كشف الستر عن حكم الصلاة بعد الوتر
تصنيف
شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني
773 - 852 هـ
تحقيق
هادي بن حمد بن صالح المري
دار ابن حزم
الطبعة الأولى
1414 هـ - 1993 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
فإن بعض الإخوان سأل عما وقع في ((العجالة)) لشيخنا الإمام سراج الدين ابن الملقن رحمة الله عليه حيث قال:(1/13)
فائدة: قال ابن حبان في ((صحيحه)): ذكر الأمر بركعتين بعد الوتر إن خاف أن لا يستيقظ للتهجد وهو مسافر.
ثم أخرج عن ثوبان رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: ((إن هذا السفر جهد وثقل فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن استيقظ وإلا كانتا له)) انتهى.
ورغب إلي أن أتكلم على هذا الحديث تصحيحاً وإعلالاً، وعلى شرحه استنباطاً واستدلالاً، فاستعنت الله على ذلك، وانحصر الكلام فيه في فصول:(1/14)
الفصل الأول في حال الحديث
هذا الحديث على شرط الصحيح عند ابن حبان وعند شيخه ابن خزيمة، وقد أخرجاه وهما ممن لا يفرد نوع الحسن من الصحيح، بل كل ما يدخل تحت دائرة القبول عندهم يسمى صحيحاً.
وأخرجه جماعة من الأئمة في تصانيفهم المبوبة وغيرها منهم:(1/15)
أبو محمد الدارمي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر البيهقي، وأبو بكر الرازي، وأبو القاسم الطبراني.(1/16)
أخرجوه كلهم من طريق معاوية بن صالح عن شريح بن عبيد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان.
وهذا الإسناد على طريقة من يفرد الحسن من الصحيح على شرط الحسن لا يرتقي إلى رتبة الصحيح. وعند من لا يفرده صحيح.
وبيان ذلك:
أن شرط الصحيح أن يكون كل من رواته في المرتبة العليا من الضبط والإتقان.
فمن قصر عنها منهم واتفق أن وافقه من هو مثله أو فوقه انجبر ذلك القصور بالمتابعة.
وكلٌ من الأمرين مفقود في هذا الإسناد، لأنه تفرد به الرواة المذكورين.
ومنهم من اختلف فيه لقصوره عن درجة المتقنين، فإن كان ذلك القصور لا يحط حديثه إلى رتبة من لا يقبل تفرده.(1/17)
فإذاً هذا الإسناد في أدنى درجات الصحيح، وأعلى درجات الحسن، فهو صالح للاحتجاج به على كل تقدير اتفاقاً، إلا عند قوم من أهل التشديد كأبي حاتم الرازي، فإن شرطه في قبول الراوي للاحتجاج ما شرطه غيره في الصحيح، ويعد ما قصر عن الرتبة العليا إذا لم يرد ما يجبره منكراً.
وهذا شأن هذا الحديث لأنه تفرد به جبير بن نفير في روايته له عن ثوبان، وتفرد به شريح بن عبيد في روايته له عن عبد الرحمن بن جبير، وتفرد معاوية بن صالح به عن شريح ابن عبيد.
فأما جبير بن نفير فهو تابعي كبير ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولأبيه صحبة، وأرسل جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رؤية، وسمع من عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وأبي ذر، والمقداد، وغيرهم.
قال النسائي: ليس أحد من كبار التابعين أحسن رواية عن الصحابة من ثلاثة:(1/18)
قيس بن أبي حازم.
وأبي عثمان النهدي.
وجبير بن نفير.
وقال أبو عبد الله الآجري عن أبي داود: هو أجل تابعي بالشام. ووثقه أبو حاتم وآخرون من الأئمة.
ومات سنة خمس وسبعين من الهجرة، ويقال سنة ثمانين. ومع ما وصف به لم أر له في ((صحيح البخاري))(1/19)
رواية، وما أظن ذلك إلا من جهة الرواة عنه أو إليه.
وأما ولده عبد الرحمن، فوثقه أبو زرعة والنسائي وابن سعد وزاد: أن بعض الناس استنكر حديثه، وأرخ وفاته سنة ثماني عشرة ومائة، وماله في صحيح البخاري أيضاً رواية.
وفي طبقته عبد الرحمن بن جبير الراوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويفرق بينهما بأن هذا مصري وعبد الرحمن بن جبير بن نفير حمصي وبأن المصري أقدم وفاة من الحمصي.
قال ابن يونس: مات سنة سبع أو ثمان وتسعين من(1/20)
الهجرة ووثقه النسائي وهو من رجال مسلم.
وأما شريح بن عبيد وهو بالشين المعجمة والحاء المهملة فهو حمصي كثير الرواية لكنه يرسل عن جماعة من الصحابة.
قال محمد بن عوف: ما أظنه سمع من أحد من الصحابة ولا يقول في شيء من ذلك سمعت وهو ثقة.
ووثقه أيضاً النسائي ودحيم وغيرهما، وعاش إلى(1/21)
قريب سنة عشر ومائة، وهو من أقران شيخه في هذا الحديث عبد الرحمن بن جبير، وماله في الصحيحين رواية. وأما معاوية بن صالح فهو أشعري النسب، حمصي البلد، مختلف في توثيقه، وقد أخرج له مسلم، ولم يخرج له البخاري، قال ابن معين في رواية: ثقة.
وقال في رواية: ضعيف.
وقال في رواية: ليس بمرضي.
وقال في أخرى: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرضاه، وكان عبد الرحمن بن مهدي يوثقه.(1/22)
وقال يعقوب بن شيبة: حمل عنه الناس، ومنهم من يضعفه ومنهم من يرى أنه وسط.
وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وما أرى بحديثه بأساً، إلا أنه يقع له إفرادات.
ووثقه مطلقاً النسائي والعجلي وآخرون.
وقال ابن يونس وغيره: قدم مصر سنة خمس وعشرين ومائة، وخرج إلى الأندلس ثم أرسله عبد الرحمن بن(1/23)
معاوية لما غلب على الأندلس في أمور تتعلق به، فحج فسمع منه جماعة بمصر ثم بالحجاز ثم بالشام والعراق فحدث بها أيضاً، ثم رجع إلى الأندلس، فولاه عبد الرحمن قضاء الجماعة، ومات هناك سنة ثمان وخمسين ومائة وذكر أبو مروان ابن حيان مؤرخ الأندلس أنه عاش إلى سنة اثنتين وستين فالله أعلم.(1/24)
الفصل الثاني في بيان ما قع في إسناده من الاختلاف
وقع في رواية بعض من ذكرنا في جميع الإسناد بالعنعنة، وفي رواية بعضهم بتصريح التحديث.
فالحاصل أنه لا تدليس فيه ولا إرسال خفي.
ولكن وقع في رواية ابن حبان عن عبد الرحمن بن جبير عن ثوبان، سقط منها عن أبيه بين عبد الرحمن وثوبان، وقد راجعته من عدة نسخ فلم أره فيه، ولا بد منه، فإن عبد الرحمن بن جبير لم يلق ثوبان، والذي يظهر أنه سقط من بعض النساخ، لأن ابن حبان أخرجه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح.(1/25)
وقد وقع لنا في ((فوائد حرملة)) رواية أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن المقري عن محمد بن الحسن بن قتيبة شيخ ابن حبان فيه بإثبات قوله في الإسناد عن أبيه.
وكذلك أخرجه ابن خزيمة عن أحمد بن عبد الرحمن ابن وهب عن عمه، وكذا أخرجه الدارمي عن مروان بن محمد الدمشقي عن ابن وهب، وكذلك أخرجه بقية الأئمة الذين قدمت ذكرهم من طرق متعددة إلى أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح بإثباته.(1/26)
ثم اتفق جميع من ذكرنا على تخريجه من رواية ابن وهب أو عبد الله بن صالح كلاهما عن معاوية بن صالح، ولم أره من طريق ثالث عن معاوية بن صالح، ولعله لم يحدث به إلا بمصر، فإن ابن وهب وابن صالح مصريان.
واتفق كل من حدث به عن أبي صالح على ما وصفت، وكذلك من حدث به عن ابن وهب، إلا ما وقع عند الطبراني في ((المعجم الأوسط)) فإنه قال فيه: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس ثنا هارون بن سعيد الأيلي نا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن ثوبان.
فأسقط من السند شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير، وذكر بدلهما أبا الزاهرية.
ثم قال الطبراني: لا يروى عن ثوبان إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن وهب.(1/27)
وعليه في هذا الحصر مؤاخذة، فإن المعروف عن ثوبان الإسناد الذي تقدم.
وقد أخرجه هو في ((مسند الشاميين)) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح كرواية الجماعة.
فإن كان الإسناد الذي ساقه محفوظاً، ورد على حصره الإسناد الذي ساقه في ((مسند الشاميين)).
وأما قوله تفرد به ابن وهب فيحتمل أن يريد تفرد به على الكيفية المذكورة في ((الأوسط)) لا مطلقاً، ويحتمل أن يريد مطلقاً فيرد عليه رواية ابن صالح.
وفي الجملة فالذي يظهر أنه لما ساقه في ((الأوسط)) لم يستحضر الطريق الأخرى التي في ((مسند الشاميين))، ولما ساقه في ((مسند الشاميين)) لم يستحضر أيضاً الطريق التي في ((الأوسط)) لأنه أغفلها فيه مع كونها على شرطه.(1/28)
وأظن الوهم الذي في الإسناد الذي في ((الأوسط)) من الطبراني أو من شيخه، أما هارون بن سعيد الراوي له عن ابن وهب فهو ثقة من رجال مسلم.
فإن لم يكن وهماً، فلعله كان عند ابن وهب بإسنادين عالٍ ونازل فحدث بهما ابن وهب في وقتين، فحدث ابن وهب عنه تارة بهذا وتارة بهذا، وما سمع منه عبد الله بن صالح إلا أحدهما.
ويبعد هذا كون ابن وهب لم يحدث بالإسنادين معاً ولا مرة واحدة وقد قدمت أن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير قرينان.
وقد أخرج مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حديثاً غير هذا، أخرجه من رواية ابن وهب عن معاوية عن عبد الرحمن عن أبيه عن النواس بن سمعان في البر والإثم.(1/29)
وفيه دلالة على أن معاوية بن صالح لم يكن مدلساً لإدخاله شريح بن عبيد بينه وبين شيخه عبد الرحمن بن جبير في حديث ثوبان.
وأما أبو الزاهرية الذي وقع في الرواية التي في ((الأوسط)) فاسمه حدير بمهملات تصغير واسم أبيه كريب وهو حمصي أيضاً، لقي جماعة من الصحابة وأرسل عن كثير من قدمائهم كحذيفة وجل روايته مع ذلك عن التابعين، وسماعه من جبير بن نفير صحيح. وقد وثقه ابن معين والنسائي وآخرون.(1/30)
وقال أبو حاتم والدراقطني، لا بأس به، زاد الدارقطني: إذا روى عن ثقة، فاحترز بذلك عن رواية الضعفاء عنه، لأن غالب الرواة عنه كذلك.
وتأخرت وفاته عن شريح بن عبيد على الصحيح، وقيل مات قبله والله أعلم.(1/31)
الفصل الثالث في بيان ما وقع في ألفاظ المتن من اختلاف الرواة، وشرح مفرداته
قوله: ((إن هذا السفر)).
كذا هو عند جميع من خرج الحديث، بفتح المهملة والفاء، إلا الدارمي، فوقع لي في روايته السهر بالهاء بدل الفاء.
قال الدارمي بعد تخريجه: ويقال السمر -أي بالميم بدل الهاء- قال: وأنا أقوله السهر -أي بالهاء-.
وكأنه لما سقط عنده أول الحديث المرجح لأن هذه اللفظة السفر بالفاء، ورواه عنده بالفاء وبالميم، رجح الرواية التي بالهاء، لأنها التي في حفظه، وهي لا تخالف الرواية التي بالميم من وجه، لأن السمر بالميم أخص من(1/32)
السهر بالهاء، فالرواية بالهاء أشمل ولذلك اختارها.
ولكن ثبوت الزيادة من رواية غيره ترشد إلى أنه بالفاء، لأن ذكر السفر تقدم في أول الحديث كالتمهيد للحكم الذي يذكر بعد، حيث قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر))، ويحتمل أن يكون بالهاء محفوظاً ولا يخالف الذي بالفاء، لأن السهر غالباً يتسبب عن السفر فيتقارب المعنى.
قوله: ((جهد)).
بضم الجيم ويجوز فتحها، والهاء ساكنة بكلٍ.
قال صاحب ((الموعب)) في اللغة: الجهد بالضم ما يجهد الإنسان من مرض ومشقة، وبالفتح ما يبلغ به غاية الأمر الذي يقصده.
وقال الجوهري: الجهد بالضم وبالفتح معاً الطاقة،(1/33)
وبالفتح فقط المشقة، يقال جهده وأجهده إذا حمله فوق طاقته.
وقال الفراء: الجهد بالضم الطاقة، وبالفتح بلوغ الغاية ولا يقال هذا الثاني بالضم.
وقال ابن عرفة: وزاد مع الغاية المبالغة.
وقد قرئ بالضم والفتح في قوله تعالى: {والذين لا يجدون إلا جهدهم}.
وثبت بالوجهين في حديث بدء الوحي: ((حتى بلغ مني الجهد)) وأليق المعاني باللفظة الواردة في حديث الباب المشقة.(1/34)
قوله: ((وثقل)).
بكسر المثلثة وفتح القاف أي شدة، وهو عطف تأكيدي.
قوله: ((فإن استيقظ)).
في رواية الدارمي: ((فإن قام من الليل)) وهي أبين، لأن المراد الاستيقاظ لصلاة الليل، وهو مطابق لما فهمه ابن حبان حيث قال في الترجمة: لمن خاف أن لا يستيقظ للتهجد.(1/35)
الفصل الرابع في معانيه
قوله: ((في سفر)).
لم أقف على تعيين هذه السفرة، ويؤخذ منه أن راوي هذا الحكم يذكر سببه مقروناً به لئلا يوهم احتمال غير المراد إذا عري عن ذلك.
قوله: ((جهد وثقل)).
أي مظنة لذلك كما في الحديث الآخر: ((السفر قطعة من العذاب)) ولا يرد كونه ربما كان على بعض المترفهين أخف حالاً من الحضر، لأن ذلك نادر، بل إذا حقق الأمر لا(1/36)
يكون أخف حالاً من الحضر في حق كل أحد مطلقاً بالنسبة إلى حال نفسه.
وفيه ذكر العذر قبل الفعل أو الترك، وإرشاد من فاته شيء يرغب فيه إلى ما يقوم مقامه، والأخذ في الدين بالسهولة كما جاء ((إن الدين يسر)) ((وبعثت بالحنيفية(1/37)
السمحة)) وهما صحيحان.
وفضل قيام الليل، وأن الصحابة كانوا يواضبون عليه(1/38)
سفراً وحضراً، لأنه لو لم يكن لهم حرص شديد على ذلك لما احتيج إلى التنبيه على الحالة المذكورة.
وفيه أن العابد إذا وجد المشقة في عبادته استحب له الترفه ليكون أدعى إلى دخوله في العبادة بنشاط كما ((أمر من نعس في الصلاة أن يذهب فينام)) وهو في الصحيح.(1/41)
ويستنبط منه الترغيب في الخشوع في الصلاة، وتحبيب العبادة إلى المكلف باستعمال ما ينشطه لئلا يفضي به الأمر إلى الترك.
قوله: ((فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين)).
ظاهره أن الركعتين بعد الوتر، ويحتمل أن تقدر الإرادة كما قدرت في أحد القولين في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} ((وكان إذا دخل الخلاء)) قال: ((وإذا(1/42)
أتى أحدكم أهله فليقل)) ويقوى هذا الاحتمال في حديث ثوبان من وجهين:
أحدهما: أن السياق يرشد إلى أن الحكمة في الأمر بالركعتين الحصول على ما يقوم مقام التهجد، ولا أثر لتقديمهما على الوتر ولا تأخيرهما من هذه الحيثية.
ثانيهما: أن أكثر الأخبار صريحة في استحباب جعل الوتر آخر صلاة الليل، وما ورد من الأخبار بخلاف ذلك فمحمول على بيان الجواز على الراجح عند النووي كما سيأتي البحث فيه.
وممن صرح بتقدير الإرادة في حديث ثوبان البيهقي في السنن الكبير والله أعلم.(1/43)
قوله: ((فإن استيقظ)).
في إيراده مورد الشرط دلالة على أن الاستيقاظ ليس من قدرة الآدمي بل الأمر في ذلك إلى غيره، فلما كان النائم ربما غلبته عيناه ففات الوقت الذي يريد القيام فيه، وربما استيقظ فيه أو قبله، وإن كان عن قرب فذاك، وإلا شق عليه مريد السهر إلى أن يدخل الوقت الذي يريده فأرشدهم الشارع إلى أمر إذا فعلوه لم يفت المقصود من العبادة على كل حال.
فإن قيل: ثبت في الصحيح ((إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً))، فإذا كان يكتب للمسافر ما كان يعمل حالة الإقامة فما فائدة الاعتناء بالصورة(1/44)
التي دل عليها حديث ثوبان، وأكثر ما فيها تحصيل الحاصل أو بعضه.
قلنا: وجهه تحصيل زيادة الأجر بالمباشرة لأن لحركات الجوارح بالعبادة قولية وفعلية مزية على ما يحصل من أصل الأجر المشار إليه في الخبر.
قوله: ((وإلا)).
في الكلام حذف معنى الشرط، تقديره فإن لم يستيقظ أو نحو ذلك.
وقوله: ((كانتا له)).
أي محسوبة من التهجد قائمة مقامه، ويؤخذ منه أن التهجد لا يكون إلا بعد قدرة كما هو الراجح.(1/45)
الفصل الخامس في بيان خصوص الحكم الذي ترجم به ابن حبان
وقد اشتمل كلامه على أمرين:
أحدهما: إيقاعهما بعد الوتر.
ثانيهما: تقييده بالمسافر.
فأما الأول، فقد ذكرت ما فيه قبل.
وأما الثاني، فهو ظاهر الخبر، لكن لم يخصه من أخرج الخبر غيره بالمسافر، بل جعلوه من الأدلة على جواز التطوع [بعد الوتر] ترجيحاً لمن قال لا ينقص الوتر، منهم الدارمي قال: باب الركعتين بعد الوتر.
وأورده الطحاوي وغيره في باب التطوع بعد الوتر.
قال ابن خزيمة: باب ذكر الدليل على أن الصلاة بعد(1/46)
الوتر تباح لجميع من يريد الصلاة بعده وأن الركعتين بعد الوتر لم يكونا خاصتين برسول الله صلى الله عليه وسلم دون أمته إذ قد أمرنا بالركعتين بعد الوتر، وهو أمر فضيلة أو ندب، لا أمر إيجاب وفريضة. انتهى.
وما أشار إليه من الخصوصية يأتي الكلام عليه بعد.
والراجح عندي في حديث ثوبان تخصيصه بالمسافر كما قال ابن حبان، لكنه يستنبط منه إلحاقاً من به مرض ونحوه بالعلة الجامعة.
وأما مسألة نقض الوتر فاختلف فيها، فقال جماعة: إذا أوتر قبل أن ينام صلى أو أوتر في الليل ثم أراد أن يتطوع يصلي ركعة يشفع بها وتره الأول ثم يصلي ما أراد ثم يوتر ليكون الوتر آخر صلاته امتثالاً بالأمر الوارد به، وهذا هو نقض الوتر، وقد منع منه مطلقاً من قال لا يشرع التنفل بركعة فردة، وفيه نظر لإمكان تصوره بغير ركعة فردة كالثلاث مثلاً.
وقال الآخرون وهو الراجح من قولي العلماء، ومن مذهب الشافعي بل يصلي ما أراد من غير أن يتعرض إلى الوتر، واحتجوا بحديث: ((لا وتران في ليلة)) وهو حديث(1/47)
حسن أخرجه ابن خزيمة والنسائي وغيرهما من حديث طلق بن علي، واحتجوا أيضاً بالأحاديث الواردة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد وتره ركعتين، وقد ورد ذلك من حديث عائشة وغيرها كما سأذكره في الفصل الذي يليه.
وأجابوا عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما الصحيح ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) بأنه أمر ندب واستحباب وفضيلة، لا أمر حتم ووجوب.(1/49)
ومنهم من خصه بمن أوقع وتره آخر الليل، بخلاف من أوتر ثم نام.
وعن أحمد في ذلك روايات:
الأولى: كالراجح لا ينقضه ثم إذا صلى صلى ما شاء شفعاً ثم لا يوتر.
الثانية: يوتر ليكون آخر صلاته بالليل وتراً، وضعف حديث ((لا وتران في ليلة)) أو حمله على الضرورة.
الثالثة: ينقضه كإحدى الروايتين عن الشافعية والمالكية، وهل ينقضه على سبيل الجواز أو الوجوب فيه روايتان عن أحمد أيضاً.
الرابعة: يتخير بين نقضه وبين عدم نقضه لاختلاف الآثار في ذلك. والله أعلم.(1/50)
الفصل السادس في بيان حكم الركعتين اللتين جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الوتر والتفصيل بذلك
قال الشيخ الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة في كتاب ((المغني)) لما ذكر التطوع في الصلاة: ((ومنها الركعتان بعد الوتر، وكلام أحمد يقتضي أنه لا يستحب فعلهما، فإن فعلها إنسان جاز.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الركعتين بعد الوتر، وقيل له: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه فما ترى؟ قال:(1/51)
أرجو إن فعله إنسان أن لا يضيق عليه، ولكن يكون وهو جالس كما جاء الحديث، قلت: تفعله أنت. قال: لا ما أفعله.
قال الموفق: وقد عدهما أبو الحسن الأمدي -يعني من الحنابلة- من السنن الراتبة، والصحيح أنهما ليستا بسنة، لأن الذين وصفوا تهجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروهما، من ذلك حديث ابن عباس، وزيد بن خالد،(1/52)
وكذا عائشة من رواية عروة،(1/53)
وعبد الله بن شقيق، والقاسم، وإنما جاء ذلك عنها من رواية سعد بن هشام، واختلف عنها في ذلك في رواية ابن سلمة، وأما أكثر الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم فعلى تركهما.(1/54)
ووجه الجواز رواية سعد بن هشام وأبي سلمة عن عائشة وهما في مسلم، وروى ذلك أيضاً أبو أمامة، وأوصى بهما خالد بن معدان وكثير بن مرة، وفعلهما الحسن البصري)) انتهى كلامه.
وعليه فيه مؤاخذات:
الأولى: أن دعواه خلو حديث ابن عباس عنهما فيها نظر، لأن ابن خزيمة أورد في باب الرخصة في الصلاة بعد الوتر من صحيحه طريق أبي نضرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((زرت خالتي ميمونة فوافقت ليلة(1/55)
النبي صلى الله عليه وسلم عندها، فذكر الحديث وفيه فأوتر بسبع أو بتسع ثم صلى ركعتين ووضع جنبه حتى سمعت صفيره)).
قال ابن خزيمة: يحتمل أن يكون أراد الركعتين اللتين في حديث عائشة بعد الوتر، ويحتمل أن يكون أراد ركعتي الفجر. انتهى. والثاني هو المعتمد لأنه مقتضى ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ثانيهما: جزمه بخلو رواية عروة عن عائشة عن ذكر الركعتين فيه نظر أيضاً، فقد أخرج الطبراني في ((الأوسط)) من طريق عياش بن عباس القتباني عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العتمة ثم صلى في المسجد قبل أن يرجع إلى بيته سبع ركعات، يسلم في الأربع في كل ثنتين، ويوتر بثلاث، يتشهد ويوتر بالمعوذات، فإذا رجع إلى بيته ركع ركعتين ورقد، فإذا أتيته(1/56)
صلى ركعتين ثم ركعتين، فكملت صلاته ثلاث عشرة ركعة.
لكن هذا الحديث شاذ مخالف لسائر الروايات عن عائشة ثم عن عروة عنها وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف.
ثالثهما: ما اقتضاه كلامه من تفرد سعد بن هشام ومن متابعة أبي سلمة في إحدى الروايتين عنه عن عائشة رضي الله عنها في ذلك، فيه نظر، لأن علقمة بن وقاص قد روى ذلك عنها أيضاً، أخرجه أبو داود وفيه فركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر.
رابعها: في اقتصاره على ذكر أبي أمامة في من تابع(1/57)
عائشة قصور، فإنه جاء أيضاً من حديث أم سلمة، وأنس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم.
أما حديث أبي أمامة الذي أشار إليه فهو عند أحمد(1/58)
من روايته عن حسن بن موسى شيخه عن عمارة وهو ابن زاذان قال حدثني أبو غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع حتى إذا بدن وكثر لحمه أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس يقرأ ((بإذا زلزلت، وقل يا أيها الكافرون))
وأخرجه أحمد أيضاً والطبراني والطحاوي والبيهقي من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أبي غالب بالحديث مختصراً: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس)) قال البيهقي: أبو غالب ليس بقوي.
وأما حديث أنس رضي الله عنه، فأخرجه ابن خزيمة(1/59)
من رواية مؤمل بن إسماعيل كلاهما عن عمارة بن زاذان(1/60)
عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع فلما أسن وثقل أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بالرحمن والواقعة)).
قال أنس: ونحن نقرأ بقصار المفصل ((إذا زلزلت وقل يا أيها الكافرون)). وعمارة بن زاذان فيه ضعف، وقد اختلف عليه في سنده ومتنه، وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ في الأولى بأم القرآن وفي الثانية ((قل يا أيها الكافرون)) وهو من رواية عتبة بن حكيم عن قتادة عن أنس، وأخرجه الدارقطني من هذا الوجه، وقال: قال لنا ابن أبي داود: هذه سنة تفرد بها أهل البصرة وحملها عنهم أهل الشام، وعتبة مختلف في توثيقه.
وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها: فأخرجه(1/61)
الترمذي، وابن ماجه من طريق ميمون بن موسى عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين ((زاد ابن ماجه في روايته وهو جالس، وأخرجه البيهقي من هذا الوجه وقال: تابعه زكريا بن حكيم عن الحسن، وخالفهما هشام فرواه عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها.
وأما حديث ابن الزبير رضي الله عنه، فأخرجه أحمد من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي أخبرني نافع بن ثابت عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: ((كان(1/63)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات وأوتر بسجدة حتى يصلي صلاته بالليل بعد)).
وأما حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، فأخرجهما محمد بن نصر المروزي في كتاب ((قيام الليل)) من طريق الشعبي عن ابن عباس [وابن عمر] أنهما قالا ((سن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ركعتين، والوتر في السفر من السنة)) وسنده ضعيف، لأنه من رواية جابر الجعفي عن الشعبي، ثم الظاهر أنه في قصر الصلاة، وفي الحث على الوتر لا في خصوص ما نحن فيه، ولكن أورده محمد بن نصر في هذا الباب، وفيه ما فيه.(1/64)
خامسها: في اقتصاره على ما نقل عن أحمد وبعض أصحابه، وقد جزم جماعة من أصحاب أحمد بأنهما سنة من آخرهم ابن تيمية وهو خلاف الراجح من المذاهب الثلاثة في المشهور عنهم وأغرب ابن القيم صاحب ابن تيمية، فقال في ((الهدي النبوي)) (معه على) (1) الخلاف: والصواب أن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة، ولا سيما عند من قال بوجوبه، فتجري الركعتين مجرى سنة المغرب بعد المغرب، لأنه بسبب أنها [وتر] النهار، والركعتان بعدها تكميل لها فكذلك الركعتان بعد الوتر. انتهى. ولم أر له فيه سلفاً إلا ما سأذكره قريباً عن بعض الشافعية في إضافته إياهما إلى الوتر.
وقد وقفت على فتيا أجاب فيها بعض متأخري الحنابلة بما نصه:
__________
(1) كذا في المخطوطة، ولعلها : بعد أن ذكر.(1/65)
((ليستا راتبة في المذاهب الأربعة، بل ولا غير راتبة، بل ولا مستحبة، بل ولا مشروعة في جميع الأمة، وقد قال مالك: هي بدعة، وقال الشافعي: هي منسوخة، وقال أحمد: لا آمر ولا أنهى، وروى عن الأوزاعي أنهما سنة، وعن بعض العلماء أنهما من الخصائص لحديث ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) وقد ثبت أنه فعلهما ليكون خصوصاً له لئلا يتعارض قوله وفعله صلى الله عليه وسلم )).
وكتب بعض الحنفية بعده بصورته وزاد: ((وقول الشافعي في هذا أقوى وأبين وهو قول أبي حنيفة وأصحابه)).
نقلت السؤال والجوابين من خط الشيخ أبي أمامة بن النقاش ملخصاً، ولم يسم المجيبين المذكورين، لكن تعقب كلام الأول فقال: ((لا يوجد عن الشافعي نص خاص بنفي الاستحباب لا في كتبه القديمة ولا الجديدة، ولا عن أبي حنيفة، بل نقل ابن تيمية الإتفاق على جوازهما، والذي(1/66)
نقله أحمد عن مالك الكراهة، وأما لفظ بدعة فلا يوجد عنه)) انتهى كلامه.
وأظن مستند المجيب في نقله عن الشافعي أنهما من الخصائص ما أشار إليه ابن خزيمة حيث ترجم لحديث ثوبان أن فيه دلالة على خلاف ذلك، فأما أن يكون عن الشافعي في ذلك شيء والراجح خلافه -ودعوى ابن النقاش عدم الوجود لا يثبت وجود العدم- وأما أن يكون أشار إلى الرد على من قال بذلك من الحنفية، كما أشار إليه المجيب الحنفي.
ثم قال: وسئل أفضل الشافعية في زماننا عن ذلك، فقال: صح الحديث من رواية مسلم وغيره، وليس الحكم منسوخاً، لأن النسخ يتوقف على أمور لم تثبت وإنما ترك العمل به من ترك لترجح مقابله عنده، ومن عمل به أمكن الجمع عنده، ومن قال أنه فعله لبيان الجواز فهو الأرجح انتهى.
وهذا الجواب منتزع من كلام الشيخ محيي الدين، فإنه قال في شرح المهذب ما نصه:(1/67)
فرع: إذا أوتر ثم أراد أن يصلي نافلة أو غيرها في الليل، جاز بلا كراهة، ولا يعيد الوتر، ودليله حديث عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ((كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا في الثامنة فيذكر الله ويمجده ويدعوه ثم ينهض، ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويمجده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد)) رواه مسلم في أثناء حديث طويل.
قال: وهذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين بعد الوتر لبيان الجواز، ويدل عليه أن الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما مع رواية خلائق من الصحابة مصرحة بأن آخر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل كانت وتراً، وفي الصحيحين أحاديث مصرحة بأن آخر صلاة الليل تكون وتراً، كحديث ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) وحديث ((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة)).
قال: ((فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يداوم على ركعتين بعد الوتر مع هذا، وإنما معناه ما ذكرنا من بيان الجواز، وإنما أطلت في هذا لأني رأيت بعض الناس يعتقد أنه تستحب صلاة ركعتين بعد الوتر جالساً، ويفعل ذلك، ويدعو(1/68)
الناس إليه، وهذه جهالة منه وغباوة لعدم أنسه بالأحاديث الصحيحة وتنوع طرقها وكلام العلماء فيها، فاحذر من الاغترار به، واعتد بما ذكرنا أولاً)).
وقال أيضاً في شرح مسلم:
((حكى القاضي عياض عن مالك أنه أنكر الركعتين بعد الوتر، قال عياض: والأحاديث الأخر تعارضها وهي أصح، قال النووي: ما أشار إليه من الترجيح ليس بصواب، لأن الأحاديث إذا صحت وأمكن الجمع تعين، والصواب أنه فعلهما لبيان جواز الأمرين فعل الصلاة تطوعاً بعد الوتر وبعد النافلة جالساً، ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة أو مرتين أو مرات قلائل ولا يعتبر بقول الراوي كان يصلي لأن المختار الذي عليه الأكثر والمحققون من الأصوليين أن لفظة كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه، فإن دل دليل على التكرار عمل به وإلا فلا يقتضيه وضعها. انتهى.
وفي جواب الذي ذكر ابن النقاش أنه أفضل الشافعية في زمانه، وكذلك فيما ذكره الشيخ محيي الدين رحمة الله تعالى عليه نظر في مواضع:(1/69)
الأول:
ترجيح أن الفعل لبيان الجواز وأنه لا استحباب في ذلك، وكلام الشيخ محيي الدين يشعر بأن الذي أشار إليه من أهل عصره انفرد بذلك في مذهب الشافعي وليس كذلك، بل ذكر ذلك من كبار أصحاب الشافعي الشيخ أبو حامد شيخ طريقة العراق، وتبعه تلميذه المحاملي فقال في ((اللباب)): وأما ركعتا الوتر فهو أن يصلي بعد الوتر ركعتين قاعداً متربعاً يقرأ في الأولى بعد الفاتحة الزلزلة وفي الثانية الكافرون، فإذا ركع وضع يديه على الأرض ورفع وركيه عنها وثنى رجليه كما يركع في القيام، وقد تعقبه شيخنا الإمام البلقيني في تدريسه فقال: هذه الصفة لم تثبت، وأصل الركعتين ورد فيه حديث في صحيح مسلم انتهى.(1/70)
وقد ذكرها الغزالي في الإحياء فقال: ورد في بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدخل فراشه يعني بعد أن يوتر يزحف إليه ثم يصلي ركعتين يقرأ فيهما إذا زلزلت وألهاكم التكاثر، وفي رواية ((قل يا أيها الكافرون)).
ونقل شيخنا الإمام العراقي في ((شرح الترمذي)) عن الشيخ مرزوق البصري رأس الطائفة الذين يقال لهم الرازقة وهم بنواحي بلبيس وغيرها من الشرقية، ويزحفون على الأرض في أثنائهما.
قال شيخنا: وشيخهم المذكور حنبلي المذهب لكن لأصحابه بدع وحوادث.
وممن صرح باستحبابهما من الشافعية الشيخ تاج الدين(1/71)
ابن الفركاح، والمحب الطبري وكانا معاصري الشيخ محيي الدين، وتبعهما بعض المتأخرين.
الموضع الثاني:
أن البيهقي وهو من الشافعية جنح إلى النسخ فقال: باب من قال يجعل آخر صلاته وتراً، وأن الركعتين بعد الوتر تركتا، ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) ثم ساق حديث أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) ثم ساق حديث [الأسود بن يزيد] أنه دخل على عائشة ليسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ((كان(1/72)
يصلي ثلاث عشرة ثم يصلي إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين ثم قبض حتى قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات وآخر صلاته من الليل الوتر.
أخرجه أبو داود عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل بن إبراهيم عن منصور بن عبد الرحمن عن أبي إسحاق، وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن مؤمل بن هشام بهذا الإسناد لكن قال عن مسروق بدل الأسود.
قال البيهقي: وقول أبي داود أولى بالصواب.
الموضوع الثالث:
ما جزم به من حكم كان يفعل كذا، نزع فيه بما بسط في غير هذا الموضع، والذي يتبادر إلى الفهم من كان إذا علق بها الفعل المضارع الزيادة على المرة.
الموضع الرابع:
ما أنكره من الترجيح بين الروايتين ليس بجيد، لأن(1/73)
الجمع الذي ذكر صلاته فعلهما لبيان الجواز بعيد، لأنه كان يصلي الوتر غالباً في بيته، وقد فعل النافلة جالساً بحضرة الصحابة، فكيف يحتاج إلى فعله لبيان الجواز سراً، وكيف يبين الجواز بفعله صلى الله عليه وسلم مع صريح قوله وأمره بخلاف ذلك مع ما يطرق الفعل من الخصوصية، واحتمال أن يكون ذلك بعد طلوع الفجر فيكونا سنة الفجر، واحتمال أن يكون قضاء الفائتة ونحو ذلك.
وإذا كان هذه الأمور موجودة وأمكن التمسك بها تعين المصير إلى الترجيح ويتأيد بما ذكره البيهقي فيبقى الأمر على ظاهره، ويتعين القصد إلى جعل آخر الصلاة بالليل وتراً.
فإن قيل احتمال كونهما ركعتي الفجر بعيد، لأنه لم ينقل أنه صلى الرواتب جالساً.
قلنا: قد ورد ما يدل على أن المراد بصلاتهما جالساً إنما هو حال القراءة فيهما فقد أخرج ابن خزيمة في ((صحيحه)) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/74)
فقالت: ((كان يصلي ثلاث عشرة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع)) وهذه الزيادة تقيد الروايات المطلقة عن عائشة رضي الله عنها وهي صحيحة الإسناد فتعين المصير إلى ما دلت عليه وذلك بحمل المطلق على المقيد.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى النافلة قاعداً، وأنه قال لعبد الله بن عمرو لما سأله عن ذلك، وذكر له حديث صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم قال: ((أجل ولكني لست كأحدكم)) فعرف أنه يختص بكون صلاته النافلة عن قعود يقع له ثوابها تاماً لا على النصف كغيره ممن يصلي النافلة عن قعود بلا عذر، فلو حمل صلاة الركعتين اللتين بعد الوتر جالساً في جميعها لم يقدح في كونهما راتبة الفجر.
وقد جنح القرطبي في ((المفهم)) إلى أن المراد بالركعتين اللتين صلاهما بعد الوتر ركعتا الفجر، قال: ((وقول عائشة رضي الله عنها ((ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد))،(1/75)
معناه أنه كان يسلم من وتره وهو قاعد، وأرادت بذلك الإخبار بمشروعية السلام، ولم ترد أنه صلى ركعتي الفجر فتهجد)) انتهى، ولا يخفى تعسفه.
وقد ورد حديث عائشة رضي الله عنها في النسائي بسند صحيح بلفظ ((وصلى الركعتين وهو قاعد بعدما سلم)).
ويدل على أنهما غير ركعتي الفجر ما وقع عند مسلم في رواية أخرى ((ثم يصلي ركعتين وهو جالس ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة)).
ورأيت عن الشيخ شهاب الدين السهروردي في صلاة الركعتين بعد الوتر شيئاً لم أره لغيره، فإنه حمل ذلك على(1/76)
من أراد أن يتطوع بعد وتره، وحاول بذلك الجمع بين عدم نقض الوتر وبين وجود كون الوتر آخر صلاة الليل، فقال: ((إذا أوتر ثم أراد أن يتهجد فليصل ركعتين جالساً فإنه يقوم له مقام ركعة من حيث الثواب فتصير صلاته من هذه الجهة شفعاً ثم يصلي ما بدا له ثم يوتر فلا ينقض الوتر صورة وإن لزم من ذلك نقضه حكماً، ويقع الوتر آخر صلاته)) انتهى.
ولا يخفى تكلفه ويبعده ما تقدم من الألفاظ التي أوردتها عن القرطبي. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/77)