحملا معهما بعض أجزاء من (( الخروف )) الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح (( السيد البدوي )) .. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه .. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين - وأيضاً - لكي يأكلوا من هذه الأجزاء .. التي لم تتوافر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت .. وأصابت كل من أكل منها بنزلة معوية .. وقد تصدَّى لها الكبار وصمدوا .. أما الطفل .. فمرض ،وانتظرت الأم - بجهلها - أن يتدخل (( السيد البدوي )) .. لكن حالة الطفل ساءت .. وفي آخر الأمر .. ذهبت به للطبيب الذي أذهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام ... فقد استغرق مرضه أربعة أيام ... وهزَّ الطبيب رأسه ، ولكنه لم ييأس .. وكتب العلاج .. (( أدوية )) وحقن ، ولكن الطفل .. اشتد عليه المرض ، ولم يقو جسمه على المقاومة .. فمات !
من موت الطفل بدأت المشاكل .. كانت الصدمة على الأم.. أكبر من أن تتحملها .. ففقدت وعيها .. أصابتها لوثة .. جعلتها تمسك بأي شيء تلقاه ، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها .. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية ، بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله .. لا شريك له .. وأن ذهابه عاماً بعد عام .. إلى الأضرحة والقبور .. لم يزده إلا خسارة .. واعترف لي : بأن الحوار الذي دار بيني وبينه .. كان يطنّ في أذنيه .. عقب الكارثة ، ثم صمت .. ! فقلت له: بعض الكلام الذي يُخفّف عنه ، والذي يجب أن يُقال في مثل هذه المناسبات .. ولكن بقي في نفسه شيء من حديثه . فهو لم يكمل .. ماذا حدث للسيدة المنكوبة ، وهل شفيت من لوثتها أم لا ؟
فقلت له : لعل الله قد شفي الأم من لوثتها .؟ !(1/13)
فأجاب - وهو مطأطئ الرأس - : إن أهلها يصرون على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس - أيضاً - ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية .. ليس ذلك فحسب .. بل ذهبوا بها إلى (( سيدة )) لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض .. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم .. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء..!
وحينما أراد أن يحسم الأمر .. وأصرّ على أن تُعْرض على طبيب .. أو يطلقها لهم ؛ لأنهم سبب إفسادها .. برزت أمها تتحداه ، وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره ...!
* * * * *
* أثارتني قصته ، رغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من))الدكتور جميل )) إلا أنني أتيته بها وناولتها له .. فأمسك بها وقلبها بين يديه .. وعلى غلافها الأخير كان مكتوباً كلام راح يقرؤه بصوت عال .. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني (( نواقض الإسلام )) من كلمات شيخ الإسلام (( محمد بن عبد الوهاب )): { من يُشْرك بالله فقد حرَّم اللهُ عليه الجنّة ومأْواهُ النَّارُ وَما للظَّالمين مِنْ أنصار } [المائدة:72 ] ، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
ورفع رأسه فحملق في وجهي .. ثم أخذ الكتاب ، وانصرف واشترط أن يعيده لي بعد أيام ، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق (( التوحيد))
انصرف إبراهيم ، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة .. فهي ليست مأساة فرد ، ولا جماعة ، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصار .. الخرافة أحب إليهم من الحقيقة ، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية ، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة ..! …(1/14)
حاولت الاتصال تليفونياً (( الدكتور جميل )) .. فقد كنت أريد أن أنهي إليه أخبار ( إبراهيم ) ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر .. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن الجريمة في الأدب العربي ، وصففت أمامي المراجع ، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة ، وإذا بالتليفون يدق .. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية ـ يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة ـ لحضور تحقيق في قضية مصرع أحد عمال البلاط ، وكان قد عثر على جثته في جُوال منذ يومين ..!! …
تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق .. والغريب في الأمر .. أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً .. في هاوية الشرك والدّجل والشعوذة .. بشكل يدعو إلى الإشفاق .. فالقتيل كان يدّعي صحبة الجن ، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتنافرين ، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية ... إلى جانب عمله في مهنة البلاط..!…
أمّا المتهم القاتل .. فكان من أبناء الصعيد .. تجاوز الخمسين من عمره ،وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب .. فطلقها وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب ... وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له - نكاية فيه - يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة . فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين .. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد .. وتلقف الدجّال فرصة مواتية ... وذهب معه إلى البيت .. وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدّسم .. بعض مستلزمات حضور الجن من بخور وشموع وعطور ، وذهب الرجل ليشتريها .. وترك ( الدجّال ) وزوجته الحسناء في البيت ..!…(1/15)
خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيدًا لاستحضار الجن .. وترك الدجّال الشاب مع الزوجة الحسناء ..وكان لا بد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف .. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة . إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها ، وهي العفيفة الشريفة .. فقامت لتغادر البيت إلى جارة لها .. حتى يصل زوجها .. وإذا بها تجد زوجها على الباب .. فقد نسى أن يأخذ حافظة نقوده وروت له في غضب ما وقع من الدجّال ، وانفعل الزوج الصعيدي ، وحمل عصاة غليظة ودخل على الدجال في الغرفة ، وانهال عليه بالعصا .. حتى حطم رأسه .. بعدها وجد نفسه أمام جثة لا بد أن يتخلص منها .. فجلس يفكر !…
خرج ليلاً فاشترى جُوالاً ، وعاد فوضع الجثَّة فيه ، وانتظر حتى انتصف الليل .. ثم حمل الجثة على كتفه ، وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه .. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها .. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد !
ولكن رجال الشرطة .. بعد عثورهم على الجثة .. بدأوا أبحاثهم عن الجُوال الذي يحتوي على الجثة .. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة ، حتى قال لهم أحدهم : إن الذي اشتراه منه هو فلان ، وكان ذلك بالأمس فقط ، وألقت الشرطة القبض على الرجل ، وفتشت غرفته فوجدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة .. وضُيِّقَ عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة!
**********
* لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة، فكل شيء يجري في ملكوت الله بقدر ..إذ يسوق لي هذه الجريمة المتعلقة - أيضاً - بفساد العقيدة .. لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى .. ولماذا تروج الخرافة ، وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع ؟ هل لأن الذين يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا ؟ …(1/16)
وماذا يجعل الضحايا ـ وهم ملايين ـ يندفعون إلى ممارستها ، والإيمان بها، والتعصب لها... ؟ أم أن (( الوثنية )) التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس .. التي ترسبت في أذهان العالمين سنين طويلة تفرض نفسها على الناس من جديد . تساندها الظروف النفسية لبعض البشر . الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها!!؟…
* فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة... كلاهما فاسد العقيدة .. لا يعرفان من الإسلام سوى اسمه .. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسوء ، ويكذب عليهم ، ويدّعي أنه على صلة بالجن ، وأنه يُشْفي ويُسْعد ، ويشفي ويمرض بمعاونة الجن ، وفي ذلك شرك مضاعف مع الإضرار بالناس .. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولدًا أو بنتاً ! وقد يكون عذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغى عقله ... غير أنه لو أن له عقيدة سليمة .. تُرسِّخُ في ذهنه أنَّ الله بلا شركاء ، وأن النفع والضر بيد الله فقط ، وتُؤصِّل هذه المفاهيم في أعماقه .. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال .. ولا استطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في أيدي مثل هذا المشعوذ!!…(1/17)
* وفي كثير من الأحيان يصل الأمر... ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة .. يروج لها ، ويدافع عنها ، وعلى استعداد للقتال في سبيلها .. فقد نجد من ينبري في المجالس .. فيروي كيف أن الشيخ الفلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيق به ، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له تحويطة ، وأنه كان على خلاف مع زوجته وضَعَهُما على حافة الطلاق لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه .. إلخ .. وتحضرني في هذا المجال قصة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة ، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة ، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربية ، هذه السيدة حاملة الدكتوراه ... عثر زوجها ذات يوم على حجاب تحت وسادته ، فسأل زوجته .. فقالت : إنها دفعت فيه ما لا يقل عن خمسين جنيهاً ؛ لكي تستميل قلبه ؛ لأنها تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة .. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً .. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها…...!
* وترتفع الخرافة إلى الذروة ... حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة... فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس ، والشيخ فلان يزار ضريحه في مسائل الرزق ، والقادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشاكل الحب ،والهجر ، والفراق ، والطلاق ، وأخرى في أمراض الأطفال ، والعيون ، وعسر الهضم .. وهكذا... مؤامرة محكمة الحلقات .. تلف خيوطها حول السذَّج والمساكين ، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن : { وإن يَمْسسك اللهُ بِضُرٍ فلا كاشف له إلاّ هُو وإن يمسسك بخيرٍ فهُو على كُلِ شيءٍ قدير } [ الأنعام : 17]، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف : (( من تَعَلَّق تميمةً فقد أشرك)) .(1/18)
إن الانصياع إلى الخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم ، بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين ، والذين درسوا في أرقى الجامعات . وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس، الذين لا يحميهم عقيدة سليمة .. تصد عنهم هذه ( الشركيات ) الشرسة الضارية .. فالذي لا شك فيه ، هو أن الرجل الذي وثّق إيمانه بالله واقتنع بأن الله هو مالك كل شيء ، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له .. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه .. متحصناً بعقيدته .. لا تصل إليه المفاسد ، بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات .. لماذا ؟ لأنه أنهى أمره إلى الله ، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة !
فالإيمان بالله ، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات .. إنه أبسط من ذلك .. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره ... أو يستأثر به غني لغناه..!…
وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة إذ بضجيج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده . وراح هذا الضجيج يعلو ، ويعربد في ليل الحي .. دون أن يتوقف إلا لحظات .. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضاربًا .. متوحشاً .. يهز الجدران .. وعرفت بخبرتي من الألحان ، والأصوات المنفردة التي تصاحبها أن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة (( زار )) .. وأنها لا بد أن تكون قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجنّ ... لكي يشهدن حفلها ؛ إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم فيها مثل هذه الحفلة ، فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور .. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها...!…(1/19)
وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم علي أذني .. فتركت الكتابة ، وحاولت أن أقرأ .. وفي خضم المعاناة .. جاء لي صديق لي من كبار علماء الأزهر ، ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشئون الأزهر ، ليزورني واستقبلته فرحاً ؛ لأنني أحب النِّقاش معه ، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدقات الهمجية.…
وشكوت إليه جارتي ، ودخلنا في المناقشة عن )) الجن )) وشكوى الناس منه ، وادّعاء السيدات أنه يركبهن ، والجيش الجرار من النساء ، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات (( الزار )) . وإذا بالرجل الذي يحمل شهادة أزهرية عليا .. يؤكد لي أنه كانت له شقيقة مسَّها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها فعطّل (( الجن )) ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام .. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفلة (( الزار )) ، عقدت الشيخة بينها وبين ( الجن ) معاهدة تعايش سلمي .. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.…
* كان هذا كلام الرجل العالم ... طال صمتي .. فقط كنت أفكر في المسكين إبراهيم الحران ، وزوجته الأمية ... فلا عتاب عليهما ولا لوم .. ما دام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في (( الزار )) .. وكانت الدقات العنيفة لا تزال تصل إلى آذاننا ، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن ، وتستعطف قلوب العفاريت.. !
انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص .. الذي فجعني فيه إخلاصي فيه .. إذ وجدته من المؤمنين بالخرافة ، المؤيدين لحكايات الجن . .. وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة ، ودقات (( الزار )) التي كانت تقتحم عليَّ نوافذ مكتبي .. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين..!(1/20)
* وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون .. يصيح صيحات طويلة ومعناها أنّ مكالمة قادمة من خارج القاهرة ... ورفعت السماعة .. لأجد أن المكالمة من الصعيد ، والمتكلم هو زوج خالتي ، ووالد زوجة (( إبراهيم الحران )) ..يعلنني أنهم سوف يصلون غداً . وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة .. خوفاً من أن أكون على سفر .. فهو يريدني لأمر هام .. ورحبت به ، وقلت : إنني في انتظارهم .. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا لألف سبب وسبب !…
أولها : أن الرجل الذي اتصل بي أكنّ له كل الاحترام والحب ، وأنني لمست في صوته رقة الرجاء ، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إليَّ في حاجة وفي وسعي أن أقضيها له .. أخشى أن أرده - ولو بالحسنى - وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس .. رغم أن هذا يسبب لي الكثير من المتاعب ، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله ..!…
وفي الغد ومع الركب الحزين ، وكان مؤلفاً من زوج خالتي ، وخالتي أم زوجة (( إبراهيم الحران )) وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها .. وكانت في حالة يرثى لها . تفاقمت الحالة العقلية عندها ، ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة .. رفضت معها الكلام ، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها .. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة ، ولا تجيب عمَّن يحدثها ... انتقلت من دنيا الناس .. إلى دنيا الوهم والكآبة .. حتى زوت ، وصارت هيكلاً عظمياً ليس فيها من علامات الحياة سوى عينين كآلة زجاج يرسلان نظرات بلا معنى .. وقال لي الأب وهو حزين : إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية ، ونفسية ، ويعمل في (( دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية )) لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى ..!(1/21)
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها .. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ ، وبالجري والطواف حول الأضرحة ، وضياع الوقت - جعلت المرض يستفحل ، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته ..واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها (( إبراهيم الحران )) واستفزته بإصرارها على الخطأ ، ولكن عذرها أنها كانت ضحيةً لجهلها ، ولعشرات السيدات اللاتي كنَّ يؤكدن لها : أن تجاربهن مع المشايخ ، والأضرحة والدجالين .. تجارب ناجحة ، والمثل يقول : (( اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً))..!…
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً ، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى ، وقال لي ابني : إنها حالة مطمئنة ولا تدعو إلى اليأس .. كل ما في الأمر أن الإهمال جعلها تتفاقم .. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج تحسنت السيدة ، وقد عُولجت بالصدمات الكهربائية .. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون ، وخلال ذلك اتصل بي (( إبراهيم الحران )) فقلت له : إنني أريده في أمر هام ، ولابد أنه يزورني في البيت ... وحينما جاء شرحت له الأمر ، وقلت له : إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج - أيضاً - .. ولكن لفت نظري فيه .. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من ( الدكتور جميل غازي ) في التوحيد أن أصبح إنساناً جديداً ... فالعبارات التي كانت تجري على لسانه .. من الإقسام تارة بالمصحف ، وتارة بالأنبياء ، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً .. وعاد يمارس حياته بأسلوبه الرجل الذي لا يعبد غير الله ، ولا يخشى إلا الله ، ولا يرجو سوى الله .. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته .. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة ، وكذلك والد زوجته .. أما زوجته .. فقال : إنه كفيل بها ، وعقدت بينهم جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة ؛ لأنها كانت في المستشفى ، وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي!!…(1/22)
كان لزيارته لزوجته في المستشفى... أكبر الأثر في شفائها ، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته . قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها : إن عودتها إلى زوجها ، وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجَّل بشفائها ، لأنها وهي وحيدة أبويها .. حطمتها صدمة وفاة ابنها .. ثم قضت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها .. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها ، وكان يتنظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً!…
* لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة ، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي ، و أبناء ديني .. وعلى امتداد الوطن الإسلامي كله ..… ووجدتني أسأل نفسي لما ذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط .. تمزقنا الخرافة وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات، فتمسك بنا وتوقفنا عن ممارسة الحضارة.. ؟
* ومع أن الغرب ، والمجتمع الأوروبي ليس خالياً من الخرافات ، وليس خالياً من الخزعبلات ،ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة ويمارسونها . تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام!…
الواقع أن خزعبلاتهم وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح ..تدفع بهم إلى الانزلاق أكثر من الماديات ، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم !! …
أما هنا في الشرق .. فإن خرافاتنا معادية للعقل ، وللمادة معاً .. ! ولهذا كانت خرافاتنا هي المسئولة عن تدمير حياتنا في الحاضر والمستقبل.…
وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي ، والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء ..!
فحينما يصبح (( التوحيد )) أسلوب حياة ، وثقافة ، وعقيدة ... سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد .. هذه الغيوم .. غيوم الخرافات ، والدجل ، والشعوذة ، والكهانة التي لا تقوى .…(1/23)
* وتلك مسئولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة ، وغير المباشرة فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات ، ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل .!
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } .
??
??
??
??
اعترافات ..كنت قبوريًا .. للأستاذ : عبد المنعم الجداوي(1/24)