ص -160- ... وابن عبّاس رضي الله عنهما مثَّل بالشرك الأصغر لينبِّه به على ما هو أشدّ منه وهو الشرك الأكبر، فإذا كان الشرك الأصغر لا يجوز فكيف بالشرك الأكبر؟، والسّلف يستدلون بالآيات النّازلة في الشرك الأكبر على منع الشرك الأصغر، لأنّه نوعٌ من الشّرك، وقوله تعالى: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}" يشمل هذا وهذا.
يُستفاد من هاتين الآيتين مع قول ابن عبّاس رضي الله عنهما مسائل كثيرة:
المسألة الأولى: أن التّوحيد هو أعظمُ مأمورٍ به، لأن الله بدأ به في أوّل نداء في المصحف الشريف.
المسألة الثانية: في الآية دليلٌ على أنّ الإقرار بتوحيد الرُّبوبية لا يكفي في التّوحيد، لأن الله أخبر أنّ المشركين يعلمون هذا فقال: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أنه لا خالق لهذه الأشياء المذكورة وغيرها إلا الله فلماذا تعبدون معه غيره ممن لا يخلق شيئاً.
المسألة الثالثة: في الآيتين الاستدلال بتوحيد الرّبوبيّة على توحيد الإلهيّة، وأنّ توحيد الرّبوبيّة وسيلة وتوحيد الألوهيّة غاية، لأنّه هو المقصود وهو المطلوب من الخلْق، لأنّه لَمَّا أمر بعبادته ذكر توحيد الرّبوبية، ففيه الاستدلال بتوحيد الرّبوبية على توحيد الأُلوهية.
المسألة الرابعة: أنّه لا يكفي الأمر بالتوحيد، بل لابد من النّهي عن الشّرك، لأنّ الله قال في الآية الأولى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وقال في ختام الآية الثانية: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}"، فدلّ على أنّه لابد من الجمع بين الأمرين: الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشرك، فالذي يقتصر على الأمر بالتّوحيد ولا ينهى عن الشّرك لم يقم بالمطلوب لأن ذلك لا يحقِّق شيئاً، وهذا في القرآن كثير دائماً بجانب الأمر بالتّوحيد النّهي عن الشّرك، قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر ونهي، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هذا فيه: الكفر بالطّاغوت، والإيمان بالله،(3/281)
فالإيمان بالله لا يكفي، بل لابد من الكفر بالطّاغوت، وكلّ رسول يقول لقومه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فلابد من الجمع بين الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشّرك.
المسألة الخامسة: أنّ هذه الألفاظ التي ذكرها ابن عبّاس تجري على ألسنة(3/282)
ص -161- ... وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذيّ وحسّنه، وصححه الحاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثيرٍ من النّاس وهي من الشّرك، لكنه شرك أصغر، ويسمّى شرك الألفاظ، ولو لم يقصد بقلبه، وهو من اتّخاذ الأنداد.
المسألة السّادسة: فيه أنّ السلف يستدلّون بالآيات النازلة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، لأنّ ابن عبّاس استدلّ بالآية على ذلك، لأنّ الشرك الأصغر يجُرُّ إلى الشرك الأكبر، ففيه: الابتعاد عن الشّرك من كلّ الوُجوه، باللّفظ، وبالنّيّة، وبالفعل.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله" أي: أقسم بغير الله، كأن يقول: والنّبي، أو يقول: والأمانة، أو يقول: وحياتِكَ ما فعلتُ كذا، أو ما أشبه ذلك، بأن يقسم بمخلوق. فالحلف والقسم: تأكيد شيء بذكر معظّم على وجه مخصوص.
وهو تعظيمٌ للمُقْسَم به، والتعظيم إنّما يكون لله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لا يُقْسِمُ إلاّ بالله أو بصفةٍ من صفات الله سبحانه وتعالى.
أمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه يُقْسِمُ بما شاء مِن خلقه، أمّا المخلوق فلا يقسِم إلاّ بالله، ولا يجوز له أن يقسم بغيره كائناً مَنْ كان: لا يقسِم بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالصالحين، ولا يُقسم بالكعبة، ولا يقسم بأي شيء إلا بالله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حلَف بغير الله" كائناً مَنْ كان من ملائكة، أو أنبياء، أو أولياء، أو مشاعر مقدّسة، أو غير ذلك.
"فقد كفر أو أشرك" وهذا إمّا شكٌ من الراوي، يعني: هل قال الرّسول: كفر، أو قال: أشرك، أو أنّ (أو) بمعنى (الواو)، لأنّ (أو) تأتي أحياناً بمعنى (الواو) في لغة العرب، يعني: فيكون المعنى: "فقد كفر وأشرك"، يعني: جمع بين الكفر والشّرك، لأنّ بين الشرك والكفر عموم وخُصوص، فكل مشرك كافر وليس كل كافر يكون(3/283)
مشركاً.
وقد يَرِد سؤال هنا وهو: أنّه جاء في بعض الأحاديث الحلف بغير الله، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْلح َوأبيه إنْ صدَق"، مع قوله: "مَن حلَف بغير الله فقد كفر أو أشرك". فما الجواب؟.(3/284)
ص -162- ... وقال ابن مسعود: "لأنْ أحلِف بالله كاذباً أحبُّ إليّ من أنْ أحلِف بغيره صادقاً".
وعن حُذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجاب عنه العلماء بجوابين:
الجواب الأوّل: أن هذا وأمثاله لا يُقصد به اليمين، وإنما يجري على الألسنة من غير قصد اليمين.
والجواب الثاني: أنّ هذا كان قبل النّهي، فكان في الأوّل يجوز الحلِف بغير الله، وبعد ذلك نُهي عن الحلِف بغير الله، فقوله: "أفلح وأبيه" وأمثاله يكون منسوخاً بالنّهي عن الحلف بغير الله، وهذا هو الذي رجّحه في الشرح.
والشاهد من الحديث للتّرجمة: أن الحلف بغير الله من اتّخاذ الأنداد لله سبحانه وتعالى، لأنّ النّد معناه: النّظير والشّبيه، فالذي يحلف بغير الله يجعل المحلوف به نِدًّا لله وشبيهاً لله سبحانه وتعالى.
قوله: وقال ابن مسعود: "لأن أحلِف بالله كاذباً أحبُّ أليّ من أنْ أحلِف بغيره صادقاً" الكذب حرام، وكبيرة من كبائر الذّنوب، ولكنّه أسهل من الحلف بغير الله، لأنّ الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله كاذباً محرّم ومعصية، ولكنه دون الشرك، لأن الشرك أكبر الكبائر. وسيِّئة الكذب أخف من سيِّئة الشرك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لأن الحلف بالله كاذباً فيه توحيد، والحلف بغير الله صادقاً شرك، وحسنة التّوحيد أعظم من حسنة الصّدق" وسيِّئة الشرك أشدّ من سيِّئة الكذب.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان" هذا نهيٌ من الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين الله وبين المخلوق في المشيئة بأن يقول: "ما شاء الله وشاء فلان"، لأنّ (الواو) لمطلق الجمع والتّشريك، فكأنّك جعلت المشيئة صادرة من الله ومن المخلوق، وهذا شركٌ في(3/285)
اللّفظ، وتصحيح العبارة أن يقال: "ما شاء الله، ثُمَّ شاء فُلان".(3/286)
ص -163- ... وجاء عن إبراهيم النخعي: "أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك". قال: "ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا فيه مسألتان:
المسألة الأولى: النّهي عن عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق بـ (الواو)، وجواز عطفها بـ (ثُمَّ)، والفرق: أنّ (الواو) تقتضي التشريك، و (ثُمَّ) تقتضي الترتيب والتعقيب، فتجعل مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق ومترتِّبةً عليها.
المسألة الثانية: فيه دليل على إثبات المشيئة للمخلوق، رَدًّا على الجبريّة الذين يقولون إنّ المخلوق ليس له مشيئة وإنّما هو مجبَر ومسيَّر، ليس له اختيار ولا مشيئة، وهو مذهبٌ باطل، فالمخلوق له مشيئة، لكنها بعد مشية الله: قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30)}، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)} فأثبت سبحانه وتعالى للمخلوق مشيئة، وجعلها بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، فمشيئة المخلوق مترتّبة على مشيئة الخالق سبحانه وتعالى.
وفي حديث حذيفة مسألة ثالثة: وهو أنّه مَن منع من شيء فإنّه يذكُر البديل الصّحيح عنه إن كان له بديل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مَنع من هذه العبارة ذكر البديل الصحيح عنها وهو قولُ: "ما شاء الله ثم شاء فلان".
قوله: "وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره: أعوذ بالله وبك" الاستعاذة نوعٌ من أنواع العبادة، لا يجوز صرفُها إلاَّ لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تقول: "أعوذ بالله وبك"، لأنّك إذا قلتَ هذا شرَّكت بين الخالق والمخلوق، والتجأت إليها جميعاً، وهذا شرك، لكن تصحيح العبارة أن تقول: (أعوذ بالله، ثُمَّ بك)(3/287)
فتأتي بـ (ثُمَّ)، والفرق بين (ثُمَّ) وبين (الواو): أن (ثُمَّ) تجعل الالتجاء إلى المخلوق بعد الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى، فالمخلوق يلتجأ إليه فيما يقدر عليه، فتذهب إلى شخص وتطلُب منه أنه يمنع عدوّك عنك، إذا كان هذا الشخص حياً يقدر على منع عدوّك عنك. أمّا العياذ المطلَق فإنّه لا يكون إلاَّ بالله سبحانه وتعالى ولا يجوز العياذ بالميت مطلقاً.
وقوله: "ويقول: لولا الله ثُمَّ فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفُلان" سبق شرحه.(3/288)
ص -164- ... وهذا مما يدل على أنه يجب تعليم النّاس أُمور العقيدة، وما يُخِلُّ بها وما ينقِّصُها، لأنّ أغلب النّاس الآن - إلاّ ما شاء الله- أعرضوا عن تعليم العقيدة وتعلُّمها، ولا يعتنون بها، ولا يدعون إليها إلاّ ما شاء الله، وإلاّ فالأكثر يركِّزون على أمورٍ أخرى جانبيّة لا تُفيد شيئاً إذا اختلّت العقيدة، حتى ولو صحّت هذه الأغلاط الجانبية التي يريدون إصلاحها، لو صلحت وصحّت ما نفعت بدون إصلاح العقيدة، فالعقيدة هي الأساس، يجب أن نتعلّمها أوّلاً، وأن ندعوَ إليها أوّلاً، وأن نصحِّح الأخطاء فيها قبل تصحيح الأخطاء في المعامَلات، وتصحيح الأخطاء في الآداب والأخلاق. وما انتشرت هذه الأُمور في النّاس إلاَّ لَمّا قَلّ تدريس التوحيد وشرح العقيدة والدعوة إليها في المحاضرات والندوات والصُّحف والمجلات فانتشرت هذه الأمور، بسبب شياطين الإنس والجن الذين يريدون إفساد عقائد النّاس، فالاهتمام بأمر العقيدة وتصحيحها هو أمّ المهمّات: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بدأ بالعلم بمعنى {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} قبل العمل والاستغفار، لأنّه هو الأساس الذي تنبني عليه أمور الدين كلّها.(3/289)
ص -165- ... [الباب الثالث والأربعون:]
* باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليَصْدُق، ومن حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله " رواه ابنُ ماجه، بسند حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء فيمن لم يَقنع بالحلف بالله" يعني "ما جاء فيه من الوعيد، وأنّه ينقِّص التّوحيد، لأنّ الذي لا يقنع بالحلف بالله لا يعظِّم الله سبحانه وتعالى حق التّعظيم، لأنّه لو كان يعظِّم الله حقّ التعظيم لرضيَ بالحلف به، فكونه لا يرضى ولا يقنع بالحلف بالله دليلٌ على نُقصان تعظيمه لله، وهذا ينقِّص التوحيد، كما أنّ كمال تعظيم الله كمالٌ في التّوحيد.
هذا وجه المناسبة لعقد هذا الباب في كتاب التوحيد.
ثم ذكر الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم" سبق في الباب الذي قبله النهي عن الحلف بغير الله، وأنه شرك أو كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، لأنّ الحلف تعظيمٌ للمحلوف به، ومَن عظّم غيرَ الله بالحلف به فإنّ هذا شركٌ بالله عزّ وجلّ، وهو يختلف باختلاف الحالفين: من كان يعظِّم المحلوف به كما يعظِّم الله فهو شركٌ أكبر، ومن كان لا يعظِّمه كتعظيم الله بل عنده نوعُ تعظيم لا يساوي تعظيم الله، فإنّه يكون شركاً أصغر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم" ليس هذا خاصًّا بالآباء، فالحلف بغير الله لا يجوز، سواء كان بالآباء أو بغيرهم، وسواء كان بالآدميِّين من الرُّسل والصالحين، أو كان بالكعبة، أو غير ذلك، فالمخلوق لا يجوز له أن يحلف إلاّ بالله عزّ وجلّ، فذكره الآباء هو من باب ذكر بعض أفراد المنهي عنه، لأنّ عادتهم أن يحلفوا بالآباء.
قوله: "ومن حلف بالله فليصدُق " هذا أمرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الحالف بالله يجب عليه أن يصدُق،(3/290)
فلا يحلف بالله كاذباً، لأنّ من حلف بالله وهو كاذب فقد استهان(3/291)
ص -166- ... بعظمة الله سبحانه وتعالى، وإذا انضاف إلى ذلك: أن يأخذ مالاً بغير حق بموجب هذه اليمين، فهي يمين فاجِرة، يقتطع بها مال امرئ مسلم.
والحلف بالله كاذباً هي اليمين الغَموس، سُمِّيت بذلك لأنّها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النّار- والعياذ بالله-، كالذي يحلف على السِّلع في البيع والشّراء أنها جيّدة، وهي ليست كذلك، أو أنها سليمة وهي ليست كذلك، أو أن قيمتَها كذا وكذا، ليرغِّب النّاس فيها وهو كاذب، فإذا حلف على أمرٍ ماضٍ كاذباً متعمِّداً فهذه هي اليمين الغَموس، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، لأنّ الكذب في حد ذاته كبيرة: قال الله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ(105)}، فالكذب في حدّ ذاته كبيرة، فإذا انضاف إليه يمين كاذبة صار أشدّ وأعظم، وجاء في الحديث: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: المُسْبِل، والمنّان، والمنفِّق سلعته باليمين الكاذبة".
وقوله: "ومن حُلف له بالله فليرضَ" هذا محل الشاهد من الحديث للباب، ومعناه: فليرضَ باليمين بالله تعظيماً لله سبحانه، وهذا يدل على كمال التوحيد. ثم الحالف إنْ كان صادقاً فهو على ما حلف، وإنْ كان كاذباً فإثُمه عليه.
قوله: "ومن لم يرض فليس من الله" هذه براءة من الله ممن لم يقنع بالحلف به، وهذا وعيد شديد.
فيجب تعظيم اليمين بالله والرّضا بها، سواءً كانت في الخُصومات أو كانت في الاعتذارات، فالمسلم يحسن الظنّ بأخيه المسلم.
وهذا الحديث يدلّ على مسائل:
المسألة الأولى: تحريم الحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم".
والمسألة الثّانية: وُجوب الصدق في الأيمان وعدم الكذب فيها، لأنّ الصدق في الأيمان تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وتعظيمٌ لعهده.
والمسألة(3/292)
الثالثة: وجوب القناعة بالحلف بالله، وتحريم عدم القناعة بالحلف بالله، لأنّ ذلك تعظيمٌ لجانب الله سبحانه وتعالى، وثقةٌ بالحلف به، وأن لا يُستهان باليمين بالله، لا من الحالف ولا من المحلوف له، بل تعظَّم من الجانبين، وهذا من حقوق التوحيد، وعدمُه من نُقصان التّوحيد.(3/293)
ص -167- ... [الباب الرابع والأربعون:]
* باب قول: ما شاء الله وشئت
عن قتيلة: أن يهودياً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب قول: ما شاء الله وشئت" يعني: ما ورد في ذلك من النّهي، وأنّه شركٌ وتنديد؛ لأنّك إذا قلت ذلك شرَّكْتَ بين الخالق والمخلوق في المشيئة، حيث عطفتَ بالواو، والواو تقتضي التشريك، فهذا شرك في الرّبوبيّة، وهو لا يجوز، وإنْ كان القائل لا يعتقد هذا في قلبه، فهو شركٌ في اللّفظ منهيٌّ عنه، فكيف إذا اعتقد هذا في قلبه؟، فالأمر أشدّ.
قوله: "عن قُتَيْلة" هي قُتَيْلَة بنت صَيْفِي الأنصاريّة، وبعضُهم يقول: الجُهَنِيَّة.
قوله: "أن يهودياً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تُشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة" هذا اليهودي عرف أنّ هذا شرك، وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ووجّه أمّته أن يستبدلوا هذه الألفاظ بألفاظٍ صحيحة، فيقولوا "ورب الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت".
فقوله: (قولوا: وربّ الكعبة) وربُّ الكعبة هو الله سبحانه وتعالى، والكعبة: بَيْتُ الله، فلا يحلف بالكعبة، وإنّما يحلف بربّ الكعبة، هذا هو البديل الصحيح الخالي من الشرك.
وإذا كان الحلف بالكعبة شركاً ومنهياً عنه؛ فكيف بالحلف بغيرها من المخلوقات؟. وقوله: قولوا: "ما شاء الله ثم شئت"، هذا هو اللّفظ الصحيح: أن تأتي بـ(ثُمَّ) بدل (الواو)، لأنّ (الواو) للتشريك بين الخالق والمخلوق في المشيئة، أما (ثُمَّ) فإنّها للتّرتيب حيث جعلت مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق، لأنّ المخلوق لا يشاء إلاّ إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فمشيئته تابعة لمشيئة الله وليست مستقلّة، فهذا هو فرقُ ما بين اللّفظتين لفظة: "ما شاء الله وشئت" وبين: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت"، فلفظة "ما شاء الله وشئت"(3/294)
شركٌ، ولفظة: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت" توحيد.(3/295)
ص -168- ... فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا:"ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمخلوق له مشيئة، خلافاً للجَبْرِيَّة الضُّلاَّل الذين يقولون: إنّ المخلوق ليس له مشيئة، بل هو مجبور، يفعل الكفر والمعاصي والشرك من غير اختياره، مثل الآلة التي تُحَرَّك والريشة التي تحرِّكُها الريح، ولو كان كذلك لم يستحقّ العذاب على المعصية، ولم يستحقّ الثواب على الطاعة.
ويقابلهم المعتزلة الذين قالوا: العبد له مشيئة مستقلة لا تتعلّق بمشية الله، فهو يفعل الكفر والمعاصي بغير مشيئة الله، وإنّما بمشيئته مستقلاً بها. تعالى الله عمّا يقولون، وهذا معناه: أنه يحدُث في ملك الله ما لا يشاؤُه. وليس من لازم مشيئة الله: محبته لكل ما يشاؤه سبحانه؛ فهو يشاء كفر الكافر ولا يحبه، وإنما يشاؤه ويخلقه لحِكمة بالغة وهي الابتلاء والامتحان. وإلاَّ فـ "لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً" ولكن اقتضت حكمته أن يفاوت بينهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله نِدًّا؟!، قل: ما شاء الله وحده" الند هو: الشّبيه والمثيل والنّظير، يعني: أجعلتني شبيهاً لله ومثيلاً لله وشريكاً له في المشيئة، ثم أمره أن يستبدل هذه اللفظة بلفظة التّوحيد فيقول: ما شاء الله وحده.
وهذا إرشاد إلى الأكمل أن يقول: ما شاء الله وحده، وإذا قال: ما شاء الله، ثُمَّ شئت. فهذا بيانٌ للجائز، فلا تعارُض بين الحديثين.
وهذا من سدّ الطُرُق الموصلة إلى الشرك، فإنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرك ونهى عن الطرق التي توصل إليه، فإذا تلفظ بذلك- ولو كان لا يعتقد- فهذا وسيلةٌ إلى الاعتقاد فيما بعد، فيُمنَع اللفظ وإنْ كان لا يعتقد بمعناه لئلا يفضي هذا إلى الاعتقاد.
وهذان الحديثان فيهما فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: ما ذكره الشيخ رحمه الله في مسائله قال: "فيه فَهْمُ الإنسان(3/296)
إذا كان له هوى"، فهذا اليهودي مع كونه يهوديًّا مغضوباً عليه فهم أنّ هذا من الشّرك، لأنّه يريد أن يتنقّص هذه الأُمّة، ومع هذا تقبّل الرّسول صلى الله عليه وسلم هذه الملاحظة، وأرشد إلى تصحيحها.(3/297)
ص -169- ... وله- أيضاً- عن ابن عبّاس: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله نداً؟!، بل ما شاء الله وحده".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا فيه فائدة ثانية وهي: قَبول الحقّ ممّن جاء به ولو كان عدوًّا.
وفيه فائدة ثالثة: نبّه عليها الشيخ رحمه الله وهي: أن اليهود على ضلالهم يفهمون الشّرك، وبعض علماء هذه الأُمّة لا يفهمون الشرك، ولذلك يرون جواز عبادة ا لأضرحة والقُبور، ولا يستنكرونها، ويقولون: هذا من التوسُّل بالصالحين، وليس شركاً، أو هذا يدلّ على محبة الصالحين. ويحبِّذون هذا الشيء، ويرون أنّه ليس بشرك، مع أنه شركٌ مخرجٌ من الملّة، والذي ذكره هذا اليهودي شركٌ أصغر لا يُخرِجُ من الملّة، وبعض المنتسبين إلى العلم من هذه الأمة لا يُنكرون الشرك المخرِج من الملّة الذي يَعُجُّ الآن في العالم الإسلامي بعبادة غير الله، ففيه أن بعض اليهود أفهم من بعض العلماء المنتسبين إلى الإسلام، نسأل الله العافية والسلامة.
الفائدة الرابعة: النّهي عن قول: (ما شاء الله وشئت)، والنّهي عن الحلف بالكعبة، وبغيرها من المخلوقات، لأنّ الحلف بغير الله شرك، لأنّه تعظيمٌ لغير الله سبحانه وتعالى، ولا يستحقّ التعظيم على الوجه الأكمل إلاّ الله سبحانه وتعالى، ففيه: أن الحلف بغير الله شرك، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ هذا اليهودي على قوله: "إنكم تُشركون"، فدل على أنّ هذه الألفاظ شرك.
الفائدة الخامسة: التّوجيه أنّ العالِم إذا منع من شيء؛ فإنّه يوجِّهُ إلى البديل الصّالح، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وجّه إلى أن يُقال: "وربّ الكعبة"، وأن يقال: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت"، فمن أفتى بتحريم شيء أو بمنع شيء وهُناك له بديلٌ صالح فإنّه يوجِّه إليه، كما فعل النّبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة السادسة: وفي حديث ابن عبّاس في الرّجل الذي قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء(3/298)
الله وشئت، قال له: "أجعلتني لله نِدًّا" فيه: إنكار المنكر، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، لاسيّما إذا كان هذا المنكر شركاً يُخِلُّ بالعقيدة فإنّه لا يجوز السُّكوت عليه، بل يجب أن يبيِّن ويُنبِّه، وهذا يشهد لِمَا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير الآية التي سبقت، وهي قولُه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال ابن عبّاس هو قولُ الرّجل: "لولا الله وفلان، لو كُلَيْبَة هذا لأتانا اللّصوص، لولا البطّ لأتى اللُّصوص"،(3/299)
ص -170- ... ولابن ماجه: عن الطفيل -أخي عائشة لأمها- قال:
رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ففسّر اتّخاذ الأنداد بهذه الأشياء، وها هو الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقول: "أجعلتني لله نِدًّا؟"، فدلّ على أنّ قول: (ما شاء الله وشئت) اتّخاذ للنِدّ مع الله سبحانه وتعالى وإنْ كان من الشّرك الأصغر.
قوله: "ولابن ماجه: عن الطُّفيل- أخي عائشة لأمّها-" الطُّفَيل هو: الطُّفَيْل بن عبد الله بن سَخْبَرَة الأَزْدي، نِسْبَةَ إلى الأَزْد؛ قبيلةٌ عربيّة مشهورة، وأبوه: عبد الله بن سَخْبَرَة جاء إلى مكّة قبل البِعْثة وحالَف أبا بكر الصدِّيق، كما كان عليه الأمر في الجاهلية أنهم يتحالفون، ويصبح الحليِف أخاً لحليفه يدافِع عنه ويناصره ويحميه، بل إذا مات يَرِثُه، ويصبح الحليف مختلطاً بحلفائه كأنّه واحدٌ منهم، ثم نسخ الإسلام الأحْلاف وأبطل الميراث الذي يكون بالحِلْفِ، وقال الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فجعل الميراث لأولى الأرحام، يعني: الأقارب دون الحلفاء، ثم مات عبد الله بن سَخْبَرَة، وكانت زوجته يقال لها: (أُمْ رُوْمَان)، فتزوجها أبو بكر الصدِّيق بعد حليفه عبد الله بن سَخْبَرَة، وأنجبت منه عبد الرحمن بن أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان الطّفيل بن عبد الله أخاً لعائشة من أمها.
"قال: رأيت" يعني: في النّوم. والرؤيا حقّ، وهي جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النّبوّة.
قد ذكر ابن القِّيم رحمه الله في كتاب "الروح" أن الرؤيا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حق، وهو ما يجري على يد ملَك الرؤيا، يأتي إلى النائم فيُريه أشياء عجيبة، فيستيقظ النائم وقد(3/300)
رأى هذه الرؤيا فتقع كما رآها.
النوع الثّاني: يكون من الشيطان، وذلك: أنّ الإنسان إذا نام ولم يذكر الله عند النوم، ولم يقرأ آية الكرسي، ولم يقرأ سور الإخلاص والمعوِّذتين، ولم يتعوّذ بالله(3/301)
ص -171- ... ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الشيطان الرجيم، ويأتي بالأدعية المشروعة عند النّوم، فإنّ الشيطان يتسلّط عليه، ويكدِّر عليه نومه، ويُريه أشياء باطلة لا حقيقة لها من أجل أن يكدِّره. والسبب: أنه لم يتحصّن بالله من الشيطان قبل النوم.
النوع الثالث: حديث نفس، وذلك أنّ الإنسان يفكِّر في أشياء في اليَقظة، أو تُهِمُّه أشياء، فإذا نام فإنّ هذه الأشياء تَعْرِضُ له في نومِه، لأنّه كان مهتمًّا بها في اليقظة. وهذا حديث نفس ليس له حقيقة، وإنما هو أضغاث أحلام.
قوله: "كأنِّي أتيتُ على نَفَرٍ من اليهود" النفر: الجماعة، واليهود: هم أتباع موسى- عليه الصلاة والسلام- في الأصل. قيل: إنّهم سُمُّوا باليهود نسبة إلى (يهودا ابن يعقوب)، وقيل: سُمُّوا يهوداً أخذاً من قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} يعني: تُبْنا إليك، من (الهَوْد) وهو التّوبة والرُّجوع إلى الله سبحانه وتعالى. هذا في الأصل، ثم صار يُطلق لفظ اليهود على المنتسبين إلى إتِّباع موسى، وإن كانوا قد خالفوه في أشياء كثيرة، وكذبوا عليه، وأَحْدَثوا في دينِه الأشياء القبيحة من الشرك بالله والكلام في حق الله سبحانه وتعالى.
قوله: "قلت: إنكم لأنتم القوم" هذا مدحٌ لهم، لأنهم كانوا في الأصل على دين صحيح.
"لولا أنّكم تقولون: عُزير ابن الله" ينسبون الولد إلى الله سبحانه وتعالى، و"عُزَيْر" اسم رجلٍ منهم، قيل: إنّه نبي، وقيل: إنّه رجلٌ صالح وعالِمٌ من علمائهم.
"لولا أنكم" يعني: لولا هذه المقولة الكافرة فيكم.
"قالوا" ردًّا على الطُّفيل.
"وأنتم لأنتم القوم" يمدحون المسلمين.
"لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد" فيه: أن الإنسان يرى عيب غيره، ولا يرى عيب نفسه، وإن كان عيبه أكبر من(3/302)
عيب غيره. وفيه: قبول الحق ممن جاء به.
قال: "ثم مررت على نفرٍ من النصارى" النصارى: أتباع عيسى عليه السلام في الأصل. قيل: سُمُّوا نصارى نسبةً إلى البَلد (الناصرة) بفلسطين، وقيل: سُمُّوا نصارى من قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}.(3/303)
ص -172- ... فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟ "، قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله" وهو عيسى ابن مريم، سُمِّي بالمسيح لأنّه يمسح بيده على ذي العاهة فيبرأ بإذن الله. فالنصارى غلوا في المسيح كما غَلَت اليهود في عُزير.
ثم رد عليه النصارى بمثل ما قاله اليهود، قال طُفيل: "فلما أصبحتُ أخبرتُ بها مَن أخبرت، ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟ "، قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمّا بعد" هذا فيه: دليل على مشروعية حمد الله والثّناء عليه في بداية الكلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ أمر ذي بال لا يُبدأُ في بالحمد لله فهو أبتر"، ولهذا افتتح الله كتابه العظيم القرآن بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)}، وفيه استحباب الإتيان بأما بعد، وهي كلمة يُؤتَى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر.
"فإن طُفيلاً قد رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنّكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" قيل: كان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم الحياء، لأنّه لم ينزل عليه وحيٌ في المنع منها.
"فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" لَمّا نبّههم على خطأ هذه الكلمة أرشدهم إلى البديل الصالح منها، وهو أن يقولوا: ما شاء الله وحده.
فهذه القصة فيها فوائد عظيمة ودُروس وعِبَر:
الفائدة الأولى: أن الرؤيا حقّ، ولذلك: لا يجوز الكذب في الرؤيا، وجاء في الحديث الوعيد على ذلك.
الفائدة الثّانية: فيه: فهم الإنسان(3/304)
إذا كان له هوى، فهؤلاء اليهود والنصارى لَمّا كان لهم هوى في حق المسلمين؛ لاحظوا هذه المسألة، لا حُبًّا في الخير أو حِرْصاً على التّوحيد، ولكنّهم يريدون بذلك تنقُّص المسلمين، والتماس عيوبهم، وإن كان في اليهود والنصارى عيوب أكثر منها.(3/305)
ص -173- ... الفائدة الثالثة: قَبول الحقّ ممّن جاء به ولو كان عدوًّا، لأنّ الحق ضالّة المؤمن، والرُّجوع إلى الحقّ فضيلة.
الفائدة الرّابعة: في الحديث دليل: على أنّ من نهى عن شيء أو منع من شيء وكان له بديل صالح أن يأتيَ بالبديل، فالنّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا منع من هذه الكلمة "ما شاء الله وشاء محمد" أتى بالبديل الصالح الذي ليس فيه محذور وهو أن يقال: "ما شاء الله وحده".
الفائدة الخامسة- وهي التي ساق المصنّف الحديث من أجلها-: أنّ كلمة "ما شاء الله وشاء فلان" ولو كان نبيًّا من الأنبياء؛ شركٌ بالله عزّ وجلّ يجب تركُه، ولكنّه من الشّرك الأصغر، بدليل قوله: "يمنعني كذا وكذا"، فإذا كان الإنسان لم يقصد معناه؛ فإنّه شركٌ في الألفاظ، فيجب تركُه واجتنابُه والابتعاد عنه.
الفائدة السادسة: أنه لا يجوز الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم وإشراكه مع الله في شيء، ودعاؤه، والاستغاثة به من دون الله عزّ وجلّ لأنه نهى أن يقال "ما شاء الله وشاء محمد" فما بالك بما هو أشد من ذلك من أنواع الغلو.(3/306)
ص -174- ... [الباب الخامس والأربعون:]
* باب من سب الدهر فقد آذى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب من سبّ الدهر" السبّ معناه: الذّم والتنقُّص، والدهر المراد به: الزمان والوقت.
ومعنى: "آذى الله": أن الله سبحانه وتعالى يبغض ذلك ويكرهه، لأنّه تنقُّصٌ لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده وأقوالهم التي فيها إساءةٌ في حقّه، ولكنّه لا يتضرّر بذلك، لأنه الله لا يضرُّه شيء: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً(57)}، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177)}.
وفي الحديث: "يا عبادي إنّكم لن تبلُغوا ضرّي فتضرّوني" ففرقٌ بين الضرر والإيذاء.
ووجهُ كونه يتأذّى بسبّ الدهر: لأن السبب يكون متوجهاً إليه، لأنّه هو المتصرِّف الذي يجري في قدَره وقضائه الخير والشّرّ والمكروه والمحبوب، أما الدهر فإنّما هو زمانٌ ووقتٌ للحوادث، لا أنّ الدهر نفسه هو الذي يتصرّف ويُحدِث هذه الحوادث التي تجري فيه، وإنّما الدهر زمانٌ ووقتٌ للأعمال كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً(62)}، بل إنّ الله جعل بعض الأزمان له خاصيّة وفضيلة في مضاعفة الأعمال مثل شهر رمضان، وعشر ذي الحجّة، ويوم عرفة، وبوم الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، ويوم الجمعة الذي هو سيّد أيّام الأسبوع وهو عيد الأسبوع، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ووقت السّحر. هذه أوقات فاضلة تُضاعَف فيها الأعمال، ويُستجاب فيها الدّعاء أكثر من غيرها، فالدهر في الحقيقة نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى لمن حفظه فيما ينفعه، أما مَن ضيّعه(3/307)
فإنّه يكون حَسْرةً عليه يوم القيامة، فالدّهر إنما هو وقتٌ للأعمال، يَجري فيه الخير والشرّ، والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان. فلا يتعلّق بالدهر مدح ولا ذم، لأنّه مجرّد زمان ومجرّد وقت للأعمال خيرها وشرِّها، ومَن علّق الذم بالدهر فإنّما يذمّ الخالِق سبحانه وتعالى لأنّ الدهر مخلوق لا يخلق ولا يُحْدِث شيئاً، وإنّما الذي يخلُق هو الله سبحانه وتعالى.(3/308)
ص -175- ... وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ساق الشيخ رحمه الله الآية، وهي قولُه تعالى عن المشركين: "{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24)}" ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن المشركين، الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهم يُنكرون البعث ويستبعدونه، ويزعمون أنّه لا يمكن حصول البعث لأنّ الأجسام تتفتّت وتضيع وتذهب، فمن أين الإعادة لشيء قد ضاع وتفتّت وذهب: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)}، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً(50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً(51)}، {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً(11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12)}، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ(17)}، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)}، فيا سبحان الله أين العُقول؟!، فالذي خلقهم من لا شيء، وأوجدهم من العَدَم في أوّل مرّة؛ ألا يقدر على(3/309)
إعادتهم مرّة ثانية؟، بل من ناحية العُقول: أنّ الإعادة أسهل من البداءة: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)}، مع أن الله لا يصعُب عليه شيء سبحانه وتعالى، لا الإعادة ولا البداءة، الكلّ سهلٌ عليه ويسيرٌ عليه لكن هذا من جهة التصور العقلي.
ثم- أيضاً-: لو لم يكن بعثٌ ونُشور للزِم أن يكون خلق الخلق عبثاً لا نتيجة له، وهذه الأعمال لا نتيجة لها: الإيمان والطاعة والاستقامة والعبادة لا نتيجة لها إذا لم يكن هُناك بعث، الكفر والمعاصي والإلحاد والفُسوق والظُّلم والعُدوان لا نتيجة له، لأنّنا نرى أنّ النّاس يموتون الطائع والعاصي المؤمن والكافر، الكافر يموت على كفره، والمطيع يموت على طاعته، وقد يكون المطيع في هذه الدنيا في فقر وحاجة ومرض وآلام، وقد يكون الكافر في نعيم وفي رفاهية وفي أُبَّهة من العيش مع كفره، إذاً: أين النتيجة؟، لا بدّ أن هناك داراً أُخرى تظهر فيها النتائج،(3/310)
ص -176- ... تظهر فيها نتيجة الطّاعة، ونتيجة المعصية، وإلاّ للزِم أن يكون خَلْقُ الخلْق عبثاً، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)}، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(22)}، وقال سبحانه وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)}، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)}؟، هذا تأباه حكمة الله سبحانه وتعالى، فكون المطيع الصالح العابد يعيش في هذه الدنيا في ضيق ومرض وفقر وفاقة؛ لأنّ الله ادّخر له جزاءً يوم القيامة، وكون العاصي والكافر يعيش في سُرور وفي رغَدٍ من العيش مع كفره؛ هذا لأنّ الله أعدّ له النّار يوم القيامة؛ {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}، تأبى حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُضيع أعمال العباد سُدى، وأن يسوِّي بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي، تأبى حكمة أحكم الحاكمين أن تتّصف بذلك، فلولا أنّ هناك بعثاً يحاسَب فيه العباد ويجزى كلُّ عامل بعمله للزم العبث وللزم الجور والظُّلم من الله، تعالى الله عن ذلك، دلّ هذا على أن هناك داراً أُخرى غير هذه الدّار، أخبر الله عنها، وتواترت بها أخبارُ الرُّسل- عليهم الصلاة والسّلام-، لكنّ المشركين الذين بُعث(3/311)
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون البعث لجهلهم بقدرة الله سبحانه وتعالى، ويقيسون قدرة الخالق على قدرتهم، ولهذا استصعبوا البعث، ورأوه مستحيلاً؛ أن يبعث الله هذه الأجسام بعد تفتُّتها وضياعها في الأرض، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يعلم مستقرّها ومستودَعها ويعلم مصيرها، ولو فنَيتْ وصارت تُراباً فالله يعلم هذه الأجسام وما تحلّل منها وقادرٌ على إعادتها: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)}، بل إنّ كل جسم الإنسان يفنى إلاَّ عَجْبَ الذَّنب، وهو: حبّة صغيرة، منها يركَّبُ خلقُ الإنسان يوم القيامة.
فهم ينكرون البعث والنشور ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ما هناك حياةٌ أُخرى بعد هذه الحياة، ما هناك إلاّ الحياة التي نحن فيها.(3/312)
ص -177- ... {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعني: يموت ناس ويولَد ناس، كما يقولون: أرحام تدفع، وأرض تبلع.
{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي: أنّ سبب الموت إنما هو طول العمر طول الحياة، الإنسان يعمّر ثم يَهْرَم ثم يموت، أو سبب الموت هو: حوادث الدهر، فينسبون الهلاك إلى الدهر.
لماذا أصابهم قحط أو انحباس مطر نسبوه إلى الدّهر، وإذا أصابتهم مجاعة أو أصابهم قتلٌ أو مرض نسبوه إلى الدهر، ويزعمون أنّ هذا من تصرُّف الدهر، ولذلك يهجون الدهر في إشعارهم.
وهذا في الحقيقة إنّما هو ذمٌّ لله سبحانه وتعالى، لأنّ الدهر ليس في مقدوره شيء، فليس هو الذي يصدرُ هذه المجريات، وإنما هي صادرة عن الله سبحانه وتعالى، فمن ذَمّ الدهر فقد ذمّ الله سبحانه.
قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} الواجب أن الإنسان إذا ادّعي دعوى أن يقيم عليها الدليل، وما عندهم دليل، ولهذا قال: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} يعني: ما لهم دليل على هذا، بل الدليل على العكس، على أن الدهر ليس له تصرُّف وإنّما التصرُّف هو للخالق سبحانه وتعالى.
ثم قال: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} يعتمدون على الظّن، والظن {لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
هذا هو المنطق الصحيح في لسان المناظرات، أما مجرّد الوهم ومجرّد الظنّ، فلا يُبنى عليه مثل هذا الأمر العظيم، وهو إنكار البعث.
ثم ساق الشيخ الحديث، وهو من الأحاديث القدسيّة، والحديث القدسي: هو الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه، فهو كلام الله جل وعلا.
يقول جل وعلا: "يؤذيني ابن آدم" الله يتأذّى ببعض أفعال عباده، لكنّه لا يتضرّر بها.(3/313)
ص -178- ... وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسبب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار".
وفي رواية: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم فسّر ذلك الأذى بقوله: "يسبُّ الدّهر" والدهر ليس محلاًّ للسّب، فيكون محلّ السب هو الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الذي خلق أو أوجد هذا الأمر الذي يكرهه هذا الإنسان، فإذا سبّ الدهر فقد سبّ الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، والواجب على أهل الإيمان أنه إذا أصابهم ما يكرهون أن يعتبروا أن هذا قضاء من الله وقدر، وأنّه من الله جل وعلا، وأنّه لم يخلُقه عبثاً، وأنّه بسبب الذّنوب والمعاصي، فيتوب المؤمن، ويصبر على المصيبة، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ولا يُطلق لسانه بذمّ الساعة واليوم والوقت الذي حصل فيه هذا المكروه، وإنما يحمد الله ويشكره ويرضى بقضائه وقدَره، ويعلم أنّه ما أُصيب إلاّ بسبب ذُنوبه، فيحاسب نفسه ويتوب إلى الله تعالى.
ثم بيَّن معنى قوله: "أنا الدهر" فقال: "أقلّب الليل والنهار"، وليس معناه: أن الله يُسمّى الدهر، فليس الدّهر من أسماء الله، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، فمن زعم أن (الدهر) من أسماء الله فقد غلِط.
"وفي رواية:"لا تسبُّوا الدهر" هذا نهي، والنّهي يقتضي التحريم.
ثم علّل ذلك بقوله: "فإنّ الله هو الدهر" يعني: مَن سبّ الدهرَ فقد سبّ الله، لأنّ الله هو الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي أجرى هذا الحادث الذي يكرهه العبد ويتألّم منه، فإذا سبّ الدهر فقد سبّ الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى.
ونخلص من هذا كله إلى مسائل نستنبطها من هذه الآية، ومن الحديث:
المسألة الأولى: تحريم مسبّة الدهر، ومسبّة الدهر على نوعين:
النوع الأوّل: ما يكون كفراً وشركاً أكبر، وذلك إذا اعتقد أنّ الدهر هو الفاعل، وهو الذي أحدث المصيبة، فذمّه من أجل ذلك، فهذا شركٌ أكبر،(3/314)
لأنّه أثبت شريكاً لله تعالى.
النّوع الثاني: أن يعتقد أنّ الفاعل هو الله ولكنّه ينسِب الأذى إلى الدهر، أو ينسب الذمّ إلى الدهر من باب التساهُل في اللّفظ: فهذا أيضاً محرّم، ويُعتبر من(3/315)
ص -179- ... الشّرك الأصغر، حتى ولو لم يقصد المعنى وإنما جرى على لسانه، فيُعتبر من الشرك في الألفاظ.
المسألة الثانية: فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده السيِّئة، ولكنّه جل وعلا لا يتضرّر بذلك.
المسألة الثالثة: في الحديث بيان معنى أنّ الله هو الدّهر، وأنّ معناه: أنّه هو الذي يخلُق، ويدبِّر ويُجري هذه الحوادث في هذا الزمان، وليس معناه أن الدهر من أسماء الله، والحديث يفسِّر بعضُه بعضاً.(3/316)
ص -180- ... [الباب السادس و الأربعون:]
* باب التسمّي بقاضي القضاة ونحوه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب مشابهٌ للباب الذي قبله "باب من سب ّالدهر فقد آذى الله"؛ لأن الباب الذي قبله فيه النّهي عن مسبّة الدهر، لأنّ ذلك يؤذي الله سبحانه وتعالى. وهذا الباب في النّهي عن التسمِّي بالأسماء الضخمة التي فيها العَظَمة التي لا تليق إلاّ بالله سبحانه وتعالى، لأنّ هذا يغيظُ الله سبحانه وتعالى، فسبّ الدهر يؤذي الله، وهذا يغيظ الله سبحانه وتعالى، وكلا الأمرين محرّم شديد التحريم.
ثم يأتي بعد هذا الباب: "باب احترام أسماء الله"، وهو كذلك يُشبِه هذين البابين.
فهذه الأبواب الثلاثة بعضُها يشبه بعضاً، لكنّها لَمّا كانت متنوِّعة نوّعها المؤلِّف رحمه الله، من أجل أن يُعرف كلُّ شيء على حِدَته مفصَّلاً، لأنّ أمور التّوحيد لا بدّ فيها من التّفصيل والبيان، ولا يكفي فيها الإجمال والاختصار.
قوله: "التّسّمي بقاضي القُضاة ونحوه" يعني: كلّ اسم فيه تعظيمٌ شديد للمخلوق من الألقاب والأسماء التي فيها التعظيم الذي لا يليق إلاّ بالله سبحانه وتعالى، مثل: "ملِك الأملاك" و "سيِّد السادات"، وما أشبه ذلك من الألقاب الضّخمة التي يتلقّب أو يتسمّى بها بعض الجبابرة أو المستكبرين.
وكلُّ هذا محرَّم ومنهيٌّ عنه، لأنّ المطلوب من المخلوق التواضُع مع الله سبحانه وتعالى، وتجنُّب ما فيه تزكيةٌ للنفس أو تعظيمٌ للنفس، لأنّ هذا يحمل على الكِبْر والإعجاب، وخروج الإنسان عن طَوره ووضعه الصحيح.
وكلُّ هذا يُخلُّ بعقيدة التّوحيد، لأنّ عقيدة التّوحيد تدور على توحيد الله سبحانه وتعالى، وعلى تنزيه الله عن المشابَهة والمماثَلة، فمن تسمّى باسم لا يليق إلاّ بالله على وجه التعاظُم فهذا فيه تشبيه بأسماء الله سبحانه وتعالى.
فمثلاً: (قاضي القُضاة) هذا لا يليق إلاّ لله عزّ وجلّ، لأنّ الله سبحانه وتعالى الذي يقضي النّاس يوم(3/317)
القيامة القضاء النهائي، يقضي بين جميع الخلْق، ملوكهم وعامّتهم وعلمائهم وعوامّهم، يقضي بين جميع خلقه سبحانه وتعالى، فالقضاء المطلَق هو لله سبحانه وتعالى، فلا يليق أن يقال للمخلوق: "قاضي القُضاة"، لأنّ الله هو الذي يقضي بين جميع(3/318)
ص -181- ... في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجُلٌ تَسَمَّى: ملك الأملاك، لا مالك إلاّ الله ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النّاس يوم القيامة، يقضي بينهم بحكمه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ}، فهو الذي يقضي بين النّاس سبحانه وتعالى.
أما القاضي من النّاس فإنه يقضي بين فئاتٍ قليلة من النّاس، لا يقضي بين كلّ النّاس، وإنما يقضي بين عدد قليل محصور، إما في بلد وإما في قضيّة خاصّة، ثم قضاؤه- أيضاً- قد يكون صواباً وقد يكون خطئاً، أما قضاء الله جل وعلا فإنّه لا يكون إلاّ حقًّا وصواباً، ولا يتطرّق إليه الخطأ والنقص جل وعلا.
ففي هذه الكلمة "قاضي القُضاة" تعظيم زائد، ومنحٌ للمخلوق لصفةٍ لا يستحقُّها ومرتبة لا يرقى إليها.
فالمناسب أن يُقال: "رئيس القُضاة"، بمعنى: أنه يُرجع إليه في أُمور القضاء وتنظيماته ومُجرياته.
وكذلك: "ملِك الأملاك"، لأن المُلك المطلق لله عزّ وجلّ، وهو المُلْك الدائم الشامل، أما ملك المخلوق فهو مُلك جزئي ومؤقت.
فالشيخ رحمه الله ترجم بقاضي القُضاة لأن كلمة "قاضي القُضاة" تدخل في "ملِك الأملاك"، فإذا نُهي عن كلمة "ملِك الأملاك" فإنّ "قاضي القُضاة" تأخُذ حكمها، لأنّ كلًّ من اللّفظتين فيهما التعظيم الزائد عن حقّ المخلوق.
وكذلك ملك المخلوق مِنْحَة من الله سبحانه وتعالى، وعاريّة، لم يملك هذا المُلك بحوله ولا قوّته، وإنّما الله هو الذي ملّكه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)}، فالذي يملِّك الملوك هو الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعطي الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممّن يشاء، أمّا ملك الله جل وعلا فإنّه مُلكٌ حقيقيٌّ عام دائم.
"في(3/319)
الصحيح" يعني: "صحيح مسلم ".
"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أَخْنَع " فسّرها المؤلِّف في آخر الباب: " أَخْنَع" يعني: أَوْضَع" فهذه الكلمة إذا أُطلقت على المخلوق "ملِك الأملاك" فإنّها تكون وضيعةً(3/320)
ص -182- ... قال سفيان: "مثل: شاهان شاه".
وفي رواية: "أغيظ على الله يوم القيامة وأخبثه".
قوله: "أخنع" يعني: أوضع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند الله سبحانه وتعالى، وإن كان مقصود صاحبها الرِّفعة والعُلُوّ، فإنّ الله يجازيه بنقيض قصدِه، ويجعله وضيعاً، كما جاء في الحديث: أن المتكبِّرين يوم القيامة يُحشرون أمثال الذّرّ، وذلك معامَلةً لهم بنقيض قصدِهم.
"رجل تسمّى" وفي رواية: "يُسمّى" بالياء، والفرقُ بينهما "تَسَمّى" يعني: سمّى نفسه، و "يُسَمّى" يعني: سمّاهُ غيرهُ ورضيَ هو بذلك ولم يُنكره.
فهذا فيه سوءُ أدب مع الله سبحانه وتعالى، وتعاظُمٌ ورفعةٌ لا يستحقُّها المخلوق، والله جل وعلا يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)}، فالمؤمن لا يريد العلوّ في الأرض، وإنما يريد التواضُع لله سبحانه وتعالى، وإن تولّى ومَلَك فإنّه لا يُريد العلو، وإنّما يريد بالوِلاية والمُلك الإصلاح والعدل بين النّاس، فإذا كان هذا قصدُه صار من أحبِّ الخلق إلى الله تعالى، وصار من السّبعة الذين يظلُّهم الله في ظِلِّه يوم القيامة، فالملك العادل من السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم القيامة.
فليس معنى هذا النّهي عن تولِّي المُلك، لأن تولِّي السلطة والحكم مطلوب إذا كان القصد الإصلاح، فلا عيب في ذلك، إنما العيب في القصد السيّء، فإنْ كان قصدُه من تولِّي الملك العَظَمة والكبرياء والتجبُّر صار مُهاناً عند الله عزّ وجلّ، وإن كان قصدُه الإصلاح والعدل وإقامة الحق في الأرض صار مأجوراً عند الله سبحانه وتعالى، بل أجرُه عظيم، ومن الذين تُستجاب دعوتهم عند الله سبحانه وتعالى ولا تُردُّ دعوتُه.
"قال سُفيان " هو: سفيان بن عُيينة: الإمام، المحدِّث، الجليل.
"مثل: شاهان شاه" يعني: عند العجم، فمعنى هذا اللقب عندهم:(3/321)
"ملك الملوك".
ومقصود سفيان رحمه الله بهذا أن يبيِّن أنّ هذا اللّقب ممنوعٌ في جميع اللّغات، سواء بالعربيّة أو بالأعجميّة، سواء سُمّي "ملك المُلوك" أو "شاهان شاه"، فالمعنى واحد، وكذلك "قاضي القُضاة" أو ما أشبه ذلك، فهذا منهيٌّ عنه في جميع اللُّغات.
"وفي رواية: أَغْيَظُ" هذا أفعل تفضيل، والغيظ: شدّة الغضب.(3/322)
ص -183- ... [الباب السابع والأربعون:]
* باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم من أجل ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه رحمه الله: "بابُ احترام أسماء الله" أي: إكرامُها وإجلالُها، وعدم إهانتها، أو استعمالها في شيء يُمْتهن.
والأسماء: جمع اسم، والاسم: ما يوضَع علامةً على الشيء مميِّزاً له عن غيره، مأخوذ من السُّمُو وهو الارتفاع، أو من السِّمَة وهي العلامة.
والله سبحانه وتعالى له أسماء سمّى بها نفسَه في كتابه، وسمّاهُ بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنّته، وله أسماء لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}، وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقال تعالى في آخر سورة الحشر:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والنّبي صلى الله عليه وسلم في دعائه يقول: "اللهم إنّي أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، فأسماء الله لا يعلمها إلاّ هو سبحانه وتعالى، وكلّها حسنى.
وتعدُّد الأسماء يدلّ على عظم المسمّى، فهي أسماءٌ عظيمة، يجب على العباد: احترامُها، وإجلالُها، ودُعاء الله تعالى بها، والتوسّل إليه تعالى بأسمائه وصفاته، فيقول في الدّعاء: "يا رحمن يا رحيم، يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام"، لأنّ ذلك من أسباب الإجابة، فدلّ على عظمها.
فلا يجوز أن تُمْتَهَن وأن تُبْتَذَل، أو توضَع في أشياء تُستعمَل وتُهان، كأن تُكتب على أشياء تُداس بالأقدام، أو تقع في الشّوارع والقاذورات، ومَن وجد شيئاً من ذلك وجب عليه رفعُه أو إتلافه، أو إزالة اسم الله تعالى منه، فهذا من احترام أسماء الله سبحانه(3/323)
وتعالى.
وقوله: "وتغيير الاسم" أي: إذا سُمّي شيء من المخلوقات باسم من أسماء الله الخاصّة به، كـ (الله) أو (الرحمن) أو ما أشبه ذلك من أسمائه الخاصّة به التي لا يُسمّى بها غيرُه؛ فإنّه يجب تغيير الاسم احتراماً لأسماء الله.(3/324)
ص -184- ... عن أبي شُريح: أنّه كان يُكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله هو الحَكم وإليه الحُكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"من أجل ذلك" أي: من أجل احترام أسماء الله تعالى.
أما الأسماء التي يُسمّى بها المخلوق ويسمّى بها الخالق مثل: الملِك، والعزيز، وأشباه ذلك؛ فهذه ليست من هذا الباب، فالله له أسماء تختصّ به، والمخلوق له أسماء تختصّ به، فالله سمّى نفسه: (الرؤوف، الرحيم)، وقال عن نبيّه بأنّه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وسمّى نفسه بالعليم، ووصف وسمّى عبده {بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وسمّى نفسه بالحليم، وسمّى عبده: {بِغُلامٍ حَلِيمٍ}، فهذه أشياء مشتركة يجوز أن يسمّى بها المخلوق، ولكن يُعلم أنّها ليست كأسماء الله سبحانه وتعالى.
ثم ذكر رحمه الله الدليل فقال: "عن أبي شريح" اسمه- على الراجح-: هانئ بن يزيد الكِنْدي، صحابي، له رواية عن الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"أنه كان يُكنى" الكنية: ما صُدِّر بأبٍ أو أُم، كأبي عبد الله، وأمّ هانئ، وما أشبه ذلك، والكنية تكون للتشريف والتكريم، أما اللَّقب فإنه يكون للمدح وللذّمّ، والغالب أنّه للذمّ، ولذلك يقول الله جل وعلا: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
"أبا الحَكَم" الحكم هو: الذي يُحكم بين النّاس ويُفصِل النِّزاع، ومنه سُمِّي الحاكم حاكماً لأنّه يفصل بين النّاس، فالحكم- بالألف واللاَّم- لا يُطلق إلاّ على الله سبحانه وتعالى، أما أن يُقال: (حكم) بدون تعريف فلا بأس، فالله جل وعلا يقول: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}.
وقوله: "إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم" بمعنى: أنّه هو الذي يحكُم بين عباده، في الدُّنيا يحكُم بينهم بوحيه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنّة: قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، قال تعالى:(3/325)
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} والرّدّ إلى الله هو: الرّدّ إلى كتابه، والردّ إلى الرّسولِ صلى الله عليه وسلم هو: الرّد إليه في حياته وإلى سنّته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك هو الحَكَم في الآخرة الذي يحكُم بين النّاس فيما كانوا فيه يختلفون، ففي الآخِرة ليس هناك حاكم سواه سبحانه وتعالى، هو الذي يتولَّى الفصل بين عباده،(3/326)
ص -185- ... فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرضيَ كِلا الفريقين. فقال: "ما أحسن هذا!، فما لك من الولد؟ " قلت: شُريح، ومسلم، وعبد الله، قال: "فمن أكبرُهم؟ "، قلت: شُريح، قال: "فأنتَ أبو شُريح " رواه أبو داود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويحكم للمظلومين على الظَّلَمة، ويردّ المظالِم إلى المظلومين، فلا يُنهي النّزاع بين العالَم إلاّ الله سبحانه، أما الحكم الذي في الدّنيا يحكُم به الحُكّام من القُضاة؛ فهذا يُخطئ ويُصيب، والنّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد"، أما إذا لم يجتهد أو اجتهد وهو ليس أهلاً للاجتهاد وحكم فإنه على كل حال مخطئ وآثم، لأنه ليس من حقّه أن يحكم وهو ليس أهلاً للاجتهاد، إلاَّ في مسألة الصُّلْحِ.
والنّبي قال: "إنّ الله هو الحكَم، وإليه الحُكم " على سبيل الإنكار على أبي شريح.
ثم إنّ ابا شريح أراد أن يبيِّن السبب للرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه لم يسمِّ نفسَه بذلك، وإنّما النّاس هم الذين سمّوه به، والسبب في هذا: أنّه إذا اختلف قومُه في شيء رجعوا إليه فحكم بينهم فرضيَ كلاَ الفريقين، بمعنى: أنّه يُصْلِح بينهم برضاهم، وليس في هذا ظلمٌ لأحد، وإنّما فيه إنهاء للنّزاع وقطع للخُصومة وإرضاء لكلا الطَّرَفين، وهذا عملُ خير، ولهذا قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا"، والله جل وعلا يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحًا أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً".
فالإصلاح بين النّاس أمرٌ مرغَّبٌ فيه، وعملٌ صالح، وصدقة من الإنسان على نفسه أن يعدِل بين النّاس ويسوِّي الخلافات بين النّاس، بعكس الذي(3/327)
يُثير النّزاع ويُحدث الفتنة بين النّاس، ويحرِّش بعضهم على بعض، فهذا مفسد- والعياذ بالله-، خلاف الذي إذا وجد النّاس مختلفين فإنّه يصلح بينهم ويقارِب بين وجهات نظرهم، ويُذهِب ما في نفوسهم من الكراهية بعضهم لبعض، فهذا مصلِح وله أجرٌ عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال النّبيُّ سبحانه وتعالى: "ما أحسن هذا! "، تعجُّباً وثناءً على عمل هذا الرّجل،(3/328)
ص -186- ... وتشجيعاً له على ذلك، وإنما أنكر التكنّي بأبي الحكم، وأراد تغييره، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فما لَك من الولد؟"، ليجعل له بديلاً صالحاً.
قال أبو شريح: "قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله ".
قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "من أكبرُهم؟".
قال: شُريح.
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أبو شريح" بَدَّل "أبا الحَكَم"، وكنّاه بأكبر أولاده، فدلّ على أنّ الكنية تكون بأكبر الأولاد.
فهذا الحديث يدلّ على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيه: احترامُ أسماء الله سبحانه وتعالى، وإجلالُها، وتغيير الاسم من أجل إجلالها، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسم (أبي الحَكَم) إلى (أبي شُريح) احتراماً لأسماء الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: في الحديث دليلٌ على تعليم الجاهل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم علّم أبا شُريح، وبيّن له أنّ هذه الكُنْيَة خطأ.
المسألة الثالثة: في الحديث دليل على أنَّ مَن مَنع من شيء سيّء وله بديلٌ صالح فإنّه يأتي بالبديل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مَنع من التكنِّي بـ (أبي الحكَم) جعل بديلاً له وهو (أبو شريح).
وهذه قاعدة للمعلِّمين والدُّعاة أنَّهم إذا نهوا النّاس عن شيء محرّم وهناك ما يحلُّ محلَّه من الطيِّب الحلال؛ فإنُّهم يأتون به ويبيِّنونه للنّاس.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعيّة الصلح بين النّاس فيما يختلفون فيه، وأنّ الصلح مبنيٌّ على التراضي ليس إلزاميًّا فإنَّ أبا شُريح قال: (فرضيَ كلاَ الفريقين،، فالمصلح لا يُلْزم وإنّما يَعْرِض الحلّ النافع، فإن قُبل فالحمد لله، وإلاَّ فإنّ المَرَاد إلى كتاب الله وسَنّة رسوله صلى الله عليه وسلم لحسم النّزاع.
أمّا الذي يُلْزِم النّاس بغير حكم الله؛ فهذا طاغوت، كالذي يُلزم النّاس بحكم الأعراف القَبَليّة التي يتحاكم إليها بعض القبائل، فهذا من حكم الجاهلية.
المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنّ(3/329)
الكنية تكون بأكبر الأولاد.(3/330)
ص -187- ... [الباب الثامن الأربعون:]
* بابُ من هَزل بشيء فيه ذكرُ لله أو القرآن أو الرّسول
وقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديثُ بعضهم في بعض-:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب بابٌ عظيم، إذا تأمّله الإنسان وعرَف واقِع النّاس فإنّه ينفعه الله به.
فقوله: "بابُ من هزَل" الهزْل هو: اللعب والاستهزاء، ضدّ الجدّ.
"بشيءْ فيه ذكرُ الله أو القرآن أو الرّسول صلى الله عليه وسلم يعني: من استهزأ بشيء من هذه الأشياء فما حكمُه؟، حكمُه: أنّه يرتدُّ عن دين الإسلام، لأن هذا من نواقِض الإسلام بإجماع المسلمين، سواءٌ كان جادًّا أو هازلاً أو مازحاً، حيث لم يستثن الله إلاَّ المُكْرَه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ(109)}، فالأمر شديد جدًّا.
وقد بيّن الشيخ أن هذا الحكم في كتاب الله مع سبب نزوله فقال: ""وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
ثم ذكر سبب نُزول الآية، فقال: "عن ابن عمر" هو: عبد الله بن عمر.
"ومحمد بن كعب" هو: محمد بن كعب القُرظيّ من بني قُرَيْظة.
"وزيد بن أَسْلم" هو: مولى عمر بن الخطاب.
"وقَتادة” هو: قتادة بن دَعامة بن قَتادة(3/331)
السُّدُوسيّ.
"دخل حديثُ بعضهم في بعض" يعني: كلّ هؤلاء رووا هذا الحديث، ولكن لَمّا كانت ألفاظُهم متقارِبة والمعنى واحد دخل حديثُ بعضهم في بعض، فسِيْق سياقاً واحداً، من باب الاختصار.(3/332)
ص -188- ... أنه قال رجلٌ في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء؛ أرْغَبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً، ولا أجْبَنَ عند اللَّقاء "يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ القُرّاء".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أن رجلاً" يعني: من المنافقين.
"كان في غزوة تبوك " تبوك: اسم موضع، شماليّ المدينة من أدنى الشّام.
وغزوة تبوك سبُبها: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بَلغه أنّ الروم يُعِدُّون العُدّة لغزو المسلمين، وكان هذا في الصيف وفي شدّة الحرّ ووقت مَطِيْب الثمار، فالوقت وقتٌ حَرِج جدًّا، والمسافة بعيدة، والعدوّ عدده كبير، والوقت حارّ، ووقت مَطِيب الثمار والنّاس بحاجة إليها، والمسلمون عندهم عُسرة، فليس عندهم استعداد للتجهُّز للغزو، ولذلك سُمّي هذا الجيش بـ "جيش العُسرة"، وسُمّيت هذه الساعة: "ساعة العُسْرة".
وقد جهّز عثمان رضي الله عنه من ماله ثلاثمائة بعير بجميع لوازمها، فهو الذي جهّز جيش العُسرة من ماله الخاصّ، وهذا من أعظم فضائله، رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك شارَك مَن شارك من الصّحابة بما عندهم من مال، فجهّزوا الجيش، وخرجوا، وكانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمنافقون صاروا يتكلّمون، واعتذروا عن الخُروج، لأنّهم ليس معهم إيمان، والغزوة هذه صعبة، لا يصبر عليها إلاَّ أهلُ الإيمان، وهذه حكمة من الله تعالى، واختبار في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد الله أن يختبر المسلمين ليظهَر الصادِق من المنافق، فالصادقون ما تردّدوا ولا تلكّأوا، وأمّا المنافقون فإنهم تلكّأوا وجعلوا يتكلّمون ويقولون: يحسبون أن غزو بني الأصفر مثل غزو العرب، كأنّنا بهم يقرَّنون في الأصفاد، وما أشبه ذلك من الكلام القبيح، واعتذروا عن الخُروج، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}(3/333)
لأنّ المسافة بعيدة، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43)}.(3/334)
ص -189- ... فقال عوفُ بن مالك: كذبتَ، ولكنّك منافق، لأُخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوفُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخبره، فوجد القرآن قد سبقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج المسلمون وصبروا على المشقّة وفيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصيبُه ما أصابهم من الشدّة ومن الرمضاء ومن الحرّ.
خرجوا وذهبوا ووصلوا إلى تبوك ونزلوا فيه، فلمّا عَلِم العدو بقدومهم إلى تبوك أصابه الرُّعب، وتقهقر.
فنزل النّبي صلى الله عليه وسلم أيّاماً في تبوك ينتظر قُدومهم ومجيئَهم، ولكنهم جَبُنوا، وألقى الله الرعب في قلوبهم، ورجع المسلمون سالمين مأجورين، وخاب المنافقون.
وأنزل الله في هذه الغزوة سورةً كاملة هي سورة التوبة التي فضح الله فيها المنافقين وأثنى فيها على المؤمنين، وهكذا حكمةُ الله سبحانه وتعالى يبتلي عبادَه.
فكان للمنافقين كلمات، منها ما في هذا الحديث، حيث قال رجلٌ منهم: "ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء" يعني بالقُرّاء: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
"أرْغَبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً، ولا أجْبَنَ عند اللَّقاء" وهذه الصّفات في الواقع هي صفات المنافقين، لكنّهم وصفوا بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه.
فقال عوف بن مالك: "كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم" وهذا مِن أنكار المنكر، ومن النصيحة لوُلاة الأُمور، فالمسلم يبلِّغهم مقالات المفسدين والمنافقين من أجل أنْ يأخُذوا على أيدي هؤلاء، لئلا يُخِلُّوا بالأمن ويفرِّقوا الكلِمة، فتبليغ وُلاة أمور المسلمين كلمات المنافقين ودعاة السوء، الذين يريدون تفريق الكلمة، والتحريش بين المسلمين؛ هو من الإصلاح ومن النَّصيحة، لا من النّميمة.
"فذهب عوفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخبره فوجد القرآن قَدْ سَبَقه" لأنّ الله سبحانه وتعالى سَمِعَ مقالتهم وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم(3/335)
الخبر قبل أن يصل إليه عوف.
فهذا فيه: سَعَةُ علم الله سبحانه وتعالى.
وفيه: علامةٌ من علامات النبوّة، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ويبلُغه الخبر بسرعة.
ثم جاء ذلك الرجل الذي تكلّم بهذا الكلام- والعياذُ بالله-، ووجد النّبي صلى الله عليه وسلم:(3/336)
ص -190- ... فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنّما كنا نخوضُ ونتحدث حديث الرَّكْب، نقطع به عناء الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظُر إليه متعلِّقاً بِنِسْعَة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الحجارة تنكُبُ رجليه، وهو يقول: إنّما كنا نخوض ونلعب، فيقولُ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}"، ما يلتفتُ إليه وما يزيدُه عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قد ارتحل وركِب ناقته" من أجل أن يُفسد على المنافقين خُطّتهم، ومن أجل أن يُنهيَ هذه الخُطّة الخبيثة.
"فقال: يا رسول الله، إنما كنّا نخوض ونتحدّث حديثَ الرَّكْب، نقطع به عناء الطّريق. قال ابن عمر: كأنّي أنظرُ إليه متعلِّقاً بِنِسْعَة ناقة النّبي صلى الله عليه وسلم" النِّسْعَة هي الحبل الذي يُشَدُّ به الرحل.
وهو يقول: يا رسول الله، إنّما كنا نخوض ونلعب" فالرسول صلى الله عليه وسلم يرُدُّ عليه بقوله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
فهذه القصّة فيها فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: أن من استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن ارتدّ عن دين الإسلام رِدّةً تنافي التّوحيد، وهذا وجه المناسبة من عقد المصنِّف لهذا الباب؛ أنّ مَنِ استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن، أو استهان بشيء من ذلك؛ أنّه يرتدّ عن دين الإسلام رِدّة تنافي التّوحيد وتُخرج من دين الإسلام، لأن هؤلاء كانوا مؤمنين، فارتدّوا عن دينهم بهذه المقالة، بدليل قوله تعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
الفائدة الثانية: أن نواقض الإسلام لا يُعفى فيها عن اللّعب والمزح، سواءً كان جادّاً أو هازلاً، بل يُحكم عليه بالردّة والخُروج من دين الإسلام، لأنّ هؤلاء زعموا أنّهم(3/337)
يمزحون ولم يقبل الله جل وعلا عذرهم، لأنّ هذا ليس موضع لعب ولا موضع مزح.
الفائدة الثالثة: وُجوب إنكار المنكر، لأنّ عوف بن مالك رضي الله عنه أنكر ذلك وأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.(3/338)
ص -191- ... الفائدة الرابعة: أنّ مَن لم يُنكر الكفر والشرك فإنّه يكون كافراً، لأنّ الذي تكلّم في هذا المجلس واحد والله نسب هذا إلى المجموع فقال:
{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، لأنّ الراضيَ كالفاعل، وهذه خطورة عظيمة.
الفائدة الخامسة: أنّ إبلاغ وليّ الأمر عن مقالات المفسدين من المنافقين ودُعاة السوء الذين يريدون تفريق الكلمة والتحريش بين المسلمين من أجل الحَزْم يُعَدُّ من النصيحة الواجبة، وليس هو من النّميمة، لأنّ عوف بن مالك رضي الله عنه فعل ذلك ولم يُنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنّ هذا من النّصيحة، وليس من النّميمة المذمومة.
الفائدة السادسة: فيه احترام أهلِ العلم وعدم السخرية منهم، أو الاستهزاء بهم، لأنّ هذا المنافق قال: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء" يريد بذلك العلماء، والعلماء وَرَثَةُ الأنبياء، وهم قُدوة الأُمَّة، فإذا طعنَّا في العلماء فإنَّ هذا يُحْدِثُ الخَلْخَلَةَ في المجتمع الإسلاميّ، ويقلِّل من قيمة العلماء، ويُحْدِث التشكيك فيهم.
نسمع ونقرأ من بعض دُعاة السوء من يقول: "هؤلاء علماء حيض، علماء نفاس، هؤلاء عُمَلاء للسلاطين، هؤلاء علماء بغْلَة السلطان"، وما أشبه ذلك، وهذا القول من هذا الباب- والعياذُ بالله- وليس للعلماء ذنب عند هذا الفاسق إلاّ أنهم لا يوافقونه على منهجه المنحرف.
فالوقيعة بالمسلمين عُموماً ولو كانوا من العوامّ لا تجوز، لأنّ المسلم له حُرمَة، فكيف بوُلاة أُمور المسلمين وعلماء المسلمين.
فالواجب الحذر من هذه الأمور، وحفظ اللّسان، والسّعي في الإصلاح، ونصيحة مَن يفعل هذا الشيء.
الفائدة السابعة: في الحديث دليلٌ على معجزة من معجزات الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنّه بلغه الوحي عن القصّة قبل أن يأتيَ إليه عَوفُ بن مالك، وهذا مصداق قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ(3/339)
عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}.
الفائدة الثامنة: في الحديث دليلٍ على أنّ نواقِض الإسلام لا يُعذَر فيها بالمزح(3/340)
ص -192- ... واللّعب، لأنها ليست مجالاً لذلك، وإنّما يُعذر فيها المُكْره على القول خاصة كما في آية النحل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}.
الفائدة التاسعة: في الحديث دليلٌ على وُجوب الغِلْظة على أعداء الله ورسوله من المنافقين والكُفّار ودُعاة الضّلال، وأنّ الإنسان لا يَلِين لهم، لأنّه إنْ لان معهم خدعوه ونفّذوا شرّهم، فلا بُدّ من الحَزْم من وليّ الأمر ومن العالِم نحو المنافقين والكُفّار ودُعاة السوء.(3/341)
ص -193- ... [الباب التاسع والأربعون:]
* باب قول الله تعالى:
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} الآية.
قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به ".
وقال ابن عبّاس: "يريد: من عندي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب بابٌ عظيم، تقدّم نظيره في باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}.
وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} الضمير في {أَذَقْنَاهُ} ضمير الغائب راجعٌ إلى الإنسان المذكور في الآية التي قبلها في قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ(49)}، والمراد بالإنسان هنا: جنس الإنسان، يعني: لا يملّ الإنسان من طلب الدنيا، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} يعني: إذا أصابته مصيبة في ماله أو في بدنه، {فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} يستبْعِد الفَرَج من الله عزّ وجلّ ويقنط من رحمة الله، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} يعني: هذا الإنسان، أي: أعطيناه، {رَحْمَةً مِنَّا} عافية وصحّة في بدنه وغنىً من فقره، {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}مشته في بدنه من المرض والمصائب، أو في ماله من الفقر والإعواز. {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ينسى الضرّاء التي مسّته، وينسى من أين جاءت هذه النعم، ويظنّ أنّ ما في يده إنما هو بحوله وقوّته، فيقول: {هَذَا لِي}، فلا يشكُر الله عزّ وجلّ ويعترف بنعمته، بل ينسِب هذه النعمة إليه هو وإلى كَدِّه وكسْبه، أو إلى آبائه وأجدادِه.
"قال مجاهد" هو مجاهد بن جَبْر، الإمام الجليل، من كبار التابعين.
"هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به" يعني: هذه النعمة إنما حصلتُ عليها بعملي وكَدِّي وكسبي واحترافي، وأنا محقوق بها، أي: أستحقها، وأنا الذي حصّلتُها، وأنا الذي جمعتُها.
"وقال ابن عبّاس: يريد: هذا مِن عندي" يعني: بعملي وبسببي، أنا الذي حصّلتُه وتعبْتُ فيه.(3/342)
ص -194- ... وقوله:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}.
قال قتادة: "على علمٍ منِّي بوُجوه المكاسب".
وقال آخرون: "على علم من الله أنّي له أهل ".
وهذا معنى قولِ مجاهد: "أوتيتُه على شَرَف ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليَهم، فبعث إليهم مَلَكاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قال قتادة: على علم منّي بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل" القول الأول معناه: أنّني رجلٌ عالم بالاقتصاد وطُرق الكسب، كما يقوله اليوم الاقتصاديِّون، حيث يتباهون بالحِذْق بعلم الاقتصاد، ويظنون أنّ الأموال والثّروات التي يحُصلون عليها بسبب حِذْقهم ومعرفتهم وخِبْرَتهم، ولا ينسبون هذا إلى الله سبحانه وتعالى.
والقولُ الثاني معناه: أن الله أعطاني هذا المال لأنّه يعلم أنّي أستحقُّه، ولا فضل لله عليّ فيه.
قال الشيخ: "وهذا معنى قول مجاهد: أوتيتُه على شرف" أي: أن الله علم أنني رجل شريف وذو مكانة ومنزلة، فالله أعطانيه لمنزلتي، ومعنى هذا: إنكار الفضل من الله سبحانه وتعالى.
قال العلماء: "هذه الأقوال لا تنافيَ بينَها"، لأنّ الآيتين تشملان كلّ هذه الأقوال، فاختلافهم إنّما هو اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادّ.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنّ ثلاثةً من بني إسرائيل" بنوا إسرائيل هم ذرية يعقوب، وإسرائيل، ومعناه: عبد الله.
"أبرص" الأبرص: مَن أُصيب بالبَرَص، وهو داءٌ يُصيب الجلد فيتحوّل إلى أَبْيَض كَريه المنظر، وهذا المرض لا يُمكِن علاجه في الطِبَّ البشري، ولذلك كان من معجزة عيسى- عليه الصلاة والسلام- أنه يُبْرئ الأبرص والأكمَهْ ويُحيي الموتى بإذن الله، وهذا ما لا يقوى عليه الطب البشري.(3/343)
ص -195- ... فأتى الأَبْرَص فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن، وجِلْدٌ حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأُعطي لوناً حسناً وجِلْداً حسناً. قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: الإبل، أو البقر [شكَّ إسحاق]. فأُعطيَ ناقة عُشراء، وقال: باركَ الله لك فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وأقرع" وهو الذي لا ينبُت لرأسه شعر، لأنّ هذا الشعر الذي ينْبَت على الرأس فيه فوائد عظيمة منها: الجمال، ومنها منافع صحيّة، وغير ذلك، فمن فقد شعر الرأس فإنّه يفقد منافع كثيرة أعظمُها الجمال، ويُصبح كريه المنظر.
وأما "الأعمى" فهو الذي ذهب بصرهُ كلُّه، أمّا الذي ذهب منه بصرُ عينٍ واحدة؛ فهذا يسمّى أعور.
وقوله: "فأراد الله" الله جل وعلا يوصَف بالإرادة، والمخلوق- أيضاً- يوصف بالإرادة، ولكنْ إرادةُ الله خاصّةٌ به، وإرادة المخلوق خاصّة به، وإرادة الله تنقسم إلى قسمين: إرادة كونيّة، وإرادة شرعيّة.
"أن يبتليهم" يعني: أن يختبرهم.
"فبعث إليهم مَلَكاً" المَلك: واحدُ الملائكة، وهم: خَلْقٌ من خَلْق الله ومن عالم الغيب، خلقهم الله جل وعلا لعبادته، وخلقهم- أيضاً- لتنفيذ أوامره تعالى في مُلْكه، فمنهم الموكّل بالوحي، ومنهم الموكّل بالقَطْر والنّبات، ومنهم الموكّل بالنفخ في الصّور، ومنهم الموكّل بالأجنّة، ومنهم الموكّل بحفظ أعمال بني آدم، كُلُّ من الملائكة له عمل: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
فأتى الأَبْرَص فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن، وجِلْدٌ حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به. قال: فمسحه الملَك" مسح على هذا الأبرص فبرئ، وعاد إليه لونٌ حسن وجلدٌ حسن، وهذا بقدرة الله تعالى لأنّ المَلك رسولُ الله.
" قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: الإبل، أو البقر [شكَّ إسحاق]" المراد: إسحاق بن عبد الله(3/344)
بن أبي طلحة، راوي الحديث، شكّ هل قال الرّسول صلى الله عليه وسلم الإبل، أو قال البقر؟، وهذا من التحفُّظ والدِّقة في الرواية.(3/345)
ص -196- ... قال: فأتى الأقرع فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن وشعر حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به، فمسحه فذهب عنه قدّره، وأُعطِي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: البقر، أو الإبل. فأُعْطيَ بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: يردّ الله إليَّ بَصري فأُبصر به النّاس، فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاةً والداً.
فأنتج هذان وولَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فأُعطيَ ناقة عُشراء" العُشَراء هي: الحامل التي تمّ لها ثمانية أشهر، لأنّها أنفس الأموال، قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)}، عند قيام الساعة يذهلون فيتركون أنفس الأموال، ويعطِّلونها من شدّة الهَوْل.
"وقال: بارك الله لك فيها" دعا له بالبركة، ودعوةُ المَلك مستجابة، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى من أجل الامتحان والابتلاء.
"ثم أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن وشعر حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به، فمسحه فذهب عنه قدّره، وأُعطِي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: البقر، أو الإبل. فأُعْطيَ بقرة حاملاً" البقرة الحامل هي التي في بطنها جَنين.
"وقال: بارك الله لك فيها" دعا له مثل الأوّل.
"فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: يردّ الله إليَّ بَصري فأُبصر به النّاس، فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاةً والداً" يعني: قد ولدت حملَها.
"فأنتج هذان" أنتج أصحاب الإبل والبقر.
"وولّد هذا" أي: صاحب الشّاة.
"فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم" بسبب بركة دعوة المَلك ولأجل الابتلاء والامتحان.(3/346)
ص -197- ... قال: ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجِلْد الحسن والمال؛ بعيراً أتبلّغ به في سفري. فقال: الحُقوق كثيرة. فقال له: كأنِّي أعرِفُك!، ألم تكن أبرص يقذِرك النّاس، فقيراً فأعطاك الله عزّ وجلّ تامال؟ فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابِراً عنْ كابر. فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئَته" أي: في صورة رجل أبرص، لأنّ الله أعطى الملائكة القُدرة على التشكُّل، فيظهَرون في صور مختلفة.
"فقال: رجلٌ مسكين " يَعْرِض حالَه عليه ليتصدّق عليه.
"وابنُ سبيل" ابنُ السّبيل هو: المسافر الذي انقطع ما معه من الزّاد، وقد جعل الله له حقًّا في الزكاة ما يوصِّلُه إلى بلده، ولو كان غنيّاً في بلده.
"قد انقطعت بيَ الحبال" يعني: الأسباب، جمعُ حبل وهو السّبب، وفي رواية: "انقطعت بيَ الحيال" -بالياء- يعني: الحِيَل.
ثم ذكّره بحالته الأولى فقال: "أسألُك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال؛ بعيراً أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة" يعني: أن الحقوق التي عليّ كثيرة وينفد المال لو أعطيتك، وأعطيت هذا ممّن لهم عليّ حقوق، وهذا اعتذارٌ منه.
ثم ذكّره المَلَك مرّة ثانية وقال له: "كأنِّي أعرِفُك!، ألم تكن أبرص يُقْذُرُك النّاس، فقيراً فأعطاك الله عزّ وجلّ المال؟ ".
ثم إنه جحد نعمة الله عليه، وجحد هذه الحالة التي مرّت به، وقال: "إنما وَرثْتُ هذا المال كابِراً عن كابر" يعني: هذا ليس بمال جديد كما تقول، بل هو معي من قديم ومع آبائي من قبل، وهذا جُحود لنعمة الله عزّ وجلّ.
فدعا عليه المَلَك، وقال: "إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كُنت " يعني: صيّرك الله فقيراً أبرص.(3/347)
ص -198- ... قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعتْ بِيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألُك بالذي ردّ عليك بصرك؛ شاةً أتبلّغ بها في سفري. قال: كنتُ أعمى فردّ الله عليَّ بصري، فخُذ ما شئتَ، فوالله لا أجْهَدُك اليوم بشيء أخذته لله، فقال له الملَك: أَمْسِكْ عليك مالك، فإنّما ابتُلِيتُم؛ فقد رضيَ الله عنك وسخِط على صاحبيْك" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قال: وأتَى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا" أي: رجل مسكين وابن سبيل... إلى آخره.
"وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا" قال له: الحقوق كثيرة.
وذكّره المَلَك بحالته من قبل، فأنكر ذلك، فدعا عليه الملك كما دعى على الأبرص بأن يصيره الله إلى ما كان عليه من قبل.
قال: " وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعتْ بِيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألُك بالذي ردّ عليك بصرك؛ شاةً أتبلّغ بها في سفري"، فاعترف الأعمى بنعمة الله وقال: "كنتُ أعمى فردّ الله عليّ بصري، فخذ ما شئتَ" يعني: خذ الذي تريده.
"فوالله لا أجْهَدُك" أي: لا أمنعك، "بشيء أخذته لله"، وفي رواية: "لا أَحْمَدُك على شيء أخذته لله" لأنّه ليس مالي وإنما هو مالُ الله سبحانه وتعالى.
ثم ظهرت نتيجة الامتحان: "فقال له الملَك: أَمْسِكْ عليك مالك، فإنّما ابتُلِيتُم" يعني: اختُبِرْتُم أنت وصاحباك.
"وقد رضي الله عنك" بسبب شكرك لنعمة الله عزّ وجلّ.
"وسخِط على صاحبيْك" بسبب كفرهم بنعمة الله عزّ وجلّ.
فهذا الأعمى فاز برضى الله تعالى وسلم عليه مالُه، أمّا أولئك فعاقبهم الله وسَخِط عليهم، وهذه نتيجة الابتلاء والامتحان.(3/348)
ص -199- ... وهذا عامٌّ في كلِّ من كفر نعمة الله ومَن شكر نعمة الله عزّ وجلّ.
فدلّت هاتان الآيتان وهذا الحديث العظيم على مسائل:
المسألة الأولى: فيه: أنّ نسبة النعم إلى الله عزّ وجلّ توحيد، وأنّ نسبتها إلى غيرِه شرك، لكن إن اعتقد أنّ غيرَه هو الذي أوجدَها فهو شركٌ أكبر، وإن اعتقد أنّ غيرَه سبب والله هو الذي أوجدها، ولكن نسبها إلى السبب فهو شركٌ أصغر، لأنّه لا يجوز النِّسبة إلى الأسباب، حتى ولو كانت أسباباً صحيحة، وإنّما تُضاف النّعم إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا مَرّ بنا الحديث: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أنّه قولُ الرجل: "لولا كُليبة هذا لأتانا اللّصوص، لولا البطّ في الدّار لأتانا اللصوص" لولا كذا، لولا كذا، فلا تجوز النّسبة إلى الأسباب، وإنّما تُنسب النعم إلى مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: فيه: أنّ النعم والنِّقَم ابتلاءُ واختبارٌ من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
المسألة الثالثة: فيه: أنّ الله سبحانه أعطى الملائكة القُدرة على التشكُّل بأشكال مختلفة، وهذا ثابتٌ من النُّصوص الكثيرة، فتشكُّلُهم لأجل مصالح العباد، لأنَّهم لا يُطيقون رؤية الملائكة.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعيّة ذكر قَصَص الأوّلين من بني إسرائيل وغيرِهم من أجل الاعتبار والاتّعاظ إذا كانت القصص صحيحة.
المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنّ من شكر نعمة المال: إخراج الحقوق الواجبة فيه من زكاة وإطعام جائع وكسوة عارٍ، وما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة والحقوق المستحبّة، وأنّ البُخْل بحقوق المال من كفر النعمة.
المسألة السّادسة: في الحديث دليل على أنّ الجزاء من جنس العمل؛ فقد رضيَ الله عن هذا الأعمى بسبب إحسانه، وسخِط على صاحبيه بسبب بخلهما بحقوق الفقراء والمساكين.
المسألة السّابعة: فيه وصفٌ(3/349)
الله جل وعلا بالرِّضا والسخط، صفتان من صفاته اللاَّئقة به سبحانه وتعالى، ليس كرضى المخلوق ولا كسخط المخلوق.(3/350)
ص -200- ... [الباب الخمسون:]
* باب قول الله تعالى:
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب المقصود به: بيان أنّ تعبيد الأسماء لغير الله شرك ينافي كمال التّوحيد، إنْ كان المقصود مجرّد التسمية، أما إنْ كان المقصود تعبيد التألُّه لغير الله فإنّه شرك أكبر ينافي التّوحيد.
وقولُه رحمه الله: "بابُ قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" يريد: بيان ما جاء في تفسير الآية.
والآية التي قبلها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني آدم وحواء عليهما السلام. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} يعني وطئها.
{حَمَلَتْ} يعني: عَلِقَتْ رَحِمُها بالنُّطْفَة.
{حَمْلاً خَفِيفاً} هذا شأن الحمل في أوّل أطواره: كونُه نُطفة، ثم عَلَقَة، ثم مُضْغَة، ويكون خفيفاً في هذه الأطوار.
{فَمَرَّتْ بِهِ} يعني: ما أجلسها ولا عوّقها عن العمل، فهي تمرّ وتمشي وتقوم وتقعد.
{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} يعني: في طور نفخ الروح فيه.
{دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} دعا آدم وحواء، وطلبا من الله جل وعلا.
{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} رزقتنا مولوداً سَوِيًّا في خِلْقَتِهِ.
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لأنّ هذا هو الواجب في النعمة أن تُشكر.
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} استجاب الله دعوتهما وآتاهُما ولداً إنساناً سوياًّ صالحاً.
{جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} بأن سمّياهُ (عبد الحارث)، فعبّداهُ لغير الله.
وهذا من الشّرك في التسمية، حيث عبّداه لغير الله.
ثم ذكر عن ابن حزْم، وهو الإمام الجليل، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْم، الأندلسي، القُرطبيّ، الظاهريّ، له المؤلَّفات العظيمة مثل:(3/351)
ص -201- ... قال ابنُ حزم: "اتّفقوا على تحريم كلّ اسم مُعَبَّدِ لغير الله؛ كعبد عمرٍو، وعبد الكعبة، وغير ذلك، حاشا عبد المطّلب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"المحلّى" و"الفِصَل في الملل والنِّحل"، و"الأنساب"، و"جوامع السيرة"، فهو إمامٌ جليل خصوصاً في علم الحديث، إلاّ أنه رحمه الله يؤخذ عليه سلاطة اللسان في ردّه على المخالفين، واعتناقه لمذهب الظاهرية، والظاهرية معناها: الأخذ بظواهر النُّصوص دون النظر في معانيها وأسرارها، وعدم القول بالقياس، وهذا نقصٌ في هذا المذهب.
ولكن على كلّ حال هو إمامٌ جليل، له نفعٌ عظيم في الإسلام، ومؤلَّفاتُه خصوصاً "المحلّى" وما فيه من الآثار والأحاديث والرواية بالأسانيد، ففضائلُه كثيرة رحمه الله.
قال: "اتّفقوا" يعني: أجمعوا، وليس المراد الاتّفاق عند المتأخِّرين الذي هو قولُ جماعةٍ من أهل العلم.
"على تحريم كلِّ اسم مُعَبَّدٍ لغير الله" كـ (عبد الحُسين)، و (عبد الرّسول) و (عبد الكعبة)، و (عبد الحارث) وغير ذلك، لأنّ التعبيد يجب أن يكون لله سبحانه وتعالى، لأنّ الخلْق كلهم عبادُ الله كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، فكلُّ الخلق عباد الله المؤمن والكافر.
ولكن العبودية على قسمين:
عبوديّة عامّة: وهذه تشمل جميع الخلق المؤمن والكافر كلُّهم عبادُ لله تعالى، بمعنى: أنّهم مملوكون لله، مخلوقون لله، يتصرّف فيهم، ويدبِّرُ أمورَهم، لا يخرُج عن هذا أحد من الخلق.
النوع الثاني: عبوديّة خاصّة: وهي عبوديّة التألُّه والمحبّة، وهذه خاصّة بالمؤمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)}، فهذه عبوديّة خاصّة بالمؤمنين.
قال: "حاشا" حاشا: كلمة استثناء.
"عبد(3/352)
المطّلب" هو جدّ الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلِب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب، فـ (عبد المطلِّب) هذا استثناهُ ابن حزم من التحريم.(3/353)
ص -202- ... وعن ابن عبّاس في الآية، قال: "لَمّا تغشّاها آدمُ حملت، فأتاهُما إبليس فقال: إني صاحبُكما الذي أخرجكما من الجنّة، لتُطيعانني، أو لأجعلنّ له قرنْي أيِّل، فيخُرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ –يخوِّفهما-، سمِّياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميِّتاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن ليس الأمر كما قال رحمه الله فلا يجوز أن يسمّى أحد الآن عبد المطّلب، فلا وجه للاستثناء، وإنّما يقال عبد المطّلب لجد الرسول خاصة، حكاية للماضي، كما يقال؛ (عبد الكعبة) و (عبد شمس)، و (عبد مناف)، حكاية لِمَا مضى.
أما بعد الإسلام فلا يجوز أن يسمّى أحد بهذه الأسماء.
أما حكاية شيء مضى وانتهى فلا بأس بذلك، وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب" هذا من ناحية.
النّاحية الثانية: يقولون: إنّ عبد المطّلب ليس اسم جد الرسول، وإنما اسمُه: (شَيْبَة الحمد)، ولكن قيل له: عبد المطّلب لأنّ عمّه المطّلب بن عبد مناف جاء به وهو صغير من أخواله بني النجار في المدينة، وكان تأثّر لونه بالسواد بسبب السفر، فظنوه عبداً مملوكاً للمطلب، فقالوا: عبد المطّلب.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فأتاهما" أي آدم وحواء" إبليس فقال: إني صاحبُكما الذي أخرجكما من الجنّة "يشير إلى القصة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه من وَسْوَسَة الشيطان لآدم عليه السلام لَمّا حرّم الله عليه أن يأكُل من شجرة معيَّنة في الجنة، وجاءه الشيطان وزيّنها له وأغراهُ بالأكل منها، فعصى ربَّه وأكل منها، فحصلت المصيبة، وأُخرج من الجنّة بسبب ذلك، وأُهْبِط إلى الأرض. ولكنّ آدم وحوّاء تابا إلى الله- عليهما السلام- تابا إلى الله فتاب الله عليهما.
"لتُطِيعاني" أي: تمتثلان ما آمركما به.
"أو لأجعلنّ له قرنْي أيِّل" الأَيِّل هو ذكر الأوعال. "فيخرج من بطنك فيشقه" يعني: بقرنيه.
" ولأفعلنَّ –يخوِّفهما-" من(3/354)
التخويفات والتهديدات، فلم يلتفتا إليه، ولم يطيعاه لأنه عدوهما.(3/355)
ص -203- ... ثم حملت، فأتاهُما، فذكر لهما، فأدركُهما حبُّ الولد، فسمّياه عبد الحارث.
فذلك قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فخرج ميِّتاً" وهذا من باب الامتحان والابتلاء من الله سبحانه وتعالى.
"ثم حملت فأتاهُما فذكر لهما" ذلك، لأن الشيطان- لعنه الله- يحاوِل مع الإنسان ولا ييأس.
"فأدركهما حُبّ الولد، فسمّياه عبد الحارث" والحارث قيل: هو اسم إبليس، قبل أن تحصل عليه اللعنة، ولكن بعد أن حصلت عليه اللعنة وطُرد من الملأ الأعلى سمّي بإبليس.
"فذلك قولُ الله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" أي: هذا تفسير هذه الآية.
"رواه ابن أبي حاتم".
"وله" أي: ابن أبي حاتم.
"بسند صحيح عن قتادة: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته" وشركُ الطاعة شركٌ أصغر لا يُخرِج من الملّة، لاسيّما وأنّهما لم يفعلا هذا قصداً للمعنى، وإنّما فعلاه من باب حُبّ الولد، ومن أجل سلامته فقط، ومع هذا سمّاه الله شركاً، فيكون شركاً ولو لم يقصده الإنسان. فدلَّ هذا على أنَّ مَن تكلَّم بالشّرك أو فعل الشرك فإنّه يسمّى مشركاً، ولو لم يقصده ولم ينوِّه، فيُحكَم عليه بأنّ فعله هذا شرك، سواء من الشرك الأصغر أو الشرك الأكبر، ولهذا قال الرّسول صلى الله عليه وسلم للذي قال له: ما شاء الله وشئتَ: "أجعلتني لله نِدًّا؟" مع أنّ القائل ما أراد أن يجعل لله نِدًّا، ولكن هذا اللّفظ لا يجوز، فهو شرك ولو لم يقصده، فكيف إذا قصده؟(3/356)
ص -204- ... وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً.
وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرِهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ففيه ردٌّ على من يقول: أن من قال كلمة الشرك أو فعل الشرك لا يُحكم عليه أنه مشرك حتى يعتقده بقلبه كما هو قول مرجئة هذا العصر.
"وله" أي: ابن أبي حاتم.
"بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً" أي: خافا من ذلك.
"وذكر معناه عن الحسن" هو: الحسن البصري.
"وسعيد" هو: سعيد بن المسيِّب، وهما من أئمّة التّابعين، أي: ورُوِيَ هذا التفسير عن هذين الإمامين، بل هذا قولُ أكثر المفسِّرين، كما ذكر ذلك الشوكاني في "فتح القدير"، ورجحه شيخُ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله في "تفسيره " وقال: "هو أولى القولين في تفسير الآية الكريمة".
وهو الذي اختاره الشيخ المصنِّف: محمد بن عبد الوهاب، واختاره الشارح الشيخ: سليمان بن عبد الله، وأنّ هذا الشرك المذكور في الآية وقع من آدم وحوّاء، لكنه شركٌ في الطاعة وليس في العبادة.
وذهب بعض المفسِّرين- وهو القول الثّاني-: إلى أنّ الآية من أوّلها إلى آخرها لا تعني آدم ولا حوّاء، وإنّما تعني المشركين من بني آدم، واعتمدوا في هذا على شيئين:
الشيء الأوّل: أنّه لا يجوز أن يقع من آدم وحوّاء مثل هذا، لأنّ آدم- عليه الصلاة والسلام- نبي من أنبياء الله، ولا يقع منه هذا الشيء.
الشيء الثاني: أنّ الله خَتَم الآية بقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وهذا لفظُ جمع، فيُراد به المشركون من بني آدم.
واختار هذا القول ابن كثير في تفسيره، وَطَعَنَ فيما روي عن ابن عبّاس، وقال: "لعلّه من الإسرائيليّات".(3/357)
ص -205- ... ولكن الإمام ابن جرير يقول: "أولى القولين هو القول الأوّل" وهو الذي عليه أكثرُ المفسرين.
ويرجّح القولُ الأوّل: أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر الضّمير بلفظ التثنية، وأوّل الآية لا شك في آدم وحوّاء، وهو قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، ولا شك أن المراد: آدم وحوّاء، ثم أعاد الضمائر إليهما، وهذا أُسلوب العرب؛ أنهم يذكرون الاسم في الأوّل ثم يعيدون الضمائر إليه، إنْ كان مفرَداً مفرداً، وإنْ كان مثنى مثنى، وإنْ كان جمعاً فجمعاً، هذا الأسلوب العربي.
والضمائر هي: {دَعَوَا}، {رَبَّهُمَا}، {لَئِنْ آتَيْتَنَ}، {فَلَمَّا آتَاهُمَا}، {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ}، كلُّ هذه الضمائر ترجع إلى آدم وحوّاء.
أمّا آخِر الآية فهو التفاتٌ إلى الذريّة، وهذا أسلوبٌ عربي معروف في لغة العرب، وذلك أنه لَمّا ذكر قصة آدم وحوّاء وفرغ منها انصرف إلى الذريّة فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: المشركون من العرب الذين بُعث إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمعظم الآية في آدم وحوّاء، وآخِرُها التفاتٌ إلى ذريّة آدم وحوّاء، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يستنكر الشرك من أصله، الشرك الذي وقع من آدم وحوّاء، وهو شركٌ أصغر، والشرك الأكبر الذي وقع من عَبَدَة الأوثان من ذريّة آدم.
فيترجّح القول الأوّل من عِدّة وجوه:
أوّلاً: أن الضمائر كلُّها مثنّاة، والقول بأنّ المراد الذريّة تعسُّفٌ في الألفاظ لا يجوز.
ثانياً: إنّ ما فسّر به ابن عبّاس ورد من عدّة جهات، فهو تفسير صحيح من مجموع طُرُقِه.
ثالثاً: أنّ عليه الأكثر من أهل العلم، كما قال الشوكاني.
رابعاً: أنّه هو المعنى الذي رجّحه الإمام أبو جعفر ابن جرير، شيخ المفسِّرين، حيث قال: "أولى القولين: القولُ الأوّل"، وهذا الذي اختاره المصنِّف في هذا الباب.
أمّا قول المخالفين: أنّ آدم عليه السلام لا يليقُ به(3/358)
ذلك.
فنقول: هذا ليس بشرك أكبر، إنما هو شركٌ أصغر، وهو شركٌ في الطاعة والألفاظ، لا في المعاني والمقاصد والنيّات، وقد يقع من الأنبياء بعض الذنوب(3/359)
ص -206- ... الصغار التي عاتبهم الله عليها، ثم يتوبون منها ويتوب عليهم، والعِصمة إنما هي من الذنوب الكبائر، ومن الاستمرار على الصغائر. كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذا، ويُستفاد من هذه القصة التي ذكرها الله في القرآن عدّة فوائد:
الفائدة الأولى: بيان الحكمة من خلق الزوجات لبني آدم، وأن المقصود من ذلك السَّكَن والاستيلاد، وغير ذلك من الفوائد، والقوامة من الرجل على المرأة: وصيانتُها، إلى غير ذلك، لكن أهمّ شيء هو السَّكَن، كونُ الإنسان يأتي إلى بيتٍ فيه زوجة طيِّبة ملائِمة يسكُن إليها ويرتاح معها.
الفائدة الثانية: أن حصول الأولاد الأسوياء في خِلْقَتِهم، الصالحين في دِينهِم؛ من أكبر النعم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
الفائدة الثالثة: في الآية دليل على بيان الحكمة من الزواج، وأنّها السكَن والاستيلاء، ويَتْبَعْ ذلك بقية الأغراض من الصيانة، والقوامَة، والنّفقة، وغير ذلك، فالمرأة بلا رجل تكون معذَّبة، والرجل بلا امرأة يكون معذّباً، أما إذا اجتمع زوجان متناسِبان فهذا من تمام النِّعمة.
الفائدة الرابعة: في الحديث دليلٌ على أن تعبيد الأسماء لغير الله شرك.
الفائدة الخامسة: التحذير من كَيْد إبليس، فإذا كان فعل جمع الأبوين ما فعل فإنّه سيفعل مع الذريّة أشدّ: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً}، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)}، فهو يهدِّد ويتوعّد.
الفائدة السادسة: أن تعبيد الأسماء لغير الله يُعتبر من الشرك الأصغر، وهو شرك الطّاعة، إذا لم(3/360)
يقصد به معنى العُبودية، فإنْ قصد به معنى العبوديّة والتألُّه صار من الشرك الأكبر، كما عليه عُبّاد القُبور الذين يسمّون أولادهم: (عبد الحسين) أو (عبد الرَّسول) أو غير ذلك، هؤلاء في الغالب يقصدون التألُّه، لا يقصدون مجرّد التّسمية وإنما يقصدون التألُّه بذلك والتعبُّد لهذه الأشياء لأنهم يعبدونها، فهذا يعتبر من الشرك الأكبر.(3/361)
ص -207- ... [الباب الواحد والخمسون:]
* باب قول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في كتاب التّوحيد من أجل بيان وجوب إثبات أسماء الله وصفاته، ومن أجل أن يبيّن التوسُّل المشروع والتوسُّل الممنوع، لأن مسألة التوسُّل ضلَّ فيها خلقٌ كثير من قديم الزّمان، فالمشركون يعبُدون غيرَ الله ويسمّون معبوداتهم وسائل إلى الله، فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، فهم لا يعبدون هذه المعبودات لذاتها، لأنّهم يعلمون أنّها لا تخلُق ولا تَرزُق ولا تُحيي ولا تُميت، وإنّما زعموا أنّها تتوسّطُ لهم عند الله سبحانه وتعالى، من باب الوسيلة، فردّ الله تعالى عليهم في القرآن بأنّ هذا التوسُّل وهذا العمل كفرٌ وشركٌ، وأنّه لم يَشْرَعْهُ سبحانه وتعالى لعباده.
وجاء مِن بعدهم القبوريُّون والصوفيّة ومن قبلهم الرّافضة والباطنيّة كلُّهم نَحَوا هذا المنحى الذي نحاه المشركون، فصاروا يعبدون الموتى، ويستغيثون بهم، ويدعونهم من دون الله، ويذبحون لهم، وينذُرون لهم، ويقولون: نحن نعلم أنّهم مخلوقون، وأنهم لا يخلُقون ولا يرزُقون، ولكننّا اتّخذناهم وسائل بيننا وبين الله، وربّما يحتجّون بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، وبقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)}، فظنّوا أنّ الوسيلة التي أمر الله باتخاذها إليه أنّها جعل وسائط بينهم وبين(3/362)
الله.
وهذا فهمٌ باطل، لم يُرِدْهُ الله سبحانه وتعالى، بل أنكره على المشركين، وحكم بأنّه كُفر، وأنّه شرك، ونزّه نفسَه عنه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، بيَّن أنّه كفر وأنه شرك، ونزّه نفسَه عنه، فهو لم يَشْرَع لعباده أبداً أن يجعلوا بينه وبينهم وسائط من الخلْق يبلِّغونه حاجات عبادِه، وإنما أمر بدعائه مباشَرة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.(3/363)
ص -208- ... "ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثُلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيَه؟، هل من داعٍ فأستجيب له؟، هل من مستغفرٍ فأغفر له".
فأمر بدعائه واستغفاره وسؤاله مباشرة، لأنه سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، ويعلم أحوال عبادِه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
إنّما تُتّخذ الوسائل والوسائط عند من لا يعلم أحوالَ النّاس ولا يعلم أحوال الرعيّة من المُلوك والرؤساء من البشر الذين تخفى عليهم أحوال الرعايا وأحوال النّاس وحاجات النّاس ويحتاجون إلى مَنْ يبلِّغُهم، أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم كلَّ شيء، ويسمع كلَّ شيء، يسمع السر، ويعلم ما في القلب، ولو لم يتكلّم الإنسان، فهو ليس بحاجة إلى اتّخاذ مبلِّغين ومتوسِّطين بينه وبين عباده.
أما استدلالُهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وبقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، فالآيتان لم يُرِد منها اتّخاذ وسائط بين الله وبين عباده.
وإنّما معنى التوسُّل في اللغة: التقرُّب، يقال: توسّل إليه: تقرَّب إليه، ووسَل إليه: قَرُب منه، والواسل: اسم فاعل من وسل، هو المتقرِّب، والوسيلة هي: السبب والطريق الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يوصل إلى الله طاعتُه سبحانه وتعالى، وعبادته، وما شرعه على أَلْسُن أنبيائه ورسله. هذه الوسيلة.
والمخلوق وإن كان له منزلة عند الله كالأنبياء والرُّسل- عليهم الصلاة والسلام- والصالحين والأولياء، لكنّ الله لم يَشْرَعْ لنا أن نسأل بمكانتهم ومنزلتهم عنده، وإنما أمرنا أن نتوسّل إليه بعملنا نحن لا بعمل غيرِنا، بأن نطيع الله ونتقرّب إليه، أما أنّ فلاناً له عند الله مكانة وله جاه، فهذا ليس من عملنا وليس لنا فيه شيء، هذا خاصٌ بهم،(3/364)
والله لم يشرع لنا أن نسأله بجاه أحد، ولا بذات أحد، ولا بمنزلة أحدٍ عنده سبحانه وتعالى، هذا كلُّه باطل.
وإذا تبيَّن أنّ الوسيلة المذكورة في القرآن هي الطّاعة، وهي التي تقرِّب إلى الله عزّ وجلّ وتُدني من الله عزّ وجلّ، وأن اتّخاذ الوسائط من الخلْق بين الله وبين عبادِه لم(3/365)
ص -209- ... يَشْرَعْهُ الله ولا رسولُه؛ وجب علينا التقرّب إلى الله بطاعته. والتوسّل بالخلق إن صحِبَه شيءٌ من التقرُّب إلى المخلوق كالذبح له والنّذر له؛ صار شركاً أكبر، وإن لم يصحبه شيءٌ من التقرُّب إلى المخلوق، وإنما هو مجرّد توسُّط بالجاه ونحوه؛ فهذا بدعة ووسيلة إلى الشرك، كالسؤال بالجاه، والسؤال بحقّ النّبي، أو بمنزلة النّبي، أو بالنّبي ذاته.
فهذا يُعتَبر بدعة في الدعاء لم يشرعها الله، وهي وسيلة من وسائل الشرك، لأنّه إذا بدأ يتوسّل بجاه المخلوق أو بمنزلته أو بحقِّه عند الله؛ فإنّه يتدرّج إلى أن يعبُد هذا المخلوق، مثل ما حصل للمشركين قديماً وحديثاً، حيث بدأتْ مسألتهم من مجرّد التوسُّل، وانتهت بالشّرك الأكبر المخرج من المِلّة، نسأل الله العافية والسلامة.
وقد تعلّق بعض المغالطين بكلمة جاءت في بعض رسائل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أنه قال: "إن التوسل من مسائل الفقه والاجتهاد التي لا إنكار فيها"، هكذا قالوا!!، ونسبوه إلى الشيخ!!
والواقع أن الشيخ رحمه الله فصّل فقال: "إن التوسّل الخالي من عبادة المتوسِّل به، وإنما هو توسل بحق الشخص، أو جاهه؛ فهذا بدعة، وليس بشرك. وأما التوسل الذي معناه التقرب إلى المتوسِّل به بالذبح له، والنذر له، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ فهذا شرك أكبر".
هذا معنى ما قاله الشيخ، وهو ما قرّره المحققون من أهل العلم، وليس المراد: أن التوسل كله من مسائل الفقه؛ لأن منه ما هو شرك أكبر.
وهذا بابٌ عظيم، لأنّ هذه الشبهة ضلّ بها أكثرُ الخلق قديماً وحديثاً، لأنّهم لم يفرقوا بين الوسيلة الممنوعة والوسيلة المشروعة.
فالتوسُّل على قسمين:
توسُّل ممنوع، وهو: التوسُّل بجاه المخلوق، أو بحق المخلوق ومنزلته، أو بذاته وهو إمّا شركٌ، وإما بدعة ووسيلة إلى الشرك.
أما التوسُّل المشروع فهو: الذي جاء في الكتاب والسنّة ذكرُه والأمرُ به، ومن(3/366)
ص -210- ... ذلك: هذه الآيةُ الكريمة التي صدّر بها الشيخ هذا الباب: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
والتوسُّل المشروع أنواع:
النوع الأول: التوسُّل بأسماء الله وصفاته، تقول: (يا رحمن ارحمني)، (يا غفور اغفر لي)، (يا توّاب تُبْ عليّ)، (يا غنيّ اغنني)، وهكذا، تذكُر في دعائك كلَّ اسم يناسِب حاجتك.
ولا يناسِب أنك تأتي باسم غير مناسب لحاجتك: فلا تقل: اللهم اغفر لي إنّك شديد العقاب.
النوع الثاني: التوسُّل إلى الله جل وعلا بدعاء الصالحين: إذا كان هناك صالحٌ من الصالحين، حيٌّ موجود تأتي إليه وتقول: (ادعُ الله لي أن يغفر لي)، (أن يرزقني)، (أن يشفِيَني)، أو إذا قَحِطّ النّاس طلبوا من الصالحين أن يدعوا الله تعالى لهم بالغيث، فهذا مشروع.
وقد استسقى عمر بن الخطّاب- رضي الله تعالى عنه- بدعاء العبّاس عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: "اللهم إنّا كُنّا نستسقي بنبينا فتسقينا، وإنا نستسقي بعمّ رسولك، قم يا عبّاس فادعو"، فيدعو العبّاس والنّاس يؤمنِّون.
وهذا توسُّل بدعاء الصالحين، وكما توسّل معاوية رضي الله عنه بيزيد الجُرْشي، وغيرُهم.
أما الميِّت فلا يجوز أن تطلُب منه شيئاً، فلا يجوز أن تذهب إلى قبر الرُسول صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الصالحين وتقول: (ادعُ الله لنا)، لأنّ الصّحابة ما كانوا يذهبون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، بل إنّهم لَمّا أجدبوا وما بينهم وبين قبر الرّسول إلاّ أمتار ما ذهبوا إليه، إنّما طلبوا من العبّاس، لأنّ العبّاس حيٌّ حاضر يستطيع أن يدعو، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه ميِّت، ولا يجوز أن يُطلب من الميِّت شيء لا دُعاء ولا غيره.
النوع الثالث: التوسُّل إلى الله بالأعمال الصالحة، مثل حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة وسدّت عليهم المَخْرَجْ فكلٌّ منهم توسّل إلى الله(3/367)
ص -211- ... بالعمل الذي قدّمه لله عزّ وجلّ: هذا توسَّل بعِفّته عن الحرام، وهذا توسّل ببرِّه بوالديه، وهذا توسَّل بأمانته وحِفظه لحقّ الأجير حتى جاء وأعطَاه إيَّاه، ففرّج الله عنهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ(193)} توسّلوا إلى الله بإيمانِهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)} توسّلوا إلى الله بإيمانهم وإتّباعهم للرّسول صلى الله عليه وسلم. والتوسُّل بالتّوحيد: (أسألك بأنّك أنت الله لا إله إلاَّ أنت)، وكما توسّل ذو النون - عليه الصلاة والسلام- وهو في بطن الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال: وقولُه تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} إخبارٌ من الله جلا وعلا أنّ له الأسماء وأنّها حُسنى.
والحسنى: أي: البالغة في الحُسن أعلاه، لا شيء أحسن منها، فالحسنى هي: المتناهِيّة في الحُسن، فكلُّ أسماء الله حسنى.
ولا يعلم عددها إلاّ الله سبحانه وتعالى كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أسألُك بكلّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرْتَ به في علم الغيب عندك"، فالله جل وعلا له أسماء كثيرة، منها ما أنزله في كتابه، ومنها ما علّمه بعضَ خلْقه ولم يُنزله في كتابه.
وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله تسعةً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنّة" فليس المراد الحصر، وإنّما هذه التسعة والتسعين موصوفة بأنّ مَن أحصاها دخل الجنّة، وليس المعنى: أنّها منتهى أسماء الله(3/368)
تعالى، وأن أسماء الله محصورة فيها.
ومعنى إحصائها: عدها، ومعرفة معناها، والعمل بمقتضاها. أما مجرّد أنه يكتُبها، أو يعدّها عدّاً فقط، وهو لا يعرف معانيها، أو أنّه يعرف معانيها لكنّه لا يعمَلُ بها فإنَّه لا يحصُل على هذا الوعد الكريم.
أما ما جاء في رواية التّرمذي من عدّ هذه الأسماء، فهذا لم يَثْبُت عن النّبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو مُدْرَجٌ في الحديث من عمل بعض الرواة.(3/369)
ص -212- ... فهذه الآية تدلُّ: على إثْبات الأسماء لله تعالى رَدًّا على المشركين وعلى الجهميّة ومَن نفى أسماءَ الله سبحانه وتعالى.
وفي الآية: أنها كلُّها حسنى.
وفيها: مشروعيَّة التوسُّل إلى الله تعالى بها، ودعائه بها: {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: توسّلوا إلى الله بها، بأن تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا كريم أكرِمني، يا توّاب تُبْ عليّ. إلى آخره، بأنْ تأتي بكل اسمٍ يناسب حاجتك.
ثم قال: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} {وَذَرُوا} يعني: اترُكوا.
والإلحاد في اللغة: المَيْل عن الشيء، ومنه سُمي اللحد في القبر لحداً لأنّه مائل عن سَمْت القبر.
أما الإلحاد في أسماء الله: فذكروا له عدّة معانٍ:
النوع الأول: جُحودها ونفيُها كما نفتْها الجهميّة.
وهذا أعظم الإلحاد فيها، فالذي يقول: "إن الله ليس له أسماء، لأنّ الأسماء موجودة في المخلوقين، فإذا أثبتناها صار تشبيهاً".
فهذا جاحدٌ لأسماء الله، ملحِدٌ فيها- والعياذُ بالله- أعظم الإلحاد، وهذا كُفرٌ بالله عزّ وجلّ.
النوع الثاني: تأويلُها عما دلّت عليه، كما فعلت المعتزلة فإنهم يُثبتون الأسماء ولكنّهم ينفون معانيها وما تدل عليه من الصّفات، لأنّ هذه الأسماء كلُّ اسم منها يدلّ على صفة؛ {الرحمن} يدلّ على الرحمة، {الغفور} يدلّ على المغفرة، {العزيز} يدلّ على العزّة والقوة والمَنَعة والغَلَبة، وهكذا، كلُّ اسم يُشتَقُّ منه صفة من صفات الله تعالى: {السميع} يدلّ على السمع، {البصير} يدلّ على البصر، {العليم} يدلّ على العلم، {القدير} يدلّ على القدرة، وهكذا، كلُّ اسم منها يدلُّ على صفة. فالذي لا يُثْبِتُ الصّفات مُلحدٌ في أسماء الله، لأنّه جحد معانيها، وجعلها ألفاظاً مجرَّدة لا تدلّ على شيء.
النوع الثالث: تسمية المخلوقين بأسماء الله، مثل ما فعل المشركون من تسمية اللات من اسم الإله، والعُزّى من اسم العزيز، فجعلوا أسماء الله أسماءً لمعبودات(3/370)
المشركين، وهذا من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى.(3/371)
ص -213- ... ذكر ابنُ أبي حاتم عن ابن عبّاس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: "يُشركون ".
وعنه: "سموا اللآت من الإله، والعُزّى من العزيز".
وعن الأعمش: "يُدخلون فيها ما ليس منها".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النوع الرابع: أن يدخل فيها ما ليس منها.
فدلّ على أنّ الذي يُنكر أسماء الله، أو يؤوِّلها بغير معانيها الصحيحة، أو يدخل فيها ما ليس منها أو يحرِّفها إلى مسمّيات الأصنام؛ أنّه ملحدٌ متوعَّدٌ بأشدّ الوعيد.
ثم ذكر عن ابن أبي حاتم رحمه الله، عن ابن عبّاس: " {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: يُشركون " أي: يُشركون في أسماء الله.
"وعنه" أي: ابن عبّاس.
" سَمُّوا اللآت من الإله، والعُزّى من العزيز" أي: أنهم سمّوا الأصنام الكبار المعروفة عند العرب (اللات) و (العُزّى) اشتقّوا لها من أسماء الله.
"وعن الأعمش" هو: سُليمان بن مَهْران، الإمام الجليل في الحديث والفقه والتفسير.
"يدخلون فيها ما ليس منها" لأنّ القاعدة في أسماء الله: أن لا يُسمّى إلاّ بما سمّى به نفسَه، أو سمّاه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فما لم يسمِّ الله به نفسَه ولم يسمِّه به رسولُه صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يُطلَق على الله، لكن المشركون سمّوا الله بما لم يسمِّ به نفسَه، وهذا من الإلحاد في أسماء الله، كما سمّت النصارى الله عزّ وجلّ بالأَبْ.
فهذه الآية الكريمة وما جاء في تفسيرها عن ابن عبّاس وعن الأعمش تدلّ على مسائل:
المسألة الأولى: بيان التوسُّل المشروع، وهو التوسُّل بأسماء الله وصفاته.
المسألة الثانية: بيان التوسُّل الممنوع، وهو التوسُّل إلى الله بجعل واسطة في(3/372)
ص -214- ... الدعاء بين الداعي وبين الله عزّ وجلّ، كأنه يقول: أسألُك بنبيِّك، أو بجاه نبيِّك، أو بمنزلة نبيِّك، أو ما أشبه ذلك.
المسألة الثالثة: فيه إثبات الأسماء الله سبحانه وتعالى.
المسألة الرابعة: أن أسماء الله كلها حسنى، قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فليس فيها اسمٌ غير حسن.
المسألة الخامسة: فيه: النّهي عن الإلحاد في أسماء الله عزّ وجلّ.
المسألة السادسة: أن أسماء الله توقيفيّة، لا يجوز أن يُذكر فيها ما ليس ثابتاً في كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنّ هذا من الإلحاد في أسماء الله، كما قال الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها".(3/373)
ص -215- ... [الباب الثاني والخمسون:]
* باب لا يقال: السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنا إذا كنا مع النّبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب الكتاب التّوحيد: أنّه لَمّا كان السلام من أسماء الله سبحانه وتعالى فإنّه لا يقال: "السلامُ على الله" لأنّه هو السلام سبحانه وتعالى".
وأيضاً: لَمّا كان معنى السلام الدعاء للمسلَّم عليه بالسّلامة من الآفات، والله جل وعلا منزّه عن أن ينالَه شيءٌ من النقص أو من الآفات أو من المكروهات، فليس بحاجة أن يدعى له سبحانه وتعالى لغِنَاهُ عن كلِّ شيء وحاجة كلِّ شيء إليه سبحانه وتعالى، بل هو المدعو، ولا يُدعى له سبحانه وتعالى، لأنّ الدعاء إنّما يكون للمخلوق المحتاج، أمّا الله جل وعلا فإنّه غنيٌّ لا يحتاج إلى شيء، فمن دعا لله فقد تنقّص الله عزّ وجلّ، وهذا يُخِلُّ بالتّوحيد.
قال: "في الصحيح " يعني: في "الصحيحين ".
"عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بعض الروايات: "السلامُ على جبريل وميكائيل"، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله، فإنّ الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيَّاتُ لله، والصلوات، والطيِّبات " إلى آخر الحديث في التشهُّد.
فقولُه: "لا تقولوا: السلامُ على الله" هذا نهيٌ منه صلى الله عليه وسلم عن هذه الكلمة، والنّهيُ يقتضي التحريم.
ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم السبب في هذا النّهي فقال: "فإن الله هو السلام" أي: أنّ "السلام" من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}.
و"السلامُ" من أسمائه سبحانه وتعالى معناه: السالم من(3/374)
الآفات والعُيوب والنقائص، فالله جل وعلا سالمٌ من الآفات والعُيوب والنقائص لذاتِه سبحانه وتعالى لا أنّ أحداً يسلِّمه، وإنّما(3/375)
ص -216- ... هو سالم بذاته سبحانه وتعالى.
وأيضاً: "السلام" هو الذي يُطلَبُ منه السلام، كما كان النّبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة قبل أن ينصرف إلى أصحابه يستغفرُ الله ثلاثاً وهو متوجِّهٌ إلى القبلة، ثم يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام" "ومنك السلام ": أنت الذي تمنحُ السلام لعبادِك، وأنت الذي يُطلَب منك السلام، بمعنى: أنّ العباد يسألونك أن تسلِّمهم من الآفات والنقائص والمكاره.
"السلام" من أسماء الله له معنيان كما ذكر أهلُ العلم:
المعنى الأوّل: السالم من النقائص والعيوب.
والثاني: المسلِّم لغيره.
أي: السالم في نفسه، المسلِّّم لغيره، سبحانه وتعالى.
فحينما يقول المسلِّم على النّاس: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فمعناه: أنّه يقول: أدعوا لكم بالسَلامة من الله سبحانه وتعالى، أو (السلام عليكم) أي: اسمُ الله عليكم، بمعنى: أن الله يحفظُكم ممّا تكرهون.
فهذا الحديث فيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه لا يُقال: "السلام على الله" من عبادِه، لأنّ هذا معناه: الدعاء، والله جل وعلا لا يدعى له.
المسألة الثانية: في الحديث بيان الحكمة في النّهي عن أنْ يقال: "السلام على الله" لأنّ الله جل وعلا هو السلام، يعني: وإذا كان هو السلام فليس بحاجة إلى أن يسلَّم عليه.
المسألة الثالثة: أنّ مَن نهى عن شيء فإنّه يبيِّن السبب في هذا النّهي، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى بقوله: "لا تقولوا: السلام على الله" بيّن المعنى الذي من أجلِه نهى عنه فقال: "إن الله هو السلام"، ففيه: بيان الحكم بعِلَّته، لأنّ هذا أثبت في ذِهْنِ السامع وأدعى للامتثال.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على أنّ مَن نهى عن شيء وكان لهذا(3/376)
ص -217- ... الشيء بديلٌ صالح فإنه يأتي بالبديل، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى عن هذه الصِّيغة أتى بالصيغة اللائقة فقال: "قولوا: التحيّات" إلى آخره، ففيه: أنّ مَن نهى عن شيء وله بديلٌ صالح فإنّه يأتي بالبديل، ولا يترُك الشخص لا يدري ماذا يفعل.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على أن الله جل وعلا يحيّي ولا يسلَّم عليه، لأن التحيّة تعظيم له والسلام دعاء له، والله جلّ وعلا يعظَّم ولا يُدعى له.
المسألة السادسة: في الحديث دليل: على الفرق بين التحيّة والسلام: التحيّة تُقال في حقّ الله تعالى التحيات لله، وأمّا السلام فلا يقال في حق الله، وقد عرفنا الفرق: أن التحيّة تعظيم، والله مستحقٌّ للتعظيم، وأمّا السلام فإنّه دعاء والله ليس بحاجة إلى الدعاء.(3/377)
ص -218- ... [الباب الثالث والخمسون:]
* باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت". اللهم ارحمني إن شئت. ليعزِم المسألة؛ فإن الله لا مُكرِهَ له".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب من جنس الباب الذي قبله، لأنّ الذي يدعو الله تعالى يجب أن يعزم الدعاء، ولا يعلِّقه بالمشيئة، لأنّه إذا علّقه بالمشيئة تضمّن ذلك أمرين:
الأمر الأوّل: أنّ هذا يدلّ على فُتوره في طلب الدعاء من الله سبحانه وتعالى، كأنّه غنيّ عن الله، يقول: إن حصل شيء وإلاَّ ما هو بلازم، فكأنّه فاترٌ في طلبه، وكأنّه غنيّ عن الله سبحانه وتعالى.
ولا شكّ أن العبد مفتقرٌ إلى الله جل وعلا في كلّ أحواله، لأنّه فقيرٌ إلى الله، ولا ينظُر إلى ما عنده من الأسباب ومن الإمكانيّات، فإنّ هذه الإمكانيّات يمكن أن تزول في لحظة، لا ينظُر إليها ولا يعتمد عليها، فهو فقيرٌ إلى الله مهما كان، ولو كان من أكثر النّاس مالاً وأولاداً ومُلكاً فهو فقيرٌ إلى الله في أن يُبقيَ عليه هذه النعمة وأن ينفعه بها، وإلاَّ فهي عُرضة للزوال في أسرع وقت. هذا معنى.
والأمر الثاني: كأنّه يرى بأن الله جل وعلا قد يُجيب الدعاء وهو كاره، فـ "إنْ شئتَ"؛ معناه: أنا لستُ ملزماً لك، أخشى أن يشقّ عليك، لكن إنّ شئتَ اغفر لي وارحمني، وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى لأنه تنقص له. والله جل وعلا لا مُكْره له، وهذا المعنى عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا مكره له".
"في الصحيح" أي: في "الصحيحين".
"عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكُم: اللهم اغفر لي إنْ شئتَ، اللهم ارحمني إنْ شئتَ، وليعزم المسألة، فإنّ الله لا مُكرِهَ له "علّل النّبي صلى الله عليه وسلم هذا النّهي بأمرين: الأمر الأوّل: أنّ هذا يدلّ على الفُتور من السائل، والمطلوب من السّائل(3/378)
العزم: "وليعزم المسألة".
الأمر الثّاني: أنّ هذا يُشعر بأنّ السائل يخاف أنّ الله يفعل هذا وهو كارهٌ من(3/379)
ص -219- ... ولمسلم: "وليعظِم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب المجامَلة، والله جل وعلا لا مُكْرِهَ له، يفعل ما يشاء ويختار سبحانه، لا أحد يُكرهه أو يؤثِّر عليه، أو أنّه يجامِل أحداً، أو يخافُ من أحد.
"وفي رواية لمسلم: "وليعظِّم الرغبة" مثل: "وليعزم المسألة" يعني: يلحّ على الله في الدعاء.
"فإنّ الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" يعطي سبحانه وتعالى ما يشاء ما لا يعلمُه إلاّ هو، بلا حصر ولا حساب، ولا تنفد خزائنُه سبحانه، بخلاف المخلوق فإنّه قد يعطي العطاء ولكن هذه العطيّة تكون ثقيلةً عليه وتُجحف بماله، قد يكون معسِراً ليس عنده شيء.
أمّا الله جل وعلا فإنّه غنيّ لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه، ولذلك: يعطي الجنّة التي هي غاية المطالب، ويعطي الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، يعطي بلا حساب، ولا تنفد خزائنه، كما في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كلّ واحدٍ ما سألني ما نقص ذلك ممّا عندي إلاَّ كما ينقُص المِخْيَط إذا أُدخل البحر، ذلك بأنِّي جواد واجد ماجد عطائي كلام وعقابي كلام، أفعلُ ما أشاء"، هذا شأنه سبحانه وتعالى.
فدلّ هذا الحديث على مسائل:
المسألة الأولى: النّهي عن أن يقول: "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إنْ شئت"، والنّهي للتحريم.
المسألة الثانية: بيان علّة النّهي، وهي أنّ الله جل وعلا لا مكره له حتى يحتاج إلى أن تقول: "إنْ شئت"، ولا يتعاظمه شيء أعطاه ولو كان كثيراً، فإنّ هذا بالنسبة لله كلا شيء، خزائنُه ملأى لا تغيض مع كثرة الإنفاق، كلّ ما في الدنيا والآخرة فإنّه من جودِه سبحانه وتعالى، ومع هذا لا تغيضُ خزائنُه سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، كلّ ما في الدنيا وكلّ ما في الآخرة وكلّ ما في السموات وكلّ ما في الأرض من الخيرات والنعم فإنّه من خزائن(3/380)
الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على كمال غناه سبحانه وتعالى، وأنّ خزائنه لا مع كثرة الإنفاق وإعطاء السّائلين، أرأيتم ماذا أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنّه لم يَغِض ما في يمينه سبحانه وتعالى، كما في الحديث عن النّبي صلى الله عليه وسلم.(3/381)
ص -220- ... [الباب الرابع والخمسون:]
* باب لا يقول: عبدي وأمتي
في "الصحيح" عن أبي هريرة أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضّئ ربّك. وليقل: سيّدي ومولاي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده المصنِّف رحمه الله كالباب الذي قبلَه، من أجل احترام أسماء الله وصفاتِه، ومن أجل سدّ الطّرق التي تُفضي إلى الشرك وحماية جانب التّوحيد، وذلك: بتجنُّب الألفاظ الموهمة التي قد يُفهم منها شيءٌ من الشرك، ولو كان المتكلِّم بها لا يقصد المعنى، ولكنّه يتجنّب ذلك من أجل سدّ الباب من أصلهِ، هذا هو المقصود.
وقد سبق له نظائر في هذا الكتاب من حماية النّبي صلى الله عليه وسلم حمَى التّوحيد وسدّ الطُرق التي تُفْضي إلى الشرك، وهذا منها.
ومن ذلك: لا يقُلْ السيِّد والمالك لرقيقه: عبدي وأَمَتي. لأنّ العباد عباد الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، فليس هناك عبدٌ لأحد إلاّ لله سبحانه وتعالى، فالعبوديّة والتعبيد خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، أما المخلوقون فليس بعضُهم عبيداً للبعض، فالعباد كلّهم عبادُ الله، مؤمنُهم، وكافرُهم، هذه العبوديّة العامّة، أما العبودية الخاصّة فهي خاصّة بالمؤمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)}، هذه عبوديّة خاصّة بالمؤمنين، وهي عبوديّة تقرُّب إلى الله تعالى وإنابةٍ إليه، وجزاؤها الجنة. فالعبودية إذاً خاصّة لله.
قوله: "أَمَتي": الأَمّة معناها- أيضاً- العبدة، فلا يقال: هذه أَمَة فلان، وإنّما يُقال: هذه أَمَةُ الله،. وهذا تأدُّبٌ مع التّوحيد ومع جناب الرّبوبيّة.(3/382)
هذا وجه عقد المصنِّف للترجمة.
قوله: "في الصحيح" أي: الصحيحين: صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
"أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم"! هذا نهيٌ من الرّسول صلى الله عليه وسلم.(3/383)
ص -221- ... ولا يقل: عبدي وأَمَتي. وليقل: فتاي وفتاتي وغُلامي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أطعم ربّك" أي: ناوِلْه الطعام.
"وضِّئ ربّك" أي: ائتِه بالوضوء، أو أعنه على الوُضوء.
ثم بيّن النّبي صلى الله عليه وسلم اللفظ الذي يقوله المملوك لمالكه، وهو: "سيدي ومولاي"، كما بيّن اللفظ الذي يقوله المالك لمملوكه، وهو: "فتاي، وفتاتي وغلامي"، لأن هذه الألفاظ لا محذور فيها، فتكون بدائل للألفاظ المحذورة.
فدلّ هذا الحديث على مسائل:
المسألة الأولى: فيه ما ترجم المصنِّف من أجلِه، وهو عدم جواز قول "عبدي" و"أَمتي"، لأنّ هذا ورد منصوصاً عليه في الحديث: "لا يقل: عبدي وأمتي".
المسألة الثانية: فيه: أنّ لفظ (الرّبّ) لا يُطلق إلاّ على الله، لأنّه هو الرب سبحانه وتعالى الذي له الربوبيّة على عباده: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)}، وهكذا لم يَرِد إطلاق لفظ (الربّ) في القرآن إلاّ على الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز استعمالُه لغيره، وإنْ كان المتكلَّم لا يقصد المعنى وإنّما يقصد مجرّد الملكيّة والرِّق، لكن من باب سدّ الذرائع- كما سبق- أما إذا قُيِّد لفظ الرب فإنه يجوز إطلاقه على المخلوق مثل رب الدار، وكقوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.
المسألة الثالثة: فيه: القاعدة المعروفة وهو سدّ الذرائع التي تقضي إلى المحذور، كلّ ذريعة ووسيلة تُفضي إلى محذور فإنّها ممنوعة، وهي قاعدة عظيمة، تُسمّى عند الأُصولييّن: "قاعدة سدّ الذرائع"، قد تكلّم عليها بإسهاب الإمام ابن القيِّم في كتابَيْه: "إعلام الموقِّعين" و"إغاثة اللّهفان"، وذكر لها تسعة وتسعين مثالاً.
المسألة الرّابعة: في الحديث: دليلٌ على أنّ مَن نهى عن شيء وله بديل صالح فإنّه يأتي بالبديل، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى عن قول: "عبدي" و"أَمَتِي" قال: "وليقل: فتاي(3/384)
وفتاتي وغلامي" هذا البديل الصّالح الذي لا محذور فيه، فإذا كان هناك بديل يقوم مقام هذا المنهي عنه فإنّه يُؤتى بالبديل الذي لا محذور فيه، مهما أمكن ذلك.
وسبق لهذا نظائر، وتكرّر لهذا أمثلة في الأبواب السّابقة.
المسألة الخامسة: في الحديث: دليلٌ على جواز لفظ "سيدي ومولاي" بالنسبة(3/385)
ص -222- ... للمخلوق، لأنّهما يحتملان معاني لا محذور فيها، فإذا كان اللفظ له معنى غير محذور فلا بأس به، لأنّ السيّد يُراد به الرّئيس.
والمالك يقال له (سيد)، والزوج يقال له (سيد).
والمولى يراد به المعتق، ويُراد به المناصِر، ويُراد به المحبوب، ويُراد به المالِك، كلّ هذا يقال له: (مولى).(3/386)
ص -223- ... [الباب الخامس والخمسون:]
* باب لا يُرد من سأل بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونَه فادعوا له حتى تُرَوا أنكم قد كافأتموه" رواه أبو داود والنسائيّ بإسناد صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الشيخ رحمه الله: "باب لا يُرد مَن سأل بِالله" لأنّ هذا فيه تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وهو من كمال التّوحيد، أمّا إذا رُدّ السائل بالله ففيه إساءة في حقّ الله سبحانه وتعالى.
وفي ردّه نقصٌ في التّوحيد.
والسؤال بالله جائز، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} ومعنى {تَسَاءَلُونَ بِهِ} يعني: يسأل بعضُكم بعضاً بالله، وفي هذا الحديث: "مَن سأل بالله فأعطوه " فدلّ على جواز السّؤال بالله.
لكن من سُئل بالله لا يجوز له أن يردّ السائل إجلالاً لله سبحانه وتعالى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأل بالله" كأن يقول: أسألُك بالله، وهذا معناه: الإقسام بالله عزّ وجلّ، كأنّه قال: والله لتُعطينِّي هذا الشيء، لأنّ الباء باء القسم، فإذا قال: أسألُك بالله أي: أُقسم عليك بالله لتعطينِّي كذا وكذا.
"فأعطوه" هذا أمرٌ من النّبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء مَن سأل بالله، وظاهرُه الوُجوب.
ولكن هذا فيه تفصيل؛ فإذا سأل بالله شيئاً له فيه حقّ كالذي يسأل من بيت المال؛ فكلّ مسلم له حقٌّ في بيت المال، فإذا سأل بالله وجب إعطاؤه، وكذلك إذا سألك مضطرٌ إلى شيء من طعام أو كسوة أو غير ذلك مضطراً، وأنت عندك فضل زائد عن حاجتك؛ فإنّه يجب عليك أن تُعطيه دفعاً لضرورته، وإنْ لم تعطه فقد عصيتَ الله.
وقد جاء في الحديث الذي سبق في قصّة الأعمى والأقرع والأبرص: أن الله غضب على اللذين سُئِلا في حالة ضرورة ولم يُعطيَا، فسؤال المضطّر(3/387)
والمحتاج من شيء فاضل عن حاجة المسؤول يجب بذلُه له، فإن لم يبذله فقد عصى الله.(3/388)
ص -224- ... حتّى إنّه إذا كان مضطّراً فإنّه له الحق في أنْ يأخُذ من مال غيرِه ما يدفع ضرورته.
أما إذا سأل شيئاً ليس له فيه استحقاق، وهو ليس محتاجاً ولا مضطراً؛ فهذا يستحبّ للمسؤول أن يُعطيَه، فإن لم يعطِه في هذه الحالة الأخيرة يكون فاعلاً لمكروه، وإذا أعطاه كان فاعلاً لمستحبّ.
"ومن استعاذ بالله فأعيذوه" استعاذ: طلبَ العوذ، وهو: اللُّجوء.
فمن استعاذَ بالله عن شرك فإنّه يجب عليك أن تُعيذَه، ولا يجوز لك أن لا تُعيذَه.
"ومن دعاكم" أي: طلب منكم حضور مناسبة عنده؛ كأن دعاكم إلى حُضور طعام وليمة، فإنه يجب عليكم الإجابة، إلاّ إذا كان هُناك مانع، لأنّ هذا من حقّ الأُخوة.
وظاهرُ الحديث عامٌّ في كلّ دعوة، ولكن العلماء يقولون: إجابة الدعوة إنّما هي خاصّة بوليمة العُرس، أما ما عداها من الولائم فيستحبّ حُضورُها، أمّا وليمة العُرس فيجب حُضورُها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شرُّ الطعام طعامُ الوليمة؛ يُدعى إليها الأغنياء ويُمنع منها الفقراء" وقال: "ومن لا يجب فقد عصى الله ورسولَه" الشَّاهدُ في قوله: "عصى الله ورسولَه"، فدلّ على وجوب الحُضور لولائم الزّواج.
وإن لم يحضُر من غير عُذر يكون آثِماً.
أمّا إذا كان هناك عُذر كأن يكون في الوليمة منكَر ولا يستطيع إزالة هذا المنكر فإنّه لا يحضُر، لأنّ هذا مانع من إجابة الدعوة؛ فإنْ كان يستطيع إزالته وجب عليه الحُضور، حتى إنّ الصائم يجب عليه الحُضور، ولكن إنْ كان صيامُه واجباً فإنّه يدعو وينصرِف، وإنْ كان صيامُه مستحباً فإنّه يخيّر بين أنْ يُفطِر ويأكُل أو يدعو وينصرف.
"ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه" يعني: مَن أحسن إليك بإحسان مالي أو عملي أو قولي.
والمعروف: ضدّ المنكر، والمراد به هنا: الخير، يعني: من أسدى إليك خيراً من مال أو جاه أو كلام طيِّب أو غير ذلك، فكلّ هذا من المعروف، فإنّه يجب عليك أن تكافئه، بمعنى: أن تفعل له من المعروف مثل ما عمِل لك،(3/389)
وتقابل إحسانه بالإحسان، وهذا من باب المكافأة من ناحية، وأيضاً فيه قطعٌ للمنّة من ناحية أُخرى، لأنك لو لم تكافئه بقيَ له منّة عليك، ورِقٌّ منك له.(3/390)
ص -225- ... حتى ولو كان صانعُ المعروف كافراً فإنّك تكافئه على معروفه، لأنّ هذا من باب مكارم الأخلاق ومن باب قطع المنّة ومن باب جزاء الإحسان بالإحسان: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ(60)}، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}، هذا في الكافر الذي يحسن إلى المسلم فالمسلم يكافئه، بل يتأكَّد في حقّ المسلم مكافأة الكافر على صنيعهِ ليقطع منّتَهُ عليه، ولا يكون منه رقٌّ للكافر، ولأنّ هذا يدخل في باب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فإذا رأى الكفّار من المسلمين هذه الأخلاق الطيِّبة والفاضلة كان ذلك مدعاة لدخولهم في الإسلام.
"فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له" أي: ادعوا له بالخير والتيسير والتوفيق.
"حتى تُرَوْا" بضمّ التّاء، يعني: تظنُّوا، ويجوز الفتح، بمعنى: تعلَموا.
فدلّ هذا: على أنّ المحسِن يكافأُ على إحسانِه إمّا بالقول وإمّا بالفعل.
فهذا الحديث فيه مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيه ما ترجم له المصنِّف وهو: لا يُرَدّ مَن سأل بالله، لقوله: "من سألكم بالله فأعطوه"، لأنّ في هذا إجلالاً لله سبحانه وتعالى الذي سَأل به، وفي ردِّه إساءة في حقّ الله تعالى ونقصٌ في التّوحيد، وفي إعطائِه احترامٌ لحقّ الله تعالى، وتكميلٌ للتّوحيد.
المسألة الثانية: فيه وُجوب إعاذة من استعاذ بالله وعدم المساس به بمكروه، لأن هذا يكون تعدِّياً على من استجارَ بالله سبحانه وتعالى، وذلك من نقص التّوحيد، وفي إعاذَتِه إكمالٌ للتّوحيد.
المسألة الثالثة: فيه وُجوب إجابة دعوة المسلم لأخيه المسلم، لِمَا، في ذلك من جَبْر القُلوب وتثبيت المحبّة وإزالة النُّفرة بين الإخوة، أمّا إذا لم يُجب فهذا يسبِّب العكس، يسبِّب النُّفرة ويسبِّب التباغُض(3/391)
بين النّاس والقطيعة.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على وجوب مكافأة صانع المعروف بمثل معروفِه إذا أمكن، فإن لم يمكن فإنّه يكافئه بالدعاء له بالخير.
المسألة الخامسة: في الحديث: النّهي عن عدم مكافأة صانع المعروف، لأنّ ذلك من صفات اللّئيم التي لا تليق بالمسلم.(3/392)
ص -226- ... [الباب السادس والخمسون:]
* بابٌ لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأنّ تعظيم صفات الله سبحانه وتعالى من تعظيم الله، وتعظيمُها من التّوحيد، لأنه تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وأمّا عدمُ تعظيمِها فإنّه تنقُّصٌ للتّوحيد، لأنّه تنقُّصٌ لله عزّ وجلّ.
"ووجهُ الله" صفةٌ من صفاتِه سبحانه وتعالى الذّاتيّة، تواتَرتْ بإثباتِه الأدلّة في كتاب الله وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه علماء السنّة والجماعة: قال الله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ(27)} فأثبت له وجهاً ووصفه بالجلال ووصفه بالإكرام.
كذلك قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، فقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} مثل قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ(27)}.
والسنّة: فيها أحاديث كثيرة في إثبات الوجه لله عزّ وجلّ، مثل الحديث الذي ساقَه المصنِّف: "لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة"، ومثل حديث: "أعوذُ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُّلُمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة".
ومثل أحاديث في هذا الباب كثيرة، ذكرها علماء السنّة والمصنِّفون في العقائد، الذين يسوقون الآيات والأحاديث، مثل كتاب "التّوحيد" لابن خُزيمة و "كتاب السنّة" للآجري، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وغيرها من الكتب المؤلَّفة في التّوحيد، كلُّهم يذكُرون النُّصوص الدّالة على صفاتِ الله سبحانه وتعالى، الصّفات الذّاتية كالوجه واليدين، والصّفات الفعليّة كالاستواء والنُّزول إلى سماء الدُّنيا، وغير ذلك من صفات الأفعال.
فالوجه من الصّفات الذّاتيّة وهو أعظمُها، ولكن مع العلم واليقين والقطع بأنّ صفاتِ الله ليست كصفات خلْقِه، فالله له(3/393)
وجه والمخلوق له وجه، والله له يدان والمخلوق له يدان، والله جل وعلا له سمع وله بصر، والمخلوق له سمع وله بصر، ولكن صفات الله جل وعلا لائقةٌ به وبعظمتِه، وصفات المخلوقين تليقُ بهم وبخلقتهم، فلا تُشبه صفات المخلوقين صفات الخالق جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ(3/394)
ص -227- ... عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلاّ الجنة" رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)}، كلّ هذا ينفي المماثَلة والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فلا تشابُه وإن اشتركَتْ في المعنى، فإنّها لا تشترك في الكيفيّة والحقيقة.
ومَن شَبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسَه فقد كفَر، كما قال نُعيم بن حماد -شيخ البخاري- وغيرُه علماء السلف: من شبّه الله بخلقه فقد كَفر، لأنّ الله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومَن جحد ما وصف الله به نفسَه فقد كفَر، لأنّ الله تعالى يقول: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويقول: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ(27)}، فأثبت له الوجه، فمن نفى ما أثبته الله لنفسه فهو مكذِّبٌ لله، ويكون كافراً بالله عزّ وجلّ، لأنّ الإيمان أنْ تؤمن بالله عزّ وجلّ وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخِر، وبالقدَر خيرِه وشرِّه، ومن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاتِه سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به.
فالله جل وعلا له وجهٌ كما أثبته لنفسه، ولكنه لا يشبه وجه المخلوق، ولا يدور بخلَد المؤمن- أو في ظنّ المؤمن- هذا الظنّ السيّء وهو المشابهة بين الله وبين خلقه، فمن دار بخلده ذلك فإنّه يكون ناقصَ الإيمان، فإنْ نفى ما وصف الله به نفسَه فإنّه يكون عديم الإيمان، نسأل الله العافية.
ولذلك يقولون: المشبّه يعبُد صنماً، والمعطِّل يعبُد عدماً، والموحِّد يعبُد رباً فَرْداً صمَداً.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُسأل بوجه الله" يثبت أنّ لله وجهاً، لكن هذا الوجه عظيم يعظَّم، ولا يُسأل به الأشياء الحقيرة كمتاع الدنيا(3/395)
وأطماع الدنيا، وإنّما يُسأل به شيءٌ عظيم يليق بعظمتِه وهو الجنّة، لأنّ الجنة هي أعظم المطالِب، وهي غاية المطالب، فهي شيءٌ عظيم، أو ما يوصِّلُ إلى الجنة من الأعمال الصالحة، وفي الحديث: "أسألُك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل".(3/396)
ص -228- ... فلا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنّة تعظيماً له أن يُسأل به شيءٌ من المحقَّرات.
وكلُّ ما دون الجنّة فإنّه حقير، إلاَّ إذا كان يوصِّل إلى الجنّة من الأعمال الصّالحة، فإنّه يُسأل بوجه الله.
ففي هذا الحديث مسألتان:
المسألة الأولى: فيه إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: فيه النّهي عن سؤال الأشياء الحقيرة بوجه الله عزّ وجلّ، وكلّ ما عدا الجنّة فإنّه حقير، فلا يُسأل بوجه الله عزّ وجلّ.
بقي أنّ هذا الحديث رواه أبو داود، وفي إسناده: سليمان بن معاذ، وهو ضعيف، فهو حديث ضعيف فكيف أورده المصنِّف هنا؟.
فنقول: المصنِّف رحمه الله في هذا الكتاب يستدل بالأحاديث الصحيحة أو الأحاديث الحسنة، أو الأحاديث الضعيفة التي لها شواهد تؤيدها، وهذا الحديث له شواهد في إثبات الوجه لله عزّ وجلّ من الكتاب والسنّة.(3/397)
ص -229- ... [ الباب السابع والخمسون:]
* باب ما جاء في اللّو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وله: "باب ما جاء في اللّو" لو: حرفٌ، يسمِّيه النُّحاة حرف امتناع لامتناع، تقول- مثلاً-: لو جاء زيدٌ لأكرمتُك، لو أطعتني لأكرمتُك، فامتنع الإكرام لامتناع المجيء أو امتناع الطّاعة.
أما دُخول (ألـ) عليه فليس هو للتعريف، لأنّ الحرف لا يعرَّف، وإنّما التعريف من خواصّ الأسماء، فـ(ألـ) هنا زائدة، فقولُه: "باب ما جاء في اللو" يعني: من النّهي عن ذلك، وذلك: لأنّ الإيمان بالقدَر هو أحد أركان الإيمان الستة، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان: أنّ تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه"، فقوله: "تؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه"، دليلٌ على أنّ الإيمان بالقدَر من أركان الإيمان الستّة.
قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)}، كلُّ شيءٍ فإنّ الله خلقه بقدَر، مقدَّرٌ خلقُه ومقدَّرٌ إيجادُه، ومقدَّرٌ كلُّ تفاصيلِه، لا يوجد في هذا الكون شيء إلاّ وهو مقدَّر من خير أو شر، من ضرر أو نفع، من صلاح أو فساد، من كفر أو إيمان، كلُّه مقدّر من الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الصحيح: "إن الله كتب مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء".
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} يعني: في اللوح المحفوظ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: أنّها مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها الله عزّ وجلّ، وقبل أن تحدُث في وقتها، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إذن الله الكوني القدري، يعني: بقدره ومشيئته سبحانه وتعالى، فكل شيء مقدّر من الله سبحانه وتعالى.
فالإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان(3/398)
الستّة، وهو داخل في التّوحيد، وعدم الإيمان بالقدر يتنافى مع التّوحيد ويتنافى مع الإيمان، فمن كفر بالقدر فإنّه كافرٌ بالله عزّ وجلّ ولا توحيد له ولا دين له، لأنّه جحد القدر، وهذا سيأتي له بابٌ خاصٌّ سيعقده المصنِّف فيما بعد.(3/399)
ص -230- ... وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا وجه إيراد المصنف لهذا الباب في "كتاب التّوحيد"، أن جحود القدر ينافي التّوحيد، لأنه كفر بالله سبحانه وتعالى.
وكلمة "لو إذا جاء بها الإنسان في سياق الجزع والسخط على ما يحصل له، فإن هذا نقص في التّوحيد، وجزع من القدر، لأن الواجب على المسلم: أن يرضى بقضاء الله وقدره، ولا يجزع ولا يسخط، وأن يعلم أنه لابد أن يحصل له ذلك شاء أم أبى جرخ أم لم يجزع، لابد أن يحصل ما قدره الله سبحانه وتعالى.
قال: "وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}" {يَقُولُونَ} يعني: المنافقين.
وهذه الآية جاءت في سياق غزوة أحد في سورة آل عمران، وما حصل على المسلمين فيها من المصيبة التي حلت بهم من استشهاد كثير منهم وانتصار عدوهم عليهم بسبب أنهم خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تنظيم العسكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظم العسكر قبل القتال، وجعل جماعة من الرماة على جبل يحمون ظهور المسلمين، وقال لهم: "لا تتركوا الجبل سواءً انتصرنا أو هزمنا"، ثم بدأت المعركة فصار المسلمون يقاتلون الكفار وظهورهم محمية، فاندفعوا على الكفار وقتلوا منهم وفتكوا بهم، فكان النصر للمسلمين.
ولما شرعوا في جمع الغنائم رءاهم الذين على الجبل فقالوا: ننزل نشارك في الغنائم، فنهاهم قائدهم عبدالله بن جبير وذكرهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تتركوا الجبل سواء انتصرنا أو هزمنا"، فأبوا ونزلوا.
فلما نزلوا جاء الكفار من خلف المسلمين مع الجبل وانقضوا على المسلمين، وما شعر المسلمون إلاّ وهم بين الكفار من هنا وهنا، فدارت المعركة من جديد، وصارت على المسلمين المصيبة بسبب معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ(3/400)
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} يعني: تقتُلونهم، {بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}، يعني: الرُّماة، { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} من النّصر { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ(3/401)
ص -231- ... وقول: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} هذا تطمينٌ للمسلمين، بعد العتاب طمأنهم بأنّهم قد عفي عنهم لِمَا لهم من السّوابق والفضل، لكن هذه عقوبة على المعصية، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، إلى قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} كان المسلمون في حالة الخوف الشديد، وقد أنزل الله عليهم النّوم، لأنّ النّوم أمان، فصار النوم فارقاً بين المؤمنين وبين المنافقين، المؤمنون أصابهم النوم وهذا أمانٌ من الله سبحانه وتعالى، والمنافقون ما ذاقوا غَمْضاً من الفزع ومن الخوف والجُبُن.
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} هذا هو السّبب، المؤمن يظنّ بالله ظنّ الحقّ وأنّه قادمٌ على ربّه، وما عند الله خيرٌ له وأبقى، فهو يظنّ بربّه ظنّ الحق يحسِن الظنّ بالله عزّ وجلّ، فلذلك لا يخاف من الموت، لأنّه يؤمن بالله عزّ وجلّ، ويحسن الظنّ بالله وأنّه قادمٌ على ربٍّ كريم ووعدٍ من الله سبحانه وتعالى، فهو مطمئنّ، وأما المنافقون فإنهم يظنون بالله ظن السوء.
{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} هذا هو محلّ الشّاهد: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، أرجعوا سبب القتل إلى أنهم ليس لهم تدبير، ولو كان لهم تدبير ما قُتلوا. فردّ الله عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ(3/402)
الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} فالبقاء في البيوت لا يمنع من الموت، فالذي مكتوبٌ عليه الموت في أيّ مكان سيخرجُ ويذهب إلى مكانه الذي مكتوبٌ أنه يقتل أو يموت فيه.
فهذا هو محل الشاهد: "لو"، لأنه قال هذه الكلمة من باب الجزع والتسخُّط لقضاء الله وقدره وعدم الرضى بقضاء الله وقدره.
وإذا قيلت "لو" في مثل هذا الحال فإنَّها لا تجوز.
قال: "وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}" هذه قالها عبد الله بن أُبيّ -رأس المنافقين-.
{قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} يعني: من المؤمنين الذين خرجوا وقُتلوا في أُحد، وكيف(3/403)
ص -232- ... وفي "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قُل: قدّر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمّاهم إخوانهم؟، هل يكون المؤمن أخاً للمنافق؟، هذا حسَب الظّاهر، لأنّ المنافق في الظّاهر مؤمن، فهي أُخوّة بحسَب الظّاهر، لأنّ المنافق يعامَل معاملة المؤمن في الظّاهر، وتوكَل سريرَته إلى الله سبحانه وتعالى، فهو سمّاهم إخوانهم بحسب ما أظهروا من الإيمان.
وقيل: إخوانهم في النّسب؛ لأنّ عبد الله بن أُبيّ من قبيلة الأنصار ومن أهل المدينة فهم إخوانهم في النّسب، والله أعلم.
وقد ردّ الله عليه بقوله: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إذا كنتم تزعمون أنكم تمنعون الموت من هؤلاء فامنعوه عن أنفسكم.
{قُلْ فَادْرَأُوا} أي: امنعوا، {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} من أنهم لو كانوا عندكم ما ماتوا وما قتلوا.
الشّاهد في قوله: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا}، هذا فيه استعمال {لَوْ} في مقام الجزع والتسخُّط وعدم الإيمان بالقدر، فالموت الذي حصل عليهم- بزعمه- ليس هو بقضاء الله وقدره وإنّما هو بسبب الخُروج، وأنّ البقاء في المدينة سببٌ للسلامة، ولا يرجِع هذا إلى القضاء والقدر، والسلامة والقتل كلاهما راجع إلى القضاء والقدر سواء بقوا في المدينة أو خرجوا إلى أُحد، فمن كتب الله أنّه يموت فإنّه سيموت في المدينة أو في أُحد، ومن كتب الله أنّه يبقى فسيبقى سواءً في المعركة أو في المدينة، فالأمر راجع إلى قضاء الله وقدره.
قال: "وفي الصحيح" يعني: في "صحيح مسلم".
قوله: "المؤمن القويّ" المراد بالقويّ هنا: قوّة الإيمان أي: القويّ في إيمانه، وكذلك القويّ في بدنه ورأيِه وتدبيرِه،(3/404)
فالقوّة تشمل قوّة الإيمان، وهذا هو الأصل والأساس، وقوّة الرأي والتدبير، وقوّة البدن أيضاً، لأنّه ينفع بقوّته، ينفع نفسَه وينفع غيرَه، فنفعُهُ يكون متعدِّياً، فهو "خيرٌ" أفعل تفضيل، يعني: أكثرُ خيراً.(3/405)
ص -233- ... "وأحبُّ إلى الله" هذا فيه: إثبات المحبّة لله عزّ وجلّ، وأنّه يحبّ المؤمن القويّ. والمحبّة من صفات الله سبحانه وتعالى.
"من المؤمن الضّعيف" الضعيف في إيمانه، وكذلك الضعيف في إرادتِه وتدبيرِه وبدنه، لأنّ نفعَه يكون قليلاً لنفسه ولغيره.
قال: "وفي كلٍّ خير" المؤمن كلُّه خير، المؤمن القويّ والمؤمن الضعيف، كلّهم فيه خير، لكن المؤمن القويّ خيرهُ متعدٍّ إلى غيره، والمؤمن الضعيف خيرهُ قاصرٌ على نفسه لا يتعدّاه.
وقوله: "احرص" بكسر الرّاء، ويجوز الفتح، والحرص معناه: المبالَغة في طلب الشيء.
ومعنى قوله: "احرص على ما ينفعك" يعني: بالغ في طلبهِ، وابذل الوُسع في تحصيلِه، فإنّ النفع مطلوب.
وفي ضمن ذلك النّهي عن الحرص على الشيء الذي لا ينفع.
ثم قال: "واستعن بالله" يعني: لا تعتمد على الحرص فقط ولكن مع الحرص استعن بالله سبحانه وتعالى، لأنّه لا غنى لك عن الله، ومهما بذلْت من الأسباب فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى، فلذلك جمع بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله عزّ وجلّ.
ثم قال: "ولا تعجَزن" بفتح الزاي، ويجوز الكسر، والنون: نون التوكيد الثّقيلة. هذا نهي، نهيٌ عن العجز.
والعجز معناه: الكسل والإهمال، وليس العجز الجسمي، فالإنسان إذا عجز عجزاً جسميّاً لا يؤاخَذ لأنّه لشيء باختيارِه، لكن المراد: عجز الكسل وعجز الإهمال وإيثار الرّاحة هذا هو المنهيّ عنه، لأنّه يفوِّت على المسلم خيراً كثيراً، ولهذا: كان النّبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل ومن الجُبُن والبُخل ومن غلبة الدَّيْن وقهر الرجال.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإنْ أصابك شيءٌ" يعني: ممّا تكره، بعدما تحرص على ما ينفعك وتستعين بالله وتترُك العجز، بعدما تعمل هذه الأسباب إذا أصابك شيء عكس ما تُريد وعكس ما تطلُب فلا تجزع واعلم أنّ هذا بقضاء الله وقدره، وأنّ الله لو قدّر(3/406)
ص -234- ... لك شيئاً لحصل ولكنّه لم يقدِّر لك، ولا تدري ما الخيرة فيه، لعلّ الله حبسه عنك لخير أرادَه بك، ربّما أن الإنسان يحرص على شيء لو حصل له لأهلَكه، فالله يمنعه عنه رحمةً به: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
"فلا تقل: لو أنّي فعلتُ كذا لكان كذا وكذا" لا ترجع هذا إلى تقصيرِك، ولكن أرجِعه إلى قضاء الله وقدرِه.
"ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل" يعني: أرجِع هذا إلى قضاء الله وقدره، فالذي منعه عنك ليس هو فعلُك أو تركك، وإنّما الذي منعه عنك هو الله سبحانه وتعالى، ولا تدري لعلّ الله أراد بك خيراً وصرف عنك شرًّا، فارْض بقضاء الله وقدره.
هذا هو شأن المؤمن الذي يؤمن بالقضاء والقدر، أما المنافق وضعيف الإيمان فإنّه إذا أصابَه شيء يكرهُه جزع وتسخّط وقال: هذا بسبب فلان أو هذا بسبب أنّي ما علمت كذا أو كذا. هذا جُحودٌ للقدر، أو عدم إيمان بالقدر، أو ضعف إيمان بالقدر، وما هكذا المؤمن.
فقول: "قدر الله وما شاء فعل" يحلّ عن المسلم مشاكل كثيرة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فإنّ لو" أي: قول:"لو".
"تفتح عمل الشيطان" إذا أرجعتَ هذا إلى غير القضاء والقدر دخل الشيطان، وصار يوسوس لك ويلقي عليك الأوهام ويُلقي عليك القلق النفسي، وتُصبح في همٍّ وغم وحزن، أما إذا أغلقتَ هذا الباب وقلتَ: "قضاءُ الله وقدرُه"، أو "قدَّر الله وما شاء فعل" فإنّك تُغلق باب الشيطان.
فـ "لو" مفتاح لباب الشيطان، و"قدّر الله وما شاء فعل" إغلاق لباب الشيطان، تستريح من شرِّه ومن هُمومه وأحزانِه ووساوسه.
يبقى إشكالٌ وهو: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابهِ في حجّة الوداع: "لو استقبلْتُ من أمري ما استدبرت لَمَا سُقت الهدي ولأحللتُ معكم وجعلتها عمرة" أليس في هذا استعمال "لو" في شيء تبيّن للرّسول صلى الله(3/407)
عليه وسلم أنّه فاته وهو فضيلة التمتُّع بالعْمرة إلى الحج؟، ألاَ يتعارض مع قوله: "وإنْ أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا"؟.(3/408)
ص -235- ... الجواب: لا تعارض، لأنّ "لو أني فعلتُ كذا وكذا لكان كذا وكذا" هذا من باب الجزع على شيءٍ حصل وانتهى، أما "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت" فهو إخبارٌ عن المستقبَل لا عن الماضي، وأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لو تبيّن له فضل العُمرة والتّمتّع بها إلى الحج لتمتّع صلى الله عليه وسلم ولَمَا ساق الهدي، فهو إخبارٌ عمّا يفعله في المستقبَل.
فهذا هو الجمع بين الأحاديث؛ فالرّسول صلى الله عليه وسلم يُخبر عن مستقبَل، وأيضاً هو يتمنّى عمل طاعة وعمل قُربة إلى الله سبحانه وتعالى، وليس يتجزّع على شيء فات أو شيء مضى، فلا تعارُض بين هذا وهذا.
وفي الباب مسائل:
المسألة الأولى: وُجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنّه الركن السّادس من أركان الإيمان، وهو من علامات التّوحيد. وعدم الإيمان بالقضاء والقدر يتنافى مع التّوحيد وهو من علامات النفاق.
المسألة الثانية: يُستفاد من الآيتين والحديث: وُجوب ترك "لو" عند نُزول المصائب والمكروهات، لا يقول: "لو أنّي فعلتُ كذا وكذا ما حصلت هذه المصائب"، بل يقول: هذه المصائب مقدَّرةٌ من الله سبحانه وتعالى، فيرضى بقضاء الله وقدره.
المسألة الثالثة: فيه الحثّ على فعل الأسباب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعُك".
المسألة الرابعة: فيه النّهي عن الاعتماد على الأسباب ووُجوب الاستعانة بالله تعالى: "واستعن بالله".
المسألة الخامسة: فيه النّهي عن الإهمال والكسل وتعطيل الأسباب.
المسألة السادسة: فيه علة النّهي عن قول "لو" وهو لأنّها تفتح عمل الشّيطان، وأمّا الاستعانة بالله والحرص على ما ينفع وترك التلوُّم بقول "لو" فإنّ هذا يُغلق باب الشّيطان عن الإنسان.
المسألة السابعة: فيه فضل المؤمن عموماً، وأن المؤمن القوي أفضل من المؤمن الضعيف.
المسألة الثامنة: فيه إثبات محبة الله للمؤمنين وأنها تتفاضل بحسب قوتهم وضعفهم في الإيمان وغيره.(3/409)
ص -236- ... [الباب الثامن والخمسون:]
* بابُ النّهي عن سبّ الريح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب من جنس الأبواب السابقة التي فيها النّهي عن سبّ الدهر، والنّهي عن قول: "لو" وغير ذلك، والنّهي عن التنجيم، كلّ ما فيه إضافة الأشياء إلى غيرِ الله عزّ وجلّ فإنّه منهيٌّ عنه، لأنّ الأُمور كلّها بيد الله سبحانه وتعالى، وهو خالقُها ومدبِّرها فتُضاف إليه سبحانه وتعالى ولا تُضاف إلى غيره لا إضافة سبّ ولا إضافة مدح، لأنّ في هذا تنقُّصاً لله عزّ وجلّ وإسناد الأمور إلى غيرِه.
وكما سبق: أنّه إذا اعتقد أنّ هذه الأشياء تصنع هذه الأشياء أو تُحدثها؛ فهذا شركٌ أكبر، لأنّه شركٌ في الرّبوبيّة.
وإنْ كان لا يعتقد ذلك، بل يعتقد أنّ الله هو الخالق المدبِّر، وإنّما نسب هذه الأشياء إلى هذه المخلوقات من باب أنّها أسبابٌ فقط: فهذا يكون محرَّماً ويكونُ من الشرك الأصغر، حتى إنّ ابن عبّاس- كما سبق- جعل قولَ الرجل: "كانت الريح طيِّبة، وكان الملاّح حاذقاً"، جعل هذا من اتّخاذ الأنداد لله عزّ وجلّ، وفسّر به قولَه تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فرُكّاب السفينة إذا خرجوا من البحر ولم يحصل عليهم مكروه ونسبوا هذا إلى حِذْق الملاّح أو إلى طيب الريح التي وجّهت سفينتَهم فإنّ ذلك من اتّخاذ الأنداد لله عزّ وجلّ، لأنّ الواجب: أن يشكُروا الله عزّ وجلّ، لأنّه هو الذي سخّر الريح وهو الذي سخّر الملاّح وعلّمه ووفّقه، فتُنسب الأشياء إلى مصدرها وهو الله سبحانه وتعالى. هذا هو التّوحيد.
أما نسبة الأشياء إلى غيرِه فهذا شركٌ إمّا أكبر وإمّا أصغر.
والواجب على المسلمين أن يتنبّهوا لذلك، لأنّه يكثُر على الألسنة الآن مدح الأشياء وأنّه بفضلها حصل كذا وكذا، بفضل الطبِّ بفضل كذا وكذا، بفضل تضافُر الجهود، بفضل المجهودات الفلانية حصل كذا وكذا، والله لا يُذكر أبداً، ولا يُثنى عليه في(3/410)
هذه الأُمور، وهذا خطأُ كبيرٌ في العقيدة، ويُخشى على مَنْ قالَه من الشّرك الأكبر، هو لا يسلم من الشرك: إمّا الشرك الأصغر وإمّا الشرك الأكبر.
أو يَنسب الأشياء إلى الظّواهر الطبيعيّة، كما يقولون من نِسبة الأمطار إلى(3/411)
ص -237- ... عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبُّوا الرّيح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنّا نسألُك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أُمرت به، ونعوذ بك من شرّ هذه الرّيح وشرّ ما فيها وشرّ ما أُمرت به" صحّحه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المناخ، أو المنخفض الجوي، أو إلى الرّياح، أو ما أشبه ذلك؛ كلّ هذا من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
نعم؛ الله جعل للأشياء أسباباً، ولكن مَن هو الذي خلق الأسباب ومَن هو الذي سخّرها وأودع فيها الأسرار؟ هو الله سبحانه وتعالى، فالواجب: أن تُسند الأُمور إلى الله عزّ وجلّ، هذه عقيدة المسلم دائماً وأبداً، وهذا هو التّوحيد.
إلاّ الأُمور التي من أفعال الإنسان مثل الطاعات ومثل الكفر والمعاصي والفُسوق والتعدِّي على النّاس؛ فهذه تُنسب إلى المخلوق لأنّها أفعالُه وجنايَتُه، وهو محاسَبٌ عليها، وإنْ كان الله قدّرها سبحانه وتعالى، ولكن الذي فعلها وقام بها المخلوق باختياره وإرادته، فيذمّ عليها، ويعاقَبُ عليها، أو يُثاب عليها إن كانت صالحة، فهي من ناحية القدَر تنسب إلى الله، أمّا من ناحية الفعل فهي تُنسب إلى المخلوق، وهو الذي فعلها وهو الذي قام بها باختياره وإرادته ومشيئَته، وهو يعاقَب أو يُثاب على أفعاله، لا على قدر الله.
قال: "عن أُبيّ بن كعب" هو: أبو المنذر أبيّ بن كعب الخزرجي الأنصاري، كان مشتهراً بجودة القراءة للقرآن، فهو أقرأ الصّحابة لكتاب الله عزّ وجلّ.
"أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبّوا الريح" هذا نهي من الرّسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى: "تسبّوا" يعني: لا تشتموا الرّيح وتذمّوها وتلعنوها، كما كان عليه أهل الجاهليّة أنهم يسبّون الريح إذا جاءت على غير رغبتهم، والواجب أن الإنسان عندما يصيبُه ما يكره: أن يحاسب نفسَه، لأنّه ما أصابه هذا المكروه إلاّ بسببه وبفعلِه،(3/412)
فيحاسب نفسَه ويتوب إلى الله عزّ وجلّ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.
فالواجب أنّ الإنسان لا يلوم الرّيح ولا يلوم غيرها وإنّما يلوم نفسَه، بأن يرجع إلى الله ويتوب إلى الله ويعلم أنّ الله ما قدّر عليه هذه المصيبة إلاّ بسبب فعلِه ومعصيته، فيتوب إلى الله عزّ وجلّ ويحاسِب نفسه، ثم ينسب الأشياء إلى الله وأنّ الله هو(3/413)
ص -238- ... الذي قدّرها بسبب فعله عقوبة له وأوجدَها وهو الذي أمرها بذلك، فهي مأمورة مدبّرة: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ}، فالله جل وعلا هو الذي يُرسل الرّياح: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} تلقِّح السحاب، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}، {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}، فالرّياح إنّما هي بأمر الله سبحانه وتعالى يُرسلها بالخير، ويُرسلها- أيضاً- بالشرّ والعذاب، كما أرسلها على عاد: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(42)}، {أَرْسَلْنَا} هو الذي أرسلها، ليست هي التي جاءت وأهلكتْ عاداً، وإنّما الله هو الذي أرسلها، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)}، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ }، كلّ هذا بأمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "فإذا رأيتم ما تكرَهون" يعني: إذا رأيتم من الرّيح ما تكرهون: رأيتم شدّة الريح وقوّتها وخشيتُم من أنّها تضرّكم أو تضرّ بأموالكم أو تقتلع أشجارَكم أو تهدِّم بيوتكم، أو ما تكرهون من برودتها، لأنها قد تكون باردة شديدة(3/414)
البُرودة، أو تكون حارّة شديدة الحرارة، تُهلك النبات وتُهلك الثّمار.
"فإذا رأيتم ما تكرهون" منها من قوّتها، أو من برودتها، أو من حرارتها فتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى، لا تتوجّهوا إلى الرّيح تذمّونها وتسبّونها، هذا ليس فيه جدوى من ناحية، وهو- أيضاً- شركٌ بالله عزّ وجلّ، ووضعٌ للشيء في غير موضعه.
"فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا" هذا هو العلاج.
"اللهم إنّا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمرت به، ونعوذُ بك من شرّ هذه الريح، وشرّ ما فيها، وشرّ ما أُمرت به" هذا هو العلاج: إسنادُ الأُمور إلى الله ودعاءُ الله جل وعلا لدفع المكروه وجلْب الخير.
فدلّ على أنّ الريح تؤمَر بالخير وتُؤمر بالشّر، وفي الحديث: "الريح من(3/415)
ص -239- ... رَوْح الله تأتي بالخير وتأتي بالشرّ"، فهي مأمورة من الله سبحانه وتعالى ومدبّرة مرسلة.
يُستفاد من هذا الحديث مسائل:
المسألة الأولى: فيه النّهي عن سبّ الريح، لأنّ ذلك يُخِلُّ بالتّوحيد من حيث إنّه ينسِب الأُمور إلى غير الله عزّ وجلّ.
المسألة الثانية: فيه أنّ الريح مدبّرة مخلوقة، تأتي بالخير وتأتي بالشرّ بأمر الله سبحانه وتعالى، وما دامت كذلك فإنّها لا يُتوجّه إليها لا بذمٍّ ولا بمدح، وإنّما يُتوجّه إلى الله تعالى بالتضرُّع والدعاء عند الشدائد والشُّكر والحمد عند الرخاء والنعمة.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على أنّ المسلمين عند الشدائد يتوجّهون إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرُّع والتّوحيد، ولا يترُكون الدعاء، ولا يتوجّهون إلى غيرِه، كحالة مشركي هذا الزّمان الذين إذا وقعوا في شدّة فإنّهم ينادون بالشّرك، ويدعون غيرَ الله سبحانه وتعالى، يدعون مَن يخلِّصهم من الموتى ومن الأولياء والصّالحين، يهتفون بأسمائهم، ويذكرون أسماءهم حتى يخلِّصوهم، ويتواصون بذلك.
فالواجب على الدعاة: أن يهتمّوا بهذا الأمر، أن يحذِّروا النّاس، وأن يبيِّنوا للناس، وأن يدعوا النّاس إلى توحيد الله، وأن يقوموا بتبليغ هذا الدين إلى النّاس ويوضحوا العقيدة على الوجه الصحيح الخالص، هذا هو الحلّ، فالذي يريد أن يحلّ مشاكل المسلمين هذا هو الحل.
ولو قام بهذا واحدٌ مخلص لأنقذ الله به أمّة من الأمم أو أجيالاً من النّاس، كما حصل على أيدي الدّعاة المخلصين وهم أفراد، والآن هناك جماعات للدعوة وهناك إمكانيّات هائلة وهناك أموال وهناك وهناك، لكن أين الآثار؟، لو كان هناك داعيةٌ واحد يقوم على المنهج الصحيح ويدعو إلى الله على المنهج الصحيح لحصل به النفع الكثير.
والآن كثر الدعاة وكثرت الجماعات وكثرت التنظيمات، ولكن أين الجدوى وأين الثمرة؟، الشر يزيد، والشرك ينتشر، لأنّ الدعوات هذه في الغالب ليست على أساس صحيح،(3/416)
ولو كانت على أساس صحيح ومنهج سليم فواحد من المخلصين يكفي عن ألف داعية، كما هو معروف من سير الدعاة المصلحين السّابقين.(3/417)
ص -240- ... [الباب التاسع والخمسون:]
* باب قول الله تعالى:
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا بابٌ عظيم، فقولُه- رحمه الله تعالى-: "باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ حسن الظنّ بالله سبحانه وتعالى من واجبات التّوحيد، وسوء الظنّ بالله عزّ وجلّ ينافي التّوحيد، هذا وجه المناسبة لهذا الباب في كتابه التّوحيد.
قولُه: "باب قول الله تعالى" يعني: ما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة من آل عمران والآية الثانية من سورة الفتح، كلاهُما في موضوع واحد، وهو: سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى وما توعّد الله عليه من العذاب والعُقوبة، لأنّه ينافي التّوحيد.
والقصّة حصلت في وقعة أُحد لَمّا حصل على المسلمين ما حصل من إدالة العدو عليهم بسبب المخالفة التي حصلت في الجيش.
لَمّا حصل ما حصل تكلّم المنافقون بكلام سيّئ، لأنّ المنافق دائماً ينتهز الفرص التي يرى أنّ فيها غضاضةً على المسلمين ويشغلّها ويفسّرها ويكيّفُها على حسب هواه، دائماً هذا في المنافقين إلى آخر الزمان، كلّما حصل على المسلمين شدّة أو كُربة أو ضائقة فرح المنافقون وجعلوا يفسِّرونها ويحلِّلونها بأن المسلمين ليسوا على شيء وأن دينهم ليس بشيء، ويظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية، وظنّ السوء.
ففي سورة آل عمران سمّاه ظنّ الجاهليّة، وفي سورة الفتح سمّاه ظنّ السّوء.
قال في سورة آل عمران: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} لأنّ الجاهلية عدم العلم، فالذي ظنّ هذا الظنّ الخاطئ سببه عدم العلم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحمْدِه وحكمته.(3/418)
ص -241- ... وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} الآية.
قال ابن القيم في الآية الأولى: "فُسِّر هذا الظنّ بأنه سبحانه لا ينصُر رسولَه، وأن أمره سيضمحل.
وفسّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته.
ففُسّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمّ أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُظهره على الدين كلِّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال في سورة الفتح: {ظَنَّ السَّوْءِ} يعني: إساءة الظنّ بالله عزّ وجلّ، وهو يخالف حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ، فحسن الظنّ بالله توحيد وسوء الظنّ بالله كفر.
ثم ذكر الشيخ رحمه الله كلام ابن القيِّم في تفسير الآيتين، وساقه من "زاد المعاد في هدي خيرِ العباد" باختصار.
"قال ابن القيِّم: فُسِّر هذا الظن في الآية الأولى" يعني: آية آل عمران.
"بأنّه سبحانه لا ينصُر رسولَه" وهذا ظنّ الجاهليّة.
"وأنّ أمرَه سيضمحلّ" وهذا تكذيبٌ لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، والتكذيب لوعد الله كفر.
"وفسّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففُسّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمّ أمرَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وأن يُظهره على الدين كلِّه " يعني في ذلك ثلاثة تفاسير: إنكار الحكمة في أفعاله سبحانه وتعالى، وإنكار الحكمة: كفرٌ وضلال، لأنّ الله وصف نفسَه بالحكمة، وسمّى نفسَه بالحكيم: {حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، {حَكِيمٍ عَلِيمٍ}، في كثيرٍ من الآيات، والحكمة: وضعُ الشيء في موضعه.
فمن أنكر حكمة الله فإنّه يكفر بذلك، بخلاف من أثبتها وأوّلها فإنّه يُعتبر ضالاً في هذا التأويل، لأنّ الله جل وعلا حكيم لا يفعل شيئاً إلاّ لحكمة عظيمة، قد تظهر لنا وقد لا تظهر، والله جل وعلا لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يفعل شيئاً لمجرّد المشيئة من غير حكمة، إنّما يفعل الأفعال لحكمة وغايةٍ عظيمة،(3/419)
كلُّ أفعاله سبحانه وتعالى معلَّلة وكلُّها لحكمة.(3/420)
ص -242- ... وليس من لازم ذلك: أن تظهر لنا الحكمة أو يظهر لنا التعليل، لكنّنا نقطع ونؤمن ونتيقّن أنّ أفعال الله جل وعلا ليس فيها عبث.
وفسّر بـ"إنكار القدر" وهذا- أيضاً- كفرٌ بالله، لأنّ القدر- كما سبق- هو الركن السّادس من أركان الإيمان.
وفسّر بـ "إنكار أن يُتِمّ أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُظهره على الدين كلِّه" وهذا هو التفسير الثالث، وهو أنّ الله لا ينصر رسوله، وهذا تكذيبٌ لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51)}.
قوله: "وأنّ أمرَه سيضمحلّ" يعني: أنّ هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سيزول نهائيّاً ولا يبقى منه شيء، مثل سائر الدعوات والمذاهب الباطلة، تعيش فترة من الزمن ثم تنقطع وتذهب بذهاب أصحابها وذهاب أحزابها وجماعاتها وهذا التفسير باطل، لأن الحق لابد أن يبقى مهما جرى عليه من الامتحان والضعف أحياناً والمداولة لكنِ الحق يبقى ويستمرّ، فمن ظنّ أنّ أمرَ الرّسول صلى الله عليه وسلم سيضمحلّ بسبب ما جرى من النكَبات التي جرت على المسلمين، من ظنّ هذا فقد ظنّ بربّه ظنّ السَّوء.
والله لم يُجرِ هذه النكبات لأجل أن يُزيل أهل الدين ويُزيل الدين، إنّما أجرى هذه النكبات على الدين وعلى أهل الدين ابتلاءً وامتحاناً من أجل الرّجوع إليه سبحانه وتعالى أو لخطأ ارتكبوه ووقعوا فيه، فالله يريد أن ينبِّههم من أجل أن ينقُّوا صفوفهم من الدّخيل ومن الخطأ، فيرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فيُعيد لهم الله النصر والتمكين، هذه سنّة الله جل وعلا في خلقه.
وكذلك يريد أن يمحِّص الذين آمنوا، يخلِّصهم من الذّنوب والمعاصي ليقدموا على الله مطهّرين ليس عليهم سيّئات.
هذه حكمة الله سبحانه وتعالى، لا يريد بالنكبات التي تجري على عباده المؤمنين أن يُزيلَهم وأن يُزيل حقّهم الذي هم عليه، أبداً، تأبى حكمة الله ذلك،(3/421)
وإنّما يُريد أن يثبِّت هذا الحق وأن يُزيل عنه الدّخيل وأن يُزيل عنه ما أصاب أصحابه من الأُمور المخالفة حتى يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى ويثوبوا إليه، فعند ذلك تعود إليهم عزّتهم ومكانتُهم.(3/422)
ص -243- ... وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون في سورة الفتح.
وإنّما كان هذا ظنّ السوء؛ لأنّه ظنّ غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه سنّة الله في خلقه من قديم الخليقة إلى أن تقوم الساعة، كم جرى على الرّسل؟، وكم جرى على أتباعهم من النكبات ومن المُعضلات؟، ولكن العاقبة تكون لهم دائماً وأبداً، والحق لا يزال ولله الحمد.
قوله: "وهذا هو ظن السوء" أي: من نفى القدر، وأن حدوث الأشياء بدون إرادته سبحانه وتعالى، وبدون قدره؛ فقد ظنّ بربّه ظنّ السّوء، ووصف ربّه بالعجز والجهل وعدم العلم، تعالى الله عمّا يقولون.
قوله: "وإنّما كان هذا ظنّ السَّوء؛ لأنّه ظنّ غير ما يليق به سبحانه" ظنّ ما لا يليق به سبحانه وتعالى وهو العَبث.
"وما لا يليق بحكمته وحمدِه ووعده الصّادق" لأنّه سبحانه وتعالى محمودٌ على كلّ حال، على ما يكره العباد وعلى ما يحبّون، لأنّه من قِبَل الله محمود، فإيقاعُ العقوبة فيمن يستحقّها عدلٌ منه سبحانه وتعالى يُحمد عليه، وإيقاع الهلاك بالأُمم الكافرة يُحمد عليه سبحانه وتعالى لأنّه جزاء، ونزول النعم بأهل الإيمان والنصر والتوفيق وأهل الإتّباع فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، فهو المحمود على كلّ حال على المحامد وعلى المكاره، لأنّه ليس من قِبَله شيء عبث أبداً.
فالذي يعرف الله ويعرف أسماءه وصفاته ومقتضى حمدِه؛ فإنّه لا يقع في هذه الأغلاط أبداً، حتّى ولو بلغ به الأمر والشدّة ما بلغت، لأنّه يعلم أنّ الله لا يفعل إلاّ ما فيه خير له، فيصبر ويرضى بقضاء الله وقدره وينتظر الفرج، ولا ييأس من رحمة الله، بل ينتظر رحمة الله، كلّما اشتدّ الكرب انتظر رحمة الله، بل يزيد الرجاء عند شدّة الكرب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العُسر يُسراً"، والله جل وعلا يقول: {فَإِنَّ مَعَ(3/423)
الْعُسْرِ يُسْراً(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)}، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}، فكلّما اشتدّ الأمر انفرج.(3/424)
ص -244- ... فمن ظنّ أنّه يُديل الباطل على الحقّ إدالةً مستقرّة يضمحلّ معها الحقّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحقّ عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئةٍ مجرّدة؛ فذلك ظنّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النّار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما أهلُ النفاق وأهلُ الكفر وأهل الجهل فإنّهم عند الكَرْب يكفُرون بالله عزّ وجلّ ويقنطون من رحمة الله، ولهذا لَمّا أصاب المسلمين في أُحد ما أصابَهم كانت هذه كلماتهم القبيحة.
قال ابن القيِّم: "فمن ظنّ أنّه يُديل الباطل على الحقّ إدالة مستقرّة يضمحلّ معها الحقّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره" هذا إعادة من الإمام ابن القيِّم رحمه الله لتقرير هذه المسألة العظيمة.
"أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحقّ عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجرّدة؛ فذلك ظنُّ الذين كفروا" من ظنّ أن الله يُديل الباطل على الحق إدالةً مستقرّة، الله قد يُديل الباطل على الحقّ أحياناً، لكن هذه الإدالة مؤقتّة وليست مستقرّة، وإدالتُه على الحقّ لحكمة، وهي أنّ أهل الحق يتنبّهون ويتداركون الخطأ والنقص الذي حصل فيهم: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، يعني: يطهِّرهم من رجس الذنوب والمعاصي بما نزل عليهم من العُقوبة، كما قال سبحانه وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، ولَمّا شقّ على أبي بكر- رضي الله تعالى عنه- قال: أيُّنا لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألستَ تحزَن؟، ألستَ تَنْصَب؟، ألستَ تُصيبُك اللأوى؟"، قال: بلى، قال: "فذلك ما تُجزون به".
فالله جل وعلا قد يُجازي عبدَه المؤمن وهو يحبُّه، ويعاقبه لأنّه يحبّه؛ من أجل أن يخلِّصه من هذا الذنب، حتى يوافيَ ربّه طاهراً نقيًّا ويدخُل الجنّة.
أمّا الكافر عدوُّ الله فإنّ الله يصبُّ عليه النعم للاستدراج ويُمسكُ عنه العُقوبة(3/425)
حتى يوافي القيامة وهو محمّلٌ بالذّنوب فيكون من أهل النّار، هذه حكمة الله سبحانه وتعالى.
بعض النّاس يقول: لماذا الكُفّار ينعَمون بالحضارة والصناعات، والجوّ الطيِّب، والبيئة الطيِّبة، والفواكه، والأشجار، والمحاصيل، والمسلمون في هذه الحالة، ثم يذهب به ظنّ السَّوء إلى أن يظنّ أنّ الكفّار على الحقّ، وأنّ الله راضٍ(3/426)
ص -245- ... وأكثرُ النّاس يظنّون بالله ظنّ السّوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلاَّ من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
فليعتَنِ اللّبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنّه بربّه ظنّ السوء.
ولو فتّشت مَن فتّشت؛ لرأيت عنده تعنُّتاً على القدر وملامةً له، وأنّه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنهم، وأنّ المسلمين ليسوا على حق وأنّ الله ساخطٌ عليهم، ثم قد يرتدّ عن الدين.
فالله جل وعلا يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحبّ، وأما الدين فإنّه لا يُعطيه إلاّ لمن يحبّ.
وليس إنزال النعم أو إنزال النِّقَم دليلاً على المحبّة أو على البُغض والكرَاهة وإنّما هو ابتلاء وامتحان، فقد يعاقبُ الله من يحبُّه وقد يُنعم على من يُبغِضُه في هذه الدّنيا: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(178)}.
فهذا يجب أن يكون من المؤمن على بال، لكن ما يُدرك هذا إلاّ أهل الفقه وأهل العلم وأهل البصيرة وأهل النظر الصّائب.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: "فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا" فيتأمّله تأمُّلاً جيِّداً، وهو أمر أفعالِ الله تعالى في عِباده، وليعلم أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ لحكمة وقضاءٍ وقدر، ما يجري في هذا الكون شيء إلاّ لحكمة وقضاء وقدر، ولم يعد الله سبحانه وتعالى بوعد إلاّ ولابدّ أن يقع، ويتأمّل الإنسان نفسه حِيال هذه الحوادث: ماذا تقولُ نفسُه إذا رقع شيء ممّا يكره به أو بغيره، ولهذا يقول الإمام ابن القيِّم: "وأكثر النّاس يظنون بالله ظنّ السَّوء فيما يختص بهم، وفيما يفعلُه بغيرهم".
وهذا موجودٌ في بعض بني آدم: "ولو فتَشتَ من فتّشت؛ لرأيت عنده تعنُّتاً على القدر وملامَة له" كما كان من إبليس، وما نتج عن تكبُّر(3/427)
إبليس وتعنُّته على الله جل وعلا.(3/428)
ص -246- ... فمستقل ومستكثر، وفتّش نفسَك هل أنت سالم؟
فإنْ تنجُ منها تَنْجُ من ذي عظيمة ... وإلاَّ فإنّي لا إخالُك ناجياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك بالنسبة لمن تشبّه به في الاعتراض على الله في أفعاله سبحانه وتعالى وفي تصرُّفه في ملكه جل وعلا، وأنّه ينبغي أن يكون كذا وكذا.
ثم قال: "وفتِّش نفسَك هل أنت سالم؟ " يجب على الإنسان أن لا يزكِّي نفسه أبداً، يقول الله جل وعلا: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)}، فالإنسان لا يزكِّي نفسه، بمعنى: يمدح نفسه ويُعجب بنفسه، ويظنّ أنه كامل، وأنّه من الأخيار، بل دائماً الإنسان يتّهم نفسَه بالتقصير في حقّ الله تعالى.
أمّا التزكية التي أثنى الله تعالى على أصحابها في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)} فالمراد بتزكية النفس هنا تطهيرُها بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيّئة، هذه تزكية النفس، شغلُها بالأعمال الصّالحة وتجنيبُها للأعمال السيّئة.
فهناك تزكيةٌ منهيٌّ عنها وهي: الإعجاب والمدح للنفس، وهناك تزكية مأمورٌ بها وهي الإصلاح والتوبة والعمل الصالح: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)}، وتوعّد الله الذين لا يزكون أنفسهم قال تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قال بعض المفسرّين: المراد بالزّكاة هنا: تزكية النفس، لأن الآية مكية، والزكاة بالأموال لم تكن نزلت إلاّ في المدينة، وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)} قالوا: والمراد بالزكاة هنا: زكاة النفس، لأنّ الآية مكيّة- أيضاً-، فتزكية النفس بالأعمال الصالحة مطلوبة مأمور بها.
وقوله: "فتِّش نفسك هل أنتَ سالم؟" يعني: لا تشتغل بعيوب النّاس وتنسى نفسك، فتِّش نفسك هل أنت سالم من هذا التعنُّت والملامة على(3/429)
القدر والاعتراض على الله سبحانه وتعالى في الحوادث؟.
قوله: "فإنْ تنجُ منها" يعني: من هذه المصيبة.
فإنْ تنجُ منها تَنْجُ من ذي عظيمة ... وإلاَّ فإنّي لا إخالُك ناجياً
يعني: لا أظنُّك تنجو من هذه الفتنة.
فهذا الباب في الحقيقة بابٌ عظيم، وبابٌ جليل، ومن أحب المزيد من هذا(3/430)
ص -247- ... الكلام الطيِّب فليراجع "زاد المعاد" في كلامه على غزوة أُحد، وما جرى فيها من المحنة على المسلمين، وما قاله المنافقون في هذه الغزوة.
فيُستفاد من هاتين الآيتين وتفسيرهما:
أولاً: أنّ حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ واجبٌ من واجبات التّوحيد.
ثانياً: أن سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى ينافي التّوحيد أو ينافي كمالَه، ينافي أصلَه إذا زاد وكثُر واستمرّ، أو ينافي كمالَه إذا كان شيئاً عارضاً أو شيئاً خفيفاً أو خاطراً في النّفس فقط ولا يتكلّم به بلسانِه، أمّا إنْ تكلّم به بلسانِه فإنّه يكونُ منافياً للتّوحيد.
ثالثاً: فيه: إثبات القضاء والقدر، وأنّ ما يجري من المصائب والمحابّ والمكروهات والملاذ كلُّه بقضاء الله وقدره.
رابعاً: أن النّبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، فلا يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وأنّما يُتعلّق بالله، لأنّ الأمر كلَّه لله جل وعلا، لا للرسول ولا لغيره، قد قال الله جل وعلا له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، لما دعا صلى الله عليه وسلم على أقوام من أهل مكّة فعاتبه الله قال:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، وقد تاب الله عليهم وأسلموا، وحسُن إسلامُهم، وصاروا من قُوّاد الجهاد في الإسلام.
فهذا فيه: أنّ الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يُتعلّق إلاّ بالله جل وعلا، أمّا الرّسول- عليه الصلاة والسلام- فإنّه رسولُ الله، هو مبلِّغٌ عن الله تعالى رسالاته، وهذه وظيفة الرّسل عليهم الصلاة والسلام البلاغ والأمر بيد الله.
خامساً: فيها: إثبات الحكمة في أفعال الله سبحانه وتعالى، وأنّ الله لا يفعل شيئاً عبثاً.
سادساً: فيها: أنّ وعد الله جل وعلا لابدّ أن يتحقّق، ولا يتخلّف وعدُ الله سبحانه وتعالى أبداً، وهو وعد بأنّ هذا الدين سيظهر،(3/431)
وماذا كان الواقع؟، أليس الدين ظهر في المشارق والمغارب؟، أليس بلغ هذا الدين مبلغ الليل والنّهار؟، أليستْ دخلتْ فيه دول الأرض الكبرى: فارس والرّوم وبلاد الشّرق والغرب، هل بقي في الأرض مكان لم يصل إليه هذا الدين؟، هذا وعد الله عزّ وجلّ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ولم ينته أمره بوقعة أحد كما ظن ذلك المنافقون.(3/432)
ص -248- ... [ الباب الستون:]
* باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده؛ لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله؛ ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله ليبيِّن أنّ الإيمان بالقدَر من الإيمان بربوية الله، وأنّ مَن أنكر القدر فقد أشرك في توحيد الربوبيّة، فالإيمان بالقدر من الإيمان بالربوبيّة، فالذي لا يؤمن به فإنه لا يؤمن بربوبيّة الله سبحانه وتعالى، لأنّه جَحد قدره وعلمَه وأنكر أن يكون ما يجري في هذا الكون بتقدير الله ومشيئَتِه، ووصف الله تعالى بالجهل وبالعجز، إلى غير ذلك.
والقدَر: مصدرُ (قدَرْتُ الشيء أقدره): إذا أحطت بمقداره.
فالقدَر هو: إحاطة الله سبحانه وتعالى بالأشياء وعلمُه بها قبل كونِها، ثم كتابتهُ لها في اللّوح المحفوظ، فكلّ ما يقع في هذا الكون فهو داخلٌ في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي وفيما كتبه في اللّوح المحفوظ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، فكلُّ شيءٍ بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته، لا يخرُج عن ذلك شيءٍ من الأشياء، وهو- أيضاً- مكتوبٌ في اللّوح المحفوظ.
وفي السنّة النبويّة أحاديث في الصّحاح وغيرها، ساق المصنِّف منها طَرَفاً في هذا الباب.
وأجمع على ذلك المسلمون، إلاّ من ضلّ وانحرف عن منهج السّلف مع الفرق الضالّة، وهؤلاء محجوجون بالكتاب والسنّة وإجماع الأُمّة.
قال: "وقال ابن عمر" ابن الخطاب رضي الله عنهما
"والذي نفسُ ابن عمر بيده" أقسم عبد الله بن عمر بالله سبحانه وتعالى لتأكيد الأمر وأهميته.
"لو كان لأحدهم مثلُ أحدٍ ذهباً ثم أنفقَه في سبيل الله ما قبِلَهُ الله منه حتى يؤمن بالقدر"(3/433)
سببُ مقالة ابن عمر هذه: أنّه لَمّا وُجد في آخر حياته رضي الله عنه مَنْ يُنكر القدَر، وسُئل عن ذلك، أجاب بهذا الجواب.(3/434)
ص -249- ... ثم استدل لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك أنّه ظهر بالبصرة في آخر عصر الصّحابة بعد عهد الخلفاء الراشدين وبعد خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وفي آخر حياة ابن عمر وابن عبّاس وغيرِهما من الصّحابة ظهر بالبصرة رجلٌ يُقال له: مَعْبَد الجُهَني، يُنكر القدر، وكان يَحْيَى بن عمر وحُمَيْد بن عبد الرحمن الحِمْيَري: لَمّا ظهرت هذه المقالة بالبصرة قدمِا إلى الحجاز حاجّين أو معتمِرين، وقالا: "سنسأَل أوّل مَن نلقى من الصّحابة"، وهكذا المسلمون قديماً وحديثاً إذا أشكل عليهم شيء يرجعون إلى علمائهم ويسألونهم، ولا يستقلّون بالأمر، أو يكون لكلّ واحد منهم رأي، أو ينقسمون إلى جماعات وأحزاب، كلٌّ له قول، هؤلاء جاءوا من البصرة إلى مكّة المكرّمة بقصد مسألة واحدة مع ما في ذلك من مشقّة السفر وطول المسافة، لأنّ الأمر عظيم، يجب الرّجوع إلى أهل العلم فيه، فكان أوّل من لقيا: عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما-، وقد وفّقهما الله لهذا الصحابي، العالِم الجليل، لقياه وهو يدخُلِ إلى المسجد الحرام، فأمسكا بكتفَيْه، فقالا: يا أبا عبد الرحمن، حَدَث عندنا في البصرة رجلٌ يقول كذا وكذا.
فكان جواب عبد الله بن عمر: أنّه أقسم بالله: "لو كان لأحدهم" أي: هؤلاء الذين يُنكرون القدر.
"مثل أحد ذهباً" هذا أبلغ تقدير وأكثر تقدير.
"ثم أنفقه في سبيل الله" النفقة في الجهاد في سبيل الله من أعظم النفقات أجراً، فهو مبلغٌ كبيرٌ صُرِف في مصرفٍ عظيم، يُرجى لصاحبِه الأجر العظيم، ولكن هؤلاء إذا أنفقوا هذا المبلغ في هذا المصرِف العظيم وهم يُنكرون القدر فإنّ الله لا يتقبّلُه منهم، لأنّهم لم يؤمنوا بالله عزّ وجلّ، والله لا يقبل إلاّ من المؤمنين: "ما قبله الله منه حتى يؤمن(3/435)
بالقدر" فدلّ هذا على كفرهم، لأنهم لم يؤمنوا بالقضاء والقدر.
وقوله: "ثم استدل " إلخ.. أي: لم يقل هذا القول من عنده بل لَمّا قال هذه المقالة العظيمة، ذكر دليلَها من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلُّ مَن قال قولاً في الإسلام فلابدّ أن يذكُر دليلَه من كتاب الله أو من سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن له دليل فإنْه مردودٌ عليه.(3/436)
ص -250- ... ولذلك ابن عمر لَمّا ذكر هذه المقالة وهذا الجواب ذكر دليلَه من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "حدّثني أبي" عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، "قال: بينما نحن جلوسٌ عند النّبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ سواد الشعر، شديدُ بياض الثّياب، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفُه منّا أحد، فجلس إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه" يعني: أسند ركبتيه إلى ركبتي النّبي صلى الله عليه وسلم مقابِلاً له جلوسَ المتعلِّم من المعلِّم، "ووضع يديه على فخذيه" تأدُّباً مع رسول الله، "وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟، قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، فقال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألُه ويصدِّقُه"، لأن من العادة أنّ السائل لا يكون عنده علم، فكونُه قال: "صدقتَ"، هذا دليلٌ على أنّه كان عالماً بالجواب.
ثم قال: "أخبرني عن الإيمان؟، قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتُبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألُه ويصدِّقُه.
ثم قال: أخبرني عن الإحسان؟، قال: الإحسان: أن تعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، قال: صدقت، فأخبرني عن السّاعة؟" يعني: متى قيام السّاعة؟، قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: "ما المسؤولُ عنها بأعلم من السّائل" أي: أنا لا أدري وأنت لا تدري متى تقومُ السّاعة، لأنّ هذا من علم الله سبحانه وتعالى الذي اختصّ به، لا يعلمُه أحد، لا ملَك مقرّب ولا نبيٌّ مرسل، لا أفضل الملائكة وهو جبريل، ولا أفضل البشر وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
"قال: فأخبرني عن أماراتها؟" أي: "علامات السّاعة التي إذا حصلت فإنّ قيام السّاعة قريب، "قال: أن تَلِد الأَمَة ربَّتَها، وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاة(3/437)
الشاة يتطاولون في البُنيان. قال: ثم خرج الرّجل، ولبثنا مليَّاً، ثم قال الرسول: "اطلبوا السّائل"، فخرجوا يطلُبونه فلم يجدوه. قال: "هذا جبريل أتاكُم يعلِّمكم دينكم" تمثّل صورة بشرٍ، وجاء من أجل أن يعلِّم الصّحابة دينهم عن طريق السّؤال والجواب يبنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون.(3/438)
ص -251- ... والشّاهد من هذا الحديث: قولُه: "أخبرني عن الإيمان" وذكر في آخره: "وأن تؤمن بالقدَر خيرِه وشرَّه"، ذكر ستّة أركان للإيمان، وخمسة أركان للإسلام، وركناً واحداً للإحسان.
فأركان الإيمان: الإيمان بالله، وهو: التصديق الجازم بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى، واستحقاقِه للعبادة وحدَه لا شريك له، وذلك يشمل أنواع التّوحيد الثلاثة: الإيمان بتوحيد الرّبوبيّة، والإيمان بتوحيد الأُلوهية، والإيمان بتوحيد الأسماء والصّفات.
فمن جحد نوعاً من هذه الأنواع لم يكن مؤمناً بالله عزّ وجلّ.
ويدخُل في ذلك: الإيمان بالقدَر، لأنّه من توحيد الرّبوبيّة، ومن أفعال الله سبحانه وتعالى، فهو داخلٌ في توحيد الرّبوبيّة، لكنه أفرده بالذكر تأكيداً له.
"وملائكته": تؤمن أنّ لله ملائكة، خلقهم سبحانه وتعالى من نور، خلقهم لعبادته: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ(20)}، ينفّذون أوامره سبحانه وتعالى في مُلكه، كلّ نوعٍ من الملائكة له عملٌ خاص في هذا الكون يأمر الله تعالى به، فمنهم من هو موكّل بالوحي، وهو جبريل عليه الصّلاة والسلام، ومنهم من هو موكّل بالقطر والنّبات، وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكّل بالنفخ في الصّور، وهو إسرافيل، ومنهم من هو موكّل بالأجنّة في البُطون- بطون الأُمّهات-، وهو الملك الذي يأتي إلى الجنين في بطن أُمِّه حينما يكمل الشهر الرّابع فينفخ فيه الرّوح، ثم يُؤمر بأربع كلمات: بكتْب رزْقِه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد.
ومنهم من هو موكّل بحفظ أعمال بني آدم خيرِها وشرِّها، وكتابتها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10) كِرَاماً كَاتِبِينَ(11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)}.
ومنهم من هو موكّل بحفظ بني آدم من المؤذيات: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
إلى غير ذلك من الأعمال التي لا يعلمُها إلاّ الله سبحانه وتعالى.
فالإيمان(3/439)
بالملائكة من الإيمان بالغيب، لأننا لا نراهم ولكن الله أخبرَنا عنهم وأخبرنا عنهم رسولُه صلى الله عليه وسلم، فنحنُ نؤمن بهم.
ومن لم يؤمن بالملائكة أو لم يؤمن ببعضهم؛ فإنّه كافرٌ بالله عزّ وجلّ.(3/440)
ص -252- ... "وكتبه" وهي: الكتب التي أوحاها الله تعالى إلى رُسله، مثل: التوراة والإنجيل والقُرآن والزَّبور، وصحف إبراهيم، إلى غير ذلك من الكتب التي ينزّلها الله على رسله بواسطة جبريل- عليه الصلاة والسلام-، فيها أوامرُ الله سبحانه وتعالى ونواهيه، وفيها إصلاح البشريّة.
فمن لم يؤمن بالكتب من أوّلها إلى آخرها فإنّه كافر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)}، فلابدّ من الإيمان بجميع الكُتب.
فمن لم يؤمن بالكتب أصلاً وهم الدهريّون والوثنيّون فهم أكفرُ الخلْق.
ومن آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها كاليهود والنصارى فهم كفّار أيضاً.
إنّما الإيمان هو: الإيمان بجميع الكتب من أوّلها إلى آخرِها: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
فالذي يكفُر بكتابٍ واحد من كتب الله يكون كافراً بالجميع.
"ورسله" كذلك يجب الإيمان بجميع الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمّى الله منهم ومن لم يسمِّ، نؤمن بجميع الرّسل- عليهم الصّلاة والسلام-.
فمن آمن ببعضهم وكفرَ ببعضهم فهو كافرٌ بالجميع، كحالة اليهود والنصارى الذين يكفُرون بمحمّد صلى الله عليه وسلم، واليهود يكفُرون بعيسى وبمحمَد- عليهما الصّلاة والسّلام-.
وكذلك من لم يؤمن بالرّسل أصلاً كالوثنيين والدهريّين والملاحدة: أغرقُ في الكفر وأبعد في الكفر -والعياذ بالله-.
"واليوم الآخر" يوم القيامة، يجب الإيمان باليوم الآخِر، وهو: ما بعد الموت ممّا أخبر الله تعالى به وأخبر به رسولُه صلى الله عليه وسلم من أحوال البَرْزَخ، ثم البعث(3/441)
والنُّشور، والقيام من القُبور، ثم الوُقوف في المحشَر، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم تطايُر الصحُف فالمؤمن يأخُذ كتابه بيمينِه وغير المؤمن يأخذ كتابه بشمالِه، ثم المُرور على(3/442)
ص -253- ... الصّراط، ثم الاستقرار في الجنّة أو في النّار، هذا كلُّه يشمله الإيمان باليوم الآخِر.
فمن لم يؤمن باليوم الآخر فإنّه ولو امن بالله وملائكته وكتبه ورسله إذا جحد البعث واليوم الآخر كان كافراً بالجميع.
"وتؤمن بالقدر" هذا هو محلّ الشّاهد، وهو أن تؤمن بقضاء الله وقدره، وأنّه لا يجري في هذه الكون شيءٌ إلاّ وقد علمه الله في الأزَل وكتبه في اللّوح المحفوظ وشاءه وأراده سبحانه وتعالى ثم خلقَه وأوجَدَه.
فالإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأزَلي بكل شيء، وأنّه يعلم سبحانه وتعالى ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كلُّ ذلك يعلمُه الله سبحانه، لا يخفى عليه شيء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}، والله جل وعلا لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)}، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)} فالإيمان بأنّ الله عالمُ بكلّ شيء لابدّ منه. ومن جحد علمَ الله فهو كافر.
المرتبة الثانية: أن الله كتب في اللّوح المحفوظ كلّ شيء. فالذي يُنكر الكتابة في اللّوح المحفوظ لم يكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى ولم يكن مؤمناً بالقدَر.
المرتبة الثالثة: إرادة الله ومشيئتُه للأشياء، فكل شيء يقع ويوجد فهو بإرادة الله.
المرتبة الرّابعة: خلْق الأشياء، فكلّ شيء في هذا الكون فهو من خلْق الله سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)}، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)}، فكلّ شيء في هذا الكون فهو من خلْقه سبحانه وتعالى، من خيرٍ أو شر، من كفرٍ وإيمان، طاعة ومعصية، غنىً أو فقر، مرض أو صحّةً، حياة أو موت، إلى غير(3/443)
ذلك.
لكنِ الشر بالنسبة إليه لا يكون شرَّاً، لأنّه خلقه لحكمة ووضعه في موضعه، فهو بالنسبة إليه ليس شرَّاً، وإنّما هو شرِّ بالنسبة لمن وقع عليه ومن قُدِّر عليه بذُنوبه ومعاصيه، فإنّه شرٌّ بالنسبة للمحلّ الذي يقع عليه، أما بالنسبة لله فهو خير، لأنّه عدلٌ منه سبحانه.(3/444)
ص -254- ... فالحاصل؛ أنّ كل ما يقع في هذا الكون فهو عدلٌ ورحمةٌ وخيرٌ من الله سبحانه وتعالى وإنْ كان ضرراً وعقوبةً وشرَّاً بالنسبة لمن وقع عليه ذلك.
هذه مراتب الإيمان بالقدر، وأهل السنّة والجماعة يؤمنون بها كلّها.
أمّا القدرية النُّفاة فهم على قسمين- والعياذ بالله-:
القسم الأول:- وهم القدماء منهم- ويسمّون (غُلاة القدريّة): فإنّهم يُنكروا علمَ الله، ويقولون: (إنّ الله لا يعلم الأشياء قبلَ وقوعِها، إنّما يعلمها إذا وقعت وحصلت"، ويُنكرون عِلمَ الله القديم الأزَلي بالأشياء قبلَ كونِها.
فيكونون بذلك: قد كفروا وخرجوا من الملّة، لأنهم أنكروا علم الله سبحانه وتعالى، ومن أنكر علم الله فهو كافر.
القسم الثاني: من يقرّ بعلم الله الأزليّ، لكن يقول: إنّ الله لم يقدِّر هذه الأشياء وإنّما النّاس هم الذين يفعلونها ويستقلّون بإيجادها وخلقها، كلٌّ يخلق فعل نفسه وهؤلاء أخفّ من الأوّلين، لكنّهم ضلاّل، لأنّهم أنكروا خلق الله، وهم متأخِّروا القدرية.
ولذلك سمّوا (مجوس هذه الأمة)، لأنّ المجوس يقولون: "إنّ الكون له خالقَان: خالق الخير والشر".
والمعتزلة الذين يقولون: "إنّ الله لم يخلق أفعال العباد، وإنّما هم الذين خلقوها"، أثبتوا خالقِيْن كثيرين، وصاروا شرًّا من المجوس، لأنّ المجوس إنّما أثبتوا خالقَيْن وهؤلاء أثبتوا خالقِيْن كثيرين.
ولا يجوز للمسلم أن يدخل في تفاصيل القدر ويفتح على نفسه باب الشُّكوك والأوهام، بل يكفيه أن يؤمن بالقدَر كما أخبر الله سبحانه وتعالى وكما أخبر رسولُه صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ شيء بقضاء الله وقدره، ولا يدخل في التفاصيل والأسئلة: لماذا كذا ولماذا كذا، لأنّه لن يصل إلى نتيجة، لأنّ الأمر كما يقول عبد الله بن عبّاس- رضي الله تعالى عنهما-: "القدر سِرُّ الله " سِرٌّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه وتعالى.
فالواجب علينا: أن نؤمن به، ولا ندخل في تفاصيله، بل نكتفي بالإيمان به على ما(3/445)
جاء في الدليل من كتاب الله وسنّة رسوله.(3/446)
ص -255- ... وعن عبادة بن الصامت؛ أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلينا العمل بطاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه. هذا الذي كلّفنا به، ولم نكلّف بالبحث عن القدر، ولا نترك العمل ونقول: ما قُدّر لنا فسيحصل.
لذلك لَمّا أخبر النّبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلّ أحد مقرّرٌ مكانه من الجنّة أو من النّار قالوا: يا رسول الله إلاَ نتكل على كتابنا؟، قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكلّ ميسّر لِمَا خُلِق له"، وأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)}.
فأنت المطلوب منك: العمل والإيمان بالقضاء والقدر، وأنت قادرٌ على العمل، وممكّنٌ من العمل، فعليك أن تعمَل الخير وتترك الشّر، وتتوب من السيّئات وتكثر من الحسنات، هذا المطلوب منك، أمّا البحث في هذه الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى والدّخول في هذه المخاصمات فهذا يؤدِّي إلى الضّلال ويؤدِّي إلى التِّيه، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يطلُب منّا هذه الأشياء، وإنّما أمرنا بالعمل، هذا الذي أمرنا الله به، أمرنا بالإيمان وأمرنا بالعمل، هذا المطلوب من المسلم.
قوله: "وعن عُبادة بن الصّامت" الصحابي الجليل، من السّابقين الأوّلين إلى الإسلام، وأحد النقباء المعروفين.
"أنه قال لإبنه" وهو الوليد بن عُبادة بن الصامت قال له ذلك عند وفاته لما قال له ابنه الوليد: يا أبت أوصني، فقال: أقعدوني، فأقعدوه، فقال هذا الحديث في القدر.
"يا بني" (يا): هذه حرف نداء، و (بُني) تصغير (ابن)، وذلك من أجل العطف والشَّفقة، مثل قول لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ(3/447)
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، فالأب يوصي أولاده بتقوى الله عزّ وجلّ، وبالتمسّك بالدين والعقيدة، هذا من واجب الآباء نحو أبنائهم، أن يوصوهم بتقوى الله وبإصلاح العقيدة وبالتمسُّك بالدين والأخلاق الفاضلة.(3/448)
ص -256- ... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"إنّك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك" طعم الإيمان: حلاوته ولذته، وذلك لأنّ الإنسان إذا آمن أنّ ما يجري عليه فهو بقضاء الله وقدره؛ فإنّه يستريح، لا يجزع عند المصيبة، ولا يفرح فَرَح بَطَرٍ عند النعمة، لأنّه يؤمن أنّ هذا بقضاء الله وقدره، فيرتاح ضميرُه وتطمئنّ نفسُه ولا يجزع ولا يسخط، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)}، قال علقَمة: "هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند الله فيرضى ويسلِّم".
فمن آمن بالقضاء والقدر فإنّه يجد طعم الإيمان وراحة الإيمان عند الشدائد والمصائب والمنغِّصات، فلا يكون فيه جزع ولا تسخُّط ولا تضايُق، وإنّما يؤمن أنّ هذا قضاء وقدر وأنّه لابدّ منه.
أمّا الذي لا يؤمن بالقضاء والقدر فإنّه يُصبح في قلق وفي همْ. فإذا أصابه شيء فإنّه يجزع ويسخط ويلوم نفسَه: لماذا لم أعمل كذا؟، ليتني عملت كذا، ليتني فعلتُ كذا، ثم يُصبح في عذاب أشدّ من ألم المصيبة.
ثم قال: "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أوَّلَ ما خلَق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ربِّ، وماذا أكتبُ؟" القلم هو: خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، لا يعلم مقداره وصفته وكيفيّته إلاّ الله سبحانه وتعالى، لأنّه من عالم الغيب.
والمكتوب فيه هو: اللوح المحفوظ، ففيه: قلم، وفيه كتابة، وفيه مكتوب فيه وهو اللّوح المحفوظ.
"فقال له: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم السّاعة" فهذا فيه: أنّ كلّ ما يجري في هذا الكون فهو مكتوبٌ بالقلم- بقلم المقادير- في اللّوح(3/449)
المحفوظ، من أوّل الخلق إلى آخر الخلق، حتّى تقوم السّاعة، لا يخرُج عن هذا شيءٌ في هذا الكون أبداً، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، لا من الخير ولا من الشّر، لا من المحبوب ولا من المكروه، كلّه مكتوبٌ ولابدّ أن يقع.(3/450)
ص -257- ... يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مِنِّي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما خلق الله القلم" يدلّ بظاهره على أنّ القلم أوّل المخلوقات، ولكن هناك أحاديث تدلّ على أنّ العرش هو أوّل المخلوقات مثل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألفَ سنة وكان عرشُه على الماء"، وكذلك في حديث عِمران بن حُصين في "الصحيحين" وغيرهما ما يدلّ على أنّ أوّل المخلوقات هو العرش، وهذا الحديث دلَّ على أن أوّل المخلوقات هو القلم، فكيف الجمع بين الأحاديث؟.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأوّل: أنّ أوّل المخلوقات هو العرش، وأنّ القلم خُلق بعده، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب"" أن الكتابة متعقِّبة لخلق القلم، فهي جارية من أوّل ما خلق الله القلم.
والقول الثّاني: العمل بظاهر هذا الحديث، وأنّ القلم هو أوّل المخلوقات مطلقاً، قبل العرش، لأنّ هذا هو ظاهر هذا الحديث، وهذا قولٌ لجمعٍ من أهل العلم.
ولكن الراجح الذي رجّحه شيخُ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم وغيرُها هو: أنّ العرش هو أوّل المخلوقات، وأنّ القلم بعده1.
ثم قال عُبادة رضي الله عنه: "يا بُني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غيرِ هذا فليس مِنِّي"" من مات على غير الإيمان بالقضاء والقدر ولم يتب إلى الله سبحانه وتعالى قبل موته فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم بريءٌ منه. فهذا وعيدٌ شديد حيث تبرّأ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن القيم:
والنّاس مختلفون في القلم الذي ... كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده ... قولان عند أبي العلا الهمذاني(3/451)
والحق أن العرش كان قبل لأنه ... وقت الكتابة كان ذا أركان(3/452)
ص -258- ... وفي رواية لأحمد: "إن أوّل ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره؛ أحرقه الله بالنار".
وفي "المسند" و"السنن " عن ابن الديلمي؛ قال: "أتيت أبيّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وفي رواية لأحمد: "إنّ أوّل ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة"" رواية أحمد مثل رواية أبي داود والترمذي، وفيها: أنّ الله جل وعلا أمر القلم عندما خلقه أن يكتب مقادير الأشياء، إلاّ أنّ لفظة رواية أحمد: "إلى يوم القيامة"، والرواية التي قبلها: "إلى أن تقوم الساعة" والمعنى واحد، الساعة ويوم القيامة بمعنىً واحد، ولكن هذا من باب التأييد للروايات بعضها ببعض.
"ولابن وهب" عبد الله بن وهب: الإمام المحدِّث، من أصحاب الإمام مالك، توفّي على رأس المائة الثّانية، وله مؤلّفات مشهورةٌ في الحديث والرّواية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنّار" هذا نوعٌ آخر من الوعيد، وهو أنّ من أنكر القضاء والقدر فإنّ الله يُحرقه بالنّار، فدلّ على أنّ الإيمان بالقضاء والقدر أمرٌ واجب، وأنّ إنكاره موجبٌ لدخول النّار إمّا لكفره وإمّا لبدعته، فالمنكر للقضاء والقدر إنْ كان مع هذا يجحد علم الله جل وعلا فهذا كفر كما عليه غُلاة القدرية، لأنّهم ينكرون علم الله جل وعلا، ويقولون: "إنّ الله لا يعلم الأشياء إلاّ إذا وقعت، والأمرُ أُنُف" يعني: مستأنَف لم يسبق له تقديرٌ ولا علم، هذا كفرٌ صريح.
أمّا إن كانوا يقرّون بالعلم ويُنكرون القدر فهذا بدعة شنيعة والعياذ بالله، قد تقرُب من الكفر، وهو ما عليه متأخِّروهم.
قال: "وفي المسند(3/453)
والسنن" المسند هو: "مسند الإمام أحمد"، والمراد بالسنن هنا: "سنن أبي داود" و"سنن ابن ماجه".(3/454)
ص -259- ... فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متّ على غير هذا لكنت من أهل النار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"عن ابن الدَّيْلَمي" ابن الدَّيْلَمي هو: عبد الله بن فَيْرُوز الدَّيْلَمي، أحد كبار التّابعين، وأبوه فيروز الذي قتل الأسود العَنْسي الذي ادّعى النبوّة في اليمن، والديلمي نسبة إلى جبل الدَّيْلَم في بلاد فارس، فأصلُه فارسيّ، ممّن جاءوا إلى اليمن من الفُرس، وأسلم وحسُن إسلامُه، وابنُه من كبار التّابعين والأئمّة المشهورين رحمه الله.
قال: " أتيتُ أُبيَّ بن كعب" الأنصاري، الصحابيّ الجليل، أقرأ الصّحابة لكتاب الله عزّ وجلّ.
"فقلتُ: في نفسي شيءٌ من القدَر" هكذا طلبةُ العلم الذين يبحثون عن الحقيقة، ويبحثون عن العلم النّافع إذا أشكل عليهم شيء، لا يَعْتَمدون على رأيِهم، وإنّما يرجعون إلى أهل العلم، فهذا ابن الدّيلمي رجع إلى الصّحابة لَمّا أشكل عليه أمرُ القدر.
"فحدِّثني بشيء" يعني: أخبرني بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ أُبيّ بن كعب من خواصّ صحابة الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"لعلّ الله أن يُذهبُه من قلبي" هذا دليلٌ على أنّ الإشكال يزول بالعلم، وعلى أن الوساوس تزول بالعلم النّافع، لا شفاء لها إلاّ العلم، والعلم إنّما يطلب عند أهله، لا يطلب من المتعالمين والمبتدئين والصحافيّين الذين يعتمدون على قراءة الكتب، هؤلاء قُرّاء، وليسوا علماء، وما يُخطئون فيه أكثر ممّا يصيبون، فلابدّ من الرّجوع إلى أهل العلم الرّاسخون في العلم.
"فقال: لو أنفقتَ مثل أُحدٍ ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدَر" لأنّ العمل وإن كان جليلاً فإنّه لا يُقبل إلاّ إذا صحّت العقيدة، ومن صحّة العقيدة: الإيمان بالقضاء والقدر، لأنّه من أركان العقيدة، كما مرّ في حديث عمر بن الخطّاب في سؤالات جبريل(3/455)
للنّبي صلى الله عليه وسلم.
"وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك" الله(3/456)
ص -260- ... قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ فكُلُّهم حدثني بمثل ذلك عن النّبي صلى الله عليه وسلم "حديث صحيح، رواه الحاكم في "صحيحه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكبر!، تطابقت كلمة أبيّ بن كعب مع كلمة ابن عمر ومع كلمة عُبادة بن الصّامت - رضي الله عن الجميع-، لأنّهم يأخذون من مصدر واحد وهو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون شيئاً من عند أنفسهم.
"ولو مِتّ على غير هذا لكنتَ من أهل النار" هذا- أيضاً- مطابِق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مرّ قريباً: "من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنّار".
قال: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت " هؤلاء أقطاب من أقطاب العلم، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُروى: أنّ أُبيّ بن كعب أحاله إلى عبد الله بن مسعود، ولَمّا أجابه عبد الله بن مسعود أحاله على حُذيفة بن اليمان، ولَمّا أجابه حُذيفة بن اليمان أحاله على زيد بن ثابت، فكلّ واحد منهم يُحيلُه على أخيه لأجل أن يزول ما في قلبِه.
يقول ابن الديلمي: "فكلهم حدّثني بمثل ذلك عن النّبي صلى الله عليه وسلم" أنّ الإيمان بالقضاء والقدر أمرٌ لابدّ منه، ولا يقبل الله من أحدٍ عملاً إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو من أهل النّار، نسأل الله العافية والسّلامة.
فيُستفاد من هذه الأحاديث التي أوردها المصنِّف رحمه الله في هذا الباب فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: وُجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنّ ذلك من أركان الإيمان الستّة.
الفائدة الثانية: أنّ الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ بعد علمه بها سبحانه وتعالى أزَلاً، ففيه: ثُبوت كتابة القدر في اللّوح المحفوظ.
الفائدة الثالثة: أنّ القلم من أوّل المخلوقات، وهل هو قبل العرش أو بعده؟، على القولين السّابقين، والرّاجح: أن العرش هو السّابق.
الفائدة الرابعة: أنّ من لم(3/457)
يؤمن بالقضاء والقدر فهو إمّا كافر وإمّا مبتدع، إمّا كافر إنْ كان ينكر العلم، أو مبتدع إنْ كان لا يُنكر العلم، وذلك لأُمور:(3/458)
ص -261- ... أوّلاً: أنّ الله لا يقبَلُ منه النفقة في سبيله ولو كثرت.
ثانياً: براءة الرّسول صلى الله عليه وسلم منه.
ثالثاً: أنّ الله توعّده بالنّار: "أحرقه الله بالنّار"، "لو مِتّ على غير هذا لكنت من أهل النّار".
فهذه الأمور الثلاثة كلّها تدلّ على شناعة إنكار القضاء والقدر.
الفائدة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وُجوب الرُّجوع إلى أهل العلم عندما يعرِض للإنسان مشكِلة، فإنّها لا تزول إلاّ بالرجوع إلى أهل العلم، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
الفائدة السادسة: في هذه الأحاديث دليلٌ على أنّ أهل العلم لا يقولون إلاّ بما دلّ عليه الدّليل من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فابن عمر استدلّ بالحديث الذي رواه أبوه في دخول جبريل على النّبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله إيّاه، وفي آخره: "وتؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه"، وحذيفة بن اليَمان يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مِنِّي".
كذلك الصّحابة الذين ذهب إليهم ابنُ الدّيلمي، وهم: أُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليَمان، وزيد بن ثابت، كلُّهم يحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنّ أهلَ العِلم إذا أفتوا بفتوى أو قالوا مقالاً أو أجابوا بإجابة علميّة أنّهم يُسندونها إلى الدّليل من كتاب الله ومن سنّة رسولِه صلى الله عليه وسلم، لاسيّما إذا كانت من أُمور العقائد، فإنّ العقائد توقيفيّة لا يصلُح فيها شيءٌ من الاجتهاد، وإنّما هي أمورٌ توقيفيّة.(3/459)
ص -262- ... [الباب الواحد والستون:]
* باب ما جاء في المصورين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده المصنِّف رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأنّ التصوير سببٌ من أسباب الشّرك، ووسيلةٌ إلى الشّرك الذي هو ضدّ التّوحيد، كما حدث لقوم نوح لَمّا صوّروا صور الصالحين ونصبوها في مجالسهم وآل بهم الأمر إلى أنْ عبدوهم من دون الله، فأوّلُ شركٍ حصل في الأرض كان بسبب الصور وبسبب التّصوير.
وكذلك قوم إبراهيم الذين بعث إليهم الخليل- عليه الصلاة والسلام- كانوا يعبدون التماثيل التي هي صور مجسّمة لذوات الأرواح، وكذلك بنو إسرائيل عبدوا التمثال الذي هو على صورة عجل صنعه لهم السامري.
فدلّ هذا: على أنّ التصوير سببٌ لحُدوث الشرك ووسيلةٌ إلى الشّرك، وذلك أنه إذا صنعت الصورة وعلِّقت أو نُصبت وهي صور للزُّعماء والصّالحين والعلماء فإنّها في النهاية تعظُّم، ثم الشيطان يأتي النّاس ويقول لهم: إنّ هذه الصور فيها نفعٌ لكم، وفيها دفعُ ضرر، فيعظِّمونها ويتبرّكون بها، ويذبحون لها وينذرون لها، حتى تُصبح أوثاناً تعبد من دون الله.
فلهذا السبب عقد المصنِّف رحمه الله هذا الباب في "كتاب التّوحيد"، لأنّ هذا الكتاب في بيان التّوحيد وبيان الشرك ووسائل الشرك، ومن أعظم وسائل الشرك وأسبابِه التّصوير ونصب الصور وتعليقها.
فقوله رحمه الله: "باب ما جاء في المصوِّرين" يعني: من الوعيد الشديد والنّهي والزّجر عن ذلك.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى"" مثل هذا الحديث الذي يرويه النّبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه يسمّى بالحديث القُدْسي، نسبةً إلى القدس وهو الطهر، لأنّه من كلام الله سبحانه وتعالى الذي رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث القدسيّة معروفة عند أهل العلم، وأُلِّفتْ فيها مؤلّفات، جُمعت فيها الأحاديث القدسيّة، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو دون(3/460)
ذلك.
وهذا الحديث من الأحاديث القدسيّة الصحيحة لأنّه في "الصحيحين ".(3/461)
ص -263- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممّن ذهب يخلُق كخلقي؛ فليخلقوا ذرّة، أو ليخلُقوا حبّة، أو ليخلُقوا شعيرة" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقوله: "قال الله تعالى" هذا فيه إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنّه يقول ويتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ليس ككلام المخلوق، وإنّما هو كلام الخالق جل وعلا.
"ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي" هذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي: لا أحد أشدُّ ظلماً من المصوِّر، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} أي: لا أحد اظلم من هذا، فهو أظلمُ الظّالمين.
قوله تعالى: "يخلُق كخلقي" يعني بذلك المصوِّر، لأنّ المصور يحاول أن يوجد صورة تشبه الصورة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لأنّ الله جل وعلا تفرّد بالخلْق، وتفرّد بالتّصوير: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، فالله جل وعلا هو المصوِّر، فالذي يحاول أن يضع شكلاً يشبه الصورة التي خلقها الله جل وعلا يجعل نفسَه شريكاً لله في التّصوير، ولهذا يجعل الصورة على شكل المصوِّر من إنسان أو حيوان، فيجعل لها رأساً ووجهاً وعينين وأنفاً وشفتين وأُذنين ويدين ورجلين، ثم يلوِّنُها بالتلوينات إذا كانت رسماً، وإن كانت بناءً فإنّه يبني تمثالاً مكوّناً من أعضاء وتقاطيع يحاولُ بها مشابهة خلق الله سبحانه وتعالى ومشاركة الله جل وعلا فيما اختصّ به وتفرّد به، فإنّ الله جل وعلا هو الخالق وحدَه، لا أحد يخلُق غيرُه: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ(3/462)
الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}.
هو يستطيع أن يرسم شكلاً أو يبني تمثالاً، ولكنّه لا يستطيع أن يجعله حيَّاً متحركاً عاقلاً مفكِّراً يأكُل ويشرب ويعمل كما يعمل خلقُ الله سبحانه وتعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.
وقوله: "فليخلقوا ذرة" هذا أمر تعجيز وتحدٍّ، وهو تحدٍّ قائم إلى يوم القيامة.(3/463)
ص -264- ... ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشدُّ النّاس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أو ليخلُقوا حبّة" حبّة من النّبات: حبّة بُرّ أو دخن أو غير ذلك من الحبوب.
"أو ليخلُقوا شعيرة" أي: حبّة شعير، هم يستطيعون أن يعملوا صورة حبّة، صورة شعيرة، صورة ذرّة، لكن لا يستطيعون أن يجعلوا فيها الخواصّ التي يجعلها الله في هذا المخلوق، وإنّما عمله أن يستطيع أن يجعل مجرّد شكل ورسم أو تمثال فقط.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، فالله وحده يجعل حبّة فيها خصائص الحبّة من الحياة والنموّ والطعم، لأنّ الحبّة فيها حياة، ولذلك إذا بُذِرَتْ نبتَتْ، وتسمّى حياة نموّ، أمّا حياة الحيوان فإنّها تسمّى حياة حركة، فالحياة على قسمين: حياةُ حركة، وهذه في ذوات الأرواح، وحياةُ نموّ وهي في الحبُوب والبُذور التي جعلها الله سبحانه وتعالى لإنباتِ الأشياء.
ولو أن هذا الإنسان الذي يسمّونه الفنّان صرف جهده لأشياء نافعة، صرف جهده لاختراع، صناعة تنفع، ينفع نفسه وينفع النّاس بها لكان هذا عملاً جيِّداً، ومع النيّة والإيمان يكون عبادة ويؤجَرُ عليها.
أمّا أنْ يصرف جُهده ووقته وتعلُّمه في إيجاد هذه الصور ونحت هذه الصور فهذا عبثٌ فارغ وعملٌ محرّم، وهو ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة، فبئسما اختار لنفسه من هذا الفنّ الممقوت.
"أخرجاه" أي: أخرجه البخاري ومسلم- رحمهما الله-.
"ولهما" أي: البخاري ومسلم: "أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة" في الحديث الأوّل: "ومن أظلم"، وفي هذا أنّهم أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة، فيدلّ على أنّ التصوير حرامٌ مغلّظ التحريم وأنّه كبيرة من كبائر(3/464)
الذُّنوب، فهذا الذي يعتبرونَه فنَّاً ويتعلّمونه ويتفاخرون به هو أعظم الذُّنوب.(3/465)
ص -265- ... ولهما عن ابن عبّاس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوِّرٍ في النّار، يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسٌ يعذّب بها في جهنّم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهم أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إن لم يتوبوا إلى الله عزّ وجلّ.
"الذين يضاهئون بخلق الله" "يضاهئون" يعني: يحاولون أنْ يوجدوا صورة تشبه خلق الله سبحانه وتعالى، فالمضاهاة معناها: المشابهة، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يعني: يشابهون من سبقهم من الكُفّار.
فهذا فيه: بيان علّة تحريم التصوير؛ أنّ فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وإساءة أدب مع الله عزّ وجلّ.
قال: "ولهما عن ابن عبّاس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوِّرٍ في النّار، يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسٌ يعذّب بها في جهنّم".
هذا الحديث- أيضاً- فيه وعيدٌ شديد؛ فقوله: "كلّ مصوّر" هذا يشمل جميع أنواع التصوير، سواءً كان نحتاً وتمثالاً، وهو ما يسمّونه: مجسّماً، أو كان رسماً على ورق، أو على لوحات، أو على جُدران، أو كان التقاطاً بالآلة الفوتوغرافية التي حدَثت أخيراً، لأنّ من فعل ذلك يسمّى مصوِّراً، وفعله يسمّى تصويراً، فما الذي يخرج التصوير الفوتوغرافي كما يزعم بعضهم.
فما دام أنّ عمله يسمّى تصويراً فما الذي يُخرِجُه من هذا الوعيد؟.
وكذلك قوله: "بكل صورة صوّرها" عامٌّ أيضاً لكل صورة أيًّا كانت، رسماً أو نحتاً، أو التقاطاً بالآلة، غاية ما يكون أنّ صاحب الآلة أسرع عملاً من الذي يرسُم، وإلا فالنتيجة واحدة، كلٌّ من هؤلاء قصده إيجاد صورة، فالذي ينحت أو يبني التمثال قصده إيجاد صورة، والذي يرسم قصده إيجاد صورة، والذي يلتقط بالكاميرا قصده إيجاد الصّورة، لماذا نفرّق بينهم(3/466)
والرّسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوِّرٍ في النّار؟"، ما هو الدليل المخصص إلاّ فلسفة يأتون بها، وأقوالاً يخترعونها يريدون أن يخصّصوا كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم برأيهم، والمحذور الذي في الصور الفوتوغرافية والتمثاليّة أو المرسومة هو محذور واحد، وهو أنّها وسيلةٌ إلى الشرك، وأنّها مضاهاةٌ لخلق الله تعالى، كلٌّ منهم مصوِّر، والنتيجة واحدة، والمقصود واحد، فما الذي(3/467)
ص -266- ... يخصّص صاحب الآلة عن غيره؟، إن لم يكن صاحب الآلة أشد، لأنّ صاحب الآلة يأتي بالصورة أحسن من الذي يرسم، فهو يحمّضُها ويلوّنُها، ويتعب في إخراجها حتى تظهر أحسن من التي تُرسم، فالمعنى واحد، ولا داعي لهذا التكلُّفَ أو هذا التمحُّل في التفريق بين الصور.
ومعلومٌ أنّ كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخصّص إلاّ بدليل من كلام الله أو كلام رسوله، لا باجتهادات البشر وتخرُّصات البشر وفلسفات البشر، هذا مردود على صاحبه، وهذا معروف من أُصول الحديث وأُصول التفسير أنّ العامّ لا يخَصَّص إلاّ بدليل، ولا يخصّص العامّ باجتهادات من النّاس يقولونها، هذه قاعدة مسلّمةٌ مجمَعٌ عليها، فما بالُهم تغيب عنهم هذه القاعدة ويقولون: "إن التصوير بالآلة الفوتوغرافية لا يدخل في الممنوع" إلى آخره؟، كلّ هذا كلام فارغ لا قيمة له عند أهل العلم وعند الأُصوليّين. القواعد الأُصولية تأبى هذا كلّه، وهم يعرفون هذا، ولكن- سبحان الله- الهوى والمغالَطة أحياناً يذهبان بصاحبهما مذهباً بعيداً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مصوِّرٍ في النّار" ويأتي فلان ويقول: "لا، المصوِّر بالفوتوغرافي ليس في النّار".
وقوله: "يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسٌ يعذّبُ بها في جهنّم" أي: كلّ صورة صوّرها بأي وسيلة إمّا بنحت وإمّا برسم وإمّا بالتقاطٍ بالآلة الفوتوغرافية، كثرت الصور أو قلّت، تحضر هذه الصور التي صوّرها يوم القيامة، ويُجعل في كل صورة نفس يعذّب بها في جهنّم، هذه الصور تصلاه بالعذاب يوم القيامة، كما أنّ صاحب المال الذي لا يزكِّيه يجعل الله مالَه ثُعباناً يوم القيامة- أو في القبر- فيسلِّطُه عليه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، كذلك الصور هذه تجعل فيها نفوس وتسلّط(3/468)
عليه تعذّبه في نار جهنّم، فما بالُكم بالذي صنع آلات الصّور؟، سيعذّب بها يوم القيامة- والعياذُ بالله- كلِّها. وهل يخلصه الذي يقول: الصورة الفوتوغرافية لا يعذب بها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يُجعل له بكل صورة " قيل: إنّ الباء سببيّة، أي: بسبب كلّ(3/469)
ص -267- ... ولهما عنه مرفوعاً: "من صوّر صورة في الدنيا؛ كُلِّف أن ينفُخ فيها الروح، وليس بنافخ ".
ولمسلم عن أبي الهيّاج قال: قال لي عليّ: "ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟: أن لا تدع صورةً إلاّ طمستها، ولا قبراً مشرِفاً إلاّ سوّيتَه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة، وقيل: إنّ الباء بمعنى (في)، أي: في كل صورة نفس يعذب بها.
قوله: "ولهما عنه مرفوعاً: من صوّر صورة" هذا نوعٌ آخر من الوعيد.
"كُلِّف أن ينفُخ فيها الرّوح، وليس بنافخ" أي: تحضّر الصور كلّها التي صنعها، ويؤمر بأن ينفخ فيها الأرواح، وهل يستطيع أن ينفخ الأرواح؟، ولكن هذا من باب التعجيز والعذاب، بأن يُحمّل ما لا يستطيع وما لا يُطيق- والعياذ بالله- فيطولُ عذابُه.
ولولا أنّ في التصوير خُطورة وفيه فتنة لَمَا رأيتُم فتنة النّاس به وكثرتُه، لأنّ الشيطان يحثّ عليه ويحرِّض عليه، لأنّ فيه ضرراً على بني آدم، فهو يحثُّهم على فعله وعلى صنعتِه من أجل أن يتحمّلوا هذه الأوزار
- والعياذُ بالله-.
وتتلخص أنواع الوعيد التي وردت في حق المصور فيما يلي: أنه لعنه صلى الله عليه وسلم أنه أشد النّاس ظلماً، أنه أشد النّاس عذاباً، أنه يجعل له بكل صورة صوّرها نفس يعذب بها في النار، أنه يكلّف نفخ الروح بكل صورة صوّرها ويقال له: أحي ما خلقت؟.
قوله: "عن أبي الهيّاج" الأسدي: تابعيّ جليل، وهو كاتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
"قال: قال لي عليّ: "لا أبعثُك" أي: أُرسلك.
"على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" أي: أرسلني إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكلّفني به، فعليّ رضي الله عنه يريد أن يكلِّف أبا الهيّاج بهذه المهمة التي كلّفه بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
"أن لا تدع صورةً" "صورة" نكرة في سياق النفي، فتعُمّ كلّ صورة مجسّمة أو مرسومة أو ملتقطة بالآلة.(3/470)
ص -268- ... "إلاَّ طمستَها" وطمسُها يكون بإتلافها، أو بقطع رأسها، حتى تصبح مجّرد شكل بدون رأس، لأنّ الصورة تتمّ وتتكامل بالرأس والوجه.
وليس معنى طمس الصورة كما يفعله بعض الجُهّال أو المتحيِّلين أنّه يجعل خطَّاً في عُنُق الصورة فيُصبح كالطّوق، لأن الطمس: أن تُزيل الرأس إمّا بقطعهِ، وإمّا بتلطيخِه وإخفائه تماما.
فقوله: "ولا قبراً مشرِفاُ إلاّ سوّيته" المشرف: المرتفع، بأن يُبنى على القبر بناية من أجل تعظيم القبر، كما يفعل من بناء الأضرحة، أو يزاد عليها غير ترابها حتى تصبح مرتفعة أكثر من شبر، أو تجصص القبور ويكتب عليها، وما أشبه ذلك، فهذا كله حرام، لأنّه وسيلة إلى الشرك.
ولاحظوا كون الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين طمس الصورة وتسوية البناء على القبور مما يدلُّكم على أنّ من العلل العظيمة في منع التصوير أنّه وسيلة إلى الشرك، فكما أن البناء على القبور وسيلة إلى الشرك، فكذلك التصوير وسيلة إلى الشرك. وأيضاً كون الرسول صلى الله عليه وسلم كلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذه المهمة مما يرد به على الذين يغلون في أهل البيت ويزعمون أن لهم خاصية تسوغ الغلو في قبورهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا قبراً مشرِفاً" يعني: مرتفعاً بالبناء، أو بالتّراب، ففي هذا: الأمر بهدم القباب التي على القبور والأمر بهدم الأضرحة، وأنّ هذا من مهمّة ولاة الأُمور ومن مهمّة كلّ مسلم أن يعمل على إزالة هذا الشيء فإن كان له سلطة وقدرة فيزيله باليد، وإن كان ليس له سُلطة فإنّه يتصل بولاة الأمور ويبلِّغ ويبِّين أن هذا أمر يلزمهم إزالته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإزالته. ويحذر المسلمين من البناء على القبور ويبيِّن لهم السنّة في دفن الموتى وما يلزم اتخاذه وعمله نحو القبور مما هو مشروع.
فهذه الأحاديث فيها فوائد ومسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيها إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنه يتكلم، وكلامه سبحانه وتعالى(3/471)
كسائر صفاته، يليق بجلاله سبحانه وتعالى ليس ككلام المخلوق.
المسألة الثانية: في الحديث دليلٌ على تحريم التّصوير بجميع أنواعه، لا يُستثنى شيءٌ من التصوير، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مصوّرٍ في النار"، "من صوّر صورة"، "لا تدع(3/472)
ص -269- ... صورة"، "أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة المصورون" وهذا عام في كل مصور، وكل صورة بأي وسيلة كان إيجادها، لكن ما دعت الضّرورة إليه من التصوير؛ فإنه يرخص فيه، مثل: الصورة التي توضع في الجواز، أو إثبات الشخصية، لأنّ النّاس يُمنعون من حوائجهم ومن أسفارهم ومن وظائفهم، بل حتّى من دخولهم في المدارس والمعاهد إلاّ بهذا، فكان هذا من باب الضّرورة، فيجوز بقدر الضّرورة فقط، وما عداه من التصوير فهو حرام، سواء كان للذكريات- كما يقولون-، أو لأجل الفنّ أو لغير ذلك من الأغراض أو لتجميل الجدران أو ما أشبه ذلك، فكلّه حرام.
المسألة الثالثة: في الأحاديث بيان علّة تحريم التصوير، وهي: أنّه مضاهاة لخلق الله، وأيضاً هو وسيلةٌ من وسائل الشرك وهذه أشّد.
المسألة الرابعة: في الأحاديث: دليل على أنّ التصوير من كبائر الذّنوب، وذلك لأمور:
أوّلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن ربِّه: "من أظلمُ ممّن ذهب يخلُق كخلقي"، هذا يدلّ على أنّ التصوير كبيرة.
وثانياً: وعيدُه بالنّار، والوعيد بالنّار إنّما يكون على كبيرة.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وجوب طمس الصور، والرّسول صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى في بيت عائشة قراماً فيه تصاوير؛ تغيّظ صلى الله عليه وسلم وأبى أن يدخُل البيت حتى هُتِك هذا القِرام وأُزيلت الصور المعلقة.
ففي هذه الأحاديث: وُجوب إتلاف الصّور أو امتهانُها، لأنّ الصورة إذا كانت ممتهنة توطأ وتُداس ويُجلس عليها فإنها تكون ممتهنة، كما إذا كانت في فِراش أو في إناء يُشرب به أو يُطبخ به فإنها ممتهنة لا قيمةَ لها، والرّسول صلى الله عليه وسلم لَمّا أُميط القِرام وجُعِل وسائد جلس عليه صارت الصور مهانة.
المسألة السادسة: في الحديث دليل على وُجوب هدم الأضرحة المبنيّة على القُبور، لأنّها وسيلةٌ من وسائل الشّرك فيجب هدمُها، ممن يقدِر على ذلك بسلطتِه، ومن لا سُلطة له فإنّه يبيِّن ويدعو إلى هدمِها(3/473)
ويراجع السلطة في هدمِها.(3/474)
ص -270- ... [الباب الثاني والستون:]
* باب ما جاء في ثرة الحلف
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ الاستهانة بالحلف بالله تنقِّصُ التّوحيد، كما أنّ تعظيم الحلف بالله من كمال التّوحيد.
قوله: "بابُ ما جاء" يعني: من الوعيد في حقّ من كثر حلفه.
والحلف- كما سبق- هو: تأكيد شيء بذكر معظَّم بأحد حروف القسم، التي هي: الواو والباء والتّاء.
وكثرة الحلف معناها ا لإكثار من الأيمان في كلّ مناسبة، وقد يكون في غير داع لليمين إلاّ التغرير بالنّاس وخداع النّاس كحالة المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)}، والحلاَّف: كثير الحلف.
والله جل وعلا ذكر ذلك من صفات المنافقين، فقال فيهم: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني: سُتْرة يتستّرون بها أمام النّاس ليصدِّقوهم، وكلّما قل الإيمان أو عدم الإيمان في القلب حصل التهاوُن باليمين والحلف.
قال: "وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} لَمّا ذكر الله سبحانه وتعالى كفّارة الأيمان في سورة المائدة في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)} جعل في(3/475)
اليمين الكفّارة إذا حَنِثَ فيها وخالَفها ممّا يدلّ على عظمتها، لأنّ الكفّارة لا تكون إلاَّ من ذنبٍ وقع فيه الإنسان، فنقض اليمين يحتاج إلى كفّارة ممّا يدلّ على عِظَم اليمين.
ثم قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ذكر العلماء عدّة تفاسير لهذه اللّفظة: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} على قولين:(3/476)
ص -271- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الأول: أنّ معنى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، أي: لا تحلفوا، نهيٌ عن الحلف، فلا يخلف الإنسان إلاّ إذا دعت إلى ذلك حاجة، ويكونُ صادقاً في يمينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالله فليصدُق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله".
فمعنى قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أمرٌ بحفظها يتضمَّن النّهي عن الحلف إلاّ إذا دعت إلى ذلك حاجة، كأن يطلب منه القاضي اليمين لخصمه، فإذا كان بارًّا وصادقاً فليحلف على نفي ما ادّعاه عليه خصمُه، أو دعت حاجةٌ إلى اليمين ليُزيل شكوكاً حصلت لأخيه فيه، فيريد أن يبرئ نفسَه وأن يُزيل ما في نفس أخيه بأن يحلف له وهو بارٌّ في يمينه فهذا لحاجة، أمّا غير ذلك فإنّه يحفظ يمينه كما يحفظ دينه.
والقول الثاني: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، أي: بالكفّارة إذا حَنِثْتُم فاحفظوها، يعني: كفِّروا عنها، فالكفّارة حفظٌ لليمين واحترامٌ لها.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الحلف" أي: اليمين.
"مَنْفَقَةٌ للسلعة" أي: مروِّجة للسِّلْعة وسببٌ لِنفَاقِها، وهو خُروجها من يد صاحبها إلى الزّبائن، لأنّ النَّفَاق، معناه: الخُروج، ومنه سُمّيت النفقة نفقة لأنّها تَخْرُج من مُلك صاحبها، ومنه سُمّي المنافق منافِقاً لأنّه يخرُج من الدِّين.
فنَفاقُ السلع: رواجُها وخُروجها من ملك صاحبها بالبَيْع، لأنّ النّاس يصدِّقون صاحبها فيشترونها، فإذا حلف أنّ هذه السلعة من النّوع الجيّد أو حلف أنّ هذه السلعة سميت بكذا وكذا أو حلف أنّه اشتراها بكذا فإنّ هذا سبب لأن يصدِّقه النّاس وأن يشتروها منه، لأنّ المسلمين يعظِّمون اليمين، فيُحسنون الظنّ بهذا الحالف ويثقون(3/477)
به، ويقولون لولا أنّه صادقٌ لَمَا حلف، فيقبلون ما يقول ويعملون به، فيكونُ ذلك سبباً لرواج سلعه.
وقوله في: "مَمْحَقَةٌ للكسْبِ" المَحْقُ معناه: الإزالة، أي: أنّ اليمين تُزيل(3/478)
ص -272- ... وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجل جعل اللهَ بضاعته، لا يشترى إلاّ بيمينه، ولا يبيع إلاّ بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسْب إمّا بأن تُزيل البركة منه، ولو بقي، ولا ينتفع به صاحبه، وإمّا بأن تُزيل أصل المال بالتلف والآفات، فلا يبقى عنده هذا الكسب بل يمحقُه الله كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، فالمحق قد يكون معنوياً بمعنى محْقِ البركة من المال، فلا يكونُ مباركاً على صاحبه ولا ينتفع به ولا يتصدّق منه.
وقد يكون محقاً حسيًّا بأن يُتلف الله المال بآفةٍ، أو بسرقة، أو بنهب، أو بتسلُّط ظالم، أو غير ذلك.
"للكسب" الكسب الذي يكسبه بسبب اليمين التي هي ليس بارًّا فيها ولا صادقاً، يسِّبْ ذلك محق مالِه، مع ماله عند الله من العُقوبة الآجلة في الدّار الآخرة- كما يأتي في الحديث الذي بعده.
"أخرجاه" أي: أخرج هذا الحديث الإمام البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، فهو متّفقٌ عليه، وهذا أعلى ما يكون من درجات الصحّة.
قوله: "وعن سلمان " هو: سلمان الفارسي: الصحابي الجليل.
"أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاتةٌ" مبتدأ.
"لا يكلِّمهم الله" إلى آخره، خبر المبتدأ، والمعنى: لا يكلّمهم الله يوم القيامة كلامَ تكريم وتنعيم، فهم يُحرمون من كلام الله عزّ وجلّ لهم يوم القيامة، وقد جاء في الحديث: "ما منكم من أحد إلاّ سيكلّمه ربُّه، ليس بينه وبينَه ترجُمان"، أمّا هؤلاء فلا يكلّيهم الله غضباً عليهم، فيحرمهم الله من هذه النعمة العظيمة.
فهذا فيه: إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنّ الله يكلِّم عبادَه، ويتكلّم بما شاء من أمرِه سبحانه وتعالى.
والكلام من صفاته سبحانه، وهو من صفات الأفعال التي يفعلُها إذا شاء سبحانه.(3/479)
ص -273- ... وكلامُه قديمُ النّوع حادثُ الآحاد، بمعنى: أنّ نوع كلامه سبحانه قديم بقدمه سبحانه، ليس له بداية كسائر أفعاله، وحادث الآحاد بمعنى: أنه يتكلّم إذا شاء سبحانه وتعالى.
ونُثبتُ ذلك لله عزّ وجلّ، ومن كلامه: القرآن الكريم، فإنّه كلامُ الله جل وعلا.
"ولا يزكيهم" أي: لا يطهّرهم، لأنّ الزكاة تُطلق على عدّة معانٍ:
منها: النماء، والزيادة في الأموال، فإنّ الزكاة تنمِّي الأموال وتزيدُها.
ومنها: الطهارة قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: تطهّرهم بها من الذُّنوب ومن البخل ومن الشُّحّ، فالزكاة تطهّر صاحبها من الصّفات الذميمة، وتطهِّرُ المال من الآفات ومن سائر الأشياء التي تُخَلُّ به.
كما أنّ الزكاة تدفع البلاء عن المسلم، وهي سببٌ لنُزول الغيث ونزول البركات، فتزيد في أرزاق النّاس، فهي خيرٌ كلُّها، ولذلك سُمّيت زكاة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجِع، من (الألم) وهو: الوجع، فمعنى (أليم): مؤلِم.
فهذه ثلاثة أنواع من الوعيد: "لا يكلّمهم الله، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم".
ثم بيّنهم صلى الله عليه وسلم بعدما أجملهم، وذكر وعيدَهم ولما تطلّعت الأنظار إلى معرفتهم من أجل أن يُجتنب ما هم عليه، لأجل أن لا يكون الإنسان مثلَهم وبينهم.
فقال: "أُشَيْمِطُ" خبر لمبتدأ مقدّر، تقديره: هم أُشيمط إلى آخره. والأُشَيْمِط: تصغير (أَشْمَط)، والأَشْمَطُ هو: الذي بدأَهُ الشَّيْب، وصغّره تحقيراً له.
"زان" أصله "زاني " بالياء، ثم حذفت الياء تخفيفاً، وهو صفةٌ لـ (أُشَيْمِط) مرفوع، وعلامة رفعه: الضمّة المقدّرة على الياء المحذوفة، منع من ظهورها الثِّقَل.
والزنا قبيح، وكبيرةٌ من كبائر الذّنوب، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً(32)}، فهو قبيح، مستهجَن، ومرض فتّاك في المجتمعات، مدمِّرٌ للأخلاق، مدمٍّرٌ للمجتمع، مضيع(3/480)
للنسل، إلى غير ذلك من الآفات التي في الزنا، وهو موجبٌ لغضب الله، وموجبٌ للعقوبة الآجلة والأمراض الفتّاكة في المجتمع.
فالزّنا قبيح بكلّ معاني القُبح، ولكنّه يقبُح من بعض النّاس أكثر وأكثر، فالزنا من مثل هذا الأُشيمِط قبيح، لأنّ الأُشيمِط لَمّا أصابَه الشيب كان الواجب أن يكون(3/481)
ص -274- ... أبعد النّاس عن الزّنا، لأنّه ضعُفت فيه الشهوة وداعي الزنا، وأيضاً هو يتطلّع إلى الموت والانتقال إلى الدّار الآخرة، فكان الواجب عليه التّوبة والاستعداد للآخرة، والاستعداد للقاء الله، فإذا زنى وهو في هذه السنّ فهذا دليلٌ على قُبح أخلاقِه، وعلى أنّ الزنى سجيّةٌ فيه.
أمّا الشّاب وإنْ كان الزنا في حقِّه حرام وقبيح، لكن فيه دافع الشهوة وقوّة الشهوة.
الثّاني: "عائلٌ" المراد به: الفقير.
"مستكبر" الكبر قبيح، لأنّ الإنسان مطلوبٌ منه التواضُع، والتواضع لربّه سبحانه وتعالى، والتواضُع لخلق الله عزّ وجلّ، فالاستكبار ضدّ التواضع.
والاستكبار يحمل الإنسان على الكفر أحياناً وترك عبادة الله عزّ وجلّ استكباراً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، والذي سبّب لإبليس ما سبّب من الخزي والكفر هو الاستكبار{أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، استكبر عن السّجود لآدم حسداً لآدم واستكباراً، فسبب عدم سجوده هو الكبر، استكبر عن أمرِ الله عزّ وجلّ.
وقد يستكبِر على عبادِ الله ويرى أنّه فوقهم، وأنّه أعلى منهم، هذا أيضاً من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله عزّ وجلّ، فالكبر كلّه قبيح من كلّ أحد، لأنّ المطلوب من الإنسان التواضع.
ولكنّ الكبر من العائل- أي: الفقير- أشدّ، لأنّه لا داعي للكبر فيه، لأنّ الغني قد يغترّ بمالِه ويستكبر من أجل المال ويرى أنّه له درجة ترفعُه عن النّاس بسبب مالِه، فيحملهُ المال والغنى على الكبر: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(7)}.
لكن العائل ليس عنده سبب للكبر، فاستكبارُه من باب السجيّة القبيحة فيه، لأنّه استكبر من غير سبب، فدلّ على أنّ الكبر سجيّة فيه وطبيعةٌ فيه، لا من أجل سبب خارجيّ، فلذلك صار استكبارهُ أشدّ من استكبار الغنيّ.
والثّالث:- وهو محلّ الشّاهد من الحديث(3/482)
للباب-: "رجل جعلَ الله بضاعته" هذا عامٌّ للرجال وللنساء، ولكن ذكر الرّجال من باب التغليب، وإلاَّ فهو عامٌ للرجال وللنّساء".(3/483)
ص -275- ... "جعلَ الله بضاعَته"، "جعل" فعل ماض من الأفعال التي تنصبُ مفعولَيْن: المفعول الأول الحلف بالله والمفعول الثاني: "بضاعَتَه".
فمعنى "جعل الله بضاعتَه": أنّه لا يشتري إلاَّ بيمينه ولا يبيع إلاَّ بيمينه، كما فسّره صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يشتري إلاَّ بيمينه ولا يبيع إلاَّ بيمينِه".
ومحلّ الشّاهد هو الجملة الأخيرة "ورجلٌ جعلَ الله بضاعَتَه، لا يشتري إلاّ بيمينه ولا يبيع إلاّ بيمينِه"، فهو يُكثر من الحِلف بالله تهاوُناً، فكان جزاؤه هذه العقوبات الثلاث: لا يكلِّمّه الله، ولا يزكِّيه، وله عذابٌ أليم- والعياذُ بالله-، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)}.
الواجب على المسلم: أن يصدُق في معاملته مع النّاس في بيعِه وشرائه.
والدّنيا مهما حصّل منها فإنّها لا تُغنيه عن الآخرة، والكسب الحلال وإنْ كان يسيراً فإنّ فيه البركة وفيه الخير، والكسب الحرام وإنْ كان كثيراً فهو ممحوق لا خيرَ فيه.
فيُستفاد من الآية الكريمة ومن هذين الحديثين المسائل الآتية:
المسألة الأولى: وُجوب تعظيم اليمين بالله عزّ وجلّ، لأنّ تعظيمها كمالٌ في توحيد العبد.
المسألة الثانية: النّهي عن كثر الحلف لأنّ من كثُر حلفه كثُر كذبُه، وكثرة الحلف تدلّ على التهاوُن باليمين، ومن تهاوَن باليمين نقص توحيدُه: قال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)} وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، هذا من صفات أهلِ النّفاق.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على أنّ الصدق وتعظيمَ اليمين سببٌ للبركة، وأنّ الكذب والتهاوُن باليمين سببٌ لمحق البركة.
المسألة الرابعة: في الحديث(3/484)
الثاني دليلٌ على إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنّ الله جل وعلا يتكلَّم بكلامٍ يليقُ بجلالِه، ليس ككلام المخلوقين أو صفة المخلوقين، هذا(3/485)
ص -276- ... وفي "الصحيح" عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهب أهل السنّة والجماعة، خلافاً للجهميّة والمعتزلة ومَنْ درَج على سبيلهم.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على الوعيد الشديد في حقّ مَن أكثَر من الحلف، وأنّ هذا من الكبائر، لأنّ الله توعّد عليه هذا الوعيد الشديد المغلّط، فدلّ على أنّ كثرة الحلف من كبائر الذّنوب.
المسألة السادسة: في الحديث دليلٌ على أنّ الكبائر بعضُها أشدُّ من بعض، فزنى الأُشَيْمِط أشدّ من زنى الشّاب، والكبر من الفقير أشدّ من الكبر من الغني، فالكبائر تتفاوت بحسب أحوال مرتكبيها.
قوله: "وفي الصّحيح" أي: في "صحيح مسلم"، وهو في "صحيح البخاري" بمعناه.
"عن عمران بن حُصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ أمّتي قرني"، القرن يراد به: الجيل من النّاس، ويُطلق على الزّمان، ومقدار القرن من الزّمان: مائة سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: غيرُ ذلك.
والمراد: أهل القرْن، ليس المراد ذات القرن الذي هو الزّمان.
"خيرُ أمْتي قرني" يعني: أفضل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم هم القرن الذين عاصروا الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا بإجماع الأمة أنّ قرن الصّحابة أفضل هذه الأُمة، لِمَا امتازوا به من مزايا لا توجَد في غيرِهم ممّن جاء يعدَهم، بل إنّ قرن الرّسول صلى الله عليه وسلم خير الأمم على الإطلاق، فأمّة محمد صلى الله عليه وسلم أفضلُ الأمم، وأفضلُ أمّة محمد القرن الأوّل لما امتازوا به من الفضائل، التي منها:
أوّلاً: أنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوه وآمنوا به، فهم أفضل ممّن آمن به ولم يرَه.
ثانياً: أنّهم جاهدوا مع الرّسول صلى الله عليه وسلم وناصروه، ودافعوا عنه بأنفسهم وأموالهم وهاجروا معه.(3/486)
ص -277- ... ثالثاً: أنّهم هم الذين تلقّوا هذا الدين عن الرّسول صلى الله عليه وسلم، تلقّوا القرآن وتلقّوا السنّة، وتلقّوا هذا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بلّغوه لمن بعدَهم بأمانة وإخلاص.
رابعاً: أنّهم هم الذين نشروا هذا الإسلام في المشارق والمغارب، في وقت الرّسول وبعد وفاة الرّسول، فهم الذين جاهدوا وفتحوا الفتُوح، ونشروا هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها رضي الله عنهم فلا يحبهم إلاَّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ كافر أو منافق.
قال الله سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(29)}، قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)}، قال سبحانه وتعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)} هذا في المهاجرين، ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ(3/487)
مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)}.
وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفَه".
إلى غير ذلك من الأدلّة الدالّة على فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أثنى الله عليهم في محكم كتابه، وأثنى عليهم رسولُه صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على فضلهم وسبْقِهم، وأنّهم خيرُ القرون، بل خيرُ الأمم، فمن سبّهم أو سبّ أحداً منهم فإنّه يكونُ مكذِّباً لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثم الذين يلونهم" يعني التّابعين، فجيلُ التابعين لهم فضلٌ عظيم، وهم في المرتبة الثّانية بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّهم تتلمذوا على الصّحابة، وأخذوا علمَهم عن الصّحابة، فبذلك حصلوا على هذا الفضل العظيم وصاروا في المرتبة الثّانية في الفضيلة بعد صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.(3/488)
ص -278- ... قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟، "ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون، ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرّتين أو ثلاثاً؟" هذا من تحرِّيه في الرواية رضي الله عنه، وهذه عادتُهم رضي الله عنهم؛ أنّهم لا يقولون ولا يجزمون إلاّ بما يتأكدّون من صحّته وثُبوتِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أمانتهم في الرّواية.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثم إنّ بعدكم قومٌ" "قومٌ" بالرفع، هذا في كثيرٍ من الروايات، وهو مخالفٌ للوجه اللّغوي، لأنّ الوجه اللّغوي: أنّ يكون بالنصب، لأنّه اسم لـ (إنّ)، و (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخَبَر.
وبعض المحدِّثين يقول: (قوم) مرفوعٌ بفعلٍ محذوف، تقديره: (يجيء قومٌ)، فحُذفت (يجيء) ويقيت (قومٌ).
"يشهدون ولا يُستشهدون" أي: يشهدون بدون أن تُطلب منهم الشهادة، بل يبادرون بها، ويتسارَعون بالشهادة من دون أن تُطلب منهم، فهذا دليل على استخفافهم بالشهادة ومسارعتهم إليها لقلّة ديِنهم وقلّة أمانتهم، لأنّ الشّاهد يجب عليه أن يكون أميناً في شهادته ولا يشهد إلاّ بالحق: قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(86)} يعلمون ما شهدوا به، ويتيقّنونَه، ولا يشهدون بموجِب الخرْص والظنّ، وإنّما يشهدون بشيء يعلمونه ويتأكّدونه.
ثم أيضاً: لا يسارعون بالشهادة إلاّ إذا طُلبت منهم، فإذا سارعوا بالشهادة قبل أن تُطلب منهم فهذا دليلٌ على استخفافهم بها، وهذا نقضٌ في التّوحيد، فيكون فيه مطابقة للترجمة وهي قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في كثرة الحلف" لأنّ الشهادة حلف، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ(3/489)
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ(1) )اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، فسمّى الشهادة يميناً، وهذا يتضمّن كثرة شهاداتهم، لأنّهم ما داموا أنهم مستعدِّين للشهادة؛ فهذا دليلٌ على أنّهم ليس عندهم تمنُّع، فتكثُر شهاداتهم، وكثرة شهاداتهم دليلٌ على استخفافهم بالشهادة، وإلاّ فالشّاهد الحقّ لا يشهد إلاّ إذا طُلبت منه الشهادة واحتِيج إليها فحينئذ يشهد.(3/490)
ص -279- ... قال صلى الله عليه وسلم: "ويخونون ولا يؤتمنون" يخونون أماناتهم وعهودهم، إذا ائتمنوا على شيء من الأشياء فإنّهم لا يحفظون الأمانة.
والخيانة في الأمانة من صفات المنافقين: قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان"، فالخيانة في الأمانة سواءً كانت هذه الأمانة مالاً أو سرًّا من الأسرار أو عملاً من الأعمال: كموظّف وُكِل إليه أن يقوم بعمل فخان فيه، أو مقاول تعهّد بإقامة عمل أو مشروع من المشاريع فخان فيه وغشّ فيه هذا من الخيانة، فالخيانة قد تكونُ في الأموال وقد تكونُ في الأسرار التي يؤتمنُ عليها، إمّا من الأفراد وإمّا من وُلاة الأُمور.
وكذلك تكون الأمانة أيضاً في الأعمال والعُهَد التي يتعهّد بها، فيجب عليه أن يفيَ بما التزم به وما عُهد إليه القيامُ به، سواءً كان عملاً وظيفيًّا أو كان عملاً مهنيًّا، عهد إليه بعمل يقوم به من بناء أو غير ذلك أو مقاولة أو غير ذلك، فيجب أن يكون أميناً فيما اؤتمن عليه، فإن خان فإنّ الله سبحانه وتعالى توعّد الخائنين؛ قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(27)}، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8)}، إلى غير ذلك من الآيات التي تعظِّم من شأن الأمانة، وتأمر بحفظها وأدائها كما تحمّلها الإنسان.
فأمر الأمانة أمرٌ عظيم، وصدرُ هذه الأُمّة كانوا أمناء، لكن يجيء بعدَهم قومٌ يخونون في أماناتهم، وهذا من علامات السّاعة: إذا اتُخذت الأمانة مغنَماً يفرح بها من أجل أن يتصرَّف فيها وأن يخون فيها، ولا يعتبر الأمانة حملاً تحمّله وعُهدة تعهّدها، بل يعتبرُها غنيمةً(3/491)
سيقت إليه ليتصرّف فيها حسب هواه ورغبته، فأمرُ الأمانة أمرٌ عظيم قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)}، وقوله: "وينذرون ولا يوفون" النذر لغة: التزامُ الشيء. وشرعاً: التزام طاعةٍ لله لم تكن واجبةً بأصل الشّرع، فالتزام العبد طاعةً لله لم تكن واجبة بأصل الشرع وإنّما تجب عليه بالنذر.
فإذا التزم عبادةً لله فإنّها تجب عليه، ويجب عليه الوفاء بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن(3/492)
ص -280- ... نذر أن يطيع الله فليطعه "، وقال سبحانه وتعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(7)}، قال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}، فالمسلم إذا نذر نذراً لله من صدقة أو صلاة أو صيام أو حجّأو عُمرة أو أيّ عبادة فإنّه يجب عليه الوفاء به، فإن لم يفِ به كان عاصياً وتاركاً لواجب يعاقَب عليه.
وإنْ كان الدخول في النذر منهيّاً عنه، لأنّه يحرج نفسه ويورِّط نفسه وهو في عافية وفي سعة، إنْ شاء فعل وله الأجر، وإنّ شاء ترك ولا إثم عليه، لكنّه إذا نذر فقد ألزم نفسه وأوجب على نفسِه فضاق عليه الأمر إن ترك هذا النذر ولم يفِ كان عاصياً وآثماً وكان قبل ذلك في سعة، ولهذا نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إنّ النذر لا يأتي بخير، وإنّما يُستخرخ به من البخيل"، فقبل أن ينذر نكره له أن ينذر، والمجال أمامه مفتوح للطّاعات إنْ فعل فله أجر وإن لم يفعل فلا إثم عليه.
لكنّه إذا نذر والتزم فإنّه عاهد الله فيجب عليه الوفاء: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}، فالذي ينذر الطاعة ثم لا يفي بها هذه صفته عند الله، وتعتبر كاذباً فيما بيته وبين الله.
فهذا يدلّ على وُجوب الوفاء بالنّذر إذا كان نذر طاعة، وأن ترك الوفاء به من علامات النّفاق، وأن هذا يكْثُر في آخر الزّمان، أنّ النّاس ينذُرون ولا يوفون.
وما أكثر الآن ما يسأل النّاس: (أنا نذرتُ أصوم)،(3/493)
(أنا نذرت أتصدّق) يريد التخلّص من النّذر، يبحث له عن مخارج، وهذا ممّا يدلّ على وقُوع هذه الصفة في آخر الزمان، وإلاّ لو كان قويّ الإيمان صادقاً مع الله ما احتاج إلى أنّه يبحث عن المخارج.
ثم قال- عليه الصلاة والسلام- مبيِّناً علامة هؤلاء: "ويظهر فيهم السَّمَن" يظهر فيهم سِمَنُ الأجسام، وذلك لأنّهم يرفّهون أنفسهم ويشتغلون بملذّاتهم وشهواتِهم وينسون الآخرة وينسون الحساب، فهم يستعجلون ملذّاتهم وشهواتهم(3/494)
ص -281- ... وفيه: عن ابن مسعود: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
قال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويشتغلون بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فيصيرون كالبهائم التي تأكُل وتسمَن.
فإذا كان السمَن سبُبُه هذا فهو مذموم، أمَّا إذا كان السِّمَن ليس من أجل هذا، وإنّما هو عارضٌ عرض للإنسان مع قيامِه بحقّ الله سبحانه وتعالى، وأدائِه لفرائضِ الله، وعمله لآخرته؛ فهذا ليس مذموماً.
قال: "وفيه" يعني: في "صحيح مسلم".
"عن ابن مسعود: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير النّاس قرني"" في الحديث الأوّل:
"خيرُ أمّتي" وهنا "خير النّاس"، أي: جميع النّاس، من هذه الأمّة وغيرِها.
"ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" هذا فيه: الجزم بما شكّ فيه عمران رضي الله عنه، وأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة قرون: قرن الصّحابة، ثم قرن التّابعين، ثم قرن أتباع التّابعين.
"ثم يجيء" يعني: من بعد القرون الثلاثة.
"قومٌ تَسبق شهادة أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادَتَه" يعني: لا يبالون بالشهادة، ولا يبالون بالإيمان، بل سابقون إليها، ويسارعون إليها بدون تحفُّظ، وبدون خوفٍ من الله عزّ وجلّ، يحلفون ويشهدون بكثرة.
فهذا فيه: ذمّ كثرة الشهادة، وذمُّ كثرة اليمين، فيكون مطابِقاً للترجمة، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ساقه مساق الذّم، ففيه: النّهي عن كثرة الشهادة وكثرة الحلف، لأنّ في ذلك: استخفافاً بهما، فيكونُ منقِّصاً للتوحيد.
وقوله: "قال إبراهيم" المراد به: إبراهيم النخعي، التّابعي الجليل، من تلاميذ عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه-.
"كانوا يضربوننا" يعني: السلف الذين أدركهم، قيل: إنّه يريد: أصحاب ابن مسعود خاصّة،(3/495)
وقيل: إنّه يُريد أصحاب ابن مسعود وغيرَهم من السلف، كانوا(3/496)
ص -282- ... يضربون الأطفال إذا سمعوهم يشهدون أو يحلفون، تأديباً لهم ليربُّوهم على تعظيم الشهادة وتعظيم اليمين، حتى ينشأوا على ذلك، لأن الطفل ينشأ على ما عُوِّد عليه، فإذا عُوِّد الالتزام والطّاعة فإنّه ينشأُ على ذلك ويشبُّ عليه "ومن شَبَّ على شيءٍ شاب علي"، كما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوّده أبوه
فالتربية لها شأن كبير ولها أثر بليغ، لاسيّما في صغير السنّ، فإنّك إذا نهيتَه عن شيء أو أمرتَه بشيء ينغرسُ هذا في ذاكرَتِه ولا ينساه أبداً، وإذا صحِب هذا تأديبٌ فإنّه يكون أبلغ.
فهذا فيه: العناية بالنّاشئة وتربيتهم وتأديبِهم.
وفيه- أيضاً-: أنّ الضرب وسيلةٌ من وسائل التربية، وأنّ السلف كانوا يستعملونَه، بل إنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أَمر بالضّرب فقال: "مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضرِبوهم عليها لعشر"، بل الله جل وعلا أمر بالضرب أيضاً للتأديب في حقّ الزوجات: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُضرب فوق عشرة أسواط إلاّ في حدّ من حدود الله"، فالضّرب وسيلة من وسائل التربية، فللمعلِّم أن يضرب، وللمؤدِّب أن يضرب، ولولّي الأمر أن يضرب تأديباً وتعزيراً، وللزوج أن يضرب زوجته على النشور.
فالذين يُنكرون الضّرب، ويمنعون منه، ويقولون: إنّه وسيلة فاشلة.
هؤلاء متأثِّرون بالغرب وبتربية الغرْب، وهم ينقلون إلينا ما تحمّلوه عن هؤلاء، لأنهم تعلّموا على أيديهم.
أمّا ما جاء عن الله وعن رسوله وعن سلفنا الصالح فهو أنّ الضرب وسيلة ناجحة، لكن يكون بحدود، لا يكون ضرباً مبرحاً يشقّ الجلْد أو يكسرُ العظم، وإنّما يكون بقدر الحاجة.
فيُستفاد من هذين الحديثين مع أثر إبراهيم الذي نقله عن السّلف فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه فضلُ الصّحابة رضي الله عنهم، وأنّهم أفضلُ الأمّة، بل أفضل(3/497)
النّاس على الإطلاق.(3/498)
ص -283- ... ففيه ردٌّ على مَنْ يتنقَّصُهم، أو يتنقَّض أمراً منهم، أو يذمُّهم بأيِّ نوعٍ من الذم، لأنّهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خير القرون.
الفائدة الثانية: فيه فضل القرون الثلاثة: قرن الصّحابة، وقرن التّابعين، وقرن أتباع التّابعين، لأنّ هذه القرون يكثُر فيها العلم والعلماء، وقد وُجدَ أكثرُ العلماء في هذه القرون؛ كالأئمة الأربعة، وكذلك كثير من الأئمة كلهم في القرون المفضّلة، الذين جعل الله لهم أثراً باقياً وقدم صِدْقٍ في الأُمّة.
ففيه: فضل القرون المفضّلة الثلاثة، لكثرة العلم فيهم، ولقلّة ظهور البدع فيهم، وما ظهر من البدع في عصرهم فإنّهم يُنكرونه، بل ربّما يقتُلون دُعاة البدع والضلال، بخلاف من جاء بعدهم فإنه يقلّ فيهم الإنكار، كلّما تأخّر الزمان تكُثر البدع ويقلّ الإنكار، بخلاف الإنكار في القرون المفضّلة فإنّه أكثر، وصاحبُ البدعة مغمور ومختفٍ، ولا ينتشر شرُّه.
الفائدة الثالثة: في هذا الحديث: فضلُ السلف على الخلف، وأنّ السلف بما فيهم القرون المفضَّلة- أفضل من الخَلف، في العلم، وفي العمل، وفي السَّمْت والأخلاق، ففي هذا ردٌّ على من يقول: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخَلفِ أعلم وأحكم"، بل: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم من طريقة الخلف"، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى عليهم وذمّ مَن يأتي يعدَهم، وإنّما ينجو مَن جاء بعدهم بإتّباعه لهم وإقتدائه بهم، فلا يسلم من الخلَف إلاّ من تمسّك بهدي السلف وسار على نهجهم، أمّا من خالفهم فإنّه يهيك، فيكون: السلف أعلم وأسلم وأحكم.
الفائدة الرابعة: في الحديث علَم من أعلام النبوة: حيث إنّه صلى الله عليه وسلم أخبر عن حُدوث أشياء وظهرت كما أخبر بها، فإنه بعد القرون المفضّلة كثُر الشرّ والفتن وظهرت البدع وحدث الشرك في الأمّة وبُنيت الأضرحة على القبور ونشأ التصوُّف، وغير ذلك من الشّرور التي لابست الأمّة ولا تزال الأمّة تعاني منها،(3/499)
كلّ هذا حدث بعد القرون المفضَّلة وظهر واشتهر، وصار له أتباعٌ وفِرَقٌ تنشُره وتدعو إليه.
ففي هذا: علَم من أعلام النبوّة.(3/500)
ص -284- ... الفائدة الخامسة: في الحديثين دليلٌ على النّهي عن كثرة الحلف وكثرة الشهادة، وهذا هو الشّاهد من الحديثين للترجمة.
الفائدة السادسة: في الحديثين دليلٌ على وُجوب حفظ الأمانة والنّهي عن الخيانة فيها.
الفائدة السابعة: في الحديثين دليلٌ على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذمّ الذين ينذُرون ولا يوفون، وهذا تدلّ عليه الأدلّة الأخرى.
الفائدة الثامنة: في الحديث: ذمٌّ للاشتغال بالشهوات وترفيه النّفس، لأنّ ذلك يكسِّل عن الطّاعة ويثبِّط عن الطّاعة، وعلامته: ظهور السِّمَن على أصحابه.
الفائدة التاسعة: في أثر إبراهيم دليلٌ على وجوب العناية بتربية الأولاد، وأنّ هذه طريقة السلف الصّالح، أمّا الآن فلا رادع ولا وازع للأولاد، يعملون ما يشاءون، ويسرحون ويمرحون في الشّوارع في أيِّ مكان، ويؤذون النّاس، ويترُكون الصلاة، ويتشاتمون، بل قد يتعاطون المحرَّمات، بل قد يخالطون الأشرار، ويذهبون مع الأشرار، ولا أحد يسأل عن أولاده، ولو كانت له غنم لرأيته يحافظ عليها ويُغلق الباب عليها ولا يترك شيئاً يخرجُ منها، لكن الأولاد لا يهمُّه أمرُهم، يدخُلون أو يخرُجون، يفسدون أو يصلُحون، لا يحاسبهم ولا يراقبهم.
وبهذا حصل فساد النشأ إلاّ من رحم الله عزّ وجلّ.
الفائدة العاشرة: في الحديث دليلٌ على أنّ الضرب وسيلةٌ من وسائل التربية، ففيه رد على من يمنع من الضّرب، ويقول: إنّه وسيلةٌ فاشلة بل هو وسيلة ناجحة، دينيّة، إسلامية، عمل بها السلف الصّالح، وأمر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمَر الله بها في كتابه، فهو وسيلةٌ ناجحة، إذا استُعملت على الوجه المشروع، ووُضعت في موضعها.(4/1)
ص -285- ... [الباب الثالث والستون:]
* باب ما جاء في ذِمة الله وذمة نبيه
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أن نقض العهود فيه نقصٌ في التّوحيد، لأنّه يدلّ على عدم احترام عهدِ الله، ومن لم يحترم عهد الله، فإنّ هذا يدلّ على نقص توحيده، ومن وفى بعهد الله وعظم عهد الله فهذا يدلُّ على كمال توحيده. هذا وجه المناسبة.
وقول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في ذمّة الله وذمّة نبيّه" الذِّمّة معناها: العهْد.
وما جاء يعني: من النّهي عن نقض العهود من كتاب الله وسنّة نبيّه، وما جاء من الوعيد في ذلك.
قال: "وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا}" هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، والوفاء: ضدّ الغدر والخيانة.
{بِعَهْدِ اللَّهِ} المراد به: الميثاق الذي يُعقد بين النّاس، وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف؛ ممّا يدلّ على تعظيم العهد، لأن الشيء إذا أضيف إلى الله فهذا دليلٌ على تعظيمه، مثل: بيتِ الله، وناقة الله، وعبد الله، فالإضافة هنا تقتضي تعظيم المضاف، فهي تدلّ على عظم العهد، ووجوب احترامه.
"{إِذَا عَاهَدْتُمْ}" أي: عاهدتم طرفاً آخر من النّاس، وهذا يشمل الذي بين الله وبين خلقه والعهد الذي بين المسلمين وبين الكُفّار، ويشمل العهد الذي بين وليّ أمر المسلمين وبين الرعيّة، ويشمل العهد الذي بين أفراد النّاس بعضهم مع بعض.
فهذه العهود العامّة والخاصّة يجب الوفاء بها، لأنّ نقض العُهود من علامات المنافقين، قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي(4/2)
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}،(4/3)
ص -286- ... قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
فنقض العهود من صفات المنافقين، والوفاء بالعهود من صفات المؤمنين.
ثم نهى سبحانه وتعالى عن نقض العهود، فقال{وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ} يعني: العهود، لأنّ العهد يسمّى يميناً.
{بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي: بعد إبرامها وعقْدِها، لأنّها إذا عُقدت وأبرمت وجب الوفاء بها والالتزام بها من الطرفين، حتى ولو كانت مع كفّار، قال تعالى: "{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)}" أي: أعلِن لهم أنّك تريد إنهاء العقد الذي بينك وبينهم، حتى يكونوا على بيِّنة وعلى بصيرة، ولا تفاجئهم بنقض العهد بدون سابقة إنذار{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، هذا مع الكفّار، فكيف مع المسلمين؟.
{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الواو: واو الحال، أي: والحال أنّكم إذا عاهدتّم فقد جعلتم الله كفيلاً عليكم.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى ينتقم ممّن نقض العهد، لأنّهم إنّما وثِقوا بكم ووثقتم بهم باسم الله سبحانه وتعالى، فصار الله سبحانه كفيلاً وحسيباً ورقيباً على الجميع، ومن كان الله حسيبَه ورقيبَه ومحاسبه فإنّه لن يفوت على الله جل وعلا، ولا يخفى ما في قلبه وفي نيّته من النّيات الباطلة والغدر، فالله يعلم ما في القلوب، فكيف إذا ظهر ووقع: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، هذا الكفيل ليس كغيره من الكفلاء فالكفيل من الخلق قد يغفل وقد يجهل، ولا يعلم بما يحصل من المكفول، ولكنّ الله جل وعلا لا تخفى عليه أفعال خلقه وأعمال عباده، فهو يعلم أفعالكم ونيّاتكم ومقاصدكم وأهدافكم وما ترمون إليه، فاحذروا من الله سبحانه وتعالى، احذروا من هذا الكفيل العليم الخبير القدير الذي لا يخفى عليه شيء ولا يُعجزه شيء.
فهذه(4/4)
الآية فيها شاهدٌ واضح للترجمة وهي: النّهي عن إخفاء العهد ونقض العهد من غير مسوغ ومن غير سبب يقتضي ذلك.(4/5)
ص -287- ... وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سريّة؛ أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم أورد الحديث الذي في "صحيح مسلم" وغيره، فقال:
"وعن بُرَيْدة" هو بُريدة بن الحُصَيْب الأسلمي، الصحابي الجليل- رضي الله تعالى عنه-.
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سَرِيَّة" النّبي صلى الله عليه وسلم كان يعقِد الجيوش والسرايا للجهاد في سبيل الله، بعدما هاجر إلى المدينة وقَوِيَ الإسلام وأمرهُ الله بالجهاد، كان صلى الله عليه وسلم يكوِّن الجيوش والسرايا لمحاربة المشركين، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، إلى غير ذلك.
والجيش هو: العسكر العظيم الكثير، وأمّا السرية فهي القطعة من الجيش، تنطلق من الجيش وترجع إليه.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤمِّر على السرايا، وأمّا الجيوش فكان يقودُها بنفسه في الغالب -عليه الصلاة والسلام-.
فقوله: "إذا أمّر أميراً" فيه: أنّه لابدّ من نصب الأمير على الجيوش والسرايا لأجل أن ترجع إليه ولأجل أن يتولّى أمرها ويحلّ مشاكلها ونزاعاتها، لابدّ من الإمارة في الجيوش والسرايا، ولابدّ من الإمامة العظمى للمسلمين، لأنّ الفوضى وعدم وُجود الوُلاة فيه مفاسد عظيمة، وفيه شرٌّ كبير.
وفيه: أنّ تأمير الأمراء سواء على الأقاليم أو على الجيوش أو على السرايا يُرجع فيه(4/6)
إلى وليّ الأمر، هو الذي يومِّر وهو الذي يعزل، لأنّ ذلك من صلاحيّاته في حدود ما شرعه الله سبحانه وتعالى.
"أوصاه بتقوى الله" هذا من عناية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وهكذا ينبغي لوُلاة أمور المسلمين أن يقتدوا الرّسول صلى الله عليه وسلم فيوصوا أمراءهم ومَن تحت أيديهم بتقوى الله.(4/7)
ص -288- ... "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتقوى الله هي: فعلُ أوامره وترك نواهيه. سُميت تقوى لأنّها تقي من عذاب الله.
فالتقوى معناها: اتّخاذ الوقاية من عذاب الله وسخطه وغضبه، وذلك إنّما يكون بطاعته وترك معصيته خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
وهي كلمةٌ جامعة تجمع خصال الخير كلّها، ولذلك أوصى الله بها في كتابه في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، وفي كثير من الآيات، فهي كلمة جامعة.
ومن اتقى الله فهو أشرف النّاس، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالتقيُّ هو الكريم عند الله سبحانه وتعالى دون نظرٍ إلى نسبه أو إلى ماله أو إلى جاهه.
"وبمَن معه من المسلمين خيراً" أي: وأوصاه بمن معه من المسلمين ممّن تحت يده من السريّة أو الجيش خيراً: بأن ينصح لهم ويتولّى أمرهم ويدبِّر شؤونهم وينظر في مصالحهم، ويحلّ مشاكلهم، ويرفُق بهم، فليست المسألة مسألة إمارة فقط، أو نيل مرتبة فقط، أو نيل لقب.
ثم يقول- عليه الصلاة والسلام- للأمير وللجيش وللسرية، يقول للجميع:
"اغزوا" الغزو هو: قصْد العدوّ والذّهاب إليهم.
"باسم الله" أي: مستعينين بالله، وهذا فيه: بَدَاءَة الأمور المهمّة باسم الله، وأنّ الإنسان إذا بدأ بشيء فإنّه يبدأ باسم الله، فإذا شَرَع في السفر، أو شرع في الغزو، أو شرع في الأكل أو الشُّرب، أو الدخول في البيت أو المسجد، وحتّى الدخول في محلّ قضاء الحاجة يقول: (باسم الله) قبل الدّخول، لأن هذا الاسم يعصمه من الشيطان، وتنزل عليه وعلى عمله وعلى فعله الرحمة والبركة، كما يُذكر اسم الله على الذّبائح عند التذكية، بل جاء في الحديث: "كلُّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه باسم الله فهو أَبْتَر" أي: ناقصُ البَرَكة، وتُبدأ به الرسائل والمؤلَّفات، وتُبدأ به الدروس والنصائح، وتُبدأ به سورة(4/8)
القرآن الكريم- ما عدا سورة براءة، فـ (باسم الله) كلمة عظيمة، تُبدأ بها مهامّ الأمور.(4/9)
ص -289- ... "في سبيل الله" يعني: أن الغزو لا يكون لطلب الملك أو لطلب المال أو التسلّط على النّاس، هذا شأن أهل الجاهلية، إنّما يكون الغزو لمصالح المغزوِّين، وليس للانتقام منهم إذا لم يصرُّوا على الكفر، وإنّما هي لمصالحهم، لأجل إنقاذهم من الكفر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهو في سبيل الله، القصد منه: إعلاءُ كلمة الله سبحانه وتعالى، والمصلحة في هذا عائدة إلى المغزويّن، والى الغازين أيضاً، فالغازون يكون لهم أجر الجهاد في سبيل الله وأجر الشهادة والغنيمة، والمغزوّون يكون لهم إخراجهم من الكفر إلى الإيمان ومن الظّلمات إلى النّور، ومن الكفر إلى الإسلام.
"قاتلوا من كفر بالله" القصد من الغزو هو: قتال الكفّار، لكفرهم، لأن الله خلق النّاس لعبادته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)}، والمصلحة في العبادة راجعةٌ إليهم، لأنّهم إذا عبدوا الله أكرمهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، أما إذا عبدوا غير الله فقد ضرّوا أنفسهم.
فالمقصود من الغزو في الإسلام هو: إزالة الكفر وإحلال التّوحيد محلّه، هذا هو المقصود من الغزو، ليس المقصود من الغزو الاستيلاء على البلاد، أو أخذ الأموال، أو توسيع الملك، أو ما أشبه ذلك، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
وهذا فيه دليلٌ على أنّ الجهاد يكون بالغزو والهجوم على الكفّار في ديارِهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وليس المقصود منه- كما يقول بعض الكُتّاب العصريّين: إن المقصود به الدفاع، إنّما المقصود من الجهاد هو: إزالة الكفر والشرك من الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ(4/10)
نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)}. فالمقصود من الغزو والجهاد في الأصل: هو طلب الكفّار في بلادهم، ونشر الإسلام، وإزالة الكفر.
أمّا قصة الدفاع فمعناه: أنّنا نبقى في ديارِنا، فإن جاءونا دافعناهم، وإن ما جاءونا تركناهم. وهذا باطل، ولم يأتِ الإسلام بهذا، إنما كان هو موجوداً في أوّل(4/11)
ص -290- ... اغزوا ولا تغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإسلام لَمّا كان المسلون قِلّة، ولم يكن للمسلمين دولة فعندما كانوا في مكّة، كانوا منهيِّين عن القتال لأنّ المفسدة فيه أعظم من المصلحة، لكن لّمّا قويَ المسلمون ووجُدت دولة المسلمين في المدينة أمر الله المسلمين بالجهاد والغزو وقتال الكفّار وغزوهم في ديارهم وفي بلادهم لنشر الإسلام، ونفّذ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تُوفّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاّ والإسلام منتشر في معظم جزيرة العرب، وجاء النّاس ودخلوا في دين الله أفواجاً قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وكاتب الملوك- ملوك الأرض- يدعوهم إلى ا لإسلام، وكان ذلك مقدَّمة لجهادهم.
وجاء مِن بعده الخلفاء الرّاشدون فواصلوا الجهاد الذي بدأه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض وفي مغاربها، ودخلت دولة الفُرس ودولة الروم تحت حكم الإسلام، منهم من أسلم ومنهم من خضع لبذل الجزية، وصارت الغلبة والظهور لدين الإسلام كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)}، فتحقّق وعدُ الله سبحانه وتعالى وظهر دينُ الإسلام على الدين كلّه، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، بجهاد المجاهدين في سبيل الله.
"اغزوا" هذا تكرارٌ منه صلى الله عليه وسلم للتأكيد.
"ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً" يرسم لهم صلى الله عليه وسلم الخُطَّة التي يسيرون عليها في جهادهم، وهي خُطّة العدل والإنصاف والرِّفْق والحكمة.
"ولا تَغُلُّوا" الغُلول هو: أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل القِسْمة، فالغنيمة تُجمع ثم يُقْسَم حسب ما شرعه الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ(4/12)
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
فمن أخذ شيئاً منها بدون القسمة أو التنفيل الذي يمنحُه القائد لبعض المجاهدين لمزية فيه؛ فمن أخذ شيئاً بدون وجه شرعي من المغانم فهذا الغُلول، وهو كبيرة من كبائر الذّنوب، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(161)}، ففي يوم القيامة يأتي الغالّ يحمل ما أخذه في الدنيا، يحمله على ظهره، إن أخذ بعيراً جاء(4/13)
ص -291- ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال [أو خلال]، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالبعير على رقبته، وإن أخذ بقرة جاء بها يحملها على رقبته، وإن أخذ مالاً جاء به يحملُه يوم القيامة فضيحةً له في هذا الموقف العظيم.
والغالُّ يؤدَّب بأن يُحْرَقُ رَحْلُه، والأثاث الذي معه، من باب العقوبة بالمال، ولا يصلِّي عليه الإمام إذا مات بل يتركُه يصلِّي عليه النّاس من أجل الردع للنّاس.
وحتّى العُمّال الذين يبعثهم وليّ الأمر لجباية الزكاة؛ إذا قبِلوا الهدايا من النّاس فهي غُلول، قال صلى الله عليه وسلم: "هدايا العُمّال غُلول".
"ولا تَغْدِرُوا" هذا الشّاهد من الحديث للباب، والغدر هو: الخيانة في العهد.
"ولا تُمَثِّلُوا" أ التمثيل معناه: تشويه جُثَث القتلى؛ بقطع آذانهم أو أُنوفهم أو أطرافهم، وهذا لا يجوز، لأنّ جُثة الآدمي لها حُرْمة حتى ولو كان كافراً، فلا يجوز التمثيل به.
"ولا تقتلوا وليداً" الوليد معناه: الصّغير من الكُفّار، لأنّه ليس منه خطرٌ على المسلمين، كما أنّها لا تُقتل -أيضاً- المرأة من الكُفّار، لأن النساء لسن من أهل القتال، وإنّما الأطفال والنساء يؤخذون أرقّاء للمسلمين، وكذلك الشيخ الكبير الهَرِم لا يُقتل، إلاّ إذا كان له رأي ومشورة في الخَرْب، مثَل ما قُتل دُرَيْد بن الصِّمَّة سيِّد هوازِن، وكان رجلاً كبيراً هَرِماً لكن قُتل في غزوة حُنين لأنّه كان يعطي الآراء للكُفّار، لأنّه كان سيِّداً من ساداتهم وشجاعاً من شجعانهم، وقد مارس الحروب وساس المعارك، فعنده خِبرة، وكانوا يرجعون إليه، فقتله المسلمون، لأنّه يصدُر منه ضررٌ على المسلمين، أمّا الشيخ الذي ليس له أهميّة، وكفره قاصرٌ على نفسه، فلا يقتل، إنّما يُقتل الكافر الذي يتعدّى ضرره وكفره إلى النّاس، وكذلك الرُّهبان الذين في الصوامع أيضاً لا يُقتلون، لأنّهم مشغولون(4/14)
بما هم فيه ولا يصدُر منهم أذى للمسلمين وكفرهم قاصر عليهم.
وقوله: "وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال [أو خِلال]" الخصال والخِلال بمعنىً واحد، ولكن هذا شكٌّ من الراوي، وهذا من الدقّة في الرواية، إذا كان الراوي لا يجزم باللّفظة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه يأتي بالكلمة(4/15)
ص -292- ... ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي تشابهها تحرُّجاً من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وإنْ كان المعنى صحيحاً، وهذا من احترام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ أحداً لا يُضيف إليه شيئاً، ويقول: قال رسول الله كذا وهو لم يجزم.
"فأَيَّتَهُنَّ " بالنصب على أنّه مفعول للفعل المتأخِّر وهو "أجابوك".
"ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم" إذا قبلوا أيّ واحدة من هذه الخلال الثلاث- أو الخصال- فاقبل منهم إجابتهم وكُفّ عنهم القتال، ولا تقاتلهم.
هذا فيه: أنّ القتال لا يجوز إلاّ بعد الدعوة إلى الإسلام، ولا تجوز مفاجأتهم وقتالهم وهم لم يسبق لهم دعوة من المسلمين.
"ادعهم إلى الإسلام" قوله في الحديث: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هذه رواية مسلم: (ثم)، وفي رواية غير مسلم بحذف (ثمّ)، وهو الصحيح، ويكون: "ادعهم إلى الإسلام" بداية الكلام.
فالكفّار يجب أن يُدعوا إلى الإسلام أوّلاً، فإنّ قبلوا فالحمد لله، لأنّ هذا هو المقصود، نحن لا نقاتلهم إلاّ لأجل دخولهم في الإسلام، فمن شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ الله وجب الكفُّ عنه، واعتبرناه من المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، إلاّ أن يظهر منه بعد ذلك ما يخالف الشهادتين فنعتبرُه مرتدًّا، ونعامله معاملة المرتدّ، أمّا إذا لم يظهر منه شيء فإنّه يُقبل منه الإسلام، ولو مات بعد نُطقه بالشهادتين عاملناه معاملة المسلم في الميراث والجنازة وغير ذلك.
ثم إذا قبلوا الإسلام فـ"ادعهم إلى التحوّل من دارهم" يعني: من مكانهم الذي يقيمون فيه.
"إلى دار المهاجرين" وهي المدينة في ذاك الوقت.
والهجرة في اللغة هي: ترك الشيء، قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)}(4/16)
أي: اترُك الشرك، وقال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه" الهجر هو: التَّرْك. هذا في اللغة.(4/17)
ص -293- ... فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمّا في الاصطلاح الشرعي فالهجرة صارت تُطلق على الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين من أجل حفظ الدين.
والهجرة من أعظم الأعمال بعد الإسلام، ولهذا صار للمهاجرين ميزة على إخوانهم من الأنصار، وصاروا يقدّمون في الذّكر لشرفهم، لأنّهم تركوا أوطانهم وديارهم وأموالهم وخرجوا، بل تركوا أولادهم وأزواجهم، وخرجوا إلى المدينة من أجل الدين ومن أجل نُصرة الرّسول صلى الله عليه وسلم، فشكر الله لهم ذلك وأثنى عليهم ووعدهم بجزيل الثواب.
والهجرة باقية إلى أن تقوم السّاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} هؤلاء الذين تركوا الهجرة عن غير عذر فظلموا أنفسهم بذلك.
فالهجرة واجبة وباقية إلى أن تقوم السّاعة، وفي الحديث: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرُج الشمس من مغرِبها".
وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيّة" فالمراد به: الهجرة من مكّة، لأنّها بعد الفتح صارت دارَ إسلام، وأمّا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فهي باقية إلى قيام السّاعة.
والهجرة في هذا الحديث وهي الانتقال من دارهم إلى دار المهاجرين مستحبّة في حقّهم، إذا كانت البلاد بلاداً إسلامية فالانتقال منها إلى بلد أفضل منها مستحبّ، لأن الرّسول صلى الله عليه وسلم هنا خيَّرهم، فدلّ على أن الهجرة هنا غير واجبة عليهم، وإنّما هي أفضل في حقِّهم.
"فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين" يعني: إن آثروا البقاء في بلدهم ولم ينتقلوا إلى المدينة فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب ا لمسلمين، والأعراب: جمع أعرابي، وهو: ساكنُ(4/18)
البادية.
ولا شكّ أن سُكنى الحاضرة الإسلاميّة أفضل من سُكنى البادية الإسلامية لأنّ(4/19)
ص -294- ... فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سُكنى البادية فيها جفاء، أمّا سُكنى الحاضرة الإسلاميّة ففيها في الغالب خير، وفيها تعلُّم العلم النّافع، وفيها مخالطة الصّالحين، فالتعرُّب فيه جهل، وفيه بعدٌ عن العلم، خلاف الهجرة ففيها خيرٌ كثير.
"يجري عليهم حكم الله تعالى" أي: حكم الإسلام، فيكونون مسلمين، ولكن "لا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء" الغنيمة هي: ما يستولي عليه المسلمون من أموال الكُفّار في أثناء القتال.
وقد تولّى الله تعالى قسمَتها في كتابه فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، وأربعة الأخماس الباقية توزّع بين المقاتلين: للرّاجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهمٌ له وسهمان لفرسه.
فهؤلاء الذين أسلموا ولكنّهم لم ينتقلوا إلى بلاد الهجرة، وبقوا في البادية؛ ليس لهم من الغنيمة شيء، لأنّهم لم يشاركوا المجاهدين ولم يكونوا في بلد المجاهدين رِدْءاً لهم، لأنّ الذين يقيمون في الحواضر يكونون رِداً للمجاهدين إذا احتاجوا إليهم.
"فإنْ أبَوا" يعني: أبوا الإسلام، فينتقل معهم إلى الخصلة الثانية، وهي: طلب الجِزْية.
والجزية: مقدارٌ من المال يدفعه الكافر حتى يُحْقَنَ دمه ويعيش تحت ظلِّ الإسلام وحكم الإسلام، ويبقى على كفره، لكن يكون خاضعاً لحكم الإسلام.
واختلف العلماء- رحمهم الله- هل تُؤخذ الجزية من كُلِّ كافر كما هو ظاهر هذا الحديث، أو أنّها تُؤخذ من أهل الكتاب فقط لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ(4/20)
وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)}، فخصّ الله في الآية أهلَ الكتاب: اليهود والنصارى، فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، وأُلْحِقَ بهم المجوس بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" يعني: في أخذ الجزية، فهم يُسَنُّ بهم سنة أهل الكتاب في أَخذ الجزية، أمّا ذبائحهم فهي حرام، بخلاف ذبائح أهل الكتاب، ونسائهم.(4/21)
ص -295- ... فإن هم أبوا فاستعِن بالله وقاتلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتؤخذ الجزية من أهل الكتاب بنصَ الآية، وتؤخذ الجزية من المجوس بالسنّة النبويّة وفعل الخلفاء الراشدين، ويبقى الخلاف في بقيّة المشركين، فهذا الحديث يدلّ على أخذها منهم أيضاً.
والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: وهو قولُ الإمام مالك رحمه الله، واختيار الإمام ابن القيِّم: أنّها تُؤخذ من كُلِّ كافر، بدليل هذا الحديث، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم عمّم أخذ الجزية، وقال: "إذا لقيتَ عدوّك من المشركين"، وهذا عامّ يعمّ جميع المشركين.
القول الثّاني: أنّها تؤخذ من كلّ مشرك من العجم. أما مشركو العرب فلا تؤخذ منهم الجزية، فلا يُقبل منهم إلاّ الإسلام أو القَتْل، وهذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
القول الثالث: أنّ أخذ الجزية خاصٌّ بأهل الكتاب وبالمجوس فقط من العرب ومن العجم، ومن عداهم من المشركين فلا يُقبل منهم جزية، وهذا قولُ الإمام الشافعي، وظاهر مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والمسألة مفصّلة في كتب الفقه وفي "كتاب أحكام أهل الذمَّة" للإمام ابن القيِّم، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في "مجموع الفتاوى".
والحكمة في أخذ الجزية في مقابل تأمينهم ولإتاحة الفرصة لهم ليتأمّلوا في أحكام الإسلام ويعيشوا تحت حكمه، فتظهر لهم سماحة الإسلام، وفضك الإسلام فيكون ذلك دافعاً لدخولهم فيه، هذا من الحكمة في أخذ الجزية ليتأمّلوا في الإسلام، ويجرّبوا العيش تحت ظلّه وعدله، ويتمكّنوا من سماع القرآن والسنّة، ويكون ذلك دافعاً لهم للدّخول في الإسلام.
وقوله: "فإن هم أبوا" يعني: أبوا دفع الجزية.
"فاستعن بالله وقاتلهم" هذه الخصلة الثاّلثة، وهي المرحلة الأخيرة معهم، وهي: القتال، لأنّهم أبوا الدخول في الإسلام، وأبوا دفع الجزية، فلم يبق إلاّ(4/22)
ص -296- ... وإذا حاصرت أهل حِصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيه؛ فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمة أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القتال، وقد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، وانقطعت معذرتهم فلم يبق إلاّ قتالُهم لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: لا يكون شرك ولا يفتنون المسلمين عن دينِهم، لأنّهم إذا بقوا صاروا دُعاة إلى الكفر، وهم خطرٌ يهدِّد المسلمين لصرفهم عن دينهم، فالكفّار دائماً وأبداً يريدون صَرّْف المسلمين عن دينهم: قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، وقال سبحانه وتعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، فالكفّار دائماً في كلِّ مكان وزمان يحاولون صرف المسلمين عن دينهم، وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} هذا هو الواجب، لأنّ الله هو الخالق الرازق الرب المدبِّر الذي يستحقّ العبادة، وعبادة غيرِه باطلة، لأنّها بغير حقّ.
وقوله: "استعن بالله" هذا دليلٌ على وجوب الاستعانة بالله وعدم الاغترار بالقوّة، وأن المسلمين إنّما يقاتِلون بإعانة الله جل وعلا ويعتمدون على الله، ويطلُبون منه النصر والقوّة، ولا يعتمدون على قوّتهم وعبي كثرتهم، فإنهم إن اعتمدوا على ذلك هُزِموا، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى(4/23)
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)}.
فالمسلمون يعتمدون على الله، ويتّخذون القوّة والسلاح: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولكن هذه القوّة وهذا السلاح إنما هو سبب من الأسباب، وأمّا الاعتماد فهو على الله جل وعلا، فلا يُعتمد على القوّة ولا على الكثرة، فإنّ ذلك لا ينفع إذا لم يساعد الله جل وعلا بنصره وتأييده.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهلَ حِصْن" والمراد بالحِصْن: واحد الحُصون، وهي: الأبنية والقِلاع التي يتحصَّن بها المقاتلون.(4/24)
ص -297- ... وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله؛ فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ " رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأغلب من يتحصّن بالقلاع هم أهل الكتاب وأهل المدن والحضر، أمّا البادية فإنّهم يكونون في الصحراء، ليس لهم قلاع ولا حصون.
والحصار معناه: تطويق الحُصون من كلِّ المنافذ، ومنعهم من الخروج والدخول، ووصول الأمداد إليهم. من الحصر وهو: الحبْس. وهذه خُطَّة من خطط الحرب.
"فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيه" الذمّة: العهد.
"فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه" هذا نهي عن ذلك؛ احتراماً لذمة الله وذمة نبيه من النقض وعدم الوفاء.
"فإنّكم أن تَخْفِرُوا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تَخْفروا ذمّة الله " "فإنكم أن تَخْفِرُوا" تنقضوا، الإخفار معناه: النّقص، والخفر معناه: الحماية. ولا يؤمن ممن أعطى ذمة أن ينقضها، فنقض ذمته أهون من نقض ذمة الله وذمة رسوله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك" يعني: على اجتهادك، تقول لهم: أنا أجتهد فيكم فرب الحكم الذي أرى أنّه حق وصواب، فإن وُفِّقت وأصبت فذلك من الله سبحانه وتعالى، وإنْ أخطأتُ فهذا من اجتهادي ولا يُنسب إلى الله سبحانه وتعالى.
وإذا حصل خطأ في اجتهاد البشر فإنه لا يُنسب إلى حكم الله سبحانه وتعالى.
ولهذا قال في ختام الحديث: "فإنك لا تدوي أتصيب فيهم حكم الله أم لا".
قال الفقهاء: هذا فيه دليل على الاجتهاد في الأحكام الفقهيّة.
وفيه: دليل على أنّ المصيب من المختلفِين واحد، فليس كلُّ مجتهد مصيباً، وإنّما المصيب يكون واحداً والبقيّة يكونون مخطئين.
فهذا فيه دليل على أنّ المفتي إذا أفتى بفتوى لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول: هذا اجتهادي الذي أراه، لأنّه لا(4/25)
يدري هل أصاب الحقّ أو لا، فلا ينسب إلى الله شيئاً لا يدري هل هو حقّ، أو خطأ.(4/26)
ص -298- ... وفي هذا دليلٌ على أنّ الخطأ يتفاوت، وأنّ الذنب يتفاوت؛ بعضُه أعظم من بعض.
وفيه: الإرشاد إلى أخفّ الضررين، فإنّ نقض عهد الله سبحانه أشدّ من نقض عهد المخلوق، وإن كان الكلّ حراماً، سواء كان مضافاً إلى الله أو مضافاً إلى المخلوق، ولكن نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوق.
وهذا في المسائل الاجتهادية.
أمّا المسائل التي نصّ الله على حكمها؛ فهذا لا إشكال فيه، يقال: هذا حكم الله، تقول: الزنا حرام، هذا حكم الله.
تقول: الرِّبا حرام، هذا حكم الله.
الشرك حرام، هذا حكم الله سبحانه وتعالى.
لأن الحكم في هذا واضح، وهذه أمور ليست من مسائل الاجتهاد، لأنّ الله نصّ على حكمها.
كذلك القاضي الذي يحكم بين النّاس لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول:
هذا حكمي واجتهادي، وهذا الذي توصّلتُ إليه.
فيؤخذ من الآية والحديث مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: يؤخذ من الآية تحريم نقض العُهود، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
والعهود عامّة، تشمل العهود التي بين العبد وبين ربِّه، العهود التي بين الرّاعي والرعيّة، العهود التي بين المسلمين والكُفّار، العهود التي بين المسلمين بعضهم مع بعض كلها يجب الوفاء بها، ويحرم نقضُها بدون سبب صحيح.
المسألة الثانية: في الحديث أنّ تكوين الجيوش والسرايا والغزو والجهاد من صلاحيَّات الإمام، هو الذي يأمر بذلك وهو الذي ينظِّم هذه الأمور ويُرجع إليه فيها، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي ينظِّم الجيوش والسرايا ويؤمِّر الأمراء عليها، ويوصيهم، فدلّ هذا على أن هذا الأمر من صلاحيّات الإمام، وأنّه لا يجوز لأحدٍ(4/27)
ص -299- ... من النّاس أن يغزو أو يقاتِل أو يجمِّع جماعة في وسط ولاية الإمام ويأمر وينهى ويُصدر أوامر بدون إذن إمام المسلمين، هذا يُعتبر من الاعتداء على صلاحيّات الإمام ومن الفوضى في الإسلام، ويحصل بهذا مفاسد عظيمة.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على أنّ الجهاد في الإسلام شرُع من أجل إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام والقضاء على الكفر والشِّرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "قاتلوا مَن كفر بالله".
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على تحريم قتل من لا يقاتِل من الكفّار كالطفل الوليد: "لا تقتلوا وليداً"، وكذلك النساء، وكذلك الشيخ الكبير الهَرِم، وكذلك الرُّهبان في الصوامع، هؤلاء لا يجوز قتلُهم لأنّهم لا يقاتِلون، وكفرهم قاصرٌ على أنفسهم لا يتعدّى إلى غيرهم، أمّا إذا كان هؤلاء لهم رأيٌ ولهم دعوة إلى الكفر فإنّهم يُقتلون دفعاً لشرهم.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على أنّ الكُفّار لا يقاتَلون إلاّ بعد دعوتهم إلى الإسلام، وأنّه لا تجوز بداءتهم بالقتال قبل الدعوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادعهم إلى الإسلام"، وهذا أوّل ما بدأ به صلى الله عليه وسلم.
المسألة السادسة: فيه أنّ من أظهر الإسلام ونطق بالشهادتين فإنّه يُقبَل منه ويُكَفُّ عنه، حتى يتبيّن منه ما يناقض الإسلام، فعند ذلك يُحكم عليه بحكم المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم".
المسألة السابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعية أخذ الجزية ممّن أبى أن يقبل الإسلام وبَذَل الجزية.
المسألة الثامنة: في الحديث دليلٌ على أن المسلمين يعتمدون في قتالهم للكفّار على الله سبحانه وتعالى، ولا يعتمدون على حولهم وقوّتهم وكثرة جنودهم ولا يغترون بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "فاستعن بالله وقاتلهم".
المسألة التاسعة: في الحديث دليلٌ على أنَّ المسلمين لا يُنزلون الكُفّار المحاصرين على ذمّة الله وذمّة رسوله، يعني: على عهد(4/28)
الله وعهد رسوله، وإنّما يُنزلونهم على ذممهم هم، لأنّه إنْ حصل خطأ فإنّه ينسب إليهم ولا ينسب إلى ذمة الله وذمة رسوله.(4/29)
ص -300- ... المسألة العاشرة: فيه دليلٌ على أنّ الذنوب تختلف، بعضها أشدّ من بعض، وذلك أنّ نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوقين، وإنْ كان الكلُّ حراماً، ولكن الذنوب تتفاوت، وارتكاب أخفّ الذنوب أسهل من ارتكاب أعظمها.
المسألة الحادية عشرة: في آخر الحديث دليلٌ على مشروعية الاجتهاد في المسائل التي هي مَحَلٌّ للاجتهاد.
والمسألة الثانية عشر: في الحديث دليلٌ على أنّ الصواب يكون مع واحد من المجتهدين ولا يكون مع جميعهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنّك لا تدري"، وإذا كان هذا خطاباً للصحابة، وهم أقرب النّاس إلى العلم والإصابة، لأنّهم يتلّقون عن الرّسول صلى الله عليه وسلم، فغيرهم من باب أولى من المجتهدين، فلا يغترّ الإنسان برأيه وباجتهاده، لأنّه يحتمل أنّه مخطئ وأنّ الصواب مع مخالفه، فلا يغتّر الإنسان باجتهاده أو يتعصّب لرأيه أو يشتدّ عندما يناقَش، هذا لا يجوز، لأنك مجتهد وهذا مجتهد، والصواب محتمل أن يكون معك وأن يكون معه، فلا يجزع الإنسان من المناقشة ومن المساءلة في المسائل الخلافية، ويقول: هذا اجتهادي وهذا الذي أرى، والإنسان عُرْضة للخطأ، ولا يقول هذا حكم الله في المسألة.(4/30)
ص -301- ... [الباب الرابع والستون:]
* باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عزّ وجلّ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟!، إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الإقسام على الله" الإقسام على الله هو: الحلف على الله، فإن كان هذا الحلف على الله. بأنّه لا يرحم عباده ولا يغفرُ لهم ولا يُدخل أحداً منهم الجنّة فهذا محرَّم، وهو سوء أدبٍ مع الله تعالى، لأنّ معناه: الحجّر على الله تعالى، ولا أحدٌ يمنع الله من أن يتصرّف في خلقه، وأن يرحم من شاء ويعذِّب من شاء، وأن يغفر لمن شاء؟.
فالذي يفعل هذا قد أساء الأدب مع الله، وتنقّص الله سبحانه وتعالى، فهذا النوع يُعتبر مُخلاً بالتّوحيد.
فلذلك عقد المصنِّف رحمه الله هذا الباب، وأجمل في الترجمة فقال: "باب ما جاء في الإقسام على الله" لأنّ الإقسام على الله له احتمالان أو وجهان:
الاحتمال الأوّل: هو ما ذكرنا، وهذا ممنوع وحرام، ومخلٌّ بالعقيدة.
النوع الثاني من الاقسام على الله: أن يكون على وجه حسن الظنّ بالله أن يفعل الخير، وأن يغفر لعباده وأن يسقيهم المطر، وأن ينصرهم على الأعداء، فهذا لا بأس به، لأنّه حسن ظنٍّ بالله، وقد جاء في الحديث: "إنَّ مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأَبَرَّه"، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمْرين، مدفوع بالأبواب؛ لو أقسم على الله لأبرَّه".
قال الشيخ رحمه الله: "عن جُنْدَب بن عبد الله" جندب: بفتح الدّال، ويجوز الضمّ. والمراد به: جندب بن عبد الله البَجَلي، صحابي جليل، رضي الله عنه.
"قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل"" يعني: ممّن كان قبلنا من الأمم.
قولُه: "والله لا يغفر الله لفلان" هذا من(4/31)
النّوع الأوّل، وهو الحلف على الله أن لا يفعل الخير، وهو المحرَّم.(4/32)
ص -302- ... وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد.
قال أبو هريرة: تكلّم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقال الله عزّ وجلّ: "من ذا الذي يتألّى عليّ"، يتألّىيعني: يحلف، والأَلِيَّة هي الحَلِف، قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، ومعنى {يُؤْلُونَ} يعني: يحلفون.
ثم قال جل وعلا: "إني قد غفرتُ له" الله جل وعلا يغفر الذنوب، يوفِّق العبد للتوبة ولو قبل الموت بلحظات، ثم يتوب الله عليه ويدخله الجنّة، وقد يكون الإنسان كافراً عدوًّا لله، ثم يمنّ الله عليه بالتوبة والإسلام، ويموت في لحظته ويدخُل الجنّة، وقد يكون الإنسان على عمل صالح وعلى عبادة ثم يرتد عن الإسلام في آخر لحظة ثم يدخل النّار، فالأعمال بالخواتيم: "إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيعمل بعلم أهل النّار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها"، فالأعمال بالخواتيم، والمدار على التوبة الصادقة، متى حصلت التوبة الصادقة قبل الغرغرة حصلت المغفرة، مهما كانت الذنوب والخطايا والسيِّئات.
ولهذا جاء في الحديث ا لآخر: "أنّ الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنّار مثل ذلك"، ما بينه وبين الجنّة إلاّ أن يموت على الإسلام والتوبة فيدخل الجنّة، وما بينه وبين النّار إلاّ أن يموت على الشرك أو على الذنوب الكبائر فيدخل النار إلاّ أن يعفو الله عمّا دون الشرك.
ولهذا قال المصنِّف رحمه الله في مسائله: "فيه: أنّ الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، والنّار مثل ذلك".
قال جلّ وعلا للذي تألّى عليه سبحانه: "أحبطتُّ عملك" أي: أبطلته. فهذه الكلمة أبطلت عمله.
ففيه: خطر اللّسان، ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: "تكلّم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته" يعني: أهلكت(4/33)
دنياه وآخرته.
فهذا الحديث فيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه تحريم الإقسام على الله إذا كان على وجه الحجْر على الله سبحانه وتعالى أن لا يفعل بعباده خيراً، وأنّه مخلٌّ بالتّوحيد.(4/34)
ص -303- ... المسألة الثانية: فيه خطرُ اللّسان، وأنّه قد يزلّ في كلمة تُهلكه في الدنيا والآخرة، فكيف بالذي يتكلّم بكلام كثير من سخَطِ الله؟، ماذا تكون حالته وعاقبته - والعياذ بالله-، كم يتكلمّ الإنسان من الكلام الذي عليه لا له، فلنتحفّظ من ألسنتنا.
المسألة الثالثة: فيه ما أشار إليه المصنِّف: أنّ الجنة أقرب إلى أحدنا من شِراك نعله وأنّ النار مثل ذلك.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على تحريم إعجاب الإنسان بنفسه واحتقاره للآخرين.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وجوب التحفُّظ عند إنكار المنكر من الكلام الذي يكون وبَالاً على صاحبه، لأنّ بعض النّاس عند إنكاره المنكر قد تحمله الغَيْرة فيتكلّم على العُصاة والمخالفين بكلام لا يليق، فيكون إثم ذلك عليه ووبالُه عليه، ففيه: أنّ الإنسان ينكر المنكر بضوابط، ولا يندفع في الإنكار إلى حدٍّ يزلُّ فيه بلسانه أو بيده، فيقع في منكر أشدّ، فإنكار المنكر له ضوابط؛ يقول الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ويقول سبحانه وتعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، ويقول جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، فالإنسان يتكلّم بالكلام الطيِّب الذي له تأثيرٌ حسن على المدعوِّين وعلى العُصاة، ولا يغلِّظ عليه بكلام يكون منفِّراً ويكون مُغْضِباً لله سبحانه وتعالى، ففيه: أنّه يجب على من يقومون بالإنكار على النّاس والدعوة إلى الله أن يتحفّظوا من الزلاّت التي تُوقعهم في منكر أعظم وتنفر النّاس من القبول.(4/35)
ص -304- ... [الباب الخامس والستون:]
*باب لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال؛ فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستشفاع: طلب الشفاعة.
والشفاعة: هي الوساطة في قضاء الحوائج عند من هي بيده.
وهي بحسب المشفوع فيه؛ فإن كان المشفوع فيه خيراً فالشفاعة حسنة وفيها أجر، قال سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}، وقال صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا ".
أمّا إنْ كانت الشفاعة في أمر محرَّم فإنّها محرَّمة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، كالذي يشفع في إسقاط حد من حدود الله كحدّ الزنا، وحدّ السرقة، وحدّ الشرب، فأراد أحدٌ أن يبُْطِلَه، وذهب إلى الحاكم من أجل أن يترك إقامة الحدّ بعدما تقرّر وثبت؛ فهذه شفاعة محرّمة، قال صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم، وما بلغني من حدٍّ فقد وجب"، وقال: "إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشّافع والمشفَّع".
هذا في الشفاعة عند المخلوق:
أمّا الاستشفاع بالله على أحدٍ من خلقه: فهذا منكر عظيم، لأنّ المشفوع عنده يكون أعظم من الشّافع، فإذا استشفع بالله إلى أحدٍ من خلقه فمعناه: أن هذا المخلوق عنده أعظم من الله، فهذا تنقُّصٌ لجناب الله سبحانه وتعالى، وهذا مخلٌّ بالتّوحيد.
قوله: "جاء أعرابي" الأعرابي هو: ساكن البادية، والغالب على سُكّان البادية الجهل.
"نَهِكَت الأنفس" يعني: ضغُفت.
"وجاع العيال، وهلكت الأموال" وذلك بسبب تأخُّر المطر، لأنّ عيشة البادية(4/36)
ص -305- ... على ما ينزّله الله سبحانه وتعالى في الأمطار، والمطر لا يستغني عنه أحد لا أصحاب الحاضرة ولا أصحاب البادية، كلُّهم بحاجة إلى المطر، فإذا تأخّر المطر تضرّر النّاس، وإذا نزل المطر وأنزل الله فيه البركة انتفع النّاس وانتعشوا، فالأمطار فيها خيرٌ للعباد.
ولا يحبسها الله جل وعلا إلاّ بسبب الذنوب والمعاصي: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً(16)}.
"فاستسق لنا ربك" وهذه عادة الصّحابة رضي الله عنهم، أنهم كانوا إذا تأخّر المطر أو أنحبس المطر طلبوا من النّبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقيَ لهم.
والاستسقاء هو: طلب السُّقيا.
والاستسقاء: سنّة قديمة فقد استسقى موسى- عليه الصلاة والسلام- لقومه، واستسقى سليمان لقومه، واستسقى نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم لأمّته، فالاستسقاء مشروع.
وذلك بأن يأتوا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم في حياتِه ويطلبوا منه أن يدعو الله لهم بنزول المطر، فالنّبي صلى الله عليه وسلم يُجيبُهم إلى ذلك، تارةً يدعو وهو جالس بين أصحابه، وتارة يدعو في خطبة الجمعة بنزول المطر، وتارة يخرُج إلى المصلَّى في الصحراء فيصلَّي بالنّاس صلاة الاستسقاء، ثم يخطُب ويدعو الله سبحانه وتعالى ويسقيهم الله عزّ وجلّ.
وبعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون إلى الخلفاء الراشدين: يأتون إلى عمر فيطلُبون منه أن يدعوَ الله لهم، وعر يطلب من العبّاس عمّ النّبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ الله لقرابَتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك المسلمون يطلُبون من علمائهم ووُلاة أمورهم ومن الصالحين منهم أن يدعو ربّهم بالسقيا، وهذه سنّة ثابتة.
فمجيء هذا الأعرابي إلى النّبي صلى الله عليه وسلم وطلبه من الرّسول أن يستسقيَ لهم، أمرٌ معروف مستقرّ.
ولكن هذا الأعرابي لم يقتصر على ذلك بل قال: "فإننّا نستشفع بالله عليك" وهذه هي الكلمة المنكَرة، لأنه جعل الله(4/37)
شافعاً عند الرّسول صلى الله عليه وسلم، والشّافع أقلّ درجة من المشفوع عنده، فهذا تنقُّصٌ لله سبحانه وتعالى.
وقوله: "ونستشفع بك على الله" هذا أيضاً لا إنكار فيه في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم،(4/38)
ص -306- ... فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله" فما زال يسبِّح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك!، أتدري ما الله؟!، إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه" وذكر الحديث. رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا بعد موته. ومعناه: طلب الدعاء من الرّسول لهم بالسقيا، كذلك طلب الدعاء من الصالحين الأحياء، لا بأس به.
ثم إنّه صلى الله عليه وسلم نزّه الله عن هذا التنقُّص وهذا الجهل الذي وقع من هذا الأعرابي في حقِّ الله، وقال: "سبحان الله! سبحان الله!" وهذه عادته صلى الله عليه وسلم، أنّه كان إذا استنكر شيئاً يسبِّح، أو أعجبه شيء يسبِّح أو يكبِّر.
قوله: "حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابِه" لَمّا تأثَّر وغضب، غضبوا لغضب الرّسول صلى الله عليه وسلم، وتأثّروا من تأثُّر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك على وجوههم رضي الله عنهم.
ثم قال: "ويحك!" (ويح) كلمة يُراد بها العِتاب، أو يراد بها الشَّفَقة أحياناً.
"أتدري ما الله؟" هذا استنكار من النّبي صلى الله عليه وسلم وبيان لجهل هذا الأعرابي في حق الله.
"شأنُ الله أعظم من ذلك، إنّه لا يستشفع بالله على أحدٍ من خلقه" لَمّا أنكر صلى الله عليه وسلم ذلك ونزّه ربّه علّم هذا الجاهل ما يجب عليه من تعني الله.
فهذا الحديث فيه مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: في الحديث دليل على مشروعيّة الاستسقاء عند تأخُّر المطر، فهو سُنّة ثابتة، وأن الطّلب من الصالحين الأحياء الحاضرين أن يدعو الله للمسلمين، لا بأس به، أمّا المِّيت فلا يُطلب منه شيء، لا شفاعة ولا دعاء.
والدليل على ذلك: أنّ الصّحابة رضي الله عنهم لَمّا تُوفّي الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يذهبون إلى قبره إذا أجدبوا أو احتاجوا إلى شيء، ما كانوا يذهبون إلى قبره مثل ما كانوا يأتونه وهو حيّ ويطلبون منه الدعاء،(4/39)
وإنّما عدلوا إلى العبّاس عمّه لأنّه حيٌّ موجود بينهم وطلبوا منه أن يدعو الله لهم.(4/40)
ص -307- ... المسألة الثانية: في الحديث دليل على إنكار المنكر، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أنكر على هذا الأعرابي ولم يسكُت عنه.
المسألة الثالثة: في الحديث دليل على تحريم الاستشفاع بالله على أحدٍ من خلقه، وأنّ هذا يُخِلُّ بالعقيدة وينقِّص التّوحيد، وفيه إساءةُ أدبٍ مع الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي عقد المصنِّف هذا الباب من أجله.
المسألة الرابعة: في الحديث دليل على أنّ طلب الدعاء والاستشفاع بالحيّ جائز، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على هذا الأعرابي قوله: (ونستشفع بك على الله)، وإنّما أنكر عليه الجملة التي قبلَها: "إنا نستشفع بالله عليك"، أمّا الاستشفاع بطلب الدعاء من الحي الحاضر فلا بأس بذلك، وهذا فعل الصّحابة مع الرّسول صلى الله عليه وسلم ومع غيرِه إذا احتاجوا إلى ذلك.
المسألة الخامسة: فيه مشروعيّة تعليم الجاهل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم علَّم هذا الجاهل بعدما أنكر عليه ونبهه على الخطأ الذي حصل منه من أجل أن يتجنَّبه.
المسألة السادسة: فيه مشروعية التسبيح والتكبير عند حصول أمرٍ منكر أو أمرٍ عجيب، بدل التصفيق الذي أحدثه من يقلدون الكفار.(4/41)
ص -308- ... [الباب السادس والستون:]
* باب ما جاء في حماية النّبي صلى الله عليه وسلم حمى التّوحيد وسده طرق الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبق بابٌ يشبه هذا، وهو قول الشيخ رحمه الله هناك: "باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التّوحيد، وسدّه كل طريق يوصِّل إلى الشرك"، فما الفرق بين البابين؟.
الفرق بين البابين: أنّ جناب التّوحيد معناه: جانب التّوحيد، وهنا: "حمى التّوحيد" وفرقٌ بين الجانب وبين الحمى، لأنّ الجانب بعض الشيء، وأمّا الحمى فهو ما حول الشّيء.
فهناك أراد المصنِّف رحمه الله أن يبيّن حماية النّبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد نفسه من أن يقع فيه شرك.
وهنا أراد أن يبيّن أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم حمى ما حول التّوحيد، بعد حمايته التّوحيد، وهذا من باب العناية التامة بشأن التّوحيد.
قوله: "باب ما جاء" يعني: من الأحاديث.
"في حماية النّبي صلى الله عليه وسلم" الحماية معناها: المنع، أي: منع النّبي صلى الله عليه وسلم.
"حمى التّوحيد" أي: ما حول التّوحيد.
"وسده طرق الشرك" الطرق هي: الأشياء التي توصِّل إلى الشيء، فالنّبي صلى الله عليه وسلم سدّ الوسائل والأسباب التي تؤدِّي إلى الشرك وإن لم تكن هي من الشِّرْك لكن لَمّا كانت تؤدِّي إلى الشرك منع منها النّبي صلى الله عليه وسلم احتياطاً للتّوحيد، فقد يكون الشيء مباحاً في نفسه، ولكن إذا كان هذا المباح يُفضي إلى محرَّم فإنّ هذا المباح يُصبح حراماً، لأنّ الوسائل لها حكم الغايات، فالوسيلة إلى المحرّم تكون حراماً، وهذا ما يسمّى عند الأُصوليّين بقاعدة (سدّ الذرائع)، فكلُّ ذريعة توصِّل إلى محظور وإلى حرام فإنّ الشّارع منع منها وحرّمها، وهذا كثيرٌ في الشريعة.(4/42)
ص -309- ... عن عبد الله بن الشَّخِّير رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيِّدُنا، فقال: "السيِّد الله تبارك وتعالى".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: "عن عبد الله بن الشَّخِّير" هو عبد الله بن كعب بن عامر بن الشخِّير العامري نسبةً إلى بني عامر، قبيلة من قبائل العرب معروفة.
قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذلك عام الوُفود، وهو العام التّاسع من الهجرة، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا فتح الله عليه مكّة في السنّة الثامنة من الهجرة، دخل النّاس في دين الله أفواجاً، فصاروا يتوافدون على الرّسول صلى الله عليه وسلم يعلنون إسلامهم، فسمّيَ هذا العام عامَ الوُفود، وهذا كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2)}، والفتح المراد به: فتحُ مكّة.
قالوا للرّسول صلى الله عليه وسلم يخاطبونه: "أنت سيدنا" على عادة العرب أنّهم إذا قدِموا إلى كبيرٍ من كبرائهم أو ملكٍ من ملوكهم يمدحونه ويفخِّمونه بالألفاظ، فظنّوا أن النّبي صلى الله عليه وسلم كذلك يقال له مثل ما يقال لرؤساء العرب وملوك العرب، فقالوا: "أنت سيدنا وابن سيدنا".
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "السيِّد الله تبارك وتعالى" أراد صلى الله عليه وسلم أن يسدّ باب الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "السيِّدُ الله" من أجل أن يترُكوا هذا اللّفظ.
والسيِّد يطلق ويُراد به: المالِك، كما يقال لمالك العبد: سيِّد، لأنّه يملكُه، فالله جل وعلا هو السيد، بمعنى أنّه هو المالك المطلق الذي له التصرُّف كما يشاء سبحانه وتعالى في عباده، فهو السيِّد والخلق عباده سبحانه وتعالى.
والنّبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يسدّ هذا المديح خوفاً عليهم من الغلو، كما أن(4/43)
الصّحابة لَمّا آذاهم منافق من المنافقين فقالوا: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "إنّه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله"، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يسدّ هذا الباب، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كما قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، والنّبي صلى الله عليه وسلم قادرٌ على أن يردع هذا المنافق ولكنّه أراد أن يعلِّم الأمّة الآداب ويبعدها عن الغلو فقال: "إنّه لا يُستغاث بي، وإنّما يُستغاث بالله عزّ وجلّ".
وقال- أيضاً-: "لا تُطْرُوني" أي: لا تزيدوا في مدحي، "كما أطرت(4/44)
ص -310- ... قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمُنا طَوْلاً، فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيِّد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النصارى ابن مريم" أي: كما غَلَت النصارى في المسيح عيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- حتى أدّى بهم هذا الغلوّ إلى أن عبدوه من دون الله، وجعلوه إلهاً، "إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسولُه".
إلى غير ذلك من الأحاديث التي ينهى فيها النّبي صلى الله عليه وسلم عن الغلوّ في مدحه صلى الله عليه وسلم، خوفاً على الأمّة من الوُقوع في الشّرك، لأنّ المبالغة في المدح تُفضي إلى الغلو والشرك في الممدوح، لاسيّما إذا كان هذا الممدوح نبيًّا من الأنبياء، أو كان صالحاً من الصالحين، أو عالماً من العلماء أو ممّن كانت لهم مكانةٌ في النّاس، فإنّه لا يجوز الغلوّ في مدحه، لأنّ هذا يؤدِّي إلى الشرك.
وأيضاً: مدح الإنسان في وجهه يسبِّب إعجاب الممدوح بنفسه، فالمبالغة في المدح فيها محذوران.
المحذور الأوّل على المدح نفسه: أن يغلو في الممدوح حتى يعبُده من دون الله.
والمحذور الثّاني في حقِّ الممدوح: فقد يُعجب هذا الممدوح في نفسِه ويرى لنفسه منزلة رفيعة، فيكون ذلك ضرراً عليه ويفسد أعماله، لأنّ الإنسان إذا أُعجب بأعماله وأُعجب بصلاحه وأُعجب بعلمه فإن ذلك يؤدي إلى فساد أعماله، لأنّ الواجب على الإنسان أن يتذلّل لربِّه وأن يخضع لربِّه وأن يعرف قدْر نفسه وأنّه ضعيف، وأنّه محتاج إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه مخلوق كسائر المخلوقين ليس له ميزة على غيره من البشر إلاّ بالتقوى والعمل الصّالح، وإلاّ فإنّه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى.
فالنّبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "السيِّد الله" من أجل أن يسدّ عليهم هذا الطريق الذي كانوا يعتادونه مع رؤسائهم ومع أكابرهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "قولوا بقولكم" يعني القول المعتاد مع(4/45)
الرّسول صلى الله عليه وسلم، بأن يقال له:
يا رسولَ الله، يا نبيّ الله، هذا القول المعتاد معه صلى الله عليه وسلم، وليس فيه غلو.
وقوله: "ولا يستجرينكم الشيطان" أي: لا يتّخذكم الشيطان جرياًّ له، والجري(4/46)
ص -311- ... وعن أنس رضي الله عنه: أنّ ناساً قالوا: يا رسولَ الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيِّدنا وابنَ سيِّدنا، فقال: "يا أيها النّاس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد؛ عبد الله ورسولُه، ما أُحِبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ" رواه النسائي بسند جيّد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معناه: الرسول، أي: لا تكونوا رسلاً للشيطان يُرسلكم إلى النّاس بالغواية والمديح الكاذب.
ثم ذكر المصنِّف الحديث الثاني فقال: "عن أنس رضي الله عنه: أن ناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا" أما قولهم: "يا رسول الله" فهذا سليم، لكن قولهم: "سيدنا وابن سيِّدنا" هذا الذي استنكره النّبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قولهم: وخيرنا وابن خيرنا" هذا- أيضاً- استنكره النّبي صلى الله عليه وسلم، لأن الرّسول صلى الله عليه وسلم لا يريد المدح، وإنّما يريد أن يوصف بما وصفه الله تعالى به من الرّسالة والنبوّة، وكفى بذلك شَرَفاً له صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يستهوينكَم الشيطان" يستهوينَّكم: يوقعكم في الهوى الذي يضلُّ عن سبيل الله عزّ وجلّ. أو يسهوينّكم: من الهُوِي وهو: الوُقوع في الهلاك، أي: لا يوقعكم الشيطان في الضّلال، أو لا يوقعكم في الهوى الذي يضلّكم عن سبيل الله عزّ وجلّ، فإنّ الشيطان يتدرَّج في بني آدم شيئاً فشيئاً إلى أن يُهلكهم. فعلى المسلم أن يحذر من الشيطان واستدراجه واستهوائه، ولا يتساهل مع الشيطان في شيء ولو كان صغيراً فإنّه يكَبُر ويعظم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد؛ عبد الله ورسوله" هذا ما يمدح به صلى الله عليه وسلم العبودية
والرسالة.
"ما أُحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ " هذا بيان الحكمة في منعه صلى الله عليه وسلم؛ أّنه خشي عليهم في مدحهم له أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله وهي(4/47)
العبوديّة والرّسالة، لئلا يعتقدوا فيه جانب الرّبوبيّة، كما حصل للنصارى في حقّ عيسى- عليه الصلاة والسلام-.
فعبده: فيه منع من الغلوّ.(4/48)
ص -312- ... ورسوله: فيه المنع من تنقص حقه صلى الله عليه وسلم.
فلا تعتبره أنّه لا ميزة له على البشر في شيء، كما يقول الكفار: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، لأنّه جُحودٌ للرّسالة.
ففي قولنا: "عبده ورسوله" منع من الإفراط ومن التفريط.
فهذان الحديثان يُستفاد منهما فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وسلم عن طريق المديح، وأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما يوصف بصفاته التي أعطاه الله إيّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يغلى في حقِّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكروب ويغفر الذنوب، وأنّه يُستغاث به- عليه الصلاة والسلام - بعد وفاته، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبويّة في أشعارهم كـ "البردة" للبوصيري، وما قيل على نَسْجِها من المخرِّفين، فهذا غلوٌّ أوقع في الشرك، كما قال البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلاً وإلاّ قل يا زلّة القدم
فإنّ من جودك الدنيا وضرَّتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم(4/49)
فهذا غلوٌّ- والعياذ بالله- أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حتى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرّسول صلى الله عليه وسلم: الدنيا والآخرة للرّسول، علم اللوح والقلم للرّسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلاّ الرّسول، إذاً ما بقي لله عزّ وجلّ؟.
وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد.
وكذلك غيرها من الأشعار الكفريّة الشركيّة، خصوصاً ما يُنشد في الموالِد المبتدعة من الأناشيد الشركيّة، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرّسول صلى الله عليه وسلم.
وأمّا مدحه صلى الله عليه وسلم بما وصفه الله به بأنّه عبدٌ ورسول، وأنّه أفضل الخلق، فهذا لا بأس به، كما جاء في أشعار الصّحابة الذين مدحوه، كشعر حسّان بن ثابت، وكعب بن زُهير، وكذلك كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فهذه أشعار نزيهة طيِّبة، قد سمعها النّبي صلى الله عليه وسلم وأقرّها، لأنّها ليس فيها شيءٌ من الغلو، وإنّما فيها ذكر أوصافه صلى الله عليه وسلم.(4/50)
ص -313- ... الفائدة الثانية: في الحديث النّهي عن وصف الرّسول صلى الله عليه وسلم بالسيّد، وهذا فيه إشكال عند أهل العلم: حيث إنّه أنكر على من قال له: "أنت سيِّدُنا"، وقال " السيِّد الله".
بينما جاءت أحاديث أخرى فيها إطلاق السيِّد عليه صلى الله عليه وسلم وعلى غيره، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم إنّه قال: "أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر"، وقال في الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن ابني هذا سيِّد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين"، وقال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"، ولما جيء بسعد بن معاذ رضي الله عنه عام الخندق، قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيِّدكم".
فالعلماء اختلفوا في الجواب على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: تحريم إطلاق لفظ (السيِّد) على المخلوق، فلا يقال السيِّد إلاّ في حقِّ الله سبحانه وتعالى، كما جاء في هذين الحديثين: "السيِّد الله" وهذا مرويٌّ عن الإمام مالك رحمه الله.
وأجابوا عن الأحاديث المخالفة بأنها أحاديث متقدّمة، وحديث: "السيِّد الله" متأخر لأنّه كان في عام الوفُود في السنّة التاسعة، فيكون ناسخاً للأحاديث التي تدلّ على جواز إطلاق لفظ (السيِّد) على المخلوق.
القول الثّاني: جواز إطلاق السيِّد على المخلوق عملاً بالأحاديث التي فيها ذلك: "أنا سيِّد ولد آدم"، "إن ابني هذا سيِّد"، "قوموا إلى سيِّدكم"، فيجوز إطلاق لفظ السيد على المخلوق كما في هذه الأحاديث.
وأجابوا عن حديث المنع بأنّه محمولٌ على كراهة التنزيه، فيكون النّهي للتنزيه.
والقول الثالث: الجواز مطلقاً بلا كراهة، إلاّ إذا خيف من الغلو، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم من الغلو، كما في الحديثين المذكورين، فإذا خيف على الإنسان من الغلو يُنهى عن ذلك، أمّا إذا لم يُخفْ عليه من الغلو فلا بأس عملاً بالأحاديث الكثيرة التي جاء فيها إطلاق السيد على المخلوق.
وهناك قولٌ رابع ألمح إليه(4/51)
المشايخ، وهو: أنّه لا يجوز إطلاق السيِّد على(4/52)
ص -314- ... الشخص في حضورِه ومواجهته، ويجوز إطلاقُه عليه وهو غائب، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إنّما استنكر هذا لَمّا واجهوه به صلى الله عليه وسلم، فيُمنع مواجهة الإنسان بقول: (أنت السيِّد)، (أنت سيِّدنا) أو ما أشبه ذلك خوفاً عليه من الإعجاب بنفسه، كما نهى النّبي صلى الله عليه وسلم من مدح الإنسان حال حضوره.
هذا حاصل الأقوال في هذا المسألة.
تنبيه: الآن لفظ (السيِّد) صار يطلق على من يُعتقد فيهم النفع والضر، مثل من يسمّونهم السادة من أهل البيت أو السادة من الصوفية، وصار يصحب هذا القول اعتقاد في الأشخاص، وهذا لا شكّ في تحريمه.
فإذا أُطلق (السيِّد) على مثل هؤلاء فإنّه محرَّم، لأنّه ينبئ عن اعتقاد باطل وشرك بالله عزّ وجلّ، وأنّ هؤلاء ينفعون ويضرّون وتحلّ البركة منهم.
المسألة الثالثة: فيه ما عقد المصنِّف هذا الباب من أجله، وهو حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التّوحيد وسدّه الطرق التي تُفضي إلى الشّرك، حيث إنّه منع من وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة وبالفضل وبالطَّوْل من أجل سدّ الوسيلة إلى الغلو وإلى الشرك، ففيه: شاهد للترجمة.
الفائدة الرّابعة: فيه المنع من الغلوّ في مدحه صلى الله عليه وسلم سواءً في النثر أو في الشِّعر، والشِّعر أشد، لأنّ الشعر يُحفظ ويُرغب فيه أكثر من النّثر، وبعضهم إذا جاء لزيارة قبر النّبي صلى الله عليه وسلم يقف ويدعو النّبي صلى الله عليه وسلم يستغفر، ويقول: جئتك تائباً يا رسول الله، يا حبيب الله جئتك تائباً وما أشبه ذلك من الغلو، لأنّ التوبة إلى الله سبحانه وليست إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.(4/53)
ص -315- ... [الباب السابع والستون:]
* باب ما جاء في قول الله تعالى:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب ختم به المؤلِّف رحمه الله أبواب "كتاب التّوحيد"، لأنه يشتمل على الأسماء والصّفات، لأنّ "كتاب التّوحيد" كلُّه يدور على توحيد الأُلوهيّة، ومكملاته ومنقصاته ومناقضاته، وفي هذا الباب ذكرُ الأسماء والصّفات من أجل أن يتكامل هذا الكتاب فيحتوي على جميع أنواع التّوحيد، لأنّ توحيد الألوهيّة يتضمّن توحيد الربوبيّة، ومن جملة توحيد الربوبيّة: الإيمان بالأسماء والصّفات، ولكن فُصلت الأسماء والصّفات بقسم خاص لوُجود المخالفين فيها؛ من فرق الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ومَن أخذ بمذهبهم، وقد أنكر عليهم الأئمّة مذهبهم هذا إنكاراً شديداً، وألّفوا في ذلك المؤلَّفات والرُّدود الكثيرة، لأنّ هذا تعطيلٌ لأسماء الله وصفاته، وإلحادٌ في أسماء الله وصفاته، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)}.
فالله أثبت لنفسه الأسماء وأثبت له الصّفات، أثبت له السمع، والبصر، والقُدرة، والحياة، والعلم، والوجه، واليدين، وأثبت له سبحانه وتعالى صفات الكمال، فمن نفى ذلك عن الله فقد ألحد في أسماء الله، فهو من الذين قال الله- تعالى فيهم: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أي: اتُركوهم ولا تلتفتوا إلى قولهم، لأنّه مخالف لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} تهديدٌ من الله سبحانه وتعالى لِمَنْ خالف في أسماء الله وصفاته بأنّه سيعذِّبُه.
ولذلكِّ عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في آخر "كتاب التّوحيد" من أجل تكامل الكلام على(4/54)
التّوحيد.
قوله رحمه الله: "باب ما جاء" يعني: ما ورد عن النّبي صلى الله عليه وسلم وعن السّلف الصالح في تفسير هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)} وهذه آية عظيمة فيها عبر(4/55)
ص -316- ... وعِظات، وأنّ هذا الكون بسمائه وأرضه وجباله وشجره ومائه وثرائه وجميع المخلوقات يجعلها الله سبحانه وتعالى يوم القيامة على أصابعه ويجمعها في كفيّه سبحانه وتعالى، كمَا صحت بذلك الأدلة، فهذا يدلّ على عظمة الله سبحانه وتعالى، وصغر هذه المخلوقات الهائلة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ويدلّ عل عظمته وكبريائه وجَبَروته سبحانه، ولهذا قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظّموه حقّ تعظيمِه.
{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هذا بيان لعظمته سبحانه وتعالى وسيأتي بيان ذلك في الحديث الذي يسوقه المصنِّف رحمه الله.
{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} من كان يقدر على هذه الأمور فإنّه لا أعظم منه سبحانه وتعالى، كلُّ الكون- بمن فيه- كلُّه حقير وصغير بالنّسبة إلى خالقه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} هذا يشمل كلّ من تنقّص الله تعالى فإنّه ما قدره حقّ قدره، فيدخل في ذلك الجاحدون المعطِّلون الذين ينفون وُجود الله تعالى، وهم الدهرية الذين يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، يقولون: ليس لنا ربّ يتصرّف فينا، وإنّما هذا الوُجود إنّما هو نتيجة الطّبيعة والصُّدفة ليس له ربٌّ أوجده وخلقه، وإنّما يتفاعل هذا الوُجود بنفسه، فتتكوّن هذه الأشياء من تفاعُل هذا الكون، ويجحدون وُجود الخالق سبحانه وتعالى، وهؤلاء يقال لهم: المعطِّلة الدهريّة.
وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ(36)}، وردّ عليهم بقوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، لأن القول لابد أن يكون مستنداً إلى بُرهان، وأين بُرهانهم؟ لأن البرهان إنما(4/56)
على أنّ هذا الخلْق له خالق، هذا هو البُرهان الذي تقرّه الفطر والعقول.
فلا يُتصوّر ولا يُعقل أن يوجَد مخلوق بدون خالق، فلا عاقل في الدّنيا يتصوّر أنّ هذا الكون وُجد بدون خالق، لأن هذا من باب العبث بالعُقول، هل تجدون - مثلاً- أنّ قصراً تكوّن بدون عمال وبدون بانٍ؟، هذا محال هل تجدون- مثلاً- شجرة وُجدت بدون أسباب وبدون بِذار وبدون سقي؟، لابدّ من أسباب لوجودها.(4/57)
ص -317- ... وهذا يقال إنّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله جاءه جماعة من الملاحدة وقالوا: نريد المناظرة، فقال لهم رحمه الله: قبل المناظرة بلغني خبرٌ عجيب، قالوا: وما هو؟، قال: بلغني أنّ سفينةً تسير بنفسها في البحر، وتحمَّل نفسها بالبضائع، ثم تأتي وتُفرغ حَمولتها بنفسها بدون عُمّال وبدون قائد، قالوا: هذا مُحال، لا يُتصوّر أنّ سفينة تمشي في البحر وتحمّل نفسها وتُفرغ عن نفسها بدون عمّال وبدون قائد، قال: هكذا بلغني، قالوا: هذا مُحال، قال: يا سبحان الله! إذا كانت سفينة- وهي جزئيّة صغيرة في الكون- لا يُتصوّر فيها أنّها تعمل هذا الشّيء فكيف بهذا الكون كلّه ليس له خالق وليس له مدبِّر وليس له رب، فانخصموا واندحروا، وأفحمهم بهذه الحُجّة.
وهذه الآية مفحمة لكل ملحد: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} هل يُعقل أنّ الخلق يوجد بدون خالق؟، لا، هذا لا يقولُه عاقل.
وإذا كان الكون لابدّ له من خالق فمن هو هذا الخالق؟، هل هو أنتم؟ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يعني: أنتم الذين خلقتم السماء، خلقتم الأرض، خلقتم الشجّر، خلقتم البحار، بيِّنوا لنا الذي خلق هذه الأشياء، وضِّحوا لنا، لا يستطيع أحد مهما بلغ من الكفر والإلحاد، لا يستطيع أن يدّعي أنّه خلق السماء، وخلق الأرض، {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ(36)}، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}، فكلّ الكفرة والمشركين لا أحد منهم ادّعى أنّ معبوده من دون الله خلقَ شيئاً من هذا الكون، أبداً، قال سبحانه وتعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
فالله جل وعلا هو المنفرد بالخلْق، ولا أحد نازعَ الله في ذلك من الجبابرة والمتكبِّرين والكَفرة(4/58)
والملحدين، لا أحد ادّعى أنه خلق بعوضة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، هذا تحدٍّ من الله سبحانه وتعالى، تحدِّ لجميع الخلق بمن فيهم المَهَرة والمهندسون والخُبراء أن يخلُقوا ذباباً، ولا يزال التحدِّي قائماً إلى يوم القيامة، فهذا دليل على أنّ الخالق هو الله.
أوّلاً: الخلْق لابدّ له من خالق، هذه بداهة عقلية لا ينازع فيها إلاّ مكابر.(4/59)
ص -318- ... ثانياً: ما أحد ادّعى أنّه خلق شيئاً من السموات ولا من الأرض، والتحدِّي قائم إلى يوم القيامة.
فالملاحدة ما قدروا الله حقَّ قدره، الذين نفوا وُجود الله ووجود الخالق.
وكذلك المشركون الذي أقرّوا أن الخالق الرّازق المحيي المدبِّر هو الله سبحانه وتعالى، واعترفوا بتوحيد الرّبوبية، ولكنّهم خالفوا في العبادة، وخالفوا في توحيد الألوهيّة، فعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأحجار والأشجار والقبور والأضرحة، هؤلاء ما قدروا الله حقّ قدره، حيث إنّهم أشركوا معه غيرَه في عبادته، ممن لا يخلُق ولا يرزق ولا يملك نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً، هؤلاء ما قدروا الله حقّ قدره، حيث سوّوا به خلقاً من خلقه، وجعلوهم معبودين معه، يذبحون لهم، وينذُرون لهم، ويتبرّكون بهم، ويطوفون بقبورهم، ويتبرّكون بالأحجار والأشجار، ويعبدون الأصنام، جعلوا هذه الأصنام والجمادات، وجعلوا هؤلاء الأموات الرُّفات في القبور جعلوهم شركاء لله في العبادة، هؤلاء ما قدَروا الله حقّ قدره سبحانه وتعالى.
وكذلك ما قدر الله حقّ قدره مَن جحد الأسماء والصّفات، فمن أنكر الأسماء والصّفات الّتي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسولُه صلى الله عليه وسلم أو تأوّلها على غير معناها وألحد فيها؛ ما قدَر الله حقّ قدره، فالذي قال: "إنّ الله لا يوصف بصفات، ولا يسمّى بأسماء، وإنّما هذه مجازات لا حقيقة لها، فلا يوصف الله عنده بأنّ له يدين، ولا أنّ له وجهاً، ولا يوصف الله بأنّه في العلو عالٍ على خلقه مستوٍ على عرشه"، ثم راح يؤوِّل هذه الصّفات إلى معانٍ لا تحتملُها، فهذا ما قدَر الله حقّ قدره سبحانه وتعالى، حيث إنّه ألحد في أسمائه، وألحد في صفاته، ما قدر الله حقّ قدره، ويدخُل في ذلك الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة والماتوريديّة، وكلّ من ألحد في الأسماء والصّفات أو جحد بعضها أو شيئاً منها فإنّه ما قدَر الله حقّ قدره ولا عظّمه حقّ(4/60)
تعظيمه، ويدخل في ذلك كلّ من خالف في الأسماء والصّفات فإنّه ما قدَر الله حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه ولا تأدّب مع ربه سبحانه وتعالى، بل صار يكذِّب بما وصف الله به نفسه وسمّى به نفسه، فيقول: هذا غير صحيح، هذا مجاز، هذا ليس بحقيقة، إلى غير ذلك من مقالاتهم الباطلة، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.(4/61)
ص -319- ... كذلك ما قدر الله حقّ قدره من نفى القدر: فالقدريّة ما قدروا الله حقّ قدره، حيث نفوا القدر، وقالوا: "إنّ الأشياء توجد بدون قدر الله وأنّها أُنف- يعني: تحدُث بغير قدر الله، وإنّما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه دون أن يكون لله قدرٌ سابق وعلمٌ سابق بهذه الأشياء، {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.
ويدخل في ذلك كلّ من ألحد في القدر من الجبرية ومن القدريّة، كلّهم ما قدروا الله حقّ قدره.
أيضاً: ما قدر الله حقّ قدره مَن عصى الله وارتكب ما حرّم الله من المعاصي وترك ما أوجب الله من الطّاعات، ما قدر الله حقّ قدره، لأنّه خالف أمره سبحانه وتعالى، ولا شك أن من عصى مخلوقاً فقد تنقّصه فكيف بمن عصى الخالق، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} لو أنّ إنساناً تمرّد على أوامر ملِك من الملوك وأبى أن ينفِّذ ما آمر به، فيكون ما قدر ذلك الملِك حق قدره، بل تنقّص هذا الملِك حيث إنّه لم يلتزم بأوامره ونواهيه، فكيف بالذي خالف أمرَ الله سبحانه وتعالى، وخالف نواهيه، وارتكب المنهي وترك الواجب؟، هل يكون هذا مقدِّراً لله حقّ قدره؟.
إذاً فكلّ مخالف لأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه وأحكامه فإنّه ما قدر الله حقّ قدره، حيث لم يمتثل شرعَ الله، ومن لم يمتثل شرع الله فإنّه لم يقدُره حقّ قدره.
كذلك من حكم بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين الوضعيّة بديلاً عن الأحكام الشّرعية التي شرعها الله لعباده ما قدر الله حقّ قدره، يقول- بلسان الحال أو بلسان المقال-: إنّ شرعك لا يصلُح للبشر، وإنّما يصلُح للبشر القوانين البشرية التي وضعها المخلوق، هكذا، ما قدر الله حقّ قدره سبحانه.
والنّاس يتفاوتون في هذا، فمنهم من خالف مخالفة كبيرة ومنهم من هو دون ذلك بحسب مخالفتهم، كلّ من خالف الله أي نوع من المخالفة فإنّه ما قدر الله حقّ قدره، وإنّما قدر الله حقّ قدره من امتثل أوامره ونواهيه وحكم بكتابِه وعبد الله وحده ولم يُشرك به(4/62)
شيئاً، هذا هو الذي قدَر الله حق قدْره، امتثل أمره واجتنب نهيه وآمن به سبحانه وتعالى ووصفه بما وصف به نفسَه وسمّاه بما سمّى به نفسه أو وصف وسمّى به رسولُه صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي قدر الله حقّ قدره.(4/63)
ص -320- ... عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد، إنّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرَضِيْن على إصبع، والشجرَ على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك من جحد الرّسالة وقال: إنّ الله لا يبعث رسولاً من البشر فهذا ما قدر الله حقّ قدره، لأنّه اتهم الله سبحانه وتعالى بأنّه ترك عباده بدون هداية ولا بيان، ولا بيّن لهم طريق الحقّ من طريق الباطل، ولا وضّح لهم، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)}، فالذي يجحد الرّسالة ويقول: "لا يمكن أن يبعث الله بشراً"، وإنّما يقترح على الله أن يبعث الملائكة إلى البشر؛ فهذا ما قدر الله حق قدره.
وكذلك من جحد البعث، وزعم أن الله لا يبعث عبيده ليجازيهم بأعمالهم: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)}، فهذا ما قدر الله حق قدره، ووصفه بالعبث، وأن الله خلق الخلق عبثاً، وتركهم سدىً، يعملون بلا نتيجة، لا فرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وكذلك من جحد كلام الله وقال: "إنّ الله لا يتكلّم، وهذا الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل والقرآن والزَّبور وغيرها من كتب الله ليس هو كلامُ الله، لأنّ الله لا يتكلم، وإنّما هو كلامُ البشر"، ومنهم من يقول: "المعنى من الله واللّفظ من البشر"، هذا ما(4/64)
قدَر الله حقّ قدره.
الحاصل؛ أنّ هذا بابٌ واسع، وأنّ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يشمل كلّ من خالف في أمور العقائد وأمور الأحكام فإنّه ما قدَر الله حقّ قدره.
فقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)} تفسير هذه الآية في هذه الأحاديث والآثار التي ذكرها المصنِّف في هذا الباب.
أولُها: "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبْرٌ من الأحبار" الحَبر- بفتح الحاء، ويجوز الكسر، هو: العالِم، وأغلب ما يُطلق ذلك على علماء اليهود قال تعالى:(4/65)
ص -321- ... {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} الأحبار في اليهود والرُّهبان للنصارى.
"فقال: يا محمد" اليهود يخاطبونه بهذا الخطاب، وأحياناً يقولون: يا أبا القاسم، ولا يقولون: يا نبيَّ الله، أو يا رسول الله، لأنّهم يجحدون رسالته ويحسدونه- عليه الصلاة والسلام-، وإنْ كانوا يعترفون بأنّه رسول الله وأنّه نبيُّ الله في قَرارة أنفسهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)}، فهم يعلمون أنّه رسول الله، وأنّه نبيُّ الله، ولكنّهم جحدوا هذا تكبُّراً وحسداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسداً للعرب، لأنّهم يريدون أن تكون النبوّة في بني إسرائيل ولا يريدونها أن تكون في بني إسماعيل، ولكنّ الله يختصّ برحمته من يشاء.
قال الحبر: "إنا نجد" يجدون ذلك في التّوراة.
"أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إِصبع" الأرضين: جمع أرض.
"والشجر على إصبع"؛ شجر الدنيا، شجر البر والبحر، فالشجر اسم جنس يشمل كلّ الشجر الذي في الدنيا.
"والثرى على إصبع " الثرى يعني: التراب: قال سبحانه وتعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)} أي: تحت التُّراب.
"وسائر الخلْق على إصبع" يعني: باقي المخلوقات.
فهذه خمسة أصابع عليها جميع المخلوقات العلوية والسفلية، كلّ إصبع عليه خلْقٌ من خلقه سبحانه وتعالى.
"فيقول: أنا الملك" ولا أحد ينازع في هذا، فدلّ على انفراده سبحانه بالمُلْك يوم القيامة، يقول الله جل وعلا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، ولا أحد ينازع في هذا فيدّعي شيئاً من ملك السماوات والأرض، لأنّه لا أحد يملك السماوات والأرض إلاّ الله سبحانه وتعالى.
أمّا المُلك المؤقت في الدنيا والملك(4/66)
الذي يُعطى لبعض النّاس فهذا عارية، ليس مُلكاً حقيقيًّا وإنّما هو عاريّة وامتحان يزول؛ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ(4/67)
ص -322- ... فضحك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحَبْر، ثم قرأ:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية".
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزّهنّ فيقول: أنا الملك أنا الله ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)}.
فالأملاك ترجع إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يرث الأرض ومن عليها: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)}.
قوله: "فضحك النّبي صلى الله عليه وسلم" أي: لمّا سمع كلام هذا الحَبْر ضحك صلى الله عليه وسلم سروراً بهذا، لأنّ هذا إقرارٌ بما جاء في القرآن، وإقرارٌ بما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"حتى بَدَتْ نواجذُه" النواجذ هي: أوائل الأضراس، كان صلى الله عليه وسلم إذا ضحك يتبسّم فقط، وإذا بالغ في التبسُّم بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
"ثم قرأ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)}" فهذا شيء جاء به القرآن كما جاءت به التّوراة، والقرآن والتوراة والإنجيل والزَّبور وصحف إبراهيم وموسى وكتب الأنبياء كلها من عند الله سبحانه وتعالى، وما دخل في التّوراة والإنجيل من التحريف فإنّما هو من اليهود والنصارى بعد الأنبياء. وقد بيّن الله تحريفهم في القرآن وفضح سرائرهم.(4/68)
قوله: "وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع" في هذه الرواية زيادة الجبال.
"ثم يهزُّهن" يحرِّكهنُّ سبحانه وتعالى.
"فيقول: أنا الملِك، أنا الله" هذا فيه: بيان عظمته، وربوبيّته ومُلكه سبحانه وتعالى، وعظيم قدْرته جل وعلا وتقرير انفراده بالملك.(4/69)
ص -323- ... وفي رواية للبخاري: "يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلْق على إصبع" أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟، أين المتكبِّرون؟.
ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، فيقول: أنا الملِك، أين الجبّارون؟، أين المتكبِّرون؟".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" ذكر هنا أن أصابعه سبحانه استوعبت كلَّ الخلْق وأن يقبض السماوات والأرضين بيديه وهذا من عظمته سبحانه وتعالى. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف انتهى.
قال الإمام ابن خزيمة الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء. قال: فالإمساك على الأصابع قبل تبديل الله الأرض غير الأرض. انتهى بمعناه.
قال: "ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟" هذا تحدٍّ منه سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين يتجبّرون في الدّنيا.
والجبّارون: جمع جبّار، وهو المتعالي على النّاس بالقَهْر والغَلَبة والظُّلم والبَطْش بغير حق.
أمّا الجبّار من أسمائه سبحانه، فمعناه: المتعالي بحقّ.
"أين المتكبِّرون؟ " جمع متكبِّر، والمتكبِّر من الخلق هو: المتعالي، الذي يتعالى على النّاس بالظّلم والبَطْش، وكذلك يتعالى على الحق فلا يقبله. والمتكبر من أسماء الله الحسنى الكاملة يدل على العظمة والجلال والتنزه عن النقائص(4/70)
ص -324- ... وروي عن ابن عبّاس قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعيوب ويتضمن صفة الكبرياء قال تعالى:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(37)}.
قوله: "روي عن ابن عبّاس قال: ما السماوات السبع والأرَضون السبع في كفِّ الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم" تقدّم بيان معنى هذا من الآية والأحاديث، وأنّ الله سبحانه وتعالى يطوِي السماوات فيأخذها بيده اليُمنى، ويطوي الأرضين السبع فيأخذهن بشمالِه، ثم يقول: "أنا الملِك... " إلى آخره، وفي هذا الأثر ما يوافق ما سبق.
فقوله: "ما السماوات السبع في كفِّ الرحمن إلاّ كخردلة" أي: أنّه سبحانه وتعالى يطوي السماوات السبع ويقبضُها بيده اليُمنى، ويطوي الأرَضين السبع فيأخذهنّ بشماله، فتكون في كفِّه سبحانه وتعالى كخردلة، والخردلة هي: أصغر شيء يُضرب المثل بصغيرِها.
فهذه السماوات العظيمة في كَفِّ الرحمن والأرضون الواسعة وما فيها في كفِّ الرحمن كالخردلة في يد واحدٍ منّا، هذا تشبيه لصغر هذه المخلوقات بالنسبة إلى الله، كصغر حبّة الخردل في يد المخلوق، وليس هو من تشبيه الله سبحانه وتعالى أو صفة من صفاتِه بصفات المخلوقين، وإنّما هو تشبيه لصغر المخلوقات بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى بصغر حبّة الخردل بالنسبة ليد المخلوق.
وهذا من باب ضرب الأمثال التي تقرب بها المعاني ويوضح المقصود.
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: "أضواء البيان ": فيحصل من هذا البحث أن الصّفات من باب واحد وأن الحق فيها متركب من أ مرين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً أو نفياً وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ(4/71)
الْبَصِيرُ} والسلف الصالح رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك ولا كان يشكل عليهم. إلاّ ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط وأما من جهة العلم فهو عامي:(4/72)
ص -325- ... وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكيف أخاف النّاس والله قابض ... على النّاس والسبعين في راحة اليد
ومراده بالسبعين: سبع سموات وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السموات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به والإيمان بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة. ويروى نحو قول مالك عن شيخه ربيعة وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله.
ثم قال: "وقال ابن جرير" هو الإمام المفسِّر: محمَّد بن جرير، صاحب التفسير المشهور الذي يُعتبر أُمّ التفاسير.
"حدثني يونس، أخبرنا ابن وَهْب، قال: قال ابن زَيْد: حدثني أبي قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما السماوات السّبع في الكُرْسي إلاَّ كدراهم سَبْعة أُلقِيَتْ في تُرس" السماوات السبع: السماء الدنيا والتي تليها إلى السماء السّابعة على عظمتها وسَعَتها كما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ(47)}، هذه السموات السبع العظيمة الواسعة بطِباقها وتباعُد ما بينها هناك مخلوقٌ أعظم منها وهو الكُرسي.
والكُرسي مخلوق: قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فهو مخلوقٌ من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
وهو فوق السماوات والسماوات بالنسبة إليه كسبعة دراهم أٌلْقِيَت في تُرْس.
والتُّرْس هو:(4/73)
القاع المستدير من الأرض، فلو ألقيت سبعة دراهم في قاعٍ من الأرض ماذا تكون نسبة هذه الدراهم السّبعة إلى هذا القاع الواسع؟، تكونُ صغيرة جدًّا.(4/74)
ص -326- ... قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يُراد بالتُّرْس: الصفحة من الفُولاذ التي يتّخذها المقاتِل وقايَةً بينَه وبين السّلاح يتترّس بها.
ولكن الظّاهر المعنى الأوّل، وهو أنّ المراد به: القاع المستدير.
فالسماوات السبع بالنسبة للكرسي تكون كالدراهم السبعة إذا أُلقيت في القاع الواسع المستدير، فتكون نسبتُها ضئيلة، ممّا يدلّ على أنّ الكرسيَّ أعظمُ من السموات، وأنّها بالنسبة إليه صغيرة، والله جل وعلا يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فمصداقُ هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى.
فدلّ على وُجود الكرسي، وأنّه مخلوق، أعظم من السماوات، وفي هذا ردٌّ على من فسّر الكرسي بالعلم، والصّواب: أنّ الكرسي غير العلم.
وفيه ردٌّ- أيضاً- على من فسّر الكرسي بالعرش، لأنّه سيأتي أنّ العرش غير الكرسي.
وقد جاء في الحديث: أن الكرسيَّ موضعُ القدمين، فهو مخلوقٌ مستقل، عظيم، أكبر من السموات على سعتها، وأعظم من السموات على عظمتِها.
قال: "وقال أبو ذرّ" الصحابي الجليل، الزاهد، التّقي، الورع، العالِم، العابِد، الذي له سَبْق في الإسلام فهو من السّابقين الأوّلين، ومن المهاجرين- رضي الله تعالى عنه-.
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة أُلْقِيَتْ بين ظهراني فلاةٍ من الأرض" الكرسي سبق لنا أنّه مخلوق مستقلّ، وأنّه أعظم من السموات، لكن هناك مخلوق أعظمُ منه وهو العَرْش.
والعرش هو: شَقْفُ المخلوقات، وأعلى المخلوقات، وأعظمُها.
والكرسي بالنسبة إلى العرْش كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهراني فلاةٍ من الأرض، والفلاة هي: المكان المتّسع من الأرض، لو ألقيتَ فيها حَلْقة من حديد، فماذا تكون نسبة الحلْقة إلى هذه الفلاة(4/75)
الواسعة؟، قد لا تُرى أو تكون شيئاً ضئيلاً، فكذلك الكرسي(4/76)
ص -327- ... وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أخرجه ابن مهدي عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالنسبة لعرش الرّحمن كحلقة من حديد أُلْقِيَت في فلاةٍ واسعة من الأرض.
فهذا يدلّ على وُجود العرْش، وأنّه مخلوق من مخلوقات الله، وأنّه أكبر من الكُرْسي، وأنّ الكرسي أكبر من السماوات، فهذا يدلّ على عظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي هذه مخلوقاتُه العظيمة الهائلة.
وفي هذا رد على من فسّر العرش بالملك أو غير ذلك من التفاسير الباطلة.
ثم قال: "وعن ابن مسعود" حديث ابن مسعود هذا يبيِّن المسافات التي بين السماوات والأرض والمسافة التي بين السماوات والكُرْسي، والمسافة التي بين الكرسي وبين العرش.
"قال: "بين السمّاء الدنيا" يعني: القريبة من الأرض، الموالية للأرض كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}.
فبين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السّابعة والكُرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام وكثف كل سماء من السماوات السبع خمسمائة عام.
إذاً تكون المخلوقات: أوّلاً: الأرض، ثم فوقها السماوات السّبع، ثم فوق السموات السّبع الكرسي، ثم فوق الكرسي بحر ما بين أعلاه وأسفلِه خمسمائة عام، وفوق الماء عرْش الرّحمن سبحانه وتعالى، والله جل وعلا فوق العرش، هذا ترتيب هذه المخلوقات حسبما جاءت به النصوص، وهي متباعِدة فيما بينها، فبين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء والتي تليها- يعني: السماء الثّانية والسماء الثّالثة والرّابعة(4/77)
والخامسة والسّادسة والسّابعة- بين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عام.
وكثف كل سماء خمسمائة عام.(4/78)
ص -328- ... ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم بن أبي وائل، عن عبد الله.
قاله الحافظ الذهبي- رحمه الله تعالى- قال: (وله طرق).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبين السماء السّابعة والكرسي- الذي مرَّ بنا أنّه أعظم من السموات، وأنّها بالنسبة إليه كالدّراهم في التُّرْس- بينهما خمسمائة عام، ثم فوق الكرسي بحر ما بين أسفلِه وأعلاه خمسمائة عامّ، ثم فوق الماء عرشُ الرّحمن سبحانه وتعالى: قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، فكما أن في الأرض بحراً يغمرها فكذلك في السماء بحر آخر غير البحر الذي في الأرض، وهذا البحر الذي في السماء بحر هائل عمقه خمسمائة عام، قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
فالعرش فوق هذا البَحْر، {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
إذاً يكون العرش هو أعظم المخلوقات، أعظم من هذا البَحْر، وأعظم من الكُرْسي، وأعظم من السموات، وأعظم من كلِّ المخلوقات، فالعرش هو أعظم المخلوقات، وأوسعُها، وأعظمُها، والله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه فقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15)} {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فتمدح سبحانه وتعالى به وذلك لأنّه خلْقٌ عظيم، وخَلْقٌ فيه عبرٌ عظيمة يدل على عظمة خالقه.
ثم قال: "وبين السماء السّابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء" أي فوق هذا البحْر.
"والله فوق العرش" فهو سبحانه وتعالى فوق مخلوقاتِه، عالٍ على خَلْقِه سبحانه وتعالى، العليُّ الأعلى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، وأدلّة علوّ الله جل وعلا على خلْقه كثيرة في الكتاب والسنّة والعقْل والفطرة حتى قال بعضُهم: "إنّها بلغت ألف دليل"، وقد ألّف الحافظ الذهبي رحمه الله كتاباً مستقلاً في العلو سمّاه: "العلوُّ(4/79)
للعليِّ الغفّار"، وهو مطبوع ومتداوَل، ذكر فيه النّصوص الدالّة على علوّ الله على خلْقه، وقد أجمع أهلُ السنّة والجماعة على علوّ الله سبحانه وتعالى بذاتِه على خلقه، ولهذا قال: "والله فوق العرش"، يعني: إذا كان العرش فوق المخلوقات والله فوق العرش، فدلّ على أنّ الله جلا وعلا هو العليُّ الأعلى فوق مخلوقاته جل وعلا، وأنّ المخلوقات كلُّها بالنسبة إلى كف الرحمن سبحانه كالخرْدَلة في يد أحدِنا كما سبق فيما ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.(4/80)
ص -329- ... وعن العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم ما بين السماء والأرض؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أي: مع علوِّه على خلْقه لا يَتصوّر أحدٌ أنّه بعيدٌ عن عبادِه، بل له هذا العلوّ، ومع هذا لا يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم، فهو سبحانه وتعالى فوق العرْش وعلمُه في كلِّ مكان، لا يخفى عليه شيء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)}، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)}، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، {مَعَكُمْ} أي: بعلمه سبحانه وتعالى وإحاطته، لا تخفون عليه، ولا تخفى عليه أعمالُكم خيرُها وشرُّها، وكلُّ ما يصدر من عباده فإنّه يعلمُه سبحانه وتعالى من الطّاعات والمعاصي والخير والشّرّ، كلّه يعلمه سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالهم: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61)}.
فلا يتصوّر أحدٌ أنّ الله إذا كان في العلوّ أنّه يكون بعيداً عن عبادِه، وأنّه لا يعلم أعمالهم، فيتصوّر أنّ الخالق مثل المخلوق، إذا كان في مكان مرتفع فإنّه لا يعلم ما تحتَه، ولا يدري ما يحدُث بما تحته، هذا في حق المخلوق، أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء، والمخلوقات كلها(4/81)
على عظمها وسعتها ما هي بالنسبة إليه بشيء سبحانه وتعالى فهو محيطٌ بها، يعلمُها ويراها، ويسمع ما يحدُث فيها، ويرى ما يحدُث فيها، هو بكلِّ شيء عليم سبحانه. ولا يحدث فيها شيء إلاَّ بقضائه وقدره وأمره.
فهذا فيه: الجمع بين العلوّ والعلم والإحاطة.
"وعن العبّاس" عمّ النّبي صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون كم بين السماء والأرْض؟" هذا فيه: السؤال يراد به التعليم والإرشاد، وليس هو من السؤال الذي يطلُب السّائل من المسؤول أن يُخبره عن شيء لا يعلمُه، وإنّما هو من باب التقريب وإحضار الذّهن، لأنّ التعليم إذا جاء عن طريق السؤال والجواب كان أثبت.(4/82)
ص -330- ... قال: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر، يين أسفله وأعلاه كما بين السماء الأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صلى الله عليه وسلم: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة" أي: بين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام.
"وبين كلِّ سماء إلى سماء خمسمائة عام، وكثف كلِّ سماء" هذه هي الزيادة التي جاء بها هذا الحديث عما قبله، أي: غِلَظ كلّ سماء وسمكها.
"وبين السماء السّابعة والعرْش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض" هذا بيان عمق البحْر.
والعرش فوق الماء، وهذا سبق، وهو في الآية الكريمة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
"والله تعالى فوقَ ذلك، وليس يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم" هذا كما سبق أنّ الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه بذاته سبحانه وتعالى، ومع علوِّه سبحانه- على مخلوقاته فإنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخفى عليه شيءٌ ممّا يحدُث في هذا الكون في أعلاه وفي أسفله، وجميع أعمال بني آدم على كثرة بني آدم وتفرُّقهم في الأرض واختلاف أمكنتهم فإنّ الله يعلم جميع ما يصدُر منهم: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10)}، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء على كثرة العباد، وتفرُّقهم في الأرض، واختلاف أمكنتهم، وتبايُن ما بينهم وخفاء أعمالِهم فإنّ الله جل وعلا يعلمُها: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي أخفى من السّرّ، بل يعلم ما في النّفس وما في القلب قبل أن يتكلّم الإنسان فالله يعلم ما يختلج في نفسك وما يدور في فِكْرك قبل أن تتكلّم وقبل أن تعمل، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، وهو العليُّ الأعلى(4/83)
فوقَ مخلوقاتِه سبحانه.
يُستفاد من هذه النصوص فوائد عظيمة جليلة:
أوّلاً: فيه قَبُول الحقِّ مِمَّن جاء به، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قبِل الحق من هذا اليهودي وفرح به - عليه الصلاة والسلام-.(4/84)
ص -331- ... ثانياً: في هذه النّصوص مشروعيّة التحدُّث عن آيات الله الكونيّة، من أجل الاعتبار والاتّعاظ، وتعظيم الله سبحانه وتعالى وإفرادِه بالعبادة، وليس التحدُّث بهذه الأمور هو من باب الاستطلاع أو زيادة المعلومات فقط، وإنّما هو من أجل الاعتبار والاتّعاظ والاستدلال على استحقاق الله جل وعلا للعبادة دونما سواه، هذا هو المطلوب.
ثالثاً: فيها إثبات اليدين لله جل وعلا، والكف، والأصابع، ووصف يديه باليمين والشِّمال، وفي حديثٍ آخر: "وكلتا يديه يمين"، فهي شِمال لكنّها ليست كشِمال المخلوق، فشِماله يمين، خلاف المخلوق فإنّ شِماله لا تكون يميناً، وإنّما هذا خاصٌّ بالله تعالى بأن "كلتا يديه يمين"، فله يد يمين وله شِمال كما في هذه الأحاديث، فهي يمين لا تُشبه يمين المخلوقين وشمالٌ لا تشبه شمال المخلوقين، وله أصابع سبحانه لا تُشبه أصابع المخلوقين، بل تليق به سبحانه وتعالى.
رابعاً: في هذه النّصوص بيانُ المسافات التي بين هذه المخلوقات: المسافات بين السماء والأرض، المسافات بين السموات، المسافات بين السموات والكرسيّ، المسافات بين الكرسي والماء، وهذه مسافات عظيمة متباعِدة، ممّا يدلّ على عظمة هذا الكون، وعظمة هذا الكون يدلّ على عظمة خالقِه سبحانه وتعالى.
وفيها: الردُّ على أصحاب النظريّات الحديثة الذين لا يؤمنون بوجود السموات، ولا بوجود هذه المخلوقات العُلْويّة، وإنّما يظنّون أنّ هذا فضاء خارجي، وعندهم: أن الكون هو المجموعة الشمسيّة، ويعتبرون أنّ الشمس هي المركز لهذه المجموعة، وأنّ هذه الأفلاك بكواكبها تدور عليها -بما فيها الأرض، وهذا من الكذب على الله سبحانه وتعالى، والقول على الله بلا علم، والتحرُّص الذي ما أنزل الله به من سلطان، والنّبي صلى الله عليه وسلم بيَّن هذه المخلوقات في هذه الأحاديث: أوّلاً: الأرض، ثم فوقها السموات السّبع، ثم فوق السموات السّبع الكرسي، ثم فوق الكرسي البحر، ثم فوق البحر(4/85)
العرش، والله جل وعلا فوق العرْش، فيجب الإيمان بذلك، وتكذيب هذه النظريّات الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان. فالله أخبر أن الأرض قرار وأن الشمس تجري وأصحاب النظريات يقولون بالعكس.
خامساً: في هذه النّصوص إثبات أنّ الأرضين سبع كالسموات، والله جل(4/86)
ص -332- ... وعلا لم يذكر في القرآن عدد الأرضين، ولكنّه أشار إلى هذا في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، فقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، يدلّ على أنّ الأرضين سبع، وجاء مصرَّحاً بذلك في السنّة كما في الأثر الأوّل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شِبْراً من الأرض طُوِّقَه يومَ القيامة من سبع أَرَضين"، فدلّ هذا على أنّ الأَرَضين سبع.
سادساً: فيها بيان كيفيّة هذه المخلوقات، وأنّ بعضَها فوق بعض، فالأرض أوّلاً ثم السموات، ثم الكرسيّ، ثم البَحْر، ثم العَرْش، وأنّ العرش هو أعظم هذه المخلوقات وفيها رد على من يقول إن العرش هو الملك وأن معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى على الملك.
سابعاً: فيها أنّ الكرسي غير العرش، وأنّه مخلوق مستقل، ردّاً على من زعم أنّه العرْش، أو أنّ المراد به العلم.
ثامناً: في هذه النّصوص إثبات علوّ الله على عرشِه، ردًّا على الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ونُفاة العلوّ الذين ينفون علوَّ الله على عرشِه.
تاسعاً: فيها إثبات إحاطة علمِ الله- جلّ وعلا بكلِّ شيء-، وأنّه لا تخفى عليه أعمال عباده صغيرُها وكبيرُها.
عاشراً: فيها وُجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، لأنّه إذا كانت هذه المخلوقات العظيمة حقيرةٌ بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وصغيرة بالنسبة إليه، وأنّه يتصرّف فيها جل وعلا، ويعلم ما يجري فيها وما يكونُ فيها؛ فهو المستحقُّ للعبادة، وبُطلان عبادة ما سواه ممّن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً.
وبهذا انتهى شرح هذا الكتاب المبارَك: "كتاب التّوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد".
والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/87)
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد(/)
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد
المقدمة
الحمد لله رب العالمين . خلقنا لعبادته، وأمرنا بتوحيده وطاعته، وهو غني عنا ونحن المحتاجون . . . { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } .
أرسل رسله داعية إلى التوحيد وإخلاص الدين . . . { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره المشركون .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا وصبروا، والذين آووا ونصروا، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد . . .
فلما كان توضيح العقيدة الصحيحة والدعوة إليها هو أهم الأمور وآكد الواجبات؛ لأنها الأساس الذي تنبني عليه صحة الأعمال وقبولها؛ كان اهتمام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم واهتمام أتباعهم بإصلاح العقيدة أولا عما يناقضها أو ينقصها، وكان نصيب هذا الجانب من سور القرآن وآياته النصيب الأوفر، وكان نصيبه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه النصيب الأكبر؛ فقد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد وإخلاص العقيدة، ولما فتح الله عليه مكة؛ كان أول ما بدأ به هدم الأصنام والقضاء عليها والأمر بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له .
وقد أولى علماء هذه الأمة هذا الجانب قدرا كبيرا من جهودهم وجهادهم وتعليمهم وتأليفهم، حتى شغلت كتب العقيدة حيزا كبيرا من المكتبة الإسلامية، وصار لها الصدارة بين محتوياتها .(5/1)
وقد أحببت أن أسهم بجهدي القليل في هذا العمل الجليل، فكتبت هذه الكلمات التي أقدمها للقارئ، وهي لم تأت بشيء جديد، وإنما هي تقريب لبعض المعلومات، وقد يكون فيها ربط لواقع الناس اليوم وممارساتهم بتلك المعلومات، حتى يتضح حكمها ويتبين خطأ أصحاب تلك الممارسات لعلهم يرجعون، ونصيحة لغيرهم لعلهم يحذرون .
وقد اقتبست هذه الكلمات من كتب أئمة الدين وعلماء المسلمين؛ ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتلميذه الحافظ ابن كثير، ومن كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه أئمة الدعوة الإصلاحية، خصوصا كتاب " فتح المجيد " ، ولا أدعي أنني أتيت بجديد، وإنما أرجو أن أكون قربت بعض المعلومات وربطتها بواقع الناس كلما سنحت فرصة وعرضت مناسبة .
وأصل هذا الكتاب كان حلقات أذيعت من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، وما كان في نيتي أن تخرج في كتاب لولا تقدير الله سبحانه، ثم إن بعض الإخوة الكرام اقترح علي جمعها وتنسيقها وإخراجها في كتاب ليبقى نفعها إن شاء الله، وأرجو أن يكون في ذلك الخير، وأن تكون إسهاما -ولو ضئيلا- في مجال الدعوة إلى الله سبحانه، في وقت جهلت فيه طريقة الدعوة الصحيحة، وصار كثير من الدعاة يهتمون بجوانب ضئيلة لا تسمن ولا تغني من جوع بدون العقيدة، ويتركون جانب العقيدة، وهم يرون الناس متورطين في الشرك الأكبر حول الأضرحة والمزارات، ومتورطين في البدع والخرافات، ويرون دعاة الضلال قد استحوذوا على كثير من الجهلة والعوام، وساقوهم إلى مواقع الهلاك والضلال، واتخذوهم عبيدا لهم يتصرفون بعقولهم وأموالهم ويترأسون عليهم بالباطل وباسم العلم والولاية .(5/2)
إن كثيرا من الدعاة اليوم -مع الأسف- لا يهتمون بجانب العقيدة وإصلاحها، بل ربما يقول بعضهم : اتركوا الناس على عقائدهم ! ولا تتعرضوا لها ! ! اجمعوا ولا تفرقوا ! ! لنجتمع على ما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه . . . أو نحوا من هذه العبارات التي تخالف قول الله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
إنه لا اجتماع ولا قوة إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله وترك ما خالفهما، ولا سيما في مسائل العقيدة التي هي الأساس؛ قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
المؤلف
العقيدة الإسلامية
العقيدة الإسلامية هي التي بعث الله بها رسله وأنزل كتبه وأوجبها على جميع خلقه الجن والإنس؛ كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } ، وقال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .
فكل الرسل جاءوا بالدعوة إلى هذه العقيدة، وكل الكتب الإلهية نزلت لبيانها وبيان ما يبطلها ويناقضها أو ينقصها، وكل المكلفين من الخلق أمروا بها، وإن ما كان هذا شأنه وأهميته لجدير بالعناية والبحث والتعرف عليه قبل كل شيء، خصوصا وأن هذه العقيدة تتوقف عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة .(5/3)
قال تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا } .
ومعنى ذلك : أن من أفلت يده من هذه العقيدة؛ فإنه يكون متمسكا بالأوهام والباطل؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ! { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ } ، وبالتالي يكون مصيره إلى النار وبئس القرار .
والعقيدة معناها : ما يصدقه العبد ويدين به .
فإن كانت هذه العقيدة موافقة لما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فهي عقيدة صحيحة سليمة تحصل بها النجاة من عذاب الله والسعادة في الدنيا والآخرة .
وإن كانت هذه العقيدة مخالفة لما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فهي عقيدة توجب لأصحابها العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة .
والعقيدة السليمة الصحيحة تعصم الدم والمال في الدنيا وتحرم الاعتداء عليهما وانتهاكهما بغير حق؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل ) . رواه مسلم .
وهي أيضا تنجي من عذاب الله يوم القيامة؛ فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من لقي الله لا يشرك به شيئا؛ دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا؛ دخل النار ) . وفي " الصحيحين " من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله ) .(5/4)
والعقيدة الصحيحة السليمة يكفر الله بها الخطايا؛ فقد روى الترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله تعالى يا ابن آدم ! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا؛ لأتيتك بقرابها مغفرة ) . وقراب الأرض : ملؤها أو ما يقارب ملأها . فشرط حصول هذه المغفرة سلامة العقيدة من الشرك؛ كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ومن كان كذلك؛ فهو صاحب القلب السليم الذي قال الله فيه : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في معنى حديث عتبان : " ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك؛ فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا؛ أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض؛ فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي . . . " انتهى .
والعقيدة السليمة تقبل معها الأعمال وتنفع صاحبها؛ قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وعلى العكس من ذلك؛ فالعقيدة الفاسدة تحبط جميع الأعمال؛ قال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .(5/5)
والعقيدة الفاسدة بالشرك تحرم من الجنة والمغفرة وتوجب العذاب والخلود في النار؛ قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، وقال تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } .
والعقيدة الفاسدة تهدر الدم وتبيح المال الذي يملكه صاحب تلك العقيدة، قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ، وقال تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } .
وبالتالي؛ فالعقيدة السليمة لها آثار طيبة في القلوب والسلوك الاجتماعي والنظام العمراني .(5/6)
فهناك فريقان كل منهما بنى مسجدا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فريق بنى مسجده بنية صالحة وعقيدة خالصة لله عز وجل، وفريق بنى مسجده لهدف سيئ وعقيدة فاسدة، فأمر الله نبيه أن يصلي في المسجد الذي أسس على التقوى، ونهاه أن يصلي في المسجد الذي أسس على الكفر والمقاصد السيئة؛ قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ . أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وجوب معرفة العقيدة الإسلامية
اعلموا -وفقني الله وإياكم- أنه يجب على كل مسلم أن يتعلم العقيدة الإسلامية؛ ليعرف معناها وما تقوم عليه، ثم يعرف ما يضادها ويبطلها أو ينقصها من الشرك الأكبر والأصغر :
قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } .
قال الإمام البخاري رحمه الله : " باب العلم قبل القول والعمل " ، واستشهد بهذه الآية الكريمة .
قال الحافظ ابن حجر : " قال ابن المنير : أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به؛ فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل . . . " اهـ .(5/7)
ومن هنا اتجهت همم أهل العلم إلى تعلم أحكام العقيدة وتعليمها، واعتبروا ذلك من أوليات العلم، وألفوا فيها مؤلفات خاصة؛ فصلوا فيها أحكامها وما يجب فيها، وبينوا ما يفسدها أو ينقصها من الشركيات والخرافات والبدع .
وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فليست مجرد كلمة تقال باللسان، بل لها مدلول ومعنى ومقتضى تجب معرفتها كلها والعمل بها ظاهرا وباطنا، ولها مناقضات ومنقصات، ولا يتضح ذلك إلا بالتعلم .
ولهذا يجب أن يكون لعلم العقيدة الصدارة بين المقررات المدرسية في مختلف المراحل، وأن تعطى من الحصص اليومية العدد الكافي، ويختار لها المدرسون الأكفياء، وأن يركز عليها في النجاح والرسوب، خلاف ما عليه غالب واقع الدراسات المنهجية اليوم؛ فإن علم العقيدة في الغالب لا يحظى بالاهتمام في تلك الدراسات مما يخشى من ورائه أن ينشأ جيل يجهل العقيدة الصحيحة، فيستسيغ الشركيات والبدع والخرافات، ويعتبرها من العقيدة؛ لأنه وجد الناس عليها ولم يعرف بطلانها .
ومن هنا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
هذا؛ ويجب اختيار الكتب الصحيحة السليمة، التي ألفت على مذهب السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، والمطابقة للكتاب والسنة، فتقرر على الطلاب، وتستبعد الكتب المخالفة لمنهج السلف؛ ككتب الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق الضالة عن منهح السلف .
وإلى جانب الدراسة النظامية يجب أن يكون هناك دروس تعقد في المساجد، تدرس فيها العقيدة السلفية بالدرجة الأولى، وتقرأ فيها المتون والشروح؛ ليستفيد منها الطلاب وكل من حضر، ويكون هناك مختصرات مبسطة تلقى للعامة، وبذلك تنتشر العقيدة الإسلامية، إلى جانب ما يذاع في البرامح الدينية بواسطة الإذاعة، ويكون هناك برنامح مستمر تذاع من خلاله أحكام العقيدة الإسلامية .(5/8)
ثم يجب أن يكون هناك اهتمام خاص بالعقيدة من جانب الأفراد، فيكون للمسلم مطالعات في كتب العقيدة، والتعرف على ما ألف فيها على منهح السلف، وما ألف على منهج المخالفين لهم، حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره، وحتى يستطيع رد الشبه الموجهة إلى عقيدة أهل السنة .
أيها المسلم !
إنك حينما تتأمل القرآن الكريم؛ تجد فيه كثيرا من الآيات والسور تهتم بأمر العقيدة، بل إن السور المكية تكاد تكون مختصة ببيان العقيدة الإسلامية ورد الشبهات الموجهة إليها .
خذ مثلا سورة الفاتحة !
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : " اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن : فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها، وهي الله والرب والرحمن . وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة : فـ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } : مبني على الإلهية، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم يتعلق بصفة الرحمة، والحمد يتضمن الأمور الثلاثة؛ فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثناء والحمد كمالان لجده . وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها، وتفرد الرب تبارك وتعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل، وكل هذا تحت قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } . وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة . . . " .(5/9)
ثم بينها رحمه الله بكلام مطول مفيد إلى أن قال : " قالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم؛ فـ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } : توحيد . { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } : توحيد . { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } : توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد . { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } : الذين فارقوا التوحيد " .
وقال : " غالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وتوحيده وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة وهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما فعل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد . . . " انتهى .
ومع اهتمام القرآن بشأن العقيدة الإسلامية؛ فإن أكثر الذين يقرءونه لا يفهمون العقيدة فهما صحيحا، فصاروا يخلطون ويغلطون فيها؛ لأنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، ولا يقرءون القرآن بتدبر؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله .
الدعوة إلى العقيدة الإسلامية(5/10)
يجب على المسلم بعدما يمن الله عليه بمعرفة هذه العقيدة والتمسك بها أن يدعو الناس إليها لإخراجهم بها من الظلمات إلى النور؛ كما قال تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
والدعوة إلى العقيدة الإسلامية هي فاتحة دعوة الرسل جميعا؛ فلم يكونوا يبدءون بشيء قبلها؛ كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ، وكل رسول يقول لقومه أول ما يدعوهم : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ؛ كما قالها نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وسائر الرسل عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
فيجب على كل من عرف هذه العقيدة وعمل بها ألا يقتصر على نفسه، بل يدعو الناس إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم، وإن الدعوة إلى هذه العقيدة هو الأساس والمنطلق؛ فلا يدعى إلى شيء قبلها من فعل الواجبات وترك المحرمات، حتى تقوم هذه العقيدة وتتحقق؛ لأنها هي الأساس المصحح لجميع الأعمال، وبدونها لا تصح الأعمال ولا تقبل ولا يثاب عليها، ومن المعلوم بداهة أن أي بناء لا يقوم ولا يستقيم إلا بعد إقامة أساسه .
ولهذا كان الرسل يهتمون بها قبل كل شيء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يبعث الدعاة يوصيهم بالبداءة بالدعوة إلى تصحيح العقيدة :(5/11)
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما بعث معاذا إلى اليمن؛ قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية : " إلى أن يوحدوا الله " -؛ فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) . رواه البخاري ومسلم .
فمن هذا الحديث الشريف، ومن استقراء دعوة الرسل في القرآن، ومن استقراء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يؤخذ منهج الدعوة إلى الله، وأن أول ما يدعى الناس إليه هو العقيدة المتمثلة بعبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه؛ كما هو معنى لا إله إلا الله .
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعث يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام قبل أن يأمر الناس بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وترك المحرمات من الربا والزنى والخمر والميسر .(5/12)
وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على خطأ بعض الجماعات المعاصرة التي تنتمي للدعوة، وهي لا تهتم بالعقيدة، وإنما تركز على أمور جانبية أخلاقية وسلوكية، وهي ترى كثيرا من الناس يمارسون الشرك الأكبر حول الأضرحة المبنية على القبور في بعض ديار الإسلام، ولا تنكر ذلك، ولا تنهى عنه، لا في كلمة، ولا في محاضرة، ولا في مؤلف؛ إلا قليلا، بل قد يكون بين صفوف تلك الجماعات من يمارس الشرك والتصوف المنحرف، ولا ينهونه، ولا ينبهونه، مع أن البداءة بدعوة هؤلاء وإصلاح عقيدتهم أولى من دعوة الملاحدة والكفار المصرحين بكفرهم؛ لأن الكفار والملاحدة مصرحون بكفرهم ومقرون أن ما هم عليه مخالف لما جاءت به الرسل، أما أولئك القبوريون والمتصوفة المنحرفون؛ فيظنون أنهم مسلمون، وأن ما هم عليه هو الإسلام، فيغترون ويغرون غيرهم، والله جل وعلا أمرنا بالبداءة بالكفار الأقربين، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ؛ فما لم تصف صفوف المسلمين من الدخيل؛ فإنهم لن يستطيعوا الصمود في وجه عدوهم، ويحكى أن قبوريا رأى رجلا يعبد صنما أمامه، فأنكر عليه القبوري، فقال له عابد الصنم : أنت تعبد مخلوقا غائبا عنك، وأنا أعبد مخلوقا ماثلا أمامي؛ فأينا أعجب ؟ ! فانخصم القبوري . هذا وإن كان كل منهما مشركا ضالا؛ لأنه يعبد ما لا يملك ضرا ولا نفعا، إلا أن القبوري أغرق في الضلال وأبلغ في طلب المحال . فيجب على الدعاة إلى الله أن يركزوا على جانب العقيدة أكثر من غيرها، ويقبلوا على دراستها وتفهمها أولا، ثم يعلموها لغيرهم، ويدعوا إليها من انحرف عنها أو أخل بها .(5/13)
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : " يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد هذه : الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته . سبيلي وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله : تعالى وحده لا شريك له . على بصيرة بذلك ويقين علم مني أنا ومن اتبعني؛ أي : ويدعو إليه على بصيرة أيضا من تبعني وصدقني وآمن بي . وسبحان الله يقول له تعالى ذكره وقل تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه وما أنا من المشركين : يقول : وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني " . انتهى كلام ابن جرير .
فالآية الكريمة تدل على أهمية معرفة العقيدة الإسلامية والدعوة إليها، وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم من اقتدى به في ذلك واتصف بالصفتين . العلم بالعقيدة، والدعوة إليها، وأن من لم يتعلم أحكام العقيدة ويهتم بها ويدعو إليها؛ فليس من أتباع الرسول على الحقيقة، وإن كان من أتباعه على سبيل الانتساب والدعوى .(5/14)
وقال ابن القيم رحمه الله في معنى قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } : " ذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو؛ فإنه : إما أن يكون طالبا للحق مؤثرا له على غيره إذا عرفه؛ فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال . وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق، لكن لو عرفه؛ آثره واتبعه؛ فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب . وإما أن يكون معاندا معارضا؛ فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ فإن رجع، وإلا، انتقل معه إلى غير الجدال إن أمكن . . . " انتهى كلام ابن القيم .
وبهذا تبين منهج الدعوة وما ينبغي فيها، وتبين خطأ ما تنتهجه بعض الجماعات المنتمية إلى الدعوة، وهي تخالف المنهاج السليم الذي بينه الله ورسوله .(5/15)
أصول العقيدة الإسلامية
وهي ستة أصول :
- الإيمان بالله عز وجل
- الإيمان بالملائكة
- الإيمان بالكتب
- الإيمان بالرسل
- الإيمان باليوم الآخر
- الإيمان بالقضاء والقدر
تمهيد
اعلم أيها المسلم -وفقني الله وإياك- أن أصول العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة هي : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره .
وهذه الأصول دلت عليها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة وأجمعت عليها الأمة .
قال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } .
وقال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
وقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } .
وقال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتومن بالقدر خيره وشره ) .(6/1)
وهذه الأصول العظيمة -وتسمى أركان الإيمان- قد اتفقت عليها الرسل والشرائع، ونزلت بها الكتب السماوية، ولم يجحدها أو شيئا منها إلا من خرج عن دائرة الإيمان وصار من الكافرين؛ كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
وهذه الأصول العظيمة والأركان القويمة تحتاج إلى شرح وبيان، وهو ما سنحاول إن شاء الله تقديم ما نستطيع منه في هذا الكتاب .(6/2)
الأصل الأول : الإيمان بالله عز وجل
وهو أساسها وأصلها، وهو يعني الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، المدبر للكون كله، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه؛ فهو باطل وعبادته باطلة، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن كل نقص وعيب .
وهذا هو التوحيد بأنواعه الثلاثة : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات .
أولا : توحيد الربوبية
فأما توحيد الربوبية؛ فإنه الإقرار بأن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو المدبر، المحيي، المميت، وهو الرزاق، ذو القوة المتين .
والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من الأمم :
كما قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } .
وقال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } .
وقال تعالى : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } .
وهذا في القرآن كثير؛ يذكر الله عن المشركين أنهم يعترفون لله بالربوبية والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة .(7/1)
ولم ينكر توحيد الربويية ويجحد الرب إلا شواذ من المجموعة البشربة، تظاهروا بإنكار الرب مع اعترافهم به في باطن أنفسهم وقرارة قلوبهم، وإنكارهم له إنما هو من باب المكابرة؛ كما ذكر الله عن فرعون أنه قال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ، وقد خاطبه موسى عليه السلام بقوله : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } ، وقال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } .
وهم لم يستندوا في جحودهم إلى حجة، وإنما ذلك مكابرة منهم؛ كما قال تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } ؛ فهم لم ينكروا عن علم دلهم على إنكاره ولا سمع ولا عقل ولا فطرة .
ولما كان هذا الكون وما يجري فيه من الحوادث شاهدا على وحدانية الله وربوبيته؛ إذ المخلوق لا بد له من خالق، والحوادث لا بد لها من محدث؛ كما قال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } ، وقال الشاعر :
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد
لما كان لا بد من جواب على هذه الحقيقة، اضطرب هؤلاء المنكرون لوجود الخالق في أجوبتهم : فتارة يقولون : هذا العالم وجد نتيجه للطبيعة، التي هي عبارة عن ذات الأشياء من النبات والحيوان والجمادات؛ فهذه الكائنات عندهم هي الطبيعة، وهي التي أوجدت نفسها ! ! أو يقولون : هي عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وملاسة وخشونة، وهذه القابليات من حركة وسكون ونمو وتزاوج وتوالد؛ هذه الصفات وهذه القابليات هي الطبيعة بزعمهم، وهي التي أوجدت الأشياء ! !(7/2)
وهذا قول باطل على كلا الاعتبارين؛ لأن الطبيعة بالاعتبار الأول على حد قولهم تكون خالقة ومخلوقة؛ فالأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء . . . وهكذا ! وهذا مستحيل ! وإذا كان صدور الخلق عن الطبيعة بهذا الاعتبار مستحيلا؛ فاستحالته بالاعتبار الثاني أشد استحالة؛ لأنه إذا عجزت ذات الشيء عن خلقه؛ فعجز صفته من باب أولى؛ لأن وجود الصفة مرتبط بالموصوف الذي تقوم به، فكيف تخلقه وهي مفتقرة إليه ؟ ! وإذ ثبت بالبرهان حدوث الموصوف؛ لزم حدوث الصفة . وأيضا؛ قالطبيعة لا شعور لها؛ فهي آلة محضة؛ فكيف تصدر عنها الأفعال العظيمة التي هي في غاية الإبداع والإتقان، وفي نهاية الحكمة، وفي غاية الارتباط .
ومن هؤلاء الملاحدة من يقول : إن هذه الكائنات تنشأ عن طريق المصادفة بمعنى أن تجميع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة يؤدي إلى ظهور الحياة بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة ! ! وهذا قول باطل ترده العقول والفطر؛ فإنك إذا نظرت إلى هذا الكون المنظم بأفلاكه وأرضه وسمائه وسير المخلوقات فيه بهذه الدقة والتنظيم العجيب؛ تبين لك أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم .(7/3)
قال ابن القيم : " فسل المعطل الجاحد : ماذا تقول في دولاب دائر على نهر، وقد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة، فيها من كل أنواع الثمار والزروع، يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على أحسن المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام، أترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر، بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر ؟ ! أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان ؟ ! وما الذي يفتيك به ؟ ! وما الذي يرشدك إليه ؟ ! ولكن من حكمة العزيز الحكيم أن خلق قلوبا عميا لا بصائر لها فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية كما خلق أعينا لا أبصار لها " . انتهى كلامه رحمه الله .
ثانيا : توحيد الألوهية
توحيد الألوهية هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة .
فالألوهية معناها العبادة، والإله معناه المعبود، ولهذا يسمى هذا النوع من التوحيد توحيد العبادة .
والعبادة في اللغة : الذل، يقال : طريق معبد : إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام .
وأما معنى العبادة شرعا؛ فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك مع اتفاقهم على المعنى :
فعرفها طائفة منهم بأنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي .
وعرفها بعضهم : بأنها كمال الحب مع كمال (1)
الخضوع .
وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .(7/4)
وهذا التعريف أدق وأشمل؛ فالدين كله داخل في العبادة، ومن عرفها بالحب مع الخضوع؛ فلأن الحب التام مع الذل التام يتضمنان طاعة المحبوب والانقياد له؛ فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه وذله له تكون طاعته؛ فمحبة العبد لربه وذله له يتضمنان عبادته له وحده لا شريك له .
فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، وهي تتضمن ثلاثة أركان هي : المحبة والرجاء والخوف، ولا بد من اجتماعها؛ فمن تعلق بواحد منها فقط؛ لم يكن عابدا لله تمام العبادة؛ فعبادة الله بالحب فقط هي طريقة الصوفية، وعبادته بالرجاء وحده طريقة المرجئة، وعبادته بالخوف فقط طريقة الخوارج .
والمحبة المنفردة عن الخضوع لا تكون عبادة؛ فمن أحب شيئا ولم يخضع له؛ لم يكن عابدا؛ كما يحب الإنسان ولده وصديقه، كما أن الخضوع المنفرد عن المحبة لا يكون عبادة؛ كمن يخضع لسلطان أو ظالم اتقاء لشره . ولهذا لا يكفي أحدهما عن الآخر في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء .(7/5)
والعبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، وهي التي خلق الخلق من أجلها؛ كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ، وبها أرسل جميع الرسل؛ كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . والعبادة لها أنواع كثيرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الحيوان والأيتام والمساكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقرآن؛ كل ذلك من العبادة، وكذلك حب الله وحب رسوله، وخشية الله والإنابة إليه؛ كل ذلك من العبادة، وكذلك الذبح والنذر والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة .
فيجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب أو بحي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو لشجر أو لحجر أو لنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء حي أو ميت؛ كما يفعل اليوم عند الأضرحة المبنية على القبور؛ فإن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي ولا غيرهم : قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } ، وقال تعالى : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } ، وقال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } .(7/6)
ومع الأسف الشديد؛ فقد اتخذت القبور اليوم في بعض البلاد أوثانا تعبد من دون الله ممن يدعون الإسلام . . . وقد يدعو أحدهم غير الله في أي مكان، ولو لم يكن عند قبر؛ كمن يقول : يا رسول الله ! عند قيامه أو مفاجأته بشيء غريب ! ! أو يقول : المدد يا رسول الله ! أو : يا فلان . . . وإذا نهوا عن ذلك؛ قالوا : نحن نعلم أن هؤلاء ليس لهم من الأمر شيء، ولكن هؤلاء أناس صالحون، لهم جاه عند الله، ونحن نطلب بجاههم وشفاعتهم ! ! ونسي هؤلاء أو تناسوا- وهم يقرءون القرآن- أن هذا بعينه قول المشركين؛ كما ذكره الله في القرآن في قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، وقوله تعالى : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } ، فسماهم كفارا كذبة، وهم يعتقدون أن هؤلاء الأولياء مجرد وسائط بينهم وبين الله في قضاء حوائجهم، وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم، { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } .
فالواجب على علماء الإسلام أن ينكروا هذا الشرك الشنيع ويبينوه للناس، والواجب على حكام المسلمين هدم هذه الأوثان وتطهير المساجد منها .(7/7)
وقد أنكر كثير من الأئمة المصلحين هذا الشرك ونهوا عنه وحذروا وأنذروا، ومن هؤلاء : شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، والشيخ محمد بن علي الشوكاني . . . وكثير من الأئمة قديما وحديثا، وهذه مؤلفاتهم بين أيدينا .
وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني في " نيل الأوطار " : " وكم سرى من تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة كاعتقاد الكفار للأصنام وأعظم من ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة : إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالما ولا متعلما ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا ! !
ولقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه؛ حلف بالله فاجرا، وإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني؛ تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق ! ! وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة .
فيا علماء الدين ! ويا ملوك المسلمين !
أي رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ ! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟ ! وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة ؟ ! وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا ؟ !
لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ** ولكن أنت تنفخ فى رماد
انتهى كلام الشوكاني رحمه الله .(7/8)
وقد زاد البلاء بعده وصار أشد مما وصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
علاقة توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية والعكس
وعلاقة أحد النوعين بالآخر أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الإلهية والقيام به .
فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره؛ وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له .
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الألوهية؛ فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا؛ فلا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه وخالقه؛ كما قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } .
والألوهية والربوبية : تارة يذكران معا فيفترقان في المعنى ويكون أحدهما قسيما للآخر؛ كما في قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ } ؛ فيكون معنى الرب : هو المالك المتصرف في الخلق، ويكون معنى الإله : أنه المعبود بحق المستحق للعبادة وحده . وتارة يذكر أحدهما مفردا عن الآخر، فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر : من ربك ؟ ومعناه : من إلهك وخالقك ؟ وكما في قوله تعالى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } ، وقوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } ؛ فالربوبية في هذه الآيات هي الإلهية .(7/9)
والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من الخليقة؛ أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به إبليس : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } . . . ، وأقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما دلت على ذلك الآيات البينات؛ كما قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }
فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلما، ولم يحرم دمه ولا ماله، حتى يقر بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله .
وبهذا يتبين بطلان ما يزعمه علماء الكلام والصوفية من أن التوحيد المطلوب من العباد هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر، ومن أقر بذلك؛ صار عندهم مسلما، ولهذا يعرفون التوحيد في الكتب التي ألفوها في العقائد بما ينطبق على توحيد الربوبية فقط؛ حيث يقولون مثلا : التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأنه الخالق الرازق . . . إلخ ! ! ثم يوردون أدلة توحيد الربوبية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له . وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها . . . ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا : لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الألوهية القدرة على الاختراع ! ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولا لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا، وهم مع هذا مشركون . . . " .(7/10)
هذا كلام الشيخ رحمه الله، وهو واضح في الرد على من اعتقد أن التوحيد المطلوب من الخلق هو الإقرار بتوحيد الربوبية، ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ؛ فالرسل لم يقولوا لأممهم : أقروا أن الله هو الخالق ! لأنهم مقرون بهذا، وإنما قالوا لهم : { اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا : " التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله إلا الله لا يعبد إلا إياه . . . " .
إلى أن قال : " وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هولاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل؛ فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه؛ فقد فنوا في غاية التوحيد .
فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء؛ لم يكن موحدا، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو المألوه الذي يستحق العبادة، وليس الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد؛ كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه؛ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين .(7/11)
قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } ؛ قال طائفة من السلف : تسألهم من خلق السماوات والأرض ؟ فيقولون : الله، وهم مع هذا يعبدون غيره .
قال تعالى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } .
فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله . . .
وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا . . . " .
إلى أن قال رحمه الله : " ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها، ثم يقول : إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة؛ لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك . . . " انتهى كلامه .
قلت : وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم؛ يتقربون إليها بأنواع العبادة، ويقولون : هذا ليس بشرك؛ لأننا لا نعتقد فيها أنها تخلق وتدبر، وإنما جعلناها وسائط نتوسل بأصحابها . . .
أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية(7/12)
لما كان توحيد الربوبية قد أقر به الناس بموجب فطرهم ونظرهم في الكون، وكان الإقرار به وحده لا يكفي للإيمان بالله ولا ينجي صاحبه من العذاب، ركزت دعوات الرسل على توحيد الإلهية، خصوصا دعوة خاتم الرسل نبينا محمد عليه وعليهم أفضل السلام، فكان يطالب الناس بقول : لا إله إلا الله، المتضمنة لعبادة الله، وترك عبادة ما سواه، فكانوا ينفرون منه ويقولون : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } .
وحاولوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك هذه الدعوة ويخلي بينهم وبين عبادة الأصنام، وبذلوا في ذلك معه كل الوسائل؛ بالترغيب تارة وبالترهيب تارة، وهو عليه الصلاة والسلام يقول : " والله، لو وضعوا الشمس بيميني، والقمر بشمالي، على أن أترك هذا الأمر؛ لا أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه " .
وكانت آيات الله تتنزل عليه بالدعوة إلى هذا التوحيد، والرد على شبهات المشركين، وإقامة البراهين على بطلان ما هم عليه .
وقد تنوعت أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية، وها نحن نذكر جملة منها؛ فمن ذلك :
1- أمره سبحانه بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ كما في قوله تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } ، وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . . . إلى قوله : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
2- ومنها إخباره سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته؛ كما في قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
3- ومنها إخباره أنه أرسل جميع الرسل بالدعوة إلى عبادته والنهي عن عبادة ما سواه؛ كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .(7/13)
4- ومنها الاستدلال على توحيد الإلهية بانفراده بالربوبية والخلق والتدبير؛ كما في قوله سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، وقوله : { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } ، وقوله : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } .
5- ومنها الاستدلال على وجوب عبادته سبحانه بانفراده بصفات الكمال وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين؛ كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ، وقوله : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } ، وقوله عن خليله إبراهيم : إنه قال لأبيه : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } ، وقوله : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } ، وقوله : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } .(7/14)
6- ومنها تعجيزه لآلهة المشركين؛ كقوله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ، وقوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } ، وقوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ } ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } .
7- ومنها تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله؛ كقوله تعالى : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } .(7/15)
8- ومنها بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبودات في أحرج المواقف؛ كما في قوله تعالى : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } ، وقوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ، وقوله : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ، وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } ، وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } .(7/16)
9- ومنها رده سبحانه على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له سبحانه؛ لا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، بعد رضاه عن المشفوع له؛ قال سبحانه : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ، وقوله سبحانه : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } ، وقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } ؛ فبين سبحانه في هذه الآيات أن الشفاعة ملكه وحده، لا تطلب إلا منه، ولا تحصل إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له .
10- ومنها أنه بين سبحانه أن هؤلاء المعبودين من دونه لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه، ومن هذا شأنه لا يصلح للعبادة، كما في قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } .(7/17)
11- ومنها أنه سبحانه ضرب أمثلة كثيرة في القرآن يتضح بها بطلان الشرك، من ذلك قوله سبحانه : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } ؛ شبه سبحانه التوحيد في علوه وارتفاعه وسعته وشرفه بالسماء، وشبه تارك التوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين؛ لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر، وشبه الشياطين التي تقلقه بالطير التي تمزق أعضاءه، وشبه هواه الذي يبعده عن الحق بالريح التي ترمي به في مكان بعيد . هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة في القرآن ذكرها الله سبحانه لبيان بطلان الشرك وخسارة المشرك في الدنيا والآخرة .
وما سقناه في هذا الدرس من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية وإبطال الشرك قليل من كثير، وما على المسلم إلا أن يقرأ القرآن بتدبر ليجد الخير الكثير والأدلة المقنعة والبراهين الساطعة التي ترسخ عقيدة التوحيد في قلب المؤمن وتقتلع منه كل شبهة .
حدوث الشرك في توحيد الألوهية
مطلوب من المسلم بعدما يعرف الحق أن يعرف ما يضاده من الباطل ليجتنبه، كما يقال :
عرفت الشر لا للشـ ** ـر لكن لتوقيه
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه " .
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
وقبل ذلك قال الخليل عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } .(7/18)
فهذا مما يوجب شدة الخوف من الشرك ومعرفته ليجتنبه المسلم . فالشرك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله . والتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة . وهو أصيل في بني آدم، والشرك طارئ عليه؛ قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " كان بين آدم ونوح عشرة قرون؛ كلهم على الإسلام " .
قال ابن القيم رحمه الله : " هذا القول هو الصحيح في الآية " .
وصحح هذا القول أيضا ابن كثير .
وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح حين غلوا في الصالحين : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } .
قال البخاري في " صحيحه " عن ابن عباس رضي الله عنهما : " هذه أسماء رجال صالحون من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت " .
قال ابن القيم : " قال غير واحد من السلف : لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم " .
ومن هذا الأثر الذي رواه البخاري عن ابن عباس في غلو قوم نوح في الصالحين وتصويرهم إياهم والاحتفاظ بصورهم ونصبها على المجالس منه ندرك خطورة التصوير وخطورة تعليق الصور على الجدران وخطورة نصب التماثيل في الميادين والشوارع، وأن ذلك يئول بالناس إلى الشرك، بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل المنصوبة، فيؤدي ذلك إلى عبادتها؛ كما حدث في قوم نوح .(7/19)
ولهذا جاء الإسلام بتحريم التصوير ولعن المصورين وتوعدهم بأشد الوعيد، وأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ سدا لذريعة الشرك، وابتعادا عن مضاهاة خلق الله عز وجل .
وندرك من هذه القصة مدى حرص الشيطان لعنه الله على إغواء بني آدم، ومكره بهم، وأنه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف ودعوى الترغيب في الخير؛ فإنه لما رأى في قوم نوح ولوعهم بالصالحين ومحبتهم لهم؛ دعاهم إلى الغلو في هذه المحبة؛ بحيث أمرهم بنصب الصور التذكارية لهم، وهدفه من ذلك التدرج بهم في إخراجهم من الحق إلى الضلال، ولم يقصر نظره على الحاضرين، بل امتد إلى أجيالهم اللاحقة الذين قل فيهم العلم وفشا فيهم الجهل، فزين لهم عبادة هذه الصور، وأوقعهم في الشرك الأكبر، وكابروا نبيهم بقولهم : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " وقد تلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام بكل قوم على قدر عقولهم :
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا؛ كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين . وأما خواصهم؛ فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنة وحجابا وقربانا، ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا، وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه . وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي . وطائفة تعبد النار، وهم المجوس . وطائفة تعبد الماء . وطائفة تعبد الحيوانات؛ فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر . وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات . وطائفة تعبد الجن . وطائفة تعبد الشجر . وطائفة تعبد الملائكة . . . " . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .(7/20)
وبه تعرف معنى قوله تعالى : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } .
وقوله تعالى : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وقوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } . هؤلاء المشركون لما تركوا عبادة الله وحده لا شريك له- وهي التي خلقوا من أجلها وبها سعادتهم-؛ ابتلوا بعبادة الشياطين، وتفرقت بهم الأهواء والشهوات؛ كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
هربوا من الرق الذي خلقوا له ** فبلوا برق النفس والشيطان
فلا اجتماع للقلوب ولا صلاح للعالم إلا بالتوحيد؛ كما قال تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } .
ولذلك إذا خلت الأرض من التوحيد؛ قامت القيامة؛ كما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله ) .
ومثل تفرق المشركين الأولين في عباداتهم ومعبوداتهم تفرق القبوريين اليوم في عبادة القبور؛ فكل منهم له ضريح خاص يتقرب إليه بأنواع العبادة، وكل طريقة من الطرق الصوفية لها شيخ اتخذه مريدوه ربا من دون الله يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله .(7/21)
وهكذا تلاعب الشياطين ببني آدم، ولا نجاة من شره ومكره إلا بتوحيد الله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله .
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه؛ إنه هو مولانا؛ فنعم المولى ونعم النصير .
خطر الشرك ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه
الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا مغفرة لمن لم يتب منه، مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وذلك يوجب للعبد شدة الحذر وشدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه، ويحمله على معرفته لتوقيه، لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم :
قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، وذلك لأنه تنقص لله عز وجل، ومساواة لغيره به؛ كما قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
وقال تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ لأن الشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر من كل وجه بالله عز وجل؛ فقد شبه المخلوق بالخالق، وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات عن جميع المخلوقات .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، وسد كل الطرق التي تفضي إليه؛ فقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وحالة العرب بل وحالة أهل الأرض كلهم إلا بقايا من أهل الكتاب كانت على أسوإ حالة، كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } .(7/22)
لقد كانت الخليقة في هذه الفترة بين وثنية حائرة تتخذ آلهتها من حجارة منحوتة وأصنام منصوبة تعكف عندها وتطوف حولها وتقرب لها الذبائح من أنفس أموالها بل وحتى أولادها؛ كما قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } . . .
وفريق آخر أهل الكتاب : إما نصرانية حائرة ضلت عن سواء السبيل فجعلت الآلهة ثلاثة، واتخذت من أحبارها وقديسيها أربابا من دون الله . . . وإما يهودية مدمرة عاثت في الأرض فسادا، وأشعلت نار الفتن، ونقضت عهد الله وميثاقه، وتلاعبت بنصوص كتابها حتى حرفتها عن مواضعها .
وفريق ثالث هم المجوس الذين يعبدون النيران، ويتخذون إلهين أحدهما خالق للخير والثاني خالق للشر بزعمهم .
وفريق رابع وهم الصابئون الذين يعبدون الكواكب والنجوم ويعتقدون تأثيرها في الأرض .
وفريق خامس هم الدهرية الذين لا يدينون بدين ولا يؤمنون ببعث ولا حساب .
هكذا كانت حالة أهل الأرض عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ جهالة جهلاء وضلالة عمياء، فأنقذ الله به من قبل دعوته واستجاب له من الظلمات إلى النور، وأعاد الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهدم الأوثان، ونهى عن الشرك، وسد كل الوسائل الموصلة إليه .
وإليك بيان الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تفضي إلى الشرك :
1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل : ما شاء الله وشئت، لولا الله وأنت . . . وأمر بأن يقال بدل ذلك : ما شاء الله ثم شئت؛ لأن الواو تقتضي التسوية، وثم تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر .
2- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتجصيصها والكتابة عليها .(7/23)
3- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها .
4- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات .
5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة : المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى .
6- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله ) . والإطراء : هو المبالغة في المدح .
7- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر- إذا كان في مكان يعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية- .
كل هذا حذر منه صيانة للتوحيد، وحفاظا عليه، وسدا للوسائل والذرائع التي تفضي إليه .
ومع هذا البيان التام من النبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط الشديد الذي يبعد الأمة عن الشرك خالف القبوريون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا أمره وارتكبوا ما نهاهم عنه؛ فشيدوا القباب على القبور، وبنوا عليها المساجد، وزينوها بأنواع الزخارف، وصرفوا لها أنواعا من العبادة من دون الله .
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : " ومن جمع بين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم؛ رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا .
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها .
ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله .
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها .
ونهى أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر .(7/24)
وأمر بتسويتها؛ كما روى مسلم في " صحيحه " عن أبي الهياج الأسدي؛ قال : ( قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ؟ ) وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب .
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه؛ كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها؛ كما روى أبو داود في " سننه " عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها ) . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره .
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه . وهؤلاء يزيدون عليها الآجر والجص والأحجار . قال إبراهيم النخعي : " كانوا يكرهون الآجر على قبورهم " .
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذين لها أعيادا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادون لما جاء به .
وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر . . . " .
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله في وصف ما أحدثه عباد القبور في زمانه، وقد زاد الأمر بعده وتطور إلى أشد وأشنع، واعتبر من ينكر ذلك شاذا متشددا متنقصا لحق الأولياء . . .
ومن العجب أنهم يغارون لتنقص حق الأولياء؛ حيث اعتبروا ترك عبادتهم تنقصا لهم، ولا يغارون لتنقص حق الله بالشرك الأكبر، ولا يغارون لتنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة سنته، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(7/25)
8- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم : لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق سبحانه وتعالى .
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله ) . رواه البخاري ومسلم . والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي : لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام حتى ادعوا فيه الألوهية . " إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله " ؛ أي : صفوني بذلك ولا تزيدوا عليه؛ فقولوا : عبد الله ورسوله، كما وصفني ربي بذلك؛ كما في قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } ، وقوله : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } ، وقوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } ، وقوله : { يا أيها الرسول } ، وقوله : { يا أيها النبي } .
فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، فعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وشابهوا النصارى في غلوهم وشركهم، وجرى منهم من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم بما هو صريح الشرك في نثرهم وشعرهم، كقول البوصيري في " البردة " يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من الأبيات التي مضمونها توجيه الدعاء والعياذ واللياذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب تفريج الكربات منه في أضيق الحالات وأشد الصعوبات، ونسي الله عز وجل ! !(7/26)
وذلك أن الشيطان زين لهذا الناظم ولأمثاله سوء عملهم، فأظهر لهم هذا الغلو في مدحه -وإن كان شركا أكبر- في قالب حبه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وأظهر لهم التزام السنة في عدم الغلو به صلى الله عليه وسلم في قالب بغضه وتنقصه .
وفي الحقيقة إن ارتكاب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الإفراط في مدحه وترك متابعته في أقواله وأفعاله وعدم الرضى بحكمه هو التنقص الحقيقي له صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل تعظيمه ولا تتحقق محبته إلا باتباعه ونصرة دينه وسنته .
وقد جاء في حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه؛ قال : ( انطلقت مع وفد بني عامر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلنا أنت سيدنا وابن سيدنا فقال : " السيد الله تبارك وتعالى " فقلنا : وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال : قولوا بقولكم -أو بعض قولكم-، ولا يستجرينكم الشيطان ) . رواه أبو داود بسند جيد . ففي هذا الحديث منع صلى الله عليه وسلم هؤلاء أن يقولوا له : أنت سيدنا، وقال : " السيد الله تبارك وتعالى " ، ونهاهم أن يقولوا : وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا ! وذلك لأنه خشي عليهم الغلو، وكره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو، وقال : " لا يستجرينكم الشيطان " ؛ أي : يتخذكم جريا له، والجري الرسول والوكيل، فبين بهذا أن مواجهة المادح للممدوح بالمدح ولو بما فيه أنه من عمل الشيطان؛ لأن ذلك يسبب تعاظم الممدوح، وذلك مما ينافي كمال التوحيد؛ كما أنه قد يسبب غلو المادح حتى ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه، والإطراء هو الزيادة في المدح حتى يفضي ذلك إلى الشرك به ووصفه بأوصاف الربوبية؛ كما حصل في كثير من المدائح النبوية التي نظمها بعض الغالين؛ كصاحب " البردة " وغيره، مما جرهم إلى الشرك الأكبر؛ كقول صاحب " البردة " :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله :(7/27)
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية؛ صار يكره أن يمدح؛ صيانة لمقام العبودية، وحماية للعقيدة، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك؛ نصحا لها، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله، ومن ذلك نهيه لهؤلاء أن يقولوا له : أنت سيدنا، والسيد مأخوذ من السؤدد .
قال ابن الأثير في " النهاية " : " والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم " ، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " السيد الله " ؛ يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له، والسيد إذا أطلق على الله تعالى، فهو بمعنى المالك والمولى والرب . قال ابن عباس : " الله الصمد " ، أي : السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد " .
قال ابن الأثير رحمه الله : " فيه أنه جاء رجل من قريش، فقال : أنت سيد قريش ! فقال : " السيد الله " ؛ أي : هو الذي تحق له السيادة، كأنه كره أن يحمد في وجهه وأحب التواضع . وحديث : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) : قاله إخبارا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما لأمته؛ ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله : " ولا فخر " ؛ أي : إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، ولم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي؛ فليس لي أن أفتخر بها . . . " اهـ .(7/28)
فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كما أخبر بذلك، لكن لما واجهه هؤلاء بهذا اللفظ؛ نهاهم عنه؛ خوفا من الغلو الذي يفضي بهم إلى الشرك . ومما يوضح هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ( أن ناسا قالوا يا خيرنا وابن خيرنا ! وسيدنا وابن سيدنا ! فقال يا أيها الناس ! قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ) . رواه النسائي بسند جيد .
ففي هذا الحديث ما يبين أنه نهاهم أن يقولوا يا سيدنا خشية عليهم من الغلو في حقه، فسد هذا الطريق من أساسه، وأرشدهم أن يصفوه بصفتين هما أعلى مراتب العبودية، وقد وصفه الله بهما في مواضع من كتابه، وهما قوله : عبد الله ورسوله، ولم يحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل حماية للتوحيد .
وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم :
كقوله : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله ) .
وقوله : ( إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل ) .
ونهى عن التمادح وشدد فيه؛ كقوله لمن مدح إنسانا : ( ويلك ! قطعت عنق صاحبك ) . وقال : ( إذا لقيتم المداحين؛ فاحثوا في وجوههم التراب ) . وذلك لما يخاف على المادح من الغلو، وعلى الممدوح من الإعجاب، وكلاهما يؤثران على العقيدة .
بقي أن يقال : هل يجوز أن يقال للمخلوق : سيد ؟
قال العلامة ابن القيم : " اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : يا سيدنا ! قال : ( السيد الله تبارك وتعالى ) . وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم ) ، وهذا أصح من الحديث الأول . . . " انتهى .(7/29)
قال الشارح : " وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : " قوموا إلى سيدكم " ؛ فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل " . انتهى .
وكأنه يقصد بالتفصيل أنه لا يجوز أن يواجه الإنسان ويقال له : يا سيد ! من باب المدح، ويجوز أن يقال هذا في حقه إذا كان غائبا وكان ممن يستحق هذا الوصف جمعا بين الأدلة . والله أعلم .
9- الغلو في الصالحين : إذا كان الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم ممنوعا؛ فالغلو في حق غيره من الصالحين من باب أولى .
والمراد بالغلو في الصالحين : رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز إلا لله؛ من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم، والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المدد منهم .
وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، فيجب الحذر من ذلك، وإن كان القصد حسنا .
وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما أوقع به قوم نوح؛ فما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف على قبور الصالحين يعتبر محبة لهم، وأن الدعاء عند قبورهم يستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء والتوسل بها، فإذا ألفوا ذلك، نقلهم منه إلى دعاء المقبورين وعبادتهم وسؤالهم الشفاعة من دون الله عز وجل، فتصبح قبورهم أوثانا تعلق عليها القناديل وتسدل عليها الستور ويطاف بها وتستلم وتقبل، فإذا ألفوا ذلك؛ نقلهم إلى أن يدعوا الناس إلى عبادة هذه القبور واتخاذها أعيادا ومناسك، فإذا ألفوا ذلك وتقرر عندهم، نقلهم إلى اعتقاد أن من نهى عنه فقد تنقص الأولياء وأبغضهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر لهم .(7/30)
وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم؛ فعلوا ذلك كله تحت ستار حب الصالحين وتعظيمهم، وقد كذبوا في ذلك؛ لأن محبة الصالحين على الحقيقة تكون على وفق الكتاب والسنة، وذلك بمعرفة فضلهم والاقتداء بهم في الأعمال الصالحة من غير إفراط ولا تفريط : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول : يا سيدي فلان ! انصرني، أو : أغثني، أو : ارزقني، أو : أنا في حسبك . . . ونحو هذه من الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه؛ قإن تاب، وإلا؛ قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله إلها آخر مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم ويقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله سبحانه رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة . . . " انتهى كلام الشيخ رحمه الله، وبه يتضح كشف شبهة هؤلاء القبوريين، الذين يبررون فعلهم هذا بأنهم لا يعتقدون في الأولياء مشاركة الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يعتقدون فيهم أنهم وسائط بينهم وبين الله في قضاء حاجاتهم وتفريج كربتهم، وهي نفس الشبهة التي قالها مشركو الجاهلية؛ كما ذكرها الله في كتابه وأبطلها .(7/31)
والواقع أن شرك هؤلاء المتأخرين زاد على شرك الجاهلية، فصاروا يهتفون بأسماء هؤلاء الأموات في كل مناسبة، ولا يذكرون اسم الله إلا قليلا، وإنما يجري على ألسنتهم اسم الولي دائما، والأولون كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم دائم في الرخاء والشدة؛ كما قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله :
وكم هتفوا عند الشدائد باسمها ** كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
فيا علماء المسلمين ! أنتم المسئولون عن هذه القطعان الضائعة والتائهة في الضلال . . .
لماذا لا تبينون لهم طريق الحق وتنهونهم عن هذا الشرك العظيم وأنتم تسكنون معهم وتخالطونهم ؟ !
لماذا ضيعتم ما أوجب الله عليكم من الدعوة والبيان بقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } ؟ !
أليس العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء جاءوا بإنكار هذا الشرك وجهاد أهله حتى يكون الدين كله لله ؟ !
فاتقوا الله الذي حملكم هذه المسئولية وسيسألكم عنها؛ فقد ورد في الحديث الصحيح أن العالم الذي لا يعمل بعلمه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة .
إن كنتم ترون هذا شركا وتركتم الناس عليه؛ فهذا أمر خطير، وإن كنتم لا ترونه شركا؛ قالأمر أشد خطرا؛ لأنكم جهلتم ما هو من أوضح الواضحات !
اللهم ! أصلح أحوال المسلمين، واهد ضلالهم؛ إنك على كل شيء قدير .
10- التصوير وسيلة إلى الشرك :
والتصوير معناه نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال .
وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك، وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير حينما أقدم قوم نوح على تصوير الصالحين ونصب صورهم على المجالس .(7/32)
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن التصوير بجميع أنواعه، ونهى عنه، وتوعد من فعله بأشد الوعيد، وأمر بطمس الصور وتغييرها؛ لأن التصوير فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل الذي انفرد بالخلق؛ فهذا الإنسان المصور يحاول أن يضاهي الله عز وجل فيما انفرد به من الخلق، ولأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك؛ فأول حدوث الشرك في الأرض كان بسبب التصوير، لما زين الشيطان لقوم نوح تصوير الصالحين، ونصب صورهم على المجالس لأجل تذكر أحوالهم والاقتداء بهم في العبادة، حتى آل الأمر إلى عبادة تلك الصور، واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله .
فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له وتعلق به في الغالب، خصوصا إذا كان المصور له شأن من سلطة أو علم أو صلاح، وخصوصا إذا عظمت الصورة بنصبها على حائط أو إقامتها في شارع أو ميدان؛ فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال، ولو بعد حين، ثم هذا أيضا فيه فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله .
وسأورد الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الموضوع مع التعليق عليها بما تيسر :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة ) . أخرجه البخاري ومسلم .
ومعناه : لا أحد أشد ظلما من المصور؛ لأنه لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله من إنسان أو بهيمة أو غيرهما من ذوات الأرواح؛ صار مضاهيا لخلق الله الذي هو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها حياتها؛ كما قال تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } ، وقال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ }(7/33)
ثم إن الله تحدى هؤلاء المصورين الذين يحاولون مضاهاة خلقه أن يوجدوا في تلك الصور التي صوروها أرواحا تحيا بها كما في المخلوق الذي صوروا، وهذا بيان لعجزهم وفشلهم في محاولتهم، وكما أنهم عاجزون عن إيجاد حيوان ذي روح؛ فهم عاجزون عن إيجاد الثمر والحب؛ فليخلقوا حبة .
2- وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ) .
فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بشدة عذاب المصورين يوم القيامة وسوء عاقبتهم، وإن عاشوا في هذه الدنيا سالمين، وسموا فنانين، وشجعوا بأنواع التشجيع؛ فإن لهم مصيرا ينتظرهم إذا لم يتوبوا؛ لأنهم بعملهم هذا يضاهون بخلق الله؛ أي : يشابهون بما يصنعونه من الصور ما صنعه الله من الخلق وتفرد به وهو الخلاق العليم .
{ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
قال الإمام النووي رحمه الله على هذا الحديث : " قيل : هذا محمول على صانع الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها؛ فهذا كافر، وهو أشد الناس عذابا . وقيل : هو فيمن قصد هذا المعنى الذي في الحديث من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك؛ فهذا كافر أيضا، وله من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره . فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة؛ فهو فاسق صاحب ذنب كبير لا يكفر " .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " وإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله من الحيوان؛ فكيف بمن سوى المخلوق برب العالمين، وصرف له شيئا من العبادة .
3- وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم ) .(7/34)
ومعناه : أنه في يوم القيامة تحضر جميع الصور التي صورها في الدنيا، ويجعل في كل واحدة منه نفس يعذب بها في جهنم، قلت الصور أم كثرت، فيقاسي عذابها، بحيث يكون من كل صورة شخص يعذب به في جهنم " .
4- وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن عباس أيضا : " من صور صورة، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " .
وهذا نوع آخر من العذاب للمصور، ومعناه واضح، وهو أن المصور تحضر أمامه جميع الصور التي صورها في الدنيا، ثم يؤمر أن ينفخ في كل واحدة منها الروح، وأنى له ذلك، و { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } ، وإنما هذا تعذيب له وتعجيز له؛ لأنه يكلف ما لا يطيق، فيكون معذبا دائما . فالحديث يدل على طول تعذيبه وإظهار عجزه عما كان يتعاطاه في دنياه من مضاهاة خلق الله .
5- وروى مسلم رحمه الله عن أبي الهياج؛ قال : ( قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ) .
ففي هذا الحديث الأمر بطمس الصور، وهو تغييرها عن هيئتها، حتى لا تبقى على حالها المشابهة لخلق الله، وفيه الأمر بهدم المباني المقامة على القبور من قباب ومساجد وغيرها من مظاهر الوثنية .
ففي هذا الحديث الأمر بالقضاء على وسيلتين من أكبر وسائل الشرك وذرائعه المفضية إليه، هما التصوير والبناء على القبور، وهذا وأمثاله من أكبر مصالح الدين وحماية عقيدة المسلمين .
وقد كثر في زماننا هذا التصوير واستعماله ونصب الصور بتعليقها والاحتفاظ بالصور التذكارية (2)، وكثر أيضا في هذا الزمان البناء على القبور، حتى صار ذلك أمرا مألوفا، وذلك بسبب غربة الدين، وخفاء السنن، وظهور البدع، وسكوت كثير من العلماء، واستسلامهم للأمر الواقع، حتى أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا في غالب البلدان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(7/35)
فالواجب التنبيه والنصيحة لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم، خصوصا وأن دعاة الضلال والمروجين للباطل كثيرون؛ فلا بد من كشف زيفهم ورد ضلالهم وتبصير المسلمين بشرهم حتى يحذروهم . وفق الله المسلمين للعمل بكتابه وسنة رسوله .
نقض شبهات المشركين التي يتعلقون بها في تبرير شركهم في توحيد الإلهية
إنه بسبب رواج الشبه والحكايات التي ضل بها أكثر الناس واعتبروها أدلة يستندون إليها في تبرير ضلالتهم وشركهم؛ استمرءوا ما هم عليه، فكان لا بد من كشف زيفها وبيان بطلانها؛ { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ }
وهذه الشبه منها ما هو قديم أدلى به المشركون من الأمم السابقة، ومنها ما أدلى به مشركو هذه الأمة، ومن هذه الشبه :
أولا :
شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، وهي شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفا عن سلف، كما قال الله تعالى عنهم : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }
وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجة داحضة، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة؛ فإن هؤلاء الآباء الذين قلدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك؛ لا تجوز متابعته والاقتداء به .
قال تعالى ردا عليهم : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } ، وقال تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } وقال تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }
وإنما يكون الاقتداء بالآباء محمودا إذا كانوا على حق :(7/36)
كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }
وشبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء الضالون متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :
فقوم نوح لما قال لهم نوح : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } ، فجعلوا ما عليه آباءهم حجة يعارضون بها ما جاءهم به نبيهم نوح عليه السلام .
وقوم صالح عليه السلام يقولون له : { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }
وقوم إبراهيم يقولون له : { بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }
وفرعون يقول لموسى عليه السلام : { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى }
ومشركو العرب يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم : قولوا : لا إله إلا الله ! قالوا : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ }
ثانيا :
ومن الشبه التي يدلي بها عباد القبور اليوم ظنهم أن مجرد النطق بلا إله إلا الله يكفي لدخول الجنة، ولو فعل الإنسان ما فعل؛ فإنه لا يكفر وهو يقول : لا إله إلا الله، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها أن من نطق بالشهادتين حرم على النار .(7/37)
والجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الأحاديث ليست على إطلاقها، وإنما هي مقيدة بأحاديث أخرى جاء فيها أنه لا بد لمن قال : لا إله إلا الله : أن يعتقد معناها بقلبه ويعمل بمقتضاها فيكفر بما يعبد من دون الله .
كما في حديث عتبان : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله ) . وإلا؛ فالمنافقون يقولون : لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولم ينفعهم النطق بلا إله إلا الله؛ لأنهم لا يعتقدون ما دلت عليه بقلوبهم .
وفي " صحيح مسلم " : ( من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله ) . فعلق النبي صلى الله عليه وسلم حرمة المال والدم على أمرين : الأول : قول لا إله إلا الله، والثاني : الكفر بما يعبد من دون الله، ولم يكتف بمجرد النطق بلا إله إلا الله، فدل على أن الذي يقول لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة؛ لا يحرم ماله ولا دمه .
ثالثا :
ومن الشبه التي يدلون بها أيضا : دعواهم أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية شرك وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذا الذي يمارسونه عند الأضرحة من عبادة الموتى ودعائهم من دون الله لا يسمى شركا عندهم .
والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في هذه الأمة مشابهة لليهود والنصارى فيما هم عليه، ومن جملة ذلكم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمته بالمشركين، وحتى تعبد فئات من أمته الأوثان، وقد حدث في هذه الأمة من الشرك والمبادئ الهدامة والنحل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام، وهم يقولون لا إله إلا الله . . .
رابعا :(7/38)
ومن الشبه التي تعلقوا بها قضية الشفاعة؛ حيث يقولون : نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم .
والجواب : أن هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تبرير ما هم عليه، وقد كفرهم الله وسماهم مشركين؛ كما في قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }
والشفاعة حق، ولكنها ملك لله وحده؛ كما قال تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } ؛ فهي تطلب من الله لا من الأموات؛ لأن الله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا غيرهم؛ لأنها ملكه سبحانه، وتطلب منه؛ ليأذن للشافع أن يشفع، وليس الأمر كما هو عند المخلوقين من تقدم الشفعاء لديهم بدون إذنهم، ويضطرون إلى قبول الشفاعة لحاجتهم إليهم، وإن لم يرضوا عن المشفوع فيه؛ لأنهم يحتاجون إلى الأعوان والوزراء، أما الله سبحانه؛ فلا يشفع أحد إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه؛ قال تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }
خامسا :
ومن شبه هؤلاء أنهم يقولون : إن الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم .
والجواب : أن المؤمنين كلهم أولياء الله، ولكن الجزم بشخص معين أنه ولي لله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة، ومن ثبت ولايته بالكتاب والسنة؛ لم يجز لنا الغلو فيه والتبرك به؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، والله أمرنا بدعائه مباشرة دون اتخاذ وسائط بيننا وبينه، ولأن هذا هو التعليل الذي علل به المشركون من قبل أنهم اتخذوا هؤلاء شفعاء ووسائط بينهم وبين الله يسألون الله بجاههم وقربهم، فأنكر الله عليهم ذلك .(7/39)
بيان أنواع من الشرك الأكبر
الشرك نوعان : شرك أكبر وشرك أصغر، والشرك الأكبر ينافي التوحيد ويخرج من الملة، وله أنواع كثيرة سبق بيان بعضها بما يمارس حول الأضرحة، وهناك أنواع أخرى منها :
1- الشرك في الخوف
الخوف كما عرفه العلماء : توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، وهو ثلاثة أقسام :
الأول : خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره؛ كما قال الله عن قوم هود عليه السلام : إنهم قالوا له : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ }
وقد خوف المشركون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم من أوثانهم؛ كما قال تعالى : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }
وهذا الخوف من غير الله هو الواقع اليوم من عباد القبور وغيرها من الأوثان؛ يخافونها، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله .
وهذا النوع من الخوف من أهم أنواع العبادة، يجب إخلاصه لله وحده؛ قال تعالى : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، وقال تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ }
وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها؛ فمن صرفه لغير الله؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله .(7/40)
الثاني : من أنواع الخوف أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفا من بعض الناس؛ فهذا محرم، وهو شرك أصغر، وهذا هو المذكور في قوله تعالى : {ا لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
وهذا أيضا هو الخوف المذكور في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( لا يحقر أحدكم نفسه ! قالوا يا رسول الله ! كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول خشية الناس فيقول الله عز وجل فإياي كنت أحق أن تخشى ) .
الثالث : من أنواع الخوف : الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك؛ فهذا ليس بمذموم؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ }
أما النوع الأول الذي هو خوف السر؛ فهو من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصه لله عز وجل . وكذلك النوع الثاني؛ فهو من حقوق العبادة ومكملاتها .
ومعنى قوله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } : أن يخوفكم بأوليائه . { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } : نهي من الله للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم عليه؛ فإذا أخلصوا الخوف وجميع أنواع العبادة؛ أعطاهم ما يريدون وأمنهم مما يخافون .
قال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }(7/41)
قال الإمام ابن القيم : " ومن كيد عدو الله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، فكلما قوي إيمان العبد؛ زال منه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه؛ قوي خوفه منهم، وقال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
فأخبر سبحانه أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم وأخلصوا له الخشية دون سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المسجد لا تكون إلا بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل؛ فعمله { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } ، أو { كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } وما كان كذلك؛ فالعدم خير منه؛ فلا تكون المساجد عامرة عمرانا صحيحا إلا بالعمل الصالح المؤسس على الإخلاص والتوحيد والعقيدة الصحيحة الخالية من الشرك والبدع والخرافات، وليس عمارتها بالطين والزخرفة وفخامة البناء فقط، أو إشادتها على القبور؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك .
وقوله تعالى : { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } ؛ قال ابن عطية : " يريد : خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية " .(7/42)
وقد كتب معاوية رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يطلب منها أن تكتب له كتابا توصيه فيه ولا تكثر عليه، فكتبت له عائشة رضي الله عنها ما نصه : إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله ؟ وكله الله إلى الناس ) .
والسلام . رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن حبان في " صحيحه " بلفظ : ( من التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته : ( من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا ) . هذا لفظ المرفوع .
ولفظ الموقوف : " من أرضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ عاد حامده من الناس له ذاما " .
وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم، كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ، والله يكفيه مؤونة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، ولكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة . ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا؛ كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاما؛ فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة؛ فإن العاقبة للتقوى، ولا تحصل ابتداء عند أهوائهم " . انتهى كلامه رحمه الله .(7/43)
ومن هذا الحديث برواياته يتبين أن الإنسان إذا كان يطلب بعمله إرضاء الله بما يسخط الناس؛ حصل على مصلحتين عظيمتين : رضى الله تعالى ورضى الناس، ومن كان بالعكس يطلب بعمله إرضاء الناس بما يسخط الله عز وجل، حصل له مضرتان : سخط الله وسخط الناس، فدل على أن إرضاء الله تعالى يجمع الخير كله، وأن إرضاء الناس بما يسخط الله يجمع الشر كله . نسأل الله العافية والسلامة .
هذا ويجب أن نعلم أن الخوف من الله سبحانه يجب أن يكون مقرونا بالرجاء والمحبة؛ بحيث لا يكون خوفا باعثا على القنوط من رحمة الله؛ فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكره ينافيان التوحيد : قال تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
وقال تعالى : { إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
وقال : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ }
قال إسماعيل بن رافع : " من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة " .
وقال العلماء : القنوط : استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم .(7/44)
فلا يجوز للمؤمن أن يعتمد على الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا على الرجاء فقط حتى يأمن من عذاب الله، بل يكون خائفا راجيا؛ يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة الله، ويرجو رحمته؛ كما قال تعالى عن أنبيائه : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } ، وقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }
والخوف والرجاء إذا اجتمعا؛ دفعا العبد إلى العمل وفعل الأسباب النافعة؛ فإنه مع الرجاء يعمل الطاعات رجاء ثوابها، ومع الخوف يترك المعاصي خوف عقابها . أما إذا يئس من رحمة الله؛ فإنه يتوقف عن العمل الصالح، وإذا أمن من عذاب الله وعقوبته؛ فإنه يندفع إلى فعل المعاصي .
قال بعض العلماء : من عبد الله بالحب وحده؛ فهو صوفي، ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء؛ فهو مؤمن، كما وصف الله بذلك خيرة خلقه حيث يقول سبحانه : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }
وقد وصف الله الذين أهملوا جانب الخوف واندفعوا في المعاصي، وأمنوا من العقوبة بأنهم الخاسرون، فقال تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }(7/45)
ومعنى الآيات : أن الله لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل المتمادين في الكفر والمعاصي؛ ذكر أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، ومكر الله هو أنه إذا عصاه العبد وأغضبه؛ أنعم عليه بأشياء يظن العبد أنها من رضى الله عنه، وهي استدراج له؛ فهؤلاء الكفرة أمنوا مكر الله بهم لما استدرجهم بالسراء والنعم وعصوا رسلهم وتمادوا في المعاصي حتى أهلكهم الله .
وحذر من جاء بعدهم أن يفعل مثل فعلهم فيصيبه ما أصابهم، فقال سبحانه : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ }
قال بعض العلماء : خوف العبد ينشأ من أمور هي :
* أولا : معرفته بالجناية وقبحها .
* ثانيا : تصديقه بالوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها .
* ثالثا : كونه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب .
وبهذه الثلاثة يتم له الخوف قبل الذنب وبعده ويكون خوفه أشد .
وكان الأنبياء عليهم السلام لا ينقطع أملهم بالله أبدا، ولا ييأسون من رحمة الله في جميع الأحوال، مهما اشتد الخطب وضعفت الأسباب :
فهذا خليل الله إبراهيم لما بشرته الملائكة بالولد مع كبر سنه وحال زوجه التي يستبعد معها حصول الولد، قال عند ذلك : { قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } ؛ لأنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه قال للملائكة : { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ } ، قال ذلك على وجه التعجب والتفكر في عظيم قدرة الله ورحمته .(7/46)
وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام لما اشتد به الأمر وتأزم الحال بفراق بنيه؛ عظم رجاؤه بالله وطمعه برحمته، وقال لبنيه الحاضرين عنده : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأََسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ، وقال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا }
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عنه : { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ، فعظم رجاؤه عند الشدة، ويقول : ( واعلم أن الفرج مع الكرب ) .
والله سبحانه ينهى عباده الذين كثرت ذنوبهم وعظمت جرائمهم أن يحملهم ذلك على القنوط من رحمته وترك التوبة منها؛ قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } ؛ فنهى سبحانه عباده أن تحملهم كثرة ذنوبهم على ترك التوبة واليأس من المغفرة .
وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم اليأس من روح الله من الكبائر :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ؟ فقال الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله ) .
وعن ابن مسعود؛ قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله .
لأن القنوط من رحمة الله : سوء ظن بالله، وجهل بسعة رحمته ومغفرته . والأمن من مكر الله : جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وإعجاب بها .(7/47)
وفي ذلك تنبيه على أن يكون العبد دائما بين الخوف والرجاء؛ فإذا خاف، فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله . وإذا رجا؛ فلا يتمادى به الرجاء حتى يأمن العقوبة .
وكان بعض السلف يستحبون للعبد أن يقوي في حال الصحة جانب الخوف، وفي حالة المرض وعند الموت يقوي جانب الرجاء .
فتوازن القلب بين الخوف والرجاء يدفع على العمل الصالح والبعد عن المعاصي والتوبة من الذنوب، أما إذا اختل توازن القلب فمال إلى جانب واحد، فإن هذا مما يعطل حركة العمل ويعرقل سبيل التوبة ويوقع في الهلاك .
وفيما قصه الله عن الأمم السابقة التي عطلت جانب الخوف فحل بها عقاب الله خير مذكر لأهل الإيمان :
فها هم قوم هود يقولون له : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ }
والخوف والرجاء من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصهما لله عز وجل، والإخلال بهما إخلال بالتوحيد وإفساد للعقيدة .
2- الشرك في المحبة
قلنا فيما سبق : إن الخوف من الله تعالى لا بد أن يكون مقرونا بمحبته سبحانه؛ لأن تعبده بالخوف فقط هو أصل دين الخوارج .
فالمحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه؛ فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان .
والمراد بالمحبة هنا : محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره، فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد؛ لأن المحبة قسمان :
محبة مختصة : وهي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله سبحانه وتعالى .
والقسم الثاني : محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع :
النوع الأول : محبة طبيعية؛ كمحبة الجائع للطعام .
النوع الثاني : محبة إشفاق؛ كمحبة الوالد لولده .
النوع الثالث : محبة أنس وإلف؛ كمحبة الشريك لشريكه والصديق لصديقه .(7/48)
وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ أحد بها، ولا تزاحم المحبة المختصة، فلا يكون وجودها شركا؛ لكن لا بد أن تكون المحبة المختصة مقدمة عليها .
والمحبة المختصة- وهي محبة العبودية- هي المذكورة في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }
قال الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية : " أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى؛ فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فى الحب والتعظيم " .
وقال ابن كثير رحمه الله : " يذكر تعالى حال المشركين في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال؛ حيث جعلوا لله أندادا؛ أي : أمثلا ونظراء . { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } ؛ أي : يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم " .
وهذا الذي قاله ابن كثير رحمه الله هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ كما حكى الله هذه التسوية عنهم في قوله : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وقوله تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ، وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ؛ أي : أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لله، وقيل : أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، فدلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله، فقد اتخذه ندا لله .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " وفيه أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله؛ فهو الشرك الأكبر " .(7/49)
وقلنا قريبا : إن محبة الله التي هي محبة العبودية يجب أن تقدم على المحبة التي ليست عبودية، وهي المحبة المشتركة؛ كمحبة الآباء والأولاد والأزواج والأموال؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ؛ فتوعد سبحانه من قدم هذه المحبوبات الثمان على محبة الله ورسوله والأعمال التى يحبها، ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبل عليه الإنسان، ليس اختياريا، وإنما توعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده . فمحبة الله لها علامات تدل عليها :
منها : أن من أحب الله تعالى؛ فإنه يقدم ما يحبه الله من الأعمال على ما تحبه نفسه من الشهوات والملذات والأموال والأولاد والأوطان .
ومنها : أن من أحب الله تعالى؛ فإنه يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه؛ قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }(7/50)
قال بعض السلف : " ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ؛ ففي الآية بيان دليل محبة الله وثمرتها وفائدتها؛ فدليلها وعلامتها : اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها : نيل محبة الله للعبد ومغفرته لذنوبه " .
ومن علامات صدق محبة العبد لله : ما ذكره الله بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } ؛ فذكر في هذه الآية الكريمة لمحبة الله أربع علامات
العلامة الأولى . أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين؛ بمعنى أنهم يشفقون عليهم ويرحمونهم ويعطفون عليهم . قال عطاء : " يكونون للمؤمنين كالوالد لولده " .
العلامة الثانية . أنهم يكونون أعزة على الكافرين؛ أي : يظهرون لهم الغلظة والشدة والترفع عليهم، ولا يظهرون لهم الخضوع والضعف .
العلامة الثالثة . أنهم يجاهدون في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان لإعزاز دين الله وقمع أعدائه بكل وسيلة .
العلامة الرابعة . أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم ازدراء الناس لهم ولومهم إياهم على ما يبذلون من أنفسهم وأموالهم لنصرة الحق؛ لقناعتهم بصحة ما هم عليه وقوة إيمانهم ويقينهم، فكل محب يؤثر فيه اللوم فيضعفه عن مناصرة حبيبه فليس بمحب على الحقيقة .
والأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى عشرة أشياء ذكرها ابن القيم رحمه الله وهي :
أحدها . قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به .
الثاني . التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض .
الثالث . دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب والعمل .(7/51)
الرابع . إيثار ما يحبه الله على ما يحبه العبد عند تزاحم المحبتين .
الخامس . التأمل في أسماء الله وصفاته وما تدل عليه من الكمال والجلال وما لها من الآثار الحميدة .
السادس . التأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، ومشاهدة بره وإحسانه وإنعامه على عباده .
السابع . انكسار القلب بين يدي الله وافتقاره إليه .
الثامن . الخلوة بالله وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، وتلاوة القرآن في هذا الوقت، وختم ذلك بالاستغفار والتوبة .
التاسع . مجالسة أهل الخير والصلاح المحبين لله عز وجل والاستفادة من كلامهم .
العاشر . الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشواغل .
ومن توابع محبة الله ولوازمها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) ؛ أي : لا يؤمن الإيمان الكامل إلا من كان الرسول أحب إليه من نفسه وأقرب الناس إليه .
ومحبة الرسول تابعة لمحبة الله ملازمة لها، ومن أحب الرسول صلى الله عليه وسلم اتبعه؛ فمن ادعى محبته عليه الصلاة والسلام وهو يخالفه فيما جاء به فيطيع غيره من المنحرفين والمبتدعين والمخرفين فيحيي البدع ويترك السنن؛ فهو كاذب في دعواه أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المحب يطيع محبوبه .(7/52)
فالذين يحدثون البدع المخالفة لسنة الرسول بإحياء الموالد وغيرها من البدع، أو يفعلون ما هو أعظم من ذلك من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه من دون الله، وطلب المدد منه والاستغاثة به، ومع هذا يدعون أنهم يحبونه؛ فهذا من أعظم الكذب، وهم كالذين قال الله فيهم : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الأمور، وقد خالفوا نهيه وارتكبوا معصيته، وهم يدعون أنهم يحبونه، فكذبوا؛ نسأل الله العافية . . . .
3- الشرك في التوكل
التوكل في اللغة معناه : الاعتماد والتفويض، وهو من عمل القلب، يقال : توكل في الأمر : إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان : إذا اعتمدت عليه .
والتوكل على الله من أعظم أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله؛ قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
والتوكل على غير الله تعالى أقسام :
أحدها : التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؛ كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق أو الشفاعة؛ فهذا شرك أكبر .
الثاني : التوكل في الأسباب الظاهرة؛ كمن يتوكل على سلطان أو أمير أو أي شخص حي قادر فيما أقدره الله من عطاء أو دفع أذى ونحو ذلك؛ فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتماد على الشخص .
الثالث : التوكل الذي هو إنابة الإنسان من يقوم بعمل عنه مما يقدر عليه كبيع وشراء؛ فهذا جائز، ولكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل إليه فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أموره التي يطلبها بنفسه أو نائبه؛ لأن توكيل الشخص في تحصيل الأمور الجائزة من جملة الأسباب، والأسباب لا يعتمد عليها، وإنما يعتمد على الله سبحانه الذي هو مسبب الأسباب وموجد السبب والمسبب .(7/53)
والتوكل على الله في دفع المضار وتحصيل الأرزاق وما لا يقدر عليه إلا هو من أعظم أنواع العبادة، والتوكل على غيره في ذلك شرك أكبر؛ قال الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ؛ فأمر الله سبحانه بالتوكل عليه وحده، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وجعل التوكل عليه شرطا في الإيمان كما جعله شرطا في الإسلام في قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } ؛ فدل على انتفاء الإيمان والإسلام عمن لم يتوكل على الله أو توكل على غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو من أصحاب القبور والأضرحة وسائر الأوثان .
فالتوكل على الله فريضة يجب إخلاصها لله، وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة؛ فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه؛ صح إخلاصه ومعاملته مع الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وما رجا أحد مخلوقا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه . . . " انتهى .
والتوكل على الله من أعظم منازل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله سبحانه؛ قال الله تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } ، والآيات في الأمر به كثيرة جدا، قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }(7/54)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } : " فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وكلما قوي إيمان العبد؛ كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان؛ ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا؛ كان دليلا على ضعف الإيمان ولا بد، والله تعالى في مواضع من كتابه يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية؛ فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان لجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الرأس من الجسد؛ فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن؛ فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل " .
وقد جعل الله التوكل عليه من أبرز صفات المؤمنين، فقال سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ؛ أي : يعتمدون عليه بقلوبهم؛ فلا يرجون سواه . وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاثة مقامات من مقامات الإحسان، وهي : الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده .
والتوكل على الله سبحانه لا ينافي السعي في الأسباب والأخذ بها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قدر مقدورات مربوطة بأسباب، وقد أمر الله تبارك وتعالى بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل؛ فالأخذ بالأسباب طاعة لله؛ لأن الله أمر بذلك، وهو من عمل الجوارح، والتوكل من عمل القلب، وهو إيمان بالله :
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } وقال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }
وقال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }(7/55)
قال بعض العلماء : " من طعن في الحركة- يعني : في السعي والكسب والأخذ بالأسباب-؛ فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل؛ فقد طعن في الإيمان " .
قال الإمام ابن رجب رحمه الله : " والأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام :
أحدها . الطاعات التي أمر الله بها عباده وجعلها سببا للنجاة من النار ودخول الجنة؛ فهذا لا بد من فعله مع التوكل على الله فيه والاستعانة به عليه؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فمن قصر في شيء من ذلك؛ استحق العقوبة في الدنيا والآخرة قدرا وشرعا . قال يوسف بن أسباط : " يقال : اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له " .
والثاني . ما أجرى الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه؛ كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفئة من البرد . . . ونحو ذلك؛ فهذا أيضا واجب على العبد تعاطي أسبابه، ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله؛ فهو مفرط يستحق العقوبة، لكن الله سبحانه وتعالى يقوي بعض عباده من ذلك على ما لا يقوي عليه غيره؛ فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره؛ فلا حرج عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل في صيامه، وينهى عن ذلك أصحابه، ويقول لهم : ( إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى ) ، وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم؛ فمن كان له قوة، فعمل بمقتضى قوته، ولم يضعفه ذلك عن طاعة الله؛ فلا حرج عليه، ومن كلف نفسه حتى أضعفها عن بعض الواجبات؛ فإنه ينكر عليه ذلك .
والقسم الثالث . ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب . . . " .(7/56)
إلى أن قال : " وقد روي عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون ! فيحجون، فيأتون مكة، ويسألون الناس . . . فأنزل الله هذه الآية : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وقد سئل أحمد رحمه الله عمن يقعد ولا يكتسب ويقول : توكلت على الله؛ فقال : ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر، ولم يقولوا نقعد حتى يرزقنا الله، وقال الله تعالى : { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
وخرج الترمذي من حديث أنس؛ قال : ( قال رجل يا رسول الله ! أعقلها وأتوكل ؟ أو أطلقها وأتوكل ؟ قال اعقلها وتوكل ) .
وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب المباحة، بل قد يكون جمعها أفضل، وقد لقي عمر بن الخطاب جماعة من أهل اليمن، فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون . قال : بل أنتم المتأكلون ! إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله .
4- الشرك في الطاعة
اعلموا- وفقني الله وإياكم- أن من الشرك طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله :
قال الله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وفي الحديث الصحيح : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي، فقال يا رسول الله ! لسنا نعبدهم قال أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه قال بلى قال النبى صلى الله عليه وسلم فتلك عبادتهم ) . رواه الترمذي وغيره .(7/57)
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله بأنه ليس معناه الركوع والسجود لهم، وإنما معناه طاعتهم في تغيير أحكام الله وتبديل شريعته بتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال، وأن ذلك يعتبر عبادة لهم من دون الله؛ حيث نصبوا أنفسهم شركاء لله في التشريع، فمن أطاعهم في ذلك؛ فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وهذا من الشرك الأكبر، لقوله تعالى في الآية : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
ومن هذا طاعة الحكام والرؤساء في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام؛ كإباحة الربا والزنى وشرب الخمر ومساواة المرأة للرجل في الميراث وإباحة السفور والاختلاط، أو تحريم الحلال؛ كمنع تعدد الزوجات، وما أشبه ذلك من تغيير أحكام الله واستبدالها بالقوانين الشيطانية؛ فمن وافقهم على ذلك ورضي به واستحسنه، فهو مشرك كافر والعياذ بالله .
ومن ذلك تقليد الفقهاء باتباع أقوالهم المخالفة للأدلة إذا كانت توافق أهواء بعض الناس وما يشتهونه؛ كما يفعل بعض أنصاف المتعلمين من تلمس الرخص، والواجب أن يؤخذ من قول المجتهد ما وافق الدليل ويطرح ما خالفه .
قال الأئمة رحمهم الله : " كل يؤخذ من قوله ويترك؛ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " .(7/58)
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : " إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين؛ فهم رجال ونحن رجال " ؛ يريد رحمه الله أمثاله وأمثال الأئمة الكبار .
وقد استغل هذه الكلمة بعض أنصاف المتعلمين، الذين جعلوا أنفسهم في مصاف الأئمة المجتهدين، وهم لا يزالون جهالا، ولا شك أن الإمام أبا حنيفة لا يقصد مساواة العلماء بالجهال .
وقال مالك رحمه الله : " كلنا راد ومردود عليه؛ إلا صاحب هذا القبر -يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم- " .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : " إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي " . وقال : " إذا خالف قولي قول رسول الله؛ فاضربوا بقولي عرض الحائط " .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : " عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ! أقول : قال رسول الله ! وتقولون : قال أبو بكر وعمر " .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في " فتح المجيد " : " فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه . . . " .
إلى أن قال : " فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة؛ فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إليه يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم؛ فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقا إلى معرفة المسائل واستحضارها، وتمييز الصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه " .(7/59)
وقال رحمه الله على قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } : " وهذا وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم، لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد- وهو من هذا الشرك (1) ، ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره أو يحرم فعظمت الفتنة ! ويقول : هو أعلم منا بالأدلة . . . " انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " المسألة الخامسة : تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين . . . " انتهى .
ومن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا طاعة علماء الضلال فيما أحدثوه في دين الله من البدع والخرافات والضلالات؛ كإحياء أعياد الموالد والطرق الصوفية والتوسل بالأموات ودعائهم من دون الله، حتى إن هؤلاء العلماء الضالين شرعوا ما لم يأذن به الله، وقلدهم فيه الجهال السذج، واعتبروه هو الدين، ومن أنكره ودعا إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبروه خارجا من الدين ! أو أنه يبغض العلماء والصالحين ! ! فعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، حتى شب على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وهذا من غربة الدين وقلة الدعاة المصلحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(7/60)
وإذا كان لا يجوز اتباع أئمة الفقه المجتهدين فيما أخطئوا فيه من الاجتهاد مع أنهم معذورون ومأجورون فيما أخطئوا فيه من غير قصد- إلا أنه يحرم اتباعهم على الخطأ- ؟ فكيف لا يحرم تقليد هؤلاء المضللين والدجالين الذين أخطئوا فيما لا يجوز الاجتهاد فيه- وهو أمر العقيدة-؛ لأن العقيدة توقيفية، تتوقف على النصوص ؟ ! ولكن الأمر كما قال تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }
وإلى جانب هؤلاء المغرقين في التقليد الأعمى في الأصول والفروع، إلى جانبهم جماعة أخرى على النقيض منهم، ترى وجوب الاجتهاد على كل أحد، ولو كان جاهلا لا يحسن قراءة القرآن ولا يعرف شيئا عن العلم، ويحرمون النظر في كتب الفقه، ويريدون من الجهال أن يستنبطوا الأحكام من الكتاب والسنة ! ! وهذا تطرف شنيع، وخطر هؤلاء على الأمة الإسلامية لا يقل عن خطر الفريق الأول إن لم يزد عليه، وخير الأمور الوسط والاعتدال؛ بأن لا نقلد الفقهاء تقليدا أعمى، ولا نزهد بعلمهم ونترك أقوالهم الموافقة للكتاب والسنة، بل ننتفع بها ونستعين بها على فهم الكتاب والسنة؛ لأنها ثروة علمية ورصيد فقهي عظيم يؤخذ منه ما وافق الدليل ويترك ما خالف الدليل؛ كما كان السلف الصالح يفعلون ذلك، خصوصا في هذا الزمان، الذي تقاصرت فيه الهمم، وفشا فيه الجهل؛ فالواجب الاعتدال بلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تساهل، ونسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين ويثبت أئمتهم وقادتهم على الحق . . . إنه سميع مجيب .(7/61)
وكما لا تجوز طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فكذلك لا تجوز طاعة الأمراء والرؤساء في الحكم بين الناس بغير الشريعة الإسلامية؛ لأنه يجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله في جميع المنازعات والخصومات وشئون الحياة؛ لأن هذا هو مقتضى العبودية والتوحيدة لأن التشريع حق لله وحده؛ كما قال تعالى : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } ؛ أي : هو الحكم وله الحكم .
قال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }
وقال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
فالتحاكم إلى شرع الله ليس لطلب العدل فقط، وإنما هو في الدرجة الأولى تعبد لله وحق لله وحده وعقيدة؛ فمن احتكم إلى غير شرع الله من سائر الأنظمة والقوانين البشرية؛ فقد اتخذ واضعي تلك القوانين والحاكمين بها شركاء لله في تشريعه :
قال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }
وقال تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
وقد نفى الله الإيمان عمن تحاكم إلى غير شرعه، قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } . . . إلى قوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }(7/62)
فمن دعا إلى تحكيم القوانين البشرية؛ فقد جعل لله شريكا في الطاعة والتشريع، ومن حكم بغير ما أنزل الله؛ يرى أنه أحسن أو مساو لما أنزله الله وشرعه أو أنه يجوز الحكم بهذا؛ فهو كافر بالله، وإن زعم أنه مؤمن؛ لأن الله أنكر على من يريد التحاكم إلى غير شرعه وكذبهم في زعمهم الإيمان؛ لأن قوله : { يَزْعُمُونَ } متضمن لنفي إيمانهم؛ لأن هذه الكلمة تقال غالبا لمن يدعي دعوى هو فيها كاذب، ولأن تحكيم القوانين تحكيم للطاغوت، والله قد أمر بالكفر بالطاغوت، وجعل الكفر بالطاغوت ركن التوحيد؛ كما قال تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } ؛ فمن حكم القوانين البشرية؛ لم يكن موحدا؛ لأنه اتخذ شريكا في التشريع والطاعة، ولم يكفر بالطاغوت الذي أمر أن يكفر به، وأطاع الشيطان؛ كما قال تعالى : { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا }
وقد أخبر الله أن المنافقين حينما يدعون إلى التحاكم إلى شرع الله يأبون ويعرضون، فقال سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا }
كما أخبر أنهم يرون الفساد صلاحا؛ لانتكاس فطرهم وفساد قلوبهم، فقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }
فالتحاكم إلى غير الله من أعمال المنافقين، وهو من أعظم الفساد في الأرض . . .(7/63)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية : " قال أكثر المفسرين : ولا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى طاعة غير الله بعد إصلاح الله لها ببعثة الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك ومخالفة أمره؛ فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع للرسول ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته؛ فلا سمع ولا طاعة، ومن تدبر أحوال العالم؛ وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله " .
وقد سمى الله كل حكم يخالف حكمه بأنه حكم الجاهلية؛ قال تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }(7/64)
قال ابن كثير رحمه الله : " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، وكما تحكم به التتار من السياسات، المأخوذ عن جنكيز خان، الذي وضع لهم " الياسق " ، وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا، يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة؛ فمن فعل ذلك؛ فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله؛ فلا يحكم بسواه في قليل أو كثير . . . " . انتهى كلامه رحمه الله .
ومثل قانون التتار هذا القوانين الوضعية التي جعلت اليوم في كثير من الدول هي مصادر الأحكام وألغيت من أجلها الشريعة الإسلامية إلا فيما يسمونه بالأحوال الشخصية . . .
والدليل على كفر من فعل ذلك آيات كثيرة؛ منها : قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، وقوله : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ، وقوله تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
وكما قلنا قريبا إنه يجب تحكيم الشريعة عقيدة ودينا يدان الله به لا من أجل طلب العدالة فقط .(7/65)
هذا ولابد للعبد من قبول حكم الله، سواء كان له أم عليه، وسواء وافق هواه أم لا : قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ، وقال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ }
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) .
قال ابن رجب رحمه الله : " معنى الحديث : أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله؛ كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }(7/66)
إلى أن قال : " وقد وصف المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } ، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب على المؤمن محبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما . . . " . انتهى كلامه رحمه الله .
أمور أخرى تنافي التوحيد
هذا وهناك أشياء تنافي التوحيد وتقتضي الردة عن الإسلام؛ منها :
1- سوء الظن بالله
فسوء الظن بالله خطير؛ لأن حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، وسوء الظن به ينافي التوحيد .
وقد وصف الله المنافقين أنهم يطنون به غير الحق، فقال تعالى : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ }
وأخبر عنهم في الآية الأخرى أنهم يظنون به ظن السوء، فقال : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }(7/67)
قال الإمام ابن القيم في تفسير الآية الأولى : " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته؛ ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن لا يليق به سبحانه ولا بحكمته وحمده ووعده الصادق؛ فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة؛ فذلك ظن الذين كفروا؛ فويل للذين كفروا من النار .
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده .
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء .
ولو فتشت من فتشت؛ لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم .
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ** وإلا فإني لا أخالك ناجيا
وقال ابن القيم رحمه الله : " فمن ظن به أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به؛ فمن ظن به ذلك؛ فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله .(7/68)
وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه؛ فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد، وظن أن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له؛ فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولا خلقها باطلا، { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ }
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده .
فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه؛ فقد ظن به ظن السوء .
ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، لا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام؛ فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن أنه لا يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار؛ يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسوله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظن به ظن السوء .(7/69)
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره ويبطله بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في أسفل سافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا؛ فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله ويتطلبوا له الوجوه والاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء .
فإنه إن قال : إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه؛ فقد ظن بقدرته العجز . وإن قال : إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء .(7/70)
ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم، وأما كلام الله؛ فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المشركين والحيارى هو الهدى والحق؛ فهذا من أسوأ الظن .
فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية . . . " .
انتهى كلام الإمام ابن القيم في بيان من هم الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ومن أراد استيفاءه؛ فليراجعه في " زاد المعاد " . والله والمستعان .
2- الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله
يجب على المسلم احترام كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، وأن يعرف حكم من استهزأ بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول؛ ليكون المسلم على حذر من ذلك؛ فإن من استهزأ بذكر الله أو القرآن أو الرسول أو بشيء من السنة؛ فقد كفر بالله عز وجل؛ لاستخفافه بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد، وكفر بإجماع أهل العلم .
قال الله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } الآية
وقد جاء بيان سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين أنه ما حصل من المنافقين في بعض الغزوات من سخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .(7/71)
فقد روى ابن جرير وغيره عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض : ( أنه قال رجل في غزوة تبوك : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء -يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء- . فقال له عوف بن مالك : كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله 0 ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق . قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب . فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ) .(7/72)
ففي هاتين الآيتين الكريمتين مع بيان سبب نزولهما دليل واضح على كفر من استهزأ بالله أو رسوله أو آيات الله أو سنة رسوله أو صحابة رسول الله؛ لأن من فعل ذلك؛ فهو مستخف بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد والعقيدة، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم أو الوقيعة فيهم من أجل العلم الذي يحملونه، وكون ذلك كفرا، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء؛ لأن هؤلاء الذين نزلت فيهم الآيات جاءوا معترفين بما صدر منهم ومعتذرين بقولهم : { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } أي : لم نقصد الاستهزاء والتكذيب، وإنما قصدنا اللعب، واللعب ضد الجد، فأخبرهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن عذرهم هذا لا يغني من الله شيئا، وأنهم كفروا بعد إيمانهم بهذه المقالة التي استهزءوا بها، ولم يقبل اعتذارهم بأنهم لم يكونوا جادين في قولهم، وإنما قصدوا اللعب، ولم يزد صلى الله عليه وسلم في إجابتهم على تلاوة قول الله تعالى : { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } لأن هذا لا يدخله المزح واللعب، وإنما الواجب أن تحترم هذه الأشياء وتعظم، وليخشع عند آيات الله إيمانا بالله ورسوله وتعظيما لآياته، والخائض اللاعب متنقص لها .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله : " القول الصريح في الاستهزاء هذا وما شابهه، وأما الفعل الصريح؛ فمثل مد الشفة وإخراج اللسان ورمز العين وما يفعله كثير من الناس عند الأمر بالصلاة والزكاة؛ فكيف بالتوحيد ؟ ! " انتهى .
ومثل هذا الاستهزاء بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي يستهزئ بإعفاء اللحى وقص الشوارب، أو يستهزئ بالسواك، أو غير ذلك، وكالاستهزاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .(7/73)
قال ابن إسحاق : " وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله؛ لكأنا بكم غبرا مقرنين في الحبال ! إرجافا وترهيبا للمؤمنين . فقال مخشي بن حمير : والله؛ لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مئة جلدة، وإنا نتلفت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر : " أدرك القوم؛ فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا؛ فإن أنكروا؛ فقل : بلى؛ قلتم كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار، فقال لهم ذلك، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقيها : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب . فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله ! قعد بي اسمي واسم أبي . فكان الذي عناه - أي : بقوله تعالى : { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } - في هذه الآية مخشي بن حمير، فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر " .(7/74)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم : إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرا بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه؛ لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه؛ كقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . نفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم؛ سمعوا وأطاعوا؛ فبين أن هذا من لوازم الإيمان . . . " انتهى .
وبه يعلم كفر من يتنقصون الشريعة الإسلامية ويصفونها بأنها لا تصلح لهذا الوقت الحاضر، وأن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية، وأن الإسلام ظلم المرأة . . . إلى غير ذلك من مقالات الكفر والإلحاد . نسأل الله العافية والسلامة .
أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله(7/75)
هناك أشياء مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر بحسب ما يقوم بقلب فاعلها وما يصدر عنه من الأفعال والأقوال، ويقع فيها بعض الناس، قد تتنافى مع العقيدة أو تعكر صفوها، وهي تمارس على المستوى العام، ويقع فيها بعض العوام تأثرا بالدجالين والمحتالين والمشعوذين، وقد حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأمور :
1- لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه
وذلك من فعل الجاهلية، وهو من الشرك الأصغر، وقد يترقى إلى درجة الشرك الأكبر بحسب ما يقوم بقلب لابسها من الاعتقاد بها .
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال ما هذا ؟ قال من الواهنة فقال انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا؛ فإنك لو مت وهي عليك؛ ما أفلحت أبدا ) رواه أحمد بسند لا بأس به، وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي .
2- تعليق التمائم
وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين، ويتلمحون من اسمها أن يتم الله لهم مقصودهم .
وقد تكون التمائم من عظام ومن خرز ومن كتابة وغير ذلك، وهذا لا يجوز .
وقد يكون المعلق من القرآن؛ فإذا كان من القرآن؛ فقد اختلف العلماء في جوازه وعدم جوازه، والراجح عدم جوازه؛ سدا للذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق غير القرآن، ولأنه لا مخصص للنصوص المانعة من تعليق التمائم؛ كحديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) . رواه أحمد وأبو داود . وعن عقبة بن عامر مرفوعا : ( من علق تميمة؛ فقد أشرك ) . وهذه نصوص عامة لا مخصص لها .
3- التبرك بالأشجار والأحجار والآثار والبنايات
والتبرك معناه : طلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء .(7/76)
وحكمه : أنه شرك أكبر؛ لأنه تعلق على غير الله سبحانه في حصول البركة، وعباد الأوثان إنما كانوا يطلبون البركة منها؛ فالتبرك بقبور الصالحين كالتبرك باللات، والتبرك بالأشجار والأحجار كالتبرك بالعزى ومناة .
وعن أبي واقد الليثي؛ قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها : ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الله أكبر، إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، لتركبن سنن من كان قبلكم ) . رواه الترمذي وصححه .
4- السحر
وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، سمي سحرا لأنه يحصل بأمور خفية لا تدرك بالأبصار، وهو عبارة عن عزائم ورقى وكلام يتكلم به وأدوية وتدخينات، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري .
وهو عمل شيطاني، كثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بشيء مما تحب والاستعانة بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها، ولهذا يقرنه الشارع بالشرك، وهو داخل في الشرك من ناحيتين
الأولى : ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبونه ليقوموا بخدمته .(7/77)
الثانية : ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال؛ قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله ! وما هن ؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )
5- الكهانة
وهي ادعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب هو استراق السمع؛ حيث يسترق الجني الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، فيكذب معها مئة كذبة، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة .
والله هو المتفرد بعلم الغيب؛ فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها أو صدق من يدعي ذلك؛ فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه، وهو مكذب لله ولرسوله .
وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي يستعان بها على دعوى العلوم الغيبية .
فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله .
وفي " صحيح مسلم " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى كاهنا، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد ) . رواه أبو داود .(7/78)
ومما يجب التنبيه عليه والتحذير منه أمر السحرة والكهان والمشعوذين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ فبعضهم يظهر للناس بمظهر الطبيب الذي يداوي المرض، وهو في الحقيقة مفسد للعقائد؛ بحيث يأمر المريض أن يذبح لغير الله، أو يكتب له الطلاسم الشركية والتعاويذ الشيطانية . والبعض الآخر منهم يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات وأماكن الأشياء المفقودة؛ بحيث يأتيه الجهال يسألونه عن الأشياء الضائعة، فيخبرهم عن أماكن وجودها، أو يحضرها لهم بواسطة الشياطين . والبعض الآخر منهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات؛ كدخول النار، وضرب نفسه بالسلاح، ومسك الحيات . . . وغير ذلك، وهو في الحقيقة دجال مشعوذ وولي للشيطان، وكل هذه الأصناف تريد الاحتيال والنصب لأكل أموال الناس وإفساد عقائدهم .
فيجب على المسلمين أن يحذروهم ويبتعدوا عنهم، ويجب على ولاة الأمور استتابة هؤلاء؛ فإن تابوا، وإلا؛ قتلوا لإراحة المسلمين من شرهم وفسادهم وتنفيذا لحكم الله فيهم .
ففي " صحيح البخاري " عن بجالة بن عبدة؛ قال : " كتب عمر بن الخطاب : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " .
وعن جندب مرفوعا : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) . رواه الترمذي .
6- التطير
وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص وغير ذلك؛ فإذا عزم شخص على أمر من أمور الدين أو الدنيا، فرأى أو سمع ما يكره؛ أثر فيه لك أحد أمرين : إما الرجوع عما كان عازما عليه تطيرا وتأثرا بما رأى أو سمع، فيعلق قلبه بذلك المكروه، ويؤثر ذلك على إيمانه، ويخل بتوحيده وتوكله على الله . وإما أن لا يرجع عما عزم عليه، ولكن يبقى في قلبه أثر ذلك التطير من الحزن والألم والهم والوساوس والضعف .
فيجب على من وجد شيئا من ذلك في نفسه أن يجاهدها على دفعه، ويستعين بالله، ويتوكل عليه، ويمضي في شأنه، ويقول : اللهم ! لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك .(7/79)
والتطير داء قديم ذكره الله عن الأمم الكافرة، وأنهم كانوا يتطيرون بخير الخلق، وهم الأنبياء وأتباعهم المؤمنين :
كما ذكر الله عن فرعون وقومه أنهم إذا أصابتهم سيئة : { يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } .
وكما ذكر عن قوم صالح أنهم قالوا له : { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } .
وكما ذكر الله عن أصحاب القرية أنهم قالوا لرسل الله : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وكما ذكر الله عن المشركين أنهم تطيروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } .
وهكذا؛ دين المشركين واحد، حيث انتكست قلوبهم وعقولهم، فاعتقدوا الشر بمن هو مصدر الخير، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما ذلك إلا لتمكن الضلالة في نفوسهم وانتكاس فطرهم، وإلا؛ فالخير والشر كلاهما بقضاء الله وقدره، ويجريان حسب حكمته وعلمه تفضلا؛ فالخير تفضل منه وجزاء على فعل الطاعة، والشر عدل منه وجزاء وعقوبة على فعل المعصية .
قال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } .
والتطير شرك؛ لكونه تعلق على غير الله، واعتقاد بحصول الضرر من مخلوق لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولكونه من إلقاء الشيطان ووسوسته، ولكونه يصدر عن القلب خوفا وخشية وهو ينافي التوكل .
وإليكم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم محذرا من التطير؛ فقد روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل ؟ قال الكلمة الطيبة ) . متفق عليه .
وعن ابن مسعود مرفوعا : ( الطيرة شرك ) .(7/80)
وفي " صحيح مسلم " ( عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا أناس يتطيرون ؟ قال ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه؛ فلا يصدنكم ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده تأثرا بما رآه أو سمعه .
فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها لهم دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى، التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه وخلق لأجلها السماوات والأرض، فقطع علق الشرك من قلوبهم؛ فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله؛ قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها قبل استكمالها .
قال عكرمة : كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم : خير، خير ! فقال ابن عباس : لا خير ولا شر . فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، وكذلك سائر المخلوقات لا تجلب خيرا ولا تدفع شرا بذاتها .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ويعجبني الفأل ) ، ثم بينه بأنه الكلمة الطيبة، وإنما أعجبه الفأل لأنه حسن ظن بالله، والعبد مأمور أن يحسن الظن بالله، والطيرة سوء ظن بالله عز وجل وتوقع للبلاء، ومن هنا جاء الفرق بينهما في الحكم؛ لأن الناس إذا أملوا الخير من الله؛ علقوا قلوبهم به وتوكلوا عليه، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله؛ كان ذلك من الشرك والتعلق على غير الله .(7/81)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك؛ بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها؛ كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، فكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم، وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب لسماع الاسم الحسن ومحبته وميل النفوس إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر؛ فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع؛ استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها؛ أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت وعزمت عليه، فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك . . . " انتهى كلامه رحمه الله .
وفي الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك ؟ قال أن تقول اللهم ! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك )
فتضمن هذا الحديث الشريف أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك؛ فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله . . .
هذا ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا بالإيمان والتوكل عليه ويجنبنا طريق الشر والشرك؛ إنه سميع مجيب .
7- التنجيم
وهو كما عرفه بعض المحققين بأنه الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية؛ كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، أو حدوث الأمراض والوفيات، أو السعود والنحوس . وهذا ما يسمى بعلم التأثير، وهو على نوعين :(7/82)
النوع الأول : أن يدعي المنجم أن الكواكب فاعلة مختارة، وأن الحوادث تجري بتأثيرها، وهذا كفر بإجماع المسلمين؛ لأنه اعتقاد أن هناك خالق غير الله، وأن أحدا يتصرف في ملكه بغير مشيئته وتقديره سبحانه وتعالى .
النوع الثاني : الاستدلال بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها على حدوث الحوادث، وهذا لا شك في تحريمه؛ لأنه من ادعاء علم الغيب، وهو من السحر أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر؛ زاد ما زاد ) . رواه أبو داود، وإسناده صحيح، وصححه النووي والذهبي، ورواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما .
والسحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع .
والإخبار عن الحوادث المستقبلية عن طريق الاستدلال بالنجوم من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ فهو ادعاء لمشاركته سبحانه بعلمه الذي انفرد به أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا ينافي التوحيد؛ لما فيه من هذه الدعوى الباطلة .
قال الخطابي : " علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان؛ أوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها؛ يدعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر به الله، ولا يعلم الغيب سواه " .
قال البخاري في " صحيحه " : " قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك؛ أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به . . . " انتهى .(7/83)
وأخرج الخطيب عنه أنه قال : " وإن أناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة : من أعرس بنجم كذا وكذا؛ كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا؛ كان كذا وكذا . . . ولعمري؛ ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب؛ لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء . . . " انتهى .
أقول : ومن الخرافات الباطلة ما يروجه الدجالون في بعض الصحف والمجلات من ذكر البخت والنحوس والسعود، ويعلقون ذلك بحسابات البروج والنجوم، ويصدق به بعض السذج .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في " فتح المجيد " : " فإن قيل : المنجم قد يصدق . قيل : صدقه كصدق الكاهن؛ يصدق في كلمة ويكذب في مئة، وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدرا فيكون فتنة في حق من صدقه " .
قال : " وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم؛ كقوله : ( من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر؛ زاد ما زاد ) . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه . وعن رجاء بن حيوة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة ) . رواه ابن حميد .
وأما الاستدلال بالنجوم لمعرفة الاتجاه في الأسفار في البر والبحر؛ فهذا لا بأس به، وهو من نعمة الله عز وجل؛ حيث يقول سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ أي : لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب كما يعتقده المنجمون .(7/84)
قال الخطابي : وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة؛ فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة، الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها؛ مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفتهم .
وقال ابن رجب : والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير؛ فإنه -أي : علم التأثير- باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم التسيير؛ فيتعلم ما يحتاج إليه من الاهتداء ومعرفة القبلة والطرق، وهو جائز عند الجمهور اهـ .
وكذلك تعلم منازل الشمس والقمر للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول ومعرفة الزوال : قال الخطابي : أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة؛ فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا أكثر من أن الظل ما دام متناقصا؛ فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة؛ فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصلح إدراكه بالمشاهدة؛ إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته . . . انتهى .
وروى ابن المنذر عن مجاهد : أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر .(7/85)
وبعد؛ فإن عقيدة المسلم هي أعز شيء عنده؛ لأن بها نجاته وسعادته، فيجب عليه أن يحرص على تجنب ما يسيء إليها أو يمسها من الشركيات والخرافات والبدع؛ لتبقى صافية مضيئة، وذلك بالتزام الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح، ولا يتم ذلك إلا بتعلم هذه العقيدة، ومعرفة ما يضادها من العقائد المنحرفة، لا سيما وأنه قد كثر اليوم في صفوف المسلمين من يحترف التدجيل والشعوذة والتعلق بالقبور والأضرحة لطلب الحاجات وتفريج الكربات كما كان عليه المشركون الأولون أو أشد، إضافة إلى اتخاذ السادة وأصحاب الطرق الصوفية أربابا من دون الله يشرعون لأتباعهم من الدين ما لم يأذن به الله؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله .
8- الاستسقاء بالأنواء
وهو عبارة عن نسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه على ما كانت الجاهلية تعتقده من أن طلوع النجم أو سقوطه في المغيب يؤثر في إنزال المطر، فيقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ! وهم يريدون بذلك النجم، ويعبرون عنه بالنوء، وهو طلوع النجم، من ناء ينوء : إذا نهض وطلع، فيقولون : إذا طلع النجم الفلاني؛ ينزل المطر . والمراد بالأنواء عندهم؛ منازل القمر الثمانية والعشرون، في كل ثلاث عشرة ليلة؛ يغرب واحد منها عند طلوع الفجر ويطلع مقابله وتنقضي جميعها عند انقضاء السنة القمرية، وتزعم العرب في جاهليتها أنه عند طلوع ذلك النجم في الفجر ومغيب مقابله؛ ينزل المطر، ويسمى ذلك الاستسقاء بالأنواء، ومعنى ذلك نسبة السقيا إلى هذه الطوالع، وهذا من اعتقاد الجاهلية الذي جاء الإسلام بإبطاله والنهي عنه؛ لأن نزول المطر وانحباسه يرجع إلى إرادة الله وتقديره وحكمته، وليس لطلوع النجوم تأثير فيه .(7/86)
قال تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }
فقوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } : معناه : نسبة المطر الذي هو الرزق النازل من الله إلى النجم؛ بأن يقال : مطرنا بنوء كذا وكذا، وهذا من أعظم الكذب والافتراء؛ كما روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه ابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في " المختارة " عن علي رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وتجعلون رزقكم يقول شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا )
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " وهذا أولى ما فسرت به الآية، وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم، وهو قول جمهور المفسرين " . انتهى .
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ) . والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو جاهلية .(7/87)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معنى الحديث : " أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم؛ فهو مذموم . في دين الإسلام، وإلا؛ لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } ؛ فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة . . . " انتهى .
وقوله في هذا الحديث : " والاستسقاء بالنجوم " : معناه نسبة المطر إلى النوء، وهو سقوط النجم؛ بأن يقول : مطرنا بنجم كذا وكذا .
وحكم الاستسقاء بالأنواء أنه إن كان يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر؛ فهذا شرك وكفر أكبر، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية . وإن كان لا يعتقد للنجم تأثيرا، وأن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا لا يصل إلى الشرك الأكبر، ويكون من الشرك الأصغر؛ لأنه يحرم نسبة المطر إلى النجم، ولو على سبيل المجاز؛ سدا للذريعة .
وقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه؛ قال : ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف؛ أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ) .(7/88)
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) وفسر المؤمن بأنه الذي ينسب المطر إلى فضل الله ورحمته، وفسر الكافر بأنه الذي ينسب المطر إلى الكوكب، وهذا فيه دليل على أنه لا تجوز نسبة أفعال الله إلى غيره، وأن ذلك كفر؛ فإن اعتقد أن للكوكب تأثيرا في إنزال المطر؛ فهذا كفر أكبر؛ لأنه إشراك في الربوبية والمشرك كافر، وإن لم يعتقد أن للكواكب تأثيرا في إنزال المطر، وإنما نسبه إليها مجازا؛ فهذا محرم، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره .
قال القرطبي رحمه اللة : " وكانت العرب إذا طلع نجم من المشرق وسقط آخر من المغرب، فحدث عند ذلك مطر أو ريح؛ فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث، فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم . . . " انتهى .
وقد روى مسلم في " صحيحه " في سبب نزول قوله تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا . فأنزل الله هذه الآيات : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } .
فإنزال المطر من الله وبحوله وقوته لا دخل لمخلوق فيه؛ كما قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } ؛ فمن نسب إنزال المطر إلى الكواكب أو إلى الظواهر الطبيعية كالانخفاض الجوي أو المناخ؛ فقد كذب وافترى، وهذا شرك أكبر، وإن كان يعتقد أن المنزل هو الله، ولكنه نسبه إلى هذه الأشياء من باب المجاز؛ فهذا حرام وكفر أصغر؛ لأنه نسب النعمة إلى غير الله؛ كالذي يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا .(7/89)
وما أكثر التساهل في هذا الأمر على ألسنة بعض الصحفيين أو الإعلاميين ! فيجب على المسلم أن ينتبه لهذا، والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
9- نسبة النعم إلى غير الله
سبق الكلام عن حكم نسبة المطر إلى الأنواء والاستسقاء بها، والكلام الآن في حكم نسبة النعم عموما إلى غير الله .
إن الاعتراف بفضل الله وإنعامه والقيام بشكره من صميم العقيدة؛ لأن من نسب النعمة إلى غير موليها - وهو الله سبحانه -؛ فقد كفرها وأشرك بالله بنسبتها إلى غيره .
قال تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } .
قال بعض المفسرين : يعرفون أن النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوها عن آبائهم، وبعضهم يقول : لولا فلان؛ لم يكن كذا وكذا ! وبعضهم يقول : هذا بشفاعة آلهتنا . . . وهكذا كل ينسب النعمة إلى من يعظمه من الآباء والآلهة والأشخاص، متناسين مصدرها الصحيح والمنعم بها على الحقيقة، وهو الله سبحانه، كما أن بعضهم ينسب نعمة السير في البحر والسلامة من خطره إلى الريح وحذق الملاح، فيقول : كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ! ومثله اليوم ما يجري على ألسنة الكثير من نسبة حصول النعم واندفاع النقم إلى مجهود الحكومات أو الأفراد أو تقدم العلم التجريبي، فيقولون مثلا : تقدم الطب تغلب على الأمراض أو قضى عليها ! والمجهودات الفلانية تقضي على الفقر والجهل ! وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجب على المسلم أن يبتعد عنها ويتحفظ منها غاية التحفظ، وأن ينسب النعم إلى الله وحده، ويشكره عليها، وما يجري على يد بعض المخلوقين أفرادا أو جماعات من المجهودات إنما هي أسباب قد تثمر وقد لا تثمر، وهم يشكرون على قدر ما بذلوه، ولكن لا يجوز نسبة حصول النتائج إلا إلى الله سبحانه .(7/90)
وقد ذكر الله في كتابه الكريم عن أقوام أنكروا نعمة الله عليهم ونسبوا ما حصلوا عليه من المال والنعمة إلى غير الله : إما إلى كونهم يستحقونها، أو إلى خبرتهم ومعرفتهم ومهارتهم .
قال تعالى عن الإنسان : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } ؛ فقوله : { هذا لي } ؛ أي : حصلت على هذا بعلمي، وأنا محقوق به، لا أنه تفضل من الله ونعمة ليس بحول العبد ولا بقوته .
وقال تعالى عن قارون الذي آتاه الله الكنوز العظيمة فبغى على قومه وقد وعظه الناصحون وأمروه بالاعتراف بنعمة الله والقيام بشكرها فكابر عند لك وقال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } ؛ أي : حصلت على هذه الكنوز بسبب حذقي ومعرفتي بوجوه المكاسب، لا أنها تفضل من الله تعالى، فكانت عاقبته من أسوء العواقب، وعقوبته من أشد العقوبات، حيث خسف الله به وبداره الأرض لما جحد نعمة الله ونسبها إلى غيره وأنه حصل عليها بحوله وقوته .(7/91)
وما أحرى هؤلاء الذين اغتروا في زماننا بما توصلوا إليه من مخترعات وقدرات أقدرهم الله عليها امتحانا لهم فلم يشكروا نعمة الله وصاروا يتشدقون ويتفاخرون بحولهم وقوتهم وبغوا في الأرض بغير الحق وتطاولوا على عباد الله؛ ما أحراهم بالعقوبة؛ فقد اغترت قبلهم عاد بقوتها كما قال الله تعالى عنهم : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } .
وهاكم قصة قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كان قبلنا ابتلاهم الله فأنعم عليهم؛ فمنهم من جحد نعمة الله ونسب ما حصل عليه من المال إلى وراثته عن آبائه فسخط الله عليه، ومنهم من اعترف بفضل الله وشكر نعمة الله فرضي الله عنه .(7/92)
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال أي شيء أحب إليك ؟ قال لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب إليك ؟ قال الإبل -أو البقر؛ شك إسحاق-، فأعطي ناقة عشراء، وقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا فقال أي المال أحب إليك ؟ قال البقر -أو الإبل- فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك فيها فأتى الأعمى، فقال أي شيء أحب إليك ؟ قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس فمسحه، فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك ؟ قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري فقال الحقوق كثيرة فقال كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال إن كنت كاذبا؛ فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل هذا، فقال إن كنت كاذبا؛ فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته، فقال رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال كنت أعمى فرد الله إلي بصري؛ فخذ ما شئت؛ فوالله؛ لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي(7/93)
الله عنك وسخط على صاحبيك ) . رواه البخاري ومسلم .
وهذا حديث عظيم فيه معتبر؛ فإن الأولين جحدا نعمة الله، ولم ينسباها إليه، ومنعا حق الله في مالهما، فحل عليهما سخط الله، وسلبت منهما النعمة . والآخر اعترف بنعمة الله، ونسبها إليه، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضى من الله، ووفر الله ماله لقيامه بشكر النعمة .
قال ابن القيم : " أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة؛ فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلا بها؛ لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها؛ لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها كما يجحد المنكر النعمة والمنعم عليه بها؛ فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه؛ لم يشكره أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها، وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محبته وطاعته؛ فهذا هو الشاكر لها؛ فلابد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له . . . " انتهى .
الشرك الأصغر
الشرك الأصغر ينقص التوحيد ويخل به، وهناك أشياء من الشرك الأصغر حذرنا منها الله ورسوله صيانة للعقيدة وحماية للتوحيد؛ لأنها تنقص التوحيد، وربما تجر إلى الشرك الأكبر .
قال الله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية : " الأنداد : هو الشرك؛ أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ! وتقول : لولا كليبة هذا؛ لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار؛ لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت، وقول الرجل : لولا الله وفلان؛ لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك " . رواه ابن أبي حاتم .(7/94)
فقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الأشياء من الشرك، والمراد به الشرك الأصغر، والآية عامة تشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر .
فابن عباس رضي الله عنهما نبه بهذه الأشياء بالأدنى - وهو الشرك الأصغر - على الأعلى - وهو الشرك الأكبر -، ولأن هذه الألفاظ تجري على ألسنة الكثير من الناس إما جهلا أو تساهلا .
ومن هذه الأشياء :
1- الحلف بغير الله عز وجل
وهو شرك؛ كما روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك ) . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم .
وقوله : ( فقد كفر أو أشرك ) ؛ يحتمل أن يكون هذا شكا من الراوي، ويحتمل أن يكون " أو " بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك، ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما أنه من الشرك الأصغر . وقد كثر من الناس اليوم من يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالأمانة، أو يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يقول : وحياتي، وحياتك يا فلان . . . وما أشبه هذه الألفاظ، وقد سمعنا ما ورد في الأحاديب من النهي عن الحلف بغير الله عز وجل، واعتباره كفرا أو شركا؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والذي يجب أن يعظم ويحلف به هو الله عز وجل، والحلف بغيره شرك وجريمة عظمى .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا .
ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك - وهو الحلف بغير الله - أكبر من الكبائر - وإن كان شركا أصغر - .
فيجب على المسلم أن يتنبه لهذا ولا تأخذه العوائد الجاهلية .
قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان حالفا؛ فليحلف بالله أو ليصمت ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تحلفوا بآبائكم ) .
إلى غير ذلك من النصوص التي تأمرنا إذا أردنا أن نحلف أن نقتصر على الحلف بالله وحده ولا نحلف بغيره .(7/95)
ويجب على من حلف له بالله أن يرضى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من حلف بالله؛ فليصدق، ومن حلف له بالله؛ فليرض، ومن لم يرض؛ فليس من الله )
2- الشرك في الألفاظ
ومن الشرك الأصغر الشرك في الألفاظ مثل قول : ما شاء الله وشئت !
فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن قتيلة : (أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إنكم تشركون؛ تقولون : ما شاء الله وشئت ! وتقولون : والكعبة ! فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت ).
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت . فقال : ( أجعلتني لله ندا ؟ قل ما شاء الله وحده ) .
فدل الحديثان وما جاء بمعناهما على منع قول : ما شاء الله وشئت ! وما شابهه من الألفاظ؛ مثل : لولا الله وأنت، ما لي إلا الله وأنت؛ لأن العطف بالواو يقتضي التسوية بين المتعاطفين، وهذا شرك؛ فالواجب أن يعطف بـ " ثم " ، فيقال : ما شاء الله ثم شئت، أو : ثم شاء فلان، لولا الله ثم أنت، أو : ثم فلان، ما لي إلا الله ثم أنت؛ لأن العطف بـ " ثم " يقتضي الترتيب والتعقيب، وأن مشيئة العبد تأتي بعد مشيئة الله تعالى لا مساوية لها؛ كما قال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } ؛ فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى؛ فالعبد وإن كانت له مشيئة - خلافا للجبرية -؛ فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا يقدر على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه؛ خلافا للقدرية من المعتزلة وغيرهم، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله، تعالى الله عما يقولون .
3- الشرك في النيات والمقاصد
ومن الشرك الأصغر الشرك في النيات والمقاصد وهو ما يسمى بالشرك الخفي؛ كالرياء، وهو نوعان :
أ- الرياء :(7/96)
وهو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدون صاحبها، والفرق بين الرياء وبين السمعة أن الرياء لما يرى من العمل؛ كالصلاة، والسمعة لما يسمع؛ كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك تحدث الإنسان عن أعماله وإخباره بها، وقد قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . قال الإمام ابن القيم في معنى الآية : " أي : كما أن الله واحد لا إله سواه؛ فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له؛ فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية؛ فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة . . . " انتهى .
وقد توعد الله المرائين بالويل، فقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } . وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين، فقال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } . وعن أبي هريرة مرفوعا؛ قال : قال الله تعالى : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه ) . رواه مسلم؛ أي : من قصد بعمله غيري من المخلوقين؛ تركته وشركه . وفي رواية لابن ماجه : " فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك " .(7/97)
قال ابن رجب رحمه الله : " اعلم أن العمل لغير الله أقسام : فتارة يكون رياء محضا؛ كحال المنافقين؛ كما قال تعالى : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } ، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها؛ فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة . وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء : فإن شاركه من أصله؛ فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه . وأما إن كان العمل لله، وطرأ عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطرا ثم دفعه؛ فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه؛ فهل يحبط عمله أو لا فيجازى على أصل نيته؛ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره . . . " انتهى . فتحفظوا على أعمالكم من الشرك أعظم مما تتحفظون على أنفسكم من أعدائكم وأعظم مما تتحفظون على أموالكم من السراق؛ فإن خطر الشرك عظيم .
نسأل الله لنا ولكم السلامة والإخلاص في القول والعمل .
ب- إرادة الإنسان بعمله الدنيا :
إرادة الإنسان بعمله الدنيا نوع من أنواع الشرك في النية والقصد قد حذر الله منه في كتابه وحذر منه رسوله في سنته، وهو أن يريد الإنسان بالعمل الذي يبتغى به وجه الله طمعا من مطامع الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد ويحبط العمل .
قال الله تبارك وتعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .(7/98)
ومعنى الآيتين الكريمتين : أن الله سبحانه يخبر أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط؛ فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور وبالمال والأهل والولد، وهذا مقيد بالمشيئة؛ كما قال في قوله تعالى في الآية الأخرى : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } ، وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار؛ لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم منها، وكان عملهم في الآخرة باطلا لا ثواب له؛ لأنهم لم يريدوها .
قال قتادة : يقول تعالى : من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن؛ فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " ذكر عن السلف في معنى الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه . .
فمن ذلك : العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وصلة وإحسان إلى الناس وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار؛ فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب . وهذا النوع ذكره ابن عباس .
النوع الثاني . وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها أنزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة .
النوع الثالث . أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا؛ مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم؛ فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهل أو مكسبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد؛ كما هو واقع كثيرا .(7/99)
النوع الرابع . أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام؛ مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة؛ لأن لفظهما عام؛ فالأمر خطير يوجب على المسلم الحذر من أن يطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا .
وقد جاء في " صحيح البخاري " أن من كان قصده الدنيا يجري وراءها بكل همه أنه يصير عبدا لها :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي؛ رضي، وإن لم يعط؛ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ) .
ومعنى " تعس " لغة : سمط، والمراد هنا هلك، وسماه عبدا لهذه الأشياء لكونها هي المقصودة بعمله؛ فكل من توجه بقصده لغير الله؛ فقد جعله شريكا له في عبوديته؛ كما هو حال الأكثر، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاسة وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولابد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفات الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته .(7/100)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، وذكر فيها ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله : " تعس وانتكس، وإذا شيك؛ فلا انتقش " ، وهذا حال من إذا أصابه شر؛ لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط؛ كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } ؛ رضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برئاسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط؛ فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته؛ فما استرق القلب واستعبده فهو عبده . . . " .
إلى أن قال : " وهكذا طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان :
الأول . منها ما يحتاج العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك؛ فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته - بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه - من غير أن يستعبده فيكون هلوعا .(7/101)
الثاني . ومنها ما لا يحتاج إليه العبد؛ فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه به؛ فإذا علق قلبه؛ صار مستعبدا له، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله . وهذا أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة ) ، وهذا عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها؛ رضي، وإن منعه إياها؛ سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله؛ فهذا الذي استكمل الإيمان . . . " انتهى كلامه رحمه الله .
قلت : ومن عبيد المال اليوم الذين يقدمون على المعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة بدافع حب المادة؛ كالذين يتعاملون بالربا مع البنوك وغيرها، والذين يأخذون المال عن طريق الرشوة والقمار، وعن طريق الغش في المعاملات والفجور في المخاصمات، وهم يعلمون أن هذه مكاسب محرمة، لكن حبهم للمال أعمى بصائرهم، وجعلهم عبيدا لها، فصاروا يطلبونها من أي طريق .
نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين من الشح المطاع والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه .
4- مسبة الدهر ونحوه
ومن الأشياء يرتكبها بعض الناس بحكم العادة، وهي مما ينقص التوحيد أيضا ويسيء إلى العقيدة : مسبة الدهر ومسبة الريح وما أشبه ذلك من إسناد الذم إلى المخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة موجها إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف .(7/102)
قال الله تعالى عن المشركين : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } ؛ فقد كذبوا بالبعث، وقالوا : { مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } : التي نحن فيها، ليس هناك حياة سواها . { نموت ونحيا } ؛ أي : يموت قوم ويعيش آخرون . وهذا منهم إنكار لوجود الخالق المتصرف، ورد جريان الحوادث إلى الطبيعة، ولهذا قالوا : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } ؛ أي : لا يفنينا إلا مرور الليالي والأيام، فنسبوا الإهلاك إلى الدهر على سبيل الذم له، وإنما قالوا هذا القول عن جهل وتخرص لا عن علم وبرهان؛ لأن البرهان يرد هذا القول ويبطله، ولهذا رد الله عليهم بقوله : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } ، وكل قول لا ينبني على علم وبرهان؛ فهو قول باطل مردود، والبراهين تدل على أن ما يجري في الكون لابد له من مدبر حكيم قادر، وهو الله سبحانه وتعالى؛ فكل من سب الدهر ونسب إليه شيئا من الحوادث؛ فقد شارك المشركين والدهرية في هذا الوصف الذميم، وإن لم يشاركهم في أصل الاعتقاد .
وفي " الصحيحين " وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار ) . وفي رواية : ( لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر ) .
فدل الحديث على أن من سب الدهر؛ فقد آذى الله سبحانه؛ لأن السب يتجه إلى مدبر الحوادث والوقائع وخالقها، والدهر إنما هو ظرف ومحل وخلق مدبر ليس له شيء من التدبير، ولهذا قال الله : " وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار " .(7/103)
فقوله سبحانه : " أقلب الليل والنهار " : تفسير لقوله : " وأنا الدهر " ، وكذا قوله : " فإن الله هو الدهر " : معناه أن الله هو المتصرف الذي يصرف الدهر وغيره؛ فالذي يسب الدهر إنما يسب من خلقه، وهو الله تعالى وتقدس .
قال بعض السلف : كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر؛ أي سبه عند النوازل، فكانوا إذا أصابتهم شدة أو بلاء؛ قالوا : أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا : يا خيبة الدهر ! فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله؛ فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر؛ فإنما سبوا الله عز وجل؛ لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا بهذا الحديث، وقد بين معناه في الحديث بقوله : " أقلب الليل والنهار " ، وتقليبه : تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه؛ فالذي يليق بالمسلم تجنب مثل هذه الألفاظ، وإن كان يعتقد أن الله هو المتصرف، لكن في تجنبها ابتعاد عن مشابهة الكفار ولو في الألفاظ، وفي ذلك حفاظ على العقيدة وتأدب مع الله سبحانه " .
ومن جنس مسبة الدهر مسبة الريح .
وقد ورد النهي عنها في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تسبوا الريح؛ فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم ! إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به ) .
وذلك لأن الريح إنما تهب بأمر الله وتدبيره؛ لأنه هو الذي أوجدها وأمرها؛ فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه؛ كما تقدم في سب الدهر؛ لأن سب الريح وسب الدهر يرجعان إلى مسبة الخالق الذي دبر هذه الكائنات .(7/104)
ثم أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرون ما يكرهون مما يأتي مع الريح بأن يتوجهوا إلى خالقها وآمرها ليسألوه من خيرها وخير ما فيها ويستعيذوا من شرها وشر ما فيها؛ فما استجلبت نعمة إلا بطاعة الله وشكره، ولا استدفعت نقمة إلا بالالتجاء إلى الله والاستعاذة به، وأما سب هذه المخلوقات؛ ففيه مفاسد :
منها : أنه سب ما ليس أهلا للسب؛ فإنها مخلوقات مسخرة ومدبرة .
ومنها : أن سب هذه الأشياء متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبها لظنه أنها تضر وتنفع من دون الله .
ومنها : أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وهو الله .
وإذا قال العبد عند هبوب الريح ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم ! إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به ) ؛ فقد لجأ إلى خالق الريح ومدبرها ومصرفها، وهدا هو التوحيد والاعتقاد السليم الذي يخالف اعتقاد أهل الجاهلية .
وهكذا يكون المسلم دائما وأبدا مع الأحداث؛ يرجعها إلى خالقها، ويسأله من خيرها، وأن يدفع عنه شرها، ولا يلقي باللوم عليها ويسبها ويفسرها بغير تفسيرها الصحيح .
وليعلم أن ما أصابه من هذه الأحداث مما يكره إنما هو بتقدير من الله وتسليط لها عليه بسبب ذنوبه؛ كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ، وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } الآية، وقال تعالى : { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } ، وقال تعالى : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } .(7/105)
فالأمر كله راجع إلى الله؛ فالواجب حمده في الحالتين حالة السراء وحالة الضراء، وحسن الظن به، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة؛ كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
هذا هو التفسير الصحيح لمجريات الأحداث؛ فالمؤمن يعلم أن ما أصابه مما يكره إنما هو بسبب ذنوبه، فيلقي باللوم على نفسه لا على الدهر ولا على الريح، فيتوب إلى الله، والكافر والفاسق أو الجاهل يلقي باللوم على هذه المخلوقات، ولا يحاسب نفسه، ولا يتوب من ذنبه؛ كما قال الشاعر :
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ** إذ أنت والد سوء تأكل الولدا
وقال آخر :
قبحا لوجهك يا زمان فإنه ** وجه له في كل قبح برقع
نسأل الله العافية والبصيرة في دينه .
5- قول " لو " في بعض الحالات
ومن الألفاظ التي لا ينبغي التلفظ بها لأنها تخل بالعقيدة، وقد ورد النهي عنها بخصوصها : كلمة " لو " في بعض المقامات .
وذلك عندما يقع الإنسان في مكروه أو تصيبه مصيبة؛ فإنه لا يقول : لو أني فعلت كذا؛ ما حصل علي هذا ! أو : لو أني لم أفعل؛ لم يحصل كذا ! لما في ذلك من الإشعار بعدم الصبر على ما فات مما لا يمكن استدراكه، ولما يشعر به اللفظ من عدم الإيمان بالقضاء والقدر، ولما في ذلك من إيلام النفس وتسليط الشيطان على الإنسان بالوساوس والهموم .
والواجب بعد نزول المصائب التسليم للقدر، والصبر على ما أصاب الإنسان، مع عمل الأسباب الجالبة للخير والواقية من الشر والمكروه بدون تلوم .(7/106)
وقد ذم الله الذين قالوا هذه الكلمة عند المصيبة التي حلت بالمسلمين في وقعة أحد، فقال تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } : هذه مقالة قالها بعض المنافقين يوم أحد لما حصل على المسلمين ما حصل من المصيبة، قالوها يعارضون القدر، ويعتبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين خروجهم إلى العدو، فرد الله عليهم بقوله تعالى : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } ؛ أي : هذا قدر مقدر من الله لابد أن يقع، ولا يمنع منه التحرز في البيوت والتلهف .
وقول " لو " بعد نزول المصيبة لا يفيد إلا التحسر والحزن وإيلام النفس والضعف مع تأثيره على العقيدة من حيث إنه يوحي بعدم التسليم للقدر .
ثم ذكر سبحانه عن هؤلاء المنافقين مقالة أخرى، وذلك في قوله تعالى : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } ، وهذه من مقالات المنافقين يوم أحد أيضا، ويروى أن عبد الله بن أبي كان يعارض القدر ويقول : لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج؛ ما قتلوا مع من قتل . فرد الله عليهم بقوله : { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } ؛ أي : إذا كان القعود وعدم الخروج يسلم به الشخص من القتل أو الموت؛ فينبغي أن لا تموتوا، والموت لابد أن يأتي إليكم في أي مكان؛ فادفعوه عن أنفسكم إن كنتم صادقين في دعواكم أن من أطاعكم سلم من القتل .(7/107)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر مقالة ابن أبي هذه؛ قال : " فلما انخزل يوم أحد، وقال : يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال-؛ انخزل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك؛ فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل؛ فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق؛ لماتوا على الإسلام، وهؤلاء لم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة . . . " انتهى .
والشاهد منه أن اللهج بكلمة ( لو ) عند حصول المصائب من سمات المنافقين الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر .(7/108)
فيجب على المؤمن الابتعاد عن التلفظ بهذه الكلمة عندما تصيبه محنة أو مكروه، وأن يعدل إلى الألفاظ الطيبة التي فيها الرضى بما قدر الله والصبر والاحتساب، وهي الألفاظ التي وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) ؛ فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وآخرته مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينا بالله؛ ليتم له سببه وينفعه؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، والجمع بين فعل السبب والتوكل على الله توحيد، ثم نهى عن العجز، وهو ترك فعل الأسباب النافعة، وهو ضد الحرص على ما ينفع؛ فإذا حرص على ما ينفعه، وبذل السبب، ثم وقع خلاف ما أراد أو أصابه ما يكره؛ فلا يقل : لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا؛ لأن هذه الكلمة لا تجدي شيئا، وإنما تفتح عمل الشيطان، وتبعث على التأسف ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى، والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، ثم أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللفظ النافع المتضمن للإيمان بالقدر، وهو أن يقول : " قدر الله وما شاء فعل " ؛ لأن ما قدره الله لابد أن يكون، والواجب التسليم للمقدور، وما شاء الله فعل؛ لأن أفعاله لا تصدر إلا عن حكمة .(7/109)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " والعبد إذا فاته المقدور له حالتان : حالة عجز : وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى ( لو ) ، ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم . والحالة الثانية : النظر إلى المقدور وملاحظته وأنه لو قدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد .
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول ( لو ) ، وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان؛ لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر والحزن ولوم القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان، وليس هذا لمجرد لفظ ( لو ) ؛ بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان .
فإن قيل : الرسول قد قال هذه الكلمة حينما أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ هو لأنه ساق الهدي .
فالجواب عن ذلك : أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ) : خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، بل هو إخبار لأصحابه أنه لو استقبل الإحرام بالحج؛ ما ساق الهدي، ولأحرم بالعمرة، قال ذلك لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة؛ حثا وتطييبا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره؛ فليس هذا من المنهي عنه، بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر . والله أعلم " .
فهذا الحديث الذي رواه أبو هريرة لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر وإثبات الكسب والقيام بالعبودية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث : " لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع من مقدور " .
الصبر ومنزلته في العقيدة
تقدم الكلام في النهي عن قول ( لو ) عندما يقع الإنسان في مصيبة وأن الواجب عليه الصبر والاحتساب .
قال الإمام أحمد رحمه الله : " ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا من كتابه " .
وفي الحديث الصحيح : " الصبر ضياء " . رواه أحمد ومسلم .(7/110)
قال عمر رضي الله عنه : " وجدنا خير عيشنا بالصبر " . رواه البخاري .
وقال علي رضي الله عنه : " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد " ، ثم رفع صوته وقال : " ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له " .
وقد روى البخاري ومسلم مرفوعا : " ما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر " .
والصبر مشتق من صبر إذا حبس ومنع؛ فهو : حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب .
وهو ثلاثة أنواع : صبر على فعل ما أمر الله به، وصبر على ترك ما نهى الله عنه، وصبر على ما قدره الله من المصائب .
قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } : قال علقمة : " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم " . وقال غيره في معنى الآية : أي : من أصابته مصيبة، فعلم أنها بقدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه . وقال سعيد بن جبير : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } ؛ يعني : يسترجع ويقول : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
وفي الآية الكريمة دليل على أن الأعمال من الإيمان، وعلى أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأن المؤمن يحتاج إلى الصبر في كل المواقف :
يحتاج إليه مع نفسه أمام أوامر الله ونواهيه بإلزام نفسه بالتزامها .
ويحتاج إلى الصبر في مواقف الدعوة إلى الله تعالى على ما يناله في سبيلها من مشقة وأذى؛ قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } إلى قوله : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } .(7/111)
ويحتاج إلى الصبر في موقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يلاقيه من أذى الناس؛ قال تعالى عن لقمان : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
المؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهته المصائب التي تجري عليه؛ بأن يعلم أنها من عند الله؛ فيرضى، ويسلم، ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط الذي قد يظهر على اللسان والجوارح .
وهذا من صميم العقيدة؛ لأن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وثمرته الصبر على المصائب؛ فمن لم يصبر على المصائب؛ فهذا دليل على فقدان هذا الركن أو ضعفه لديه، ومن ثم سيقف أمام المصائب موقف الجزع والتسخط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر يخل بالعقيدة الإسلامية :
ففي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت ) .
فهاتان الخصلتان من خصال الكفر؛ لأنهما من أعمال الجاهلية، ولكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق، وفرق بين الكفر المعرف باللام - كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة ) - وبين كفر منكرا كما في هذا الحديث .
وفي " الصحيحين " : ( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) .
وقوله في الحديث : " ودعا بدعوى الجاهلية " : قال ابن القيم : " الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض؛ يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي؛ فكل هذا من دعوى الجاهلية . . . " انتهى .(7/112)
والله سبحانه يجري المصائب على عباده لحكم عظيمة، منها أنه يكفر بها خطاياهم؛ كما في حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أراد الله بعبده الخير؛ عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر؛ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) . رواه الترمذي وحسنه الحاكم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " المصائب نعمة لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الخلق . . . إلى غير ذلك من المصالح العظيمة، فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق؛ إلا أن يدخل صاحبها في معاص أعظم مما كان قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه؛ فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع؛ حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه؛ فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة؛ كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة؛ كانت في حقه نعمة دينية؛ فهي بكونها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر؛ كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له ثناء ربه عليه؛ قال تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } ، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات؛ فمن قام بالصبر الواجب؛ حصل له لك " . انتهى .
ومن الحكم الإلهية في إجراء المصائب ابتلاء العباد عند وقوعها؛ من يصبر ويرضى، ومن يجزع ويسخط؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي؛ فله الرضى، ومن سخط؛ فله السخط ) . رواه الترمذي وحسنه .(7/113)
والرضى : هو أن يسلم العبد أمره إلى الله ويحسن الظن به ويرغب في ثوابه .
والسخط : هو الكراهية للشيء، وعدم الرضى به؛ أي : من سخط على الله فيما دبره؛ فله السخط من الله .
وفي هذا الحديث أن الجزاء من جنس العمل، وفيه إثبات الرضى من الله سبحانه على ما يليق به كسائر صفاته، وفيه بيان الحكمة في إجراء المصائب على العباد، وفيه إثبات القضاء والقدر، وأن المصائب تجري بقضاء الله وقدره، وفيه مشروعية الصبر على المصائب والرجوع إلى الله والاعتماد عليه وحده في كل ملمة ودفع كل مكروه .
وقد أمر الله بالاستعانة بالصبر والصلاة على ما يواجه الإنسان في هذه الحياة من متاعب ومشاق؛ لأن من وراء ذلك الخير والعاقبة الحميدة، وأخبر أنه مع الصابرين بنصره وتأييده؛ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، مما يدل على أهمية الصبر وحاجة المؤمن إليه، وهو من مقومات العقيدة .
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الصبر والاحتساب، وأن يمن علينا بالتوفيق والهداية .
بيان ألفاظ لا يجوز أن تقال في حق الله تعالى تعظيما لشأنه
الله جل وعلا عظيم يجب أن يعظم، وهناك ألفاظ لا يجوز أن تقال في حقه سبحانه تعظيما له، وقد ورد النهي عنها :
فمن هذه الألفاظ : أنه لا يقال : السلام على الله؛ لأن السلام دعاء للمسلم عليه بطلب السلامة له من الشرور، والله سبحانه يطلب منه ذلك ولا يطلب له، ويدعى ولا يدعى له؛ لأنه المغني، له ما في السماوات والأرض، وهو السالم من كل عيب ونقص، ومانح السلامة ومعطيها، وهو السلام، ومنه السلام .(7/114)
وفي " الصحيح " عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال : كنا إذ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ قلنا : السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام ) ؛ أي : إن الله سالم من كل نقص .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " السلام مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار؛ فجهة الإخبارية تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية . . . " .
إلى أن قال : " والمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل؛ أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن معنيين : أحدهما : ذكر الله . . . والثاني : طلب السلامة، وهو مقصود المسلم " .
ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى : اللهم اغفر لي إن شئت . فطلب الحاجة من الله لا يعلق على المشيئة، وإنما يجزم به .
وفي " الصحيح " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم اللهم ! اغفر لي إن شئت اللهم ! ارحمني إن شئت ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له ) .
ولمسلم : " وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه " .
والنهي عن ذلك لأمرين :
الأول . أن الله سبحانه لا مكره له على الفعل، وإنما هو يفعل ما يريد؛ بخلاف العبد؛ فإنه قد يفعل الشيء وهو كاره، ولكن يفعله لخوف أو رجاء من أحد، والله ليس كذلك .(7/115)
الثاني . أن التعليق على المشيئة يدل على فتور في الطلب وقلة رغبة فيه؛ فإن حصل، وإلا؛ استغنى عنه، وهذا يدل على عدم الافتقار إلى الله . وفي رواية مسلم الأمر بتعظيم الطلب؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه؛ أي : لا يكبر عليه سبحانه ولا يعسره، وليس عنده بعظيم، وإن عظم في نفس المخلوق، وذلك لكمال فضله وجوده وسعة غناه، فهو يعطي العظائم، ولا يعجزه شيء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى : الإقسام على الله إذا كان على جهة الحجر عليه أن لا يفعل الخير !
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ) . رواه مسلم .
والتألي من الألية - بتشديد الياء - وهي اليمين، ومعنى يتألى : يحلف، وقوله : " من ذا الذي " : استفهام إنكار .
وهذا الرجل أساء الأدب مع الله، وحكم عليه وقطع أنه لا يغفر لهذا المذنب، فكأنه حكم على الله سبحانه، وهذا من جهله بمقام الربوبية، واغتراره بنفسه وبعمله وإدلاله بذلك، فعومل بنقيض قصده، وغفر لهذا المذنب بسببه، وأحبط عمله بسبب هذه الكلمة السيئة التي قالها، مع أنه كان عابدا .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته .
ففي الحديث : وجوب التأدب مع الله سبحانه في الأقوال والأفعال، وتحريم الإدلال على الله والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين، وتحريم الحلف على الله إذا كان على جهة الحجر عليه أن لا يفعل الخير بعباده، أما إذا كان الحلف على الله على جهة حسن الظن به سبحانه ورجاء الخير منه؛ فهذا جائز؛ كما جاء في الحديث : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .
وفي حديث جندب بيان خطر اللسان ووجوب التحفظ منه .(7/116)
وعن معاذ رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ( ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ) . رواه الترمذي وصححه .
ومما سبق يتبين أنه يجب التحفظ في الألفاظ والابتعاد عن اللفظ الذي فيه سوء أدب مع الله سبحانه؛ لأن هذا يخل بالعقيدة وينقص التوحيد؛ فلا يقال : السلام على الله؛ لأنه هو السلام سبحانه، ولأن السلام على أحد دعاء له بالسلامه، والله سبحانه يدعى ولا يدعى له . ولا يقال : اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت . . . ونحو ذلك، بل كل دعاء يؤتى به على سبيل الجزم بلا تعليق بالمشيئة؛ لأن الله يفعل ما يشاء ولا مكره له . وأنه لا يقسم على الله أن لا يرحم فلانا أو يغفر لفلان؛ لأن هذا حظر ومنع لرحمة الله، وسوء ظن بالله عز وجل . كما أنه لا يجوز أن يقال : ما شاء الله وشاء فلان، وإنما يقال : ما شاء الله ثم شاء فلان؛ لأن العطف بالواو يقتضي المشاركة، ولا أحد يشارك الله سبحانه ويساويه في أمر من الأمور، وأما العطف بـ ( ثم ) ؛ فإنه يقتضي الترتيب والتبعية، فتكون مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله سبحانه وحاصلة بعدها وليست مشاركة لها .
وكل هذا مما يؤكد على المسلم وجوب دراسة العقيدة ومعرفة ما يصححها وما يخل بها حتى يكون على بينة من أمره وحتى لا يقع في المحذور وهو لا يشعر .
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح .
ثالثا : توحيد الأسماء والصفات
تقدم أن بينا أن التوحيد ثلاثة أنواع : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات .
وقد تكلمنا عن النوعين الأولين منه، وهما : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية؛ لأن كل نوع من هذه الأنواع جحده طائفة من البشر .(7/117)
فتوحيد الربوبية : جحده المعطلة الذين أنكروا وجود الله؛ كالدهرية والملاحدة ومنهم الشيوعية في عصرنا الحاضر، وإن كان جحودهم له إنما هو في الظاهر مكابرة منهم، وإلا؛ فهم يقرون به في الباطن وفي قرارة أنفسهم؛ إذ لا يعقل وجود مخلوق بدون خالق .
والقسم الثاني - وهو توحيد الألوهية - جحده أكثر الخلق، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بالدعوة إليه، وقد جحده المشركون قديما وحديثا، وجحودهم له يتمثل بعبادة الأشجار والأحجار والأصنام والقبور والأضرحة وعبادة المشايخ الصوفية باعتقاد النفع والخير فيهم من دون الله عز وجل ممن ينتسبون إلى الإسلام زورا وبهتانا .
والقسم الثالث - وهو توحيد الأسماء والصفات - يعني : إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص؛ على حد قول الله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
وهذا القسم قد جحده الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة، وهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية، لكن لما كثر منكروه وروجوا الشبه حوله؛ أفرد بالبحث، وجعل قسما مستقلا، وألفت فيه المؤلفات الكثيرة .
فألف الإمام أحمد رده المشهور على الجهمية، وألف ابنه عبد الله كتاب " السنة " ، وألف عبد العزيز الكناني كتاب " الحيدة " في الرد على بشر المريسي، وألف أبو عبد الله المروزي كتاب " السنة " ، وألف عثمان بن سعيد كتاب " الرد على بشر المريسي " ، وألف إمام الأئمة محمد بن خزيمة كتاب " التوحيد " ، وألف غير هؤلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هؤلاء ومن جاء بعدهم وسار على نهجهم، فلله الحمد والمنة على بيان الحق ودحض الباطل .(7/118)
وأول من عرف عنه إنكار الصفات بعض مشركي العرب الذين أنزل الله فيهم قوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } .
وسبب نزول هذه الآية أن قريشا لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } .
وذكر ابن جرير أن ذلك كان في صلح الحديبية، حين كتب الكاتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ قالت قريش : أما الرحمن؛ فلا نعرفه .
روى ابن جرير أيضا عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدا يقول : " يا رحمن ! يا رحيم ! " ، فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى . فأنزل : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } .
وقال تعالى في سورة الفرقان : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } .
فهؤلاء هم سلف الجهمية والأشاعرة في إنكار أسماء الله وصفاته، وبئس السلف لبئس الخلف، { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } .
أما الرسل وأتباعهم - خصوصا خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والذين اتبعوهم بإحسان-؛ فهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وينكرون على من يخالف هذا المنهج .
فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس : أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك ! فقال : " ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه " .(7/119)
يشير رضي الله عنه إلى أناس يحضرون مجلسه من عامة الناس؛ بأنهم إذا سمعوا شيئا من نصوص الصفات - وهي من المحكم -؛ حصل معهم فرق ( أي : خوف ) وانتفضوا كالمنكرين لها؛ فهم كالذين قال الله فيهم : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ؛ فيدعون المحكم ويتبعون المتشابه، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض .
ونصوص الصفات من المحكم لا من المتشابه، يقرؤها المسلمون ويتدارسونها ويفهمون معناها ولا ينكرون منها شيئا .
قال وكيع : " أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ( يعني : أحاديث الصفات ) ولا ينكرونها " . انتهى . وإنما ينكرها المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين ساروا على منهج مشركي قريش الذين يكفرون بالرحمن ويلحدون في أسماء الله .
وقد قال تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ؛ فأثبت لنفسه الأسماء الحسنى، وأمر أن يدعى بها، وكيف يدعى بما لا يسمى به ولا يفهم معناه على زعم هؤلاء ؟ ! وتوعد هؤلاء الذين يلحدون في أسمائه فينفونها عنه أو يؤولونها عن معانيها الصحيحة بأنه سيجزيهم على عملهم بالعقاب والعذاب .
كما وصفهم بالكفر في قوله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } ؛ فلهذا كفر الجهمية كثير من أهل السنة .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ** عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنـ ** ـهم بل قد حكاه قبله الطبراني
وجوب احترام أسماء الله سبحانه وتعالى
قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .(7/120)
وقال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } .
يخبر تعالى أن أسماءه حسنى؛ أي : حسان، قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها؛ لما تدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ فهي أحسن الأسماء وأكملها .
وأسماؤه سبحانه توقيفية؛ فلا يجوز لنا أن نسميه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { فادعوه بها } أي : اسألوه وتوسلوا إليه بها؛ كما تقول : اللهم ! اغفر لي وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم .
وأسماؤه سبحانه كثيرة لا تحصر ولا تحد بعدد، منها ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ كما في الحديث الصحيح : " أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " فجعل أسماءه ثلاثة أقسام : قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه " .
وقوله تعالى : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } ؛ أي : أعرضوا عنهم واتركوهم؛ فإن الله سيتولى جزاءهم، ولهذا قال : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، ومعنى { يلحدون في أسمائه } ؛ أي : يميلون بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها .
والإلحاد بأسماء الله أنواع :
أحدها . أن يسمى بها الأصنام؛ كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها .
الثاني . تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع .
الثالث . وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود : إنه فقير، وانه استراح يوم السبت، وقولهم : يد الله مغلولة .(7/121)
والرابع . تعطيل أسماء الله الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول الجهمية وأتباعهم : إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع البصير، ويقولون : لا سمع له ولا بصر مثلا، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن المشركين أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله وعطلوا أسماءه وصفاته .
والواجب إثبات أسمائه وصفاته واعتقاد ما تدل عليه من صفات كماله ونعوت جلاله؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله سبحانه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
والواجب احترام أسمائه من أن يسمى بها غيره، وذلك من تحقيق التوحيد .
فعن أبي شريح : أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله هو الحكم، وإليه الحكم فقال إن قومي كانوا إذا اختلفوا في شيء؛ أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال ما أحسن هذا ! فما لك من الولد ؟ قلت شريح ومسلم وعبد الله قال فمن أكبرهم ؟ قلت شريح قال فأنت أبو شريح ) . رواه أبو داود وغيره .
فغير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته من أجل احترام أسماء الله؛ لأن الله هو الحكم على الإطلاق، قال تعالى : { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } ، وهو الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم في الدنيا بين خلقه بوحيه الذي أنزله على أنبيائه، ويحكم بينهم يوم القيامة بعلمه فيما اختلفوا فيه، وينصف المظلوم من الظالم .
وفي هذا الحديث دليل على المنع من التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها؛ كالتكني بأبي الحكم ونحوه .
ومن احترام أسماء الله أن لا يقول الإنسان لمملوكه : عبدي وأمتي؛ لما في لك من إيهام المشاركة في الربوبية .(7/122)
وفي " الصحيح " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم أطعم ربك ! وضيء ربك ! وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي ) .
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الألفاظ ( ربك ) ( عبدي ) ( أمتي ) ؛ لأنها توهم التشريك مع الله، وسدا للذريعة، وحسما لمادة الشرك، وأرشد المالك أن يقول : فتاي وفتاتي، والعبد أن يقول : سيدي ومولاي .
ومن احترام أسماء الله سبحانه أن لا يرد من سأل بالله .
عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سأل بالله؛ فأعطوه ) .
لأن منع من سأل بالله يدل على عدم إجلال الله، وفي إعطائه دليل على تعظيم الله والتقرب إليه سبحانه .
ومن احترام أسماء الله تعالى أنه لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة؛ إجلالا له وإكراما له وتعظيما له .
عن جابر رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ) . رواه أبو داود .
فلا يسأل بوجه الله تعالى ما هو حقير من حوائج الدنيا، وإنما يسأل به ما هو غاية المطالب، وهو الجنة، أو ما هو وسيلة إلى الجنة مما يقرب إليها من قول أو عمل .
ومن احترام أسماء الله أن لا يكثر الحلف بها .
قال الله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } ؛ قال ابن عباس : يريد : لا تحلفوا . لأن كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالله وعدم التعظيم له، وذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب .
وعن سلمان رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه ) . رواه الطبراني بسند صحيح .(7/123)
ومعنى " جعل الله بضاعته " ؛ أي : جعل الحلف بالله بضاعته؛ ففيه شدة الوعيد على كثرة الحلف؛ لأن ذلك يدل على الاستخفاف بحق الله تعالى وعدم احترام أسمائه .
ومن إجلال الله وتعظيمه أنه لا يستشفع به على خلقه؛ لما في ذلك من تنقصه سبحانه؛ لأن المستشفع به يكون أقل درجة من المشفوع عنده .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : إنما يشفع عند من هو أعلى منه، تعالى الله عن ذلك .
وقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكى إليه القحط وهلاك الأموال، وطلب منه أن يستسقي لهم، وقال : فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبحان الله ! سبحان الله ! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك ! أتدري ما الله ؟ ! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ) . رواه أبو داود .
فشأن الله عظيم وهو الذي يشفع عنده بإذنه سبحانه .
منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية في أسماء الله وصفاته إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة مع اعتقاد ما دلت عليه وأنها على ظاهرها .
ولا يلزم من إثباتها تشبيه الله بخلقه تعالى الله عن ذلك؛ لأن صفات الخالق تخصه وتليق به، وصفات المخلوقين تليق بهم وتخصهم، ولا تشابه بين الصفتين؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق سبحانه وذات المخلوق .
ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك ينبني على أسس سليمة وقواعد مستقيمة، وهذه الأسس هي :(7/124)
أولا . أن أسماء الله وصفاته توقيفية؛ بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات، ولا يثبتون شيئا بمقتضى عقولهم وتفكيرهم، ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته، لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم؛ فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة في إثبات ولا نفي، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه ولا إثباته - كالعرض والجسم والجوهر - فهم يتوقفون فيه بناء على هذا الأصل العظيم .
ثانيا . أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهو حق على ظاهره، ليس فيه أحاجي ولا ألغاز، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه .
فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من المتشابه الذي يفوض معناه؛ لأن اعتبار نصوص الصفات مما لا يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، والله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن كله، وحضنا على تعقله وتفهمه، وإذا كانت نصوص الصفات مما لا يفهم معناه؛ فيكون الله قد أمرنا بتدبر وتفهم ما لا يمكن تدبره وتفهمه، وأمرنا باعتقاد ما لم يوضحه لنا، تعالى الله عن ذلك !
إذا؛ فمعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا لا يعلمها إلا الله تعالى .
ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ؛ كيف استوى ؟ قال : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " .
وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة؛ فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه؛ فقد كذب عليهم؛ لأن كلامهم يخالف ما يقوله هذا المفتري .(7/125)
ثالثا . السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل؛ فلا يمثلونها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء ولا كفء له ولا ند له ولا سمي له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاء لمعرفة كيفيتها، وكيفيتها مجهولة لنا مثل كيفية الذات؛ لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، والله تعالى لا يعلم كيفية ذاته إلا هو، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات؛ فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ؛ أي : لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
فيجب الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا أحد أعلم من الله بالله، { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } ؛ فهو أعلم بنفسه وبغيره؛ كما يجب الإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا أحد بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله في حقه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ؛ فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينزه ربه جل وعلا من أن تشبه صفته صفة الخلق .
فمن تقدم بين يدي الله ورسوله، وتجرأ على الله، فنفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات العظيمة وما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : هذا الذي وصفت به نفسك ووصفك به رسولك لا يليق بك ! وفيه من النقص كذا وكذا ! ! فأنا أأوله وألغيه وآتي ببدله من تلقاء نفسي؛ كما قال بعضهم :
وكل نص أوهم التشبيها ** أوله أو فوض ورم تنزيها
فلا أرجع إلى كتابك ولا إلى سنة نبيك في ذلك؛ لأن فيها ما يوهم التشبيه، وإنما أرجع إلى قواعد المتكلمين وأقاويل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية ! فهل يكون يا عباد الله هذا مؤمنا بالله وبكتابه وسنة رسوله ؟ ! وهل يكون معظما لربه ؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم .(7/126)
رابعا . وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجه يليق بجلاله ولا يشبهونه بخلقه؛ فهم ينزهونه عن النقائص والعيوب تنزيها لا يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجة التنزيه؛ فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه، وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات .
خامسا . وطريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات؛ كما في قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ؛ فأجمل في النفي، وهو قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وفصل في الإثبات، وهو قوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
وكل نفي في صفات الله؛ فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفيا محضا؛ لأن النفي المحض ليس فيه مدح؛ لأنه عدم محض، والعدم ليس بشيء .
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال : قوله تعالى : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ؛ أي : لكمال عدله سبحانه، وقوله : { ولا يؤوده حفظهما } ؛ أي : لكمال قدرته وقوله، وقوله : { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } ؛ أي : لكمال حياته وقيوميته .
وهكذا كل نفي عن الله؛ فإنه يتضمن إثبات ضد المنفي من الكمال والجلال .
هذا، ونسأل الله البصيرة في دينه، والعمل بطاعته، ومعرفة الحق والعمل به
منهج الجهمية وتلاميذهم في أسماء الله وصفاته(7/127)
يجب على المسلم إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته على وفق ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن هذا يدخل في باب الإيمان بالله عز وجل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، متخذين كتاب الله وسنة رسوله الدليل والمرجع في ذلك، عكس ما عليه الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة، الذين ينفون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، أو ينفون بعضا منها ويثبتون البعض الآخر تحكما منهم، ويجعلون مرجعهم في ذلك ما قررته عقولهم القاصرة أو قرره لهم أئمة الضلال، وفرق بين من جعل دليله الكتاب والسنة ومن جعل دليله نحاتة الأفكار وزبالة الأذهان؛ كما يقوله واحد منهم :
وكل نص أوهم التشبيها ** أوله أو فوض ورم تنزيها
هذا تعاملهم مع نصوص الكتاب والسنة في باب أسماء الله وصفاته؛ التأويل، وهو صرف هذه النصوص عما دلت عليه من المعاني الجليلة إلى ما تقرره عقولهم من الأفكار العقيمة والآراء الباطلة، وما عجزت عنه عقولهم؛ فرفضوه واعتقدوا خلاف ما يدل عليه .
سبحانك ربي ! ما أعظم شأنك ! وما أحلمك على عبادك ! إنهم نفوا عنك ما أثبته لنفسك من صفات الكمال ونعوت الجلال، وخالفوا كتابك، وقدموا ما أملته عليهم عقولهم على ما أنزلته في كتابك، نفوا عنك أسماءك وصفاتك، ونفوا عن كتابك حجيته وهدايته .(7/128)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في هؤلاء : " ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل الباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن يحملوا كلامه على ما لا يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء .
فإنه إن قال : إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه؛ فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال : إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء .
ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله؛ فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الحق والهدى؛ فهذا من أسوء الظن بالله . . . " .
إلى أن قال : " ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام إلا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا، ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به؛ فقد ظن به ظن السوء .(7/129)
ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه . . . " . انتهى كلامه رحمه الله، وهو يعني به أولئك الذين نفوا ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ومعلوم أن من نفى عن الله صفات الكمال؛ فقد أثبت له أضدادها من صفات النقص، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
ثم يلزم من هذا أن يكون هؤلاء الضلال أعلم بالله وما يستحقه من الله؛ لأنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه، وزعموا أنه لا يليق به، وأي ضلال أعظم من هذا ؟ ! وأي جرأة على الله أعظم من هذه الجرأة ؟ !
ويلزم من ذلك أيضا أن يكونوا أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت لله هذه الصفات، وهم نفوها وقالوا : إنها لا تليق بالله ! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال لو كانوا يعقلون ؟ !
كيف يكون هؤلاء الجهال الضلال أعلم بالله من نفسه تعالى الله عما يقولون؛ والله تعالى يقول : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } ، ولا أحد من الخلق أعلم بالله وما يستحقه وما يليق به من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ !(7/130)
إن الذي حمل الجهمية وأتباعهم على نفي صفات الله عز وجل هو جهلهم بالله وسوء أفهامهم؛ حيث ظنوا أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله يلزم منها التشبيه؛ لأنهم يرون هذه الصفات في المخلوقين، ولا يفرقون بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم يفهموا من صفات الخالق إلا ما فهموا من صفات المخلوقين، ولم يعلموا أن صفات الخالق سبحانه تخصه وتليق به وصفات المخلوقين تخصهم وتليق بهم، ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق وذوات المخلوقين؛ كما قال الله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى عنه مشابهة الأشياء، فدل ذلك على أن إثبات الصفات لا يلزم منه المشابهة بين الخالق والمخلوق .
وهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته؛ أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا تمثيل، ونزهوه عما نزه نفسه عنه بلا تعطيل .
أما الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة؛ فإنهم بنوا مذهبهم على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، وهو أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، فيلزم حيال النصوص الواردة بذلك أحد أمرين عندهم : إما تأويلها عن ظاهرها، واما تفويضها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، ولهذا يقول ناظم عقيدتهم :
وكل نص أوهم التشبيها ** أوله أو فوض ورم تنزيها
سبحانك ربي عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .
وقد أجرى الله الحق على لسان هذا الناظم حيث قال : " وكل نص أوهم التشبيها " ؛ فبين أن مذهبهم مبني على الوهم لا على الحق؛ لأنهم توهموا أن هذه النصوص تقتضي التشبيه، فراحوا يؤولونها ! ! وهل الوهم يا عباد الله تعارض به النصوص وتبنى عليه عقيدة ؟ ! إن الوهم أقل درجة من الظن، والله تعالى يقول في الظن : { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } ! !(7/131)
الرد على المنحرفين عن منهج السلف في أسماء الله وصفاته من المشبهة والمعطلة
المنحرفون عن منهج السلف في أسماء الله وصفاته طائفتان : المشبهة، والمعطلة .
1- المشبهة :
وهؤلاء شبهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، ولذلك سموا بالمشبهة .
وأول من قال هذه المقالة هو هشام بن الحكم الرافضي وبيان بن سمعان التميمي الذي تنسب إليه البيانية من غالية الشيعة .
فالمشبهة غلوا في إثبات الصفات حتى أدخلوا في ذلك ما نفاه الله ورسوله مما لا يليق به سبحانه من صفات النقص تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ومن هؤلاء هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي .
وقد نفى الله في كتابه مشابهته لخلقه ونهى عن ضرب الأمثال له؛ فقال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } .
فمن شبه صفات الله بصفات خلقه؛ لم يكن عابدا لله في الحقيقة، وإنما يعبد وثنا صوره له خياله ونحته له فكره؛ فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن .
قال العلامة ابن القيم :
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ** إن المشبه عابد الأوثان
ومن شبه صفات الله بصفات خلقه؛ فهو مشابه للنصارى الذين يعبدون المسيح بن مريم عليه السلام .
يقول العلامة ابن القيم :
من مثل الله العظيم بخلقه ** فهو النسيب لمشرك نصراني
وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري رحمهما الله : " من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن نفى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله؛ فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه " .
2- المعطلة :
وهؤلاء نفوا عن الله ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من صفات الكمال، زاعمين أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ فهم على طرفي نقيض مع المشبهة .(7/132)
ومذهب التعطيل مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وأول من حفظ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المئة الثانية، أخذ هذا المذهب الخبيث عنه الجهم بن صفوان وأظهره، وإليه نسبت الجهمية، ثم انتقل هذا المذهب إلى المعتزلة والأشاعرة . . .
فهذه أسانيد مذهبهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة ! !
وهم في هذا التعطيل متفاوتون : فالجهمية ينفون الأسماء والصفات . والمعتزلة يثبتون الأسماء مجردة عن معانيها وينفون الصفات . والأشاعرة يثبتون الأسماء وسبع صفات فقط هي : العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وينفون بقية الصفات .
وشبهة الجميع فيما نفوه من الصفات أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم بزعمهم؛ لأنه لا يشاهد موصوف بها إلا هذه الأجسام، والله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ فتعين نفي الصفات وتعطيلها تنزيها لله عن التشبيه بزعمهم، ولهذا يسمون من أثبتها مشبها .
ووقفوا من النصوص الدالة على إثباتها موقفين :
الموقف الأول . الإيمان بألفاظها وتفويض معانيها؛ بأن يسكتوا عن تفسيرها ويفوضوه إلى الله مع نفي دلالتها على شيء من الصفات، وسموا هذه الطريقة طريقة السلف، وقالوا هي الأسلم .
الموقف الثاني . صرف هذه النصوص عن مدلولها إلى معان ابتدعوها، وهذا ما يسمونه بطريقة التأويل، وسموه طريقة الخلف، وقالوا هي الأعلم والأحكم .
والرد على شبهتهم : أن نقول :(7/133)
لا ريب أن التمثيل قد نطق القرآن الكريم بنفيه عن الله تعالى؛ كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، وقوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ، وقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، وقوله : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } ، وقوله : { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } ، لكن مع نفيه سبحانه عن نفسه مشابهة المخلوقين أثبت لنفسه صفات الكمال؛ كما في قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ؛، فجمع في هذه الآية الكريمة بين نفي التشبيه عنه وأثبت لنفسه صفتي السمع والبصر، فدل على أن إثبات الصفات لا يقتضي التشبيه؛ إذ لا تلازم بينهما .
وهكذا في كثير من آيات القرآن الكريم نجد إثبات الصفات مع نفي التشبيه جنبا إلى جنب، وهذا هو مذهب السلف الصالح؛ يثبتون الصفات وينفون عنه التشبيه والتمثيل .(7/134)
ومن زعم أن إثبات الصفات لا يليق بالله لأنه يقتضي التشبيه؛ فإنما جره إلى ذلك سوء فهمه؛ حيث فهم أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فأداه هذا الفهم الخاطئ إلى نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ومعطلا ثانيا وارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه طاهرا من أقذار التشبيه؛ لكان المتبادر عنده والسابق إلى فهمه أن صفات الله عز وجل بالغة من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق التشبيه والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الله على وجه يليق به، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، أما من توهم أن صفات الله تشبه صفات المخلوقين؛ فإنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يقدره حق قدره، ولهذا وقع فيما وقع فيه من ورطة التعطيل، وصار يسمي من أثبت لله صفات الكمال ونزهه عن صفات النقص على مقتضى الكتاب والسنة؛ صار يسميه مشبها ومجسما؛ نظرا لما قام بقلبه من توهم أن صفات الله تشبه صفات خلقه، ولم يدر أن هذا الوصف أليق به؛ فهو الذي شبه أولا، ثم عطل ثانيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال إمام الأئمة ناصر السنة أبو بكر محمد بن خزيمة رحمه الله في الرد على الجهمية وتلاميذهم ممن زعم أن إثبات الصفات لله عز وجل يقتضي التشبيه، وننقل كلامه مختصرا في هذا الموضوع؛ قال رحمه الله :
" وزعمت الجهمية - عليهم لعائن الله - أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بلغة الذين بلغتهم خوطبنا . . . " .(7/135)
إلى أن قال : " نحن نقول وعلماؤنا جميعا من جميع الأقطار : إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فزواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك . ونقول : إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره . . . ونقول : إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك . ونقول : إن أوجه بني آدم محدثة مخلوقة لم تكن فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة، أوجدها بعدما كانت عدما، وأن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعها ميتا ثم رميما، ثم ينشئها الله بعدما صارت رميما، ثم تصير إما إلى جنة منعمة فيها أو إلى نار معذبة فيها . . .
فهل يخطر - يا ذوي الحجا - ببال عاقل مركب فيه العقل يفهم لغة العرب ويعرف خطابها ويعلم التشبيه أن هذا الوجه شبيه بذاك ؟ !
وهل هاهنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها ووصفناها ؟ !
ولو كان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل إن لبني آدم وجها وللخنازير والقردة والسباع والحمير والبغال والحيات والعقارب وجوها قد شبه وجوه بني آدم بوجه الخنازير والقردة والكلاب وغيرها مما ذكرت ! ! ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه لو قال له أكرم الناس عليه وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد والكلب والحمار والبغل ونحو هذا إلا غضب . . . " .
إلى أن قال رحمه الله : " فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا؛ ثبت عند العقلاء وأهل التمييز أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتشبيه؛ فقد قال الباطل والكذب والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج عن لسان العرب . . . " .(7/136)
إلى أن قال رحمه الله : " والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لجهلهم بالعلم، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه، فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه قد شبهه بخلقه ! ! فاسمعوا يا ذوي الحجا ما أبين من جهل هؤلاء المعطلة :
أقول : وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير، فقال : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، وذكر عز وجل الإنسان، فقال : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } ، وأعلمنا جل وعلا أنه يرى، فقال : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } ، وقال لموسى وهارون عليهما السلام : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ، فأعلم عز وجل أنه يرى أعمال بني آدم، وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضا، وقال : { أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ } ، وبنو آدم يرون أيضا الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل : { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } ، وقال : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } ؛ فثبت ربنا لنفسه عينا، وثبت لبني آدم أعينا، فقال : { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } ؛ فقد أخبرنا ربنا أن له عينا، وأن لبني آدم أعينا، وقال لإبليس لعنه الله : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ، وقال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ؛ فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين .
أفيلزم عند هؤلاء الفسقة أن من يثبت ما ثبته الله في هذه؛ أن يكون مشبها خالقه بخلقه ؟ ! حاش لله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم . . . " انتهى كلامه .(7/137)
هذا مما رد به إمام الأئمة محمد بن خزيمة على الجهمية وتلاميذهم، وهو رد مفحم، لا يستطيعون الإجابة عنه .
وقد رد عليهم أيضا كبار الأئمة من أمثال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم، ولا تزال ردودهم والحمد لله بأيدي أهل السنة والجماعة .
ونسوق من ذلك نموذجا من رد شيخ الإسلام ابن تيمية على طائفة من هؤلاء زعمت أن النصوص التي وردت في الكتاب والسنة في صفات الله عز وجل هي من قبيل المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ولا يعلم معناه إلا هو؛ فهذه النصوص بزعمهم ليست على ظاهرها؛ لأن ظاهرها عندهم التشبيه، بل لها معنى لا يعلمه إلا الله، فيفوضون معناها إلى الله، ويزعمون أن هذه طريقة السلف، وقد كذبوا على السلف، ونسبوا إليهم ما هم براء منه؛ لأن عقيدة السلف إثبات صفات الله عز وجل كما دل عليها الكتاب العزيز والسنة النبوية، وأنها على ظاهرها، ويفسرون معناها على ما يليق بجلال الله، ولا يفوضونها، بل وهي عندهم من المحكم لا من المتشابه .
قال رحمه الله : " وأما على قول أكابرهم - يعني نفاة الصفات - إن معاني هذه النصوص لا يعلمه إلا الله، إن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها؛ فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه . . . " .(7/138)
إلى أن قال رحمه الله : " ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذا كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا؛ فأشرف ما فيه - وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى ووعد وتوعد، أو ما أخبر به عن اليوم الآخر - لا يعلم أحد معناه؛ فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاع المبين " .
وقال رحمه الله نافيا هذا القول عن السلف : " وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله؛ فنقول : ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة ولا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية؛ يعني : قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها، التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها؛ فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا، وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .(7/139)
هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحكاه عن الأئمة والسلف؛ أنهم لا يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يفهم معناه ويجب تفويضه، بل كانوا يعلمون معاني هذه النصوص ويفسرونها، وإنما يفوضون علم كيفيتها إلى الله عز وجل؛ كما قال الإمام مالك وغيره : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مسلك السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت؛ من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله؛ فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، بل الأمر كما قال الأئمة؛ منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري؛ قال : من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه؛ فمن أثبت لله ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى . . . " انتهى .
هذا مذهب السلف في أسماء الله وصفاته، وهو إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة؛ من غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تعطيل ونفي لها، بل إثبات بلا تشبيه، وتنزيه لله بلا تعطيل، على حد قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ؛ فمن نسب إلى السلف أن مذهبهم التفويض؛ فقد كذب وافترى عليهم ورماهم بما هم بريئون منه .
نسأل الله العفو والعافية .(7/140)
الأصل الثاني : الإيمان بالملائكة
الإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان الستة؛ كما جاء في حديث جبريل؛ حيث قال : " الإيمان : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " .
وقد جاء ذكر الإيمان بالملائكة مقرونا بالإيمان بالله في كثير من الآيات القرآنية :
كما قال تعالى : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } .
وكما في قوله تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } .
والإيمان بالملائكة يتضمن التصديق بوجودهم، وأنهم عباد مكرمون، خلقهم الله لعبادته وتنفيذ أوامره، والإيمان بأصنافهم وأوصافهم وأعمالهم التي يقومون بها حسبما ورد في الكتاب والسنة، والإيمان بفضلهم ومكانتهم عند الله عز وجل .
وقد ورد في " صحيح مسلم " : أن الله خلقهم من نور .
ومما يدل على فضلهم وشرفهم :
أن الله يضيفهم إليه إضافة تشريف؛ كقوله : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } ، وقوله : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ } ، وقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ } ، وقوله : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ } .
ويقرن سبحانه شهادتهم مع شهادته وصلاتهم مع صلاته؛ كقوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ } ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } .
ويصفهم سبحانه بالكرم والإكرام؛ قال تعالى : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } ، وقال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ } ، وقوله : { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } .(8/1)
ويصفهم بالعلو والتقريب؛ كما في قوله تعالى : { لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى } ، وفي قوله : { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } .
ويذكر حملهم للعرش وحفهم به؛ كما في قوله : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } ، وقوله : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } .
ويذكر سبحانه أنهم عنده ويعبدونه ويسبحونه؛ كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } ، وقوله : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } .
وهم بالنسبة إلى الأعمال التي يقومون بها أصناف :
فمنهم حملة العرش؛ قال تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } ، وقال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } .
ومنهم المقربون؛ كما قال تعالى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } .
ومنهم الموكلون بالجنان وإعداد الكرام؛ لأهلها .
ومنهم الموكلون بالنار وتعذيب أهلها، وهم الزبانية، ومقدموهم تسعة عشر، وخازنها مالك، وهو مقدم الخزنة؛ كما قال تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ، وقوله : { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } ، وقوله { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ } ، وقال تعالى : { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .(8/2)
ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم في الدنيا؛ قال تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } الآية؛ أي : معه ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه؛ فإذا جاء قدر الله؛ خلوا عنه .
ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد وكتابتها؛ قال تعالى : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، وقال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ } ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار ) ؛ فمع الإنسان ملائكة يحفظونه من المؤذيات، وملائكة يحفظون عليه أعماله وما يصدر منه .
ومن الملائكة من هو موكل بالرحم وشأن النطفة؛ كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد " .
ومنهم ملائكة موكلون بقبض الأرواح؛ قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } ، وقال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } ؛ فملك الموت له أعوان من الملائكة؛ يستخرجون روح العبد من جسمه حتى تبلغ الحلقوم، فيتناولها ملك الموت .(8/3)
والمقصود أن الله وكل بالعالم العلوي والسفلي ملائكة تدبر شئونهما بإذنه وأمره ومشيئته سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } ، وقوله : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ؛ فلهذا يضيف سبحانه التدبير إلى الملائكة تارة لكونهم المباشرين له؛ كقوله تعالى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } ، ويضيف إليه التدبير تارة؛ كقوله : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } .
فالملائكة رسل الله في خلقه وأمره، واسم الملك يتضمن أنه رسول؛ لأنه من الألوكة؛ بمعنى الرسالة، وقال تعالى : { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } ، وقال تعالى : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } ؛ فهم رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السماء والأرض، وهم رسله في تدبير أمره الديني الذي تنزل به على الرسل من البشر؛ قال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } ، وقال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } .
وأعظمهم جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي؛ كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } ، وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } .(8/4)
وقد أعطى الله الملائكة قدرة على التشكل بأشكال مختلفة؛ فقد جاءوا إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام بصورة أضياف، وكان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة : تارة يأتي في صورة دحية الكلبي، وتارة في صورة أعرابي، وتارة في صورته التي خلق عليها، وقد وقع منه هذا مرتين، وذلك لأن البشر لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته، ولما اقترح المشركون أن يرسل الله إليهم ملكا؛ قال تعالى : { وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } ؛ أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا؛ لكان على هيئة الرجل؛ ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه؛ لأن كل جنس يأنس بجنسه، وينفر من غير جنسه .
هذا، وبالله التوفيق .(8/5)
الأصل الثالث : الإيمان بالكتب
الإيمان بالكتب الإلهية هو أحد أصول الإيمان وأركانه .
والإيمان بها هو التصديق الجازم بأنها حق وصدق، وأنها كلام الله عز وجل؛ فيها الهدى والنور والكفاية لمن أنزلت عليهم .
نؤمن بما سمى الله منها، وهي القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وما لم يسم منها؛ فإن لله كتبا لا يعلمها إلا هو سبحانه .
وإنزال الكتب من رحمة الله بعباده لحاجة البشرية إليها؛ لأن عقل الإنسان محدود، لا يدرك تفاصيل النفع والضرر، وإن كان يدرك الفرق بين الضار والنافع إجمالا .
والعقل الإنساني أيضا تغلب عليه الشهوات، وتلعب به الأغراض والأهواء؛ فلو وكلت البشرية إلى عقولها القاصرة؛ لضلت وتاهت، فاقتضت حكمة الله ورحمته أن ينزل هذه الكتب على المصطفين من رسله؛ ليبينوا للناس ما تدل عليه هذه الكتب وما تتضمنه من أحكامه العادلة ووصاياه النافعة وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية .
قال تعالى حين أهبط آدم أبي البشرية من الجنة : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وقد انقسم الناس حيال الكتب السماوية إلى ثلانة أقسام :
قسم كذب بها كلها، وهم أعداء الرسل من الكفار والمشركين والفلاسفة .
وقسم آمن بها كلها، وهم المؤمنون الذين آمنوا بجميع الرسل وما أنزل إليهم؛ كما قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } .(9/1)
وقسم آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها، وهم اليهود والنصارى ومن سار على نهجهم، الذين يقولون : { نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } ، بل هؤلاء يؤمنون ببعض كتابهم ويكفرون ببعضه؛ كما قال تعالى فيهم : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
ولا شك أن الإيمان ببعض الكتاب أو ببعض الكتب والكفر بالبعض الآخر كفر بالجميع؛ لأنه لابد من الإيمان بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل؛ لأن الإيمان لابد أن يكون مؤتلفا جامعا لا تفريق فيه ولا تبعيض ولا اختلاف، والله تعالى ذم الذين تفرقوا واختلفوا في الكتاب؛ كما قال تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .
وسبب كفر من كفر بالكتب أو كفر ببعضها أو ببعض الكتاب الواحد هو اتباع الهوى والظنون الكاذبة، وزعمهم أن لهم العقل والرأي والقياس العقلي، ويسمون أنفسهم بالحكماء والفلاسفة، ويسخرون من الرسل وأتباعهم، ويصفونهم بالسفه؛ كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
وأما أتباع الرسل فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، لا يفرقون بينها .
والإيمان بالكتب السابقة إيمان مجمل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه، وتحكيمه في كل كبيرة وصغيرة، والإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود .(9/2)
وقد اقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال معينة ولأوقات محددة، ووكل حفظها إلى الذين استحفظوا عليها من البشر؛ كما قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } ، أما القرآن الكريم؛ فقد أنزله الله لكل الأجيال من الأمم في كل الأوطان إلى يوم القيامة، وتولى حفظه بنفسه؛ لأن وظيفة هذا الكتاب لا تنتهي إلا بنهاية حياة البشر على الأرض؛ قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، وقال تعالى : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } .
ويجب تحكيم هذا القرآن في جميع الخلافات، ويجب رد جميع النزاعات إليه .
وقد جعل الله التحاكم إلى غير كتابه تحاكما إلى الطاغوت؛ قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } ، والطاغوت : فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد .
وقد ذم الله المدعين للإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت .(9/3)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وما حكم قوم بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم " . وهذا من أعظم تغيير الدول ونشوب الفتن والتناحر بين الشعوب؛ لأن الإيمان بالكتاب يوجب التحاكم إليه؛ فمن ادعى الإيمان بالكتاب وهو يتحاكم إلى غيره؛ فهو متناقض في دعواه، والكتاب لا يتجزأ؛ فيجب تطبيقه كله والعمل به كله في كل المجالات؛ في العقائد والعبادات والمعاملات، وفي الأحوال الشخصية والجنايات والحدود، وفي الآداب والسلوك .
قال تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
وقال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ؛ فنفى الإيمان نفيا مؤكدا بالقسم عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع، مع انشراح صدره وانقياده لحكم الله؛ كما وصف من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق، وإن ادعى الإيمان والعدالة والعدل .
فتبا لقوم استبدلوا كتاب الله بالقوانين الوضعية الطاغوتية وهم يدعون الإيمان؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(9/4)
الأصل الرابع : الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل أحد أصول الإيمان؛ لأنهم الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وإقامته حجته على خلقه .
والإيمان بهم يعني : التصديق برسالتهم، والإقرار بنبوتهم، وأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله، وقد بلغوا الرسالات، وبينوا للناس ما لا يسع أحدا جهله .
والأدلة على وجوب الإيمان بالرسل كثيرة؛ منها :
قوله تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } .
وقوله تعالى : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } .
وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } .
ففي هذه الآيات قرن الله الإيمان بالرسل بالإيمان به سبحانه وبملائكته وكتبه، وحكم بكفر من فرق بين الله ورسله؛ فآمن ببعض وكفر ببعض .
وبعث الرسل نعمة من الله على البشرية؛ لأن حاجة البشرية إليهم ضرورية؛ فلا تنتظم لهم حال ولا يستقيم لهم دين إلا بهم؛ فهم يحتاجون إلى الرسل أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين خلقه في تعريفهم بالله وبما ينفعهم وما يضرهم، وفي تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه؛ فلا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفصيل هذه الأمور، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة .(10/1)
قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } .
وحاجة العباد إلى الرسالات أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبيب؛ فإن غاية ما يحصل بعدم وجود طبيب تضرر البدن، والذي يحصل من عدم الرسالة هو تضرر القلوب، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسالة موجودة فيهم؛ فإذا ذهبت آثار الرسالة من الأرض؛ أقام الله القيامة .
والرسل الذين ذكر الله أسماءهم في القرآن يجب الإيمان بأعيانهم وهم خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر ذكرهم الله في قوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } إلى قوله : { وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } ، والباقون- وهم سبعة- ذكروا في آيات متفرقة .
ومن لم يسم في القرآن من الرسل؛ وجب الإيمان به إجمالا؛ قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } ، وقال تعالى : { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } .
وهنا مسألة تحتاج إلى بيان وهي : الفرق بين النبي والرسول :
فالفرق بين النبي والرسول على المشهور : أن الرسول إنسان ذكر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه . والنبي إنسان ذكر أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه .
وكل من النبي والرسول يوحى إليه، لكن النبي قد يبعث في قوم مؤمنين بشرائع سابقة؛ كأنبياء بني إسرائيل؛ يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قصة معينة . وأما الرسل؛ فإنهم يبعثون في قوم كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته؛ فهم يرسلون إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم .
والرسول أفضل من النبي .(10/2)
والرسل يتفاضلون؛ قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
وأفضل الرسل أولو العزم، وهم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهم المذكورون في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } ، وفي قوله : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } .
وأفضل أولو العزم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما وعليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام .
وأفضل الخليلين محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا؛ والنبوة تفضُّل واختيار من الله تعالى؛ كما قال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } .
وليست النبوة كسبا يناله العبد بالجد، والاجتهاد، وتكلف أنواع العبادات، واقتحام أشق الطاعات، والدأب في تهذيب النفس وتنقية الخاطر وتطهير الأخلاق ورياضة النفس؛ كما يقول الفلاسفة : إنه يجوز اكتساب النبوة؛ حيث يزعمون أن من لازم المشاهدة بعد كمال ظاهره وباطنه بالتهذيب والرياضة؛ فإنها تنصقل مرآة باطنه، وتفتح له بصيرة لبه، ويتهيأ له ما لا يتهيأ لغيره ! !
فللنبوة عند الفلاسفة ثلاث خصائص :
الأولى . القوة العلمية؛ بحيث ينال العلم بدون تعلم بل بطريق القوة .
الثانية . قوة التخيل؛ بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه ويسمع الخطاب منها .
الثالثة . قوة التأثير في الناس، وهي التي يسمونها التصرف في هيولى العالم .
وهذه الصفات عندهم تحصل بالاكتساب .(10/3)
ولهذا طلب النبوة بعض المتصوفة؛ فهي عندهم صنعة من الصنائع، وهذا قول باطل، يرد عليه قول الله تعالى : { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ، وقوله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } .
فالنبوة اصطفاء من الله حسب حكمته وعلمه بمن يصلح لها، وليست اكتسابا من قبل العبد .
صحيح أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اختصوا بفضائل يمتازون بها عن غيرهم، ولكن ليست على النحو الذي يقوله الفلاسفة الضلَّال .
دلائل النبوة
دلائل النبوة هي الأدلة التي تعرف بها نبوة النبي الصادق، ويعرف بها كذب المدعي للنبوة من المتنبئين الكذبة؛ لأن هذا موضوع هام جدا .
ودلائل النبوة كثيرة ومتنوعة وغير محصورة؛ فمنها :
1 . المعجزة : وهي اسم فاعل من العجز المقابل للقدرة، وفي القاموس : معجزة النبي : ما أعجز به الخصم عند التحدي، والهاء فيها للمبالغة، وهي أمر خارق للعادة يجريه الله على يد من يختاره لنبوته ليدل على صدقه وصحة رسالته .
ومعجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام كثيرة : منها الناقة التي أوتيها صالح عليه السلام حجة على قومه، وقلب العصا حية آية لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى آية لعيسى عليه السلام، ومنها معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة، أعظمها القرآن الكريم، وهو المعجزة الخالدة التي تحدى الله بها الجن والإنس، ومنها الإسراء والمعراج وانشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه عليه الصلاة والسلام وحنين الجذع إليه وإخباره عن حوادث المستقبل والماضي . . .
ودلائل النبوة ليست محصورة في المعجزة كما يقوله المتكلمون، بل هي كثيرة متنوعة؛ فمنها أيضا :(10/4)
2 . إخبارهم الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أعدائهم وبقاء العاقبة لهم، فوقع كما أخبروا، ولم يتخلف منه شيء؛ كما حصل لنوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مما قصه الله في كتابه .
3 . ومنها أن ما جاءوا به من الشرائع والأخبار في غاية الإحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدي الخلق مما يعلم بالضرورة أن مثله لا يصدر إلا عن أعلم الناس وأبرهم .
4 . ومنها أن الله يؤيدهم تأييدا مستمرا، وقد علم من سنته سبحانه أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما يؤيد به الصادق، بل لابد أن يفتضح الكذاب، وقد يمهله الله ثم يهلكه .
5 . ومنها : أن طريقتهم واحدة فيما يأمرون به من عبادة الله والعمل بطاعته والتصديق باليوم الآخر والإيمان بجميع الكتب والرسل؛ فلا يمكن خروج واحد منهم عما اتفقوا عليه؛ فهم يصدق متأخرهم متقدمهم، ويبشر متقدمهم بمتأخرهم؛ كما بشر المسيح ومن قبله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكما صدق محمد صلى الله عليه وسلم جميع النبيين قبله . . .
6 . ومن دلائل النبوة : تأييد الله للأنبياء؛ فقد علم من سنة الله وعادته أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما يؤيد به الصادق، بل يفضح الكذاب ولا ينصره، بل لابد أن يهلكه، وإذا نصر ملكا ظالما مسلطا؛ فهو لم يدع النبوة ولم يكذب عليه، بل هو ظالم سلطه الله على ظالم مثله؛ كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ؛ بخلاف من قال : إن الله أرسله وهو كاذب؛ فهذا لا يؤيده تأييدا مستمرا، لكن قد يمهله مدة ثم يهلكه .
والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة؛ فكيف بدعوى النبوة ؟ !(10/5)
ومعلوم أن مدعي الرسالة : إما أن يكون من أفضل الخلق وأكمله، وإما أن يكون من أنقص الخلق، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم ودعاهم إلى الإسلام فقال له : " والله؛ لا أقول لك كلمة واحدة : إن كنت صادقا؛ فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبا؛ فأنت أحقر من أن أرد عليك " . فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم ؟ !
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين؛ إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر به كذبه لمن له أدنى تمييز، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين؛ إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر به صدقه لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ولابد أن يفعل أمورا، والكاذب يظهر من نفس ما يأمر به ويخبر عنه ويفعله ما يظهر به كذبه من وجوه كثيرة .
هذا؛ وربما يسأل سائل عن الفرق بين دلائل النبوة وخوارق السحرة والكهان وعجائب المخترعات التي ظهرت اليوم ؟
والجواب : أن هناك فوارق كثيرة بين دلائل النبوة وخوارق السحرة والكهان والمخترعات الصناعية :
منها : أن أخبار الأنبياء لا يقع فيها تخلف ولا غلط؛ بخلاف أخبار الكهنة والمنجمين؛ فالغالب عليها الكذب، وإن صدقوا أحيانا في بعض الأشياء بسبب ما يحصل عليه الكهان من استراق شياطينهم للسمع .(10/6)
ومنها : أن السحر والكهانة والاختراع أمور معتادة معروفة ينالها الإنسان بكسبه وتعلمه؛ فهي لا تخرج عن كونها مقدرة للجن والإنس، ويمكن معارضتها بمثلها؛ بخلاف آيات الأنبياء؛ فإنها لا يقدر عليها جن ولا إنس؛ كما قال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ؛ فآيات الأنبياء لا يقدر عليها الخلق، بل الله هو الذي يفعلها آية وعلامة على صدقهم؛ كانشقاق القمر وقلب العصا حية وتسبيح الحصا بصوت يسمع وحنين الجذع وتكثير الماء والطعام القليل . . . فهذا لا يقدر عليه إلا الله .
ومنها : أن الأنبياء مؤمنون مسلمون يعبدون الله وحده بما أمر ويصدقون جميع ما جاءت به الأنبياء، وأما السحرة والكهان والمتنبئون الكذبة؛ فلا يكونون إلا مشركين مكذبين ببعض ما أنزل الله .
ومنها : أن الفطر والعقول توافق ما جاء به الأنبياء عليهم السلام، وأما السحرة والكهان والدجالون الكذابون؛ فإنهم يخالفون الأدلة السمعية والعقلية والفطرية .
ومنها : أن الأنبياء جاءوا بما يكمل الفطر والعقول، والسحرة والكهان والكذبة يجيئون بما يفسد العقول والفطر .
ومنها : أن معجزات الأنبياء لا تحصل بأفعالهم هم، وإنما يفعلها الله عز وجل آية وعلامة لهم؛ كانشقاق القمر وقلب العصا حية والإتيان بالقرآن والإخبار بالغيب الذي يختص الله به . . . فأمر الآيات إلى الله لا إلى اختيار المخلوق؛ كما قال الله لنبيه عندما طلبوا منه أن يأتي بآية؛ قال : { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } ، وأما خوارق السحرة والكهان والمخترعات الصناعية؛ فإنها تحصل بأفعال الخلق .
والفوارق بين آيات الأنبياء وخوارق الكهان كثيرة واضحة، ومن أراد المزيد؛ فليراجع كتاب " النبوات " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
معجزة القرآن(10/7)
إن أعظم معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم؛ لأن كل نبي تكون معجزته مناسبة لحال قومه، ولذلك :
لما كان السحر فاشيا في قوم فرعون؛ جاء موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا فاحتاروا وانفجعوا وعلموا أن ما جاء به موسى هو الحق وليس من السحر؛ كما قال تعالى : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } ، ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى عليه السلام .
ولما كان الزمن الذي يعيش فيه عيسى عليه السلام قد فشا فيه الطب؛ جاء المسيح بما حير الأطباء من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص من الداء العضال القبيح وخلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طيرا بإذن الله، فطاشت عقول الأطباء، وأذعنوا أن ذلك من عند الله عز وجل .
ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة وفرسان الكلام والخطابة؛ جعل الله سبحانه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ، وهي المعجزة الباقية الخالدة على مر العصور .
فقد اختار الله هذه المعجزة الباهرة لخاتمة الرسالات السماوية العامة للناس أجمعين؛ فالقرآن معجزة يطلع عليها الأجيال في كل زمان ويتلونه، فيعلمون أنه كلام الله حقا، وليس كلام البشر، وقد تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة منه؛ فما استطاع أحد منهم منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا وإلى الأبد أن يأتي أحد بكتاب مثله أو بمثل سورة منه، على الرغم من وجود أعداء كثيرين للرسول صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام في عصور التاريخ .(10/8)
قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُم صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُوهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلْكَافِرِين } ؛ فالتحدي لا يزال قائما إلى قيام الساعة في قوله : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } .
وقال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وهذا التحدي كان بمكة؛ فإن سورة يونس وهود والطور من المكي، ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال في سورة البقرة -وهي مدنية- : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ؛ فذكر أمرين :
أحدهما : قوله : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ } ؛ يقول : إذا لم تفعلوا؛ فقد علمتم أنه حق؛ فخافوا الله أن تكذبوه، فيحيق بكم العذاب الذي وعده للمكذبين .
والثاني : قوله : { وَلَنْ تَفْعَلُوا } ، ولن لنفي المستقبل، فثبت أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله؛ كما أخبر بذلك .(10/9)
وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول في سورة سبحان - وهي مكية افتتحها بذكر الإسراء وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر- : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ؛ أمره أن يخبر بالخبر جميع الخلق؛ معجزا لهم، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا عليه وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة من مثله .
ومن حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم والأمر على ذلك، مع ما علم من أن الخلق كانوا كلهم كفارا قبل أن يبعث، ولما بعث إنما تبعه قليل، وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله، مجتهدين بكل طريق ممكن؛ تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور الغيب حتى يسألوه عنها؛ كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين، ويجتمعون في مجمع بعد مجمع ليتفقوا على ما يقولونه فيه، وصاروا يضربون له الأمثال فيشبهونه بمن ليس بمثله مع ظهور الفرق؛ فتارة يقولون : مجنون، وتارة : ساحر، وكاهن، وشاعر . . . إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون هم وغيرهم من كل عاقل يسمعها أنها افتراء عليه .
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة، وهي تبطل دعواهم؛ فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها؛ لفعلوها؛ فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة؛ وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض؛ فهذا يوجب علما مبينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة وبغير حيلة . وهذا أبلغ من الآيات التي تكرر جنسها؛ كإحياء الموتى؛ فإن هذا لم يأت أحد بنظيره .(10/10)
فإقدامه صلى الله عليه وسلم في أول الأمر على هذا التحدي وهو بمكة وأتباعه قليل على أن يقول خبرا يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله في ذلك العصر وفي سائر الأعصار المتأخرة لا يكون إلا مع جزمه بذلك وتيقنه له، وإلا؛ فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فينفضح فيرجع الناس عن تصديقه، وإذا كان جازما بذلك متيقنا له؛ لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله تعالى له بذلك، وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر، والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا . . . " .
والقرآن الكريم معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب المستقبل وعن الغيب الماضي، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية .
عصمة الأنبياء
العصمة : المنعة، والعاصم : المانع الحامي، والاعتصام : الامتساك بالشيء .
والمراد بالعصمة هنا حفظ الله لأنبيائه من الذنوب والمعاصي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية حاكيا للخلاف ومبينا الراجح في هذه المسألة : " الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه :(10/11)
كما قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
وقال : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } .
وقال : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } " .
قال : " وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة؛ فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين . . . " .
إلى أن قال : " وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة؛ فللناس فيه نزاع : هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها ؟ أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها ؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط ؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أو لا ؟(10/12)
والقول الذي عليه جمهور الناس -وهو الموافق للآثار المنقولة من السلف- إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا، والرد على من يقول : إنه يجوز إقرارهم عليها . وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء .
فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه؛ كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي؛ فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه .
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التغيير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية . . . فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا؛ فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه؛ كما قال بعض السلف : كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة . وقال آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه؛ لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة : ( لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا ) الحديث .
إلى أن قال : " وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه، والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم .(10/13)
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع- وهي العصمة في التبليغ- لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرموا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني .
والعصمة التي كانوا ادعوها؛ لو كانت ثابتة؛ لم ينتفعوا بها، ولا حاجة بهم إليها عندهم؛ فإنها متعلقة بغيرهم، لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، وقال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } . . . الآية . .
والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء؛ إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار :
كقول آدم وزوجته : { قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
وقول نوح : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِر لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ } .
وقول الخليل عليه السلام : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } ، وقوله : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } .
وقول موسى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } ، وقوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وقوله : { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } .(10/14)
وقوله تعالى عن داود : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } .
وقوله تعالى عن سليمان : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } .
وأما يوسف الصديق؛ فلم يذكر الله عنه ذنبا؛ فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } ؛ فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء، وأما قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ؛ فالهمّ : اسم جنس تحته نوعان؛ كما قال الإمام أحمد : الهمّ نوعان : همُّ خطرات، وهمُّ إصرار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن العبد إذا همَّ بسيئة؛ لم تكتب عليه، وإذا تركها؛ كتبت له حسنة، وإن عملها؛ كتبت له سيئة واحدة ) ، وإن تركها من غير أن يتركها لله؛ لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف صلى الله عليه وسلم همَّ همًّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب- وهو الهم- وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله؛ فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها؛ قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } . . . " .(10/15)
إلى أن قال : " وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول : إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة ! كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال : إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة ! فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون خفضا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم؛ فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا؛ فهو غالط غلطا عظيما؛ فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منها شيء أصلا، لكن؛ إن قدم التوبة؛ لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة؛ فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله .
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها ويسابقون إليها، لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب، بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنا قليلا؛ كفر الله ذلك بما يبتليه به؛ كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم، هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال : إن إلقاءه كان قبل النبوة؛ فلا يحتاج إلى هذا .
والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل؛ فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس قبله في الفضيلة .
وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم، وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى .
وقد قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } ؛ فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام، ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط .(10/16)
وقد قال الله تعالى في قصة شعيب : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } .
وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } الآية .
وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولا بد لكل عبد من التوبة، وهي واجبة على الأولين والآخرين؛ كما قال تعالى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
وقد أخبرنا الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومَن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم .
وآخر ما نزل عليه- أو : من آخر ما نزل عليه- قوله تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . . . " .
ثم ذكر نصوصا كثيرة في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال : " ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة .(10/17)
ولكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية؛ كما فعل ذلك من فعله في هذا الباب، وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة، من باب تحريف الكلم عن مواضعه؛ كتأويلهم قول : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } ؛ المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته، وهذا معلوم البطلان " .
وقال أيضا : " والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم؛ يقولون : إنهم معصومون من الإقرار عليها، وحينئذ؛ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم؛ فإن الأعمال بالخواتيم، وقول المخالف يلزم عليه كون النبي لا يتوب إلى الله . . . " انتهى المقصود .
ويمكن تلخيص هذا الموضوع فيما يلي :
عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ما هو مجمع عليه بداية ونهاية، ومنها ما هو مختلف فيه بداية لا نهاية . . . وبيان ذلك :
1 . أجمعوا على عصمتهم فيما يخبرون عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته؛ لأن هذه العصمة هي التي يحصل بها مقصود الرسالة والنبوة .
2 . واختلفوا في عصمتهم من المعاصي :
فقال بعضهم بعصمتهم منها مطلقا كبائرها وصغائرها؛ لأن منصب النبوة يجل عن مواقعتها ومخالفة الله تعالى عمدا، ولأننا أمرنا بالتأسي بهم، وذلك لا يجوز مع وقوع المعصية في أفعالهم؛ لأن الأمر بالاقتداء بهم يلزم منه أن تكون أفعالهم كلها طاعة، وتأولوا الآيات والأحاديث الواردة بإثبات شيء من ذلك .
وقال الجمهور بجواز وقوع الصغائر منهم بدليل ما ورد في القرآن والأخبار، لكنهم لا يصرون عليها، فيتوبون منها ويرجعون عنها؛ كما مر تفصيله، فيكونون معصومين من الإصرار عليها، ويكون الاقتداء بهم في التوبة منها .
دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد
إن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دين واحد وإن تنوعت شرائعهم :(10/18)
قال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعلات ) .
ودين الأنبياء هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله :
قال تعالى عن نوح : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .
وقال عن إبراهيم : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وقال عن موسى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } .
وقال عن المسيح : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } .
وقد قال تعالى فيمن تقدم من الأنبياء وعن التوراة : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } .
وقال تعالى عن ملكة سبأ : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
فالإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهو الاستسلام لله وحده؛ فمن استسلم له ولغيره؛ كان مشركا، ومن لم يستسلم له؛ كان مستكبرا، وكل من المشرك والمستكبر عن عبادة الله كافر .(10/19)
والاستسلام لله يتضمن عبادته وحده وأن يطاع وحده، وذلك بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت؛ فإذا أمر في أول الإسلام بأن يستقبل بيت المقدس، ثم أمر بعد ذلك باستقبال الكعبة؛ كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام؛ فالدين هو الطاعة، وكل من الفعلين عبادة لله، وإنما تنوع بعض صور الفعل، وهو توجه المصلي؛ فكذلك الرسل دينهم واحد، وان تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك؛ فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا؛ كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد؛ كما مثلنا باستقبال بيت المقدس أولا ثم استقبال الكعبة ثانيا في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم؛ فقد يشرع الله في وقت أمرا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرا لحكمة؛ فالعمل بالمنسوخ قبل نسخه طاعة لله، وبعد النسخ يجب العمل بالناسخ؛ فمن تمسك بالمنسوخ وترك الناسخ؛ فليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ .
والله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها ووقتها ويكون كفيلا بإصلاحها متضمنا لمصالحها، ثم ينسخ الله ما يشاء من تلك الشرائع لانتهاء أجلها، إلى أن بعث نبيه محمدا خاتم النبيين إلى جميع الناس على وجه الأرض وعلى امتداد الزمن إلى يوم القيامة، وشرع له شريعة شاملة صالحة لكل زمان ومكان؛ لا تبدل ولا تنسخ؛ فلا يسع جميع أهل الأرض إلا اتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } .
وقال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } .(10/20)
والآيات التي أنزلها الله سبحانه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس وعلى اختلاف أجناسهم، ولم يخص العرب بحكم من الأحكام، بل علق الأحكام باسم كافر ومؤمن، ومسلم ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم . . . وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث؛ فليس في القرآن والحديث تخصيص العرب بحكم من الأحكام الشرعية، إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغضه الله .
ونزول القرآن بلسان العرب إنما هو لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولا، ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولا، ثم تبليغ الأقرب فالأقرب؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب، وليس هذا تخصيصا، وإنما هو تدرج بالتبليغ .
والمقصود أن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو إخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك والفساد، وإن تنوعت شرائعهم حسب الظروف والحاجات، إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي عمت رسالته الخلق، وامتدت إلى آخر الدنيا؛ لا تبدل ولا تغير ولا تنسخ، وهي صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام إلى آخر الزمان، وهو يأمر بما أمر به المرسلون من قبله من الإيمان وإخلاص العبادة لله بما شرعه من الأحكام، وهو مصدق لإخوانه المرسلين، وإخوانه المرسلون قد بشروا به، خصوصا أقرب الرسل إليه زمانا، وهو المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، حين قال لقومه : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } .(10/21)
وفي الكتب السابقة من بيان صفات هذا الرسول وخصائصه ما هو من أوضح الواضحات، وإن جحده من جحده من اليهود والنصارى حسدا وتكبرا؛ كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
اللهم ! أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه .
ذكر خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالا
للرسول محمد صلى الله عليه وسلم خصائص اختص بها عن غيره من الأنبياء، وخصائص اختص بها عن أمته :
والخصائص التي اختُصَّ بها عن غيره من الأنبياء كثيرة؛ منها :
1- أنه خاتم النبيين : قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي ) .
2- المقام المحمود، وهو الشفاعة العظمى؛ كما في قوله تعالى : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، وكما في حديث الشفاعة الطويل المتفق على صحته : أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون إلى ما أنتم فيه، ألا ترون إلى ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، فيأتون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم إلى محمد؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فكلهم يقول : اذهبوا إلى غيري؛ إلا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يقول : أنا لها . فيخر ساجدا إلى أن يؤذن له بالشفاعة، وبهذا يظهر فضله على جميع الخلق، واختصاصه بهذا المقام .(10/22)
3- عموم بعثته إلى الثقلين الجن والإنس؛ قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } ، { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ، { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } ، وهذا مجمع عليه .
والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب النزول ما كان موجودا في العرب؛ فليس شيء من الآيات مختصا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين؛ فلم يقل أحد من المسلمين : إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين . . . وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية .(10/23)
والمقصود هنا : أن بعض آيات القرآن- وإن كان سببه أمورا كانت في العرب-؛ فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظا ومعنى في أي نوع كان، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن؛ فدعوته شاملة للثقلين الإنس والجن على اختلاف أجناسهم؛ فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر ومؤمن ومنافق وبر وفاجر ومحسن وظالم وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، وإنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض؛ فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان، لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن نزل القرآن بلسانهم- بل بلسان قريش- لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولا، ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره بتبليغ قومه أولا، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب .
وكما كان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس؛ فهو مبعوث أيضا إلى الجن، فقد استمع الجن لقراءته، وولوا إلى قومهم منذرين؛ كما أخبر الله عز وجل، وهذا متفق عليه بين المسلمين .
وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل؛ كقوله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } الآية .
وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } ؛ أي : مذاهب شتى؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة . وقالوا : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } الآية، والقاسط : الجائر، يقال : قسط : إذا جار، وأقسط : إذا عدل .(10/24)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله تعالى؛ كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
4- ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الذي أذعن لإعجازه الثقلان، وأحجم عن معارضته مصاقيع الإنس والجان، واعترف بالعجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله أهل الفصاحة والبلاغة من سائر الأديان، وقد سبق تفصيل ذلك .
5- ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم المعراج إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام فكان قاب قوسين أو أدنى .
وأما الخصائص التي اختص بها دون أمته :
فقد قال القرطبي في " تفسيره " : " خص الله تعالى رسوله من أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل؛ مزية على الأمة، وهبة له، ومرتبة خص بها؛ ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أشياء لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم؛ منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه . . . " ثم ذكر هذه الخصائص :
فمنها : التهجد بالليل، يقال : إن قيام اليل كان واجبا عليه إلى أن مات؛ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } ، والمنصوص أنه كان واجبا عليه، ثم نسخ بقوله تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } .
ومنها : أنه إذا عمل عملا؛ أثبته .(10/25)
ومنها : تحريم الزكاة عليه وعلى آله .
ومنها : أنه أحل له الوصال في الصيام .
ومنها : أنه أحل له الزيادة على أربع نسوة .
ومنها : أنه أحل له القتال بمكة .
ومنها : أنه لا يورث .
ومنها : بقاء زَوجِيَّتِهِ بعد الموت، وإذا طلق امرأته؛ تبقى حرمته عليها فلا تنكح . . .
إلى غير ذلك من الخصائص النبوية .
ولنتكلم عن ثلاث من أعظم خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي : الإسراء والمعراج، وعموم رسالته، وختم النبوة به صلى الله عليه وسلم .
1- الإسراء والمعراج
قال سبحانه وتعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : يمجد الله تعالى نفسه، ويعظم شأنه؛ لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه؛ فلا إله غيره ولا رب سواه، { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم . ( ليلا ) ؛ أي : في جنح الليل . { من المسجد الحرام } : وهو مسجد مكة . { إلى المسجد الأقصى } : وهو بيت المقدس الذي بإيليا، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جُمِعوا له هناك كلهم، فأمهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين . وقوله تعالى : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ؛ أي : في الزروع والثمار . ( لنريه ) ؛ أي : محمدا . { من آياتنا } ؛ أي : العِظام؛ كما قال تعالى : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ؛ أي : السميع لأقوال عباده؛ مؤمنهم وكافرهم مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة " اهـ .(10/26)
والمعراج : مفعال من العروج؛ أي : الآلة التي يعرج فيها؛ أي : يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا يعدم كيف هو إلا الله، وحكمه كحكم غيره من المغيبات؛ نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته .
والذي عليه أئمة النقل : أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة وقبل الهجرة بسنة، وقيل بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر .
صفة الإسراء والمعراج المستفادة من النصوص
قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " : " والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما، من مكة إلى بيت المقدس، راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد؛ ربط الدابة عند الباب، ودخله، فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج، وهو كالسلم ذو درج يرقى فيه، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما- صلى الله وسلم عليه وعليهما وعلى سائر الأنبياء- حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام؛ أي : أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته، وله ست مائة جناح، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء، فصلى بهم لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه أمهم ببيت المقدس،(10/27)
ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم؛ جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا، وهو يخبر بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي؛ ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به؛ اجتمع فيه- أي : بيت المقدس- هو وإخوانه من النبيين، ثم ظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك، ثم خرج من بيت المقدس، فركب البراق، وعاد إلى مكة بغلس . والله سبحانه وتعالى أعلم .
هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط ؟
اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط ؟ على قولين :
فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما، والدليل على ذلك قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ؛ فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام؛ فلو كان مناما؛ لم يكن فيه شيء كبير، ولم يكن مستعظما، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضا؛ فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والبدن، وقد قال تعالى : { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } ، وأيضا قال سبحانه : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ؛ قال ابن عباس : " هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به " . رواه البخاري . وأيضا قال سبحانه : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } ، والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضا فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه .(10/28)
وقال آخرون : بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده، نقل هذا القول ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه، وليس المراد بهذا القول أن الإسراء كان مناما، بل إن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد، ثم عادت إليه . . . وهذا من خصائصه؛ فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت .
والمراد بالمنام أن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والفرق بين الأمرين واضح .
واستدل من قال : إن الإسراء كان بروحه لا بجسده؛ بما جاء في رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس : " ثم استيقظت؛ فإذا أنا في الحجر " .
وقد أجيب عنه بجوابين :
أحدهما : أن هذا معدود من غلطات شريك؛ فقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء .
الثاني : أن الاستيقاظ محمول على الانتقال من حال إلى حال .
قال ابن كثير : " وهذا الحمل أحسن من التغليط . والله أعلم " .
إلى أن قال : " ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبيت والإيناس . . . " والله أعلم .
هل تكرر المعراج ؟
قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الواردة في هذا الموضوع : " وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها؛ فحصل مضمون ما اتفقت عليه من إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه؛ فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام .(10/29)
ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة؛ فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب .
وقد صرح بعض المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد؛ لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار .
وزعم بعض الصوفية أن المعراج وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة ! وقال بعضهم : أربعا وثلاثين مرة ! ! واحدة منها بجسمه الشريف والباقي بروحه ! ! وقيل : كان الإسراء مرتين؛ مرة يقظة، ومرة مناما ! ! وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله " ثم استيقظت " وبين سائر الروايات ! ! وكذلك منهم من قال : بل كان مرتين؛ مرة قبل الوحي ومرة بعده ! ! ومنهم من قال : بل ثلاث مرات؛ مرة قبل الوحي ومرتين بعده ! ! وكلما اشتبه عليهم لفظة؛ زادوا مرة للتوفيق .
قال ابن القيم : " يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا؛ كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، فيقول : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي . . . ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين، ثم يحطها إلى خمس . . . " ! !
وقال ابن كثير : " وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده . . . ومن جعل كل رواية إسراء على حدة كما تقدم عن بعضهم؛ فقد أبعد جدا، وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات؛ فكيف يمكن أن يدعى تعدد ذلك ؟ ! هذا في غاية البعد والاستحالة . والله أعلم " اهـ .(10/30)
2- عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكره
يقول جماعة من اليهود والنصارى ومن قلدهم : إن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب دون أهل الكتاب ! ويلبسون بقولهم : إن كان دينه حقا؛ فديننا أيضا حق، والطرق إلى الله تعالى متنوعة ! ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة؛ فإنه وإن كان أحد المذاهب راجحا؛ فأهل المذاهب الأخر ليسوا كفارا .
وهذا القول ظاهر البطلان؛ لأنهم لما صدقوا برسالته؛ لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال : إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتما .
وقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام .
ثم مقاتلته لأهل الكتاب وسبي ذراريهم واستباحة دمائهم وضرب الجزية عليهم أمر معلوم بالتواتر والضرورة؛ فإنه دعا المشركين إلى الإيمان به، ودعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وجاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين؛ فجاهد بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر- وكلهم يهود-، وسبى ذراريهم ونساءهم، وغنم أموالهم، وغزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن حارثة مولاه وجعفر وغيرهما من أهله، وضرب الجزية على نصارى نجران .
وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب، وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون .
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه وتكفير من لم يتبعه منهم ولعنه كما جاء بتكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه :
فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } الآية .
وفي القرآن من قوله : { يا أهل الكتاب } ، { يا بني إسرائيل } ما لا يحصى إلا بكلفة .(10/31)
وقال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } الآية، إلى قوله : { خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } . . . . ومثل هذا في القرآن كثير جدا .
وقد قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } .
واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم قوله : ( فُضِّلتُ على الأنبياء بخمس ) ذكر منها أنه : ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ) .
بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس .
فإذا علم بالاضطرار وبالنقل المتواتر الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه، وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم؛ فحاصر بني قينقاع ثم أجلاهم إلى أذرعات، وحاصر بني النضير ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر، ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد وقتل رجالهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب . . . وقاتل أهل خيبر حتى فتحها، وقتل من قتل من رجالهم، وسبى من سبى من حريمهم، وقسم أرضهم على المؤمنين، وقد ذكره الله تعالى في سورة الفتح، وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك، وفيها أنزل الله سورة براءة، وفي عامة السور المدنية مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وغير ذلك من السور المدنية من دعوة أهل الكتاب وخطابهم ما لا يتسع المقام لنشره . . .(10/32)
ثم خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر ومن معهما من المهاجرين والأنصار الذين يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له وأطوعهم لأمره وأحفظهم بعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس؛ فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون .
ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار ) . قال سعيد بن جبير : تصديق ذلك في كتاب الله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } ، ومعنى الحديث متواتر عنه معلوم بالاضطرار .
فإذا كان الأمر كذلك؛ لزم أنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل الطوائف . . .
فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم، ورسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم وأموالهم وديارهم بغير إذن الله؛ فمن قال : إن الله أمره بذلك، ولم يكن الله أمره؛ كان كاذبا مفتريا ظالما، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } ، وكان مع كونه ظالما مفتريا من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادا، وكان شرا من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة يقاتلون الناس على طاعتهم، ولا يقولون : إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا؛ دخل الجنة، ومن عصانا؛ دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا نبي صادق أو متنبئ كذاب؛ كمسيلمة والأسود وأمثالهما .
فإذا علم أنه نبي؛ لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقا، وإذا كان رسول الله؛ وجبت طاعته في كل ما يأمر به؛ كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } ، وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب وأنه تجب عليهم طاعته؛ كان ذلك حقا .(10/33)
ومن أقر بأنه رسول الله وأنكر أن يكون مرسلا إلى أهل الكتاب؛ فهو بمنزلة من يقول : إن موسى كان رسولا، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وأن الله لم يأمره بذلك، وأنه لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوراة، ولا كلمه على الطور . ومن يقول : إن عيسى كان رسول الله، ولم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وأنه ظلم اليهود . . . وأمثال ذلك من المقالات التي هي أكفر المقالات . . . ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
3- ختم الرسالات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم
لقد ختم الله سبحانه وتعالى النبوة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا خاتم النبيين؛ لا نبي بعدي ) .
وذلك يستلزم ختم المرسلين؛ إذ ختم الأعم يستلزم ختم الأخص .
ومعنى ختم النبوة بنبوته عليه الصلاة والسلام : أنه لا تبدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشرعته .
وأما نزول عيسى في آخر الزمان؛ فلا ينافي ذلك؛ لأن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون شريعته المتقدمة؛ لأنها منسوخة، فلا يتعبد إلا بهذه الشريعة أصولا وفروعا، فيكون خليفة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وحاكما من حكام ملته بين أمته .(10/34)
فهذا النبي الخاتم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد بعث بخير كتاب وأتم شريعة وأفضل ملة وأكمل دين، جاء بشريعة كافية لحاجة الخليقة في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وكمل به عقد النبيين؛ فلا نبي بعده .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( مثلي ومثل الأنبياء من بعدي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها؛ إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلون ويعجبون منها ويقولون لولا موضع لبنة ) . زاد مسلم : ( فجئت فختمت الأنبياء ) .
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . . . معناه، وفيه : ( فجعل الناس يطوفون به ويقولون هلا وضعت اللبنة؛ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي؛ خَلَفَهُ نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ) . رواه البخاري .
وعن جابر بن سمرة؛ قال : " رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام " . رواه مسلم .
قال الحافظ في " الفتح " : " قال القرطبي : اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر قدره إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع اليد (1) ، والله أعلم .
قال العلماء : " السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة :
قال السهيلي : وضع خاتم النبوة عند كتفه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان .(10/35)
وقال الحافظ ابن كثير : فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه : أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده؛ فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرف وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات؛ فكلها محال وضلال عند أولي الألباب؛ كما أجرى الله تعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله . . . وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة، حتى يختموا بالمسيح الدجال؛ فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها، وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه؛ فإنهم بضرورة الواقع- أي الكذابون- لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتقاء، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكونون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم؛ كما قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } .
وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم في غاية الصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات؛ فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسماوات .
وليس الناس بحاجة إلى بعثة نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم لكمال شريعته ووفائها بحاجة البشرية .
وماذا عسى أن يقتضي بعثة نبي جديد بعد محمد صلى الله عليه وسلم ؟
وإن قيل : إن الأمة قد فسدت؛ فالعمل على إصلاحها يحتاج إلى بعثة نبي جديد .(10/36)
قلنا : هل بعث نبي في الدنيا لمجرد الإصلاح حتى يبعث في هذا الزمان لمجرد هذا الغرض ؟ ! إن النبي لا يبعث إلا ليوحى إليه، ولا تكون الحاجة إلى الوحي إلا لتبليغ رسالة جديدة أو إكمال رسالة متقدمة أو لتطهيرها من شوائب التحريف والتبديل، فلما قضت كل هذه الحاجات إلى الوحي بحفظ القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وإكمال الدين على يده صلى الله عليه وسلم؛ لم تبق الحاجة الآن إلى الأنبياء، وإنما هي إلى المصلحين . . . " اهـ . بتصرف يسير من الرد على القاديانية .
وقد أعلن الله ختم النبوات والرسالات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } .(10/37)
ومن البديهي الذي لا يقبل الاعتراض أن استمرار بقاء القرآن الحاوي بشرائعه وأحكامه أسس مطالب البشر التشريعية كلها محفوظا كما أنزل على محمد مع استمرار بقاء سيرة الرسول وسنته المبينة لمعاني القرآن صحيحة ثابتة هو بمثابة استمرار وجود الرسول فينا على قيد الحياة؛ قال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، وبذلك فقد أصبح العالم بغنية عن بعث أنبياء وإرسال رسل وتجديد شرائع للناس بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لو بعث الله رسلا وأنبياء؛ فلن يحدثوا شيئا ولن يزيدوا على ما جاء به الرسول محمد من أسس في العقيدة أو في التشريع؛ فقد أكمل الله الدين وأتم الشريعة؛ حيث يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } ، وإن كان الغرض من إرسال الرسل هو نشر هذه الرسالة ودعوة الناس إليها؛ فهذه وظيفة علماء المسلمين؛ فعليهم أن يقوموا بتبليغ هذه الدعوة للناس .
فمن ادعى عدم ختم النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدق من يدعي ذلك؛ فهو مرتد عن دين الإسلام .
ولهذا حكم الصحابة على من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم بالردة، وقاتلوه هو وأتباعه، وسموهم بالمرتدين، وهذا ما أجمع عليه علماء المسلمين سلفا وخلفا .
الحكمة في ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم(10/38)
وكانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة للنبوات؛ لأنه بعث إلى الناس كافة إلى أن تقوم الساعة؛ كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ، { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
وإذا كانت رسالته عامة للناس؛ فلا بد أن تكون شريعته كاملة شاملة لمصالح البشر، لا يحتاج معها إلى شريعة أخرى وبعثة نبي آخر؛ كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } ، وقال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكَتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، وقال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } .
قال الشيخ أبو الأعلى المودودي في رده على القاديانية : " ونحن إذا تتبعناه- أي : القرآن- بغية أن نعرف الأسباب التي لأجلها ظهرت الحاجة إلى إرسال نبي في أمة من أمم الأرض؛ علمنا أن هذه الأسباب أربعة :
1- كانت هذه الأمة ما جاءها من الله نبي من قبل، ولا كان لتعاليم نبي مبعوث في أمة غيرها أن تصل إليها .
2- كان قد أرسل إليها نبي من قبل، ولكن كان تعليمه قد انمحى أو لعبت به يد النسيان أو التحريف حتى لم يعد بإمكان الناس أن يتبعوه اتباعا كاملا صحيحا .
3- كان قد أرسل إليها نبي من قبل، ولكن تعاليمه ما كانت شاملة لمن يأتي بعده وافية لمتطلبات عصرهم، فألحت الحاجة إلى المزيد من الأنبياء لإكمال الدين .
4- كان قد أرسل إليها نبي، ولكن كانت الحاجة تقتضي أن يرسل معه نبي آخر لتصديقه وتأييده .(10/39)
وكل سبب من هذه الأسباب الأربعة قد زال بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا حاجة للأمة الإسلامية ولا لأية أمة أخرى في العالم إلى أن يرسل إليها نبي جديد بعد محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد تولى القرآن بنفسه بيان أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ولهداية الناس عامة؛ قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
وأيضا؛ مما يدل عليه تاريخ الحضارة في الدنيا أن الظروف في العالم ما زالت منذ بعثته صلى الله عليه وسلم ولا تزال مهيأة بحيث من الممكن أن تصل دعوته إلى كل صقع من أصقاع العالم، وإلى كل أمة من أممه؛ فلا حاجة بعد ذلك إلى نبي جديد إلى أمة من أمم الدنيا أو صقع من أصقاعها؛ فبذلك قد زال السبب الأول .
ومما يشهد به القرآن كذلك وتؤيده عليه ذخيرة كتب الحديث والسيرة أن التعليم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا محفوظا على صورته الحقيقية ولم تلعب به يد النسيان ولا التحريف والتبديل .
أما الكتاب الذي جاء به؛ فما وقع التحريف ولا النقص ولا الزيادة في أي حرف من أحرفه، ولا من الممكن أن يقع إلى يوم القيامة .
وأما الهداية التي أعطاها للناس بأقواله وأفعاله؛ فإننا نجد آثارها حتى اليوم حية مصونة، كأننا أمام شخصه صلى الله عليه وسلم وفي زمانه؛ فبذلك قد زال السبب الثاني .
ثم إن القرآن ليصرح كذلك بأن الله تعالى قد أكمل دينه بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبذلك قد زال السبب الثالث أيضا .
ثم إن الحاجة لو كانت تقتضي إرسال نبي مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتأييده وتصديقه؛ لأرسل في زمانه صلى الله عليه وسلم؛ فبذلك قد زال السبب الرابع أيضا . . .
فأي سبب خاص من بعد زوال هذه الأسباب الأربعة . . . " انتهى المقصود من كلامه .
كرامة الأولياء(10/40)
كنا قد تكلمنا عن آيات الأنبياء والفرق بينها وبين خوارق السحرة والكهان وعجائب المخترعات الحديثة وما لها من الآثار .
وسنتكلم إن شاء الله عن كرامات الأولياء؛ لأن لها ارتباطا وثيقا بآيات الأنبياء، ونبين الفرق بينها وبين خوارق السحرة والمشعوذين أيضا، فنقول :
أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون؛ كما قال الله تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } .
فكل مؤمن تقي؛ فهو ولي لله عز وجل بقدر إيمانه وتقواه، وقد يظهر الله على يديه من خوارق العادات، وهي ما يسمى بالكرامات .
فالكرامة خارق للعادة يجريه الله على يد بعض الصالحين من أتباع الرسل إكراما من الله له ببركة اتباعه للرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
وليس كل ولي تحصل له كرامة، وإنما تحصل لبعضهم : إما لتقوية إيمانه، أو لحاجته، أو لإقامة حجة على خصمه المعارض في الحق .
والأولياء الذين لم تظهر لهم كرامة لا يدل ذلك على نقصهم؛ كما أن الذين وقعت لهم الكرامة لا يدل ذلك على أنهم أفضل من غيرهم .
وكرامات الأولياء حق بإجماع أئمة الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وإنما ينكرها أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن تابعهم، وهذا إنكار لما هو ثابت في القرآن والسنة .
ففي القرآن الكريم : قصة أصحاب الكهف، وقصة مريم . . .
وفي السنة الصحيحة؛ مثل نزول الملائكة كهيئة الظلة فيها أمثال السرج لاستماع قراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه، وسلام الملائكة على عمران بن حصين رضي الله عنه . . . ولها أمثلة كثيرة .
ومن أراد الاطلاع على هذه المسألة؛ فليراجع كتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وقد حصل في موضوع كرامات الأولياء التباس وخلط عظيم بين الناس :(10/41)
فطائفة أنكروا وقوعها ونفوها بالكلية، وهم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم، فخالفوا النصوص وكابروا الواقع .
وطائفة غلت في إثباتها، وهم العوام وعلماء الضلال، فأثبتوا كرامات للفجرة والفساق ومن ليسوا من أولياء الله بل من أولياء الشيطان، واعتمدوا في إثبات ذلك على الحكايات المكذوبة والمنامات والخوارق الشيطانية، فادعوا الكرامات للسحرة والمشعوذين والدجالين من مشايخ الطرق الصوفية والمخرفين، حتى عبدوهم من دون الله؛ أحياء وأمواتا، وبنوا الأضرحة على قبور من يزعمون لهم الولاية ممن حيكت لهم الدعايات العريضة ونسب إليهم التصرف في الكون وقضاء حوائج من دعاهم وطلب منهم المدد واستغاث بهم، وسموهم الأقطاب والأغواث بسبب تلك الكرامات المزعومة والحكايات المكذوبة .
فقد اتخذت دعوى الكرامات ذريعة لعبادة من نسبت إليه، وربما سموا الشعوذة والتدجيل والسحر كرامة؛ لأنهم لا يفرقون بين الكرامة والأحوال الشيطانية، ولا يفرقون بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وإلا؛ فمن المعلوم أنه حتى من ثبت أنه ولي لله بنص من القرآن أو السنة، وإن جرى على يده كرامة من الله؛ فإنه لا يجوز أن يعبد من دون الله، ولا أن يتبرك به أو بقبره؛ لأن العبادة حق لله وحده .
وهناك فروق بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والمشعوذين والدجالين :
منها : أن كرامات الأولياء سببها التقوى والعمل الصالح، وأعمال المشعوذين سببها الكفر والفسوق والفجور .
ومنها : أن كرامات الأولياء يستعان بها على البر والتقوى أو على أمور مباحة، وأعمال المشعوذين والدجالين يستعان بها على أمور محرمة؛ من الشرك والكفر وقتل النفوس .
ومنها : أن كرامات الأولياء تقوى بذكر الله وتوحيده، وخوارق السحرة والمشعوذين تبطل أو تضعف عند ذكر الله وقراءة القرآن والتوحيد .
فتبين بهذا أن بين كرامات الأولياء وتهريجات المشعوذين والدجالين فروقا تميز الحق من الباطل .(10/42)
وكما ذكرنا؛ فإن أولياء الله حقا لا يستغلون ما يجريه الله على أيديهم من الكرامات للنصب والاحتيال ولفت أنظار الناس إلى تعظيمهم، وإنما تزيدهم تواضعا ومحبة لله وإقبالا على عبادته؛ بخلاف هؤلاء المشعوذين والدجالين؛ فإنهم يستغلون هذه الأحوال الشيطانية التي تجري على أيديهم لجلب الناس إلى تعظيمهم والتقرب إليهم وعبادتهم من دون الله عز وجل، حتى كون كل واحد منهم له طريقة خاصة وجماعة تسمى باسمه؛ كالشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية . . . إلى غير ذلك من الطرق الصوفية .
والحاصل أن الناس انقسموا في موضوع الكرامات إلى ثلاث أقسام :
قسم غلوا في نفيها حتى أنكروا ما هو ثابت في الكتاب والسنة من الكرامات الصحيحة التي تجري على وفق الحق لأولياء الله المتقين .
وقسم غلوا في إثبات الكرامات حتى اعتقدوا أن السحر والشعوذة والدجل من الكرامات، واستغلوها وسيلة للشرك والتعلق بأصحابها من الأحياء والأموات، حتى نشأ عن ذلك الشرك الأكبر بعبادة القبور وتقديس الأشخاص والغلو فيهم؛ لما يزعمونه لهم من الكرامات والخرافات .
والقسم الثالث : وهم أهل السنة والجماعة، توسطوا في موضوع الكرامات بين الإفراط والتفريط، فأثبتوا منها ما أثبته الكتاب والسنة، ولم يغلوا في أصحابها، ولم يتعلقوا بهم من دون الله، ولا يعتقدون فيهم أنهم أفضل من غيرهم، بل هناك من أولياء الله من هو أفضل منهم، ولم تجر على يديه كرامة، ونفوا ما خالف الكتاب والسنة من الدجل والشعوذة والنصب والاحتيال، واعتقدوا أنه من عمل الشيطان، وليس هو من كرامات الأولياء .
فلله الحمد والمنة على وضوح الحق وافتضاح الباطل؛
{ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .(10/43)
الأصل الخامس : الإيمان باليوم الآخر
ويتضمن :
أولا : الإيمان بأشراط الساعة
لما كان اليوم الآخر مسبوقا بعلامات تدل على قرب وقوعه تسمى أشراط الساعة؛ ناسب أن نذكر أهمها؛ لأن الإيمان بها واجب، وهو من صلب العقيدة .
قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } .
وقال تعالى : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } ؛ أي علاماتها وأماراتها، واحدها شرط بفتح الراء، وهو العلامة .
قال الإمام البغوي رحمه الله : " وكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة " .
وقال تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ }
وقال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } .
ولقرب وقوع يوم القيامة وتحققه، جعله سبحانه كغد :
قال تعالى : { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } ، والغد هو ما بعد يومك .
وقال تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا } .
وروى الترمذي وصححه من حديث أنس مرفوعا : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار بالسبابة والوسطى .
وفي " الصحيحين " عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : ( إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ) . وفي لفظ : ( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ) .
ولما كان أمر الساعة شديدا؛ كان الاهتمام بشأنها أكثر من غيرها، ولهذا أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من بيان أشراطها وأماراتها، وأخبر عما يأتي بين يديها من الفتن، ونبه أمته وحذرهم ليتأهبوا لذلك .
أما وقت مجيئها؛ فهو مما انفرد الله تعالى بعلمه وأخفاه عن العباد لأجل مصلحتهم؛ ليكونوا على استعداد دائما؛ كما أخفى سبحانه عن كل نفس وقت حلول أجلها؛ لتكون دائما على أهبة الاستعداد والانتظار ولا تتكاسل عن العمل .(11/1)
قال العلامة السفاريني : " ثم اعلم أن أشراط الساعة وأماراتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم ظهر وانقضى : وهو الأمارات البعيدة . وقسم ظهر ولم ينقض بل لا يزال في زيادة . والقسم الثالث : الأمارات الكبيرة التي تعقبها الساعة، وهي تتابع كنظام خرزات انقطع سلكها .
فالأولى ( أعني التي ظهرت ومضت وانقضت ) : منها : بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وموته، وفتح بيت المقدس . ومنها : قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ قال حذيفة : أول الفتن قتل عثمان . . . " .
وذكر الحروب التي وقعت بين المسلمين بعد ذلك، وظهور الفرق الضالة كالخوارج والرافضة . . . ثم قال : " ومنها : خروج كذابين دجالين كل منهم يدعي أنه نبي . ومنها : زوال ملك العرب، رواه الترمذي . ومنها : كثرة المال، رواه الشيخان وغيرهما . ومنها : كثرة الزلازل والخسف والمسخ والقذف وغير ذلك مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أمارات الساعة فظهر ومضى وانقضى .
القسم الثاني : الأمارات المتوسطة : وهي التي ظهرت ولم تنقض بل تتزايد وتكثر، وهي كثيرة جدا .
منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع ) . رواه الإمام أحمد والترمذي والضياء المقدسي من حديث حذيفة رضي الله عنه، واللكع : العبد والأحمق واللئيم، والمعنى : لا تقوم الساعة حتى يكون اللئام والحمقى ونحوهم رؤساء الناس .
ومن الأمارات : قوله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان الصابر على دينه كالقابض على الجمر ) . رواه الترمذي عن أنس . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ) . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة -وفي لفظ فساق- ) . رواه أبو نعيم والحاكم عن أنس .(11/2)
ومنها : أن يرى الهلال ساعة يطلع، فيقال : لليلتين؛ لانتفاخه وكبره . روى معناه الطبراني عن ابن مسعود، وفي لفظ : ( من أشراط الساعة انتفاخ الأهلة ) بالخاء المعجمة؛ أي : عظمها، وروي بالجيم .
ومنها اتخاذ المساجد طرقا . . . " .
إلى أن قال : " ومنها ما في " صحيح البخاري " وغيره من حديث أنس رضي الله عنه : أنه قال : ألا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنى، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) "
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : ( بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم؛ جاءه أعرابي؛ قال متى الساعة ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، وقال بعض القوم سمع ما قال، وقال بعضهم بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه؛ قال أين السائل عن الساعة ؟ فقال ها أنا يا رسول الله ! قال فإذا ضيعت الأمانة؛ فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها ؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر الساعة ) .
القسم الثالث من أمارات الساعة : العلامات العظام والأشراط الجسام التي تعقبها الساعة، ومنها : خروج المهدي، والمسيح الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وهدم الكعبة، والدخان، ورفع القرآن، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج النار من قعر عدن، ثم النفخ في الصور نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق وهلاك الخلق، ثم نفخة البعث والنشور .
وعلى كل؛ فالأمر عظيم، ونحن في غفلة، وقد ظهر من هذه العلامات الشيء الكثير؛ فنسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه، ويتوفانا على الإسلام، ويقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن .(11/3)
وهذا من علامات النبوة ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر عن أمور مستقبلة مما أطلعه الله عز وجل على علمه، فوقع كما أخبر، وهذا مما يقوي إيمان العبد .
وفي إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك رحمة بالعباد؛ ليحذروا، ويستعدوا، ويكونوا على بصيرة من أمرهم؛ فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي بلغ البلاغ المبين وبين غاية التبيين، ونحن على ذلك من الشاهدين .
وأول هذه العلامات : ظهور المهدي، ثم خروج الدجال، ثم نزول المسيح عليه السلام، ثم تتتابع .
ظهور المهدي :
كنا قد ذكرنا فيما سبق العلامات الكبار مجملة، والآن سنذكرها مفصلة، وأولها ظهور المهدي .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي؛ يواطئ اسمه اسمي ) . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة .
قال العلامة السفاريني : " وقد تكاثرت الروايات والآثار بأمر المهدي " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم " . انتهى .
واسم المهدي محمد بن عبد الله، من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملؤها عدلا وقسطا .
قال العلامة السفاريني : " قد كثرت الأقوال في المهدي، حتى قيل : لا مهدي إلا عيسى ! والصواب الذي عليه أهل الحق : أن المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم . . . " انتهى .
أقول : وقد انقسم الناس في أمر المهدي إلى طرفين ووسط :(11/4)
فالطرف الأول : من ينكر خروج المهدي مثل بعض الكتاب المعاصرين الذين ليس لهم خبرة بالنصوص وأقوال أهل العلم وإنما يعتمدون على مجرد آرائهم وعقولهم .
والطرف الثاني : من يغالي في أمر المهدي من الطوائف الضالة، حتى ادعت كل طائفة لزعيمهم أنه المهدي المنتظر : فالرافضة تدعي أن المهدي هو إمامهم المنتظر الذي ينتظرون خروجه من السرداب، ويسمونه محمد بن الحسن العسكري، دخل سرداب سامرا طفلا صغيرا منذ أكثر من خمس مائة سنة، وهم ينتظرون خروجه ! والفاطمية : يزعمون أن زعيمهم هو المهدي . . . وهكذا؛ كل من أراد التسلط والتغلب على الناس وخداعهم ادعى أنه المهدي المنتظر؛ كما أن من أراد الدجل والاحتيال من الصوفية ادعى أنه من أهل البيت وأنه سيد .
وأما الوسط في أمر المهدي؛ فهم أهل السنة والجماعة، الذين يثبتون خروج المهدي على ما تقضي به النصوص الصحيحة؛ في اسمه، واسم أبيه، ونسبه، وصفاته، ووقت خروجه، لا يتجاوزون ما جاء في الأحاديث في ذلك، ولخروجه أمارات وعلامات تسبقه ذكرها أهل العلم .
قال العلامة السفاريني : " قد كثرت الأقوال في المهدي، حتى قيل : لا مهدي إلا عيسى ! والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم . . . " .
إلى أن قال : " وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي؛ فالإيمان بخروج المهدي واجب؛ كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة " .(11/5)
ثم قال السفاريني في بيان سيرته : " قال أهل العلم : يعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوقظ نائما، ويقاتل على السنة، لا يترك سنة إلا أقامها، ولا بدعة إلا رفعها، يقوم بالدين آخر الزمان كما قام به النبي صلى الله عليه وسلم، يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويرد إلى المسلمين إلفتهم ونعمتهم، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا " .
وقال في وصفه أيضا : " ثم يخرج رجل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مهدي حسن السيرة؛ يغزو مدينة قيصر، وهو آخر أمير من أمة محمد، يخرج في زمانه الدجال، وينزل عيسى ابن مريم " .
قال : " ونقل العلامة الشيخ مرعي في كتابه " فوائد الفكر " عن أبي الحسن محمد بن الحسين : أنه قال : قد تواترت الأحاديث واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي؛ أنه من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنه يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه؛ يعني : صلاة واحدة، وهي الفجر " انتهى .
ذلكم هو المهدي الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين صفاته الفارقة ووقت خروجه وسيرته، وقد ادعى المهدية جماعة من الضلَّال في وقت مبكر عن وقته، ولا تنطبق عليهم صفاته، وإنما أرادوا بذلك التغرير بالسذج، واستغلال ادعاء هذه الشخصية لمطامعهم الخاصة، فأظهر الله كذبهم، وفضح باطلهم، ولا تعجب؛ فقد ادعى قوم النبوة، وافتروا على الله الكذب، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } .
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ويكفينا شر الأئمة المضلين والمحتالين الدجالين . والحمد لله رب العالمين .
خروج الدجال :(11/6)
المسيح الدجال والفاتن الكذاب مسيح الضلالة نعوذ بالله من فتنته؛ فقد أنذرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقوامها، وحذرت منه أممها، وبينت أوصافه، وحذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر، وبين أوصافه ونعته لأمته نعوتا لا تخفى على ذي بصيرة .
وفي " الترمذي " : أنه يخرج من خراسان .
وفي " صحيح مسلم " عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : ( يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة ) .
وسمي المسيح؛ لأن عينه ممسوحة، وقيل : لأنه يمسح الأرض؛ أي : يقطعها، وسمي الدجال : من الدجل، وهو الخلط، يقال : دجل؛ إذا خلط وموّه، ودجال على وزن فعال من أبنية المبالغة؛ أي : يكثر منه الكذب والتلبيس، وهو يخرج في زمان المهدي .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : " ثم يؤذن له ( أي : الدجال ) في الخروج في آخر الزمان، يظهر أولا في صورة ملك من الملوك الجبابرة، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيتبعه على ذلك الجهلة من بني آدم والطغام من الرعاع والعوام، ويخالفه ويرد عليه من هداه الله من الصالحين وحزب الله المتقين، ويتدنى فيأخذ البلاد بلدا بلدا وحصنا حصنا وإقليما إقليما وكورة كورة، ولا يبقى بلد من البلدان إلا وطئه بخيله ورجله؛ غير مكة والمدينة .
ومدة مقامه في الأرض أربعون يوما؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيام الناس هذه، ومعدل ذلك سنة وشهران ونصف .
وقد خلق الله على يديه خوارق كثيرة يضل بها من يشاء من خلقه، ويثبت معها المؤمنون فيزدادون إيمانا مع إيمانهم وهدى إلى هداهم .(11/7)
ويكون نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مسيح الهدى في أيام مسيح الضلالة، فيجتمع عليه المؤمنون، ويلتف معه عباد الله المتقون، فيسير بهم المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام قاصدا نحو الدجال وقد توجه نحو بيت المقدس، فينهزم منه الدجال، فيلحقه عند باب مدينة لد، فيقتله بحربته وهو داخل إليها، ويقول له : إن لي فيك ضربة لن تفوتني، وإذا واجهه الدجال؛ ينداع كما ينحل الملح في الماء، فيتداركه، فيقتله بالحربة الحريبة بباب لد، فتكون وفاته هناك لعنه الله؛ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح من غير وجه " . انتهى كلام ابن كثير رحمه الله في تلخيص قصة الدجال حسبما ورد في النصوص الصحيحة، وهو تلخيص جيد مفيد .
والذي تدل عليه النصوص من أمر الدجال أيضا وفتنته : أن من استجاب له؛ يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت لهم زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، وترجع لهم مواشيهم سمانا ذات لبن، ومن لا يستجيب له ويرد عليه أمره؛ تصيبهم السنة والجدب والقحط والقلة وموت الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وأنه تتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل، وأنه يقتل شابا ثم يحييه؛ كل ذلك امتحان يمتحن الله به عباده في آخر الزمان، فيضل به كثيرا .
وهو مع هذا هين على الله، ناقص ظاهر النقص والفجور والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، مكتوب بين عينيه كافر، وما يجريه على يديه محنة من الله لعباده، وهي محنة خطيرة، لا ينجو منها إلا أهل الإيمان واليقين، ولخطورة محنته وشدة فتنته حذرت منه الأنبياء أممها، وأشدهم تحذيرا لأمته محمد صلى الله عليه وسلم .
عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه ) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي .(11/8)
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالاستعاذة من فتنته في آخر كل صلاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال ) . رواه الإمام أحمد ومسلم .
وقد تواترت الأحاديث من وجوه متعددة في إثبات خروج الدجال وبيان فتنته والاستعاذة منه، وأجمع أهل السنة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، وذكروا ذلك ضمن مباحث العقيدة؛ فمن أنكر خروجه؛ فقد خالف ما دلت عليه الأحاديث المتواترة، وخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، ولم ينكر خروجه إلا بعض المبتدعة كالخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وبعض الكتاب العصريين والمنتسبين إلى العلم، ولم يعتمدوا على حجة يدفعون بها النصوص المتواترة سوى عقولهم وأهوائهم، ومثل هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم .
والواجب على المؤمن الإيمان بما صح عن الله ورسوله، واعتقاد ما يدل عليه، ولا يكون من الذين قال الله تعالى فيهم : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؛ لأن مقتضى الإيمان بالله ورسوله هو التسليم لما جاء عنهما والإيمان به، ومن لم يفعل؛ فإنه متبع لهواه بغير هدى من الله .
نسأل الله العافية والسلامة من الشك والشرك، والكفر والنفاق وسوء الأخلاق، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، والحمد لله رب العالمين .
نزول عيسى ابن مريم عليه السلام
إن نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كما دل عليه القرآن فقد أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتواتر النقل عنه بذلك، وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا، واعتبروه مما يجب اعتقاده والإيمان به .(11/9)
قال السفاريني : " ونزوله عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة : أما الكتاب؛ فقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ؛ أي : ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان، حتى تكون الملة واحدة؛ ملة إبراهيم حنيفا مسلما . . . " .
إلى أن قال : " وأما السنة؛ ففي " الصحيحين " وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده؛ ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ) الحديث . وفي مسلم عنه : ( والله؛ لينزلن ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب ) بنحوه . وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم تعال صلِّ بنا ! فيقول لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله هذه الأمة ) .
وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة أو من لا يعتد بخلافه .
وقد انعقد إجماع الأمة على أن ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء، وإن كانت النبوة قائمة به، وهو متصف بها، ويتسلم الأمر من المهدي، ويكون المهدي من أصحابه وأتباعه كسائر أصحاب المهدي . . . " انتهى كلام السفاريني رحمه الله .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وعيسى حي في السماء لم يمت بعد، وإذا نزل من السماء؛ لم يحكم إلا بالكتاب والسنة، لا بشيء يخالف ذلك " .(11/10)
وقال أيضا : " عيسى عليه السلام حي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا؛ فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ) . وثبت في الصحيح عنه : ( أنه ينزل على المنارة البيضاء شرق دمشق ويقتل الدجال ) . ومن فارقت روحه جسده؛ لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيي؛ فإنه يقوم من قبره .
وأما قوله تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ؛ فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكدلك قوله : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، ولو كان قد فارقت روحه جسده؛ لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء .
وقد قال تعالى في الآية الأخرى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ؛ فقوله هنا : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ؛ يبين أنه رفع بدنه وروحه؛ كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال : وما قتلوه وما صلبوه بل مات .
ولهذا قال من قال من العلماء : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } ؛ أي : قابضك، أي : قابض روحك وبدنك، يقال : توفيت الحساب واستوفيته، ولفظ التوفي لا يقتضي توفي الروح دون البدن ولا توفيهما جميعا إلا بقرينة منفصلة، وقد يراد به توفي النوم؛ كقوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ، وقوله : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } " انتهى .(11/11)
وقال القاضي عياض : " نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته . وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى : { وخاتم النبيين } ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) ، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة ولا تنسخ ! وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس . . . " انتهى .
أقول : وفي عصرنا هذا ينكر بعض الكتاب الجهال وأنصاف العلماء نزول عيسى عليه السلام؛ اعتمادا على عقولهم وأفكارهم، ويطعنون في الأحاديث الصحيحة، أو يؤولونها بتأويلات باطلة، والواجب على المسلم التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه واعتقاده؛ لأن ذلك من الإيمان بالغيب الذي أطلع الله ورسوله عليه . . .
قال العلامة السفاريني رحمه الله : " ويكون مقررا لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول لهذه الأمة كما مر، ويكون قد علم أحكام هذه الشريعة بأمر الله تعالى وهو في السماء قبل أن ينزل . . . " .
قال : " وزعم بعض العلماء أنه بنزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام يرفع التكليف، وهذا مردود؛ للأخبار الواردة أنه يكون مقررا لأحكام هذه الشريعة ومجددا لها؛ إذ هي آخر الشرائع، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، والدنيا لا تبقى بلا تكليف؛ فإن بقاء الدنيا إنما يكون بمقتضى التكليف إلى أن لا يقال في الأرض الله الله، ذكره القرطبي في " تذكرته " " .(11/12)
قال : " وأما مدته ووفاته؛ فقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني وابن عساكر : أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة ) . وعند الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأبي داود وابن جرير وابن حبان عنه : أنه يمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " . انتهى كلامه .
خروج يأجوج ومأجوج
نتكلم عن خروج يأجوج ومأجوج على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من ذكر هذا الحدث العظيم؛ لأن الإيمان بذلك واعتقاده واجب على المسلم .
وخروج يأجوج ومأجوج ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ ذكر ذلك السفاريني رحمه الله :
أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }(11/13)
وقال تعالى في قصة ذي القرنين : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا } ، وهذا سد من حديد بين جبلين بناه ذو القرنين فصار ردما واحدا يحجز هؤلاء القوم المفسدين في الأرض عن أذية الناس والإفساد في الأرض؛ فإذا جاء الوقت الذي قدر انهدام السد فيه؛ جعله الله مساويا للأرض؛ وعدا لا بد منه؛ فإذا انهدم؛ يخرجون على الناس ويموجون وينسلون- أي : يسرعون المشي- من كل حدب، ثم يكون النفخ في الصور قريبا من ذلك .(11/14)
وأما الدليل من السنة؛ ففي " صحيح مسلم " من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( إن الله تعالى يوحي إلى عيسى ابن مريم عليه السلام بعد قتله الدجال أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد في قتالهم؛ فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذا ماء، ويحصرون عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار ) الحديث .
وفي حديث حذيفة عند الطبراني : " ويمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس " .
قال الإمام النووي : " هم من ولد آدم عند أكثر العلماء " .
وقال ابن عبد البر : " الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام " .
وذكر العلامة السفاريني : " قال ابن كثير : يأجوج ومأجوج طائفتان من الترك من ذرية آدم . ثم قال : وهم من ذرية نوح من سلالة يافث أبي الترك " .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب خروجهم وحذر منهم، فقال عليه الصلاة والسلام- كما في " الصحيحين " - عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ) .
وفي " الصحيحين " من حديث زينب بنت جحش : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عندها، ثم استيقظ محمرا وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ! ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين إصبعيه )(11/15)
وأما صفاتهم وأجسامهم؛ فقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله : " وهم يشبهون الناس كأبناء جنسهم من الترك الغتم المغول؛ المجرزمة عيونهم، الدلف أنوفهم، الصهب شعورهم، على أشكالهم وألوانهم . ومن زعم أن منهم الطويل الذي كالنخلة السحوق أو أطول، ومنهم القصير الذي هو كالشيء الحقير، ومنهم من له أذنان يتغطى بإحداهما ويتوطأ بالأخرى؛ فقد تكلف ما لا علم له به، وقال ما لا دليل عليه " .
وأما ما يحصل منهم من الأذى والفساد في الأرض ونهايتهم؛ فقد دل على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري؛ قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس؛ كما قال تعالى { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } ، فيغشون الناس، وينحاز الناس عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، فيشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر، فيقول قد كان هاهنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة؛ قال قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، بقي أهل السماء قال ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع إليه مختضبة دما للبلاء والفتنة؛ فبينما هم على ذلك؛ بعث الله دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو قال فيتجرد رجل منهم محتسبا، قد وطنها على أنه مقتول، فينزل، فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي يا معشر المسلمين ! ألا أبشروا ! إن الله تعالى قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم؛ فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فتشكر عنه كأحسن ما تشكر عن شيء أصابته من النبات قط ) .
قال الإمام ابن كثير : " وهكذا أخرجه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق به، وهو إسناد جيد " .(11/16)
وقد أنكر بعض الكتاب العصريين وجود يأجوج ومأجوج ووجود السد ! وبعضهم يقول : إن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر المتفوقة في الصناعة ! ! ولا شك أن هذا تكذيب لما جاء في القرآن، وتكذيب لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تأويل له بما لا يحتمله، ولا شك أن من كذب بما جاء في القرآن أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافر، وكذلك من أوله بما لا يحتمله، فإنه ضال ويخشى عليه من الكفر .
وليس لهؤلاء شبهة يستندون إليها إلا قولهم : إن الأرض قد اكتشفت كلها فلم يوجد ليأجوج ومأجوج ولا للسد مكان فيها ! !
والجواب عن ذلك : أن كون المكتشفين لم يعثروا على يأجوج ومأجوج وسدهم لا يدل ذلك على عدم وجودهم، بل يدل على عجز البشر عن الإحاطة بملكوت الله عز وجل، وقد يكون الله عز وجل صرف أبصارهم عن رؤيتهم، أو جعل أشياء تمنع من الوصول إليهم، والله قادر على كل شيء، وكل شيء له أجل؛ كما قال تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، وما الذي أعمى أبصار الأوائل وأعجز قدراتهم عن كنوز الأرض التي اكتشفها المعاصرون كالبترول وغيره إلا أن الله عز وجل جعل لذلك أجلا ووقتا ؟ ! فالله المستعان .
خروج الدابة
ذكر الله خروج الدابة في قوله تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في " النهاية " : " قال ابن عباس والحسن وقتادة : ( تكلمهم ) ؛ أي : تخاطبهم مخاطبة، ورجح ابن جرير تخاطبهم؛ تقول لهم : { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } ، وحكاه عن علي وعطاء " .
قال ابن كثير : " في هذا نظر " .(11/17)
ثم قال : " وعن ابن عباس : " تكلمهم " : تجرحهم؛ بمعنى : تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن، وعنه : تخاطبهم وتجرحهم، وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حسن جامع لهما . والله أعلم " .
وقال أيضا في " تفسيره " : " هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق؛ يخرج الله لهم دابة من الأرض؛ قيل : من مكة، وقيل : من غيرها، فتكلم الناس " .
وقال القرطبي في " تفسيره " : " قوله تعالى : { وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ } : اختلف في معنى ( وقع القول ) وفي الدابة؛ فقيل : معنى ( وقع القول عليهم ) : وجب الغضب عليهم . قاله قتادة . وقال مجاهد : أي : حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون . وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما : إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر؛ وجب السخط عليهم . وقال عبد الله بن مسعود : وقع القول يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن قال عبد الله أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع قالوا هذه المصاحف ترفع؛ فكيف بما في صدور الرجال ؟ ! قال يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا وينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم وذلك حين يقع القول عليهم
ثم ذكر أقوالا أخرى في معنى وقع القول عليهم، ثم قال : " قلت : وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد، والدليل عليه آخر الآية : { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } ، وقرئ : ( أن الناس ) ؛ بفتح الهمزة .
وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث إذا خرجن؛ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض ) .
واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب " التذكرة " " انتهى .(11/18)
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال : ( طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال ما تذاكرون ؟ قالوا نذكر الساعة قال إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات وذكر منها الدابة ) . رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
ولمسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة ) الحديث .
ولمسلم أيضا من حديث قتادة عن الحسن عن زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( بادروا بالعمل ستا الدجال، والدخان، ودابة الأرض ) الحديث .
وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر عن أبي حيان عن أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو؛ قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى؛ فأيهما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على أثرها قريبا ) .
قال ابن كثير : " أي : أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج؛ فكل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر، مشاهدتهم وأمثالهم مألوفة، فأما خروج الدابة على شكل غير مألوف ومخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان والكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية؛ كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عاداتها المألوفة أول الآيات السماوية " . انتهى .
وعمل هذه الدابة كما جاءت به الأحاديث أنها تسم الناس المؤمن والكافر : فأما المؤمن؛ فيرى وجهه كأنه كوكب دري، ويكتب بين عينيه : مؤمن . وأما الكافر؛ فتنكت بين عينيه نكتة سوداء، ويكتب بين عينيه : كافر .(11/19)
وفي رواية : فتلقى المؤمن فتسمه في وجهه نكتة فيبيض لها وجهه، وتسم الكافر نكتة سوداء يسود لها وجهه، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن الكافر وبالعكس، حتى إن المؤمن يقول للكافر : يا كافر ! اقضني حقي .
وأما صفتها؛ فقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي في " تفسيره " : " وهذه الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة كما تكاثرت بذلك الأحاديث، ولم يذكر الله ولا رسوله كيفية هذه الدابة، وإنما ذكر أثرها المقصود منها، وأنها من آيات الله، تكلم الناس كلاما خارقا للعادة حين يقع القول على الناس وحين يمترون بآيات الله، فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين وحجة على المعاندين . . . " انتهى .
وقد أنكر بعض المعاصرين خروج هذه الدابة، واستبعدوا ذلك، وبعضهم يؤولونها بتأويلات فارغة، وليس لهم حجة في ذلك سوى أن عقولهم لا تتحمل ذلك .
والواجب على المؤمن التصديق والتسليم لما جاء عن الله ورسوله؛ لأن هذا من الإيمان بالغيب الذي مدح الله به المؤمنين .
هذا ونسأل الله الهداية والتوفيق لمعرفة الحق والعمل به .
طلوع الشمس من مغربها
قال الله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }(11/20)
قال الحافظ ابن كثير في " النهاية " : " قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عمارة، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فإذا رآها الناس؛ آمن من عليها؛ فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) . وقد أخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي . . . " انتهى .
وقال السفاريني : " قال العلماء رحمهم الله تعالى : طلوع الشمس من مغربها ثابت بالسنة الصحيحة والأخبار الصريحة، بل وبالكتاب المنزل على النبي المرسل .
قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } الآية؛ أجمع المفسرون- أو جمهورهم- على أنها طلوع الشمس من مغربها، وحاصل ذلك والمقصود من الآية الكريمة : أن من لم يكن إيمانه متحققا إذا طلعت الشمس من مغربها؛ لم ينفعه تجديد الإيمان، ولم ينفعه فعل بر من جميع الأعمال؛ لأنه فقد الإيمان الذي هو الأساس لما عداه من تلك الأعمال؛ فلا ينفعه إيمانه الحادث حينئذ، ولا ما صدر منه قبل ذلك من الإحسان وعمل البر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وقرى الأضياف وغير ذلك مما هو مكارم الأخلاق؛ لأنها على غير أساس؛ قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } ، والإيمان الحادث في ذلك الوقت ليس مقبولا .
وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فإذا طلعت ورآها الناس؛ آمنوا أجمعون؛ فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ) .(11/21)
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله : " وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن ماجه من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله فتح بابا قبل المغرب، عرضه سبعون - أو قال أربعون عاما - للتوبة، ثم لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ) .
فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أن من أحدث إيمانا وتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل منه، وإنما كان كذلك - والله أعلم-؛ لأن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ودنوها، فعومل ذلك الوقت معاملة يوم القيامة؛ كما قال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } ، وقال تعالى : { فَهَل يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُم } . انتهى .
وقال أيضا في " تفسيره " : " { لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ }(11/22)
أي : إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ؛ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك؛ فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ؛ لم تقبل منه توبته؛ كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وعليه يحمل قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } ؛ أي : لا يقبل منه كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك " . انتهى .
وقال البغوي : " { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } ؛ أي : لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان . { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } ؛ يريد : لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق " . انتهى .
قال القرطبي رحمه الله في " تفسيره " : " قال العلماء : وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم- لإيقانهم بدنو القيامة- في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها في أبدانهم؛ فمن تاب في مثل هذه الحال؛ لم تقبل توبته؛ كما لا تقبل توبة من حضره الموت؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ؛ أي : تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يُرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار؛ فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله " اهـ .
وعلى كل؛ فهذا حدث عظيم وهول مفزع يؤذن بتغيير نظام الكون وقرب قيام الساعة، وفيه دليل على عظيم قدرة الله عز وجل، وأن هذه الشمس مدبرة مخلوقة يعتريها الخلل بإذن الله تعالى .
هذا؛ ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان الصادق واليقين النافع الذي يدفع إلى العمل الصالح والاستعداد بالزاد النافع ليوم المعاد قبل فوات الفرصة ونهاية الأجل، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين .(11/23)
حشر الناس إلى أرض الشام
قال الإمام ابن كثير في " النهاية " : " ثبت في " الصحيحين " من حديث وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار؛ تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا ) .
ثم ساق الأحاديث في هذا المعنى، ثم قال : " فهذه السياقات تدل على أن هذا الحشر هو حشر الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى محلة، وهي أرض الشام، وأنهم يكونون على أصناف ثلاثة؛ فصنف طاعمين كاسين وراكبين، وقسم يمشون تارة ويركبون تارة أخرى، وهم يعتقبون على البعير الواحد- كما تقدم في " الصحيحين " - اثنان على بعير وثلاثة على بعير . . . " .
إلى أن قال : " وعشرة على بعير يعتقبونه من قلة الظهر؛ كما تقدم في الحديث، وكما جاء مفسرا في الآخر : " وتحشر بقيتهم النار " ، وهي التي تخرج من قعر عدن، فتحيط بالناس من ورائهم؛ تسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر، ومن تخلف منهم؛ أكلته النار .
وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الزمان؛ حيث الأكل والشرب والركوب على الظهر المشترى وغيره، وحيث تهلك المتخلفين منهم النار، ولو كان هذا بعد نفخة البعث؛ لم يبق موت ولا ظهر يشترى ولا أكل ولا شرب " . انتهى .
وقد جاءت أحاديث تدل على أنه في آخر الزمان تخرج نار من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر .
منها الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأهل " السنن " : " تخرج نار من قعر عدن، تسوق ( أو : تحشر ) الناس؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا " .(11/24)
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستخرج نار من حضرموت ( أو من نحو بحر حضرموت ) قبل يوم القيامة تحشر الناس قالوا يا رسول الله ! فما تأمرنا ؟ قال عليكم بالشام ) . رواه أحمد والترمذي وابن حبان في " صحيحه " ، وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح غريب " .
قال السفاريني : " اختلف العلماء في حشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ هل هو يوم القيامة أو قبله، فقال القرطبي والخطابي وصوبه القاضي عياض : إن هذا الحشر يكون قبل يوم القيامة . وأما الحشر من القبور؛ فهو على ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا؛ كما في " الصحيحين " وغيرهما : " إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا " . . . " .
إلى أن قال : " وانتصر القاضي عياض لقول الخطابي والقرطبي بأن حديث أبي هريرة : " تقيل معهم . . . وتبيت . . . وتصبح . . . وتمسي " : يؤيد أن الحشر في الدنيا إلى الشام؛ لأن هذه الأوصاف مختصة بالدنيا " .
وقال أيضا : " ذكر القرطبي في " تذكرته " : أن الحشر أربع : حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة " .
فاللذان في الدنيا : المذكور في سورة الحشر، وهو حشر اليهود إلى الشام، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " اخرجوا ! " . قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " . ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جزيرة العرب .
والحشر الثاني المذكور في أشراط الساعة؛ نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ كما في حديث أنس وعبد الله بن سلام .
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهم مرفوعا : " تبعث على أهل المشرق نار فتحشرهم إلى المغرب؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلف، وتسوقهم سوق الجمل " .(11/25)
قال الحافظ ابن حجر : وكونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب؛ لأن ابتداء خروجها من عدن؛ فإذا خرجت؛ انتشرت في الأرض كلها؛ المراد تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق .
قال القرطبي : وأما اللذان في الآخرة؛ فحشر الأموات من قبورهم بعد البعث جميعا؛ قال تعالى : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } ، وحشرهم إلى الجنة والنار، وقال : على قول الناظم :
وآخر الآيات حشر النار ** كما أتى في محكم الأخبار
قال : " وآخر الآيات " : العظام والعلامات الجسام . " حشر النار " : للناس من المشرق إلى المغرب، ومن اليمن إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام، وهو أرض الشام . " كما أتى " : ذلك مصرحا به . " في محكم الأخبار " : وصحيح الآثار . . . " .
ثم ذكر الأحاديث الواردة في خروجها من اليمن ومن قعر عدن أبين، وفي كونها تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وكونها تحشرهم إلى أرض الشام، وقال في وجه الجمع بين ذلك : " بأن النار ناران : إحداهما تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، والثانية تخرج من اليمن فتطرد الناس إلى المحشر الذي هو أرض الشام " .
قال : " وإن لم يكن في علم الله إلا نار واحدة؛ فالجمع بين حديث : " نار تخرج قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس " ، وفي لفظ : " تخرج من قعر عدن، ترحل الناس إلى المحشر " ، وحديث : " نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب " ؛ فبأن يقال : إن الشام الذي هو المحشر مغرب بالنسبة إلى المشرق، فيكون ابتداء خروجها قعر عدن من اليمن، فإذا خرجت؛ انتشرت إلى المشرق، فتحشر أهله إلى المغرب الذي هو الشام، وهو المحشر، ولفظة ( أبين ) بوزن أحمر : اسم الملك الذي بناها، وفي " نهاية ابن الأثير " : عدن أبين : مدينة معروفة باليمن، أضيفت إلى أبين بوزن أبيض، وهو رجل من حمير عدن بها؛ أي : أقام . والله أعلم " .(11/26)
النفخ في الصور والصعق
قد تكرر ذكر النفخ في الصور في القرآن العظيم وذكر ما يحدث عند ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات :
نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ }
ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في سورة الزمر في قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } وأما الاستثناء؛ فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين؛ فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله؛ فإن الله أطلق في كتابه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان مما استثناه الله ؟ ) . وهذه الصعقة قيل : إنها رابعة، وقيل : إنها من المذكورات في القرآن " انتهى .
وقال السفاريني : " واعلم أن النفخ في الصور ثلاث نفخات :
نفخة الفزع : وهي التي يتغير بها هذا العالم ويفسد نظامه، وهي المشار إليها في قوله تعالى : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } ؛ أي : من رجوع ومرد .
وقوله : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } : فسر الزمخشري في " كشافه " المستثنى في هذه الآية بمن ثبت الله قلبه من الملائكة، وهم : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . وقيل غير ذلك . وإنما يحصل الفزع بشدة ما يقع من هول تلك النفخة . . . " .(11/27)
إلى أن قال : " النفخة الثانية : نفخة الصعق، وفيها هلاك كل شيء؛ قال تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ، وقد فسر الصعق بالموت . . . " .
إلى أن قال : " والصور قرن من نور، يجعل فيه أرواح الخلائق، وقال مجاهد : كالبوق . ذكره البخاري . وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ما الصور ؟ قال قرن ينفخ فيه ) . قال الترمذي : حديث حسن . . . " .
ثم قال : " النفخة الثالثة : نفخة البعث والنشور، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها وأخبار تشير إليها؛ كقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } وقوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } ، وقوله تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } ، وقوله تعالى : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } الآية؛ قال المفسرون : المنادي هو إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة ! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : ينفخ إسرافيل وينادي جبريل . والمكان القريب : صخرة بيت المقدس . قال جماعة من المفسرين : وبين النفختين أربعون عاما . قال بعض العلماء : اتفقت الروايات على ذلك .
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " ما بين النفختين أربعون " . قالوا : يا أبا هريرة ! أربعون يوما ؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون عاما ؟ قال : أبيت . . . " الحديث .(11/28)
وقول أبي هريرة رضي الله عنه : " أبيت " : فيه ثلاث تأويلات : أولها : امتنعت من بيان ذلك لكم . وقيل : أبيت أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وقيل : نسيت . وقيل : إن سر ذلك لا يعلمه إلا الله لأنه من أسرار الربوبية .
وفي حديث أبي هريرة الطويل الذي رواه ابن جرير والطبراني وأبو يعلى في " مسنده " والبيهقي في " البعث " وأبي موسى المديني وغيرهم؛ قال : ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل؛ فهو واضعه على فيه، شاخصا ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر قلت يا رسول الله وما الصور ؟ قال القرن قلت أي شيء هو ؟ قال عظيم، إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول انفخ الفزع ! فينفخ، فيفزع أهل السماء والأرض إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها ويطيلها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، فتكون سرابا، وترتج الأرض بأهلها رجا، فتكون كالسفينة الموقرة في البحر تضربها الأمواج، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، وهي التي يقول الله { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } فتميل الأرض بالناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار، فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى { يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } فبينما هم على ذلك؛ إذ تصدعت الأرض، فانصدعت من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا عظيما، ثم نظروا إلى السماء؛ فإذا هي(11/29)
كالمهل، ثم انشقت فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك قلت يا رسول الله ! من استثنى الله تعالى في قوله { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ؛ قال أولئك الشهداء وإنما يتصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه، يقول الله { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد } ، فيمكثون في ذلك ما شاء الله ) الحديث " .
هذا؛ ونسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، ويجعلنا من الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .
ثانيا : الإيمان باليوم الآخر
وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا .
وقد دل عليه العقل والفطرة، كما صرحت به جميع الكتب السماوية، ونادى به الأنبياء والمرسلون .
وقد أخبر الله عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين له في غالب سور القرآن .
والإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب؛ إلا من عاند- كفرعون-؛ بخلاف الإيمان باليوم الآخر؛ فإن منكريه كثيرون .
ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين؛ بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء .
وقد تنوعت أدلة البعث في القرآن الكريم :(11/30)
فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم في الدنيا كما أخبر عن قوم موسى الذين قالوا : { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } ؛ قال : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } ، وعن { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } ، وعن إبراهيم إذ قال : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } . . . القصة، وكما أخبر عن المسيح أنه كان يحيي الموتى بإذن الله، وعن أصحاب الكهف أنهم بعثوا بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين .
وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء؛ كما في قوله : { إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } الآية، وقوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، وقوله : { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }
وتارة يستدل على ذلك بخلق السماوات والأرض؛ فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان؛ كما في قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }
وتارة يستدل عليه بتنزيه الله عن العبث؛ كما قال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } ، { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } . . . إلى قوله سبحانه : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } .
فالناس في هذه الدنيا منهم المحسن ومنهم المسيء، وقد يموتون ولا ينال أحدهم جزاء عمله؛ فلا بد من دار أخرى يقام فيها العدل بين الناس وينال كل منهم جزاء عمله .(11/31)
والإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان؛ كما يدل على ذلك القرآن في كثير من الآيات :
حيث يذكر الإيمان به تارة مع الإيمان بالأركان الستة التي هي : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ كما في حديث عمر رضي الله عنه في سؤالات جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم .
وتارة يذكر الإيمان به مع الإيمان بالله؛ كما قال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } .
وقد سمى الله هذا اليوم بعدة أسماء؛ تنويها بشأنه وتنبيها للعباد ليخافوا منه؛ فسماه اليوم الآخر؛ لأنه بعد الدنيا وليس بعده يوم غيره . وسماه يوم القيامة؛ لقيام الناس فيه لربهم . وسماه الواقعة والحاقة والقارعة والراجفة والصاخة والآزفة والفزع الأكبر ويوم الحساب ويوم الدين والوعد الحق . . . وكلها أسماء تدل على عظم شأنه وشدة هوله وما يلقاه الناس فيه من الشدائد والأهوال؛ فهو يوم تشخص فيه الأبصار، وتطير القلوب عن أماكنها حتى تبلغ الحناجر .
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } .
{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ }
والإيمان بهذا اليوم يحمل الإنسان على العمل والاستعداد له :(11/32)
كما قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
وقال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
وقال تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } .
كما أن الإيمان بهذا اليوم يحمل على الثبات عند لقاء الأعداء والصبر على الشدائد؛ كما قال تعالى في قصة طالوت وجنوده حينما لقوا عدوهم الذي يفوقهم في الكثرة بعدما جاوزوا نهر الامتحان ولم ينجح منهم إلا القليل؛ قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
كما أن عدم الإيمان بهذا اليوم يحمل الإنسان على الكفر والمعاصي وعلى الظلم والعدوان والبغي والفساد :
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .(11/33)
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } .
وقال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } .
وقد أمر الله باتقاء ذلك اليوم بالاستعداد له بالأعمال الصالحة التي تنجي من أهواله :
قال تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
وقال سبحانه : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } .
وقال تعالى : { وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } .
والإيمان باليوم الآخر معناه أن تصدق بكل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه وبالبعث بعد ذلك والحساب والميزان والثواب والعقاب والجنة والنار وبكل ما وصف الله به يوم القيامة .
وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا، وله أسماء كثيرة في القرآن منها :
1- يوم البعث : لأن فيه البعث والحياة بعد الموت .
2- يوم الخروج : لأن فيه خروج الناس من قبورهم إلى الحياة الأخرى .
3- يوم القيامة : لأن فيه قيام الناس للحساب .
4- يوم الدين : لأن فيه إدانة الخلائق ومجازاتهم على أعمالهم .
5- يوم الفصل : لأن فيه الفصل بين الناس بالعدل .
6- يوم الحشر : لأن فيه جمع الخلائق وحشرهم في موقف الحساب .
7- يوم الجمع : لأن الله يجمع فيه الناس للجزاء .
8- يوم الحساب : لأن فيه محاسبة الناس على أعمالهم التي عملوها في الدنيا .(11/34)
9- يوم الوعيد : لأن فيه تحقيق وعيد الله للكافرين .
10- يوم الحسرة : لأن فيه حسرة الكافرين .
11- يوم الخلود : لأن الحياة في هذا اليوم حياة خالدة أبدية .
12- الدار الآخرة : لأنها بعد دار الدنيا، وهي دار باقية، ليس بعدها انتقال إلى دار أخرى .
13- دار القرار : لأنها الاستقرار الدائم بلا فناء ولا انتقال .
14- دار الخلد : لأن الإقامة فيها إقامة أبدية .
15- الواقعة : لتحقيق وقوعها .
16- الحاقة : لأنها تحق كل مجادل ومخاصم بالباطل بمعنى تغلبه .
17- القارعة : لأنها تقرع الأسماع والقلوب بأهوالها .
18- الغاشية : لما يجري فيها من غشيان عام للثقلين .
19- الطامة : لأنها تغلب وتفوق ما سواها من الدواهي .
20- الآزفة : أي : القريبة، سميت بذلك إشعارا بقربها بالنسبة إلى عمر الدنيا .
21- يوم التغابن : لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار .
22- يوم التناد : لأنه يدعى فيه كل أناس بإمامهم، وينادي بعضهم بعضا، وينادي أهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، وينادي أصحاب الأعراف .
الموت
ومن مقدمات اليوم الآخر الموت، وهو القيامة الصغرى .
والقيامة الصغرى : هي وفاة كل شخص عند انتهاء أجله، وبها ينتقل من الدنيا إلى الآخرة .
وقد ذكر الله العباد بالموت؛ ليستعدوا له بالأعمال الصالحة والتوبة من الأعمال السيئة؛ لأنه إذا جاء؛ ختم عمل الإنسان، وهو لا يقبل التأخير .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .(11/35)
وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } .
والموت هو القيامة الصغرى، وقيام الساعة هو القيامة الكبرى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وهو سبحانه وتعالى في السورة الواحدة يذكر القيامة الكبرى والصغرى؛ كما في سورة الواقعة؛ فإنه ذكر في أولها القيامة الكبرى، وأن الناس يكونون أزواجا ثلاثة؛ كما قال تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } ، ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت، وأنهم يكونون ثلاثة أصناف بعد الموت، فقال : { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } " .
وعند الموت تقبض روح الإنسان من جسده بأمر الله تعالى .
وقد أسند الله قبض الأنفس إليه سبحانه في قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } ، وأسنده إلى الملائكة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } وفي قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } ، وأسنده إلى ملك الموت في قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }(11/36)
ولا تعارض بين الآيات، والإضافة في هذه الآيات إلى كل بحسبه؛ فالله هو الذي قضى بالموت وقدره، فهو بقضائه وقدره وأمره، فأضيف إليه التوفي لأجل ذلك، وملك الموت يتولى قبضها واستخراجها من البدن، ثم تأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، ويتولونها بعده، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه .
التوفي بالنوم والتوفي بالموت
الروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالنوم :
قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة : ( إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء ) . وقال له بلال : يا رسول الله ! أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك .
وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } .
قال ابن عباس وأكثر المفسرين : يقبضها قبضتين؛ قبض الموت وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى حتى يأتي أجلها وقت الموت .
وقد ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول إذا نام : ( باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي؛ فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها؛ فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) .
وهذا أحد القولين في الآية، وهو أن الممسكة والمرسلة كلاهما متوفى وفاة النوم؛ فمن استكملت أجلها؛ أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها؛ ردها إلى جسدها لتستكمله .
والقول الثاني : أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا : أن الله يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسده إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى؛ قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } .
حقيقه الروح(11/37)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( 13/341 ) : " ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة : أن الروح عين قائمة بنفسها، تفارق البدن، وتنعم، وتعذب، ليست هي البدن، ولا جزء من أجزائه، ولما كان الإمام أحمد رحمه الله ممن نص على ذلك كما نص عليه غيره من الأئمة؛ لم يختلف أصحابه في ذلك " .
وقال في موضع آخر ( 9/303 ) : " والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر الفردة، ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتميزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها؛ فإنه يشار إليها، وتصعد، وتنزل، وتخرج من البدن، وتسيل منه؛ كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليه الشواهد العقلية .
وأما قول القائل : أين مسكنها من الجسد ؟ فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد؛ فإن الحياة مشروطة بالروح؛ فإذا كانت الروح في الجسد؛ كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح؛ فارقته الحياة " .
الروح مخلوقة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4/216 ) : " روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين " .
وقال تلميذه العلامة ابن القيم : " والذي يدل على خلقها وجوه . . . " ، وذكر اثني عشر وجها :
منها : قول الله تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ فهذا اللفظ عام، لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفاته؛ فإنها داخلة في مسمى اسمه؛ فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات الكمال، وهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق .
ومنها : قوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } ، وهذا الخطاب لروحه وبدنه، وليس لبدنه فقط؛ فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل، وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح .(11/38)
ومنها : قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } ، وهذا الإخبار إما أن يتناول أرواحنا وأجسادنا كما يقوله الجمهور، وإما أن يكون واقعا على الأرواح قبل خلق الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك، وعلى التقديرين؛ فهو صريح في خلق الأرواح .
ومنها : النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته، وليست عبوديته واقعة على بدنه دون روحه، بل عبودية الروح أصل، وعبودية البدن تبع؛ كما أنه تبع لها في الأحكام، وهي التي تحركه وتستعمله، وهو تبع لها في العبودية .
ومنها : قوله تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } ؛ فلو كانت روحه قديمة؛ لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا؛ فإنه إنما هو إنسان بروحه لا بدنه .
ومنها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في " صحيح البخاري " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) ، والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة .
ومنها : أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث المربوب .
كيفية قبض روح المتوفى وما لها بعد وفاته
قد جاء بيان كيفية التوفي ومآل الروح بعده في حديث البراء بن عازب الطويل، وهذا نصه :(11/39)
عن البراء بن عازب رضي الله عنه؛ قال : ( كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد له، فقال أعوذ بالله من عذاب القبر؛ ثلاث مرات ثم قال إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا؛ نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول يا أيتها النفس الطيبة ! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها؛ فإذا أخذها؛ لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة؛ إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون فلان ابن فلان؛ بأطيب أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له من ربك ؟ فيقول ربي الله فيقولان له ما دينك ؟ فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هو رسول الله فيقولان له ما علمك ؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي؛ فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسخ له في قبره مدَّ بصره قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له من أنت ؟ فوجهك الذي يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح(11/40)
فيقول يا رب ! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة؛ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الخبيثة ! اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتفرَّق روحه في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها؛ لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة؛ إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان ابن فلان؛ بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له من ربك ؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ! فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة ) .
رواه الإمام أحمد وأبو داوود والحاكم وأبو عوانة في " صحيحيهما " وابن حبان .
قال شارح الطحاوية : " وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد في الصحيح " .(11/41)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أما الحديث المذكور في قبض روح المؤمن، وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها الله؛ فهذا حديث معروف جيد الإسناد، وقوله : " فيها الله " : بمنزلة قوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } " انتهى .
قال العلامة ابن القيم : " الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت :
فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم؛ كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء .
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره . ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة . ومنهم من يكون محبوسا في قبره؛ كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد فقال الناس : هنيئا له الجنة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده؛ إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره ) . ومنهم من يكون مقره باب الجنة؛ كما في حديث ابن عباس : ( الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم من الجنة بكرة وعشية ) .(11/42)
ومنها ما يكون محبوسا في الأرض لم يعل إلى الملأ الأعلى؛ فإنها كانت روحا سفلية أرضية؛ فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك؛ كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها؛ فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد؛ كما تقدم في الحديث، ويجعل المؤمن مع النسم الطيب؛ أي : الأرواح الطيبة المشاكلة؛ فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك .
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة .
فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض " .
قال : " وأنت إذا تأملت السنن والآثار، وكان لك بها فضل اعتناء؛ عرفت حجة ذلك .
ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا؛ فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها، وأنها لها شأنا غير شأن البدن " .
إلى أن قال : " وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير؛ فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق " .
هل الروح والنفس شيء واحد أو شيئان متغايران ؟
اختلف الناس في ذلك : فمن قائل : إنهما شيء واحد، وهم الجمهور . ومن قائل : إنهما متغايران .
والتحقيق أن لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان، فيتحد مدلولها تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على أمور :(11/43)
منها : الروح؛ يقال : خرجت نفسه؛ أي : روحه، ومنه قوله تعالى : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } .
ومنها : الذات؛ يقال : رأيت زيدا نفسه وعينه، ومنه قوله تعالى : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } .
ومنها : الدم؛ يقال : سالت نفسه، ومنه قول الفقهاء : ما له نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة، ومنه يقال : نفست المرأة إذا حاضت ونفست إذا نفسها ولدها، ومنه النفساء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ويقال : النفوس ثلاثة أنواع، وهي :
النفس الأمارة بالسوء : التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي .
والنفس اللوامة : وهي التي تذنب وتتوب؛ ففيها خير وشر، ولكن إذا فعلت الشر؛ تابت وأنابت، فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولا تتلوم؛ أي : تتردد بين الخير والشر .
والنفس المطمئنة : وهي التي تحب الخير والحسنات، وتبغض الشر والسيئات، وقد صار ذلك لها خلقا وعادة .
فهذه صفات وأحوال لذات واحدة؛ لأن النفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة .
والروح أيضا تطلق على معان :
منها : القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله؛ قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } .
وعلى جبريل؛ قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } .
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله؛ قال تعالى : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ، سمي روحا لما يحصل به من الحياة النافعة؛ فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة، وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن .
وتطلق الروح أيضا على الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه .
وتطلق الروح على ما سبق بيانه، وهو ما يحصل بفراقه الموت، وهي بهذا الاعتبار ترادف النفس ويتحد مدلولهما، ويفترقان في أن النفس تطلق على البدن وعلى الدم، والروح لا تطلق عليهما . والله أعلم " .
ثالثا : فتنة القبر وعذابه ونعيمه(11/44)
الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، ومن ذلك الإيمان بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه .
وذلك أن بين الموت الذي تنتهي به الحياة الأولى وبين البعث الذي تبتدئ به الحياة الثانية -وبعبارة أخرى : بين القيامة الصغرى والقيامة الكبرى- فترة جاءت تسميتها في القرآن الكريم برزخا؛ كما في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .
والبرزخ لغة : الحاجز بين الشيئين .
وفي هذا البرزخ نموذج من الجزاء الأخروي؛ فهو أول منزل من منازل الآخرة؛ ففيه سؤال الملكين ثم العذاب أو النعيم .
سؤال الملكين
ويسمى بفتنة القبر، وهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله الملكان .
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم .
وهي عامة للمكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم، وكذلك اختلف في غير المكلفين كالصبيان والمجانين : فقيل : لا يفتنون لأن المحنة إنما تكون للمكلفين . وقيل : يفتنون .
وحجة من قال : إنهم يسألون : أنه يشرع الصلاة عليهم والدعاء لهم وسؤال الله أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر :
كما ذكر مالك في " موطئه " عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أنه صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة صبي، فسمع من دعائه اللهم ! قِهِ عذاب القبر ) .
واحتجوا بما رواه علي بن معبد، عن عائشة رضي الله عنها : أنه مر عليها بجنازة صبي صغير، فبكت، فقيل لها : ما يبكيك يا أم المؤمنين ؟ فقالت : هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر .
قالوا : والله سبحانه يكمل لهم عقولهم؛ ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه .(11/45)
قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث؛ فإذا امتحنوا في الآخرة؛ لم يمتنع امتحانهم في القبور .
واحتج من قال : إنهم لا يسألون : بأن السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل، فيسأل : هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا ؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما؛ فكيف يقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ ولو رد إليه عقله في القبر؛ فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال . وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة؛ فإن الله سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعته وعقولهم معهم؛ فمن أطاعه منهم؛ نجا، ومن عصاه؛ أدخله النار . فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر .
وأجابوا عن أدلة الأولين :
أما حديث أبي هريرة؛ فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعا؛ فإن الله لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) ؛ أي : يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي، { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( السفر قطعة من العذاب ) ، فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل الله تعالى له أن يقيه ذلك العذاب . والله أعلم .
واختلفوا : هل السؤال في القبر عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق ؟
فقيل : يختص ذلك بالمسلم والمنافق دون الكافر الجاحد المبطل .(11/46)
وقيل : السؤال في القبر عام للكافر والمسلم، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، واستثناء الكافر من هذا لا وجه له .
واختلفوا : هل السؤال في القبر مختص بهذه الأمة، أو يكون لها ولغيرها على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه خاص بهذه الأمة؛ لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة؛ فإذا أبوا؛ كفت الرسل، واعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق؛ كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ؛ أمسك عنهم العذاب، وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأمهلوا فمن ثم ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا؛ قيض الله لهم فتَّاني القبر ليستخرجا سرهم بالسؤال .
واحتج أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ) ، وبقوله : ( أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم ) ؛ وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة، ويدل عليه قول الملكين : " ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ " .
القول الثاني : أن السؤال في القبر لهذه الأمة ولغيرها، وأجاب أصحاب هذا القول عن أدلة القول الأول بأنها لا تدل على الاختصاص بالسؤال لهذه الأمة دون سائر الأمم .
وقوله : " هذه الأمة " : إما أن يراد به أمة الناس؛ أي : بني آدم؛ كما في قوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } ، وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة . وإن كان المراد أمته صلى الله عليه وسلم؛ لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم؛ لأنه إخبار لهم بأنهم يسألون في قبورهم . وكذلك حديث : ( أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم ) ؛ مجرد إخبار لا ينفي سؤال غيرهم .(11/47)
القول الثالث : التوقف في هذه المسألة؛ لأن الأدلة في ذلك محتملة وليست قاطعة في الاختصاص . والله أعلم . . .
صفة سؤال الملكين على ما وردت به الأحاديث
جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم : ( فتعاد روحه - يعني الميت - في جسده، ويأتيه ملكان ) .
وفي " الصحيحين " من حديث قتادة عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الميت إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه؛ إنه ليسمع خفق نعالهم؛ أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله قال فيقول انظر إلى مقعدك من النار؛ قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيراهما جميعا " . قال : " فأما الكافر والمنافق؛ فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري ! كنت أقول ما يقول الناس . فيقولان له : لا دريت ولا تليت . ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة، فيسمعها من عليها غير الثقلين " .
وفي حديث آخر في " صحيح أبي حاتم " : ( أتاه ملكان أسودان أزرقان؛ يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير ) .(11/48)
وفي حديث آخر في " المسند " و " صحيح أبي حاتم " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الميت إذا وضع في قبره؛ إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه؛ فإن كان مؤمنا؛ كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يساره، فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان ما قبلي مدخل فيقال له اجلس ! فيجلس وقد مثلت له الشمس وقد أخذت في الغروب فيقال له هذا الرجل الذي كان فيكم؛ ما تقول فيه ؟ وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول دعوني حتى أصلي فيقولون إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه ) الحديث .
فهذه الأحاديث وما جاء بمعناها تدل على مسائل :
1 . أن السؤال يحصل حين يوضع الميت في قبره، وفي هذا رد على أهل البدع -كأبي الهذيل والمريسي- القائلين : إن السؤال يقع بين النفختين .
2 . تسمية الملكين منكر ونكير، وفي هذا رد على من زعم من المعتزلة أنه لا يجوز تسميتهما بذلك، وأوَّلوا ما ورد في الحديث بأن المراد بالمنكر تلجلجه إذا سئل، والنكير تقريع الملائكة له .(11/49)
3 . أنها ترد روح الميت إليه في قبره حين السؤال، ويجلس ويستنطق، وفي هذا رد على أبي محمد بن حزم حيث نفى ذلك؛ إلا إن كان يريد نفي الحياة المعهودة في الدنيا؛ فهذا صحيح؛ فإن عود الروح إلى بدن الميت ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه؛ كما أن النشأة الأخرى ليست مثل هذه النشأة، وإن كانت أكمل منها، بل كل موطن في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يخصه، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يوسع له في قبره ويسأل ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير؛ فالأرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه .
وللروح بالبدن تعلقات مختلفة إليك بيانها :
تعلقات الروح بالبدن
للروح بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام :
أحدهما : تعلقها به في بطن الأم جنينا .
الثاني : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض .
الثالث : تعلقها به حال النوم؛ فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه .
الرابع : تعلقها به في البرزخ؛ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه؛ فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى إليه التفات البتة؛ فقد دلت الأحاديث على ردها إليه عند سؤال الملكين وعند سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا توجب حياة البدن قبل يوم القيامة .
الخامس : تعلقها به يوم يبعث الأجساد، وهو أكمل تعلقاتها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه j؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا .
عذاب القبر ونعيمه
مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل له معها النعيم أو العذاب .(11/50)
فأهل السنة والجماعة يتفقون على أن النفس تنعم وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين؛ كما يكون ذلك على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون النعيم والعذاب على البدن بدون الروح ؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام .
أدلة عذاب القبر ونعيمه من القرآن الكريم
1 . قال الله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } ، وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا؛ لما صح أن يقال لهم : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ } ، فدل على أن المراد به عذاب القبر .
2 . وقال الله تعالى : { فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ، وهذا يحتمل عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر؛ لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال -وهو أظهر- : إن من مات منهم؛ عذب في البرزخ، ومن بقي منهم؛ عذب في الدنيا بالقتل وغيره؛ فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ .(11/51)
3 . وقال تعالى : { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } . فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره، فدل على ثبوت عذاب القبر .
4 . وقال تعالى : { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } ؛ فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية؛ إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام؛ كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام .
أدلة عذاب القبر من السنة النبوية
إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه؛ وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن .
وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها :
1 . ما في " الصحيحين " عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما؛ فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر؛ فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة، فشقها نصفين، فقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .(11/52)
2 . في " صحيح مسلم " عن زيد بن ثابت؛ قال : ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن معه؛ إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال من يعرف أصحاب هذه القبور ؟ فقال رجل أنا قال فمتى مات هؤلاء ؟ قال في الإشراك فقال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ) الحديث .
3 . في " صحيح مسلم " وجميع " السنن " عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ) .
4 . وفي " الصحيحين " عن أبي أيوب؛ قال : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتا، فقال يهود تعذب في قبورها ) .
5 . وفي " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت : ( دخلت عليَّ عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتها، ولم أنعم أن أصدقها قالت فخرجت، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله ! إن عجوزا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم ؟ قال صدقت؛ إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها قالت فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر )
تنبيه هام
وعذاب القبر وسؤال الملكين ينالان كل من مات، ولو لم يدفن؛ فهو اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، وسمي عذاب القبر باعتبار الغالب؛ فالمصلوب والمحرق والمغرق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما .(11/53)
فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادا وذري بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح؛ أنه ينجو من ذلك، فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال : قم ! فإذا هو قائم بيني يدي الله، فسأله : ما حملك على ما فعلت ؟ فقال : خشيتك يا رب ! وأنت أعلم . فرحمه الله . فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال .
حتى لو علق الميت على رءوس الأشجار في مهاب الرياح؛ لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار؛ لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما، والهواء على ذلك نارا أو سموما .
فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها؛ يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصي منها شيء أراده، بل هي طوع أمره ومشيئته منقادة لقدرته؛ فغير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق والمحرق ونحن لا نشعر بها؛ لأن ذلك الرد نوع آخر غير المعهود؛ فهذا المغمى عليه والمسكور والمبهوت أحياء وأرواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم، ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من الألم واللذة .
وإذا كان الله تعالى قد جعل في الجمادات شعورا وإدراكا تسبح ربها به، وتسقط الحجارة من خشيته، وتسجد له الجبال والشجر، وتسبحه الحصى والمياه والنبات؛ كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ؛ فإذا كانت هذه الأجسام فيها الإحساس والشعور؛ فالأجسام التي كانت فيها الأرواح والحياة أولى بذلك .
وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادة حياة كاملة إلى بدن قد فارقته الروح فتكلم ومشى وأكل وشرب وتزوج وولد له :(11/54)
قال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } .
وقال سبحانه : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
وكقبيل بني إسرائيل الذين قالوا لموسى : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } فأماتهم الله ثم بعثهم من بعد موتهم .
وكأصحاب الكهف .
وكقصة إبراهيم في الطيور الأربعة .
فإذا أعاد الحياة التامة إلى هذه الأجساد بعدما بردت بالموت؛ فكيف يمتنع على قدرته الباهرة أن يعيد إليها بعد موتها حياة ما غير مستقرة يقضي بها أمره فيها ويستنطقها بها ويعذبها أو ينعمها بأعمالها ؟ ! وهل إنكار ذلك إلا مجرد تكذيب وعناد وجحود ؟ !
المنكرون لعذاب القبر ونعيمه وشبهتهم والرد عليهم
أنكرت الملاحدة والزنادقة عذاب القبر ونعيمه، وقالوا : إنا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة يضربون الموتى، ولا حيات، ولا ثعابين، ولا نيران تأجج ! وكيف يفسح له مد بصره أو يضيق عليه ونحن نجده بحاله ونجد مساحته على حد ما حفرناه له ولم يزد ولم ينقص ؟ وكيف يصير القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟
وجوابنا على ذلك من وجوه :
أولا : أن حال البرزخ من الغيوب التي أخبرت بها الأنبياء، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا؛ فلا بد من تصديق خبرهم .(11/55)
ثانيا : أن النار في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا ولا من زروع الدنيا فيشاهد ذلك من شاهد نار الدنيا وخضرها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرها، وهي أشد من نار الدنيا؛ فلا يحس بها أهل الدنيا؛ فإن الله سبحانه يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته، حتى يكون أعظم حَرًّا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا؛ لم يحسوا بذلك، وقدرة الرب أوسع من ذلك وأعجب .
وإذا شاء الله أن يطلع بعض العباد على عذاب القبر؛ أطلعه، وغيبه عن غيره؛ إذ لو أطلع العباد كلها؛ لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس؛ كما في " الصحيحين " في الحديث الذي مر من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع ) ، ولما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم؛ سمعت ذلك وأدركته؛ كما حادت برسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته وكادت تلقيه لما مر بمن يعذب في قبره .
فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن؛ تقع أحيانا لمن شاء الله أن يريه ذلك .
وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه ويقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها؛ والعبد أضعف بصرا وسمعا أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر ؟ !(11/56)
وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، والله سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما ما كان من أمر الآخرة؛ فقد أسبل عليه الغطاء؛ ليكون الإقرار به والإيمان به سببا لسعادتهم؛ فإذا كشف عنهم الغطاء؛ صار عيانا مشاهدا؛ فلو كان الميت بين الناس موضوعا؛ لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه . وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه المستيقظ، فيعذب في النوم ويضرب ويتألم وليس عند المستيقظ خبر من ذلك ألبتة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير؛ فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ مثل ما في " الصحيحين " عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر؛ فكان لا يستتر من بوله ثم دعا بجريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، فقالوا يا رسول الله ! لم فعلت هذا ؟ قال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .
وفي " صحيح مسلم " وسائر " السنن " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليقل أعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ) . . . . " .(11/57)
وساق الشيخ أحاديث كثيرة في هذا الباب إلى أن قال : " وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا وسؤال الملكين؛ فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به، ولا نتكلم عن كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد له في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول؛ فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا . . . " .
إلى أن قال : " واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ؛ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه؛ قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو صلب أو غرق في البحر؛ وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك؛ فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير؛ فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصد من الهدى والبيان؛ فكم حصل من إهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله . . . " .
إلى أن قال : " فالحاصل أن الدور ثلاث : دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها؛ فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم؛ صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا . فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل؛ ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم .(11/58)
ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه والتي تحته، حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا، لم يحسوا بها، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه، وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما .
وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده؛ أطلعه، وغيبه عن غيره، ولو أطلع الله على ذلك العباد كلهم؛ لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس؛ كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : ( لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع ) .
أسباب عذاب القبر
قال العلامة السفاريني : " الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين : مجمل ومفصل :
أما المجمل؛ فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وعدم إطاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه؛ فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا؛ فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده؛ فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار بارتكاب مناهيه ولم يتب ومات على ذلك؛ كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه؛ فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب .(11/59)
وأما المفصل؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما : أن أحدهما كان يمشي بالنميمة بين الناس، والآخر كان لا يستتر من البول، ثم ذكر من يعذب لكونه صلى بغير طهور، ومن مر على مظلوم فلم ينصره، ومن يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار، وتعذيب الزناة والزواني وأكلة الربا والذين تتثاقل رءوسهم عن صلاة الفجر، وتعذيب الذين يمنعون الزكاة، والذين يوقدون الفتنة بين الناس، والجبارين والمتكبرين والمرائين والهمازين واللمازين .
وقد أنكر الملاحدة والزنادقة عذاب القبر ونعيمه اعتمادا على عقولهم وحواسهم؛ لأنهم لا يشاهدون شيئا من ذلك . . . " انتهى .
ونرد عليهم بأن عذاب القبر من علم الغيب الذي يعتمد فيه على النصوص الصحيحة، وليس للعقل ولا الفكر دخل فيه، وأحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وعدم إدراك الإنسان للشيء لا يدل على عدم وجوده . والله أعلم .
رابعا : البعث والنشور
اعلم أن وقوع البعث من القبور قد دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة؛ أخبر الله عنه في كتابه العزيز، وأقام عليه الدليل، ورد على منكريه في آيات كثيرة من القرآن العظيم، وقد أخبرت عنه جميع الأنبياء أممها، وطالبت المنكرين بالإيمان به، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين؛ بين تفصيل الآخرة تفصيلا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء قبله .
والقيامة الكبرى معروفة عند جميع الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم . . . عليهم الصلاة والسلام .(11/60)
وقد أخبر الله من حين أهبط آدم بالقيامة : فقال تعالى : { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } . وقال : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } . ولما قال إبليس اللعين : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } .
وقال نوح عليه السلام لقومه : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } .
وقال إبراهيم عليه السلام : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } .
وموسى عليه السلام قال الله له : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } . وقال موسى في دعائه : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } .
وقد أخبر الله أن الكفار إذا أدخلوا النار يقرون أن رسلهم أنذرتهم هذا اليوم؛ كما في قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } ؛ فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه .
وقد أخبر الله تعالى أن الموتى يقومون من قبورهم إذا نفخ في الصور النفخة الثالثة؛ قال تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } ، وقال تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } .(11/61)
قال السفاريني : " وفي تفسير الثعلبي عن أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير سورة الزمر مرفوعا : ( إن الله يرسل مطرا على الأرض، فينزل عليها أربعين يوما، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعا، فيأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل؛ فإذا تكاملت أجسادهم كما كانت؛ قال الله تعالى ليحي حملة العرش ! ليحي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ! ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فيأخذ الصور، فيضعه على فيه، ثم يدعو الأرواح، فيؤتى بها؛ تتوهج أرواح المؤمنين نورا، والأخرى ظلمة، فيقبضها جميعا، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمره أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كلها كأنها النحل، قد ملأت ما بين السماء والأرض، ثم يقول الله تعالى وعزتي وجلالي؛ لترجعن كل روح إلى جسدها، فتدخل الأرواح من الخياشيم، ثم تمشي مشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنها سراعا؛ فأنا أول من تنشق عنه الأرض، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون ) " .
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( ينزل من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى؛ إلا عَُظيم واحد، وهو عجب الذنب، منه يركب الخلق يوم القيامة ) . وفي روايات مسلم : ( إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا، منه يركب الخلق يوم القيامة . قالوا : أي عظم هو يا رسول الله ؟ قال : عجب الذنب ) .
قال العلماء : وعجب الذنب هو العظم الحديد الذي يكون في أسفل الصلب .
وقد جاء في الحديث أنه مثل حبة الخردل؛ منه ينبت جسم الإنسان .
وقد استبعد المشركون إعادة الناس في حياة أخرى بعد الموت، فأنكروا البعث والنشور .(11/62)
فأمر الله نبيه أن يقسم به على وقوعه، وأنه كائن لا محالة : فقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ } ، وقال تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ، وقال تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } .
وأخبر عن اقتراب ذلك، فقال : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } .(11/63)
وذم المكذبين بالبعث، فقال : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } ، { أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } ، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً . ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً . أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً} ، وقال : { وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} ، فرد الله عليهم بقوله : {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً . أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً . يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}(11/64)
قال شارح " الطحاوية " على هذه الآيات الكريمة : " فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل؛ فإنهم قالوا أولا : {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} ؟ ! فقيل لهم في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم؛ فهلا كنتم خلقا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك ! فإن قلتم : كنا خُلِقْنا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء . فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا ؟ ! وللحجة تقدير آخر هو : لو كنتم حجارة أو حديدا أو خلقا أكبر منهما؛ فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة؛ فما الذي يعجزه فيما دونها ؟ ! ثم أخبر أنهم يسألون سؤالا آخر بقوله : { من يعيدنا } إذا فنيت جسومنا واستحالت ! فأجابهم بقوله : { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، فلما أخذتهم الحجة؛ انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به تعلل المنقطع، وهو قولهم : { متى هو } ! فأجابهم بقوله : { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } .
خامسا : الإيمان بما يكون يوم القيامة
قال الإمام السفاريني : " واعلم أن ليوم الوقوف أهوالا عظيمة وشدائد جسيمة تذيب الأكباد وتذهل المراضع وتشيب الأولاد .
وهو حق ثابت، ورد به الكتاب والسنة وانعقد عليه الإجماع، وهو يوم القيامة .
وقد اختلف في تسمية ذلك اليوم بيوم القيامة :
قيل : لكون الناس يقومون من قبورهم؛ قال تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا } . وقيل : لوجود أمور المحشر والوقوف ونحوها فيه . وقيل : لقيام الناس لرب العالمين . كما روى مسلم في " صحيحه " عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ قال : يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه . . . " .(11/65)
إلى أن قال : " وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في " صحيحه " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( يوما كان مقداره خمسين ألف سنة ) . فقيل : ما أطول هذا اليوم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده؛ إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة ) .
وقيل : إنما سمي يوم القيامة لقيام الملائكة والروح فيه صفا؛ قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا } . . . "
إلى أن قال : " وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : ( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم -وفي بعض ألفاظ الصحيح سبعين عاما- ) .
فأخرج مسلم عن المقداد رضي الله عنه؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا كان يوم القيامة؛ أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ) . قال : ( فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما ) " .
ويواجه الناس في هذا الموقف أمورا عظيمة منها :
الحساب
الحساب هو تعريف الله سبحانه الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه .
قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } .
وقال سبحانه : {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
وقال سبحانه : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }(11/66)
ومن الحساب إجراء القصاص بين العباد، فيقتص للمظلوم من الظالم؛ كما في " صحيح مسلم " و " سنن الترمذي " من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لَتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) .
والحساب متفاوت؛ فمنه الحساب العسير، ومنه الحساب اليسير .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " يحاسب الله تعالى الخلق، ويخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه؛ كما وصف ذلك في الكتاب والسنة . وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها " . انتهى .
وأول ما يحاسب عنه العبد صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء؛ كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه وأبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ يقول الله تعالى لملائكته انظروا لصلاة عبدي، أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة؛ كتبت له تامة، وإن كان نقص منها شيئا؛ قال الله انظروا؛ هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع؛ قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك ) . وأخرج النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( أول ما يحاسب عليه العبد صلاته ) .
إعطاء الصحائف
الصحائف : هي الكتب التي كتبتها الملائكة وأحصوا فيها ما فعله كل إنسان في الحياة الدنيا من الأعمال القولية والفعلية .
قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } ؛ قال العلماء : طائره : عمله .
ومنهم من يعطى كتابه بيمينه، ومنهم من يعطى كتابه بشماله .(11/67)
قال تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} إلى قوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } ، ثم قال سبحانه : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } إلى قوله : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } .
وزن الأعمال
مما يكون في هذا اليوم وزن الأعمال :
قال تعالى : { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } .
وقال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، فالأعمال توزن بميزان حقيقي له لسان وكفتان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الميزان : هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة؛ مثل قوله تعالى : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } ، وقوله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } . . . " .
ثم ساق بعض الأحاديث التي فيها وزن الأعمال، ثم قال : " وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين يبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس؛ فهو مما يتبين به العدل، والمقصود بالوزن العدل؛ كموازين الدنيا، وأما كيفية تلك الموازين؛ فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب . . . " انتهى .
الصراط والمرور عليه(11/68)
ومما يكون في يوم القيامة المرور على الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، وهو أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأشد حرارة من الجمر، عليه كلاليب تخطف من أمرت بخطفه، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كهرولة الراجل، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم . . . نسأل الله السلامة والعافية .
قال السفاريني : " اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره؛ من كونه جسرا ممدودا على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، وأنكر هذا القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه؛ زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن؛ ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى : { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } ، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } ، ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات والأعمال الرديئة ليسأل عنها ويؤاخذ بها، وكل هذا باطل وخرافات؛ لوجوب رد النصوص إلى حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء أو الوقوف فيه، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك . . . " انتهى .
الحوض
قال الحافظ السيوطي : " ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابيا، منهم الخلفاء الأربعة الراشدون، وحفاظ الصحابة المكثرون، وغيرهم؛ رضوان الله عليهم أجمعين " انتهى .(11/69)
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه؛ لا يظمأ أبدا ) .
وروى مسلم في " صحيحه " عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال : ( أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقال إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة، فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } { إنا أعطيناك الكوثر } حتى ختمها؛ قال هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول يا رب ! إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك ) . ومعنى يختلج : يطرد عن ورود الحوض .
قال القرطبي : " قال علماؤنا : كل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به؛ فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج والروافض والمعتزلة على اختلاف فرقهم؛ فهؤلاء كلهم مبدلون، وكذا الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وإذلال أهله، والمعلنون بكبائر الذنوب، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والبدع، ثم الطرد قد يكون في حال، ثم يقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد . . . " انتهى .
وقد خالفت المعتزلة؛ فلم تقل بإثبات الحوض مع ثبوته بالسنة الصحيحة الصريحة؛ فكل من خالف في إثباته؛ فهو مبتدع وأحرى أن يطرد عنه .
الشفاعة
الشفاعة لغة : الوسيلة والطلب، وعرفا : سؤال الخير للغير، وقيل : هي من الشفع الذي هو ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له .
والشفاعة حق إذا تحققت شروطها، وهي : أن تكون بإذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له .(11/70)
قال الله تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } .
ففي هذه الآية الكريمة أن الشفاعة لا تنفع إلا بشرطين :
الأول : إذن الله للشافع أن يشفع؛ لأن الشفاعة ملكه سبحانه؛ { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } .
الثاني : رضاه عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد؛ لأن المشرك لا تنفعه الشفاعة؛ كما قال تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } .
فتبين بهذا بطلان ما عليه القبوريون اليوم الذين يطلبون الشفاعة من الأموات ويتقربون إليهم بأنواع القربات :
كما قال الله في سلفهم : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } .
وقال تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فيشفع لمن أذن الله له فيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات :
أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم الشفاعة حتى تنتهي إليه .
وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .
وهاتان الشفاعتان خاصتان له .
وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها " .(11/71)
وقال رحمه الله : " وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته؛ فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء : من يدخل النار؛ لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها ! وعند هؤلاء ما ثَمَّ إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب . . . " .
إلى أن قال : " واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } ، وبقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ } ، وبقوله : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } ، وبقوله : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } .
وجواب أهل السنة : أن هذا يراد به شيئان :
أحدهما : أنها لا تنفع المشركين؛ كما قال تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } ؛ فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارا .
والثاني : أنه يراد بذلك الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك ومن شابههم من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه كما يشفع الناس في بعضهم عند بعض " .
الجنة والنار
وفي يوم القيامة الداران العظيمتان اللتان لا تفنيان؛ الجنة والنار؛ فالجنة دار المتقين، والنار دار الكافرين .
قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } .(11/72)
وهما مخلوقتان موجودتان الآن؛ كما قال تعالى في الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } ، وقال في النار : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ، وغير ذلك من النصوص التي تدل على وجودهما الآن .
وهما باقيتان لا تفنيان؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
قال شارح " الطحاوية " : " مما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح؛ فإنه قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } ، وكذلك لا يعاقب أحدا إلا بعد حصول سبب العقاب؛ فإن الله تعالى يقول : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ، وهو سبحانه المعطي المانع؛ لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع . . . " انتهى .
والأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة، والأعمال السيئة سبب لدخول النار .
نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار؛ إنه سميع مجيب الدعاء .(11/73)
الأصل السادس : الإيمان بالقضاء والقدر
لا شك أن إثبات القضاء والقدر ووجوب الإيمان بهما وبما تضمناه من أعظم أركان الإيمان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ) ، وقال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
والقدر : مصدر : قدرت الشيء : إذا أحطت بمقداره .
والمراد هنا : تعلق علم الله بالكائنات وإرادته لها أزلا قبل وجودها؛ فلا يحدث شيء إلا وقد علمه الله وقدره وأراده .
ومذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالقدر خيره وشره .
والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات :
الأولى : الإيمان بعلم الله الأزلي بكل شيء قبل وجوده، ومن ذلك علمه بأعمال العباد قبل أن يعملوها .
الثانية : الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ .
الثالثة : الإيمان بمشيئة الله الشاملة لكل حادث وقدرته التامة عليه .
الرابعة : الإيمان بإيجاد الله لكل المخلوقات، وأنه الخالق وحده، وما سواه مخلوق .
ومن أدلة المرتبة الأولى والثانية : قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
ومن أدلة المرتبة الثالثة : قوله تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
من أدلة المرتبة الرابعة : قوله تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وقوله تعالى : { وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }
والتقدير نوعان :(12/1)
1 . تقدير عام شامل لكل كائن، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ؛ فقد كتب الله فيه مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، كما في الحديث الذي رواه أبو داوود في " سننه " عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم، قال له اكتب ! قال وما أكتب ؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) . وهذا التقدير يعم جميع المخلوقات .
2 . وتقدير مفصل للتقدير العام، وهو أنواع :
النوع الأول : التقدير العمري؛ كما في حديث ابن مسعود في شأن ما يكتب على الجنين وهو في بطن أمه من كتابة أجله ورزقه وعمله وشقاوته أو سعادته .
النوع الثاني : التقدير الحولي، وهو ما يقدر في ليلة القدر من وقائع العام؛ كما قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }
النوع الثالث : التقدير اليومي، وهو ما يقدر من حوادث اليوم من حياة وموت وعز وذل . . . إلى غير ذلك؛ كما في قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }
ولا بد للمسلم من الإيمان بالقدر العام وتفاصيله؛ فمن جحد شيئا منهما؛ لم يكن مؤمنا بالقدر، ومن لم يؤمن بالقدر؛ فقد جحد ركنا من أركان الإيمان؛ كما عليه الفرقة القدرية الضالة التي تنكر القدر، وهم في هذا الإنكار على قسمين :
القسم الأول :
القدرية الغلاة الذين ينكرون علم الله بالأشياء قبل كونها، وينكرون كتابته لها في اللوح المحفوظ، ويقولون : إن الله أمر ونهى، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه؛ فالأمر أنف ( أي : مستأنف ) ، لم يسبق في علم الله وتقديره . وهذه الفرقة قد انقرضت أو كادت .
القسم الثاني :
تقر بالعلم، ولكنها تنفي دخول أفعال العباد في القدر، وتزعم أنها مخلوقة لهم استقلالا، لم يخلقها الله ولم يردها، وهذا مذهب المعتزلة .
وقابلتهم طائفة غلت في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا : إن العبد مجبر على فعله، ولذلك سموا بالجبرية .(12/2)
وكلا المذهبين باطل لأدلة كثيرة؛ منها : قوله تعالى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } لأن قوله تعالى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } : يرد على الجبرية؛ لأن الله تعالى أثبت للعباد مشيئة، وهم يقولون : إنهم مجبورون لا مشيئة لهم . وقوله تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } : فيه الرد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله، وهذا قول باطل؛ لأن الله علق مشيئة العبد على مشيئته سبحانه، ربطها بها .
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية، فلم يُفَرِّطوا تفريط القدرية النفاة، ولم يُفَرِّطوا إفراط الجبرية الغلاة .
فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن جميع أنواع الطاعات والمعاصي والكفر والفساد واقع بقضاء الله وقدره، لا خالق سواه؛ فأفعال العباد كلها مخلوقة لله؛ خيرها وشرها، حسنها وقبيحها، والعبد غير مجبور على أفعاله، بل هو قادر عليها وقاصد لها وفاعل لها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد، بمعنى أنها قائمة بالعبد وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه، وهي من الله، بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد، وجعلها عملا له وكسبا؛ كما يخلق المسببات بأسبابها؛ فهي من الله مخلوقة له، ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه؛ كما إذا قلنا : هذه الثمرة من الشجرة، وهذا الزرع من الأرض؛ بمعنى أنه حدث منها، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها، لم يكن بينهما تناقض . . . " انتهى .(12/3)
وقال السفاريني : " والحاصل أن مذهب أهل السلف ومحققي أهل السنة أن الله تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله، والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا له؛ قال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } . . . ؛ فأثبت مشيئة العبد، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الله . . . " انتهى .
وأقول : إن مما يؤيد هذا أن الله أعطى الإنسان عقلا وقدرة واختيارا، ولا يحتسب فعله له أو عليه؛ إلا إذا توفرت فيه هذه القوى .
فالمجنون والمعتوه أو المكره لا اعتبار لما يصدر منهم من الأقوال والأفعال، ولا يؤاخذون عليها، مما يدل على أنه ليس بمجبر ولا مستقل بنفسه . والله المستعان .
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
إن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر صحة إيمان الشخص بتكامل أركانه؛ لأن الإيمان بذلك من أركان الإيمان الستة التي لا يتحقق إلا بها؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة .
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر طمأنينة القلب وارتياحه وعدم القلق في هذه الحياة عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة؛ لأن العبد إذا علم أن ما يصيبه فهو مقدر لا بد منه ولا راد له، واستشعر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ) ؛ فإنه عند ذلك تسكن نفسه ويطمئن باله؛ بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه الهموم والأحزان، ويزعجه القلق حتى يتبرم بالحياة ويحاول الخلاص منها ولو بالانتحار؛ كما هو مشاهد من كثرة الذين ينتحرون فرارا من واقعهم وتشاؤما من مستقبلهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فكان تصرفهم ذلك نتيجة حتمية لسوء اعتقادهم .(12/4)
وقد قال الله تعالى : {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فأخبرنا سبحانه أنه قدر ما يجري من المصائب في الأرض وفي الأنفس؛ فهو مقدر ومكتوب لا بد من وقوعه مهما حاولنا دفعه، ثم بين أن الحكمة من إخباره لنا بذلك لأجل أن نطمئن فلا نجزع ولا نأسف عند المصائب ولا نفرح عند حصول النعم فرحا ينسينا العواقب، بل الواجب علينا الصبر عند المصائب وعدم اليأس من روح الله، والشكر عند الرخاء وعدم الأمن من مكر الله، ونكون مرتبطين بالله في الحالتين .
قال عكرمة رحمه الله : " ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن؛ ولكن جعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا " .
وليس معنى هذا أن العبد لا يتخذ الأسباب الواقية من الشر والجالبة للخير، وإنما يتكل على القضاء والقدر؛ كما يظن بعض الجهال، هذا من أكبر الغلط والجهل؛ فإن الله أمرنا باتخاذ الأسباب، ونهانا عن التكاسل والإهمال، ولكن إذا اتخذنا السبب وحصل لنا عكس المطلوب؛ فعلينا أن لا نجزع؛ لأن هذا هو القضاء المقدر، ولو قدر غيره؛ لكان، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تجزعن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان ) . رواه مسلم .
وعلى العبد مع هذا أن يحاسب نفسه ويصحح أخطاءه؛ فإنه لا يصيبه شيء إلا بسبب ذنوبه؛ قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }(12/5)
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الثبات عند مواجهة الأزمات، واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت ويقين صادق لا تزلزله الأحداث ولا تهزه الأعاصير؛ لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان وتقلب؛ كما قال تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } وقال تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}
كم جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته من المحن والشدائد، لكنهم واجهوها بالإيمان الصادق والعزم الثابت حتى اجتازوها بنجاح باهر، وما ذاك إلا لإيمانهم بقضاء الله وقدره، واستشعارهم لقوله تعالى : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر تحويل المحن إلى منح، والمصائب إلى أجر؛ كما قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
قال علقمة : " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم " .
ومعنى الآية الكريمة : من أصابته مصيبة، فعلم أنها من قدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف الله عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه، وهذا في نزول المصائب التي هي من قضاء الله وقدره، لا دخل للعبد في إيجادها إلا من ناحية أنه تسبب في نزولها به، حيث قصر في حق الله عليه بفعل أمره وترك نهيه؛ فعليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويصحح خطأه الذي أصيب بسببه .(12/6)
وبعض الناس يخطئون خطأ فاحشا عندما يحتجون بالقضاء والقدر على فعلهم للمعاصي وتركهم للواجبات، ويقولون : هذا مقدر علينا ! ولا يتوبون من ذنوبهم؛ كما قال المشركون : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وهذا فهم سيئ للقضاء والقدر؛ لأنه لا يحتج بهما على فعل المعاصي والمصائب، وإنما يحتج بهما على نزول المصائب؛ فالاحتجاج بهما على فعل المعاصي قبيح؛ لأنه ترك للتوبة وترك للعمل الصالح المأمور بهما، والاحتجاج بهما على المصائب حسن؛ لأنه يحمل على الصبر والاحتساب .
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أنه لا بد منه، وأنه إذا جاء لا يؤخر، لا يمنع منه حصون ولا جنود، {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } وهكذا حينما يستشعر المجاهد هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقدر؛ يمضي في جهاده حتى يتحقق النصر على الأعداء وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين .(12/7)
وكذلك بالإيمان بالقضاء والقدر يتوفر الإنتاج والثراء؛ لأن المؤمن إذا علم أن الناس لا يضرونه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولا ينفعونه إلا بشيء قد كتبه الله له؛ فإنه لن يتواكل، ولا يهاب المخلوقين، ولا يعتمد عليهم، وإنما يتوكل على الله، ويمضي في طريق الكسب، وإذا أصيب بنكسة، ولم يتوفر له مطلوبه؛ فإن ذلك لا يثنيه عن مواصلة الجهود، ولا يقطع منه باب الأمل، ولا يقول : لو أنني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا ! ولكنه يقول : قدر الله وما شاء فعل . ويمضي في طريقه متوكلا على الله، مع تصحيح خطئه، ومحاسبته لنفسه، وبهذا يقوم كيان المجتمع، وتنتظم مصالحه، وصدق الله حيث يقول : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }
والحمد لله رب العالمين .(12/8)
خاتمة
وفيها فصلان :
فصل في الولاء والبراء
فصل في التحذير من البدع
فصل في الولاء والبراء
هذا؛ وبعد انتهائنا من هذا البيان المختصر لأصول العقيدة الإسلامية نشير إلى أنه يجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها؛ فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم .
وذلك من ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ حيث يقول سبحانه وتعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }
وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وهذه في تحريم موالاة أهل الكتاب خصوصا .
وقال في تحريم موالاة الكفار عموما : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ }
بل لقد حرم الله على المؤمن موالاة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس نسبا؛ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .(13/1)
وقد جهل كثير من الناس هذا الأصل العظيم، حتى لقد سمعت بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في إذاعة عربية يقول عن النصارى : إنهم إخواننا ! ويا لها من كلمة خطيرة ! !
وكما أن الله سبحانه حرم موالاة الكفار أعداء العقيدة الإسلامية؛ فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين ومحبتهم؛ قال تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وقال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }
فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة، وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم؛ قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }
فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابون؛ يقتدي آخرهم بأولهم، ويدعوا بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض .
وللولاء والبراء مظاهر تدل عليهما :
مظاهر موالاة الكفار
مظاهر موالاة الكفار قد بينها الكتاب والسنة، ومنها :
1- التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبِّه للمتشبَّه به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم؛ فهو منهم ) ؛ فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمتهم وأخلاقهم؛ كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس والأكل والشرب وغير ذلك .(13/2)
2- الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين؛ لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين .
ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية؛ كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم .
3- ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس، والسفر إلى بلاد الكفار محرم إلا عند الضرورة -كالعلاج والتجارة والتعلم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم- فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة؛ وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين، ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مُظهِرا لدينه، معتزا بإسلامه، مبتعدا عن مواطن الشر، حذرا من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل نشر الدعوة إلى الله ونشر الإسلام .
4- ومن مظاهر موالاة الكفار إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين، ومدحهم والذب عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة؛ نعوذ بالله من ذلك .(13/3)
5- ومن مظاهر موالاة الكفار الاستعانة بهم (1) والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين :
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا }
فهذه الآيات الكريمة تشرح دخائل الكفار، وما يكنونه نحو المسلمين من بغض، وما يدبرونه ضدهم من مكر وخيانة، وما يحبونه من مضرة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكل وسيلة، وأنهم يستغلون ثقة المسلمين بهم فيخططون للإضرار بهم والنيل منهم .
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ قال : قلت لعمر رضي الله عنه : لي كاتب نصراني ! قال : ما لك قاتلك الله ؟ أما سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ألا اتخذت حنيفا ؟ قال : قلت : يا أمير المؤمنين ! لي كتابته، وله دينه . قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله .
وروى الإمام أحمد ومسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر، فتبعه رجل من المشركين، فلحقه عند الحرة، فقال إني أردت أن أتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله ورسوله ؟ قال لا قال ارجع؛ فلن أستعين بمشرك ) (2) .(13/4)
ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم .
ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين -بلاد الحرمين الشريفين- وجعلهم عمالا وسائقين ومستخدمين ومربين في البيوت، وخلطهم مع العوائل أو خلطهم مع المسلمين في بلادهم .
6- ومن مظاهر موالاة الكفار التأريخ بتأريخهم، خصوصا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم؛ كالتاريخ الميلادي، والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام، والذي ابتدعوه من أنفسهم، وليس هو من دين المسيح عليه السلام؛ فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم .
ولتجنب هذا لما أراد الصحابة رضي الله عنهم وضع تاريخ للمسلمين في عهد عمر رضي الله عنه؛ عدلوا عن تواريخ الكفار، وأرخوا بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم . والله المستعان .
7- ومن مظاهر موالاة الكفار : مشاركتهم في أعيادهم، أو مساعدتهم في إقامتها، أو تهنئتهم بمناسبتها، أو حضور إقامتها، وقد فسر قوله سبحانه وتعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يحضرون أعياد الكفار .
8- ومن مظاهر موالاة الكفار مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد؛ قال تعالى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
وليس معنى ذلك أن المسلمين لا يتخذون أسباب القوة من تعلم الصناعات ومقومات الاقتصاد المباح والأساليب العسكرية، بل ذلك مطلوب؛ قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }(13/5)
وهذه المنافع والأسرار الكونية هي في الأصل للمسلمين؛ قال تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وقال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } قالواجب أن يكون المسلمون سباقين إلى استغلال هذه المنافع وهذه الطاقات، ولا يستجدون الكفار في الحصول عليها، يجب أن تكون لهم مصانع وتقنيات .
9- ومن مظاهر موالاة الكفار التسمي بأسمائهم؛ بحيث يسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء أجنبية، ويتركون أسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم والأسماء المعروفة في مجتمعهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن ) .
وبسبب تغيير الأسماء؛ فقد وجد جيل يحمل أسماء غريبة، مما يسبب الانفصال بين هذا الجيل والأجيال السابقة، ويقطع التعارف بين الأسر التي كانت تعرف بأسمائها الخاصة .
10- ومن مظاهر موالاة الكفار الاستغفار لهم والترحم عليهم، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لأن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه .
مظاهر موالاة المؤمنين
مظاهر موالاة المؤمنين قد بينها الكتاب والسنة، ومنها :
1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين . والهجرة؛ هي الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين .(13/6)
والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار إلا إذا كان لا يستطيع الهجرة منها أو كان في إقامته مصلحة دينية؛ كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظُالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فَيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }
2- مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم؛ قال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وقال تعالى : { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بِيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ }
3- التألم لألمهم والسرور بسرورهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ) .(13/7)
4- النصح لهم، ومحبة الخير لهم، وعدم غشهم وخديعتهم؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه ) ، وقال : ( المسلم أخو المسلم؛ لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا ) .
5- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم؛ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الِّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أُنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الِّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }
6- أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء، بخلاف أهل النفاق، الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء، ويتخلون عنهم في حال الشدة؛ قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }(13/8)
7- زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم، وفي الحديث القدسي : ( وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ ) ، وفي حديث آخر : ( أن رجلا زار أخا له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فسأله أين تريد ؟ قال أزور أخا لي في الله قال هل لك عليه من نعمة تربها عليه ؟ قال لا؛ غير أنني أحببته في الله قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ) .
8- احترام حقوقهم؛ فلا يبيع على بيعهم، ولا يسوم على سومهم، ولا يخطب على خطبتهم، ولا يتعرض لما سبقوا إليه من المباحات؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته ) ( وفي رواية : ولا يسم على سومه ) .
9- الرفق بضعفائهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ) ، وقال تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
10- الدعاء لهم والاستغفار لهم؛ قال تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }
تنبيه
وأما قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } فمعناه أن من كف أذاه من الكفار، فلم يقاتل المسلمين، ولم يخرجهم من ديارهم؛ فإن المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي، ولا يحبونه بقلوبهم؛ لأن الله قال : { تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } ، ولم يقل : توالونهم وتحبونهم .(13/9)
ونظير هذا قوله تعالى في الوالدين الكافرين : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ }
وقد جاءت أم أسماء إليها تطلب صلتها وهي كافرة، فاستأذنت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال لها : " صلي أمك " .
وقد قال الله تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } . . . الآية
فالصلة والمكافأة الدنيوية شيء، والمودة شيء آخر؛ لأن في الصلة وحسن المعاملة ترغيبا للكافر في الإسلام، فهما من وسائل الدعوة؛ بخلاف المودة والموالاة؛ فهما يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه والرضى عنه، وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلام .
وكذلك تحريم موالاة الكفار لا يعني تحريم التعامل معهم بالتجارة المباحة واستيراد البضائع والمصنوعات النافعة والاستفادة من خبراتهم ومخترعاتهم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم استأجر ابن أريقط الليثي ليدله على الطريق وهو كافر، واستدان من بعض اليهود، وما زال المسلمون يستوردون البضائع والمصنوعات من الكفار، وهذا من باب الشراء منهم بالثمن، وليس لهم علينا فيه فضل ومنة، وليس هو من أسباب محبتهم وموالاتهم؛ فإن الله أوجب محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم .
قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } . . . . إلى قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }(13/10)
قال الحافظ ابن كثير : " ومعنى قوله : { إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ؛ أي : إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا؛ وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل . . . " انتهى .
قلت : وهذا ما حصل في هذا الزمان . والله المستعان .
أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء
الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام :
القسم الأول
من يحب محبة خالصة لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخلَّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين، وصحابته الكرام، خصوصا الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة، والمهاجرين والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها؛ كالأئمة الأربعة .
قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان، وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام، كالرافضة والخوارج، نسأل الله العافية .
القسم الثاني(13/11)
من يبغض ويعادي بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم؛ كما قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ، وقال تعالى عائبا على بني إسرائيل : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
القسم الثالث
من يحب من وجه ويبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة، وهم عصاة المؤمنين؛ يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك .
ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم؛ فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل ينكر عليهم، ويؤمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم، لكن لا يُبْغَضون بغضا خالصا ويتبرأ منهم؛ كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يُحَبُّون ويوالون حبا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة، بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والمرء مع من أحب يوم القيامة؛ كما في الحديث .(13/12)
وقد تغير الوضع وصار غالب موالاة الناس ومعاداتهم لأجل الدنيا؛ فمن كان عنده مطمع من مطامع الدنيا؛ والوه، وإن كان عدوا لله ولرسوله ولدين المسلمين، ومن لم يكن عنده مطمع من مطامع الدنيا؛ عادوه، ولو كان وليًّا لله ولرسوله عند أدنى سبب، وضايقوه واحتقروه .
وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " . رواه ابن جرير .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى قال من عادى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالحرب ) الحديث . رواه البخاري .
وأشد الناس محاربة لله من عادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبهم وتنقصهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا؛ فمن آذاهم؛ فقد آذاني، ومن آذاني؛ فقد آذى الله، ومن آذى الله؛ يوشك أن يأخذه ) . أخرجه الترمذي وغيره .
وقد صارت معاداة الصحابة وسبهم دينا وعقيدة عند بعض الطوائف الضالة ! ! نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، ونسأله العفو والعافية .(13/13)
فصل في التحذير من البدع
أولا : تعريف البدعة؛ أنواعها وأحكامها
تعريف البدعة :
البدعة في اللغة مأخوذة من البدع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ؛ أي : مخترعها على غير مثال سابق، وقوله تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } ؛ أي : ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال : ابتدع فلان بدعة؛ يعني : ابتدأ طريقة لم يسبق إليها .
والابتداع قسمان :
ابتداع في العادات؛ كابتداع المخترعات الحديثة (3) ، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات الإباحة .
وابتداع في الدين : وهذا محرم؛ لأن الأصل فيه التوقيف؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد ) [ رواه البخاري ومسلم ] ، وفي رواية : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد ) [ في " صحيح مسلم " ] .
أنواع البدع
البدعة في الدين نوعان :
النوع الأول : بدعة قولية اعتقادية؛ كمقالات الجهمية والمعتزلة والرافضة وسائر الفرق الضالة واعتقاداتهم .
النوع الثاني : بدعة في العبادات؛ كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها، وهي أنواع :
النوع الأول : ما يكون في أصل العبادة؛ بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صياما غير مشروع أو أعيادا غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها .
النوع الثاني : ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة؛ كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلا .
النوع الثالث : ما يكون في صفة أداء العبادة؛ بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم .(14/1)
النوع الرابع : ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع؛ كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام؛ فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل .
حكم البدعة في الدين
كل بدعة في الدين –من أي نوع كانت- فهي محرمة وضلالة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) [ رواه أبو داود والترمذي، وقال : " حديث حسن صحيح " ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد ) ، وفي رواية : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ) . فدلت هذه الأحاديث على أن كل محدث في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة .
ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة :
فمنها ما هو كفر صراح؛ كالطواف بالقبور تقربا إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم، وكمقالات غلاة الجهمية والمعتزلة .
ومنها ما هو من وسائل الشرك؛ كالبناء على القبور، والصلاة والدعاء عندها .
ومنها ما هو فسق اعتقادي؛ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية .
ومنها ما هو معصية؛ كبدعة التبتل، والصيام قائما في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع (4).
تنبيه
من قسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة؛ فهو غالط ومخطئ ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن كل بدعة ضلالة ) ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول : ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة .(14/2)
قال الحافظ ابن رجب في " شرح الأربعين " : " فقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) : من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد ) ؛ فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة " (5) . انتهى .
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة؛ إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح : " نعمت البدعة هذه " !
وقالوا أيضا : إنها أحدثت أشياء لم يستنكرها السلف؛ مثل : جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه .
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع؛ فليست محدثة .
وقول عمر : " نعمت البدعة " ؛ يريد : البدعة اللغوية لا الشرعية؛ فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه، إذا قيل : إنه بدعة؛ فهو بدعة لغة لا شرعا؛ لأن البدعة شرعا ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه .
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبا متفرقا، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظا له .
والتراويح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعا متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلف إمام واحد؛ كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين .(14/3)
وكتابة الحديث أيضا لها أصل في الشرع؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم؛ انتفى هذا المحذور؛ لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وقاته صلى الله عليه وسلم، فدون المسلمون السنة بعد ذلك حفظا لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا؛ حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين .
ثانيا : ظهور البدع في حياة المسلمين والأسباب التي أدت إلى ذلك
ظهور البدع في حياة المسلمين
وتحته مسألتان :
1- وقت ظهور البدع
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (6) : " واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر الخلفاء الراشدين؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال : ( من يعش منكم بعدي؛ فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) [ صحيح . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه ] .
وأول بدعة ظهرت بدعة القدر وبدعة الإرجاء وبدعه التشيع والخوارج؛ هذه البدع ظهرت في القرن الثاني، والصحابة موجودون، وقد أنكروا على أهلها .
ثم ظهرت بدعة الاعتزال، وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء .
وظهرت بدعة التصوف وبدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة .
وهكذا؛ كلما تأخر الوقت؛ زادت البدع وتنوعت " .
2- مكان ظهور البدع
تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها .(14/4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة : الحرمان والعراقان والشام، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية؛ فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النصب والقدر، أما التجهم؛ فإنما ظهر في ناحية خراسان، وهو شر البدع .
وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان؛ ظهرت بدعة الحرورية، وأما المدينة النبوية؛ فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك؛ فكان عندهم مهانا مذموما؛ إذ كان بهم قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مقهورين ذليلين؛ بخلاف التشيع والإرجاء في الكوفة، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهرا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخلها .
ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك، وهم من أهل القرن الرابع (7) ، فأما الأعصار الثلاثة المفضلة؛ فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين ألبتة كما خرج من سائر الأمصار " .
الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع
مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة فيه منجاة من الوقوع في البدع والضلال .
قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } .(14/5)
وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال : ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، فقال هذا سبيل الله ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال : " وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه " [ رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم ] ثم تلا { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ) .
فمن أعرض عن الكتاب والسنة؛ تنازعته الطرق المضللة والبدع المحدثة .
فالأسباب التي أدت إلى ظهور البدع تتلخص في الأمور التالية :
الجهل بأحكام الدين، اتباع الهوى، التعصب للآراء والأشخاص، التشبه بالكفار وتقليدهم .
ونتناول ذلك بشيء من التفصيل :
1- الجهل بأحكام الدين
كلما امتد الزمن وبعد الناس عن آثار الرسالة؛ قل العلم وفشا الجهل؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا ) [ من حديث رواه أبو داود والترمذي، وقال : " حديث حسن صحيح " ] ، وقوله : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) (8) .
فلا يقاوم البدع إلا العلم والعلماء؛ فإذا فقد العلم والعلماء؛ أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر ولأهلها أن ينشطوا .
2- اتباع الهوى(14/6)
من أعرض عن الكتاب والسنة؛ اتبع هواه؛ كما قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } ، وقال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } ، والبدع إنما هي نسيح الهوى المتبع .
3- التعصب للآراء والرجال
التعصب للآراء والرجال يحول بين المرء واتباع الدليل ومعرفة الحق، قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } وهذا هو شأن المتعصبين اليوم من بعض أتباع المذاهب والصوفية والقبوريين، إذا دعوا إلى اتباع الكتاب والسنة ونبذ ما هم عليه مما يخالفهما؛ احتجوا بمذاهبهم ومشايخهم وآبائهم وأجدادهم .
4- التشبه بالكفار
وهو من أشد ما يوقع في البدع كما في حديث أبي واقد الليثي؛ قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر ! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ، لتركبن سنن من قبلكم ) [ رواه الترمذي وصححه ] .
ففي هذا الحديث أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل وبعض أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها ويتبركون بها من دون الله .(14/7)
وهذا هو نفس الواقع اليوم؛ فإن غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات؛ كأعياد الموالد، وإقامة الأيام والأسابيع لأعمال مخصصة، والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات، وإقامة التماثيل والنصب التذكارية، وإقامة المآتم وبدع الجنائز والبناء على القبور . . . وغير ذلك .
ثالثا : موقف أهل السنة والجماعة من المبتدعة ومنهجهم في الرد عليهم
موقف أهل السنة والجماعة من المبتدعة
ما زال أهل السنة والجماعة يردون على المبتدعة وينكرون عليهم بدعهم ويمنعوهم من مزاولتها، وإليك نماذج من ذلك :
1- عن أم الدرداء، قالت : " دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له : ما لك ؟ ! فقال : " والله، ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا " [ رواه البخاري ] .(14/8)
2- عن عمرو بن يحيى؛ قال : سمعت أبي يحدث عن أبيه؛ قال : " كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة؛ فإذا خرج؛ مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال : أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد ؟ ! قلنا : لا . فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج؛ قمنا إليه جميعا، فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا ! قال : وما هو ؟ قال : إن عشت؛ فستراه . قال : رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول : كبروا مائة ! فيكبرون مائة، فيقول : هللوا مائة ! فيهللون مائة، فيقول : سبحوا مائة ! فيسبحون مائة . قال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء ؟ ! ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ ! قالوا : يا أبا عبد الرحمن ! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد . قال : فعدوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ! ما أسرع هلكتكم ! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده؛ إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة . قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير . قال : وكم مريد للخير لن يصيبه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله لا أدري؛ لعل أكثرهم منكم . ثم تولى عنهم . فقال عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج " [ رواه الترمذي ] .(14/9)
3- جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقال : من أين أحرم ؟ فقال : من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه . فقال الرجل : فإن أحرمت من أبعد منه ؟ فقال مالك : لا أرى ذلك . فقال : ما تكره من ذلك ؟ قال : أكره عليك الفتنة . قال : وأي فتنة في ازدياد الخير ؟ فقال مالك : فإن الله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وأي فتنة أعظم من أنك خصصت بفضل لم يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! (9)
وهذا نموذج، ولا زال العلماء ينكرون على المبتدعة في كل عصر، والحمد لله .
منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع
منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع مبني على الكتاب والسنة، وهو المنهج المقنع المفحم؛ حيث يوردون شبه المبتدعة وينقضونها، ويستدلون بالكتاب والسنة على وجوب التمسك بالسنن والنهي عن البدع والمحدثات .
وقد ألفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك، وردوا في كتب العقائد على الشيعة والخوارج والجهمية والمعتزلة والأشاعرة في مقالاتهم المبتدعة في أصول الإيمان والعقيدة، وألفوا كتبا خاصة في ذلك؛ كما ألف الإمام أحمد كتاب " الرد على الجهمية " ، وألف غيره من الأئمة في ذلك؛ كعثمان بن سعيد الدارمي، وكما في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من الرد على تلك الفرق وعلى القبورية والصوفية .
وأما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع؛ فهي كثيرة، منها على سبيل المثال من الكتب القديمة :
1 . كتاب " الاعتصام " للإمام الشاطبي .
2 . كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد استغرق الرد على المبتدعة جزءا كبيرا منه .
3 . كتاب " إنكار الحوادث والبدع " لابن وضاح .
4 . كتاب " الحوادث والبدع " للطرطوشي .(14/10)
5 . كتاب " الباعث على إنكار البدع والحوادث " لأبي شامة .
ومن الكتب العصرية :
1 . كتاب " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ علي محفوظ .
2 . كتاب " السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات " للشيخ محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي .
3 . رسالة " التحذير من البدع " للشيخ عبد العزيز بن باز .
ولا يزال علماء المسلمين -والحمد لله- ينكرون البدع، ويردون على المبتدعة، من خلال الصحف والمجلات والإذاعات وخطب الجمع والندوات والمحاضرات، مما له كبير الأثر في توعية المسلمين، والقضاء على البدع، وقمع المبتدعين .
رابعا : بيان نماذج من البدع المعاصرة
البدع المعاصرة كثيرة بحكم تأخر الزمن، وقلة العلم، وكثرة الدعاة إلى البدع والمخالفات، وسريان التشبه بالكفار في عاداتهم وطقوسهم؛ مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ) [ رواه الترمذي وصححه ] .
الاحتفال بمناسبة المولد النبوي في ربيع الأول
ومن هذا التشبه التشبه بالنصارى في عمل ما يسمى بالاحتفال بالمولد النبوي .
يحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلين في ربيع الأول من كل سنة بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت أو الأمكنة المعدة لذلك، ويحضره جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم؛ يعملون ذلك تشبها بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام .(14/11)
والغالب أن هذا الاحتفال- علاوة على كونه بدعة وتشبها بالنصارى- لا يخلو من وجود الشركيات والمنكرات؛ كإنشاء القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله والاستغاثة به، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله ) [ رواه الشيخان ] . والإطراء معناه الغلو في المدح، وربما يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر احتفالاتهم .
ومن المنكرات التي تصاحب هذه الاحتفالات الأناشيد الجماعية المنغمة وضرب الطبول وغير ذلك من عمل الأذكار الصوفية المبتدعة، وقد يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء، مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش .
وحتى لو خلا هذا الاحتفال من هذه المحاذير، واقتصر على الاجتماع وتناول الطعام وإظهار الفرح كما يقولون؛ فإنه بدعة محدثة، " وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " ، وأيضا هو وسيلة إلى أن يتطور ويحصل فيه ما يحصل في الاحتفالات الأخرى من المنكرات .
وقلنا : إنه بدعة لا أصل له في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والقرون المفضلة، وإنما حدث متأخرا بعد القرن الرابع الهجري، أحدثه الفاطميون الشيعة .
قال الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله : " أما بعد؛ فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد؛ هل له أصل في الدين ؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا، فقلت -وبالله التوفيق- : لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون " (10) .(14/12)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وكذلك ما يحدثه بعض الناس -إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، مع اختلاف الناس في مولده؛ فإن هذا لم يفعله السلف، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان؛ فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان " (11) انتهى .
وقد ألف في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة، وهو علاوة على كونه بدعة وتشبها؛ فإنه يجر إلى إقامة موالد أخرى؛ كموالد الأولياء والمشايخ والزعماء، فيفتح أبواب شر كثيرة .
التبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا
التبرك : طلب البركة، وهو ثبات الخير في الشيء وزيادته .
وطلب ثبوت الخير وزيادته إنما يكون ممن يملك لك ويقدر عليه، وهو الله سبحانه؛ فهو الذي ينزل البركة ويثبتها، أما المخلوق؛ فإنه لا يقدر على منح البركة وإيجادها، ولا على إبقائها وتثبيتها .
فالتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا لا يجوز؛ لأنه إما شرك إن اعتقد أن ذلك الشيء يمنح البركة، أو وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته وملامسته والتمسح به سبب لحصولها من الله .(14/13)
وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وريقه وما انفصل من جسمه صلى الله عليه وسلم؛ فذلك خاص به صلى الله عليه وسلم في حال حياته؛ بدليل أن الصحابة لم يكونوا يتبركون بحجرته وقبره بعد موته، ولا كانوا يقصدون الأماكن التي صلى فيها أو جلس فيها ليتبركوا بها، وكذلك مقامات الأولياء من باب أولى، ولم يكونوا يتبركون بالأشخاص الصالحين كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل الصحابة؛ لا في الحياة ولا بعد الموت، ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا، ولم يكونوا يذهبون إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلوا فيه ويدعوا، أو إلى غير هذه الأمكنة من الجبال التي يقال : إن فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، ولا إلى مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء .
وأيضا؛ فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا الموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها؛ فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله؛ فكيف بما يقال : إن غيره صلى فيه أو نام عليه ؟ ! فتقبيل شيء من ذلك والتمسح به قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعته صلى الله عليه وسلم (12) .
البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله
البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف؛ فلا يشرع شيء منها إلا بدليل، وما لم يدل عليه دليل؛ فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ) .
والعبادات التي تمارس الآن ولا دليل عليها كثيرة جدا :(14/14)
منها : الجهر بالنية للصلاة؛ بأن يقول : نويت أصلي لله كذا وكذا ! وهذا بدعة؛ لأنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى يقول : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، والنية محلها القلب؛ فهي عمل قلبي لا عمل لساني .
ومنها : الذكر الجماعي بعد الصلاة؛ لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفردا .
ومنها : طلب قراءة الفاتحة في المناسبات وبعد الدعاء للأموات .
ومنها : إقامة المآتم على الأموات وصناعة الأطعمة واستئجار المقرئين؛ يزعمون أن ذلك من باب العزاء، أو أن ذلك ينفع الميت . . . وكل ذلك بدعة لا أصل له وآصار وأغلال ما أنزل الله بها من سلطان .
ومنها : الاحتفال بالمناسبات الدينية؛ كمناسبة الإسراء والمعراج، ومناسبة الهجرة النبوية، وهذا الاحتفال بتلك المناسبات لا أصل له من الشرع .
ومن ذلك : ما يفعل في شهر رجب؛ كالعمرة الرجبية، وما يفعل فيه من العبادات الخاصة به؛ كالتطوع بالصلاة والصيام فيه؛ فإنه لا ميزة له على غيره من الشهور؛ لا في العمرة والصيام والصلاة والذبح للنسك فيه ولا غير ذلك .
ومن ذلك : الأذكار الصوفية بأنواعها؛ كلها بدع ومحدثات؛ لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغتها وهيئاتها وأوقاتها .
ومن ذلك : تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام ويوم النصف من شعبان بصيام؛ فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء خاص به .
ومن ذلك : البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وزيارتها لأجل التبرك بها والتوسل بالموتى وغير ذلك من الأغراض الشركية، وزيارة النساء لها؛ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج .(14/15)
وختاما نقول : إن البدع بريد الكفر، وهي زيادة دين لم يشرعه الله ولا رسوله، والبدعة شر من المعصية الكبيرة، والشيطان يفرح بها أكثر مما يفرح بالمعاصي الكبيرة؛ لأن العاصي يفعل المعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها، والمبتدع يفعل البدعة يعتقدها دينا يتقرب به إلى الله فلا يتوب منها، والبدع تقضي على السنن، وتكره إلى أصحابها فعل السنن وأهل السنة، والبدعة تباعد عن الله وتوجب غضبه وعقابه وتسبب زيغ القلوب وفسادها .
خامسا : ما يعامل به المبتدعة
تحرم زيارة المبتدع ومجالسته؛ إلا على وجه النصيحة له والإنكار عليه، لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرا، وتنشر عداوة إلى غيره .
ويجب التحذير منهم ومن شرهم إذا لم يمكن الأخذ على أيديهم ومنعهم من مزاولة البدع، وإلا؛ فإنه يجب على علماء المسلمين وولاة أمورهم منع البدع والأخذ على أيدي المبتدعة وردعهم عن شرهم؛ لأن خطرهم على الإسلام شديد .
ثم إنه يجب أن يعلم أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق؛ لأن في ذلك القضاء على الإسلام وتشويه صورته .
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويخذل أعداءه .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .(14/16)
الولاء والبراء
لفضيلة الشيخ
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
- حفظه الله -
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإنه بعد محبة الله ورسوله تجب محبة أولياء الله ومعاداة أعدائه.
فمن أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم، وذلك من ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم، حيث يقول سبحانه وتعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءٌ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}(1).
وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام. قال تعالى : {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(2).
وهذه في تحريم موالاة أهل الكتاب خصوصًا. وقال في تحريم موالاة الكفار عمومًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}(3).
بل لقد حرَّم على المؤمن موالاة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس إليه نسبًا، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(4).
__________
(1) الممتحنة: 4]
(2) المائدة: 51]
(3) الممتحنة: 1]
(4) التوبة: 23](15/1)
وقال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(1).
وقد جهل كثير من الناس هذا الأصل العظيم، حتى لقد سمعت بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في إذاعة عربية يقول عن النصارى إنهم إخواننا، ويا لها من كلمة خطيرة.
وكما أن الله سبحانه حرَّم موالاة الكفار أعداء العقيدة الإسلامية فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين محبتهم، قال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(2).
وقال تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(3).
وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(4).
فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(5).
فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابون يقتدى آخرهم بأولهم ويدعون بعضهم لبعض ويستغفر بعضهم لبعض.
وللولاء والبراء مظاهر تدل عليهما:
أولاً : من مظاهر موالاة الكفار
1 ـ التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما:
__________
(1) المجادلة: 22]
(2) المائدة: 55-56]
(3) الفتح: 29]
(4) الحجرات: 10]
(5) الحشر: 10](15/2)
لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبه به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم".
فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم من عاداتهم، وعباداتهم، سمتهم وأخلاقهم كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس، والأكل والشرب وغير ذلك.
2 ـ الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين:
لأن الهجرة بهذا المعنى، ولهذا الغرض واجبة على المسلم. لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين – ومن هنا حرَّم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(1).
فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة. وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم.
3 ـ السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس.
والسفر إلى بلاد الكفار مُحرَّم إلا عند الضرورة – كالعلاج والتجارة والتعليم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم – فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين.
__________
(1) النساء: 97-99](15/3)
ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مُظهِرًا لدينه معتزًا بإسلامه مبتعدًا عن مواطن الشر، حذرًا من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.
4 ـ إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذب عنهم.
وهذا – من نواقض الإسلام وأسباب الردة – نعوذ بالله من ذلك.
5 ـ الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ، هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا}(1).
فهذه الآيات الكريمة تشرح دخائل الكفار وما يكنونه نحو المسلمين من بغض وما يدبرونه ضدهم من مكر وخيانة وما يحبونه من مضرة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكل وسيلة، وأنهم يستغلون ثقة المسلمين بهم فيخططون للإضرار بهم والنيل منهم.
__________
(1) آل عمران: 118-120](15/4)
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قلت لعمر –رضي الله عنه-: لي كاتب نصراني، قال: مالك قاتلك الله، أما سمعت قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(1). ألا اتخذت حنيفًا، قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم وقد أقصاهم الله.
وروى الإمام أحمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة، فقال: إني أردت أن أتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: ارجع فلن أستعين بمشرك.
ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم.
ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين – بلاد الحرمين الشريفين – وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين، ومربين في البيوت وخلطهم مع العوائل، أو خلطهم مع المسلمين في بلادهم.
6 ـ التأريخ بتاريخهم خصوصًا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي.
والذي هو عبارة عن ذكرت مولد المسيح عليه السلام، والذي ابتدعوه من أنفسهم وليس هو من دين المسيح عليه السلام، فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم.
ولتجنب هذا لما أراد الصحابة – رضي الله عنهم – وضع تاريخ للمسلمين في عهد الخليفة عمر – رضي الله عنه – عدلوا عن تواريخ الكفار وأرّخوا بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم – والله المستعان.
7 ـ مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتهم أو تهنئتهم بمناسبتها أو حضور إقامتها.
__________
(1) المائدة: 51](15/5)
وقد فسر قوله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}(1).
أي ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يحضرون أعيان الكفار.
8 ـ مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد.
قال تعالى: { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرُ وَأَبْقَى }(2).
وليس معنى ذلك أن المسلمين لا يتخذون أسباب القوة من تعلم الصناعات ومقومات الاقتصاد المباح والأساليب العسكرية بل ذلك مطلوب، قال تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}(3).
وهذه المنافع والأسرار الكونية هي في الأصل للمسلمين، قال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(4).
وقال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا }(5).
وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا }(6).
فالواجب أن يكون المسلمون سباقين إلى استغلال هذه المنافع وهذه الطاقات، ولا يستجدون الكفار في الحصول عليها، بل أن يكون لهم مصانع وتقنيات.
9 ـ التسمي بأسمائهم:
__________
(1) الفرقان: 72]
(2) طه: 131]
(3) الأنفال: 60]
(4) الأعراف: 32]
(5) الجاثية: 13]
(6) البقرة: 29](15/6)
بحيث يسمي بعض المسلمين أبنائهم وبناتهم بأسماء أجنبية ويتركون أسماء آبائهم، وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم والأسماء المعروفة في مجتمعهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن" وسبب تغيير الأسماء فقد وجد جيل يحمل أسماء غريبة، مما يسبب الانفصال بين هذا الجيل والأجيال السابقة ويقطع التعارف بين الأسر التي كانت تعرف بأسمائها الخاصة.
10 ـ الاستغفار لهم والترحم عليهم.
وقد حرَّم الله ذلك بقوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(1). لأن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه.
ثانيًا : من مظاهر موالاة المؤمنين
1 ـ الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين.
والهجرة هي الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين.
__________
(1) التوبة: 113](15/7)
والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار إلا إذا كان لا يستطيع الهجرة منها. أو كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام. قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(1).
2 ـ مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم.
قال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ٍ}(2).
وقال تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ }(3).
3 ـ التألم لألمهم والسرور بسرورهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم".
4 ـ النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
__________
(1) النساء: 97-99]
(2) التوبة: 71]
(3) الأنفال: 72](15/8)
وقال: "المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ولا يبع بعضهم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا".
5 ـ احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم.
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(1).
6 ـ أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء.
بخلاف أهل النفاق الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء ويتخلون عنهم في حال الشدة.
قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}(2).
7 ـ زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم.
__________
(1) الحجرات: 11-12]
(2) النساء: 141](15/9)
وفي الحديث القدسي: (وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ). وفي حديث آخر: (أن رجلاً زار أخًا له في الله فأرصد الله على مدرجته ملكًا – فسأله أين تريد؟ قال أزور أخًا لي في الله، قل: هل لك عليه من نعمة تربها عليه، قال لا: غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه).
8 ـ احترام حقوقهم.
فلا يبيع على بيعهم ولا يسوم على سومهم ولا يخطب على خطبتهم ولا يتعرض لما سبقوا إليه من المباحات.
قال صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته". وفي رواية: "ولا يسم على سومه".
9 ـ الرفق بضعفائهم.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا". وقال عليه الصلاة والسلام: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم".
وقال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(1).
10 ـ الدعاء لهم والاستغفار لهم.
قال تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}(2).
وقال سبحانه: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}(3).
تنبيه :
وأما قوله تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(4).
فمعناه أن من كف أذاه من الكفار فلم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فإن المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي ولا يحبونه بقلوبهم لأن الله قال: {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}.
ولم يقل توالونهم وتحبونهم.
__________
(1) الكهف: 28]
(2) محمد: 19]
(3) الحشر: 10]
(4) الممتحنة: 8](15/10)
ونظير هذا قوله تعالى في الوالدين الكافرين: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}(1).
وقد جاءت أم أسماء إليها تطلب صلتها وهي كافرة فاستأذنت أسماء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في ذلك فقال لها: "صِلِي أمك" وقد قال الله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ}(2).
فالصلة والمكافأة الدنيوية شيء، والمودة شيء آخر.
ولأن في الصلة وحسن المعاملة ترغيبًا للكافر في الإسلام فهما من وسائل الدعوة بخلاف المودة والموالاة فهما يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه والرضى عنه وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلام.
وكذلك تحريم موالاة الكفار لا تعني تحريم التعامل معهم بالتجارة المباحة واستيراد البضائع والمصنوعات النافعة والاستفادة من خبراتهم ومخترعاتهم.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم- استأجر ابن أريقط الليثي ليدله على الطريق وهو كافر واستدان من بعض اليهود.
وما زال المسلمون يستوردون البضائع والمصنوعات من الكفار وهذا من باب الشراء منهم بالثمن وليس لهم علينا فيه فضل ومِنَّة.
وليس هو من أسباب محبتهم وموالاتهم، فإن الله أوجب محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم.
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(3).
__________
(1) لقمان: 15]
(2) المجادلة: 22]
(3) الأنفال: 72](15/11)
إلى قوله تعالى: { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(1).
قال الحافظ ابن كثير: ومعنى قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل..] انتهى.. قلت : وهذا ما حصل في هذا الزمان والله المستعان.
أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء
الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يحب محبة خالصة لا معادة معها
وهم المؤمنون الخلّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ثم زوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين وصاحبته الكرام – خصوصًا الخلفاء الراشدين وبقية العشرة والمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ثم بقية الصحابة – رضي الله عنهم – أجمعين.
ثم التابعين والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها – كالأئمة الأربعة.
قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }(2).
ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان.
وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام كالرافضة والخوارج نسأل الله العافية.
القسم الثاني: من يبغض ويعادي بغضًا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما
وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم.
__________
(1) الأنفال: 73]
(2) الحشر: 10](15/12)
كما قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(1).
وقال تعالى عائبًا على بني إسرائيل: { تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }(2).
القسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه
فتجتمع فيه المحبة والعداوة وهم عصاة المؤمنين. يحبون لما فيهم من الإيمان ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك.
ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم. فلا يجوز السكوت على معاصيهم بل ينكر عليهم ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم.
ولكن لا يبغضون بغضًا خالصًا ويتبرأ منهم كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك.
ولا يحبون ويوالون حبًا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والمرء مع من أحب يوم القيامة كما في الحديث.
وقد تغير الوضع وصار غالب موالاة الناس ومعاداتهم لأجل الدنيا فمن كان عنده طمع من مطامع الدنيا والوه وإن كان عدوًّا لله ولرسوله ولدين المسلمين.
ومن لم يكن عنده طمع من مطامع الدنيا عادوه ولو كان وليًّا لله ولرسوله عند أدنى سبب وضايقوه واحتقروه.
__________
(1) المجادلة: 22]
(2) المائدة: 80-81](15/13)
وقد قال عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -: "من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا"(1).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب".(2).
وأشد الناس محاربة لله من عادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبهم وتنقصهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا، فمن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه".(3).
وقد صارت معاداة الصحابة وسبهم دينًا وعقيدة عند بعض الطوائف الضالة.
نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، ونسأله العفو والعافية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) رواه ابن جرير]
(2) الحديث رواه البخاري]
(3) أخرجه الترمذي وغيره](15/14)
التعليقات المختصرة
على
متن العقيدة الطحاوية
تأليف فضيلة الشيخ
الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
[متن العقيدة الطحاوية]
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي بمصر –رحمه الله-:
هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين.
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له.
ولا شيء مثله.
ولا شيء يعجزه .
ولا إله غيره .
قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء .
لا يفنى ولا يبيد.
ولا يكون إلا ما يريد.
لا تبلغه الأوهام.
ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام.
حيٌّ لا يموت .
قيوم لا ينام.
خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة.
مميت بلا مخافة.
باعث بلا مشقة.
ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه.
لم يزدد بكونهم شيئاً، لم يكن قبلهم من صفته.
وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً.
ليس بعد خلق الخالق استفاد اسم ((الخالق))
ولا بإحداث البرية استفاد اسم ((الباري)).
له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق.
وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم.
ذلك بأنه على كل شيء قدير.
وكل شيء إليه فقير.
وكل أمر عليه يسير.
لا يحتاج إلى شيء.
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
خلق الخلق بعلمه.
وقدر لهم أقداراً.
وضرب لهم آجالاً.
ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم.
وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم .
وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته.
وكل شيء يجري بتقديره.
ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن.
يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً.
وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله.(16/1)
وهو متعال عن الأضداد والأنداد.
لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.
آمنّا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده.
وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى .
وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين.
وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى.
وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء.
وأن القرآن كلام الله.
منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً.
وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً.
وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة.
ليس بمخلوق ككلام البرية.
فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر.
وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: (سأصليه سقر) [المدثر : 26].
فلما أوعد الله بسقر لمن قال: (إن هذا إلا قول البشر). علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر.
ولا يشبه قول البشر.
ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر.
فمن أبصر هذا اعتبر.
وعن مثل قول الكفار انزجر.
وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية.
كما نطق به كتاب ربنا: (وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة) .
وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه.
وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال.
ومعناه على ما أراد.
لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا .
فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وردَّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه.
ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام.
فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان.
فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار.
موسوساً تائهاً، شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً.(16/2)
ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم.
إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم.
وعليه دين المسلمين.
ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه.
فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية.
منعوت بنعوت الفردانية. ليس في معناه أحد من البرية .
وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات.
لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
والمعراج حق، وقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء .
ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء .
وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) .
فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.
والحوض الذي أكرمه الله تعالى به –غياثاً لأمته- حق.
والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار.
والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق.
وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد، ولا ينقص منه.
وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه.
وكل ميسر لما خُلق له.
والأعمال بالخواتيم .
والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله.
وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه.
لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل.
والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان.
فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة.
فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه .
ونهاهم عن مرامه .
كما قال تعالى في كتابه: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) .
فمن سأل : لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب.
ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى.
وهي درجة الراسخين في العلم.
لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود.(16/3)
فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر.
ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود.
ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رُقم.
فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائنٌ، ليجعلوه غير كائن –لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه.
جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه .
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه.
فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً.
ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه.
وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة.
والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً)، وقال تعالى: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً.
وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً.
لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً.
وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً.
والعرش والكرسي حق.
وهو مستغن عن العرش وما دونه.
محيط بكل شيء وفوقه .
وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً.
ونؤمن بالملائكة والنبيين.
والكتب المنزلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين.
ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين.
ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين .
ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله.
ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين.
نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين.
ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين.(16/4)
ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله.
ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.
ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة.
ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم.
والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام.
وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.
ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.
والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان.
وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشرع والبيان كله حق.
والإيمان واحد.
وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى.
والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن.
والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره، من الله تعالى.
ونحن مؤمنون بذلك كله
لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به.
وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون.
وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين "مؤمنين" وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم عفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وإن شاء عذبهم في النار بعدله.
ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته.
ثم يبعثهم إلى جنته.
وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته.
اللهم يا وليّ الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به.
ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم.
ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً.
ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك .
ونذر سرائرهم إلى الله تعالى .(16/5)
ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا من وجب عليه السيف.
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا.
وإن جاروا.
ولا ندعو عليهم .
ولا ننزع يداً من طاعتهم.
ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية.
وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة.
ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة.
ونقول: الله أعلم، فيما اشتبه علينا علمه.
ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر.
والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين: برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما.
ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين.
ونؤمن بملك الموت، الموكل بقبض أرواح العالمين.
وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم .
والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان.
والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان.
وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً.
فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه. ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه.
وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له.
والخير والشر مقدران على العباد.
والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به –فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات –فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى : (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) .
وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد.
ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون.(16/6)
ولا يطيقون إلا ما كلفهم .
وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله" . نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله .
وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره .
غلبت مشيئته المشيئات كلها .
وغلب قضاؤه الحيل كلها .
يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً، تقدس عن كل سوء وحين، وتنزه عن كل عيب وشين.
(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) .
وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات.
والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات.
ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء.
ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين .
ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحين.
والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى.
ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولا نفرط في حب أحد منهم.
ولا نتبرأ من أحد منهم .
ونبغض من يبغضهم.
وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير.
وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون.
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبشرهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقوله الحق، وهم : أبو بكر ، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق.(16/7)
وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين –أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء .
ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم .
ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال.
ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء .
ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها.
وخروج دابة الأرض من موضعها.
ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً.
ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً.
ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام.
قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقال تعالى (ورضيت لكم الإسلام ديناً) .
وهو بين الغلو والتقصير .
وبين التشبيه والتعطيل .
وبين الجبر والقدر.
وبين الأمن والإياس .
فهذا دينناً واعتقادناً ظاهراً وباطناً. ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه.
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به.
ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة.
والمذاهب الردية.
مثل المشبهة.
والمعتزلة، والجهمية.
والجبرية.
والقدرية .
وغيرهم، من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة .
ونحن منهم براء ، وهم عندنا ضلال وأردياء. وبالله العصمة والتوفيق.
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي –بمصر- رحمه الله:
(1)هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبدالله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/8)
أما بعد: فإن العقيدة هي أساس الدين، وهي مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والركن الأول من أركان الإسلام(1)، فيجب الاهتمام بها والعناية بها ومعرفتها، ومعرفة ما يخل بها، حتى يكون الإنسان على بصيرة، وعلى عقيدة صحيحة؛ لأنه إذا قام الدين على أساس صحيح صار ديناً قيماً مقبولاً عند الله، وإذا قام على عقيدة مهزوزة ومضطربة، أو عقيدة فاسدة، صار الدين غير صحيح، وعلى غير أساس، ومن ثم كان العلماء –رحمهم الله- يهتمون بأمر العقيدة ولا يفترون في بيانها في الدروس وفي المناسبات، ويرويها المتأخر عن المتقدم.
كان الصحابة –رضي الله عنهم- ليس عندهم أي شك فيما جاء به القرآن وما جاءت به سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكانت عقيدتهم مبنية على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يعتريهم في ذلك شك ولا توقف، فما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم اعتقدوه ودانوا به، ولم يحتاجوا إلى كتابة تأليف؛ لأن هذا مسلّم به عندهم ومقطوع به وكانت عقيدتهم الكتاب والسنة، ثم درج على ذلك تلاميذهم من التابعين الذين أخذوا عنهم، فلم يكن هناك أخذ وردّ في العقيدة، كانت قضية مسلمة، وكان مرجعهم الكتاب والسنة.
__________
(1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" .
…أخرجه البخاري رقم (8) ومسلم رقم (16) .(16/9)
فلما ظهرت الفرق والاختلافات، ودخل في الدين من لم ترسخ العقيدة في قلبه، أو دخل في الإسلام وهو يحمل بعض الأفكار المنحرفة، ونشأ في الإسلام من لم يرجع إلى الكتاب ولا إلى السنة في العقيدة، وإنما يرجع إلى قواعد ومناهج أصلها أهل الضلال من عند أنفسهم، عند هذا احتاج أئمة الإسلام إلى بيان العقيدة الصحيحة وتحريرها وكتابتها وروايتها عن علماء الأمة، فدونوا كتب العقائد، واعتنوا بها، وصارت مرجعاً لمن يأتي بعدهم من الأمة إلى أن تقوم الساعة.
وهذا من حفظ الله تعالى لهذا الدين، وعنايته بهذا الدين، أن قيض له حملة أمناء يبلغونه كما جاء عن الله وعن رسوله، ويردون تأويل المبطلين وتشبيه المشبهين، وصاروا يتوارثون هذه العقيدة خلفاً عن السلف.
ومن جملة السلف الصالح الذين كانوا على الاعتقاد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، من جملتهم الأئمة الأربعة الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم من الأئمة الذين قاموا بالدفاع عن العقيدة وتحريرها، وبيانها وتعليمها للطلاب.
وكان أتباع الأئمة الأربعة يعتنون بهذه العقيدة، ويتدارسونها ويحفظونها لتلاميذهم، وكتبوا فيها الكتب الكثيرة على منهج الكتاب والسنة، وما كان عليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون، وردوا العقائد الباطلة والمنحرفة، وبينوا زيفها وباطلها، وكذلك أئمة الحديث: كإسحاق بن راهويه، والبخاري، ومسلم والإمام ابن خزيمة، والإمام ابن قتيبة، ومن أئمة التفسير: كالإمام الطبري، والإمام ابن كثير، والإمام البغوي، وغيرهم من أئمة التفسير.
وألفوا في هذا مؤلفات يسمونها بكتب السنة، مثل كتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة للخلال، والشريعة للآجري، وغير ذلك.(16/10)
ومن جملة هؤلاء الأئمة الذين كتبوا في عقيدة السلف: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي(1)، من علماء القرن الثالث بمصر، وسمي بالطحاوي نسبة لبلدة في مصر، فكتب هذه العقيدة المختصرة النافعة المفيدة.
وكتبت عليها شروح، حوالي سبعة شروح، ولكن لا تخلو من أخطاء؛ لأن الذين ألفوها كانوا على منهج المتأخرين، فلم تخل شروحهم من ملاحظات ومخالفة لما في عقيدة الطحاوي، إلا شرحاً واحداً فيما نعلم، وهو شرح العز بن أبي العز رحمه الله(2)، المشتهر بشرح الطحاوية، وهذا من تلاميذ ابن كثير فيما يظهر، وقد ضمن شرحه هذا منقولات من كتب شيح الإسلام ابن تيمية، ومن كتب ابن القيم، ومن كتب الأئمة، فهو شرح حافل، وكان العلماء يعتمدون عليه ويعتنون به؛ لنقاوته وصحة معلوماته، فهو مرجع عظيم من مراجع العقيدة، والمؤلف –كما ذكر- ألف هذه العقيدة على مذهب أهل السنة عموماً، ومنهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، فهو أقدم الأئمة الأربعة وأدرك التابعين وروى عنهم .
وكذلك صاحباه أبو يوسف، ومحمد الشيباني، وأئمة المذهب الحنفي.
__________
(1) الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، برز في علم الحديث والفقه وجمع وصنف، وكان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً لم يخلف مثله، ومن نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه، توفي سنة 321هـ رحمه الله تعالى. انظر: سير أعلام النبلاء (15/27-33).
(2) هو الإمام العلامة صدر الدين أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الأذرعي الصالحي نشأ رحمه الله في أسرة ذات نباهة وذكر وتتلمذ على الحافظ ابن كثير ونصر أقوال ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جمعياً.(16/11)
ذكر عقيدتهم، وأنها موافقة لمذهب أهل السنة والجماعة، وفي هذا ردٌ على المنتسبين إلى الحنفية في الوقت الحاضر أو في العصور المتأخرة، ينتسبون إلى الحنفية ويخالفون أبا حنيفة في العقيدة، فهم يمشون على مذهبه في الفقه فقط، ويخالفونه في العقيدة، فيأخذون عقيدة أهل الكلام والمنطق، وكذلك حدث في الشافعية المتأخرين منهم يخالفون الإمام الشافعي في العقيدة، وإنما ينتسبون إليه في الفقه، كذلك كثير من المالكية المتأخرين ليسوا على عقيدة الإمام مالك، لكنهم يأخذون من مذهب مالك في الفقه فقط، أما العقيدة فهم أصحاب طرق وأصحاب مذاهب متأخرة.
ففي هذه العقدية ردٌ على هؤلاء وأمثالهم ممن ينتسبون إلى الأئمة، ويتمذهبون بمذاهب الأئمة الأربعة، ويخالفونهم في العقيدة، كالأشاعرة: ينتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في مذهبه الأول، ويتركون ما تقرر واستقر عليه أخيراً من مذهب أهل السنة والجماعة، فهذا انتساب غير صحيح؛ لأنهم لو كانوا على مذهب الأئمة لكانوا على عقيدتهم.
(2)نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له.
نقول، أي ؛ نعتقد في توحيد الله عز وجل.
والتوحيد لغة: مصدر وحّد: إذا جعل الشيء واحداً.
وشرعاً: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وترك عبادة ما سواه.
وأقسامه ثلاثة بالاستقراء من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تقرر عليه مذهب أهل السنة والجماعة، فمن زاد قسماً رابعاً أو خامساً فهو زيادة من عنده؛ لأن الأئمة قسّموا التوحيد إلى أقسام ثلاثة من الكتاب والسنة.
فكل آيات القرآن والأحاديث في العقيدة لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة.
الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله تعالى وإفراده بأفعاله: كالخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، وتدبير الكون، فليس هناك رب سواه سبحانه وتعالى، رب العالمين .(16/12)
القسم الثاني: توحيد الألوهية أو توحيد العبادة؛ لأن الألوهية معناها عبادة الله عز وجل بمحبته وخوفه ورجائه، وطاعة أمره، وترك ما نهى عنه فهو إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي شرعها لهم.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وتنزيهه عما نزّه عنه نفسه، ونزّهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من العيوب والنقائص.
فكل الآيات التي تتحدث عن أفعال الله فإنها في توحيد الربوبية، وكل الآيات التي تتحدث عن العبادة والأمر بها والدعوة إليها فإنها في توحيد الألوهية.
وكل الآيات التي تتحدث عن الأسماء والصفات لله عز وجل فإنها في توحيد الأسماء والصفات.
وهذه الأقسام الثلاثة المطلوب منها هو توحيد الألوهية؛ لأنه هو الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وقام من أجله الجهاد في سبيل الله، حتى يُعبد الله وحده، وتُترك عبادة ما سواه.
وأما توحيد الربوبية ومنه توحيد الأسماء والصفات فلم ينكره أحد من الخلق، وذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة، ذكر أن الكفار مُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، والمدبر، فهم لا يخالفون فيه. وهذا النوع إذا اقتصر عليه الإنسان لا يدخله ذلك في الإسلام؛ لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قاتل الناس وهم يقرون بتوحيد الربوبية، واستحل دمائهم وأموالهم.(16/13)
ولو كان توحيد الربوبية كافياً لما قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ما كان هناك حاجة إلى بعثة الرسل، فدل على أن المقصود والمطلوب هو توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فإنه دليل عليه، وآية له، ولذلك إذا أمر الله بعبادته ذكر خلقه للسموات والأرض، وقيامه سبحانه بشؤون خلقه، برهاناً على توحيد الألوهية، وإلزاماً للكفار والمشركين، الذين يعترفون بالربوبية وينكرون الألوهية، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا: لا إله إلا الله" قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (1) [ص:5]، وقال سبحانه وتعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر: 45]، وقال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: 35:36]
فهم لا يريدون توحيد الألوهية، بل يريدون أن تكون الآلهة متعددة، وكلٌ يعبد ما يريد.
__________
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: "إني أريد منهم كلمة واحدة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية" قال: كلمة واحدة؟ قال: "كلمة واحدة" قال: "يا عم يقولوا: لا إله إلا الله" فقالوا: إلهاً واحداً، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن : (ص والقرآن ذي الذكر) إلى قوله: (إن هذا إلا اختلاق).
…أخرجه في المسند 1/228 والترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة ص (رقم 3232) وقال: حديث حسن صحيح. وكذا صححه الشيخ أحمد شاكر رقم (2008).(16/14)
فيجب أن يُعلم هذا، فإن كل أصحاب الفرق الضالة الحديثة والقديمة، يركزون على توحيد الربوبية، فإنه إذا أقر العبد عندهم بأن الله هو الخالق الرازق، قالوا: هذا مسلم، وكتبوا بذلك عقائدهم، فكل عقائد المتكلمين لا تخرج عن تحقيق توحيد الربوبية والأدلة عليه .
وهذا لا يكفي، بل لابد من الألوهية، قال تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] يأمرون الناس بعبادة الله وهي توحيد الألوهية.
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء:25]،. (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) [النساء: 36].
كل الآيات تأمر بتوحيد الألوهية وتدعو إليه، وجميع الرسل دعوا إلى توحيد الألوهية وأمروا به أممهم، ونهوهم عن الشرك، هذا هو المطلوب والغاية والقصد من التوحيد، وأما توحيد الأسماء والصفات فأنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، على تفاوت بينهم في ذلك.
وقوله نقول: -أي يقول معشر أهل السنة والجماعة- في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله : إن الله واحد لا شريك له.
العقيدة والتوحيد بمعنى واحد. سواء سُميت عقيدة أو توحيداً أو إيماناً، فالمعنى واحد وإن اختلفت الأسماء.
وقوله: "بتوفيق الله" هذا تسليم لله عز وجل، وتضرّع إلى الله، وتبرؤ من الحول والقوة، فالإنسان لا يزكي نفسه، وإنما يقول: بتوفيق الله، بمشيئة الله، بحول الله، هذا أدب العلماء رحمهم الله. "إن الله واحد لا شريك له" هذا هو التوحيد؛ واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وواحد في أسماءه وصفاته.
(3) ولا شيء مثله:
مأخوذ من قوله تعالى : (ليس كمثله شيءٌ) [الشورى:11]، وقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد) [الإخلاص : 4]، وقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً) [البقرة: 22]، أي شبهاء ونظراء .(16/15)
وقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً) [مريم: 65]، أي : مماثل يساميه سبحانه وتعالى، فالتمثيل والتشبيه منفيان عن الله عز وجل.
لا يشبهه أحد من خلقه، وهذا هو الواجب أن نثبت ما أثبته الله لنفسه ونعتقده ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا نمثّله بخلقه سبحانه وتعالى، وهذا فيه رد على المشبهة الذين يعتقدون أن الله مثل خلقه، ولا يُفرقون بين الخالق والمخلوق، وهو مذهب باطل.
وفي مقابله مذهب المعطلة؛ الذين غلوا في التنزيه حتى نفوا عن الله ما أثبته من الأسماء والصفات، فراراً من التشبيه بزعمهم.
فكلا الطائفتين غلت، المعطلة غلوا في التنزيه ونفي المماثلة، والمشبهة غلوا في الإثبات، وأهل السنة والجماعة توسّطوا؛ فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل على حد قوله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشوى:11] فقوله: (ليس كمثله شيء) نفي للتشبيه، وقوله: (وهو السميع البصير) نفي للتعطيل، وهذا المذهب الذي يسير عليه أهل السنة والجماعة.
ولهذا يُقال: المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً.
(4) ولا شيء يعجزه:
هذا إثبات لكمال قدرته:
قال تعالى : (وهو على كل شيء قدير) [المائدة : 120].
وقال تعالى: (وكان الله على كل شيء مقتدراً) [الكهف : 45].
وقال تعالى : (إنه كان عليماً قديراً) [فاطر: 44].
والقدير معناه: المبالغ في القدرة، فقدرته سبحانه وتعالى لا يعجزها شيء، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون.
-فهذا فيه إثبات قدرة الله عز وجل، وإثبات شمولها، وعمومها لكل شيء.(16/16)
-أما العبارة التي يقولها بعض المؤلفين : إنه على ما يشاء قدير. فهذه غلط؛ لأن الله لم يقيد قدرته بالمشيئة، بل قال: على كل شيء قدير، فقل ما قاله الله سبحانه وتعالى. إنما هذه وردت في قوله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى: 29]؛ لأن الجمع له وقت محدد في المستقبل، وهو قادر على جمعهم في ذلك الوقت، أي أهل السماوات وأهل الأرض، قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى:29].
(5) ولا إله غيره :
هذا هو توحيد الألوهية. لا إله، أي : لا معبود بحق غيره .
أما إذا قلت : لا معبود إلا هو؛ أو لا معبود سواه، فهذا باطل؛ لأن المعبودات كثيرة من دون الله عز وجل، فإذا قلت: لا معبود إلا الله، فقد جعلت كل المعبودات هي الله، وهذا مذهب أهل وحدة الوجود، فإذا كان قائل ذلك يعتقد هذا فهو من أصحاب أهل وحدة الوجود، وأما إن كان لا يعتقد هذا، إنما يقوله تقليداً أو سمعه من أحد، فهذا غلط، ويجب عليه تصحيح ذلك. وبعض الناس يستفتح بهذا في الصلاة فيقول: ولا معبود غيرك، والله معبود بحق، وما سواه فإنه معبود بالباطل، قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) [الحج: 62].
(6) قديم بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء :
كما دل عليه قوله تعالى: (هو الأول والآخر) [الحديد:3]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"(1).
لكن كلمة "قديم" لا تُطلق على الله عز وجل إلا من باب الخبر، أما من جهة التسمية فليس من أسمائه: القديم، وإنما من أسمائه: الأول. والأول ليس مثل القديم؛ لأن القديم قد يكون قبله شيء، أما الأول فليس قبله شيء، قال عليه الصلاة والسلام: "أنت الأول فليس قبلك شيء".
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2713).(16/17)
لكن المؤلف رحمه الله احتاط فقال: "قديم بلا ابتداء"، أما لو قال: "قديم" وسكت، فهذا ليس بصحيح في المعنى.
(7) لا يفنى ولا يبيد:
الفناء والبيد بمعنى واحد، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالحياة الباقية الدائمة، قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان: 58].
فالله لا يأتي عليه الفناء، قال سبحانه وتعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص:88]، وقال سبحانه وتعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [الرحمن:26،27].
فله البقاء سبحانه وتعالى، والخلق يموتون ثم يبعثون، وكانوا في الأول عدماً ثم خلقهم الله، ثم يموتون ثم يبعثهم الله عز وجل.
فالله سبحانه وتعالى ليس له بداية وليس له نهاية.
(8) ولا يكون إلا ما يريد:
هذا فيه إثبات القدر وإثبات الإرادة، فلا يكون في ملكه ولا يحصل في خلقه من الحوادث والكائنات إلا ما أراده سبحانه وتعالى بالإرادة الكونية: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) [يس:82]، فكل خير وكل شر فهو بإرادة الله الكونية، فلا يخرج عن إرادته شيء، وهذا فيه رد على القدرية الذين ينفون القدر، ويزعمون أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه ويوجد فعل نفسه، تعالى الله عما يقولون، وهذا تعجيز لله، وأنه يكون في خلقه ما لا يريده سبحانه وتعالى، فهذا وصف له بالنقص، فجميع ما يكون في الكون من خير وشر فإنه بإرادته، فيخلق الخير لحكمة، ويخلق الشر لحكمة، فهو من جهة خلقه له ليس بشر؛ لأنه لحكمة عظيمة، ولغاية عظيمة، وهي الابتلاء والامتحان، وتمييز الخبيث من الطيب، والجزاء على الأعمال الصالحة، والجزاء على الأعمال السيئة، له الحكمة في ذلك سبحانه وتعالى، لم يخلق ذلك عبثاً.
(9) لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام:(16/18)
فالله سبحانه وتعالى لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء سبحانه وتعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) [طه:110]، فالله سبحانه يُعلم ولكن لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء ، فلا يتخيله الفكر، ولا يجوز لإنسان أن يقول في الله إلا ما قاله سبحانه عن نفسه، أو قاله عنه رسوله عليه الصلاة والسلام .
(10) ولا يشبه الأنام:
هذه مثل العبارة التي مضت، ولا شيء مثله، والأنام معناه: الخلق، فالله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الخلق: (ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير) [الشورى:11]، (ولم يكن له كفواً أحداً) [الإخلاص:4] فهو سبحانه منزه عن مشابهة خلقه، وإن كان له أسماء وصفات تشترك مع أسماء وصفات الخلق في اللفظ والمعنى، لكن في الحقيقة والكيفية لا تشابه بينهما.
(11) حي لا يموت :
حياته كاملة لا يعتريها نقص ولا نوم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) [البقرة:255]، (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان:58] فنفي عن نفسه السِّنة، وهي النوم الخفيف والنوم المستغرق(1)، ونفى عن نفسه الموت لكمال حياته سبحانه(2). والنوم والنعاس والموت نقص في الحياة، وهذه من صفة المخلوق، وحياة المخلوق ناقصة فهو ينام ويموت.
__________
(1) فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام….." إلخ الحديث .
…أخرجه مسلم رقم (179).
(2) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون"
…أخرجه مسلم رقم (2717)(16/19)
فالنوم كمال في حق المخلوق، نقص في حق الخالق؛ لأن المخلوق الذي لا ينام معتل الصحة، فهذا يدل على الفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، والحي والقيوم: هاتان الصفتان مأخوذتان من قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) الحي الذي له الحياة الكاملة، والقيوم صيغة مبالغة.
(12) قيوم لا ينام :
القيوم هو: القائم بنفسه والمقيم لغيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء، وغني عن كل شيء، المقيم لغيره، كل شيء فقير إليه يحتاج إلى إقامته له سبحانه وتعالى، فلولا إقامة الله للسموات والأرض والمخلوقات لتدمرت وفنيت، ولكن الله يقيمها ويحفظها ويمدها بما يصلحها.
فجميع الخلق في حاجة إليه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر: 41].
(13) خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة:
هو الذي خلق الخلق وهو ليس بحاجة إليهم، إنما خلقهم لعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56]، فخلقهم لا لحاجة إليهم بأن ينصروه أو ليعينوه أو ليساعدوه –سبحانه- أو يحموه، إنما خلقهم لعبادته، وهم المحتاجون للعبادة؛ لتصلهم بالله وتربطهم بربهم، فالعبادة صلة بين العبد وربه، فتقربه من الله، ويحصل بها من الله على الثواب والجزاء، فالعبادة حاجة للخلق وليست بحاجة لله عز وجل (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد)[إبراهيم:8] (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) [الزمر:7]. وقوله : (رازق بلا مؤنة) أي هو القائم بأرزاق عباده ولا ينقص ذلك مما عنده.
(14) مميت بلا مخافة:(16/20)
أي : يميت الأحياء إذا كملت آجالهم ، لا لأنه خائف منهم ولكن ذلك لحكمته سبحانه وتعالى؛ لأن الحياة في الدنيا لها نهاية، وأما الآخرة فليس للحياة فيها نهاية، فإماتتهم ليس خوفاً منهم أو ليستريح منهم، ولو كانوا يكفرون به فإنه لا يتضرر بكفرهم، وإنما يضرون أنفسهم، لكنه هو يفرح بتوبتهم ؛ لأنه يحب –ويريد- لهم الخير، فهو يفرح بتوبتهم وهو ليس في حاجة إليهم، إنما ذلك لطفه وإحسانه.
(15) باعث بلا مشقة:
هذا من عجائب قدرته، أنه يميت الخلق ويفنيهم حتى يتلاشوا ويصيروا تراباً ورفاتاً. حتى يقول الجاهل: لا يمكن أن يعودوا ولكن الله عز وجل يبعثهم من جديد ويعيد خلقهم من جديد، وليس عليه في ذلك مشقة، كما قال سبحانه وتعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [لقمان:28]. (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) [الروم:27].
فالمشركون أنكروا البعث استبعاداً منهم كما ذكر الله ذلك عنهم: (قال من يحي العظام وهي رميم) [يس:78]، قال سبحانه وتعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) [يس:79].
أول مرة، ليس لها وجود أصلاً، فأوجدها من العدم سبحانه وتعالى، فالذي خلقها من العدم: أليس بقادر على إعادتها من باب أولى؟ هذا في نظر العقول، وإلا فإن الله سبحانه لا يُقاس بخلقه، إنما ذلك لضرب المثل: (وله المثل الأعلى) [الروم:27].
فهذا ردٌ على هذا الجاحد، قال تعالى: (ونسي خلقه) [يس:78]، نسي أنه في الأول كان لا شيء ولا وجود له (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) [الإنسان:1]، نسي أن الله أوجده من عدم.(16/21)
فهو يجمع هذه العظام المتفرقة، واللحوم الممزقة، والتراب الذي تحلل، وهذه الشعور المتبعثرة يعيدها كما كانت، (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا انتم تخرجون) [الروم:25] (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) [الزمر:68] وهي نفخة البعث.
فالأولى نفخة الصعق والموت، والثانية نفخة البعث.
(ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث) [يس:51] أي : القبور: (إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) [يس:51:52].
فالله قادر على كل شيء، وهذا رد على الكفار الذين يُعجزون الله عن إحياء الموتى وإعادتهم كما كانوا.
قال تعالى: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه) [القيامة:3،4]. (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون) [المعارج:43].
هذه قدرة الله وإرادته ومشيئته، لا يعجزه شيء، لكن بعض المخلوقين يقيس الله بخلقه فيستبعد البعث؛ لأنه في نظره مستحيل، ولا ينظر إلى قدرة الله، ولم يقدر الله حق قدره، وهذا من الجهل بالله عز وجل.
(16) ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه:(16/22)
تقدم قول المصنف: "قديم بلا ابتداء"، فهو سبحانه وتعالى ليس قبله شيء، ومعنى ذلك: أنه متصف بصفات الكمال، فصفاته تكون أزلاً وأبداً، فكما أنه أول بلا بداية، فكذلك صفاته، فإنها تكون تابعة له سبحانه، فهي أولية بأولية الله سبحانه وتعالى، فلم يكن أولاً بلا صفات ثم حدثت له الصفات بعد ذلك كما يقوله أهل الضلال، الذين يقولون: لم تكن له صفات في الأزل ثم كانت له صفات؛ لئلا يلزم على ذلك تعدد الآلهة –كما يزعمون- أو تعدد القدماء، وتكون الأسماء والصفات شريكة لله في أوليته. فنقول: يا سبحان الله! هذا يلزم عليه أن يكون الله ناقصاً –تعالى الله- في فترة، ثم حدثت له الصفات وكمل بها، تعالى عما يقولون، ولا يلزم من قدم الصفات قدم الأرباب؛ لأن الصفات ليست شيئاً غير الموصوف في الخارج، إنما هي معان قائمة بالموصوف، ليست شيئاً مستقلاً عن الموصوف، فإذا قلت مثلاً: "فلان سميع بصير، عالم فقيه، لغوي نحوي" فهل معنى هذا أن الإنسان صار عدداً من الأشخاص، فلا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف، كما يقوله أصحاب الضلال.
فالله سبحانه وتعالى ليس لصفاته بداية كما أنه ليس لذاته بداية، فيوصف بأنه الخالق دائماً وأبداً.
وأما أفعاله سبحانه، فهي قديمة النوع حادثة الآحاد.
فالله سبحانه وتعالى متكلم قبل أن يصدر منه الكلام، وخالق قبل أن يصدر منه الخلق. وأما أنه يتكلم ويخلق، فهذه أفعال متجددة وهكذا.
(17) لم يزدد بكونهم شيئاً، لم يكن قبلهم من صفته:
أي : خلق الخلق. ولا نقول: لم يصر خالقاً إلا بعد أن خلقهم، بل هو يسمى خالقاً من الأزل، لا بداية لذلك، أما خلقه إنما هو متجدد.
(18) وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً:(16/23)
كما أنه موصوف بصفاته أزلياً، يعني : لا بداية لذلك، كذلك صفاته تلازمه –سبحانه- في المستقبل، فهو بصفاته أبدي لا نهاية له (أنت الآخر فلا بعدك شيء) باسمك وصفاتك، ولا يقال: إن هذه الصفات تنقطع عنه في المستقبل، بل هي ملازمة له سبحانه وتعالى.
(19) ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم (الخالق)
هذا توضيح وتكرار لما سبق.
(20) ولا بإحداث البرية استفاد اسم (الباري):
من أسماء الله عز وجل : الباري، يعني : الخالق، برى الخلق، يعني: خلقهم، فهو الباري، وهذا الاسم ملازم لذاته ليس له بداية.
(21) له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق:
كذلك هو رب قبل أن توجد المربوبات، والرب معناه: المالك والمتصرف والمصلح والسيد، وهذه الصفات لازمة لذاته، يوصف بالربوبية بلا بداية ولا نهاية، قبل وجود المربوبات وبعد فناء المربوبات.
(22) وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم :
كما أنه –سبحانه- يوصف بكونه محيي الموتى في الأزل، وبأنه يحيي ويميت، ولا يكون هذا الوصف معدوماً حتى يكون أحيا الموتى، وإنما هذا له من القديم والأزل، وأما إحياء الموتى فهذا متجدد، أحيا ويحيي سبحانه إذا شاء.
(23) ذلك بأنه على كل شيء قدير:
هذا وصف أزلي، لا يقال بأنه ما استفاد القدرة إلا بعد أن خلق وأوجد المخلوقات، بل القدرة صفة أزلية، وإنما كونه أوجد المخلوقات فهذا أثر ناتج من كونه على كل شيء قدير.
والله هو الذي وصف نفسه بأنه على كل شيء قدير من الموجودات ومن المعدومات، لم يقيد قدرته بشيء معين، لا يعجزه شيء، ولا يجوز التقييد بأنه قدير على كذا، ولا يقال: إنه على ما يشاء قدير، إنما هذا خاص بجمع الله سبحانه وتعالى لأهل السموات والأرض : (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى:29] وهذه قضية معينة.
(24) وكل شيء إليه فقير :(16/24)
لا شيء يمكن أن يستغني عن الله لا من الملائكة ولا السماوات والأرض ولا الجن ولا الإنس، ولا الجامدات من الجبال ولا البحار، كل شيء فقير إلى الله: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [فاطر:15].
فكل شيء إليه فقير، لا الأولياء ولا السماوات، ومن يقول: إن الأولياء لهم قدرة غير البشر وإنهم يتصرفون في الكون، وإنهم ينفعون ويضرون من دون الله، فذلك من قول الكفرة والمشركين، فليس للأولياء والرسل والملائكة غنى عن الله ولا تصرف من دونه .
وهذا مما يبطل عبادة غير الله من الأصنام ونحوها، كيف تعبد أشياء فقيرة وتنسى الذي بيده ملكوت كل شيء؟ ولهذا لما قال بعض علماء القبورية لعامي من أهل التوحيد: أنتم تقولون : إن الأولياء لا ينفعون ولا يضرون، قال: نقول: إنهم لا ينفعون ولا يضرون، قال: أليس الله تعالى يقول: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران:169]. قال : وهل الله قال: يُرزقون، أو يَرزقون؟ قال: بل قال: (يُرزقون) بضم الياء، قال: إذن أنا أسأل الذي يرزقهم ولا أسألهم. فانخصم ذلك العالم بحجة العامي الذي هو على الفطرة.
(25) وكل أمر عليه يسير:
(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) [يس:82].
فهو يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويحيي الموتى بعد فنائهم، وذلك يسير عليه سبحانه وتعالى، لا يكلفه شيئاً ولا يشق عليه، خلاف المخلوق، فإنه يتكلف بفعل الأشياء، أو يعجز عنها، أما الله فليس شيء عليه صعباً، (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [لقمان :28].
(26) لا يحتاج إلى شيء:
الله سبحانه غني عن كل شيء، فالله ليس بحاجة إلى الخلق؛ لأنه هو الغني، فهو الذي يعطي الخلق سبحانه .
(27) (ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير) :(16/25)
هذا نفي للتشبيه عن الله سبحانه، والكاف لتأكيد النفي، مثل: (وكفى بالله عليماً) [النساء:70] الأصل : وكفى الله عليماً، ولكن جاءت الباء للتأكيد.
وليس يشبهه شيء من الأشياء، لا الملائكة ولا الأنبياء والرسل ولا الأولياء ولا أي مخلوق (وهو السميع البصير) [الشورى: 11] فسمى نفسه السميع البصير.
فالآية في أولها رد على المشبهة، وفي آخرها رد على المعطلة، ودلت على أنه لا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه بالمخلوقات، فسمع وبصر المخلوقات لا يشبه سمع ولا بصر الله عز وجل.
(28) خلق الخلق بعلمه:
قال سبحانه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [تبارك: 14]. فخلقه دليل على علمه سبحانه وتعالى وقدرته كما قال تعالى (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً)
(29) وقدر لهم أقداراً:
قدر الله جل وعلا المقادير، ولم يوجد هذه الأشياء بدون تقدير (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21] فكل شيء قدره الله بمقادير وكيفيات لا تختلف ولا تتغير، فالإنسان قدر الله جسمه وحواسه وأعضاءه وتركيبه وأوزانه، حتى صار إنساناً معتدلاً يمشي ويقف ولو اختل شيء من أعضاء هذا الإنسان أو من تراكيبه اختل الجسم، وكذلك سائر الكائنات (وكل شيء عنده بمقدار) [الرعد:8] فلكل شيء مقادير ينضبط بها، ولكل شيء مقادير تختلف عن مقادير الآخر.
(30) وضرب لهم آجالاً:
المخلوقات لها آجال ولها نهاية، قال سبحانه (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). [الرحمن:26:27]، وقال سبحانه: (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص:88].
كل شيء له عمر محدود، حدده الله –سبحانه- إما قصير وإما طويل، قال سبحانه، (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير) [فاطر:11]، فالأعمار بيده سبحانه وتعالى، وهذا يدل على كمال ربوبيته وكمال قدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(16/26)
(31) ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم:
بل هو عالم بالأشياء قبل أن توجد، لا أنه لا يعلمها إلا بعد أن وُجدت.
(32) وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم :
علم ما يعمل العباد قبل خلقهم، أن هذا من أهل الطاعة وهذا من أهل المعصية .
(33) وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته:
كما في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56]، خلقهم أولاً، ثم أمرهم بعبادته سبحانه وتعالى، فهو سبحانه أمرهم بطاعته، مع أنه يعلم ما هم عاملون من قبل، ولكن الجزاء لا يترتب على العلم، وإنما الجزاء يترتب على العمل، فالله لا يعذب العبد بحسب العلم، إلا إذا وقع منه الذنب، ولا يكرم المحسن حتى يقع منه الفعل، فالجزاء مرتب على العمل، لا على العلم ولا على القدر، ففرق بين العلم وبين الجزاء، ولذلك أمرهم الله ونهاهم، فمن أطاع الأوامر وترك النواهي حصل على الثواب، ومن خالف الأوامر وارتكب النواهي حصل على العقاب بأفعاله هو لا بأفعال الله سبحانه، فالعبد هو المصلي والمزكي والحاج والمجاهد، فالأعمال تنسب إليه لا إلى الله، إلا من جهة الخلق والعلم والتقدير والتوفيق.
(34) وكل شيء يجري بتقديره:
لا شك أن كل شيء بتقديره لا يخرج عن تقدير الله من الخير والشر، والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والعلم والجهل، كل شيء يجري بتقديره، وليس في ملكه شيء لم يقدره ولا يريده.
(35) ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن:(16/27)
الله سبحانه وتعالى له مشيئة، والعباد لهم مشيئة، ولكن مشيئة العباد مرتبة على مشيئة الله، وليست مستقلة، ولهذا قال سبحانه: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) [الإنسان:30] وقال سبحانه : (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير:29] فجعل لنفسه مشيئة هي من صفاته، وجعل لعباده مشيئة هي من صفاتهم، وربط مشيئتهم بمشيئته سبحانه، وفي هذا رد على القدرية والجبرية: فالقدرية ينفون مشيئة الله لأفعال العباد، ويجعلون للعبد مشيئة مطلقة، وأن العبد مستقل بأفعاله وإرادته ومشيئته، هذا مذهب القدرية من المعتزلة وغيرهم. والجبرية يقولون: العبد ليس له مشيئة، وإنما المشيئة لله فقط، والعبد يتحرك بدون اختياره ولا إرادته، مثل ما تحرك الآلة. فطائفة غلت في إثبات مشيئة الله وطائفة غلت في إثبات مشيئة العبد.
وأما أهل السنة والجماعة: فأثبتوا المشيئتين، وجعلوا مشيئة العبد مربوطة بمشيئة الله، أخذاً من الآيتين السابقتين فقوله: (وما تشاءون) فيه إثبات مشيئة العباد، وقوله: (إلا أن يشاء الله) فيه إثبات مشيئة الله عز وجل، وفي الآية أن مشيئة العبد ليست مستقلة، وإنما هي مربوطة بمشيئة الله؛ لأنه خلق من خلق الله، خلقه وخلق مشيئته وخلق إرادته، ولهذا لما قال بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال عليه الصلاة والسلام: "أجعلتني لله نداً؟" أي : شريكاً في المشيئة "قل : ماشاء الله وحده"(1) . ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً يقولون: ما شاء الله وشاء محمد، أنكر ذلك وقال: "قولوا؛ ما شاء الله ثم شاء محمد" ، فجعل مشيئته مرتبة على مشيئة الله "بثم" التي تفيد الترتيب والتراخي، لا بالواو؛ لأنها تقتضي التشريك.
__________
(1) أخرجه أحمد 1/214، 224،283، 347، والبخاري في الأدب المفرد رقم (783) وابن ماجه رقم (2117) والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (988) .(16/28)
(36) يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً:
الله سبحانه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهذا بقضاء الله وقدره، ولكنه يهدي من يعلم أنه يصلح للهداية، ويهدي من يحرص على طلب الهداية ويُقبل عليها، فإن الله ييسره لليسرى، ويضل من يشاء بسبب إعراضه عن طلب الهداية والخير، فيضله الله عقوبة له على إعراضه وعدم رغبته في الخير، يوضح ذلك قوله تعالى: (فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) [الليل:5-7] فصار السبب من العبد، والقدر من جهة الله سبحانه: (وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل:8-10] فصار السبب من العبد والقدر من الله عز وجل، ولكن قدره الله عقوبة له.(16/29)
فقدر الله الهداية فضلاً من الله عز وجل، وتكرم على الشخص الذي يريد الخير ويريد الهداية، فييسره الله للخير ولفعله، وهذا لمصلحته، لا مصلحة لله عز وجل، وأما إضلال الضالين فعدل منه سبحانه وتعالى، جزاءً لهم على إعراضهم وعدم إقبالهم على الخير وعلى طاعة الله عز وجل، لم يظلمهم شيئاً، ولهذا نجد في الآيات (والله لا يهدي القوم الظالمين) [البقرة:258] (والله لا يهدي القوم الكافرين) [البقرة:264]، (والله لا يهدي القوم الفاسقين) [المائدة:108] فجعل الظلم، والكفر، والفسق، أسباب لعدم الهداية، وهذه من أفعال العباد جازاهم عليها، عدلاً منه سبحانه وتعالى لا ظلماً (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [النحل:33]، فلا يليق به سبحانه أن يكرم من هذا وصفه وأيضاً لا يليق به سبحانه وتعالى أن يُضيع عمل العاملين، قال سبحانه : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية:21] (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) [الجاثية:22]، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) [القلم:35،36] هذا جور ينزه الله عنه، ويقول سبحانه وتعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:28].
فالله سبحانه وتعالى لا يُضيع أجر من عمل صالحاً، ولا يجازي أحداً بغير فعله، وبغير كسبه (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) [الصافات:39] فالعمل كله للعبد من الخير والشر، والمجازاة من الله فضلاً وعدلاً.
(37) وكلهم يتقلبون في مشيئة بين فضله وعدله:(16/30)
وكل العباد لا يخرجون عن التقلب في مشيئة الله بين فضلة على أهل الطاعة وأهل الخير، وعدله مع أهل الكفر والشرك، وهذا هو اللائق بحكمته وعظمته سبحانه، فلا يجمع بين المتضادات والمختلفات، بل ينزل الأشياء في منازلها، ولهذا من أسمائه: الحكيم، ومن صفاته: الحكمة، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، فيضع الفضل في أهل الطاعة، ويضع العذاب في أهل الكفر والمعاصي، هذا فضله سبحانه وعدله.
(38) وهو متعال عن الأضداد والأنداد:
(متعال) أي : مرتفع بذاته وقدره وقهره عن الأضداد والأنداد، فالأنداد: هم الأمثال والشبهاء والنظراء، فالله سبحانه وتعالى ليس له نظير، وليس له مثيل ولا شبيه، فلا أحد يشارك الله ولا يشابهه ولا يساويه جل وعلا، وهذا من علو قدره وقهره وهو العلي بذاته فوق مخلوقاته. أما الأضداد: فهم المعارضون له، فالله ليس له معارض، ولا يضاده أحد من خلقه، فإنه إذا أراد أمراً فلا يمكن لأحد أن يعترض ويمنع أمره سبحانه وتعالى، وإذا أراد إعطاء فلا أحد يمنع، وإذا أراد منعاً لشيء فلا أحد يعطيه (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) (1).
قال تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) [فاطر:2].
__________
(1) عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة قال: أملى عليّ المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" .
أخرجه البخاري رقم (844) ومسلم رقم (593)(16/31)
فلا ند لله ولا ضد له فيما يأمر به وينهى عنه، خلاف المخلوقين فيوجد من ينازعهم ويقف ضد تنفيذ أوامرهم، فالمخلوقات كلها لها مشارك، فالخلق يتشابهون في العلم والاسم وفي كل شيء، في الأجساد والصفات، ويشتركون في الأفعال والأملاك والله سبحانه لا يشبهه أحد ولا يشاركه أحد.
(39) لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره:
فالله (إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) [مريم:35] (لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) [الرعد:41] فالله عز وجل إذا قضى أمراً فلا يستطيع أحد أن ينقضه أو يرده، بخلاف المخلوق فقد يعطل تنفيذ حكمه وقد يُنقض.
(ولا غالب لأمره): وإذا أمر بالشيء لا أحد يغلب أوامره الكونية، أما أوامره الشرعية فقد تُعطل وقد تُخالف، وهذه للابتلاء والامتحان. ليترتب على ذلك الثواب أو العقاب.
(40) آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده:
كل ما سبق ذكره من أول العقيدة إلى آخرها، ندين لله به، وليس مجرد كلام بألسنتنا، بل هو من قلوبنا.
(41) وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله :
لما بين الشيخ –رحمه الله- في أول كلامه ما يجب من معرفة الله سبحانه، واعتقاد أنه الرب المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي هو متصف بها أزلاً وأبداً، لما بين هذا ووضحه، انتقل إلى ما يجب اعتقاده في الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: "وإن محمداً عبده المصطفى.." هذا عطف على أول الكلام: "نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له…." إلى آخره، ثم قال: "وإن محمداً…." إلى آخره، فلابد من اعتقاد هذا، كما نشهد لله بالألوهية، كذلك نشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولذلك فالشهادتان دائماً متلازمتان.(16/32)
"وأن محمداً" هذا اسمه عليه الصلاة والسلام المشهور به، وقد جاء في القرآن: (ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) [الأحزاب:40]، وفي قوله: (وآمنوا بما نُزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) [محمد :2]، وفي قوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه) [الفتح:29]، وجاء أحمد في القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) [الصف:6].
وله أسماء جاءت في السنة، ذكرها ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام".
والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم من واجبات الدين ومن أصول الإسلام، وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "ثلاثة الأصول" : "الأصل الأول: معرفة الله، والثاني: معرفة نبيه، والثالث: معرفة دين الإسلام بالأدلة"، كما يجب عليك معرفة الله، كذلك يجب عليك معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. هذه أصول ثلاثة، وهي التي يسأل عنها الميت إذا وضع في قبره.(16/33)
وقوله: (عبده) فهو عبدالله عز وجل، وليس له من الألوهية شيء، ولا من الربوبية شيء، وإنما هو عبد الله ورسوله، مؤتمر بأوامره، منتهٍ عن نواهيه، مبلغ عن الله عز وجل، وهذا فيه رد على الغلو فيه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هناك من يغلون في الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجعلون له شيئاً من الربوبية أو الألوهية، ويدعونه مع الله، وهذا غلو –والعياذ بالله- كما غلت النصارى في المسيح عيسى ابن مريم، وقالوا إنه ابن الله أو الله أو ثالث ثلاثة. ففي قوله: (عبده المصطفى) فيه ردٌ للغلو، فهو عبد، وكل من في الأرض والسموات عبيد لله عز وجل، قال سبحانه (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) [مريم:93]، فالملائكة عبيد (بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبيا:26،27]، والأنبياء والرسل عبيد كما قال سبحانه في نوح عليه السلام: (كان عبداً شكوراً) [الإسراء:3]، وقال عز وجل: (فكذبوا عبدنا) [القمر:9]، وقال في داود: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) [ص:17]، وقال في سليمان: (نعم العبد إنه أواب) [ص:30]، وقال في أيوب: (واذكر عبدنا أيوب) [ص:41]، وقال في عيسى : (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) [الزخرف: 59]، فإذا كان الأنبياء والرسل والملائكة عبيد لله، وهم أشرف الخلق، فغيرهم من الأولياء والصالحين من باب أولى.
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء، وسماه الله عبداً في قوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة: 23] يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) [الفرقان:1] (سبحان الذي أسرى بعبده) [الإسراء:1]، ومقام العبودية هو أعلى المقامات، ولا شيء أشرف من العبودية لله عز وجل.(16/34)
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"(1) .
ومعنى المصطفى : المختار، من الاصطفاء، وهو الاختيار، قال تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار*إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار*وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)[ص:45،47] المصطفين : جمع مصطفى، وهو المختار، أصله مصتفى، ثم أُبدلت التاء طاء فصارت مصطفى؛ ليسهل النطق بها.
فالمصطفى هو المختار؛ لأن الله سبحانه اختار محمداً عليه الصلاة والسلام للرسالة من بين قومه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار إلا من يعلم أنه يستحق الاختيار، وأنه يقوم بالمهمة؛ لأن هذه المهمة صعبة وعظيمة، فلا يختار الله إلا من هو لها أهل، قال سبحانه : (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام:124]. و (المجتبى) بمعنى المصطفى.
والنبي : من أوحى إليه الله بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أشهر ما قيل في الفرق بين النبي والرسول، ومعنى: أمر بتبليغه، أي : أمر بإلزام الناس وأن يقاتلهم على ما جاء به.
وكذلك النبي، يُوحى إليه ويدعو إلى الله عز وجل، ولكن يتبع من قبله من الأنبياء ويمشي على طريق من قبله، ولا ينفرد بشريعة خاصة، مثل أنبياء بني إسرائيل، جاءوا بالتوراة ودعوا إلى التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام.
و (المرتضى) بمعنى المجتبى والمصطفى، فالمرتضى بمعنى: أن الله ارتضاه.
(42) وأنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين:
هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3445).(16/35)
خاتم الأنبياء، ومعنى (خاتم) الذي لا يأتي بعده نبي، وختام الشيء هو: الذي يُجعل عليه حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فالله ختم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال جل في علاه: (ما كان محمداً أباً أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [الأحزاب:40]، فلا حاجة لمجيء نبي بعده؛ لأن القرآن موجود، والسنة النبوية موجودة، والعلماء الربانيون موجودون، يدعون إلى الله ويبصرون الناس؛ فدين محمد باقٍ إلى قيام الساعة لا يبدل ولا ينسخ ولا يغير ؛ لأن الله سبحانه جعله صالحاً لكل زمان ولكل مكان، أما شرائع الأنبياء السابقين فتكون مؤقتة لأممهم في فترة من الفترات، ثم ينسخ الله تلك الشريعة بشريعة أخرى تتناسب مع الأمة الأخرى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [المائدة:48]. كما قال تعالى: (لكل أجل كتاب) أي لكل كتاب أجل.
فدين الإسلام كامل لا يحتاج بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى رسول، والعلماء ورثة الأنبياء، فمن اعتقد أنه يأتي بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي فهو كافر بالله خارج من الملة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي كذبة يدعون النبوة من بعده، قال عليه الصلاة والسلام: "سيأتي بعدي كذابون ثلاثون، كلهم يدعي أنه نبي، وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي"(1) .
__________
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يُبعث دجّالون كذّابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله " .
…أخرجه البخاري رقم (3609) ومسلم رقم (157/84) من كتاب الفتن.(16/36)
فمن ادعى النبوة أو ادعيت له النبوة ومن اتبعهم، فكلهم كفرة، وقد قاتلهم المسلمون وكفّروهم، وآخر من ادعى النبوة في الوقت الحاضر: القادياني الباكستاني الذي ادّعى النبوة له أتباعه القاديانية، ويُسمون بالأحمدية نسبة إلى اسمه؛ لأن اسمه أحمد القادياني، وقد كفره العلماء وطردوه من البلاد الإسلامية، وكفَّروا أتباعه؛ لأن هذا تكذيب لله ولرسوله، وتكفيرهم بإجماع المسلمين، لم يخالف في هذا أحد.
فلابد للمسلم أن يعتقد أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الأتقياء؛ يعني القدوة الوحيد للأتقياء الذين يتقون الله عز وجل: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) [الأحزاب:21]
أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فيقتدى به إن كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما من خالف الرسول عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الاقتداء به: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) [آل عمران:31]، فلا طريق إلى الله إلا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والاقتداء به.
"وسيد المرسلين" هو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(1) أخبر الأمة بذلك من باب الشكر لله عز وجل، ولتشكر الأمة ربها عز وجل على هذه النعمة: أن جعل رسولها سيد الرسل.
و"سيد" معناه: المقدم والإمام، فهو أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام، وإمامهم ومقدمهم .
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (3624) وأحمد 3/144-145 وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. ويشهد له الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : "أنا سيد القوم يوم القيامة". وبلفظ : "أنا سيد الناس يوم القيامة"
…أخرجه البخاري رقم (3340،4712) ومسلم رقم (194،2278).(16/37)
و"حبيب رب العالمين" هذه العبارة فيها مؤاخذة؛ لأنه لا يكفي قوله: حبيب، بل هو خليل رب العالمين؛ والخلة أفضل من مطلق المحبة؛ فالمحبة درجات، أعلاها الخلة، وهي خالص المحبة، ولم تحصل هذه المرتبة إلا لاثنين من الخلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) [النسا:125]، ونبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر بذلك فقال: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"(1). فلا يقال: حبيب الله؛ لأن هذا يصلح لكل مؤمن، فلا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا ميزة، أما الخلة فلا أحد يلحقه فيها .
(43) وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى:
هذا سبق في معنى أنه خاتم النبيين، فكل دعوى للنبوة بعده فباطله وكفر؛ لأنه لا يأتي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، وعيسى عليه الصلاة والسلام لما ينزل آخر الزمان فإنه لا يأتي على أنه نبي ورسول أو يأتي بشريعة جديدة، إنما يأتي على أنه مجدد لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم بالشريعة الإسلامية.
(44) وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء:
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (532).
…وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله" يعني نفسه صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم رقم (2383) وعند البخاري بلفظ: "ولكن أخوة الإسلام ومودته"(16/38)
كذلك، هذا ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكفي أن نعتقد أنه رسول الله فقط، بل أنه رسول إلى الناس عامة، بل إلى الجن والإنس، قال سبحانه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) [سبأ:28]، وقال له: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) [الأعراف: 158] فرسالته إلى الناس عامة، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فهو رسول للناس عامة، ووجبت طاعته على جميع الخلق، عربهم وعجمهم، وأسودهم وأبيضهم، وإنسهم وجنهم، فكل من بلغته دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وجب أن يطيعه وأن يتبعه، فمن أقر أنه رسول الله للعرب خاصة، كما يقوله طائفة من النصارى، أنه رسول الله للعرب خاصة، وينكرون نبوته لغيرهم، فهذا كفر بالله عز وجل، وتكذيب لله عز وجل ولرسوله، فالله يقول: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) [سبأ:28]، ويقول سبحانه : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) [الفرقان:1] فرسالته عالمية .
وقال عليه الصلاة والسلام: "كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" (1). وكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مرسل إلى أهل الأرض كلهم، وأمر بالجهاد حتى يدخل الناس في الإسلام، فدل على عموم رسالته عليه الصلاة والسلام، فيجب اعتقاد هذا.
فتجب في حقه هذه الاعتقادات:
أولاً: أنه عبد الله ورسوله.
ثانياً: أنه خاتم النبيين لا نبي بعده .
ثالثاً: أن رسالته عامة للإنس والجن.
ودليل عمومها للإنس: كما سبق من الآيات ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) أخرجه البخاري واللفظ له رقم (335،438) ومسلم بلفظ : "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" رقم (521)(16/39)
وأما عمومها للجن: فلقوله تعالى : (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين*قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم*يا قومنا أجيبوا داعي الله) [الأحقاف:29،31] يعنون : محمداً عليه الصلاة والسلام.
وفي قوله تعالى : (قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءاناً عجباً*يهدي إلى الرشد فآمنا به) [الجن:1،2]، فدل على عموم رسالته للجن، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث لأهل الأرض كلهم، إنسهم وجنهم، فمن آمن به دخل الجنة، ومن لم يؤمن به دخل النار، من الإنس والجن. وقوله: (وبالنور والضياء) هما بمعنى واحد وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهما. قال تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً*وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) [الأحزاب: 45،46].
(45) وأن القرآن كلام الله :
بعد أن تؤمن بالله عز وجل، وتؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، تؤمن أن القرآن كلام الله؛ لأن هذا هو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن، وهذا القرآن ليس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا من كلام جبريل، إنما هو كلام الله عز وجل، تكلم الله به، وتلقاه جبريل من الله، وتلقاه النبي عليه الصلاة والسلام من جبريل عليه السلام، وتلقته الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم .
فهو كلام الله، منه بدأ سبحانه، لم يأخذه جبريل من اللوح المحفوظ كما يقوله أهل الضلال، ولم يكن من كلام جبريل ولا محمد، إنما هو من كلام رب العالمين. وأما جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام فهما مبلغان عن الله عز وجل، فالكلام إنما يقال ويضاف لمن قاله مبتدأ، لا من قاله مبلغاً ومؤدياً.(16/40)
فمن قال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، أو : إن الله خلقه في شيء وأخذه جبريل من ذلك الشيء، فهو كافر بالله عز وجل كفراً مخرجاً من الملة، كما تقوله الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم، فهو كلام الله، حروفه ومعانيه، تكلم الله به كيف شاء، فنحن نصف الله بأنه يتكلم، والكلام من صفاته الفعلية، والكيفية التي تكلم بها نقول: الله أعلم بها، هذه كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها، فالمعنى معروف، وأما الكيفية فهي مجهولة لنا.
(46) منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً:
أي : أن القرآن نزل من الله، تكلم الله به وأنزله، لم ينزل من غيره ولم يبدأ من غيره، ليس كما يقولون: إنه بدأ من جبريل، أو من اللوح، أو من الهواء، إنما بدايته من الله، وسمعه جبريل وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحياً، والنبي عليه الصلاة والسلام بلغه للناس، ولو كان هذا القرآن من كلام البشر لاستطاع أحد من الناس أن يأتي بسورة من مثله، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه من كلام الله عز وجل، قال تعالى : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]، وقال سبحانه وتعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات) [هود: 13] فعجزهم الله بذلك، مع أنهم عرب فصحاء، والقرآن بلغة العرب، وبالحروف التي يتكلمون بها، وهم يحرصون على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان باستطاعتهم أن يعارضوا هذا القرآن، لما ادخروا وسعاً في ذلك، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(47) وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً:
فالمؤمنون بالله ورسوله يصدقون بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن الله.(16/41)
وأما قول الله عز وجل: (إنه لقول رسول كريم*ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين) [التكوير: 19،20] فالمراد بإسناده إلى جبريل هو من باب التبليغ؛ لأنه لا يمكن أن يكون القرآن من كلام الله ومن كلام جبريل، الكلام لا يكون إلا من واحد، فلا يمكن وصفه بأنه كلام أكثر من واحد، ونسبته إلى الله حقيقية، وأما نسبته لجبريل فمن باب التبليغ. وفي الآية الأخرى: (إنه لقول رسول كريم*وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) [الحاقة:40،41] يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم، فالإضافة إليه إضافة تبليغ. وقد أضافة سبحانه تارة إلى نفسه وتارة إلى جبريل وتارة إلى محمداً، والكلام الواحد لا يمكن أن يتكلم به أكثر من واحد. فتكون إضافة إلى الله إضافة ابتداء وهو كلامه وإضافته إلى جبريل ومحمد إضافة تبليغ.
(48) وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة:
ليس بالمجاز كما يقوله الجهمية والمعتزلة، هم يقولون: كلام الله، ولكن نسبته إلى الله مجاز؛ لأن الله خالقه، فإضافته إلى الله إضافة مخلوق إلى خالقه.
فنقول: كذبتم؛ لأن الإضافة إلى الله على نوعين: إضافة معانٍ، وإضافة أعيان:
النوع الأول: إضافة المعاني إلى الله مثل الكلام، فإضافة المعاني إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، فالكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة إضافة صفة إلى موصوف؛ لأن هذه معانٍ لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بالموصوف بها.
النوع الثاني: إضافة أعيان، مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله. هذه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفائدة الإضافة هنا التشريف والتكريم.
(49) ليس بمخلوق ككلام البرية:
أي كلام الله ليس بمخلوق. رداً على الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله عندهم لا يتكلم، على منهجهم في نفي الصفات كلها، فراراً –بزعمهم- من التشبيه؛ لأنهم لم يفرقوا بين صفات الخالق وصفات المخلوق ففروا من التشبيه الموهوم ووقعوا في التعطيل المذموم وهو شر منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.(16/42)
ولو أنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، وعرفوا أن هناك فرقاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق، لأصابوا عين الحق واستراحوا وأراحوا الناس، ولكنهم في ضلال.
(50) فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر:
فمن سمع كلام الله وزعم أنه كلام البشر فقد كفر؛ لأنه جحد كلام الله عز وجل، فإذا لم يكن لله كلام ينزله على عباده فبم تقوم الحجة عليهم؟ فقصدهم بقولهم هذا هدم الشرائع، فإذا كان ليس في الكون كلام لله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا القرآن، فمعنى ذلك أنه ما قامت على الناس الحجة من الله، وهذا من أعظم الكفر وأعظم الضلال.
(51) وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: (سأصليه سقر) [المدثر:26].
وقد ذم الله عز وجل من قال هذه المقالة، فجعل القرآن كلام البشر، كما قال الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو من أكابر كفار مكة ومن عظمائهم وكانوا يسمونه: زهرة مكة؛ لشرفه فيهم، فلما سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم أعجبه وعلم أنه ليس من كلام البشر، ومدح القرآن فقال: ليس بالشعر وليس بالسحر، أنا أعرف ضروب الشعر، وأعرف أنواع السحر، وأعرف الكهانة، وأعرف وأعرف…. فليس القرآن من هذه الأمور. فعند ذلك توجه إليه قومه الكفار بالتوبيخ والتعنيف؛ لأن معنى هذا أنه اعترف للرسول عليه الصلاة والسلام بالرسالة، فلما رأى ذلك انحرف –والعياذ بالله- بالكلام فقال: (إن هذا إلا قول البشر) [المدثر: 25] فأنزل الله عز وجل : (إنه فكر وقدر*فقتل كيف قدر*ثم قتل كيف قدر*ثم نظر*ثم عبس وبسر* ثم أدبر واستكبر*فقال إن هذا إلا سحر يؤثر*إن هذا إلا قول البشر) [المدثر:18،25] قال عز وجل: (سأصليه سقر) [المدثر:26]، وهي النار.
(52) فلما أوعد الله بسقر لمن قال : (إن هذا إلا قول البشر) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر:(16/43)
فمن قال: إن القرآن ليس كلام الله وإنه كلام البشر، أو الملك، فهو مثل الوليد بن المغيرة، فما الفرق بين هذا وهذا إلا أنه ادعى الإسلام والوليد لم يدع الإسلام؟ فدعوى الإسلام لا تكفي، فإنه إن كفر بالقرآن لم ينفعه ادعاء الإسلام؛ لأن هذا ردة –والعياذ بالله- . فتبين بهذا أنه لابد من الاعتراف بأن القرآن كلام الله حقيقة.
(53) ولا يشبه قول البشر:
لو كان الكلام من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلا لوم على الوليد ابن المغيرة إن قال إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتوعده الله بهذا الوعيد الشديد؟ فدل على أنه قال مقاله عظيمة وفظيعة –حيث نسب القرآن لغير الله، وكل من سار على هذا المذهب وهذا المنهج فإنه مثل الوليد بن المغيرة، يكون في النار خالداً فيها.
(54) ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر:
يعني: من شبه الله بمعنىً من معاني البشر فقد كفر لأنه تنقص الله عز وجل.
(55) فمن أبصر هذا اعتبر:
لأن هناك فرقاً واضحاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق، وإن اشتركت في الاسم والمعنى، ولكن تختلف في الحقيقة وتختلف في الواقع والخارج، فلا تشابه بين كلام الله وكلام البشر، ولا تشابه بين سمع الله وسمع البشر، ولا تشابه بين بصر الله وبصر البشر، ولا علم الله وعلم البشر، ولا مشيئة وإرادة الله ومشيئة وإرادة البشر. ففرق بين صفات الله وصفات المخلوق، فمن لم يفرق بينهما صار كافراً.
(56) وعن مثل قول الكفار انزجر:
من تدبر الآيات القرآنية التي أنزلها الله في الوليد بن المغيرة، من تدبرها عرف بطلان أقوال هذه الفرق الضالة في كلام الله عز وجل.
(57) وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
وصفاته من الكلام وغيره ليست كصفات البشر للفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق.
(58) والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية:(16/44)
الرؤية: أي : رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، فإن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة، يرونه عياناً بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث الصحيحة المتواترة عنه عليه الصلاة والسلام(1)، ولذلك قال المصنف: الرؤية حق، أي : ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة من السلف والخلف، ولم يخالف فيها إلا المبتدعة وأصحاب المذاهب المنحرفة.
فالمؤمنون يرون ربهم سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: (وجوه يومئذٍ ناضرة*إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22،23]، وهي وجوه المؤمنين (ناضره) يعني من النضرة وهي: البهاء والحسن (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) [المطففين:24] وأما (ناظرة) فمعناها: المعاينة بالأبصار، تقول: نظرت إلى كذا، أي : أبصرته، فالنظر له استعمالات في كتاب الله عز وجل، إذا عُدّي بـ(إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت*وإلى السماء كيف رُفعت…) [الغاشية:17،18]، أي : ألم ينظروا بأبصارهم إلى هذه المخلوقات العجيبة الدالة على قدرة الله عز وجل. وفي هذه الآية : (إلى ربها ناظرة) [القيامة:22،23] معداة بـ(إلى).
__________
(1) فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة –يعني البدر- فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته…" .
…أخرجه البخاري رقم (554) ومسلم رقم (633).(16/45)
وإذا عُدي النظر بنفسه وبدون واسطة فمعناه التوقف والانتظار: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) [الحديد:13]، (انظرونا) أي : انتظرونا من أجل أن نستضيء بنوركم؛ لأن المنافقين ينطفئ نورهم والعياذ بالله، فيبقون في ظلمة، فيطلبون من المؤمنين أن ينتظروهم حتى يقتبسوا من نورهم. وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) [البقر:210] أي : ما ينتظرون إلا مجيء الرب يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده.
وإذا عُدي النظر بفي فمعناه التفكر والاعتبار، كما قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) [الأعراف:185]، أي : يتفكروا في مخلوقات الله العلوية والسفلية، ويستدلون بها على قدرة الله الخالق سبحانه وتعالى واستحقاقه للعبادة.
الحاصل: أن النظر هنا عُدي بـ(إلى) ومعناه: الرؤية والمعاينة.
وقال سبحانه وتعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) [يونس:26] فسر النبي صلى الله عليه وسلم (الحسنى) بأنها الجنة، وفسر (الزيادة) بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، وهذا في صحيح مسلم(1).
وقال تعالى: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) [ق:35] المزيد: هو النظر إلى وجه الله الكريم.
وقال تعالى عن الكفار: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [المطففين:15] فإذا كان الكفار محجوبون عن الله، أي : لا يرونه؛ لأنهم كفروا به في الدنيا فهم حجوبون عن النظر إليه يوم القيامة، وهذا أعظم حرمان وأعظم عذاب، والعياذ بالله، فدلت الآية على أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله يوم القيامة، وأنهم يرونه بالنظر إليه في الآخرة؛ لأنهم آمنوا به في الدنيا ولم يروه، وإنما استدلوا عليه سبحانه بآياته ورسالاته، فالله أكرمهم بالنظر إليه يوم القيامة.
والنظر إلى وجه الله عز وجل أعظم نعيم في الجنة.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذه بعض أدلتهم من القرآن
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (181) والترمذي رقم (2557) .(16/46)
وأما أدلتهم من السنة فكثيرة جداً بلغت حد التواتر، كما قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، وساق الأحاديث الواردة في الرؤية وقد بلغت حد التواتر.
منها: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تُضامون في رؤيته –أو: لا تَضامُّون في رؤيته-"(1) . يعني : لا تزدحمون على رؤية الله عز وجل؛ لأن كل واحد يرى الرب وهو في مكانه من غير زحام كما أن الناس يرون الشمس والقمر من غير زحام؛ لأن العادة إذا كان الشيء في الأرض وخفي يزدحمون على رؤيته ولكن إذا كان الشيء مرتفعاً كالشمس والقمر فإنهم لا يزدحمون على رؤيته ، كلٌ يراه وهو في مكانه، إذا كان هذا في المخلوق الشمس والقمر، فكيف في الخالق سبحانه وتعالى؟
ولم ينكر الرؤية إلا أهل البدع كالجهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية، يقولون: يلزم من إثبات الرؤية أن يكون الله في جهة، والله عندهم ليس في جهة، وهو عندهم لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا يمنه ولا يسرة، ليس في جهة، وهذا معناه أنه معدوم، تعالى الله عما يقولون ، فنفوا الرؤية من أجل هذا الرأي الباطل.
وأما الأشاعرة: لما لم يمكنهم إنكار الأدلة من الكتاب والسنة أثبوا الرؤية وقالوا: يُرى ولكن ليس في جهة، وهذا من التناقض العجيب! ليس هناك شيء يُرى وهو ليس في جهة، ولذلك رد عليهم المعتزلة؛ لأن هذا من المستحيل. وأهل السنة يقولون: يُرى سبحانه وتعالى وهو في جهة العلو من فوقهم، فالجهة إن أريد بها الجهة المخلوقة فالله ليس في جهة؛ لأنه ليس بحال في خلقه سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (554،806،7434) ومسلم رقم (182) بلفظ: "تضارون" .(16/47)
وإن أريد بها العلو فوق المخلوقات فهذا ثابت لله عز وجل، فالله في العلو فوق السماوات، فالجهة لم يرد إثباتها أو نفيها في كتاب الله، ولكن يقال فيها على التفصيل السابق.
ومعنى: "بغير إحاطة ولا كيفية" أنهم لا يحيطون بالله عز وجل، ويرونه سبحانه بغير إحاطة، والله عظيم لا يمكن الإحاطة به، قال سبحانه: (ولا يحيطون به علماً) [طه:110]، وقال جل وعلا: (لا تدركه الأبصار) [الأنعام:103] يعني : لا تحيط به، وليس معناه: لا تراه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل: لا تراه الأبصار، إنما قال: (لا تدركه الأبصار) فالإدراك شيء والرؤية شيء آخر، فهي تراه سبحانه بدون إحاطة، وفي هذا رد على من استدل بهذه الآية على نفي الرؤية وقال: الرؤية لا تمكن ؛ لأن الله قال: (لا تدركه الأبصار) . فنقول لهم: أنتم لا تعرفون معنى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) .
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) ، معناها: لا تحيط به، وليس معناه: لا تراه، ولم يقل سبحانه: لا تراه الأبصار.
واستدلوا أيضاً فقالوا: موسى عليه السلام قال : (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) [الأعراف:143] هذا دليل على نفي الرؤية.
نقول لهم: هذا في الدنيا، لأن موسى سأل ذلك في الدنيا، ولا أحد يرى الله في الدنيا لا الأنبياء ولا غيرهم، وأما في الآخرة فيرى المؤمنون ربهم، وحال الدنيا ليست كحال الآخرة، فالناس في الدنيا ضعاف في أجسامهم وفي مداركهم، لا تستطيع أن ترى الله عز وجل، وأما في الآخرة فإن الله يعطيهم قوة يستطيعون بها أن يروا ربهم –جل وعلا- إكراماً لهم.
ولهذا لما سأل موسى ربه في هذه الآية: (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) [الأعراف:143] الجبل اندك وصار تراباً، والجبل أصم صلب، فكيف بالمخلوق المكون من لحم ودم وعظام؟ فهو لا يستطيع رؤية الله في الدنيا.(16/48)
وسؤال موسى رؤية الله دليل على جواز الرؤية وإمكانها؛ لأن موسى لا يسأل ربه شيئاً لا يجوز، إنما سأله شيئاً يجوز، ولكن لا يكون هذا في الدنيا، فالله سبحانه قال: (لن تراني) ولم يقل: إني لا أرى.
فالله يُرى في الآخرة(1)، وأولى الناس بهذه الرؤية الأنبياء.
وقوله: "ولا كيفية" أي : لا يقال: كيف يرون الله؟ لأن هذا كسائر صفات الله عز وجل لا نعرف كيفيتها، فنحن نؤمن به ونعرف معناها ونثبتها، ولكن الكيفية مجهولة ولا نعرفها، فالله أعلم بها سبحانه.
(59) كما نطق به كتاب ربنا: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة):
هذا صريح أنه نظر إلى الله بالأبصار حيث عُدّي بإلى، فمعناه الرؤية بالأبصار، قالت المعتزلة: (إلى ربها) (إلى) جمع بمعنى: نِعَم. أي إلى نِعَم ربها ناظرة. وهذا تخريف يضحك منه العقلاء، لأن الحرف لا يحول إلى جمع.
(60) وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه:
أي تفسير (إلى ربها ناظرة) [القيامة: 23] أي : على ما أراده الله جل وعلا، وهو المعاينة بالأبصار، لا على ما أراده المبتدعة.
(61) وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال:
__________
(1) فعن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن" .
…أخرجه البخاري رقم (4878، 4880) ومسلم رقم (180).(16/49)
كل ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام في إثبات الرؤية فهو حق على حقيقته، مثل ما جاء في القرآن سواء، يجب الإيمان به؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله (وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى) [النجم:3،4]، ويسمى بالوحي الثاني، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة متواترة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، فيجب الإيمان بذلك من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.
(62) ومعناه على ما أراد:
أي ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المبتدعة والمحرفة.
(63) لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا:
كما يفعله الجهمية والمعتزلة ومن تتلمذ عليهم وأخذ برأيهم من التأويل الباطل.
بل الواجب علينا أن نتبع الكتاب والسنة، ولا نتدخل بعقولنا وأفكارنا ونحكمها على ما جاء في الكتاب والسنة، الواجب أن الكتاب والسنة يحكمان على العقول والأفكار(1).
(64) فإنه ما سَلِمَ في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
ومعنى (سلَّم) أي : قَبِلَ ما جاء عن الله ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وآمن به على ما جاء، من غير أن يتدخل بتحريفه وتأويله، هذا معنى التسليم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "آمنت بالله وبما جاء في كتاب الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي : لا على الهوى والتحريف وأقوال الناس(2)
__________
(1) فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصم"
…أخرجه البخاري رقم (2457) ومسلم رقم (2668) .
(2) قال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي:
…نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلالُ
…وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
…ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
…انظر: طبقات الشافعية للسبكي (8/96) .(16/50)
.
من سَلَّم وانقاد وردّ ما اشتبه عليه، ولم يعرف معناه أول لم يعرف كيفيته، رده إلى عالمه، وهو الله، سبحانه وتعالى، فالذي يشكل عليه شيء يرجع إلى أهل العلم وفوق كل ذي علم عليم، فإن لم يكن عند العلماء علم بهذا فإنه يجب تفويضه إلى الله جل وعلا.
(65) ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه:
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأل أصحابه عن بعض الأشياء التي لا يعرفونها قالوا: الله ورسوله أعلم. فلا يدخلون في المتاهات ويتخرصون.
فإن وجدت عالماً موثوقاً يبين لك فالحمد لله، وإلا فابق على تسليمك واعتقادك أنه حق وأن له معنى، ولكن لم يتبين لك.
(66) ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام:
لا يثبت الإسلام الصحيح إلا بالتسليم لله عز وجل، قال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء:65].
والاستسلام هو: الانقياد والطاعة لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
(67) فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان:
من لم يؤمن بما حجب عنه علمه، مثل علم الكيفية، فالواجب علينا الإيمان بها وردها، أي : رد علمها إلى الله عز وجل (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً) [البقرة:26].(16/51)
وقال عز وجل: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران:7]، حجب الله علمه عن الخلق فلا تتعب نفسك، ثم قال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا) [آل عمران:7]. يسلّمون ويستسلمون، ولا يمنعهم عدم معرفة معناه من الإيمان به والتسليم له. أو أن المعنى أنهم يردون المتشابه من كتاب الله إلى المحكم منه ليفسروه ويتضح معناه ويقولون: (كل من عند ربنا) .
(68) فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق التكذيب، والإقرار والإنكار:
من لم يُسلِّم لله ولا إلى الرسول، فإنه يحجب عن معرفة الله ومعرفة الحق، فيكون في متاهات وضلالات(1).
وهذه حال المنافقين الذين يتذبذبون، تارة مع المسلمين وتارة مع المنافقين، وتارة يصدقون وتارة يكذبون (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) [البقر:20]. أما أهل الإيمان فما عرفوا قالوا به، وما لم يعرفوا وكلوا علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكلفون أنفسهم شيئاً لا يعرفونه، أو يقولون على الله ما لا يعلمون –فالقول على الله بغير علم هو عديل الشرك، بل هو أعظم من الشرك، قال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:33]. فجعل القول على الله بغير علم فوق الشرك بالله، مما يدل على خطورة القول على الله بغير علم.
__________
(1) فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. أخرجه مسلم رقم (2670).
…قال ابن الأثير في النهاية (5/74): "هم المتعمقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النّطع، وهو الغار الأعلى على الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً" أهـ.(16/52)
(69) موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً:
هذه حالة أهل التردد والنفاق، دائماً شاكين ، دائماً مترددين ومتذبذبين؛ لأنه ما ثبتت قدم أحدهم في الإسلام ولم يسلم لله ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما ذكر الله عن المنافقين أنهم (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء:143].، (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون*الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) [البقرة:14،15].
(70) ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم:
دار السلام هي الجنة، فلا يصح الإيمان بالرؤية أي رؤية الله فيها لمن يتوهم ويتأول فيها وينفي حقيقتها، ولم يسلم لله ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتدخل فيها بفكره وفهمه.
(71) إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يُضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم :
كل هذا تأكيد لما سبق في أنه يجب التسليم لما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الرؤية، لا نتدخل فيها كما تدخل أهل البدع، بل نثبتها كما جاءت ونؤمن بها، ونثبت أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة قبل دخول الجنة، وبعد دخولهم الجنة يرونه أيضاً، إكراماً لهم حيث آمنوا به في الدنيا ولم يروه.
(72) وعليه دين المسلمين:
وهذا الأمر عليه دين المسلمين، وهو الإيمان والتسليم لما جاء عن الله ورسوله، وعدم التدخل في ذلك بالأفهام والأوهام والتأويلات الباطلة، والتحريفات الضالة، هذا دين الإسلام، بخلاف غير المسلمين، فإنهم يتدخلون فيما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
(73) ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه:(16/53)
لابد كما سبق من الوسط بين التعطيل وبين التشبيه، فلا يبالغ ويغلو في تنزيه الله حتى يعطل الله من صفاته كما فعل المعطلة، ولا يُثبت إثباتاً فيه غلو حتى يشبه الله بخلقه، بل يعتدل فيُثبت لله ما ثبته لنفسه له رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تكييف، هذا هو الصراط المستقيم المعتدل.
فالله سبحانه وتعالى لا شبيه له، ولا مثيل ولا عديل له، سبحانه وتعالى.
(74) فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية:
صفات الوحدانية بأن الله واحد لا شريك له، لا في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، فهو واحد في كل هذه الحقائق.
(75) منعوت بنعوت الفردانية . ليس في معناه أحد من البرية:
منعوت، أي: موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، بل أسماؤه وصفاته خاصة به ولائقة به، وصفات المخلوقين وأسماء المخلوقين خاصة بهم ولائقة بهم، وبهذا يتضح لك الحق والصواب، وتبرأ من طريقة المعطلة ومن طريقة المشبهة.
(76) وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات:
هذا فيه إجمال: إن كان يريد الحدود المخلوقة فالله منزه عن الحدود والحلول في المخلوقات، وإن كان يريد بالحدود: الحدود غير المخلوقة، وهي جهة العلو، فهذا ثابت لله جل وعلا وتعالى، فالله لا ينزه عن العلو، لأنه حق، فليس هذا من باب الحدود ولا من باب الجهات المخلوقة.
والغايات فيها إجمال أيضاً، فهي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فإن كان المراد بالغاية: الحكمة من خلق المخلوقات، وأنه خلقها لحكمة، فهذا حق، ولكن يقال: حكمة، لا يقال: غاية، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56].
وإن أريد بالغاية: الحاجة إلى المخلوقات، فنعم، هذا نفي صحيح، فالله عز وجل لم يخلق الخلق لحاجته وفقره إليهم، فإنه غني عن العالمين.(16/54)
(والأركان، والأعضاء، والأدوات) فيها إجمال أيضاً، إن أُريد بالأركان والأعضاء والأدوات: الصفات الذاتية مثل الوجه، واليدين، فهذا حق، ونفيه باطل. وإن أُريد نفي الأعضاء التي تشابه أعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين فالله سبحانه منزه عن ذلك، فالأبعاض والأعضاء فالحاصل أن هذا فيه تفصيل:
أولاً: إذا أُريد بذلك نفي الصفات الذاتية عن الله تعالى من الوجه واليدين، وما ثبت له سبحانه وتعالى من صفاته الذاتية، فهذا باطل.
ثانياً: أما إن أُريد بذلك أن الله منزه عن مشابهة أبعاض المخلوقين وأعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين، فنعم، الله منزه عن ذلك؛ لأنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته.
الحاصل: أن هذه الألفاظ التي ساقها المصنف فيها إجمال ولكن يحمل كلامه على الحق؛ لأنه –رحمه الله تعالى- من أهل السنة والجماعة، ولأنه من أئمة المحدثين، فلا يمكن أن يقصد المعاني السيئة، ولكنه يقصد المعاني الصحيحة،وليته فصّل ذلك وبيّنه ولم يجمل هذا الإجمال .
(77) لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
نقول: هذا فيه إجمال، إن أُريد الجهات المخلوقة، فالله منزّه عن ذلك، لا يحويه شيء من مخلوقاته، وإن أُريد جهة العلو وأنه فوق المخلوقات كلها، فهذا حق ونفيه باطل، ولعل قصد المؤلف بالجهات الست، أي: الجهات المخلوقة؛ لا جهة العلو لأنه مثبت للعلو –رحمه الله-، ومثبت للاستواء.
(78) والمعراج حق، وقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
معنى الإسراء هو السير ليلاً، فقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة.
أسرى به جبريل بأمر من الله تعالى قال تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا) [الإسراء:1]..
وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه المسافة كانت تقطع في شهر أو أكثر، وقطعها النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة.(16/55)
وأما المعراج: فهو آله الصعود وعرج، يعني صعد (تعرج الملائكة والروح إليه) [المعارج:4]. يعني : تصعد، فالعروج معناه: الصعود، والمعراج آلة الصعود التي يصعد بها.
وكلاهما ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم (1).
فالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأما المعراج فمن الأرض إلى السماء، وكل هذا حصل في ليلة واحدة، أُسري به إلى بيت المقدس وصلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء وجاوز السبع الطباق، وأراه الله من آياته ما أراه من آياته الكبرى، ثم نزل إلى الأرض، ثم جاء به جبريل إلى المكان الذي أُسري به منه في ليلة واحدة.
فالإسراء مذكور في سورة الإسراء، والمعراج مذكور في سورة النجم (والنجم إذا هوى*ما ضل صاحبكم وما غوى*وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى) [النجم:1،5] يعني : جبريل (ذو مرة فاستوى*وهو بالأفق الأعلى) [النجم: 6،7] هذا العروج، (ثم دنا) من ربه سبحانه وتعالى أو أن جبريل دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى) [النجم:8،10].
فالإسراء والمعراج حق، ومن أنكرهما واستبعدهما فهو كافر بالله عز وجل، ومن تأولهما فهو ضال، ولم ينكره إلا المشركون، فمن يقول: أُسري بروحه دون جسده، أو كان ذلك مناماً لا يقظة، فهذا ضلال؛ لأن الله قال: (أسرى بعبده) والعبد اسم للروح والبدن، لا يقال للروح إنها عبد، وكان الإسراء في حال اليقظة ولم يكن مناماً؛ لأن المنام ليس فيه عبرة، كل الناس يرون الرؤيا ويرون عجائب، وليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(79) وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء :
عرج بشخصه، رد على الذين يقولون: عرج بروحه، بل عرج بشخصه –والشخص اسم للروح والجسم، والله يقول: (أسرى بعبده) .
(80) ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء :
هذا المعراج إلى السماء
__________
(1) حديث الإسراء والمعراج أخرجه البخاري رقم (3207،7517) ومسلم رقم (162).(16/56)
(81) وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) :
أوحى الله إليه بذلك المكان ما أوحى ، وكلمه الله سبحانه ولم ير الله؛ لأن الله لا يُرى في الدنيا .
هذا المعراج المذكور في سورة النجم .
(82) فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى:
هذا من حقوقه عليه الصلاة والسلام: أن يصلى عليه ويسلم عند ذكره (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) [الأحزاب:56].
ولما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وأخبر المشركين بهذه الحادثة اشتد كفرهم وتكذيبهم بهذه المناسبة؛ من أجل أن يشوهوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقولون: نحن نمشي إلى فلسطين مدة شهر فأكثر، وهو يقول: في ليلة واحدة ! فارتد بعض ضعاف الإيمان بسبب هذه الحادثة، وأما أهل الإيمان الصحيح فثبتوا وصدقوا، ولهذا لما قالوا لأبي بكر رضي الله عنه: أما ترى صاحبك كيف يقول؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: إنه يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة واحدة، قال: فإن كان قاله فهو كما قال. لأنه لا ينطق عن الهوى. وقال: أنا أصدقه بخبر السماء –أي الوحي- أفلا أصدقه في هذا!؟ هذا هو الإيمان الثابت الراسخ الذي لا يتزعزع.
(83) والحوض الذي أكرمه الله تعالى به –غياثاً لأمته- حق:
من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة ما صح فيه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يوم القيامة، وما يحدث في يوم القيامة من أمور، فمن ذلك :
الحوض: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن له حوضاً(1)
__________
(1) فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" .
…أخرجه البخاري رقم (6580) ومسلم رقم (2303) .(16/57)
في يوم القيامة في المحشر يرده أتباعه الذين آمنوا به واتبعوه، فيشربون منه، فإذا شربوا منه شربة واحدة لم يظمؤوا بعدها أبداً، وذلك لأن يوم القيامة يوم شديد وعصيب وفيه حر شديد.
فيحصل الظمأ الشديد، فجعل الله هذا الحوض غياثاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يغيثهم به، ومعلوم أن الغيث الذي ينزله الله من السماء تحيا به الأرض وتحيا به النفوس، فكذلك الحوض فإنه غياثٌ يغيث الله به العباد عند شدة حاجتهم إلى الماء .
والحوض هو مجمع الماء، وقد وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، وأن من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل(1).
__________
(1) فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبداً". أخرجه البخاري رقم (6579) ومسلم رقم (2292) .(16/58)
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يرده أقوامٌ ثم يذادون ويمنعون من الشرب منه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "يارب، أمتي، أمتي" فيقول الله عز وجل : "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فيقول عليه الصلاة والسلام: "سُحقاً وبُعداً لمن بدّل وغير" (1)، ويمنع من وروده أهل البدع المضلة المخالفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كفروا وارتدوا على أعقابهم، تاركين السنة، وذاهبين بأهوائهم وآرائهم المذاهب المنحرفة، هؤلاء يمنعون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بدلوا وغيروا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرده إلا من كان متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، وبعض العلماء يرى أن الكوثر المذكور في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) [الكوثر:1] هو الحوض، وبعض العلماء يرى أن معنى الكوثر: الخير الكثير، ولا شك أن الحوض يدخل في هذا الخير الكثير؛ لأنه خير لهذه الأمة(2)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6582، 6584،7051) ، ومسلم رقم (2291، 2304).
(2) فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه أخرجه البخاري رقم (4966، 6578) .
…وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أنزلت عليّ آنفاً سورة" فقرأ: (إنا أعطيناك الكوثر) ثم قال: "أتدرون ما الكوثر؟" فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة…"
…أخرجه مسلم رقم (400) .(16/59)
، فهذا هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان به واعتقاده، وأن يتمسك الإنسان بالسنة، حتى يرد هذا الحوض، ولا يُردّ عنه يوم القيامة.
(84) والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما رُوي في الأخبار:
الشفاعة أيضاً من مسائل العقيدة المهمة(1)؛ لأنه قد ضل في إثباتها أناس، وغلا في إثباتها أناس، وتوسط فيها أناس.
فالشفاعة يوم القيامة الناس فيها على ثلاثة أقسام:
قوم غلوا في إثباتها حتى طلبوها من الأموات ومن القبور ومن الأصنام والأشجار والأحجار (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس:18]، (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر:3].
وطائفة غلت في نفي الشفاعة كالمعتزلة والخوارج، فإنهم نفوا الشفاعة في أهل الكبائر، وخالفوا ما تواترت به الأدلة من الكتاب والسنة في إثبات الشفاعة.
وأهل السنة والجماعة توسطوا فأثبتوا الشفاعة على الوجه الذي ذكره الله ورسوله، وآمنوا بها من غير إفراط ولا تفريط.
والشفاعة في اللغة مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، فالوتر هو الفرد الواحد. والشفع هو أكثر من واحد، اثنين أو أربعة أو ستة، وهو ما يسمى بالعدد الزوجي.
وشرعاً: الوساطة في قضاء الحاجات، وساطة بين من عنده الحاجة وصاحب الحاجة، وهي على قسمين: شفاعة عند الله، وشفاعة عند الخلق.
فالشفاعة عند الخلق على قسمين:
__________
(1) حديث الشفاعة أخرجه البخاري رقم (3340، 4712، 7510) ومسلم رقم (193، 194). وفيه: "ائتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأسجد تحت العرش فيقال : يا محمد أرفع رأسك واشفع تشفع وسل تعطه".(16/60)
شفاعة حسنة، وهي الأمور الحسنة النافعة المباحة، تتوسط عند من عنده حاجات الناس من أجل أن يقضيها لهم، قال سبحانه: (من يشفع شفاعةً حسنة يكن له نصيب منها) [النساء:85]، وقال عليه الصلاة والسلام: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"(1). هذه شفاعة حسنة وفيها أجر؛ لأن فيها نفعاً للمسلمين في قضاء حاجاتهم وحصولهم على مطلوبهم الذي فيه نفع لهم، وليس فيها تعدّ على أحد أو ظلمٌ لأحد .
والقسم الثاني: شفاعة سيئة، وهي التوسط في أمور محرمة، كالشفاعة في إسقاط الحدود إذا وجبت، وهذا يدخل فيمن لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لعن الله من آوى محدثاً"(2). والشفاعة أيضاً في أخذ حقوق الآخرين وإعطائها لغير مستحقها، قال تعالى: (ومن يشفع شفعة سيئة يكن له كفلٌ منها) [النساء:85].
أما الشفاعة عند الله فليست كالشفاعة عند المخلوق، فالشفاعة عند الخالق: أن يكرم الله جل وعلا بعض عباده في أن يدعو لأحد المسلمين المستحقين للعذاب بسبب كبيرة ارتكبها، فيشفع عنده الشافع في أن يعفو عنه ولا يعذبه؛ لأنه مؤمن موحد، فيشفع الشافع عند الله جل وعلا بأن يعفو عنه، أو فيمن دخل النار في معصية فيشفع الشافع عند الله في أن يخرج ويرفع عنه العذاب، وهي ما تسمى بالشفاعة في أهل الكبائر.
لكن الشفاعة عند الله يشترط لها شرطان:
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1432) ومسلم رقم (2627).
(2) فعن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل…"
…أخرجه البخاري رقم (1870) ومسلم رقم (1370).(16/61)
الشرط الأول: أن تكون بإذن الله، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذن، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، أما من قبل أن يأذن فلا أحد يتقدم إلى الله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255]، وليس كالمخلوق الذي يتقدم الناس للشفاعة عنده وإن لم يأذن، فالله جل وعلا لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد وأهل الإيمان، ممن يرضى الله عنهم قولهم وعملهم، (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء:28]، أي: رضي الله قوله وعمله، وجاء الشرطان في قوله تعالى: (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم:26]. أن يأذن الله هذا الشرط الأول، ويرضى هذا الشرط الثاني.
أما الكافر فإنه لا تنفعه الشفاعة (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر:48]، (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) [غافر:18] فالشفاعة في القرآن شفاعتان؛ شفاعة منفية وهي التي انتفت شروطها، وشفاعة مثبتة وهي التي تحققت شروطها.
فالكافر لا تنفعه الشفاعة؛ لو شفع فيه أهل السماوات وأهل الأرض ما قبل الله فيه شفاعتهم؛ لأنه مشرك كافر بالله عز وجل، لا يرضى الله قوله ولا عمله، إلا ما جاء في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، فهي شفاعة خاصة، وأيضاً ليست شفاعة من أجل خروجه من النار، إنما هي شفاعة من أجل تخفيف العذاب عن هذا الرجل؛ لما حصل منه من مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته له –عليه الصلاة والسلام- والمدافعة عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في تخفيف العذاب عنه فقط.
هذه هي الشفاعة الثابتة بشروطها ، وهي أنواع:
منها أنواع خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنواع مشتركة بينه وبين غيره من الأنبياء، والملائكة والصالحين والأفراط الذين ماتوا قبل البلوغ، كل هؤلاء يشفعون عند الله سبحانه وتعالى.
وأما الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي أنواع:(16/62)
أولها: شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف إذا طال الموقف يوم القيامة، واشتد الكرب، واشتد الزحام، ودنت الشمس من الرؤوس، وحصل الكرب العظيم، أهل المحشر يريدون من يشفع لهم لفصل القضاء بينهم وصرفهم من هذا الموقف: إما إلى جنة وإما إلى نار؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيعتذر لهيبة المقام وجلالته، ثم يذهبون إلى نوح عليه السلام أول الرسل فيعتذر، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله فيعتذر، ثم يذهبون إلى عيسى عليه السلام فيعتذر أيضاً، ثم يذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها" ثم يأتي فيخر ساجداً بين يدي الله عز وجل، ويحمده ويثني عليه ويدعوه حتى يقال له: "ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تشفع"(1) بعد الدعاء والاستئذان، لا يشفع مباشرة، بل يسجد ويدعو ويثني على الله ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته، ثم يؤذن له بالشفاعة، ثم يشفع للفصل بين الخلائق فيقبل الله شفاعته، ويأتي سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، قال سبحانه : (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً* وجاء ربك والملك صفاً صفاً) [الفجر:21،22] وقال سبحانه: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر) [البقرة:210].
هذه شفاعته عليه الصلاة والسلام في الفصل بين الخلائق، وهي مقام عظيم شرّف الله به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي قال الله سبحانه فيه: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)[الإسراء:79]؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، ويظهر فضله عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف العظيم.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3340،4712) ،7510) ومسلم رقم (193،194) .(16/63)
الشفاعة الثانية: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة(1)، فأول من يستفتح باب الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخلها(2) ، وأول من يدخلها من الأمم أمته عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الثالثة: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم : شفاعته لأهل الجنة بأن يرفع الله منازلهم ودرجاتهم، فيشفع في أناس في أن يرفع الله درجاتهم في الجنة، فيرفعهم الله بشفاعته عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الرابعة: -وهي مشتركة- الشفاعة في أهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، وفي من دخلها أن يخرج منها، وهذه هي محط الخلاف بين الفرق؛ فالجهمية والخوارج وأضرابهم أنكروها وقالوا: من دخل النار لا يخرج منها، وأهل السنة والجماعة أثبتوها كما جاءت واعتقدوها، ويجب على المسلم أن يعتقدها ويؤمن بها، وأن يسأل الله أن يُشفع فيه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بحاجة إليها.
__________
(1) فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول شفيع في الجنة" أخرجه مسلم رقم (196) .
(2) فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آتي باب الجنة يوم القيامة، فاستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحدٍ قبلك". أخرجه مسلم رقم (197).(16/64)
الشفاعة الخامسة: وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في عمه أبي طالب، أبو طالب مات على الشرك وعلى دين عبد المطلب المشرك، قال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، فصار من أهل النار الخالدين فيها. ولكن الله عز وجل يشفع رسوله عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه، فيكون في ضحضاح من نار، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، مع أنه أهون أهل النار عذاباً(1).
والشفاعة في أهل الكبائر مشتركة، فالملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والأولياء والصالحون يشفعون(2)، والأفراط يشفعون لآبائهم.
(85) والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق :
الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً حق، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله استخرج ذرية آدم من ظهره كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم بالوحدانية، وأخذ عليهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً(3)
__________
(1) فعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".
…أخرجه البخاري رقم (3883) ومسلم رقم (209) .
(2) فعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً قال: "فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهرٍ في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة…" أخرجه مسلم رقم (183).
(3) فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان –يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال : (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) إلى قوله: (المبطلون) .
…أخرجه أحمد 1/272 والحاكم 2/544 وصححه ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمعالزوائد 7/25: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وصحح إسناده الشيخ شاكر في تحقيق المسند رقم (2455).(16/65)
، فنحن نؤمن بذلك، وهذا العهد والميثاق لا يكفي، بل لابد معه من إرسال الرسل، ولذلك أرسل الله الرسل، ولو كان هذا يكفي وحده لما أرسل الله الرسل، ولكن أرسل الرسل من أجل أن تذكر به وتدعو الناس إلى ما تضمنه.
وأما قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) [الأعراف:172] فذهب بعض المفسرين إلى أن هذا هو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والميثاق، وليس كذلك، بل هذا شيء آخر، والله يقول: (من ظهورهم) ولم يقل: من ظهر آدم، وتكملة الآية: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) ، وقال بعض العلماء: معنى ذلك: الفطرة التي فطرهم الله عليها، والآيات الكونية التي نصبها الله لهم؛ ليعرفوا منها ربهم.
فالله سبحانه فطرهم على التوحيد وعلى الإسلام(1) (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها) [الروم: 30] وهي دين الإسلام ودين التوحيد، فالإسلام معناه التوحيد الذي جاءت به الرسل، ومعناه: عبادة الله وحده لا شريك له، هذا هو الدين القيم.
ومع هذا نصب الأدلة على ربوبيته فيما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم العجيب، وما فيهم من الآيات العجيبة التي تدل على الخالق سبحانه وتعالى، وكذلك ما نصبه أمامهم من السماوات والأرض والمخلوقات التي تدل على الخالق، إن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، لم توجد صدفة أو توجد بدون خالق (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون) [الطور:35،36].
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
__________
(1) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تُنتجُ البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الآية.(16/66)
كل ما أمامك يدل على وحدانية الله، ويشهد لله بالانفراد في خلق هذه المخلوقات (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) [الحج:73] فالخالق الله سبحانه، ولا أحد يخلق معه، فكيف يُعبد غيره ممن لا يخلق ولا يرزق ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! فمعنى الآية (وإذ أخذ ربك…) [الأعراف: 172] شهادة الفطرة وشهادة الكائنات على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد أن يعتذر يوم القيامة ويقول : (إنا كنا عن هذا غافلين) [الأعراف:172]. فالاحتجاج بالتقليد لا يصلح أمام البراهين القاطعة والأدلة الساطعة .
(86) وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد ، ولا ينقص منه:
هذا الكلام وما بعده من كلام الشيخ –رحمه الله- كله في موضوع القضاء والقدر.
والإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"(1)، وفي القرآن قوله جل وعلا: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر:49] وقوله : (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان:2].
فليس هناك شيء بدون تقدير، أو أن هناك أشياء تقع صدفة، أو أن الأمر أُنف؛ إن كل شيء يحدث فإنه مقدر ومكتوب.
والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع درجات، نلخصها فيما يلي:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء، وأن الله علم الأشياء أزلاً، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، لا يخفى على علمه شيء سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (50) وسلم رقم (10) .(16/67)
وهي الكتابة العامة الشاملة لكل شيء، وفي الحديث: "إن أول ما خلق الله القلم، قال: أكتب، قال : ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"(1) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
المرتبة الثانية: أن الله جلا وعلا كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، بعد أن علمها سبحانه .
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة، لا يكون في هذا الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته مما هو في اللوح المحفوظ، وفي علمه سبحانه وتعالى، لا يحدث شيء بدون إرادته، ولا يكون في ملكه ما لا يريد سبحانه، (إن الله يفعل ما يريد) [الحج:14]، (كذلك الله يفعل ما يشاء) [آل عمران:40]، فما يحدث في هذا الكون من حياة وموت، وغنىً وفقر، وإيمان وكفر، كل ذلك شاءه الله وأراده، شاء الخير وشاء الشر، وشاء الإيمان وشاء الكفر، فدخل في مشيئته كل شيء، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، فما شاءه وأراده فإنه يوجده ويخلقه (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر:62] (ألا له الخلق والأمر) [الأعراف:54]، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) [الحديد: 22].
وأدلة العلم أدلة كثيرة جداً.
ومن جملة الذي وصف الله به نفسه، العلم، فإنه سبحانه وتعالى يعلم عدد من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وذلك في علمه الأزلي.
وأن ما قدره الله تعالى، لا يزاد فيه ولا ينقص، ومن ذلك: أنه يعلم أهل الجنة وأهل النار، ويعلم ما هم عاملون، نؤمن بذلك ونتجه إلى العمل، ولا نتناقش في القضاء والقدر: كيف؟ ولماذا؟ وكيف يُحاسبُ على شيء قد قدره؟ إلى آخر الهذيانات وإضاعة الأوقات، والاعتراض على الله عز وجل.
__________
(1) أخرجه أبو يعلى رقم (2329) مرفوعاً والبيهقي في سننه الكبرى (9/3) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه أبو داود رقم (4700) والترمذي رقم (2160) .(16/68)
الواجب عليك فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فليس شأن العبد التفتيش في سر الله عز وجل ومخاصمة الرب جل وعلا، إنما شأنه العمل، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ما منهم من أحد إلا مكتوب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، قالوا : يا رسول الله، ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"(1) ، قال تعالى: (إن سعيكم لشتى *فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) [الليل:4،7] السبب من العبد نفسه، إما أن يسعد وإما أن يشقى (وأما من بخل واستغنى*وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل:8،10] فالمطلوب منا العمل الصالح وترك العمل السيئ
أما الاحتجاج بالقضاء والقدر فليس بعذر، فإن الله عز وجل قد بين لنا الخير والشر فليس هناك عذر، فالناس يقعون في مشاكل بسبب دخولهم في أشياء ليست من اختصاصهم، فيقول: إن كان الله قد كتب لي أن أدخل الجنة دخلتها، وإن كان قد كتب لي أن أدخل النار دخلتها، ولا يعمل شيئاً.
فيقال له: أنت لا تقول بهذا في نفسك، هل تقعد في البيت وتترك طلب الرزق وتقول: إن كان الله قد كتب لي رزقاً فسييسره لي؟ أو تخرج وتسعى وتطلب الرزق؟ البهائم والطيور لا تقعد في أوكارها، بل تخرج وتطلب الرزق، وجاء في الحديث : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً "(2) فالله فطرها على طلب الرزق، وعلى فعل الأسباب، وهي بهائم ، وأنت رجل عاقل! .
وأيضاً : لو أن أحداً سرق منك شيئاً، هل تقول: هذا قضاء وقدر، أم تشتكيه؟ بل تشتكيه وتطلب وتخاصم، ولا تحتج بالقضاء والقدر!
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6605) ومسلم رقم (2647) .
(2) أخرجه أحمد في المسند 1/30،52 وعبد بن حميد رقم (10) الترمذي رقم (2344)، وابن ماجه رقم (4169) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصحح إسناده الشيخ شاكر في تحقيق المسند رقم (205،370،373). .(16/69)
(87) وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه:
أي : علم أفعالهم في الأزل
(88) وكلٌ ميسرٌ لما خُلق له:
قال تعالى: (فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل :5،10].
(89) والأعمال بالخواتيم:
(والأعمال بالخواتيم) : الإنسان لا يغتر بعمله وإن كان أصلح الصالحين، بل يخاف من سوء العاقبة، ولا يحكم على أحد بأنه من أهل النار بموجب أفعاله؛ لأنه لا يدري بماذا يختم له، ويوضح ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"(1).
فالإنسان يخاف من سوء الخاتمة، ولا يحكم على أحد بسوء الخاتمة؛ لأنه لا يدري بما يختم له. فالتوبة تجبُّ ما قبلها: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف …) [الأنفال: 38].
فالأعمال بالخواتيم، ولكن من لطف الله عز وجل بعباده أن من عاش على الخير فإنه يختم له بالخير، ومن عاش على الشر فإنه يختم له بالشر، فالإنسان يعمل الأسباب ويحسن الظن بالله عز وجل.
وبعض الناس يقول: أتوب قبل الموت، فنقول له: وهل تدري متى تموت؟ يمكن أن تموت في لحظة لا يمكن معها التوبة، ولا تدري هل التوبة مقبولة أم لا؛ لأن التوبة لها شروط.
(90) والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله:
لا يشقى بقضاء الله عز وجل، إنما يشقى بعمله الذي قدره الله له. من قدر الله أنه يشقى أو يسعد فسييسره له.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (8023) ومسلم رقم (3462) .(16/70)
(91) وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه:
أي : لن تصل إلى سره، مهما حاولت التفتيش في القضاء والقدر. فلا تكلف نفسك، ولكن آمن بالقضاء والقدر، واعمل الأعمال الصالحة واجتنب الأعمال السيئة، وأما أن تبحث عن أسرار القدر فهذا ليس من اختصاصك، ولا هو من شأنك، وما كلفت به.
(92) لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل:
هذا من شأن الله عز وجل، ومن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه غيره، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، وأفضل الرسل يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) [الأعراف:188].
(93) والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلّم الحرمان، ودرجة الطغيان:
هذا كلام عظيم، أي التعمق في القضاء والقدر ومسائله، وإشغال الوقت والنفس والقلب، مما يورث الشكوك ويخذل عن العمل، فهذا من اللعب والخذلان.
إذا خذل الله العبد شغله في هذه الأمور، وإذا أكرم الله العبد شغله في طاعته، واغتنام وقته.
فنحن لنا حدود لا نتعداها، فالله ما كلفنا بالبحث في القضاء والقدر، ولكن كلفنا باعتقاد ذلك بالعمل الصالح وترك العمل السيئ .
(94) فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة:
أي احذر من هذه الأمور، والنظر في هذه الأمور، والتفكير فيها، والوسوسة وهي: التردد والشك، اترك هذه الأمور، وسد هذا الباب أصلاً.
(95) فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه:
هذا تأكيد لما سبق "القدر سر الله تعالى" ومعنى طوى: أخفى، فطوى الله هذه المعلومات عن خلقه؛ لأنه ليس لهم فيها مصلحة.
(96) ونهاهم عن مرامه:(16/71)
عن مرام القدر أن يبحثوا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى الصحابة يتساءلون في هذا فقال: "أبهذا أُمرتم؟ أم لهذا خُلقتم؟"(1) .
(97) كما قال تعالى في كتابه: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) :
أنت لا تسأل الله ولا تناقشه عن أفعاله وعن قضائه وقدره، تأدب مع الله؛ لأنك عبد، فلا تتدخل في شؤونه جل وعلا، فالله لا يسأل عما يفعل؛ لأن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، والحكمة قد تظهر وقد تخفى علينا، فنؤمن بأن الله لا يفعل شيئاً عبثاً؛ إنما يفعله لحكمة، سواءً ظهرت لنا أو لم تظهر.
فالإنسان مسؤول عن عمله، ليس مسؤولاً عن أعمال الله عز وجل، فاعتن بما أنت مسؤول عنه يوم القيامة، وهو عملك، فعلى العبد التسليم لله.
(98) فمن سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب:
أي قال: لم فعل الله كذا؟ لم قدّر الله كذا وكذا؟ فمن قال هذا، فقد رد حكم الكتاب؛ لأن الله يقول: (لا يسأل عما يفعل) [الأنبياء:23].
(99) ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين:
فمن رد حكم الكتاب والسنة، واعترض على ذلك، وذهب إلى العقل والتفكير صار من الكافرين(2) ؛ لأن الإيمان بالكتاب والسنة هما ركنان من أركان الإيمان.
(100) فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منّور قلبه من أولياء الله تعالى:
__________
(1) فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقَّأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب، قال: فقال: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! بهذا هلك من كان قبلكم" قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده.
…أخرجه أحمد 2/178،181،185،195 وابن مجاه رقم (85) وصححه الشيخ شاكر في تحقيق المسند رقم (6668)
(2) فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أخرجه البخاري رقم (2457) ومسلم رقم (2668).(16/72)
أي يحتاجه في أمور القضاء والقدر، فأنت تؤمن بالقدر ومراتبه الأربع؛ تؤمن بتفاصيلها التي جاءت في الكتاب والسنة، ولا تدخل في المناقشات والاعتراضات، بل تعمل العمل الصالح والأسباب المناسبة.
(101) وهي درجة الراسخين في العلم:
الراسخون، يعني : الثابتين في العلم، الذين عندهم علم راسخ، وليس عندهم شكوك ولا جهل، فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويعملون الأعمال الصالحة، ويتركون الأعمال السيئة، ولا يتدخلون مع الله في سر من أسراره، ولا يناقشونه ويعترضون عليه، هذا شأن الراسخين في العلم، وأما الجهّال فيدخلون في ضلالات وأمور ابتدعوها.
(102) لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود:
العلم علمان: علم استأثر به الله، فلا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، وهو علم الغيب.
وعلم في الخلق موجود، علّمهم الله إياه، وهو ما لهم فيه مصلحة وذلك بما أنزل الله من الكتاب، وما أرسل به الرسول (ويعلمهم الكتاب والحكمة) [البقر:129] الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، وقيل: الفقه في دين الله فالله علمنا والرسول علمنا (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) [البقر:151].
(103) فإنكار العلم الموجود كفرٌ، وادعاء العلم المفقود كفرٌ:
إنكار العلم الشرعي وما فيه من الأمر والنهي والإخبار عن الماضي والمستقبل، إنكاره كفر.
وادعاء علم الغيب كفر (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) [النمل:65]، وأكمل الخلق عليه الصلاة والسلام يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) [الأعراف:188] فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله (ولا يحيطون بشيء من عمله إلا بما شاء) [البقرة:255].
(104) ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود:
لا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وهو علم الكتاب والسنة، وترك علم الغيب لله (فقل إنما الغيب لله) .
(105) ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رُقم:(16/73)
هذا تابع لما سبق من الكلام عن القضاء والقدر، وقد سبق أن من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الإيمان بما كتب في اللوح المحفوظ، وأن الله لما علم كل شيء كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وذلك أن الله خلق الخلق، وأول ما خلق القلم، فقال له: "اكتب"، قال: ما أكتب؟ قال: "أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث (1).
ولا يعلم كيفية اللوح والقلم إلا الله، وهما مخلوقان من مخلوقات الله عز وجل، نؤمن بذلك، ولذلك قال المؤلف: (نؤمن باللوح والقلم وبما فيه قد رقم)؛ يعني اللوح المحفوظ، والكتابة فيه.
وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهي: الإيمان بالكتابة في اللوح المحفوظ.
(106) فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن- لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً-لم يقدروا عليه:
الكتابة التي كتبها الله تعالى في اللوح المحفوظ لا يقدر أحد على تغييرها، فلو اجتمع الخلق على أن يغيروا شيئاً كتبه الله لما استطاعوا، ولو اجتمعوا على أن يوجدوا شيئاً لم يكتبه الله في اللوح المحفوظ لم يوجدوه، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(2).
فلا تغيير ولا تبديل لما كتبه الله جلا وعلا في اللوح المحفوظ.
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (4700) والترمذي (رقم2160) وأبو يعلى رقم (2329) مرفوعاً وأخرجه موقوفاً البيهقي في سننه (9/3)، وهو في حكم المرفوع.
(2) أخرجه الترمذي رقم (2521) وأحمد 1/293، والحاكم 3/541، وقال الترمذي؛ هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث عالٍ.(16/74)
(107) جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه:
هذا معنى الإيمان بالقضاء والقدر، أن تعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
فإذا أصابتك مصيبة مما تكره، فإنك تعلم أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، ولابد أن يقع، فتتسلى بذلك عن الجزع والسخط، وتؤمن بالله عز وجل.
وما أخطأك لم يكن ليصيبك، لو حرصت على طلب شيء وبذلت كل وسعك وجهدك فلن تحصل عليه، فإذا فعلت السبب وبذلت كل شيء ولم تحصل عليه، فإنك تسلم وتؤمن بالقضاء والقدر، ولا تنزعج ويكون عندك هواجس وهموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"(1)، إذا علمت هذا هان عليك الأمر، ولا يحصل منك جزع، ولا تحسر، الأمور بيده سبحانه، نعم أنت تفعل الأسباب وتحرص على ما ينفعك، ولكن النتائج من لدن الله عز وجل، وما تدري ما الخيرة؟ فلا يعطيك الله عز وجل ذلك الشيء؛ لأنك لو حصلت عليه يكون عليك منه ضرر، فالله يعلم، وأنت لا تعلم، عليك أن ترضى بقضاء الله وقدره.
وفي القرآن الكريم يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [التوبة:51].
ويقول رداً على الكفار لما قالوا في شأن الذين قتلوا في يوم أحد: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) [آل عمران:156]، قال عز وجل: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) [آل عمران:154].
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2664) .(16/75)
فما كُتب على الإنسان لابد من نفاذه فيه، ولو تحرز وتحصن وعمل من الاحتياطات ما عمل، لم يمنعه ذلك من قضاء الله وقدره، قال تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) [النساء:78].
(108) وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه:
هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: على العبد أن يؤمن ويعتقد أن الله علم ما كان وما لم يكن بعلمه الأزلي، الذي هو موصوف به أبداً وأزلاً، علم الأشياء كلها بعلمه المحيط قبل وقوعها، فلابد من اعتقاد ذلك.
(109) فقدّر ذلك تقديراً محكماً مبرماً:
عَلِمَهُ سبحانه وتعالى وقدّره (وخلق كل شيء فقدّره تقديراً) [الفرقان:2].
فالأمور ليست فوضى أو ليست لها ضوابط، كلها مرتبة ومنضبطة بقضاء الله وقدره وكتابته، والله منزه عن الفوضى والعبث.
(110) ليس فيه ناقض، ولا معقّب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه:
لا أحد يتصرف، فيغير ما قضاه الله وقدّره، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه (والله يحكم لا معقب لحكمه) [الرعد:41]. فلا أحد ينقص شيئاً من قضاء الله، ولا يزيد شيئاً أبداً، هذا شيء قضي منه وانتهى منه.(16/76)
إذا اعتقد المسلم ذلك أراحه من كثير من الشكوك والأوهام، ولكن ليس معنى ذلك أنه يتكل على القضاء والقدر والكتاب، ويترك العمل(1)، هو مأمور بالعمل وطلب الرزق وفعل الأسباب، هذا من ناحية العمل، وأما من ناحية النتائج فهي بيد الله عز وجل.
(111) وذلك من عُقد الإيمان، وأصول المعرفة:
هذه العقيدة، عقيدة القضاء والقدر، من عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالذي لا يكون مؤمناً بالقضاء والقدر لا يكون مؤمناً بالله جل وعلا، بل كان متنقصاً لله عز وجل، فالإيمان به من العقيدة وليس من الأشياء الثانوية أو الفرعية، فالإيمان بالقضاء والقدر من صميم العقيدة، وهو ركن من أركان الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (2).
(112) والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) وقال تعالى : (وكان أمر الله قدراً مقدوراً):
الإيمان بالقضاء والقدر يدخل في توحيد الربوبية؛ لأنه من أفعال الله جل وعلا، فمن جحد القضاء والقدر لم يكن مؤمناً بتوحيد الربوبية.
__________
(1) فعن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكّس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة" فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل الشقاوة" ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى) .
…أخرجه البخاري رقم (1362) ومسلم رقم (2647).
(2) أخرجه البخاري رقم (50) رقم (10) .(16/77)
(وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان:2] (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) [الأحزاب: 38]، (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر:49]، هذه الآيات الثلاث مع غيرها من الآيات تدل على الإيمان بالقضاء والقدر (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) [التغابن:11]، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) [الحديد:22]. يعني اللوح المحفوظ.
(113) فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً:
الذي يدخل في أمور القضاء ويشكك فيه خصيم الله، ولا يصح الإيمان إلا بالإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع، حسب ما جاء في الكتاب والسنة، ولا تتدخل في السؤالات والإشكالات والشكوك والأوهام، فإن هذا معناه مخاصمة الله عز وجل، فالذين تدخلوا في القضاء والقدر لم يتوصلوا إلى شيء، بل وقعوا في حيرة واضطراب وإفساد للعقيدة.
(114) وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً:
فأمور القضاء والقدر وشؤون الله عز وجل لا يدركها النظر والتفكير والعقل، فلا تكلف عقلك شيئاً لا يستطيعه، فالعقل محدود، لا يمكنه أن يدرك كل شيء، فلا تدخله في متاهات وأمور لا يطيقها.
(115) لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً:
لأن القضاء والقدر سر الله جل وعلا في خلقه، فلا تبحث عنه، ولا تُكلف بذلك، إنما كُلفت بالعمل والطاعة والامتثال.
(116) وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً:
أي يكون كل كلامه وكل بحثه إفكاً، يعني : كذباً وإثماً –والعياذ بالله- لأنه فعل ما لم يؤمر به، وتدخل فيما ليس من شأنه.
(117) والعرش والكرسي حق :(16/78)
الله سبحانه وتعالى خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الكرسي، وخلق العرش، كلها مخلوقات لله عز وجل، السماوات فوق الأرض، وفوق السماوات البحر، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، فهو أعلى المخلوقات، وذلك كما جاء في الحديث: "إن السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبع دراهم ألقيت في ترس"، يعني : السماوات السبع وعظمها وما فيها –مقارنة بالكرسي- كسبعة دراهم ألقيت في مثل الصحن الذي يتترس به المقاتل، فما نسبة سبعة دراهم في ترس مستدير؟ نسبتها قليلة، وفي ذلك قوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض) [البقرة:255]، والعرش أعظم من الكرسي، فالكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، كما جاء في الحديث، فلو ألقيت حلقة في أرض واسعة فما نسبتها إلى هذه الفلاة؟ لا شيء .
هذه مخلوقات عظيمة وواسعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
فالعرش أعلى المخلوقات، والله سبحانه عالٍ فوق عرشه فوق مخلوقاته.
والكرسي تحت العرش، وجاء في الأثر أنه موضع القدمين، فالكرسي مخلوق، وليس المقصود به العلم، كما نسب ذلك لابن عباس رضي الله عنه، أنه قال في قوله: (وسع كرسيه) أي : علمه، أي: وسع علمه السماوات والأرض. المعنى صحيح، ولكن ليس هذا المقصود من الآية، فالكرسي مخلوق، والعلم صفة من صفات الله عز وجل ليست من مخلوقاته، فيجب الإيمان بالعرش وبالكرسي، هذا حق على حقيقته، وليس العرش كما يقوله الأشاعرة –ومن نحا نحوهم- إن العرش هو الملك، فيقولون في قوله تعالى : (استوى على العرش) [الأعراف:54]، أي : استولى على الملك، وهذا ضلال، فالعرش مخلوق: (وكان عرشه على الماء) [هود:7]، فالعرش تحته الكرسي، والكرسي تحته السماوات، والأرض تحت السموات . في الحديث: "فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن"(1) فالفردوس هو أعلى الجنان وفوقه عرش الرحمن.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2790،7423).(16/79)
فعرشه مخلوق وله حملة، وهم طائفة من الملائكة: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [الحاقة:17] قبل يوم القيامة يحمله أربعة، فإذا جاء يوم القيامة تضاعفوا وصاروا ثمانية، فكل واحد من الملائكة لا يُتصور خلقه وعظمته وقوته.
وهل يقال: إذا قيل إن العرش هو الملك. إن المُلك تحمله الملائكة؟
(118) وهو مستغن عن العرش وما دونه:
لا تتصور أن معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) [الأعراف:54] أنه محتاج إلى العرش كاستواء المخلوق على المخلوق، بل الله عز وجل مستوٍ على العرش، وهو غني عن العرش وما دون العرش.
جميع المخلوقات محتاجة إلى الله (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر:41] فهو الذي يمسك العرش، ويمسك السماوات، ويمسك الأرض والمخلوقات، بقدرته وعزته، فهي المحتاجة إليه، وهو غني عنها سبحانه وتعالى .
ولا يلزم من كون الشيء فوق الشيء أن يكون الأعلى محتاجاً إلى ما تحته، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض.
(119) محيط بكل شيء وفوقه:
محيط بكل شيء (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) [آل عمران:5] وإحاطته بالأشياء: علمه بها، وإلا فالله عز وجل في جهة العلو.
(120) وقد أعجز عن الإحاطة خلقه:
فالله سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً، قال الله عز وجل: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض) [البقرة:255] فالله محيط بكل شيء علماً (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) [الطلاق:12].
(121) ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً:(16/80)
من عقيدة المسلمين أن الرسل أفضل الخلق وأن الرسل يتفاضلون فهم يعتقدون أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، كما قال الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) [النساء:125] والخلة هي أعلى درجات المحبة، فالله جل وعلا يحب عباده المؤمنين والمتقين والمحسنين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ولكن الخلة لم يحصل عليها إلا اثنان من العالم: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً" (1).
(وكلم الله موسى تكليماً) [النساء:164] ففضل بعض النبيين على بعض، وإن كانوا كلهم بالمرتبة العليا، لكن الله جل وعلا فضل بعضهم على بعض (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) [البقرة:253] فكل نبي يعطيه الله عز وجل تفضيلاً خاصاً به، فضل إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام بالخلة، وفضل موسى بأنه كلمه تكليماً بدون واسطة الملك، وسمع موسى كلامه، ناداه سبحانه وناجاه؛ والمناداة: الصوت المرتفع، والمناجاة: الصوت الخفي، كل هذا حصل لموسى عليه الصلاة والسلام، وهذه فضيلة لم يحصل عليها غيره، وقال: (تكليماً) للتأكيد، حتى لا يقول أحد: إن هذا مجاز، فلما أكده بالمصدر، دل على أنه تكليم حقيقي من الله عز وجل، وهذا فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه إثبات الفضيلة لموسى عليه الصلاة والسلام على غيره من النبيين في هذه الخصلة، ولا يلزم إذا كان عند نبي من الأنبياء ميزة خاصة أن يكون أفضل من غيره على الإطلاق، بل هو أفضل من غيره من الأنبياء في هذه الخصلة.
(122) ونؤمن بالملائكة والنبيين:
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (532) والبخاري بنحوه رقم (466،467) ، وقد تقدم تخريجه .(16/81)
هذا من أركان الإيمان، التي أولها: الإيمان بالله، وثانياً: الإيمان بالملائكة، وهم عالم من عالم الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، خلقهم الله تعالى من النور؛ لعبادته وتنفيذ أوامره في مخلوقاته، أوكل إليهم أعمالاً يقومون بها وينفذونها في مخلوقاته، منهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر والنبات، ومنهم الموكل بقبض الأرواح، ومنهم الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم الموكل بحفظ أعمال بني آدم، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأجنّة في بطون الحوامل، كما في حديث ابن مسعود (ثم يرسل إليه الملك فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) (1) .
فهم موكلون بأعمال يقومون بها كما أمر الله تعالى بها: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبياء:27]، (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [الأنبياء:20].
فهم يعبدون الله عبادة متواصلة ومع ذلك يقومون بما أوكل إليهم من تنفيذ الأوامر في المخلوقات ولهم مهام عظيمة، وخلقتهم لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى(2)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3208) ومسلم رقم (2643) .
(2) فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، إن السماء أطَّت وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله…"
…أخرجه أحمد 5/173، والترمذي (رقم2317) وابن ماجه (رقم4190) والحاكم في المستدرك 2/510-551. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(16/82)
، تختلف عن خلقة بني آدم (جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) [فاطر:1] ولبعضهم أكثر من ذلك (يزيد في الخلق ما يشاء) [فاطر:1] فجبريل عليه السلام له ستمائة جناح، كل جناح منها سد الأفق، فلا يعلم خلقتها ولا كيفيتها إلا الله. أما البشر فلا يستطيعون رؤية الملك على صورته، وإنما يأتي الملك في صورة إنسان كما كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان، ويجلس إليه ويكلمه، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الملكية إلا مرتين، مرة وهو في بطحاء مكة رآه في الأفق، ومرة عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج، وما عدا هاتين المرتين فإن جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان، وكثيراً ما يأتي في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه.
وقوله: (والنبيين) النبيين جمع نبي وهو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ويجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين ومن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع (لا نفرق بين أحد من رسله)
(123) والكتب المنزلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين:
من أصول الإيمان وأركانه: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على الرسل لهداية الخلق؛ فالله تعالى أنزل الكتب على الرسل من كلامه ووحيه وتشريعه، أنزلها على الرسل ليبلغوها إلى أممهم، فيها الأوامر وفيها النواهي، وفيها شرع الله جل وعلا.(16/83)
منها ما سماه الله في القرآن ومنها ما لم يسمه، ونحن نؤمن بجميع الكتب، ما سماه لنا وما لم يسمه، كالتوراة التي أنزلها على موسى، والإنجيل الذي أنزله على عيسى، والقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، والزبور الذي أنزله على داود (وآتينا داود زبورا) [النساء:163] وصحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فنؤمن بها كلها وأنها في مصلحة الخلق وهداية الخلق وإقامة الحجة، فمن آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها فهو كافر بالجميع؛ لأنها كلها من كلام الله فلا يجوز الإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر، قال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) [البقرة:85].
وكذلك الكتاب الواحد يجب الإيمان به كله والعمل به كله، فلا نأخذ ما يوافق شهواتنا وندع ما يخالفها .
فمن جحد كتاباً من كتب الله، أو بعضاً من الكتاب، أو كلمة من الكتاب، أو حرفاً من الكتاب، فهو كافر بالله عز وجل.
(124) ونسمّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين:(16/84)
هذا من العقيدة، أنه من نطق بالشهادتين واستقام عليهما فإنه مسلم، ولو صدر منه بعض المعاصي، ولو كانت من الكبائر، وما دامت المعاصي دون الشرك، ولكن يكون مسلماً ناقص الإسلام وناقص الإيمان وفاسقاً، ولكنه لا يُحكم بكفره إن كانت معاصيه دون الشرك، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، لا يُكفِّرون بالمعاصي التي هي دون الشرك، ولكن ينقص بها الإيمان، وصاحبها يفسق بها الفسق الأصغر الذي لا يخرج من الملة. خلافاً للخوارج الذين يُكفّرون بالكبائر ويخرجون بها من الملة، ويخلدون صاحبها في النار. وخلافاً للمعتزلة الذين يُخرِجون صاحب الكبيرة من الإسلام، ولكن لا يدخلونه في الكفر، ويقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، ولكن لو ماتوا على الكبيرة فالمعتزلة مثل الخوارج في الحكم عليهم، وخلاف عقيدة المرجئة الذين يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، من صدق بالله عز وجل فإنه يكون مؤمناً، وإن فعل ما فعل، ولو ترك جميع أركان الإسلام عندهم لا يكون كافراً، المهم التصديق والاعتقاد، أما الأعمال فلا تزيد في الإيمان ولا تنقصه وليست منه، فهو مؤمن تام الإيمان ما دام مصدقاً.
هذا مذهب المرجئة، وهو مذهب ضال.(16/85)
فهم مع الخوارج على طرفي نقيض؛ قوم تشددوا، وهم الخوارج، وقوم ذابوا وماعوا وقالوا: إن هذه المعاصي لا تضر، وهم المرجئة، وأما أهل السنة والجماعة فتوسطوا، ومذهبهم مأخوذ من الكتاب والسنة، وهو العدل، وفيه الجمع بين الأدلة. أما الخوارج والمعتزلة فأخذوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، وأما المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد، لكن أهل السنة والجماعة أخذوا بنصوص الوعد وبنصوص الوعيد، وجمعوا بينها، وهذا الحق (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) [آل عمران:7] فيردون هذا إلى هذا، ولا يأخذون بطرف ويتركون الطرف الآخر كما هو مذهب أهل الزيغ (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) [آل عمران:7] يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم الذي يفسر المتشابه.
وقول المصنف: (مسلمين مؤمنين) ليس على إطلاقه؛ لأنهم قد يكونون ناقصين في الإسلام والإيمان، ومتوعدين من الله عز وجل.
(125) ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدّقين:
أما لو جحدوا شيئاً مما جاء به النبي صلى لله عليه وسلم ولم يعترفوا، صاروا كفاراً، ولو آمنوا ببعض ما جاء به، فإن جحدوا بعضه فهم كافرون بجميع ما جاء به، فالواجب الإيمان به كله، سواء وافق أهواءنا أو خالفها؛ لأنه حق.(16/86)
أما من كذب ببعض الأحاديث الصحيحة فهو كافر، فلو رد حديثاً في البخاري، والحديث صحيح، وقال: أنا لا أومن بهذا الحديث ولا أصدقه؛ لأنه يخالف العلم الحديث، فسبحان الله! كلام النبي صلى الله عليه وسلم يُتهم، وكلام البشر لا يتهم؟ أيضاً العلم الحديث قد لا يخالف الأحاديث الصحيحة، والحمد لله، فمثلاً ورد في حديث الذباب الذي ينكره هؤلاء أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً، والطب يقر بهذا أن السم يعالج بضده، وبما يناقضه، والذباب فيه النقيضان، فإنه إذا وقع في الماء فإنه يرفع الجناح الذي فيه الدواء، ويغمس الجناح الذي فيه السم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه بجناحه الذي فيه الدواء(1)، فيغالب السم، فهذا يقره الطب ولا يرده، ولكنه لما خالف أذواق هؤلاء الجهال صاروا يتكلمون بهذا الكلام، وهذا كفر والعياذ بالله، ولهم مقالات شنيعة نحو السنة، يردونها ويشككون فيها، ويقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (2)، يقولون هذا وهم يدعون أنهم دعاة للإسلام، وهذا موقفهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الجهال يقولون: هذه من أمور الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فمعناه: أنهم يُجهِّلون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (معترفين) (مصدقين) لا يكفي الاعتراف والتصديق إلا على مذهب المرجئة، بل لابد مع ذلك من العمل بما جاء به، ولابد من الإخلاص في ذلك.
(126) ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله:
__________
(1) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فيلغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داءً والأخرى شفاء" أخرجه البخاري (رقم3320،5782).
(2) أخرجه مسلم (رقم 2363).(16/87)
لا نخوض في الله، بل نؤمن به وبصفاته وأسمائه، ولا نؤولها ونصرفها عن ظاهرها، ونأتي بمعانٍ ما أرادها الله ولا أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، اتباعاً لأهوائنا وعقولنا القاصرة، وهذا كفر بالله عز وجل.
وكذلك في دين الله لا نماري –أي نجادل- ونقول: هذا نؤمن به وهذا نتوقف في الإيمان به، فما دام ثبت في الكتاب والسنة فليس فيه مجال للخوض، بل نؤمن به ونُسَلّم، وإن كان في عقولنا ما لا يدرك هذا الشيء، فعقولنا قاصرة، ولو كانت كاملة لما احتاجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما احتاجت البشرية إلى الرسل، فدل على أن العقول قاصرة، وأنه لابد من إرسال الرسل؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
(127) ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين:
قوله: (لا نجادل في القرآن) يشمل عدم القول بأنه ليس من عند الله، كما يقوله الكفار، ويقولون: هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم .
وكذلك الجدال في تفسير معاني القرآن، فلا نفسر القرآن من عند أنفسنا، فالقرآن لا يفسر إلا بما جاء في كتاب الله أو ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما قاله الصحابة أو ما قاله التابعون، أو ما اقتضته اللغة العربية التي نزل بها.
فلا نقول فيه بعقولنا القاصرة، إنما يفسره الله سبحانه الذي نزله، أو النبي عليه الصلاة والسلام الذي وُكل إليه بيانه، أو الصحابة الذين تتلمذوا على المصطفى عليه الصلاة والسلام، أو التابعون الذين رووا عن تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، أو اللغة التي نزل بها؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين. أما تفسيره بما يقوله الطبيب الفلاني أو المفكر الفلاني أو الفلكي الفلاني، فالنظريات تختلف، فاليوم نظرية وغداً نظرية تبطلها؛ لأنها من عمل البشر، فلا يُفسَّر كلام الله بهذه الأشياء التي تتبدل وتتغير كما يفعله الجهال اليوم ويقولون: هذا من الإعجاز العلمي.(16/88)
قوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) نشهد أن القرآن كلام الله تكلم الله به حقيقة، وسمعه جبريل من الله، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد عليه الصلاة والسلام إلى أمته، وبلغته أمته كل جيل إلى الجيل الذي بعده، نحن نكتبه ونقرؤه ونحفظه، وهو بذلك كلام الله ما هو بكلامنا، ولا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام جبريل عليه السلام.
(128) نزل به الروح الأمين، فعلّمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
الروح الأمين هو جبريل، وسمي بهذا لأنه مؤتمن لا يغير ولا يبدل؛ مؤتمن على ما حمله الله، لا يتهم بالخيانة كما تقوله اليهود يقولون: جبريل عدونا. أو كما يقوله غلاة الشيعة: إن الرسالة لعلي ولكن جبريل خان وبلغها إلى محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا تكذيب لله؛ لأن الله سماه أميناً.
فأنزل الله في اليهود: (من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه) [البقرة:97]، ثم قال: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) [البقرة: 98].
من عادى جبريل، أو ملكاً من الملائكة، فإن الله عدوه وكذا من عادى رسولاً من الرسل، فهو كافر، ومن عادى ولياً من أولياء الله فإنه مبارز الله بالمحاربة، كما صح في الحديث(1)، فجبريل علّمه للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (علمه شديد القوى) [النجم:5] وضمير المفعول في (علمه) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشديد القوى: جبريل عليه الصلاة والسلام، فعلّم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله.
(129) وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين:
__________
(1) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه….." .
…أخرجه البخاري رقم (6502).(16/89)
هو كلام الله، تكلم به سبحانه حقيقة، وسمعه جبريل من الله حقيقة، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [فصلت:42]، (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً*ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً*إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) [الإسراء:73،75] فالرسول يبلغ القرآن، لا ينقص ولا يزيد ولا يبدل (ولو تقول علينا بعض الأقاويل*لأخذنا منه باليمين*ثم لقطعنا منه الوتين) [الحاقة:44،46].
وهو كلام الله، سبحانه وتعالى كما نزل، فالله حفظه من الزيادة والنقص: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]
(130) ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين:
لا نقول: القرآن مخلوق، كما تقول الجهمية، فهذا كفر وجحود لكلام الله، ووصف لله بالنقص وأنه لا يتكلم، والذي لا يتكلم يكون ناقصاً ولا يكون إلهاً.
ولهذا لما قال قوم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، يعنون العجل أو التمثال، قال الله جل وعلا: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) [طه:89] فقال: (ألا يرجع إليهم قولاً) أي : لا يتكلم، فدل على بطلان عبادتهم له.
وفي الآية الأخرى: (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً) [الأعراف:148] والكلام صفة كمال، وعدم الكلام صفة نقص، فالله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، ومتصف بصفات الكمال.
(ولا نخالف جماعة المسلمين) فجماعة المسلمين يؤمنون بأنه منزل حقيقة غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذه عقيدة المسلمين في القرآن.
وكذلك لا نخالف جماعة المسلمين في كل ما اجتمعوا عليه من أمور الدين. قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).(16/90)
(من الله بدأ) وليس كما يقول بعض الضلال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، بل سمعه من الله مباشرة، (وإليه يعود) أي: في آخر الزمان، يرفع القرآن إلى الله عز وجل، وهذا من علامات الساعة، فيُنزع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، فلا يبقى في الأرض.
(131) ولا نكفَّر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله:
(ولا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) هذا كما سبق أن الذنب إذا لم يكن كفراً أو شركاً مخرجاً من الملة، فإننا لا نُكَفّر به المسلم، بل نعتقد أنه مؤمن ناقص الإيمان، معرض للوعيد وتحت المشيئة. هذه عقيدة المسلم، ما لم يستحله، فإذا استحل ما حرم الله فإنه يكفر، كما لو استحل الربا أو الخمر أو الميتة أولحم الخنزير أو الزنا، إذا استحل ما حرم الله كفر بالله، وكذلك العكس: لو حرم ما أحل الله كفر: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) [التوبة:31] وجاء تفسير الآية بأنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم(1).
أما لو فعل الذنب وهو لم يستحله بل يعترف أنه حرام فهذا لا يكفر ولو كان الذنب كبيرة دون الشرك والكفر لكنه يكون مؤمناً ناقص الإيمان أو فاسقاً بكبيرته مؤمن بإيمانه.
وقوله: (لا نكفر بذنب) ليس على إطلاقه، فتارك الصلاة متعمداً يكفر(2)
__________
(1) فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عديُّ اطرح عنك هذا الوثن" . وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، إذا حرّموا عليهم شيئاً حرموه" أخرجه الترمذي رقم (3095).
(2) فعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
…أخرجه أحمد 5/346،355 والترمذي (رقم 2621) والنسائي 1/231 وابن ماجه رقم (1079).(16/91)
، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
(132) ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله:
كما تقوله المرجئة، يقولون: ما دام مصدقاً بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان، أما الأعمال فأمرها هيّن، فالذي لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ولا يعمل شيئاً من أعمال الطاعة، يقولون: هو مؤمن بمجرد ما في قلبه! وهذا من أعظم الضلال.
فالرد عليهم أن الذنوب تضر على كل حال، منها ما يزيل الإيمان بالكلية، ومنها ما لا يزيله بالكلية بل ينقصه وصاحبها معرض للوعيد المرتب عليها.
(133) ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة:
هذا بحث للشهادة لمعين أنه من أهل الجنة، أو أنه من أهل النار، نحن لا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا بدليل، إلا من شهد له المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة، شهدنا له بذلك، ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار شهدنا له بذلك، هذا بالنسبة إلى المعينين، أما بالنسبة إلى العموم فنعتقد أن الكافرين في النار، وأن المؤمنين في الجنة.
أما على وجه الخصوص فلا نحكم لأحد إلا بالدليل، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. هذه عقيدة المسلمين.
(134) ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نُقَنِّطُهُم:
نستغفر للمسيء؛ لأنه أخونا، وندعو له بالتوبة والتوفيق؛ وإن كان مذنباً، وهذا حق الإيمان علينا (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:19].
ولا نُقنّطُ المذنب من رحمة الله كما تقوله الخوارج والمعتزلة، لا نقنطه من رحمة الله، بل هو معرض للوعيد وتحت المشيئة، وإن تاب تاب الله عليه عز وجل: (إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87] (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [الحجر:56] (ياعبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) [الزمر: 53].(16/92)
والوعيدية الذين هم الخوارج ومن سار في ركابهم، هم الذين يُقنّطون الناس من رحمة الله، ويخرجونهم من الملة بذنوبهم، وإن كانت دون الشرك.
(135) والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام:
من أصول العقيدة الإسلامية: الخوف والرجاء، وهما من أعظم أصول العقيدة، والخوف والرجاء لابد من الجمع بينهما، لا يكفي الاقتصار على واحد منهما فقط، كما قال تعالى في وصف أنبيائه: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً) [الأنبياء:90].
رغباً: هذا هو الرجاء، ورهباً: هذا هو الخوف، وقال سبحانه وتعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) [الإسراء:57] فهم يجمعون بين الخوف والرجاء.
وقال جل وعلا: (أمن هو قانت ءانآء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) [الزمر:9]. ولابد معهما من المحبة لله، فلابد من هذه الأمور الثلاثة: المحبة لله، والخوف منه سبحانه وتعالى، والرجاء لفضله.
فمن اقتصر على المحبة فقط فهو صوفي، فالصوفية يعبدون الله عز وجل بالمحبة، ولا يخافون ولا يرجون، يقول قائلهم؛ أنا لا أعبده طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده للمحبة فقط، وهذا ضلال والعياذ بالله.
ومن عبد الله بالخوف فقط فهو من الخوارج؛ لأن الخوارج أخذوا جانب الخوف والوعيد فقط، فكفروا بالمعاصي.
ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو من المرجئة، الذين أخذوا جانب الرجاء فقط، وتركوا جانب الخوف.
أما أهل التوحيد فيعبدون الله بجميع الثلاث: بالحب والخوف والرجاء، ثم إن الخوف لا يكون معه قنوط، فإن كان معه قنوط من رحمة الله صار كفراً (إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87] قال الخليل عليه الصلاة والسلام: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [الحجر:56].(16/93)
وكذلك الرجاء لا يكون رجاء مع الأمن من مكر الله وعدم الخوف، وهذا مذهب المرجئة، وهو مذهب ضال (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) [الأعراف:99] فالرجاء فقط كفر، والخوف دون الرجاء كفر، ولذلك قال المصنف: ينقلان عن ملة الإسلام.
لذا يقول بعض السلف: يجب على العبد أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يعني: يسوي بينهما، كجناحي الطائر، وجناحا الطائر معتدلان، لو اختل واحد منهما سقط، فكذلك العبد بين الخوف والرجاء كجناحي الطائر.
(136) وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة:
(الحق بينهما) أي: الخوف والرجاء (لأهل القبلة) أي : المسلمين، سُمُّوا أهل القبلة؛ لأنهم يصلون إلى الكعبة، أما من لا يصلي إلى الكعبة فليس من المسلمين لأن الله أمر بالتوجه إلى الكعبة، فالواجب اتباع أمره سبحانه حينما نسخ الاستقبال لبيت المقدس، فالمؤمن يدور مع الأوامر؛ لأنه عبد لله (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) [البقرة:143].
(137) ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه :
هذا الكلام فيه مؤاخذة؛ لأن قصر الكفر على الجحود مذهب المرجئة، ونواقض الإسلام كثيرة منها: الجحود، ومنها: الشرك بالله عز وجل، ومنها: الاستهزاء بالدين أو بشيء منه ولو لم يجحد، وهي نواقض كثيرة ذكرها العلماء والفقهاء في أبواب الردة، ومنها: تحليل الحرام وتحريم الحلال.(16/94)
وذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب منها عشرة، وهي أهمها، وإلا فالنواقض كثيرة. فقصرُ نواقض الإسلام على الجحود فقط غلط. وبعض الكتّاب المتعالمين اليوم يحاولون إظهار هذا المذهب من أجل أن يصير الناس في سعة من الدين، ما دام أنه لم يجحد فهو عندهم مسلم، إذا سجد للصنم وقال: أنا ما جحدت، وأنا معترف بالتوحيد، إنما هو ذنب من الذنوب. أو ذبح لغير الله أو سب الله أو سب الرسول أو سب الدين، يقولون: هذا مسلم لأنه؛ لم يجحد، وهذا غلط كبير، وهذا يضيع الدين تماماً، فلا يبقى دين فالواجب الحذر من هذا الخطر العظيم.
(138) والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان:
هذا تعريف المرجئة، قصروا الإيمان على الإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
فالقول الحق: أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، فالأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وليست بشيء زائد عن الإيمان، فمن اقتصر على القول باللسان والتصديق بالقلب دون العمل، فليس من أهل الإيمان الصحيح.
فالإيمان –كما قال العلماء- : قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
قال تعالى : (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) [الأنفال:2] وقال: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً) [التوبة:124] وقال: (ويزداد الذين آمنوا إيماناً) [المدثر: 31] هذه الآيات تدل على زيادة الإيمان والنقص، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(1) فدل على أن الإيمان ينقص. وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(2) دل على أن الإيمان ينقص، حتى يكون على وزن حبة خردل.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم 49).
(2) أخرجه مسلم (رقم 50) .(16/95)
وكما في الحديث الصحيح: "أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان"(1).
فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا تعريفه الصحيح المأخوذ من الكتاب والسنة.
فليس كما تقوله الحنفية: قول باللسان واعتقاد بالجنان فقط.
وليس كما تقوله الكرامية: قول باللسان فقط.
وليس كما تقوله الأشاعرة: اعتقاد القلب فقط.
وليس كما تقوله الجهمية: هو المعرفة بالقلب فقط.
فالمرجئة أربع طوائف، أبعدها الجهمية، وعلى قولهم يكون فرعون مؤمناً؛ لأنه عارف، وإبليس يكون مؤمناً؛ لأنه عارف بقلبه.
وعلى قول الأشاعرة: إنه التصديق بالقلب، يكون أبو لهب وأبو طالب وأبو جهل وسائر المشركين يكونون مؤمنين؛ لأنهم موقنون بقلوبهم ومصدقون، يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، ولكن منعهم الكبر والحسد من اتباعه صلى الله عليه وسلم .
واليهود يعترفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، ولكن الحسد والكبر: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) [البقرة:146]، وقال في المشركين: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام:33]، فمعنى (لا يكذبونك) أي أنهم يصدقونك.
وأبو طالب يقول:
ولقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبةٍ لرأيتني سمحاً بذاك مبينا
(139) وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق:
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم 7510) ومسلم (رقم 192) .(16/96)
هذا كلام طيب، كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق، بخلاف من يقولون: إن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى متواتر وآحاد، فلا يأخذون إلا بالمتواتر، ويقولون: أحاديث الآحاد تفيد العلم، ولا تفيد اليقين، ولا يستدل بها في العقيدة، وهذا باطل، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم –متواتراً أو آحاداً، فإنه يفيد العلم، وتبنى عليه العقيدة؛ لأنه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه…) [الحشر:7].
فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عمل به في كل شيء، بشرط أن يكون قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك طوائف الآن يشككون في السنة؛ منهم من يقول: لا يجوز العمل بالسنة مطلقاً، ويكفي العمل بالقرآن فقط(1)، وهناك من يقول: يؤخذ من السنة المتواتر فقط، وكلا الطائفتين ضال.
__________
(1) فعن المقدام بن معدي كرب الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعان على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه…." .
…أخرجه أحمد 4/130 وأبو داود (رقم 3804، 4604).
…وأخرجه أحمد بلفظ قريب 4/132 والترمذي (رقم2664) وابن ماجه (رقم3193) والدارمي (رقم592) .(16/97)
فالواجب على المسلم أن يعتقد أن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، والرسول صلى الله عليه وسلم عمل بخبر الواحد في وقائع كثيرة؛ رؤية الهلال؛ جاءه ابن عمر وأخبره بأنه رأى الهلال فأمر الناس بالصيام، وجاءه أعرابي وأخبره أنه رأى الهلال فقال له: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟" قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصيام(1)، وهو خبر واحد.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، وما كان يرسل جماعات، والمرسل إليهم يعملون بما بلغهم المندوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
(140) والإيمان واحد. وأهله فيه سواء :
هذا غلط؛ لأن الإيمان ليس واحداً، وليس أهله سواء، بل الإيمان يتفاضل، ويزيد وينقص، إلا عند المرجئة.
والتصديق بالقلب ليس الناس فيه سواءً، فليس إيمان أبي بكر الصديق كإيمان الفاسق من المسلمين؛ لأن الفاسق من المسلمين إيمانه ضعيف جداً، وإيمان أبي بكر الصديق يعدل إيمان الأمة كلها(2)، فليس الناس في أصله سواءً. هذا من ناحية أصله.
__________
(1) أخرجه الترمذي (رقم691) وأبو داود (رقم2340) وابن ماجه (رقم1652) وابن خزيمة (رقم1923) وابن حبان (رقم 870) والحاكم (1/424).
(2) فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه البخاري (رقم3655) وبلفظ آخر فيه: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم (رقم3698).
…وعن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. أخرجه البخاري (رقم 3671) .(16/98)
كذلك من ناحية العمل، الناس يتفاضلون في العمل، منهم كما قال الله عز وجل: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه) [فاطر:32] هذا العاصي الذي معصيته دون الشرك، فإنه ظالم لنفسه؛ لأنه معرض نفس للخطر (ومنهم مقتصد) وهو الذي يعمل الواجبات ويتجنب المحرمات.
(ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) [فاطر:32] وهذا هو الذي يعمل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات من باب الاحتياط. فالأمة ليست سواء، فصارت ثلاث طوائف، فمنها الظالم لنفسه، ومنها المقتصد، ومنها السابق بالخيرات، فدل على أن الإيمان متفاضل.
(141) والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى:
هذا لا يكفي لأن معناه إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، وأنه إذا صدق بقلبه ونطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، والناس لا يتفاضلون في ذلك. وهذا خطأ كبير؛ لأن التفاضل يحصل بما ذكره وبالأعمال الصالحة.
(142) والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن:
هذا حق، فالمؤمنون كلهم أولياء الله، يعني: أحبابه، فالله يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب المحسنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، كما أنه يبغض الكافرين ويبغض الفاسقين، فالله يحب ويبغض على الأعمال.
فكل مؤمن يكون ولياً لله، وتتفاضل الولاية، بعضهم أفضل من بعض، قال جل وعلا: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس:62،63] فمن الناس من ولايته مع الله تامة، ومنهم من ولايته مع الله ناقصة، ومنهم من هو عدو لله بعيد عن الله سبحانه وتعالى.
فكل من فيه إيمان وتقوى فهو ولي الله، ولكن الولاية تتفاضل بحسب الأعمال، فمنهم من ولايته كاملة، ومنهم من هو ولي من وجه، وهو المؤمن الفاسق، ولي لله بطاعته، عدو لله بمعصيته ومخالفته.
ومنهم من هو عدو خالص كالكافر والمشرك.(16/99)
هذا هو الحق، أما من يرى أنه ليس لله ولي إلا من بُنيَ على قبره مشهد أو ضريح، والذي ليس عليه ضريح هذا فليس بولي؟ كما عند القبوريين! فهذا باطل.
(143) والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره، من الله تعالى:
تعريف الإيمان هو كما سبق: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان(1)، وأما ما ذكره المصنف هنا فهي أركانه كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل "قال: أخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"(2) .
وله خصال كثيرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون شعبة –أو بضع وستون شعبة- أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"(3) لكن هذه الستة هي الأركان والدعائم التي يقوم عليها.
وتقدم الكلام عن الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، تقدم كل هذا، ولكنه متفرق في أول هذه العقيدة.
(144) ونحن مؤمنون بذلك كله:
يجب الإيمان بهذا كله، فإن جحد شيئاً من هذه الأركان فإنه ليس بمؤمن؛ لأنه نقص ركناً من أركان الإيمان.
(145)لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به:
__________
(1) فقد أخرج البخاري في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى: (وزدناهم هدى) (ويزداد الذين آمنوا إيماناً) وقال: (اليوم أكملت لكم دينكم) فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص.
(2) أخرجه البخاري (رقم50) ومسلم رقم (10) .
(3) أخرجه البخاري (رقم9) ومسلم (رقم35) واللفظ له.(16/100)
هذا سبق، أنه يجب الإيمان بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم في القرآن ولم يسمَّ؛ فنؤمن بجميع الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعض فهو كافر بالجميع؛ لو جحد نبياً واحداً فإنه يكون كافراً بجميع الأنبياء (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً* أولئك هم الكافرون حقاً) [النساء:150،151].
فاليهود كفار؛ لأنهم كفروا بنبيين كريمين، كفروا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى كفار؛ لأنهم جحدوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين يقولون اليوم: اليهود والنصارى مسلمون ومؤمنون، وأنهم أهل أديان، ويجب التقارب بين الأديان والحوار بين الأديان، هذا خلط وضلال والعياذ بالله، خلط بين الحق والباطل، والإيمان والكفر لأنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ليس هناك دين صحيح إلا الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران:85].
فالإسلام نسخ كل ما قبله، وأمر الإنس والجن واليهود والنصارى والأميين وجميع العرب والعجم، أمروا باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان إلا باتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
(146) وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون:
الكبائر هي الذنوب التي دون الشرك وفوق الصغائر، وضابط الكبيرة هو: كل ذنب رُتب عليه حد، أو ختم بغضب أو لعنة أو نار، أو تبرى الرسول صلى الله عليه وسلم من فاعله، فإن هذا كبيرة، كقوله: "من غشنا فليس منا" (1)، "من حمل علينا السلاح فليس منا"(2).
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم101) .
(2) أخرجه البخاري (رقم 6874) ومسلم (رقم 98،100،101).(16/101)
كل هذه الاعتبارات تدل على أن الذنب كبيرة، ولكنها دون الشرك، فصاحبها لا يخرج من الإيمان، وإنما يكون مؤمناً ناقص الإيمان، أو يسمى فاسقاً، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، لا يكفرون بالكبائر التي دون الشرك، ولكن لا يمنحون صاحبها اسم الإيمان المطلق، ولكن يمنحونه إيماناً مقيداً؛ فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
فلا يقال: هو مؤمن كامل الإيمان، كما تقوله المرجئة، ولا يقال: هو خارج من الإسلام، كما تقوله الخوارج والمعتزلة.
إذاً: فالناس في صاحب الكبيرة التي هي دون الشرك ثلاث طوائف :
الخوارج والمعتزلة: أخرجوه من الإسلام، لكن الخوارج أدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يدخلوه، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، ولكنهم أخرجوه من الإسلام.
المرجئة قالوا: هو مؤمن كامل الإيمان، طالما أنه يعتقد في قلبه الإيمان عند جمهورهم وينطق بلسانه عند بعضهم، فإنه مؤمن كامل الإيمان، ولا تنقص هذه المعاصي من إيمانه، وإن كانت كبائر، وهذا ضلال أيضاً.
أما القول الحق فهو مذهب أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة دون الشرك مؤمن، وليس بكافر، لكنه ناقص الإيمان. فهذا يجب معرفته، ويجب أن ترسخه في عقلك، فأهل الشر زاد شرهم في هذا الوقت، وصاروا يظهرون مذهب الإرجاء ليروجوه على الناس، وليستروا على أنفسهم ما هم فيه من الضلال.
فهذا معرفته من أوجب الواجبات على طالب العلم اليوم.
(147) وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين "مؤمنين" وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وإن شاء عذبهم في النار بعدله:(16/102)
نعم، هذا هو المذهب الحق: أن أصحاب الكبائر التي دون الشرك ليسوا كفاراً، وأنهم إذا لقوا الله ولم يتوبوا من هذه الكبائر فإنهم تحت المشيئة، إن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بتوحيدهم وإيمانهم، لا يخلدون في النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء:48]، لكن قوله: (عارفين مؤمنين) فيه إجمال، فلو قال: (موحدين) كما قال أولاً لكان أحسن.
وإن شاء الله أمضى فيهم الوعيد، ولكنهم لا يخلدون في النار، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو المذهب الحق، بخلاف الخوارج الذين يقولون: إنهم في النار على أي حال، وإنهم خالدون فيها، فمن دخل النار عندهم لا يخرج منها. وخلاف المرجئة القائلين: إنهم لا يمرون على النار أبداً، فهذا غلط، بل لا نضمن لهم النجاة، فهم تحت المشيئة.
إن شاء عفا عنهم بفضله، وإن شاء عذبهم بعدله، وما ظلمهم الله سبحانه وتعالى، بل عذبهم بأعمالهم التي أوجبت لهم ذلك، فالله لا يعذب من لم يعصه، ولا يساوي بين العاصي وبين المؤمن المستقيم، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين*ما لكم كيف تحكمون) [القلم: 35،36] (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:28].
هذا استنكار من الله عز وجل، (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية: 21].
(148) ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته:(16/103)
كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عصاة الموحدين يخرجون من النار(1)، إما بفضل الله تعالى، وإما بشفاعة الشافعين بإذن الله تعالى، والشفاعة حق، ولكن لا تكون إلا بإذن الله، وأن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد، لا من الكافرين ولا من المشركين ولا من المنافقين.
(149) ثم يبعثهم إلى جنته:
بعد إخراجهم من النار، ورد أنهم يخرجون من النار كالفحم محترقين، ثم يلقون في نهر يسمى: نهر الحياة، فتنبت أجسامهم ولحومهم، ثم بعد ذلك إذا هُذبوا ونُقوا أُذن لهم في دخول الجنة، فيدخلون في الجنة(2).
(150) وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته :
__________
(1) كما في حديث الشفاعة عن أنس رضي الله عنه وفيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة" أخرجه البخاري (رقم 7410) ومسلم (رقم193).
(2) فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار يقول الله: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمماً، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل –أو قال: حمية السيل" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا أنها تنبت صفراء ملتوية" .
…أخرجه البخاري (رقم 5060) ومسلم (رقم 184،185) .(16/104)
قال تعالى : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) [الجاثية:21]، وقوله تعالى: (أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:28] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله لا يسوي بين أهل طاعته وأهل معصيته، ولا بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بل يجازي كلاً بعمله. (ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته) بل ميز بينهم سبحانه في الدنيا وفي الآخرة، ميز بين أهل الطاعة والمعصية، وبين أهل الكفر والإيمان، في الدنيا وفي الآخرة، ميز بينهم في الدنيا في صفاتهم وعلاماتهم وأفعالهم، فليست أفعال أولياء الله وأهل الطاعة مثل أفعال أعدائه ولا أقوالهم ولا تصرفاتهم، انظر إلى الناس الآن، وانظر إلى تصرفاتهم، انظر إلى تصرفات المتقين والمؤمنين، وانظر إلى تصرفات الفسقة والعاصين، وانظر إلى تصرفات الكفار والملحدين، هذا في الدنيا.
وفي الآخرة كذلك يميز الله بينهم، فهؤلاء يكرمهم بجنته، وهؤلاء يعذبهم بناره وعقوبته؛ لأنه سبحانه حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يضع الرحمة إلا فيمن يستحقها، ولا يضع سبحانه وتعالى العذاب إلا فيمن يستحقه. لكن قوله: (أهل معرفته) فيه قصور وإيهام أن الإيمان هو مجرد المعرفة كما يقوله غلاة المرجئة فلو قال: (أهل طاعته) لكان أحسن وأوضح.
(151) اللهم يا وليّ الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به:
هذا من أجمل كلام المصنف يرحمه الله!(16/105)
إنه لما ذكر هذه المسائل العظيمة الخطيرة سأل الله التثبيت، ألا يضله الله مع أصحاب هذه الضلالات وأصحاب هذه المقالات الضالة، فهذا من الفقه والحكمة؛ أن الإنسان لا يغتر بعلمه، ويقول: أنا أعرف التوحيد وأعرف العقيدة، وليس عليّ خطر، هذا غرور بل عليه أن يخاف من سوء الخاتمة والضلال، يخاف أن ينخدع بأهل الضلال، كم من معتدل انحرف، خصوصاً إذا اشتدت الفتن، يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويبيع دينه بعرض من الدنيا، كما صح الحديث بذلك(1).
الفتن إذا جاءت يسأل الإنسان الله الثبات(2)
__________
(1) فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا" أخرجه مسلم (رقم118).
(2) فعن جابر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" فقلنا: يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بما جئت به؟ فقال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء".
…أخرجه الترمذي (رقم2145) وابن ماجه (رقم3834) والحاكم 1/525-526، 4/321 وصححه ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
…وقد أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" أخرجه مسلم (رقم2654).(16/106)
، ولا يقول: أنا لست على خطر، أنا عارف وأنا أصلي، نعم، أنت عارف وتصلي والحمد لله، لكن عليك خطر وعليك أن تخاف، أنت أفضل أم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) [إبراهيم:35] إبراهيم خاف على نفسه من عبادة الأصنام، مع أنه هو الذي كسّرها وحطّمها بيده، ولقي في ذلك العذاب والإهانة في سبيل الله عز وجل، ومع هذا يقول: (وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)[إبرهيم:35] ولم يقل: أنا الآن نجوت، بل طلب من الله أن يجنبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، فالإنسان يخاف دائماً من ربه عز وجل، وكم من مهتد ضل، وكم من مستقيم انحرف، وكم من مؤمن كفر وارتد، وكم من ضال هداه الله، وكم من كافر أسلم، فالأمر بيد الله سبحانه وتعالى.
(152) ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجرٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم:
هذا فيه مسألتان:
الأولى: أن الصلاة عمل وإحسان، فإذا فعلها الناس خصوصاً ولاة الأمور، فإنهم عملوا معروفاً وإحساناً، وفي ترك الصلاة خلفهم فيه محظور عظيم، من شق العصا، وتفريق الكلمة، وسفك الدماء وهذا خطر عظيم، فيجب أن يُتلافى، قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وعلى من قال: لا إله إلا الله"(1)، هذا من حيث العموم، فكيف بولاة الأمور الذين في منابذتهم ومخالفتهم شق لعصا الطاعة، وتفريق الكلمة، وآثار سيئة على المسلمين؟
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، يصلون الجمع والجماعات، ويجاهدون في سبيل الله مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، ما لم يخرج عن الإسلام.
هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، من عهد الصحابة إلى عهد الأئمة، وهو الذي عليه إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/43 رقم1743).(16/107)
المسألة الثانية: الصلاة على جنازة المسلم وإن كان فاسقاً، ما لم يخرج من الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، أما إذا خرج عن الإسلام فلا يصلى عليه؛ لأنه ليس بمسلم، وليس كل إنسان يَحكُمُ على الناس بالردة، إنما يحكم بذلك أهل العلم والبصيرة بالرجوع إلى قواعد أهل السنة والجماعة، أما كل أحد فلا يحكم بذلك، وإن كانت نيته طيبة ومقصده حسناً، إنما الحكم لأهل البصيرة والراسخين في العلم.
(153) ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً:
نحن لا نشهد لأحد، مهما بلغ من الصلاح والتقى، لا نشهد له بالجنة؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نحكم لأحد من المسلمين بالنار مهما عمل من المعاصي، لا نحكم عليه بالنار؛ لأننا لا ندري بما ختم له وما مات عليه(1)، وهذا في المعيّن.
فنحن ما لنا إلا الظاهر فقط، وكذلك لا يحكم لأحد بالنار، إلا من شهد له بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء بجنة أو نار، مثل العشرة المبشرين بالجنة، وهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنهم(2)
__________
(1) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "…. إنما الأعمال بخواتيمها" أخرجه البخاري (رقم6493).
(2) فعن سعيد بن زيد حدّث في نفرٍ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبدالرحمن، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص" قال: فعدَّ هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور في الجنة.
…أخرجه الترمذي (رقم3757) وقال أبو عيسى: أبو الأعور هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نوفيل. وسعمت محمداً –يعني البخاري- يقول: هو أصح من الحديث الأول.(16/108)
. وكذلك شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، شهد له بالجنة، وكذلك رجل من الأنصار قال: "يدخل عليكم رجل من أهل الجنة" فدخل رجل تنطف لحيته من وضوئه، وبيده اليسرى نعلاه، ثم جلس في الحلقة، وفي اليوم الثاني والثالث قال عليه الصلاة والسلام نفس المقالة، ودخل نفس الرجل، وهذا من باب التأكيد، وإلا فشهادة واحدة تكفي، وقد تابعه عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- حتى يعلم عمله الذي بسببه بشر بالجنة، فلم يجد عنده كثير عبادة، وجده محافظاً على الفرائض، ويقوم من الليل، وكان إذا استيقظ من الليل ذكر الله وسبح وهلل، فلما أراد عبد الله أن يغادر قال للرجل: إني سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول كذا وكذا، فأردت أن أسبر عملك، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت. فلما ولىّ دعاه وقال: إلا أنني لا أجد في قلبي غلاً على مسلم، قال: هذا، الذي لا نطيقه(1).
الحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد لأحد بالجنة، فإننا نشهد له بالجنة، ونقطع له بالجنة، وأما غيره فلا نقطع له، ولكن نرجو له الخير. وكذلك الكافر المعين لا نحكم عليه بالنار؛ لأنه قد يتوب ويموت على التوبة، يختم له بخير، لكننا نخاف عليه، هذا من حيث التعيين.
أما من حيث العموم: فنقطع أن المسلمين في الجنة، ونقطع أن الكفار من أهل النار.
(154) ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك:
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/166 وعبد الرزاق في مصنفه (رقم20559) والبغوي في شرح السنة (رقم3535) والنسائي في عمل اليوم والليلة (رقم863) والبيهقي في شعب الإيمان (رقم6605) .(16/109)
الأصل في المسلم: العدالة، وهذه قاعدة عظيمة فلا نسيء الظن فيه ولا نتجسس عليه، ولا نتتبعه، لكن إن ظهر لنا شيء حكمنا به عليه، وإن لم يظهر شيء فلا نسيء الظن بالمسلمين، فنعامله بما يظهر منه، ونحن لسنا مكلفين بالبحث عن الناس والتحري عنهم والحكم عليهم، لم يكلفنا الله بذلك(1).
(155) ونذر سرائرهم إلى الله تعالى:
نحسن الظن بهم، وسرائرهم إلى الله تعالى، ولم نكلف أن نبحث عن الناس وعن أحوالهم، والواجب ستر المسلم وإحسان الظن به، والتآخي بين المسلمين(2) (إنما المؤمنون إخوة) [الحجرات:10].
(156) ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف :
__________
(1) فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: "يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوارتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه الله ولو في جوف رحله".
…ونظر ابن عمر يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. أخرجه الترمذي (رقم2037) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً سرته الله يوم القيامة".
…أخرجه البخاري (رقم2442) ومسلم (رقم 2580).(16/110)
لا يجوز قتل المسلم، واستباحة دمه؛ لأن الله عصمه بالإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"(1) فمن أظهر الإسلام ونطق بالشهادتين، ولم يظهر منه ناقض من نواقض الإسلام، فإن دمه حرام، فلا يجوز الاعتداء عليه وسفك دمه، قال عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"(2) قال هذا في خطبته بمنى يوم النحر.
هل هناك أشد من هذا؟ فحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى الكعبة قال: "ما أشد حرمتك! وحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك" أو كما قال عليه الصلاة والسلام(3).
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"(4).
الأول: الثيب الزاني، هو المحصن الذي سبق أن وطأ زوجته في نكاح صحيح وهما عاقلان بالغان حران، فإذا زنى رُجم حتى الموت.
الثاني: المسلم إذا تعدّى على المسلم فقتله ظلماً وعدواناً، وطالب أولياء المقتول بالقصاص فيُقتل (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) [البقرة:178] أي : فرض عليكم، وقال تعالى : (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة:45].
والثالث : هو المرتد، فيقتل حد الردة، وما عدا الثلاثة فدم المسلم محرَّم حرمةً عظيمة.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم25،392،2946) ومسلم (رقم 21،22).
(2) أخرجه البخاري (رقم67) ومسلم (رقم 1679).
(3) وقد ثبت ذلك عن ابن عمر، فهو موقوف عليه، كما عند الترمذي (رقم2037)، وقال عنه: هذا حديث حسن غريب .
(4) أخرجه البخاري (رقم6878) ومسلم (رقم1676).(16/111)
كذلك البغي، إن بغى على المسلمين ولو كان مسلماً فالبغاة يقاتلون؛ لأنهم يريدون أن يفرقوا كلمة المسلمين، ويخرجوا على إمامهم، فيجب قتالهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله) [الحجرات:9] وتُستحل دماؤهم من أجل كفهم عن البغي، ولصيانة جماعة المسلمين وكلمتهم وحفظ الأمن.
وكذلك تستباح دماء قطاع الطريق (إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) [المائدة:33] فجزاؤهم على حسب جرائمهم .
فهؤلاء أحل الله قتلهم؛ لدفع شرهم وعدوانهم .
(157) ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا:
هذه مسألة عظيمة، فمن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يرون الخروج على ولاة أمر المسلمين (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] وقال عليه الصلاة والسلام: "من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني"(1) فلا يجوز الخروج عليهم؛ ولو كانوا فساقاً لأنهم انعقدت بيعتهم، وثبتت ولايتهم، وفي الخروج عليهم ولو كانوا فساقاً مفاسد عظيمة، من شق العصا، واختلاف الكلمة، واختلال الأمن، وتسلط الكفار على المسلمين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ما خرج قوم على إمامهم إلا كانت حالتهم بعد الخروج أسوأ من حالتهم قبل الخروج) أو كما ذكر.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم2957) ومسلم (رقم1835) .(16/112)
وهذا حتى عند الكفار، إذا قاموا على ولي أمرهم وخرجوا عليه، فإنه يختل أمنهم ويصبحون في قتل وقتيل، ولا يقر لهم قرار، كما هو مشاهد في الثورات التي حدثت في التاريخ، فكيف بالخروج على إمام المسلمين؟ فلا يجوز الخروج على الأئمة وإن كانوا فساقاً، ما لم يخرجوا عن الدين، قال عليه الصلاة والسلام: "اسمعوا وأطيعوا إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"(1) فالفسق والمعاصي لا توجب الخروج عليهم، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج عليهم إن كان عندهم معاصٍ وحصل منهم فسق، فيقولون: هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون به الخروج على ولاة أمور المسلمين.
فأصول المعتزلة خمسة:
الأول: التوحيد، ومعناه: نفي الصفات، ويرون من يثبت الصفات فهو مشرك.
الثاني: العدل، ومعناه: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على أئمة المسلمين إن كان عندهم معاصٍ دون الكفر. وهذا هو المنكر بنفسه، وليس من المعروف في شيء.
الرابع: المنزلة بين المنزلتين، وهو الحكم على أصحاب الكبائر بالخروج من الإسلام، وعدم الدخول في الكفر، وأما الخوارج فيحكمون عليه بالكفر.
الخامس : إنفاذ الوعيد، ومعناه، أن من مات على معصية وهي كبيرة من الكبائر دون الشرك، فهو خالد مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في مصيره في الآخرة، ويخالفون الخوارج في أنه في منزلة بين المنزلتين، وألّف فيها القاضي عبد الجبار –من أئمتهم- كتاباً سماه: شرح الأصول الخمسة.
(158) وإن جاروا:
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم7056) ومسلم (رقم 1709).(16/113)
الجور معناه: الظلم، وإن تعدوا وظلموا الناس بأخذ أموالهم، وضرب ظهورهم، أو يقتلون المسلم، فلا يرون الخروج عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "اسمع وأطع وإن أخذ مالك وجلد ظهرك"(1) فالصبر عليهم أولى من الخروج؛ لما في الخروج من المفاسد العظيمة، فهذا من باب ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما، وهي قاعدة عند أهل السنة والجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر على جور الولاة وإن ظلموا وجاروا وإن فسقوا.
(159) ولا ندعو عليهم:
لا يجوز الدعاء عليهم: لأن هذا خروج معنوي، مثل الخروج عليهم بالسلاح، وكونه دعا عليهم؛ لأنه لا يرى ولايتهم، فالواجب الدعاء لهم بالهدى والصلاح، لا الدعاء عليهم، فهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإذا رأيت أحداُ يدعو على ولاة الأمور، فاعلم أنه ضال في عقيدته، وليس على منهج السلف، وبعض الناس قد يتخذ هذا من باب الغيرة والغضب لله عز وجل، لكنها غيرة وغضب في غير محلهما؛ لأنهم إذا زالوا حصلت المفاسد.
قال الإمام الفضيل بن عياض –رحمه الله- ويروي ذلك عن الإمام أحمد يقول: (لو أني أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان).
والإمام أحمد صبر في المحنة، ولم يثبت عنه أنه دعا عليهم أو تكلم فيهم، بل صبر وكانت العاقبة له، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
فالذين يدعون على ولاة أمور المسلمين ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك الذين لا يدعون لهم، وهذا علامة أن عندهم انحرافاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم1847) من حديث حذيفة بن اليمان.(16/114)
وبعضهم ينكر على الذين يدعون في خطبة الجمعة لولاة الأمور، ويقولون: هذه مداهنة، هذا نفاق، هذا تزلف. سبحان الله ! هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بل من السنة الدعاء لولاة الأمور؛ لأنهم إذا صلحوا صلح الناس، فأنت تدعو لهم بالصلاح والهداية والخير، وإن كان عندهم شر، فهم ما داموا على الإسلام فعندهم خير، فما داموا يُحَكِّمون الشرع، ويقيمون الحدود، ويصونون الأمن، ويمنعون العدوان عن المسلمين، ويكفون الكفار عنهم، فهذا خير عظيم، فيدعى لهم من أجل ذلك. وما عندهم من المعاصي والفسق، فهذا إثمه عليهم، ولكن عندهم خير أعظم، ويُدعى لهم بالاستقامة والصلاح فهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب أهل الضلال وأهل الجهل، فيرون هذا من المداهنة والتزلف، ولا يدعون لهم، بل يدعون عليهم.
والغيرة ليست في الدعاء عليهم، فإن كنت تريد الخير؛ فادعُ لهم بالصلاح والخير، فالله قادر على هدايتهم وردهم إلى الحق، فأنت هل يئست من هدايتهم؟ هذا قنوط من رحمة الله، وأيضاً الدعاء لهم من النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الذين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(1) . فهذا أصل عظيم يجب التنبه له، وبخاصة في هذه الأزمنة.
(160) ولا ننزع يداً من طاعتهم :
(ولا ننزع يداً من طاعتهم) هذا تأكيد لما سبق، حتى ولو حصل منهم ظلم وجور ومعاصٍ وكبائر دون الشرك، فإننا لا ننزع يداً من طاعتهم، ولا نخرج عليهم ولا نعصيهم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] بل نجاهد معهم، ونشهد الجمع والجماعات والأعياد معهم؛ من أجل اجتماع كلمة المسلمين.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم55) وأخرجه البخاري تعليقاً في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه سلم: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".(16/115)
(161) ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية:
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] فالله أمر بطاعة ولاة الأمر من المسلمين، أما الكافر فلا طاعة له على المسلمين (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) [النساء:141] لأنه قال: (وأولي الأمر منكم) يعني المسلمين. فتجب طاعتهم إلا إذا أمروا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، فلا تطعه في تلك المعصية، لكن ليس المعنى أن تخرج عليه وتنزع الطاعة مطلقاً، بل لا تطعه في تلك المعصية، وأطعه فيما عداها، مما ليس بمعصية وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما الطاعة في المعروف"(1).
(162) وندعو لهم بالصلاح والمعافاة:
ندعو الله أن يرجعهم إلى الحق، ويصحح ما عندهم من الخطأ، ندعو لهم بالصلاح؛ لأن صلاحهم صلاح للمسلمين، وهدايتهم هداية للمسلمين، ونفعهم يتعدّى لغيرهم، فأنت إن دعوت لهم دعوت للمسلمين.
(163) ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة:
هذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، وهو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"(2) فلما أمر بالسنة، نهى عن البدعة.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم4340،7145) ومسلم (رقم1840).
(2) أخرجه أبو داود (رقم4607) والترمذي (رقم2681) وابن ماجه (42) .(16/116)
والبدعة: ما أُحدث في الدين مما ليس منه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(1)، وكل عبادة وكل عمل يتقرب به العبد لله، وليس عليه دليل من الكتاب ولا السنة، فهو بدعة، وإن كان قصد فاعله التقرب إلى الله فهو إنما يبعده عن الله، ولا يثاب عليه؛ بل يعاقب، فالسنة ما كان عليه دليل من الكتاب أو السنة.
والبدع كثيرة جداً، فالناس يُحدثُون بدعاً كثيرة، فالبدع لا تُقرّ ولا يُعمل بها مهما كانت وممن صدرت، ومن البدع ما يعمل من الاحتفالات بالمولد النبوي، فهو بدعة، ليس عليه دليل من الكتاب ولا السنة ولا هدي الخلفاء الراشدين، ولا من هدي القرون المفضلة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، إنما أُحدث بعد هذه القرون لما فشا الجهل، وأول من أحدث المولد: الشيعة الفاطميون، ثم أخذه الأغرار المنتسبون لأهل السنة عن حسن نية وقصد، ويزعمون أنه من محبة الرسول، وليس ذلك من محبته، إنما المحبة بالاتباع لا الابتداع:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فعلامة المحبة الصادقة: الاتباع، أما الابتداع فهي علامة على الكراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من البدعة، وأنت تحييها وتحدثها، فمعنى ذلك أنك تكره السنة، وإذا كنت تكره السنة فأنت تكره الرسول فإن كنت تريد الخير فتب إلى الله وارجع، أما العناد والمكابرة فهذا اختيار سيئ لنفسك.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم 1718) وأخرجه البخاري بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" (رقم2697) .(16/117)
وكذلك نلزم الجماعة ونترك الشذوذ؛ فلا نأتي بعمل ولا بقول شاذ ليس عليه عمل المسلمين وقولهم؛ لأن هذا يُفرّق الكلمة ويحدث العداوة، فما دام المسلمون يمشون على منهج الكتاب والسنة، فلا نترك ما هم عليه لقول شاذ، فالشذوذ والمخالفات لا تجوز، والحمد لله، المسلمون يبحثون عن الحق، وإجماعهم "إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة"(1)، حتى الحديث إن ورد عن طريق وسند صحيح، لكن فيه مخالفة لما هو أصح منه؛ فيسمى حديثاً شاذاً عند المحدثين.
فيجب التثبت في هذه الأمور، ولا ننبش في أقوال وأفعال مهجورة ونؤلف فيها ونشوش على الناس أمور دينهم، والشذوذ: مخالفة ما عليه جماعة المسلمين، والخلاف ضد الاتفاق، والفرقة ضد الاجتماع، والشذوذ ضد الائتلاف، أما أن نبحث عن الشاذ، فهذا تضليل للأئمة وتجهيل لهم، وهل أنت أوتيت علماً أكثر من علمهم، وخصصت بعلم لم يصلوا إليه؟ وما آل إليه بعض الناس من هذه الأمور في العصور المتأخرة التي يفشو فيها الجهل، وأغلب ما يصدر ذلك عن واحد متعالم وليس بعالم، ولم يدرس العقيدة الصحيحة والفقه، إنما تفقه على نفسه وصار يضيف إلى دين الله ما ليس منه، وهذه مصيبة، فالعلم ليس بفوضى، إنه يحتاج إلى ضوابط وفقه ودراية.
(164) ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة:
المحبة عمل قلبي ، والمحبة على قسمين:
أولاً: محبة طبيعية، كمحبة الإنسان لأهله وزوجته وأولاده، ومحبته لأصدقائه، ومحبته للأكل والشرب، فهذه المحبة لا تدخل في أمر العبادة.
ثانياً: محبة دينية، وهذه على نوعين:
النوع الأول: محبة الله سبحانه وتعالى، وهي أعظم أنواع العبادة، يقول ابن القيم:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
__________
(1) أخرجه الترمذي (رقم2172) .(16/118)
عبادة الرحمن غاية حبه، أي: منتهى حبه، وتدور عليها أمور العبادات كلها، فهي نوع عظيم من أنواع العبادة، لا يجوز أن يُحب أحد مع الله (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) [البقرة:165] هذا شرك في المحبة، التي هي أعظم أنواع العبادة، ولذلك قال: (والذين آمنوا أشد حباً لله) [البقرة:165] فالمؤمنون لا يحبون إلا الله، ومحبتهم أشد من محبة أهل الأصنام لأصنامهم؛ لأن محبة الله لا تنقطع في الدنيا ولا في الآخرة، أما محبة غيره من المعبودين فتنقطع في الآخرة، وتحصل العداوة بين من عبد من دون الله ومن عبده (وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين) [الأحقاف:6]، (إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة والدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار) [العنكبوت:25].
النوع الثاني: المحبة في الله ولأجل الله، وذلك بأن تحب ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، وتحب أهل الإيمان والتقوى، (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة:222]، (إن الله يحب المحسنين) [البقر:195]، فأنت تحبهم؛ لأن الله يحبهم، وفي مقدمة هؤلاء: الملائكة، والأنبياء والرسل، والأولياء والصالحون، وجميع المؤمنين.
وهذه تسمى المحبة في الله، وهي أوثق عرى الإيمان، كما جاء في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"(1)، وقال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" ذكر منها: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله"(2).
فتحب أولياء الله لأن الله يحبهم، وتبغض أعداء الله لأن الله يبغضهم، فيكون الحب والبغض من أجل الله، وليس طمعاً في الدنيا، فلا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي ويعادي الله.
__________
(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (11/215رقم11537).
(2) أخرجه البخاري (رقم16) ومسلم (رقم43).(16/119)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً".
وهذه المحبة تبقى في الدنيا والآخرة، وأما محبة الدنيا فتنقطع، وتكون عداوة في الآخرة (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) [الزخرف:67].
وتبغض الشخص من أجل الله، وليس من أجل أنه أساء إليك؛ بل تبغضه؛ لأنه عدو لله، وهذه ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: الحب والبغض في الله، (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة:4].
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه"(1) فالحب في الله والبغض في الله أمره عظيم؛ لأنه فرقان بين الحق والباطل (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) [الأنفال:29]، فالمؤمن يكون عنده فرقان، يفرق بين هذا وهذا.
وقد ذكر العلماء أن الناس في المحبة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: منهم من يحب محبة خالصة ليس معها بغضاء، وهم الملائكة والرسل عليه الصلاة والسلام، وخُلّص المؤمنين كالصحابة (ربنا اغفر لنا ولإخوننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) [الحشر:10] وكذلك السلف الصالح وأهل السنة والجماعة؛ لصفاء ما هم عليه من العقيدة وما هم عليه من الحق؛ لطاعتهم لله ورسوله.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم660) ومسلم (رقم1031) .(16/120)
القسم الثاني: من يبغض بغضاً خالصاً ليس معه محبة، وهم الكفار، أعداء الله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) [الممتحنة:1] أي : أحباء تحبونهم وتوالونهم وتناصرونهم، وتدافعون عنهم، بل الواجب التبرؤ منهم؛ لأنهم أعداء الله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) [المجادلة: 22] والمقصود بالروح هنا: قوة الإيمان .
القسم الثالث: من يجتمع فيه محبة وبغض، وهو المؤمن العاصي، يحب من وجه، ويبغض من وجه، تحبه لما فيه من الخير والطاعة، وتبغضه لما فيه من المعاصي والمخالفة، هكذا ينبغي على المسلم أن يميز.
والمحبة بابها باب عظيم ينبغي التنبه له ومعرفته؛ لأن عليه مداراً عظيماً في العقيدة وأمور الدين، فالإنسان لا يمشي إمعة، لا يدري من يحب ومن يبغض، بل يجعل المحبة والبغضاء ميزاناً يفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، ولا يجعله ميزاناً دنيوياً وهوى، فمن وافقه على دنياه وهواه وأعطاه شيئاً من الدنيا أحبه، ولو كان من أكفر الناس وأفسقهم، وإن لم يعطه شيئاً أبغضه، ولو كان من أصلح الصالحين، فهذا لا يجوز.
(165) ونقول: الله أعلم، فيما اشتبه علينا علمه:
هذه مسألة عظيمة، وهي مسألة العلم فالإنسان لا يقول ما لا يعلم، إن علم شيئاً قال به، وإن جهل شيئاً فلا يقول به، ولا يقول في أمور الدين والعبادات ولا يدخل فيها بغير علم، بل يتوقف، ويقول: الله أعلم.
والإمام مالك إمام دار الهجرة، جاءه رجل فسأله عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع منها، وقال في الباقي: لا أدري، فقال الرجل: أنا جئتك من كذا وكذا على راحلتي وتقول: لا أدري؟ قال له الإمام: اركب راحلتك، وارجع إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكاً فقال: لا أدري!!(16/121)
والنبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء لم ينزل عليه فيه وحي فإنه ينتظر حتى ينزل عليه وحي، كذلك الصحابة إذا سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء لا يعلمونه قالوا: "الله ورسوله أعلم"، لا يتخرصون. فهذا الباب عظيم وخطير، والله عز وجل جعل القول عليه بغير علم مرتبة فوق الشرك به سبحانه وتعالى : (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:33]، وقال سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) [الإسراء:36].
يا أخي، يسعك أن تقول: لا أدري، ومن قال: لا أدري، فقد أجاب، ولا تتخرص وتخوض في أحكام الشرع بغير بصيرة، وقول: لا أدري، فيما لا تعلم، ليس نقصاً فيك، بل العكس، هو كمال؛ لأنه ورع وتقوى، والناس يحمدونك على هذا،
كثير من المنتسبين إلى العلم –وبخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة التي قل فيها الفقهاء وكثر القراء- يفتون ويحكمون ويتخبطون في الأحكام الشرعية في وسائل الإعلام وغيرها بغير بصيرة، ومن فضل الله أنهم انكشفوا أمام الناس بجهلهم، وفضحهم الله عز وجل، ولو أنهم ستروا أنفسهم وتوقفوا عما ليس لهم به علم وتورّعوا؛ لكان ذلك أكمل وأجل لهم عند الله وعند الناس، فلنعتبر بهذا.
(166) ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر:
لماذا جاء بهذه المسألة –وهي مسألة فقهية- في العقيدة؟
لأن هذه المسألة أنكرها المبتدعة، وأثبتها أهل السنة، والمسح على الخفين تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن اشتهر عنهم إنكار المسح على الخفين: الرافضة، ويخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك، ويخالفون الأحاديث الثابتة، فالمسح ثابت، يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وهذه رخصة وتسهيل من الله على عباده.(16/122)
فالرافضة ينكرون المسح على الخفين، ويقولون بالمسح على الرجلين، وهذا من أكبر المغالطة، فلا أحد يقول بالمسح على الرجلين، وهكذا من ترك الحق ابتلاه الله بالباطل.
استدل الرافضة على المسح على الرجلين: بقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) [المائدة:6] بقراءة الجر، حيث عطف الأرجل على الرؤوس في هذه القراءة، والرؤوس ممسوحة، وعندهم الكعبان معقد الشراك، مجمع القدم مع العقب ويسمى عرش الرِّجْل.
وعند أهل السنة والجماعة أن المراد بالكعبين: العظمان الناتئان في أسفل الساق، مجمع الساق مع الرجل، فالمسح للرجلين باطل؛ لأن المشهور من قراءة الآية: الفتح، عطف على المغسولات، على (وجوهكم وأيديكم) [المائدة:6] وأدخل الممسوح بين المغسولات من أجل الترتيب، ولو أخر لفهم أن مسح الرأس يكون بعد غسل الرجلين.
أما قراءة (وأرجلكم) بالجر فهي صحيحة، ولكن عنها أربعة أجوبة الجواب الأول أن وجه الجر هنا على المجاورة، وهذه لغة عند العرب، مثل أن تقول: هذا جحر ضب خربٍ، خربٍ ليست صفة لضب، إنما هي صفة لجحر، وجحر مرفوع.
ولكن من أجل المجاورة، ومن أجل سهولة النطق جُرّت للمجاورة.
والثاني: أن المراد بالمسح: الغسل، فالغسل يسمى مسحاً، تقول: تمسحت بالماء، يعني اغتسلت به، فالمراد بمسح الرجلين غسلهما، بدليل قراءة النصب.
الجواب الثالث: أن المشهور من القراءتين: قراءة النصب وهنا لا إشكال.(16/123)
الجواب الرابع: أن غسل الرجلين هو صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلها عنه أصحابه، لم يرد في حديث واحد –ولو ضعيف- أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مسح رجليه، وكذلك ما ثبت ذلك عن أصحابه، بل لما رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً في رجله لمعة لم يصبها الماء، أمره بإعادة الوضوء، وقال عليه الصلاة والسلام: "ويل للأعقاب من النار"(1)؛ لأن صاحبها يغفل عنها، وقد لا يصيبها الماء وذلك بسبب التساهل والغفلة، والأمر في هذا واضح.
(186) والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين: برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما:
تقدمت مسألة الصلاة خلف الأئمة، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً، فنصلي خلفهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمرنا بطاعتهم، ونهانا عن مخالفتهم، والصحابة –رضوان الله عليهم- امتثلوا أمره، فكانوا يصلون خلف الأمراء، وإن كانوا يفعلون بعض الكبائر، مثل الحجاج وغيره.
وهذا الفعل من أجل جمع الكلمة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، خلاف الخوارج والمعتزلة.
وقوله: (نرى الحج والجهاد): يجب على المسلمين كل سنة أن يقيموا الحج، أما الأفراد: فإذا حج أحدهم مرة واحدة فإنه تكفيه، ومن زاد فتطوع.
والذي يقيم الحج؟ هو إمام المسلمين هو الذي يقود الحجيج، ويعلن يوم عرفة، ويقف بهم بعرفة، ويفيض إلى مزدلفة، وهكذا يتبعونه في المشاعر، وسواء الإمام أو من ينوب عنه، ولا يكون الأمر فوضى.
وأهل السنة والجماعة يحجون مع إمامهم، قال عليه الصلاة والسلام: "الصوم يوم يصوم الناس، والأضحى يوم يضحي الناس"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم60،96،163) ومسلم (رقم241).
(2) أخرجه الترمذي (رقم696) وأبو داود بلفظ قريب (رقم2324) وابن ماجه (رقم1660) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب .(16/124)
هذه أمة الإسلام، يصومون جمعياً إذا اتفقت المطالع، ويحجون جميعاً، ويصلون العيد جميعاً، فالجماعة من سمة أهل السنة، والافتراق من سمة أهل البدع والضلال. والجهاد: المراد به: قتال الكفار والبغاة من المسلمين وقتال الخوارج، نقاتل مع إمام المسلمين؛ فنقاتل البغاة لبغيهم وليس لكفرهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) [الحجرات:9].
وقتال الكفار من أجل نشر التوحيد، وقمع الشرك.
وقتال الكفار على نوعين:
النوع الأول: قتال دفاع، وهذه الحالة تكون في حالة ضعف المسلمين، فإنه إذا داهم العدو بلادهم وجب عليهم قتالهم، فيجب على جميع من يحمل السلاح قتالهم؛ من أجل دفع العدو عن أرضهم.
النوع الثاني: قتال طلب، وذلك إن كان المسلمون أقوياء، فإنهم يغزون العدو في بلادهم، ويدعونهم إلى الله، فإن أجابوا وإلا قاتلوهم من أجل إعلاء كلمة الله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال:39].
ذكر ابن القيم رحمه الله أن الجهاد مر بمراحل:
المرحلة الأولى: كان منهياً عنه فيها، وهذا يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بمكة، فكانوا مأمورين بكف الأيدي وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [النساء:77]، فالمنع لأن المسلمين لا يستطيعون وليس لهم دولة ولا قوة، وكان الله يأمر نبيه بالصبر والصفح والانتظار، إلى أن يأتي الفرج، ومن قاتل في هذه المرحلة فإنه يكون قد عصى الله ورسوله؛ لأنه يترتب على القتال في هذه المرحلة الإضرار بالمسلمين وبالدعوة، وتسلط الكفار على المسلمين.(16/125)
المرحلة الثانية: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقامت دولة الإسلام، أُذن له بالقتال ولم يؤمر (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير*الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) [الحج:39،40] فأذن لهم بدون أمر، فكانت هذه تهيئة لهم، فالأمور الشاقة يشرعها الله شيئاً فشيئاً؛ من أجل التسهيل على النفوس.
المرحلة الثالثة: أُمر بقتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة:190] وهذا يسمى قتال الدفع.
المرحلة الرابعة: لما قوي المسلمون، وكانت لهم شوكة، وللإسلام دولة، أُمروا بالقتال مطلقاً (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) [التوبة:5]، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال:39].
فأمر الله بالقتال مطلقاً، فلما صاروا متهيئين ولهم قوة وعندهم استعداد، فشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، غزوة بدر وأحد والخندق وهكذا، حتى جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حصلت الردة فقاتلهم أبو بكر، فلما فرغ منهم شرع في الجهاد للكفار، فجيّش الجيوش لقتال فارس والروم، وتوفي، ثم جاء عمر رضي الله عنه فواصل الفتوح حتى أسقط دولة كسرى وقيصر، ونشر الدين وصارت سيطرتهم على جميع الأرض مشارقها ومغاربها، هذا هو القتال في الإسلام.
ومن ينظم القتال ويقوده؟ هو الإمام، فنحن نتبع الإمام، فإن أُمرنا بالغزو نغزو، ولا نغزو بغير إذن الإمام؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه من صلاحيات الإمام (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) [التوبة:38].(16/126)
فالقتال من صلاحيات الإمام، فإذا استنفر الإمام الناس للقتال وجب على كل من أطاق حمل السلاح، ولا يشترط في الإمام الذي يقيم الحج والجهاد أن يكون غير عاصٍ، فقد يكون عنده بعض المعاصي والمخالفات، لكن ما دام أنه لم يخرج من الإسلام فيجب الجهاد والحج معه، وصلاحه وقوته للمسلمين وفساده على نفسه، أما الجهاد والحج ففي صالح المسلمين، كذلك الصلاة، فإن أصاب كنا معه، وإن أخطأ فنتجنب إساءته، لكن لا نخرج ونشق عصا الطاعة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه تقوم مصالح المسلمين.
أما أهل البدع والضلال فيرون الخروج على ولاة الأمور، وهذا مذهب الخوارج، ونحن نبرأ إلى الله من هذا المذهب .
(168) ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين:
الإيمان بالملائكة عليهم السلام هو أحد أركان الإيمان.
وهذه الأصول موجودة في القرآن (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين…) [البقرة:177]، (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) [البقرة:285] فنؤمن بالملائكة وأنهم خلق من خلق الله، وأنهم من عالم الغيب، لا نراهم، خلقهم الله من نور(1)، ووكل إليهم أموراً، يقومون بتنفيذها والقيام بها، كل له عمل موكل به، ومع ذلك فهم يعبدون الله عز وجل لا يفترون (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [الأنبياء:20]، (عباد مكرمون*لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبياء:26،27] وهم أقسام، ومن أقسامهم:
__________
(1) فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" أخرجه مسلم (رقم 2996) .(16/127)
الحفظة: وهم الذين وكل الله إليهم حفظ بني آدم، وحفظ أعمالهم، فكل عبد من بني آدم معه أربعة يحفظونه بالليل والنهار، اثنان حفظة، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار، الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن اليسار يكتب السيئات (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق:18]، وملكان آخران؛ واحد أمامه وواحد خلفه، يحفظونه من الاعتداء عليه، ما دام الله قد كتب له البقاء (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) [الرعد:11] فالملائكة يدفعون عنه الأخطار، فإذا تم الأجل تخلوا عنه، فأصابه ما كتب الله له، فنحن نؤمن بهذا، وإذا آمنا بذلك فإننا نستحيي من الملائكة الكرام، فلا نعمل أعمالاً سيئة، ولا نتكلم بألفاظ باطلة؛ لأنها تسجل علينا.
(169) ونؤمن بملك الموت، الموكل بقبض أرواح العالمين:
قال سبحانه : (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) [الأنعام:61] يعني من الملائكة، فالرسل قد يكونون من الملائكة، وقد يكونون من البشر (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) [الحج:75]، (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) [الأنعام:61]، (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) [الأنفال:50]، وقال في آية أخرى: (يتوفاكم ملك الموت) [السجدة:11].
ففي بعض الآيات أسند الموت إلى الملائكة، وفي بعض الآيات أسند إلى ملك واحد، فدل هذا على أن الملائكة لهم رئيس هو ملك الموت.
ومسألة الموت لا أحد ينازع فيها، أما ملك الموت وأعوانه فينكرهم بعض بني آدم، ولكن الإيمان بالملائكة أصل من أصول الإسلام والإيمان الثابتة بالكتاب والسنة، فمن أنكر وجود الملائكة عموماً أو ملكاً من الملائكة فهو كافر؛ لأنه جحد ركناً من أركان الإيمان.(16/128)
(170) وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم:
ذكر شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية أن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه ومن البعث ومن العرض والحساب والميزان وتطاير الصحف والجنة والنار، ومن أنكر شيئاً منها فإنه لا يكون مؤمناً باليوم الآخر.
واليوم الآخر وما فيه من أمور الغيب التي لا ندخل فيها بعقولنا وأفكارنا، إنما نعتمد على ما جاء في الكتاب والسنة، ولا نتدخل في هذه الأمور، ولا نقول فيها إلا بالدليل .
والقبر برزخ بين الدنيا والآخرة والبرزخ معناه الفاصل بين شيئين (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) [المؤمنون:100].
القبر محطة انتظار، وينتقل الناس بعده إلى البعث والحساب، وذكر ابن القيم رحمه الله أن الدور ثلاث:
الأولى: دار الدنيا: وهي محل العمل والكسب من خير أو شرف.
الثانية: دار البرزخ، وهي دار مؤقتة، ولهذا يخطئ من يقول مثواه الأخير.
الثالثة: دار القرار، وهي الجنة أو النار: (وإن الآخرة هي دار القرار) [غافر:39].
فإذا وضع الميت في قبره ودفن وانصرف الناس عنه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، كما في الحديث، فإنه تُعاد روحه في جسده، وهذه حياة برزخية لا يعلمها إلا الله، والله على كل شيء قدير، وبعد أن تُعاد روحه في جسده ويُحيى حياة أخرى فيأتيه ملكان فيسألانه ثلاثة أسئلة:
من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟(1)
__________
(1) أخرجه أحمد 4/287،295 وأبو داود (رقم4753) والحاكم 1/37-40. وصححه.(16/129)
فإن أجاب بجواب صحيح فاز وربح، وصارت حفرته روضة من رياض الجنة، ثم يوم القيامة يصير من أهل الجنة. وإن أخفق في الجواب، ولم يجب، فإن قبره يصير حفرة من حفر النار، ويُضيّقُ عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، والأول يوسع له في قبره مد بصره، ويفتح له باب من الجنة يأتيه من روحها وريحانها، وهذا يضيق عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ثم يفتح له باب من النار فيأتيه من حرها وسمومها، والعياذ بالله.
فالإجابة الصحيحة والتي يُثبت الله قائلها: أن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّ محمد صلى الله عليه وسلم (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) [إبراهيم:27].
وهذا بسبب الإيمان بالله ورسوله، وليس بسبب التعلم أو الثقافة، فمن ليس عنده إيمان فإنه يتلكأ في الإجابة، وهو المنافق الذي يُظهر الإيمان في الدنيا ويُبطن الكفر، فإنه لا يستطيع الإجابة ويقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق (ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) [إبراهيم:27].
(171) والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران:
قد يقول قائل: الميت يصير تراباً، فكيف يعذب وهو تراب؟ نقول: الله قادر على أن يعذبه وهو تراب، وقادر على أن يحمي عليه التراب.
وقد يقول قائل : ما كل الناس يدفنون، بعضهم يُلقى في البحر، وبعضهم تأكله السباع، فكيف يأتيه العذاب؟ نقول: نعم يأتيه العذاب، في أي مكان كان، وكذلك يأتيه الملكان، والإيمان بهذا هو من الإيمان بالغيب، ومن الإيمان بخبر الله ورسوله، أما الذي لا يؤمن بذلك ويعتمد على عقله وفكره، فهذا هو الضلال المبين.
وعذاب القبر ونعيمه دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة، بل قال العلماء: إن الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب بالأمر المتواتر يكون كافراً.(16/130)
فالمعتزلة لا يؤمنون بما يحدث في القبر؛ لأنهم عقلانيون، وهم الذين يبنون الأمور على عقولهم، ويسمون أدلة الشرع ظنية، فأما أدلة العقل عندهم فهي يقينية، فهكذا يقولون، وهؤلاء هم العقلانيون، وهم المعتزلة ومن سار على نهجهم من العقلانيين في هذه العصور.
ومن أدلة عذاب القبر: قول الله عز وجل في قوم فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر:46] فقوله: النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، هذا في القبر.
(وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون) [الطور:47] فقوله: (عذاباً دون ذلك) قالوا: إنه عذاب القبر.
وقيل هو : العذاب في الدنيا: ما يصيبهم من القتل والسبي وضرب الجزية وغير ذلك، والآية تشمل المعنيين، وقوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) [السجدة:21] العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والأكبر هو عذاب يوم القيامة.
أما السنة فتواترت الأحاديث بإثبات عذاب القبر، منها: في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام مر على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان، ولا يعذبان في كبير، أما أنه كبير -أو : بلى إنه لكبير- أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فإنه لا يستبرئ من بوله" (1).
وكذلك الحديث الصحيح الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من أربع "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"(2).
وغير ذلك من الأدلة، وقد يشاهد بعض الناس ما يحصل من عذاب القبر من أجل العظة والعبرة.
ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه " أهوال القبور وأحوالها أهلها إلى يوم النشور" ذكر عجائب، وذكر ابن القيم في كتابه "الروح" عجائب.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم218)ن ومسلم (رقم292) .
(2) أخرجه الترمذي (رقم 3613) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح.(16/131)
وقوله: (على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأن ما في القبر من النعيم والعذاب من أمور الغيب، فلا نثبت إلا ما جاء به الدليل، ولا ننكر ما جاء به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
(172) ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان:
بعد البرزخ يبعث الناس من قبورهم، فهذه القبور تضم الأجساد وتحفظها، فإذا جاء البعث فإن الله ينشئ هذه الأجسام كما خلقها أول مرة، لا ينقص منها شيء (كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) [الأنبياء:104].
فتعاد كما كانت، بحيث لو مر شخص على رجل يعرفه لقال: هذا فلان، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الثانية، فتطير الأرواح إلى أجسادها.
والمحشر: مجمع الأمم، يجمع الله الأولين والآخرين بعد البعث، فالله على كل شيء قدير، والإيمان بالعبث أحد أركان الإيمان الستة، كما في الحديث.
وأنكر البعث المشركون والملاحدة بناء على عقولهم، فقالوا: (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون*أو آباؤنا الأولون) [الواقعة:47،48] وذكر الله إنكارهم هذا في عدة مواضع، مثل: (قال من يحي العظام وهي رميم) [يس:78].
والله عز وجل ذكر أدلة عقلية على البعث (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) [الروم:27]. وهذا من باب ضرب المثل، فالذي خلقهم من ماء مهين، ألا يقدر أن يخلقهم من تراب ويعيدهم كما كانوا؟ (أيحسب الإنسان أن يترك سدى*ألم يك نطفة من مني يمنى*ثم كان علقة فخلق فسوى* فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى*أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) [القيامة:36:40].
ومن الأدلة: إحياء أرض يابسة قاحلة بيضاء ما فيها شيء، ثم ينزل الله عليها المطر، ففي أيام قليلة تهتز بالنبات.(16/132)
أليس الذي يحيي الأرض بعد موتها بقادر على أن يعيد خلق الإنسان؟ فهذا شيء معقول وشيء محسوس (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) [يس:33] بعد أن كانت ميتة فأحياها بالنبات (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) [الحج:56].
ومن الأدلة على البعث أيضاً: أن الله عز وجل لو لم يبعث الناس ويجازيهم لكان خلقه عبثاً، والله سبحانه وتعالى منزه عن العبث (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق) [المؤمنون:115،116].
فالإنسان الذي يفني نفسه بالعبادة والطاعة في الدنيا فيموت ولا يبعث!؟ كذلك الكافر يعيث في الأرض فساداً ويفعل الفواحش ويموت ولا يبعث!؟ هذا لا يكون من حكمة الله (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية:21]، وقال سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) [القلم:35،36]، (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار* أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:27،28].
فالمؤمن قد لا ينعم في الدنيا، ويكون في ضيق وشدة، فلا ينال جزاء عمله!؟ والكافر ينعم ويبطش ويفسد في الأرض ولا ينال جزاءه!؟ هذا لا يليق بحكمة الله عز وجل.
والبعث معناه القيام من القبور (يوم يقوم الناس لرب العالمين) [المطففين:6] (وجزاء الأعمال) كما سبق: أن المحسنين والمسيئين لا ينالون جزاءهم في الدنيا، إنما ذلك في دار الآخرة.
(والعرض) يعني: على الله (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) [الحاقة:18]، (وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) [الكهف:48] يعرضون على الله عز وجل حفاة عراة، غرلاً، أي : غير مختونين.(16/133)
(والحساب) على الأعمال: تقرير الحسنات وتقرير السيئات، هذا بالنسبة للمؤمنين، أما الكافر فإنه لا يحاسب حساب موازنة بين حسناته وسيئاته، وإنما يقرر بذنوبه وكفره؛ لأنه ليس له حسنات.
والمؤمنون منهم من يدخل الجنة بغير حساب، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهل مسروراً، وهو العرض، ومنهم من يُناقش الحساب، وفي الحديث : "من نوقش الحساب عُذِّب"(1). وهذه درجات المؤمنين .
(والكتب) : صحائف الأعمال التي عملوها في الدنيا، كل يعطى يوم القيامة كتابه وصحيفة أعماله التي عملها في الدنيا، مكتوب فيها كل شيء (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) [الكهف:49]، وقال سبحانه: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً* اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) [الإسراء:13،14]، وقال سبحانه: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه* فهو في عيشة راضية* في جنةٍ عالية) [الحاقة: 19،22] فهذا الصنف من الناس يفرح ويسره أن يطلع الناس على كتابه.
(وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه* ياليتها كانت القاضية) [الحاقة:25،27] يعني : يا ليتني لم أبعث، وكان الموت هو القاضي عليّ ولم أبعث (ما أغنى عني ماليه* هلك عني سلطانيه) [الحاقة: 28،29].
وهذا تطاير الصحف، إما باليمين أو بالشمال.
(والثواب والعقاب) الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم6536) ومسلم (رقم 2876) .(16/134)
(والصراط) وهو: الجسر المنصوب على متن جهنم، أحدُّ من السيف، وأدَقُّ من الشعر، وأحرُّ من الجمر، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يمر عدواً ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من تلقطه كلاليب على حافتي الجسر وتقذفه في النار، وهذه أمور غيب، فلا يُدخلُ الإنسان عقله فيها، وكل الناس يمرون على الصراط (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً* ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) [مريم:71،72].
وتوزن الحسنات، فإن رجحت حسناته فاز، وإن رجحت سيئاته على حسناته خاب وخسر (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) [الأعراف :8،9].
وتكرر ذكر الوزن والميزان في آيات كثيرة، وهذا من عدل الله عز وجل، وأنه لا يظلم أحداً. والميزان حقيقي، له كفتان: توضع الحسنات في كفّه، وتوضع السيئات في كفة، فأيهم رجحت حسناته فاز، وأيهم رجحت سيئاته فخسر (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [الأنبياء:47].
(173) والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان:(16/135)
ومما يكون في يوم القيامة: الجنة دار المتقين، والنار دار المجرمين، قال الله تعالى في الجنة: (أعدت للمتقين) [آل عمران:133]، وقال في النار: (أُعدت للكافرين) [البقرة:24] فهما داران باقيتان، وهما المستقر والنهاية. (وإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلاً) . والجنة والنار مخلوقتان الآن، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، قال تعالى: (أُعدت للمتقين)، وقال: (أُعدت للكافرين) وأعدت: فعل ماضٍ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عنده أصحابه، فسمعوا وجبة، يعني: شيء سقط، فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حجر رمي به في جنهم منذ سبعين خريفاً، والآن وصل إلى قعرها"(1) فدل على أن النار قد خلقت. وقال عليه الصلاة والسلام في الحر والبرد: "إنهما نفسان لجنهم: نفس في الشتاء وهو أشد ما تجدون من البرد، ونفس في الصيف وهو أشد ما تجدون من شدة الحر"(2) ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جنهم" (3)، وكذلك الميت في قبره يفتح له باب إلى الجنة، والكافر باب إلى النار، فهذا يدل على وجود الجنة والنار، وأنكر هذا أهل الضلال، ويقولون: تخلقان يوم القيامة.
(174) وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً:
الله قدر للجنة أهلاً، وكذلك للنار أهلاً، فعلى حسب عملهم يجازون.
(175) فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه. ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه:
الجنة لا تُنال بالعمل، إنما هو سبب، وإنما الجنة تنال بفضل الله، فمهما عمل ابن آدم من الأعمال الصالحة وإن كثرت فإنها لا تقابل الجنة، إنما تنال بفضل الله عز وجل، والعمل الصالح سبب (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) [النحل:32] أي: بسبب ما كنتم تعملون.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم538) ومسلم (رقم616) .
(2) أخرجه البخاري (رقم537) ومسلم رقم (617) .
(3) أخرجه البخاري (رقم538) ومسلم (رقم616)(16/136)
ودخول النار بسبب الكفر، عدلاً من الله، أدخله النار، لا بظلم، إنما أدخله بسبب عمله.
(176) وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خُلق له:
إن كان من أهل السعادة فإنه يعمل بعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيعمل بعمل أهل الشقاوة، قال عليه الصلاة والسلام: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"(1).
وقال تعالى : (إن سعيكم لشتى* فأما من أعطى وأتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى) [الليل:4،10]. فالأعمال هي التي تحكمك، إن كانت صالحة فأنت ميسر لليسرى، وإن كانت سيئة فأنت ميسر للعسرى.
(177) والخير والشر مقدران على العباد:
سبق بحث هذا في القدر، والإيمان بالقدر –كما سبق- هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(2) .
والمؤلف أخذ هذا المعنى من نص الحديث.
فالخير والشر بتقدير الله عز وجل؛ لأنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بقضاء الله وقدره، لابد من الإيمان بذلك.
فالله عز وجل خلق الخير والشر لحكمة (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء:35] يتميز بذلك أهل الإيمان والتوحيد ولانقياد لله، وأهل الكفر والشرك والإلحاد، ولو لم يكن هناك خير لما حصل التمييز.
فالخير يحبه الله ويخلقه ويقدره، والشر يبغضه الله ويسخطه، ولكن يخلقه ويقدره لحكمة، للابتلاء والامتحان، لو لم يوجد الشر ما ظهر الكفر وعداوة الأنبياء والرسل، ولو لم يوجد الخير لما ظهر الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة والمعاداة، ولا تميز الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم1362) ومسلم (رقم2647) .
(2) أخرجه البخاري (رقم50) ومسلم (رقم10) .(16/137)