الهيكل اليهوديّ{المقدَّس}
خرافات بلا حدود
الدكتور صالح الرقب
أستاذ مشارك في العقيدة الإسلامية
الجامعة الإسلامية-غزة
الطبعة الأولى
1423هـ- 2002م
مركز النور للدراسات والأبحاث
فلسطين- غزة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
?? يقول الله عز وجلّ: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) النساء:46
ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) سورة المائدة:41.(1/1)
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إنّ سليمان بن داود عليه السلام سأل الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون الثالثة: فسأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه الله إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد- أي الأقصى- خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمّه، فنحن نرجو أن يكون الله عزّ وجلّ قد أعطاه إيّاه". رواه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح وقد تداوله الأئمة وقد احتجا (أي البخاري ومسلم) بجميع رواته ثمّ لم يخرجاه، ولا أعلم له علة ووافق الذهبي الحاكم فيما قاله.
بين يدي الطبعة الأولى
... إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
وبعد:-
فإنّ دولة اليهود (إسرائيل) قامت على مجموعة من الأساطير والخرافات، التي استطاعت تحويلها إلى معتقدات ونبوءات دينية مقدّسة يجب تحقيقها في الواقع ودنيا الناس، واستطاعت القيادات الدينية والسياسية اليهودية العالمية أن تحشوا أدمغة يهود العالم ثمّ نصارى أوربا وأمريكا بهذه الخرافات والأساطير، ومنها أسطورة الهيكل المقدس، الذي نسبوه زوراً وبهتاناً إلى نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام، وهم اليوم يسرعون الخطى من أجل بنائه بعد قيامهم هدم المسجد الأقصى المبارك. والكتاب الذي بين يدي القارئ يكشف عن زيف أسطورة الهيكل المقدّس..ويثبت بالدليل والبرهان أنّ نبي الله سليمان عليه السلام لم يبن هيكلاً بل بنى لله مسجداً للعبادة هو المسجد الأقصى. وعلى المسلمين أن يدركوا أهداف اليهود الذين يسعون اليوم إلى تهويد الأرض الفلسطينية، وتهويد المقدسات الإسلامية وقطع كل علاقة وطيدة للمسلمين بأرضهم المباركة،أرض الإسراء..فلسطين.
المقدمة(1/2)
إنّ قضية فلسطين هي من قضايا المسلمين الأولى، وإنّ المصيبة التي تعيشها فلسطين وقلبها القدس والمسجد الأقصى هي مصيبة يعيشها كل المسلمين في أنحاء الأرض. وإنّ الحديث عن المسجد الأقصى يثير الشجون والألم والحسرة في نفوس المسلمين الصادقين لما يعانيه من مكائد يهودية خطيرة تستهدف هدمه وإزالته من القدس وفلسطين ،ومن قلوب المسلمين المتعلقين بالأرض المباركة.
لقد أدرك أعداؤنا اليهود أثر العقيدة في حياة الشعوب، فجعلوا الدين ركيزة تنطلق منها السياسة، رفعوا في معركتهم مع المسلمين التوراة، وجعلوا اسم دولتهم على اسم أحد الأنبياء: إسرائيل (يعقوب عليه السلام) واختاروا نجمة داود شعاراً مقدساً رسموه علم دولتهم، وجعلوا غايتهم العودة إلى أرض الميعاد المعطاة لهم من الرب بوعد مقدّس، ورسمت أسفارهم حدود دولتهم وأخيراً جعلوا أهمّ أهدافهم التي يسعون لتحقيقها وهو بناء هيكل سليمان (الهيكل الثالث) على أنقاض المسجدين الأقصى وقبة الصخرة، ولم يمل حاخاماتهم وأحبارهم وقادتهم السياسيون وكلّ زعمائهم من ترداد مقولة:لا معنى لإسرائيل بدون أورشليم، ولا معنى لأورشليم بدون الهيكل الثالث. وفي هذه الأيام أخذ قادة اليهود من السياسيين والدينيين يطلقون اسم جبل الهيكل على الحرم القدسي، وبين يدي مجموعة من المعلومات الموثقة التي تتحدث عن المخططات والمكائد اليهودية التي تستهدف هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه(1)[1])
والكتاب الذي بين يدي القارئ يبيّن المزاعم اليهودية في الهيكل المقدس، ويفنّدها بالدليل والبرهان، ويكشف عن مدى تهافتها، ويثبت أنّها مجرد خرافات وأساطير، نسجتها أيدي الكهنة والحاخامات، وأنّ الهيكل خرافة وأسطورة، ليس لها وجود إلا في الكتاب المقدس عند اليهود، وفي رؤوس اليهود المحشوة بهذه الأساطير والخرافات.
__________
(1) - وقد طبعت تحت عنوان: يا مسلمي العالم أفيقوا... اليهود سيهدمون المسجد الأقصى قريباً.(1/3)
ولقد قسّمت الكتاب إلى مقدمة وثلاثة أقسام –وكلّ قسم إلى عدة مطالب- وخاتمة. فالقسم الأول: تناول المرتكزات الأساسية للعقائد الصهيونية (اليهودية والنصرانية)..والقسم الثاني: تناول عقائد اليهود تجاه الهيكل ومزاعمهم في وجوده تحت المسجد الأقصى. والقسم الثالث: -وهو المهمّ في هذا الكتاب خصصته للأدلة والبراهين التي تفند وتبطل المزاعم اليهودية وتثبت أنّ الهيكل أسطورة وخرافة.
ذكرت في المقدمة أهمّية الموضوع، وفي القسم الأول تحدّثت عن المرتكزات العقائدية الصهيونية المسيحية واليهودية. أمّا القسم الثاني فهو بعنوان: عقائد اليهود تجاه الهيكل ومزاعمهم في وجوده تحت المسجد الأقصى. تحدّثت فيه عن تعريف الهيكل، وبانيه، وهدمه، وبنائه مرة أخرى ثم هدمه مرة أخرى وبيّنت مكانة الهيكل في الوجدان اليهودي. وكشفت عن عزمهم وإصرارهم على إعادة بناءه للمرة الثالثة، وأنّهم يزعمون أنّ مكانه في منطقة الحرم القدسي الشريف حيث يوجد المسجد الأقصى المبارك.(1/4)
... وأمّا القسم الثالث فهو بعنوان: إبطال المزاعم الصهيونية في وجود الهيكل الثالث وقد ذكرت فيه عدة أدلة وبراهين –جعلت كل واحد منها في مطلب- منها: إبطال قدسية مصدر وجود الهيكل، وإثبات التناقض بين روايات الأسفار المقدسة عند اليهود التي تتحدث عن الهيكل، وبيان أنّ قصة بنائه -كما جاءت في هذه الأسفار- خرافة وأسطورة تثير العجب والاستنكار. وإثبات اختلاف نصوص الكتاب المقدس في بيان تحديد مكان بيت الله ، واختلاف حاخامات اليهود وعلمائهم في تحديد مكان الهيكل فوق جبل الحرم القدسي وأنّ علماء الآثار اليهود المعاصرين قد أثبتوا بأبحاثهم ودراساتهم عدم وجود أيّ أثر للهيكل المزعوم تحت الحرم القدسي الشريف. وبيان أنّ المسجد الأقصى قد بني قبل سليمان عليه السلام بأزمان بعيدة، وأنّ نبي الله تعالى سليمان عليه السلام لم يبن لله تعالى هيكلاً، بل هو المجدد لبناء المسجد الأقصى المبارك. وأمّا الخاتمة فقد ذكرت فيها أهمّ النتائج التي استخلصتها من هذا العمل.
القسم الأول: المرتكزات العقائدية الصهيونية المسيحية واليهودية
في فلسطين والقدس :-
يؤمن الصهاينة النصارى واليهود بعقيدة توراتية مشتركة، مفادها: أنّ اليهود هم شعب الله المختار، وأنّ الله تعالى أعطاهم الأرض المقدسة (فلسطين) بموجب وعد إلهي مقدس قطعه الربّ على نفسه لإبراهيم وإسحاق ويعقوب –إسرائيل- ولنسلهم من بعدهم، ولذا فإنّه يجب أن يملك اليهود أرض فلسطين كلها وما حولها من البلاد التي أعطيت لهم من قبل الرب.وحفلت التوراة بمجموعة من النصوص التي تحتوي على الوعد الإلهي المقدس.(1/5)
* ومن ذلك :- الوعد الذي أعطي لإبراهيم عليه السلام: "وقال الربّ لإبرام –إبراهيم- بعد اعتزال لوط عنه، ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً لأن جميع الأرض التي أنت ترى: لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد"(1)[2]). وأيضاً: "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"(2)[3]). وأيضاً: "وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم"(3)[4]).
* ومن ذلك الوعد :- الذي أعطي لإسحاق: "وظهر له –لإسحاق- الرب وقال: لا تنزل إلى مصر واسكن في الأرض التي أقول لك تغرّب في هذه الأرض فأكون معك وأباركك لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد..."(4)[5]).
* ومن ذلك الوعد :- الذي أعطي ليعقوب –إسرائيل-: "وظهر الله ليعقوب أيضاً حين جاء من فدّان أرام وباركه، وقال الله له: اسمك يعقوب، لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يكون إسرائيل، فدعا اسمه إسرائيل... والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق أعطيها لك ولنسلك من بعدك أعطي الأرض"(5)[6]).
ويعتقد اليهود أنّ لهم حقاً تاريخياً في الأرض المقدسة –فلسطين- لأنّ أجدادهم وآباءهم-حسب زعمهم- مكثوا فيها فترة من زمنية في التاريخ القديم، وأقاموا ممالك يهودية منذ ثلاثة آلاف سنة(6)[7]).
__________
(1) - سفر التكوين: الإصحاح 13 الفقرة 14-15.
(2) - السفر السابق: الإصحاح 15 الفقرة 18.
(3) - السفر السابق: الإصحاح 17 الفقرات 4-80.
(4) - السفر السابق: الإصحاح 26 الفقرات 2-4.
(5) - السفر السابق: الإصحاح 35 الفقرات 9-12.
(6) - سنتعرض للوعد الإلهي والحق التاريخي بالنقض والتزييف في الفصول القادمة.(1/6)
ويؤمن اليهود بوجوب إعادة بناء هيكل الرب الذي بناه نبي الله سليمان-عليه السلام- فوق جبل موريا كما جاء في كتابهم المقدس، وجبل موريا عند جمهورهم هو جبل الحرم القدسي الشريف، أي حيث يوجد المسجدان: الأقصى وقبة الصخرة . ولذا يؤمن هؤلاء بوجوب هدم المسجدين حتى يبنون الهيكل في مكانه الأصلي.
ونلقي نظرة موجزة على مكانة القدس في الفكر الديني الصهيوني من خلال أسفار القوم المقدسة :
لقد تسمّت الصهيونية بهذا الاسم نسبة إلى جبل صهيون الموجود بمدينة القدس، وكان هذا الجبل رمزاً لهذه المدينة المقدسة عند اليهود، وذكر هذا الجبل في ترانيم وصلوات اليهود التي وردت في أسفارهم المقدسة،ومن ذلك جاء في سفر المزامير المنسوب زوراً لنبي الله داود: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذي سبونا كلام ترنيمة،ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين ورنموا لنا من ترنيمات صهيون.كيف ترنّم في أرض غريبة...؟"(1)[8]).
لقد شاع اسم جبل صهيون في الفكر الديني اليهودي والمسيحي، فلقد ذكر في العهد القديم –وحده- مائة واثنين وخمسين (152) مرة كعنوان لمدينة القدس ذات المكانة المقدسة.
وجاء ذكر صهيون مع مدينة القدس معاً في كثير من الأسفار المقدسة، ومن ذلك:- * "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هاأنذا آتي واسكن في وسطك يقول الرب..والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد".(2)[9])
* هكذا قال الرب: غِرتُ على أورشليم، وعلى صهيون غيرة عظيمة... إن مُدني تفيض بعد خيراً، والرب يُعزّي صهيون بعد أورشليم".(3)[10])
__________
(1) - سفر المزامير: الإصحاح 137 الفقرات 10- 12.
(2) - سفر زكريا: الإصحاح 2 الفقرات 10-12.
(3) 10]- السفر السابق: الإصحاح 1 الفقرة 17.(1/7)
* وأيضاً: "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون،اهتفي يا بنت أورشليم، هو ذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع...". (1)[11])
*استيقظي، استيقظي، البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم،المدينة المقدسة،،انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون".
وكل يهودي يدعو على نفسه بالهلاك إن فرّط في مدينة القدس جاء في سفر المزامير: "إن نسيتك يا أورشليم تُنسى يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فري"(2)[12]).
- لقد تغنى اليهود بالعودة إلى القدس –أرض صهيون- في صلواتهم وأناشيدهم ولقد ذكرت القدس في التوراة –بألفاظ مختلفة تطلق عليها- أكثر من ستمائة وثمانين (680) مرة، ومن هذه المسميات: أورشليم، مدينة الله مدينة القدس، مدينة الحق، مدينة اليبوسيين، شاليم، وكانت أكبر أمنية لليهود المشردين في أنحاء العالم العودة إلى أرض الميعاد ، أرض الأباء والأجداد وكانت تحيتهم المتبادلة بينهم: إلى اللقاء في أورشليم العام القادم. وأوجب التلمود –وهو كتاب مقدس عند اليهود- على كل يهودي أن يوصي بوضع حفنة من التراب المجلوب من القدس في كفنه معه في القبر.
- ولمّا كانت مدينة القدس من أعظم الأماكن المقدسة لدى اليهود أوجبت شعائرهم على كل يهودي ذكر بالغ أن يحجّ إلى القدس مرتين في العام، وأن يبقى فيها كل مرة أسبوع كامل، يمارس خلالها الطقوس والشعائر التعبدية بقيادة الكهنة واللاّوين، ومن ذلك قراءة التوراة والصلاة أمام حائط المبكى الذي يعتبرونه من حيطان هيكلهم المقدس.
__________
(1) 11]- السفر السابق: الإصحاح 9 الفقرة 9.
(2) 12]- سفر المزامير: الإصحاح 137 الفقرة 1-6.(1/8)
- ومن عقائد اليهود في القدس اعتقادهم في الصخرة المشرفة: حيث يزعمون أنّ إبراهيم عليه السلام قدّم ولده إسحاق الذبيح قرباناً لله تعالى ويزعمون أنّ الصخرة كانت ملكاً لليبوسي أرونا ثم اشتراها داود عليه السلام، وجعل على هذه الصخرة معبداً لله تعالى. وأضفى التلمود على الصخرة هالة من القداسة والتعظيم، فمن ذلك: أنّ الله ابتدأ خلق الأرض من تلك الصخرة، فهي إذاً حجر الأساس للأرض.
- يعتقد اليهود بأنّ المعبد المقدس (الهيكل) بناه نبي الله سليمان عليه السلام بعد أن هيأ له من الذهب والفضة والحجارة الكريمة ما مكنّه من تشييده، وجاءت قصة بنائه مطولة في سفر أخبار الأيام: الإصحاح التاسع والعشرين ، وفي سفر الملوك الأول: الإصحاح السادس. فمما جاء في الأول: "وقال داود الملك لكل المجمع: إن سليمان ابني الذي وحده اختاره الله إنما هو صغير وغض. والعمل عظيم لأن الهيكل ليس لإنسان بل للرب الإله، وأنا بكل قوتي هيأت لبيت إلهي الذهب لما هو من ذهب، والفضة لما هو من فضة، والنحاس لما هو من نحاس، والحديد لما هو من حديد والخشب لما هو من خشب، وحجارة الجزع، وحجارة للترصيع، وحجارة كحلاء ورقماء وكل حجارة كريمة، وحجارة الرخام بكثرة، وأيضاً لأني قد سُررْت ببيت إلهي، لي خاصة من ذهب وفضة قد دفعتها لبيت إلهي فوق جميع ما هيأت لبيت القدس..." (1)[13]).
-ولإضفاء قدسية خاصة على الهيكل زعمت الأسفار اليهودية أن الله اتخذ من الهيكل مسكناً له بعد أن كان مسكنه الضباب: "حينئذ تكلم سليمان. قال الرب: إنه يسكن في الضباب إني قد بنيت لك بيت سكني مكاناً لسكناك إلى الأبد"(2)[14]). لقد أصبح الهيكل المكان المقدس الوحيد الذي تقدم فيه القرابين للرب، وفي الهيكل بهو مقدس أُعِد لاجتماع الناس من أجل أداء الطقوس والشعائر التعبدية.
__________
(1) 13]- سفر أخبار الأيام: الإصحاح 29 الفقرات 104.
(2) 14]- سفر الملوك الأول: الإصحاح 8 الفقرات 12-13.(1/9)
ويعمل اليهود اليوم على توسيع دائرة مدينة القدس وتهويدها، وتشييد المستوطنات والقلاع السكنية فيها كي يتمكنوا من توطين مئات الألوف من اليهود،وذلك لاعتقادهم أن الملك المخلص اليهودي سيظهر في مدينة القدس وخاصة في جبل صهيون،وبهذا المخلص سيحكم اليهود العالم، وستصبح المدينة المقدسة في زمنه مدينة عظيمة، لا مثيل لها بين المدن، يعم فيها الرخاء والأمن والسلام، ويعود إليها المتشردون من اليهود(1)[15]).
ومن هنا يمكن لنا أن نفهم كيف تعمدّت إسرائيل وبتأييد ودعم أمريكي وأوروبي واضح أن تجعل القدس خارج إطار اتفاقية "كامب ديفيد" التي عقدتها مع الرئيس الراحل أنور السادات، وخارج اتفاقية أوسلو التي عقدتها مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأصّرت أن تدرج في مفاوضات الحل النهائي والهدف من ذلك: كسب عامل الزمن، فتقوم إسرائيل بتنفيذ مخططاتها الموضوعة التي تتلخص في إنشاء تحولات جغرافية وسكانية في المدينة وما حولها، لتصبح مدينة يهودية صرفة، وكأمر واقع لا تستطيع الحلول النهائية أن تغفله، وقد اتفقت الأحزاب اليهودية كلها –السياسية والدينية- على خطة مدينة القدس الكبرى العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل وكل ذلك بدعم وبتأييد نصراني أوروبي وأمريكي. ومن الخطأ الشنيع أن يتوهم البعض أن سياسة إسرائيل بالنسبة للقدس، ستتغير تحت أي ظرف كان(2)[16]).
الأطماع المسيحية الصليبية القديمة في القدس:
__________
(1) 15]- انظر اعتقادهم هذا في سفر أشعياء: الإصحاح 9 الفقرات 6-7، الإصحاح 25 الفقرات6-9، كما تحدث عنه التلمود وبروتوكولات حكماء صهيون: البروتوكول 15، 18، 23، 24.
(2) 16]- قبل أن يهدم المسجد الأقصى، عبد العزيز مصطفى، ص225.(1/10)
في يوم 26/11/1095م وقف البابا أربان الثاني في مجمع "كار مونت" بفرنسا يلقي موعظة دينية مؤثرة في جموع النصارى الذين احتشدوا من بلدان مسيحية لسماع كلام الزعيم الديني، حثّ البابا أتباعه النصارى على الدخول في حرب مقدسة ضد المسلمين لتحرير بيت المقدس وقبر المسيح والمقدسات المسيحية في بلاد الشام ،وقد وعد البابا المحاربين بأن تكون رحلتهم العسكرية إلى بلاد المسلمين بمثابة غفران كامل لذنوبهم. لقد أدرك المستمعون لموعظة البابا ما يعنيه وما يرمي إليه، فصاحوا في حماس جنوني: إنّ الله يريدها... إنّ الله يريدها... ثّم حملوا الصليب في أعناقهم وتوجهوا إلى الشرق الإسلامي في حرب دينية مقدسة.
وممّا جاء في خطاب البابا أربان: بأمر الله تتوقف العمليات الحربية بين المسيحيين في أوروبا، ويتجه هؤلاء بأسلحتهم إلى هزيمة الكفرة –يقصد المسلمين- الآن اذهبوا وأزعجوا البرابرة، وخلّصوا البلاد المقدسة من أيدي الكفار وامتلكوها لأنفسكم، فإنّها كما تقول التوراة تفيض لبناً وعسلاً(1)[17]).
تنقل البابا زعيم النصارى بين المدن والبلدان المسيحية داعياً الشعوب وحكامها السياسيين وقياداتها الدينية والعسكرية للمشاركة في الحروب ضد المسلمين، وأرسل البعوث والرسل إلى مختلف الأقاليم المسيحية من أجل دعوة الجميع للمشاركة في هذه الحروب، وعين البابا الأسقف أدهمار ممثلاً عنه على رأس الجهاز الكنسي الذي يقوم بالتوجيه الديني الصليبي، وبثّ الروح المعنوية الكنيسة في الجيوش المتجهة إلى الشرق الإسلامي(2)[18]).
__________
(1) 17]- جهاد المسلمين في الحروب الصليبية، د. فايد عاشور، ص95، الحروب الصليبية في المشرق، سعيد برجاوي، ص85-86.
(2) 18]- انظر المصدرين السابقين، الأول: ص95-96، الثاني: ص90-93.(1/11)
... وكان من أهداف الحروب الصليبية كما جاء في خطاب البابا أربان الثاني: إقامة إمارة أو مملكة مسيحية كبرى في فلسطين تدوم إلى الأبد والسيطرة على المقدسات المسيحية في بلاد الشام، ومن ثم التوسع في الشرق الإسلامي بهدف القضاء على الإسلام والمسلمين. يقول الكاتب الغربي غاردنز: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم العربي... والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام"، ويقول ليفونيان فيري: "لقد أحبّ الصليبيون أن ينتزعوا القدس من أيدي المسلمين بالسيوف ليقيموا للمسيح مملكة في هذا العالم"(1)[19]).
ولقد استطاع النصارى الصليبيون احتلال القدس من أيدي المسلمين سنة 1099م/492هـ وبقيت في أيديهم ثمانية وثمانين عاماً. أي لم تدم في أيديهم إلى الأبد كما كانوا يهدفون، إذ تم فتحها وتحريرها سنة 1187م/583هـ على يد القائد المظفر السلطان صلاح الدين الأيوبي(2)[20]). واصل الصليبيون حملاتهم ضد المسلمين وكانت آخرها الحملة الثامنة التي انتهت عام 1296م دون تحقق هدفها المنشود: إنشاء مملكة صليبية في مدينة القدس، والسيطرة على المقدسات المسيحية في بلاد الشام، والقضاء على الإسلام والمسلمين.
النشاط اليهودي قي أوربا وأمريكا لاحتلال القدس وفلسطين:-
__________
(1) 19]- الاستعمار والتبشير في البلاد الإسلامية، د.مصطفى الخالد، د. عمر فروخ، ص115.
(2) 20]- البداية والنهاية، ابن كثير، 12/320 وما بعدها.(1/12)
استلم اليهود راية احتلال فلسطين والقدس من أيدي النصارى الصليبين المهزومين وعملوا على استغلال الجذور الفكرية التوراتية لدى النصارى وتحويلها لصالح شعب الله المختار، فأصبح النصراني الغربي يؤمن –وفق التوراة المقدسة عنده- بأن نبوءات التوراة يجب تحقيقها،فواجب ديني مقدس: أن يعمل النصارى لعودة اليهود شعب الله المختار إلى فلسطين أرض أجداده وآبائه الإسرائيليين، واقتلاع أصحابها الفلسطينيين منها، وإقامة هيكل الرب –هيكل سليمان- على أنقاض المسجد الأقصى. لقد تشرّب جميع النصارى الغربيين مبادئ الصهيونية المتضمنة في التوراة بلا وعي ولا شعور، وأخذ المبشرون النصارى يطوفون أرجاء المعمورة وهم يدعون إلى الإيمان العميق بنبوءات التوراة المقدسة، والعمل الدؤوب إلى تحقيقها خدمة للرب والكنيسة(1)[21]).
__________
(1) 21]- وثيقة الصهيونية في العهد القديم، د. جورجي كنعان، ص9، 138، 142، 147، 148(1/13)
لقد بدأ اليهود نشاطهم في أوساط النصارى الأوروبيين منذ القرن السادس عشر الميلادي إذ تجاوزوا حدود العقيدة الدينية، وأصبحت اليهودية أمة ورمزاً للقومية، وأصبح الكتاب المقدس اليهودي كتاباً سياسياً ودينياً معاً. ويركز على العهد الإلهي بالأرض المقدسة –أرض فلسطين- وأحقية شعب الله المختار بهذا العهد. أصبحت المفاهيم والأفكار التوراتية جزءاً من العقيدة المسيحية الكنسية، وخاصة بعد ظهور المذهب البروتستانتي على يد كل من الألماني مارتن لوثر 1481-1529م، والسويسري زنجلي 1484-1531م،والفرنسي كلفن 1509م. إنّ رائد الإصلاح الديني مارتن لوثر نشر في كتابه (المسيح ولد يهوديا) : إنّ الروح القدس شاءت أن تتنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم..إنّ اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف والغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التي تأكل ما يتساقط من فتات مائدة أسيادها. وفي القرن التالي انتشرت المسيحية اليهودية في الأوساط الدينية إلى الأوساط الأدبية والسياسية..إنّ "جاك لوك" مؤسس النظرية الليبرالية قال في كتابه تعليقات على كتاب القديس بولس: إنّ الرب قادر على جمع اليهود في كيان واحد وجعلهم في وضع مزدهر في وطنهم القومي،وهو أرض الميعاد في فلسطين واسحق نيوتن مكتشف نظرية الجاذبية يقول في كتابه: (نبوءات دانيال ورؤيا القديس يوحنا) إنّ اليهود سيعودون إلى وطنهم .. لكني لا أدري كيف سيتم ذلك؟ .. ولنترك الزمن يفسره "وجان جاك روسو" فيلسوف العقد الاجتماعي يقول في كتابه إميل: لن نعرف الدوافع الداخلية لليهود أبدا حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجامعاتهم.(1)[22])
__________
(1) 22] - من مقال عادل حمود ة :كرستوفر كولمبس وإعادة بناء الهيكل- جريدة البيان الإماراتية-عدد 3 نوفمبر 2001م-18 شعبان 1422ه(1/14)
لقد قاد هذا المذهب حركة الإصلاح الديني في أوساط الأوربيين وتداخلت في هذه الحركة أساطير وحكايات صهيونية، تسربت إليها عبر التفسيرات الحرفية للتوراة، وساعدت على تناميها مجموعة من الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، منها أمر الملك هنري الثامن ملك إنجلترا عام 1538م بترجمة التوراة للغة الإنجليزية ونشرها وإتاحتها للقراءة من قبل العامة، إنه بذلك كان يضع التاريخ والعادات والقوانين اليهودية لتكون جزءاً من الثقافة الإنجليزية، وأصبحت اليهودية ذات تأثير قوي في هذه الثقافة على مدى القرون الثالثة التالية. أكدت المؤرخة اليهودية " تشمان " أنه من دون هذا التراث التوراتي، فإنه كان من المشكوك فيه صدور وعد بلفور باسم الحكومة البريطانية عام 1917م، أو انتدابها على فلسطين رغم وجود العوامل الاستراتيجية التي ظهرت في الحياة البريطانية فيما بعد) (1)[23](.
__________
(1) 23]- انظر البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي- الصهيوني: الدكتور يوسف الحسن-مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الأولى 1990م ص22.(1/15)
... يقول عادل حمودة (1)[24]) :( ولقد توقفت مؤخراً عند كتاب )المسيح اليهودي ونهاية العالم( الذي كتبه رضا هلال وشعرت بالندم لأنّني لم أنتبه إليه وقت صدوره..فهو كتاب يشرح ويفسر الدعم الديني الأمريكي لإسرائيل .. وهو دعم يتجاوز الدعم السياسي والعسكري والاستراتيجي لها .. فلو كان البنتاجون -وزارة الدفاع- يفتح لها خزائن السلاح..ولو كان الكونجرس يفتح لها خزائن المال.. ولو كان البيت الأبيض يفتح لها خزائن القرارات السياسية فإن الكنيسة الأمريكية تفتح لها أبواب البركة والصلوات. إنّ هناك انحيازاً من نوع آخر في الولايات المتحد لإسرائيل لا نعرفه هو الانحياز اللاهوتي والانحياز الثقافي..إن اللوبي اليهودي لم يخترق البورصة والثروة والكلمة المؤثرة فقط، وإنما اخترق وجدان الناس هناك. وهذا يضاعف من صعوبة هذه القضية التي ندفع ثمنا غاليا كل يوم من دماء الفلسطينيين في مشهد الجنازات الثابت في كل نشرات الأخبار المسائية. لقد سبقت الصهيونية المسيحية الأمريكية الاستيطان اليهودي في فلسطين بفترة طويلة من الزمن إنّ (كريستوفر كولمبس) كان يؤمن بأنّ رحلته لاكتشاف أمريكا هي جزء من سيناريو سوف يقود في النهاية إلى تحرير القدس من المسلمين الكفار وإعادة بناء الهيكل، وفي كتابه الذي أسماه( التنبؤات) قال لملكة أسبانيا إيزابيلا التي ساندته في رحلته لاكتشاف أمريكا:" إنّه سوف يستخدم الذهب الذي يجده في العالم الجديد لإعادة بناء الهيكل، حتى يكون مركز الكون، و حلمة الكرة الأرضية". أي أنّ أمريكا منذ اللحظة الأولى لاكتشافها كانت عينها على إنشاء إسرائيل" .
__________
(1) 24] - كاتب مصري: من مقاله:كرستوفر كولمبس وإعادة بناء الهيكل- جريدة البيان الإماراتية-عدد 3 نوفمبر2001 م-18 شعبان 1422ه.(1/16)
... ظهر في أوروبا وأمريكا على إثر ذلك مذهب جديد عبارة عن خليط أو مزيج من المسيحية واليهودية عرف بالأصولية الإنجيلية أو الصهيونية المسيحية، وأصبح للأصولية كثير من الأتباع والمؤمنين بها من رجال السياسة والأدب والفكر وكان القرن السابع عشر العصر الذهبي لنمو المعتقدات الجديدة.
النشاط الصهيوني في بريطانيا:
لعلّ بريطانيا العظمى أول دولة أوروبية استأثرت بالنشاط اليهودي والأفكار التوراتية الجديدة، إذ استطاع اليهود بوسائل الإعلام وبالبغاء السياسي والمالي والديني أن يوهموا البريطانيين بأن الأرض المقدسة فلسطين خالية من السكان منذ تم نفيهم منها. وهم اليوم يريدون العودة إليها ليعيدوا سيرة الملك داود ويحققوا نبوءات الكتاب المقدس، ومن الواضح أنّ الاتجاهات الطائفية والدعوات المسيحية، وتفسير النبوءات التوراتية قد ترسّخت في أذهان ونفوس عامة الشعب البريطاني، وتركت آثارها القوية في نفوس معظم السياسيين البريطانيين، لدرجة أن أصبح كبار الساسة البريطانيين صهاينة أكثر من اليهود أنفسهم.(1)[25])
__________
(1) 25]- انظر وثيقة الصهيونية ص 135،136 .(1/17)
ومن أبرز الأمثلة على صحة هذا القول: لورد بلفور وزير خارجية بريطانيا الذي كانت ثقافته وقناعته الدينية التوراتية لها دورها الهام في تكوين موقفه السياسي من المشروع الصهيوني, وإصداره لوعده المشئوم في الثاني من نوفمبر 1917م. تقول ابنة أخته السيدة "بلا نش دوغايل": لقد تأثر بلفور منذ نعومة أظافره بدراسة التوراة في الكنيسة، وكان كلما اشتد عوده زاد إعجابه بالفلسفة اليهودية، وكان دائماً يتحدث باهتمام عن ذلك. ويقول "دونالد واغنز": إنّ أطروحات شعب الله المختار وحقه في أرض الميعاد وتحقيق النبوءة بتجميع اليهود في دولة إسرائيل في فلسطين من أظهر معتقدات بلفور التوراتية التي تربى عليها في نشأته في إحدى الكنائس الإنجيلية السكوتلاندية. لقد كان بلفور أكثر فهماً من هرتزل لطموحات الصهيونية على حد قول "بينز غروز" كبير الصحافيين الأمريكان العاملين في جريدة "نيويورك تايمز" وأحد العاملين في لجنة التخطيط في وزارة الخارجية في عهد إدارة الرئيس جيمي كارتر. وكان بلفور يقول عن نفسه: أنا صهيوني أكثر من الصهاينة أنفسهم.(1)[26])
جاء في دائرة المعارف البريطانية: "إنّ الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقى حياً في الأذهان بفعل المسيحيين المتدينين، وعلى الأخص في بريطانية أكثر من فعل اليهود أنفسهم".(2)[27])
النشاط الصهيوني في أمريكا:
__________
(1) 26]- انظر البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي- الصهيوني: -مصدر سابق-ص32.
(2) 27]- وثيقة الصهيونية في العهد القديم: جورجي كنعان، دار إقرأ، بيروت، الطبعة الثالثة 1985م ص 135.(1/18)
ولقد لحقت أمريكا ببريطانيا، إذ تحولت أنظار اليهود إليها، لمّا أدركوا أنّ نفوذ وسطوة بريطانيا العظمى بدأت تتقلص خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. يقول "ديزموند سيتوارث" في كتابه (تاريخ الشرق الأوسط): "إن بن غوريون شعر خلال الحرب العالمية الثانية أن مصدر القوة سيكون أمريكا لأن الحرب ستترك بريطانيا منهوكة مهما كانت نتائجها، لذلك أمضى في الولايات المتحدة خلال الحرب فترة طويلة، وهو يحاول الحصول على تأييد الحكومة لتكوين جيش يهودي في فلسطين، ولأغراض الصهيونية العامة فيها، ويعمل أيضاً بين الهيئات اليهودية المختلفة ليعدّها لطلب الدولة اليهودية بعد الحرب"(1)[28]).
وفي أمريكا ألقى اليهود ثقلهم الاقتصادي والسياسي والفكري الديني وتغلغلوا في عقلية المجتمع الأمريكي، مستخدمين كل ما أمكنهم من وسائل الإعلام والتعليم، واستغلوا المجامع الكنسية والمؤتمرات الدينية، ووضعوا التفسيرات والشروحات الدينية للعهد القديم.
لقد استطاع اليهود أن يجعلوا الرأي العام الأمريكي ينطلق من المرتكزات التوراتية الصهيونية في الدين والفكر والسياسة. يقول بول فندلي عضو الكونجرس الأمريكي في كتابه: (من يجرؤ على الكلام): "الواقع أنّ جميع النصارى ينظرون إلى الشرق الأوسط من منظار الصلة الروحية بإسرائيل، ومن زاوية الميل إلى معارضة أو عدم تصديق أي شئ يشكك في سياسة إسرائيل،والقناعات الدينية هي التي جعلت الأمريكيين يستجيبون لنداءات اللوبي الإسرائيلي"، ويضيف: "أعتقد أنّ أسباب البركة في أمريكا عبر السنين أننا أكرمنا اليهود الذين لجأوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا لأنّنا دافعنا عن إسرائيل بانتظام واعترفنا بحقها في الأرض"(2)[29]).
__________
(1) 28]- نقلاً عن الأصولية الإنجيلية أو المسيحية الصهيونية، محمد السماك، ص74.
(2) 29]- نقلاً عن قبل أن يهدم المسجد الأقصى، عبد العزيز مصطفى، ص157-158.(1/19)
يقول السيناتور الأمريكي "وليم أغنر" سنة 1955م: "لقد تمكنت الحكومة الخفية –يقصد- الصهيونية اليهودية- أن تكون لها رقابة كاملة على الصحف والإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما، وكثير من المؤسسات التي تؤثر على الرأي العام الأمريكي، بما في ذلك الكنائس المسيحية".(1)[30]) وأخيراً كشفت دراسة وثائقية أعدها الكاتب الأمريكي "ديفيد ديوك" عن سيطرة اليهود الموالين للدولة الصهيونية على أجهزة الإعلام الأمريكية . ويسيطر اليهود على أغلب دور النشر والإنتاج السينمائي والمكتبات العامة لخدمة مصالحهم ويبلغ عدد الصحف المستقلة عن سيطرة الإمبراطوريات الإعلامية اليهودية حوالي 25% فقط من بين 1600 صحيفة تصدر في أمريكا.ويمتلك " البيت الجديد " لوحده حوالي 12 قناة تلفزيونية و87 محطة كيبل و24 مجلة و26 صحيفة يومية. وأشار ديوك لسيطرة اليهود على الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية غير اليهودية، من خلال سيطرتهم على شركات الدعاية وتوجيه الإعلان لما تتماشى مع ميولهم ، ممّا جعل افتتاحيات تلك الصحف تعبر وتدافع عن مصالح اليهود.(2)[31])
__________
(1) 30]- وثيقة الصهيونية ص142.
(2) 31] - انظر: صحيفة الوطن السعودية 28/10/2001م.(1/20)
ونتيجة للجهود اليهودية ظهرت في أمريكا مؤسسات ومنظمات صهيونية مسيحية تمارس نشاطها الديني لمصحة الصهيونية السياسية، وقد استخدمت اسم فلسطين في ذلك، وهي تهدف من وراء ذلك إلى تعبئة الرأي العام الأمريكي,وممارسة الضغط على الجهات الرسمية في الإدارة الأمريكية والكونجرس لمصلحة الصهيونية السياسية.وشارك في عضوية تلك المنظمات والمؤسسات بشكل أساسي قيادات دينية بروتستانتية، إضافة إلى المسئولين الحكوميين والسياسيين ورجال الأعمال ورجال الصحافة والإعلام،كما ساهمت منظمات يهودية في إيجاد وإنشاء بعض هذه المنظمات الصهيونية المسيحية أو دعمها أو التنسيق معها. لقد أدى تأثير المسيحية الصهيونية في الثقافة العامة للشعب الأمريكي إلى تصوير الصراع العربي الإسرائيلي في الذهنية والثقافة الأمريكية على أنّه امتداد للصراع التوراتي بين داود الإسرائيلي الذي انتصر عل جليات الفلسطيني الغني القوي. وشكلت التوراة نتيجة لذلك مصدراً للإيمان العام في التقاليد الأمريكية وقوة مهمة في طموحه الوطني، وأساساً في التوجهات الأخلاقية للشخصية والصفة الأمريكية.(1)[32])
__________
(1) 32]- انظر البعد الديني-مصدر سابق- ص76.(1/21)
ولو قفزنا إلى العصر الذي نعيش فيه فإنّنا نكتشف أنّه ليس صحيحا أن الأمريكيين شعب غير متدين كما هو شائع بيننا .. إنّ جورج بوش قبل أن يواجه الكونجرس أول مرة بعد أحداث سبتمبر الأسود وجه الدعوة إلى 27 رجل دين مسيحيا للصلاة معه في قاعة روزفلت في البيت الأبيض..وفي دائرة من المقاعد جلس الجميع في خشوع وقد تشابكت أيديهم معا بينما كانت أنظارهم شاخصة إلى السماء .. ولم يتردد الرئيس الأمريكي سيئ الحظ في أن يقول لمن حوله: إنّ الله معهم في عالم الحروب الآن- حسب ما نشرت مجلة "نيوزويك الأمريكية" -. وفيما بعد أضاف أمام الكونجرس بتحد وحزم ودون أن يغمض له جفن:" إنّه باسم الله سيقود الأمة الأمريكية القلقة في حرب حاسمة ضد الإرهاب.." ثم بصريح العبارة استطرد: "إنّنا نحتاج إلى جانب مساعدة الحلفاء إلى مساعدة السماء"، ثم وبثقة لا أحد يعرف مصدرها قال:" وسنحصل على هذه المساعدة ". إنّ 95% من الأمريكيين يعتقدون في وجود الله .(1/22)
لقد عادت حركة الإحياء الديني في الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن العشرين..فقد شهدت تلك الدولة القوية ابتداء من عام 1976م صعود المسيحية السياسية والأصولية أو ما يسمى باليمين المسيحي..وهو ما ضاعف من عملية مساندة إسرائيل على أسس لاهوتية وإيمانية، لقد وصل في تلك الأيام إلى البيت الأبيض الرئيس جيمي كارتر الذي أعلن أنّه مسيحي أعيد تنصيره أو أعيد تعميده، وتوالى صعود الصهيوني المسيحي في الثمانينيات والتسعينيات حتى أصبح قوى مؤثرة في انتخابات الرئاسة والكونجرس، إذ أصبح يستحوذ على ربع عدد الأصوات على الأقل..أي نحو عشرة أضعاف الأصوات اليهودية..وفي طريقه إلى السيطرة على المسرح السياسي تحالف اليمين المسيحي-الصهاينة المسيحيون- مع اليمين السياسي في الحزب الجمهوري ليشكل ما أصبح يعرف باسم حزب الله. وفي الوقت نفسه أصبحت الصهيونية المسيحية صفة لأمريكا، لدرجة قطع لسان من لا يصف أمريكا باليهودية إلى جانب المسيحية .. وذلك ما حدث في انتخابات عام 1992م الرئاسية والبرلمانية التي أطاحت فيها أمريكا الصهيونية بالرئيس جورج بوش الأب، بالرغم من أنّ فترة رئاسته شهدت سقوط الاتحاد السوفييتي وانتصار بلاده في حرب الخليج.وقد استوعب جورج بوش الابن هذا الدرس الصعب وتعمد أن يقول خلال حملة الترشيحات الأولية في الحزب الجمهوري في ديسمبر عام 1999م: إنّ يسوع المسيح هو الفيلسوف السياسي المفضل لي.. وعندما سأله "تيم رو سرت" المذيع في شبكة (إن. بي. سي) التليفزيونية توضيح ذلك كانت إجابته: إنّ المسيح هو الأساس الذي أعيش به حياتي شاء من شاء وأبى من أبى..وبعد أن فاز جورج بوش على منافسه "جورج ماكين" بترشيح الحزب الجمهوري له كشف "ماكين" عن دور اليمين المسيحي في فوز بوش. وعندما انعقد المؤتمر القومي للحزب الجمهوري في أوائل أغسطس عام 2000م لاختيار بوش مرشحا للرئاسة لفت نظر الجميع بأنّه افتتح المؤتمر بنشيد المسيح، وأعلن(1/23)
بوش تبنيه لبرنامج اليمين المسيحي، وهو برنامج يلغي مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة..ثمّ أنهى المؤتمر بصلاة البركة.(1)[33])
... وأصبحت المرتكزات العقائدية للصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية تتلخص في ثلاثة أمور، هي:
أولاً: اليهود هم شعب الله المختار، وهم الأمة المفضلة على بقية الأمم والشعوب.
ثانياً: هناك ميثاقاً إلهياً ووعداً مقدساً يربط اليهود بالأرض المباركة فلسطين، إنّ هذا الميثاق والوعد أعطاه الله تعالى لإبراهيم ونسله(2)[34])، وخاصة يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق عليهم السلام(3)[35])، وهو ميثاق أبدي. يقول الحاخام اليهودي ألمر بيرجر: من الغريب أنّ الطوائف المسيحية البروتستانتية والتي تقبل التفسير الحرفي للكتاب المقدس أصبحت تتطلع إلى عودة اليهود إلى أرض الميعاد".(4)[36])
__________
(1) 33] - من مقال: عادل حمودة- كاتب مصري-جريدة البيان الإماراتية- كريستوفر كولمبس وإعادة بناء الهيكل-3 نوفمبر 2001م.
(2) 34]- انظر سفر التكوين: الإصحاح 13، 15، 17، 21.
(3) -انظر سفر التكوين: الإصحاح 27 الفقرات 1-40.
(4) 36] - وثيقة الصهيونية، ص147.(1/24)
يقول بن غوريون أول رئيس وزراء لليهود: "أما السيف الذي أعددناه إلى غمده، فإنّه لم يعد إلا مؤقتاً، إننا سنستله حين تتهدد حريتنا في وطننا، وحين تتهدد رؤى أنبياء التوراة، فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أرض الآباء والأجداد من النيل إلى الفرات"(1)[37])، ويقول: "تستمد الصهيونية وجودها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قد الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر: هو الوعد الإلهي والأمل بالعودة، يرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول –يقصد إبراهيم عليه السلام-الذي أبلغته السماء أن: "سأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أرض بني كنعان ملكاً خالداً لك"...والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً سياسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية... أما المصدر الثاني فقد كان مصدر تجديد وعمل. وهو ثمرة الفكر السياسي والعملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها أوربا في القرن التاسع عشر، وما خلفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في الحياة اليهودية"(2)[38]). ويقول إيغال ألون نائب رئيسة وزراء إسرائيل السابقة- غولدا مائير-: "جاء اليهود إلى البلاد لكي يستردوا الأرض التي يعتقدون أنها كانت أرض آبائهم، الأرض التي وعدها الله لهم ولذراريهم في العهد القديم المبرم قبل آلاف السنين بين الله وإبراهيم"(3)[39]). وقال السفير اليهودي السابق بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة- رئيس وزراء إسرائيل السابق- أمام مؤتمر صهيوني مسيحي عقد في واشنطن سنة 1985م: "هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى إسرائيل، هذا الحلم الذي يراودنا منذ ألفي سنة تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين. المسيحيون هم الذي عملوا على تحويل
__________
(1) 37] - حياة بن غوريون، ص327.
(2) 38] - الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي، إسماعيل الكيلاني، ص42.
(3) 39] - وثيقة الصهيونية، ص32.(1/25)
الأسطورة الجميلة إلى دولة يهودية"(1)[40]).
ثالثاً: ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح(2)[41]) ونزوله إلى الأرض بقيام دولة يهودية صهيونية في فلسطين(3)[42]). في سنة 1649م وجه من هولندا عالما اللاهوت التطهريّان الإنجليزيان: جوانا، وأليندزكارترايت مذكرة إلى الحكومة البريطانية عبّرا فيها عن مدى التحوّل في النظرة اللاهوتية إلى فلسطين والقدس من كونها أرض المسيح المقدسة التي قامت من أجلها الحروب الصليبية إلى كونها وطناً قومياً لليهود، كما عبرّا عن التحول من الإيمان بأنّ عودة المسيح يجب أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين، وأنّ العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهي إلى الإيمان بأنّ هاتين العودتين ممكن أن تتحققا بعمل بشري"(4)[43]).
__________
(1) 40] - الأصولية الإنجيلية، ص125.
(2) 41] - النصارى يؤمنون بنزول عيسى بن مريم، واليهود يؤمنون بعودة المسيح الدجال الملك اليهودي المنتظر، والمسلمون يؤمنون بنزول المسيح عيسى بن مريم مع خروج المهدي المنتظر وقتلهما المسيح الدجال بباب اللد.
(3) 42] - المرتكزات العقائدية الثلاثة النبوءة والسياسة، ص94-95. الأصولية الإنجيلية أو المسيحية الصهيونية، محمد السماك، ص36-37، 137.
(4) 43] - الأصولية الإنجيلية أو الصهيونية المسيحية، ص41-42.(1/26)
ويقول المسيحي الصهيوني جيم روبنسون –وقد كان شخصية متمكنة في الحكومة الأمريكية-: "لن يكون سلام حتى يعود المسيح، وكل من يؤمن بالسلام فهو ضد كلمة الله، ضد المسيح"(1)[44]). ويقول نصارى أوروبا: "إنّنا نحن المسيحيين نؤخر وصول المسيح من خلال عدم مساعدة اليهود على مصادرة مزيد من الأراضي"(2)[45]). ويقول المبشر المسيحي الصهيوني فرانك جناوي: "إنّ هجرة اليهود إلى أرض كنعان تمثل التحقيق المطلق لتلك النبوءات في ما يتعلق بعودة اليهود إلى أرضهم قبل مجيء المسيح المنتظر إلى العالم"(3)[46]).
واستطاعت الصهيونية المسيحية أن تغرس في أذهان وعقلية الغرب المسيحي أن ثلاثة أمور(4)[47]) يجب أن تتحقق قبل ظهور السيد المسيح في فلسطين وهي:-
الأول: قيام دولة إسرائيل، ولمّا قامت سنة 1948م اعتبرها المسيحيون الصهاينة في أمريكا أعظم حدث في التاريخ، لأنّه جاء مصدقاً للنبوءة الدينية التوراتية التي يؤمنون بها.
وبعد قيام إسرائيل: أصبحت العقيدة الصهيونية المسيحية تقوم على دعائم ومرتكزات أربعة، وهي:
1- إعطاء كلمة إسرائيل معنى دينياً رمزياً، وليس مجرد اسم ودولة والالتزام الأخلاقي بدعم إسرائيل هو التزام ديني ثابت ودائم، وليس مجرد التزام سياسي متغير ومتحرك وفقاً لمصالح الشعوب.
2- اعتبار شرعية الدولة اليهودية مستمدة من التشريع الإلهي، ومن ثمّ اعتبار قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للنبوءات الدينية.
3- التشديد على أنّ أرض إسرائيل هي: كلّ الأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته من النيل إلى الفرات كما جاء في التوراة: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"(5)[48]).
__________
(1) 44] - النبوءة والسياسة، ص35.
(2) 45] - النبوءة والسياسة، ص176. القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، د. سفر الحوالي، ص76.
(3) 46] - وثيقة الصهيونية، ص134.
(4) 47] - الأصولية الإنجيلية، السماك، ص84-85.
(5) 48] - سفر التكوين: الإصحاح 15 الفقرة 18.(1/27)
يقول الأصولي الإنجيلي (الصهيوني المسيحي) الأمريكي د.جيري فولويل: "إنّه لا يحق لإسرائيل أن تتنازل عن شئ من أرض فلسطين لأنها أرض التوراة التي وعد الله بها شعبه". ويقول الأصولي الإنجيلي دوغلاس كريكر: "إنّ الأصوليين الإنجيليين مثل اليهود والأرثوذكس، مغرمون بالأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته"(1)[49]).
استمرار العمل بالشعار التوراتي الذي يقول:" إنّ الله يبارك إسرائيل ويلعن لاعنيها "(2)[50]).وعملاً به لابدّ من: تقديم كل أنواع العون والمساعدة المادية والمعنوية والعلمية لإسرائيل للحصول على بركة الرب، وتجنب لعنته. ومن خلال ذلك تلتزم الكنائس المسيحية الصهيونية في أمريكا بتوجيه الرأي العام والقيادات السياسية لتأييد إسرائيل، وإصدار القرارات التي تترجم رغبة إرادة الله، وإذا تعارضت القرارات الأمريكية مع القوانين والمواثيق الدولية فإن القرار الصادر لمصلحة إسرائيل والقرار الإسرائيلي يجب احترامه والعمل بموجبه، لأنه يعكس إرادة الله، وأما القوانين والمواثيق الدولية فلتذهب إلى الجحيم، إنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به(3)[51]).
وجّه أحد الزعماء المسيحيين الصهاينة نداءً إلى اليهود جاء فيه: "إنه لا يجوز أن يبقى اليهود أوفياء إلى هذه المبادئ البراقة –يقصد القوانين الدولية- إذ أنّه على إسرائيل أن تكسر من وقت لآخر القوانين الدولية، وأن تقرر بنفسها ما هو قانوني وما هو أخلاقي وذلك على قاعدة واحدة، هي: ما هو جيد لليهود، ما يكون هو في مصلحة اليهود"(4)[52]).
__________
(1) 49] - النبوءة والسياسة، ص155.
(2) 50] - سفر التكوين: الإصحاح 27.
(3) 51] - الأصولية الإنجيلية، السماك، ص123-124.
(4) 52] - النبوءة والسياسة، ص161.(1/28)
يقول بن غوريون: "إذا كان ينبغي من أجل خير أرض أجدادنا أن نغزو أمماً أجنبية ونستعبدها ونبيدها، فيجب أن لا تمنعنا من ذلك اعتبارات إنسانية"(1)[53]). ويقول الدكتور إسرائيل شاحاك عضو جمعية حقوق الإنسان الإسرائيلية: "إن اليمين المسيحي الجديد يبرر أي عمل عسكري أو إجرامي تقوم به إسرائيل، وبالتالي فهو يؤيد هذه الأعمال"(2)[54]).
الثاني: جعل مدينة أورشليم –القدس- تحت السيطرة الإسرائيلية، لأنّها المدينة التي سيحكم منها السيد المسيح العالم كله، ولما احتلت إسرائيل بقية القدس سنة 1967م –برعاية ومساعدة مسيحية أوربية وأمريكية– ضغطت الكنائس الصهيونية المسيحية في أمريكا من أجل الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. ولقد كان ما أرادت، إذ تجاوب الكونجرس الأمريكي -مجلس الشيوخ والنواب- لهذا الأمر بإصدار قرار في ذلك في إبريل 1990م.
الثالث: إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى المبارك بعد هدمه وإزالته من الوجود:- يقول المبشر الصهيوني النصراني (أوين) وهو ضابط متقاعد: "إنّنا نعتقد بأن سيكون الخطوة التالية في الأحداث بعد إقامة دولة إسرائيل وعودة اليهود للقدس، هو أن يعاد الهيكل، هذه ستكون مؤدية إلى عودة المسيح، وإن اليهود بمساعدة المسيحيين يجب أن يدمروا المعبد القائم –المسجد الأقصى- ويبنوا الهيكل لأنّ هذا ما يقوله الإنجيل"(3)[55]). قال أحد الزعماء اليهود لزملائه النصارى الإنجيليين: "إنكم تنتظرون مجيء المسيح للمرة الثانية، ونحن ننتظر مجيئه للمرة الأولى، فلنبدأ أولاً(4)[56]) ببناء الهيكل وبعد مجيء المسيح ورؤيته نسعى لحل القضايا المتبقية سوياً.
__________
(1) 53] - القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، سفر الحوالي، ص77.
(2) 54] - الله أو الدمار، سعد جمعة، ص29.
(3) 55] - قبل أن يهدم المسجد الأقصى، ص164.
(4) 56] - المصدر السابق، ص155.(1/29)
... وممّا هو جدير بالإشارة والتنبيه إليه:أنّ نصارى-مسيحيي- العالم يعتقدون بعودة المسيح عليه السلام بعد ألف سنة من ميلاده، ثم يحكم العالم ألف سنة، وقد أخذوا عقيدتهم هذه من رؤيا يوحنا اللاهوتي من رسائل العهد الجديد(1)[57]). وقد انتظر النصارى نزول المسيح وعودته على رأس الألف الميلادية الأولى، ولمّا لم ينزل بقيت الأحلام بعودته في رؤوسهم. ولمّا شارف القرن العشرون على البزوغ –أي سنة 1900م– بدأت تظهر الدعوات لظهوره من جديد ولما لم ينزل اعتقدوا أنه سينزل وسيعود عام 2000م، وبما أنّ ظهوره سيكون في موطنه الأصلي فلسطين، فلا بد إذا من الإعداد والتهيؤ لنزوله، ومن ذلك تجميع اليهود في فلسطين على شكل دولة تكون القدس عاصمتها الموحدة الأبدية –وقد تم ذلك– ثمّ إقامة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى(2)[58])، كما بينّا ذلك قبل سطور قليلة.
ولإتمام هذا المخطّط الشيطاني الرهيب المتمثل في جعل القدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل وبناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى وجدت في العالم –وخاصة في أمريكا وإسرائيل– مئات المنظمات والمؤسسات الصهيونية المسيحية واليهودية التي تعمل من أجل إنفاذ هذا المخطط الذي هو في الأصل اعتقاد مشترك.
__________
(1) 57]- الإصحاح 20 من رؤيا يوحنا.
(2) 58]- القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، الحوالي، ص33. قبل أن يهدم المسجد الأقصى، ص161.(1/30)
وهنالك العديد من الحركات الأخرى التي تهتم بشراء الأراضي والاستيلاء عليها،ومضايقة المسلمين في القدس،وإقامة المؤتمرات والمهرجانات للإعداد لإقامة الهيكل المزعوم، وتتعامل الحكومة اليهودية مع تلك الجماعات والحركات بتسامح يصل إلى حد إعطاء الضوء الأخضر للكثير من الممارسات والاعتداءات. وتتميز هذه المنظمات والحركات بالتنسيق فيما بينها ، والتكامل في أنشطتها ، هذا بالإضافة للابتكار والتجديد لأساليب العمل مع عدم الزحزحة عن الثوابت التي تعمل من أجلها ، والتي لم تتوقف في يوم من الأيام منذ احتلال القدس إلى يومنا هذا.
... وظهرت في الغرب جمعية تسمى"مسيحيون من أجل إسرائيل" عملت على توطين 50 ألف يهودي أوكراني في فلسطين المحتلة، وقالت المتحدثة باسم الجمعية أن هذا العمل هدية لإسرائيل في ذكرى قيامها في مايو أيار 1948م، وقد جمع فرع الجمعية في هولاندا بالإضافة إلى جمعية صهيونية أخرى في بريطانيا قد جمعتا 6 مليون دولار لاستخدامها في تمويل الهجرة إلى فلسطين المحتلة.(1)[59])
القسم الثاني
عقيدة اليهود تجاه الهيكل ومزاعمهم في وجوده مكان المسجد الأقصى
المطلب الأول:تعريف الهيكل:-
__________
(1) 59] - صحيفة القدس العدد 9886 ص 16، 4/3/97 19م، 25/10/1417هـ.(1/31)
الهيكل كلمة عربية يقابلها في العبرية "بيت همقداش" أي بيت المقدس، أو "هيخال" وتعني البيت الكبير في كثير من اللغات السامية. ومن أهم أسماء الهيكل "بيت يهوه"، ويهوه هو إله اليهود، إذاً هو بيت الإله. والهيكل أُعدّ أساساً ليكون مسكناً للإله، وليس مكاناً للعبادة وأداء الطقوس وتقديم النذور والقرابين، وإن أصبح فيما بعد مكاناً لهذه الأمور(1)[60]). جاء في سفر الملوك: "حينئذ تكلم سليمان: قال الرب: إنه يسكن الضباب إني قد بنيت لك بيت سكني مكاناً لسكناك إلى الأبد"(2)[61]). وفي نفس السفر أيضاً: "وقد قمت أنا مكان داود أبي وجلست على كرسي إسرائيل كما تكلم الرب، وبنيت البيت لاسم الربّ إله إسرائيل"(3)[62]).وأيضاً فإنّ اليهود يعدون الهيكل بمثابة المصرف القومي للدولة العبرانية، يرسلون إليه القرابين والنقود، ويودع فيه الأثرياء نقودهم وتحفظ فيه رموز الدولة وطنافسها كالشمعدان ونحوه.
المطلب الثاني: باني الهيكل:-
__________
(1) 60] - انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية : د. عبد الوهاب المسيري ، دار الشروق – القاهرة – بيروت – الطبعة الأولى 1999م ، 4/159 .
(2) 61] - الإصحاح الثامن : الفقرتان 12 ، 13 .
(3) 62] - نفس الإصحاح : الفقرة 20 ، وانظر سفر صموئيل الثاني ، الإصحاح السابع .(1/32)
... زعم الكتاب المقدس عند اليهود أنّ النبي داود عليه السلام اشترى أرضاً من أرونة اليبوسي لبناء الهيكل(1)[63])، وهيّأ له الأموال والمواد اللازمة للبناء(2)[64])، ولكنّه لم يشرع بالبناء لانشغاله بالحروب وسفكه لدماء كثيرة، وقد منعه الرب من البناء لأجل ذلك، ووعد الربّ داود بأن يكون ابنه سليمان وريثه هو الذي يقوم ببناء الهيكل(3)[65]). لقد أنجز سليمان بناء الهيكل وأتمّه وأكمله في سبع سنين(4)[66])، وحسب المزاعم اليهودية فإنّ سليمان بنى الهيكل فوق جبل مُرِيّا في القدس، وهو جبل بيت المقدس، أو هضبة الحرم حيث يوجد فوقها سور الحرم الشريف الذي يشمل المسجد الأقصى ومسجد قبّة الصخرة، وعدد من الأروقة والأبنية. ويسمي اليهود المكان بجبل الهيكل.
ولقد جاءت قصة بناء سليمان عليه السلام للهيكل في أسفار الملوك الأول:الإصحاح السادس، وأخبار الأيام الأول: الإصحاح التاسع والعشرون وأخبار الأيام الثاني:الإصحاحات الثالث إلى السابع مع اختلافات بين السفرين في بعض التفاصيل المهمة.
المطلب الثالث:هدم هيكل سليمان:-
__________
(1) 63] - انظر سفري صموئيل الثاني، الإصحاح الرابع والعشرون ، الفقرة الرابعة والعشرون وسفر أخبار الأيام الأول ، الإصحاح الحادي والعشرون ، الفقرة الرابعة والعشرون .
(2) 64] - انظر سفري الملوك الأول:الإصحاح الخامس ، أخبار الأيام الأول : الإصحاح الثاني والعشرون .
(3) 65] - انظر سفر الملوك الأول:الإصحاح السابع عشر ، الفقرات 11-14 ، سفر أخبار الأيام الأول ، الإصحاح الثاني والعشرون الفقرات 7-10 ، الإصحاح الثامن والعشرون ، الفقرات 2-8 .
(4) 66] - انظر سفر الملوك الأول ، الإصحاح السادس .(1/33)
يزعم الكتاب المقدّس أنّ الهيكل حافظ على عظمته مدة أربعة قرون وربع، أي منذ حوالي سنة 968 ق.م إلى أن هاجم البابليون بقيادة الملك نبوخذ نصر (بخت نصر) القدس وسبوا أهلها ، واستولوا على ما في الهيكل من ثروات ، ثم هدموه سنة 586 ق.م أو سنة 587 ق.م(1)[67]).
المطلب الرابع:الهيكل الثاني:-
إنّ الهيكل الثاني هو هيكل زور بابل أحد كبار كهنة اليهود، الذي بناه سنة 515ق.م بعد أذن الملك الفارسي قورش لليهود بالعودة إلى القدس سنة 538 ق.م. وكان البناء الجديد أضخم من البناء الأول لكنّه أقلّ مصاريف وفخامة، وبقي هذا الهيكل قائماً مدة خمسة قرون، وأخبار هذا الهيكل جاءت في أسفار عزرا وحجي وزكريا(2)[68]). ويَذكر العهد القديم أنّ الهيكل الثاني بُني بأمر من الرب إله إسرائيل، وبأمر من أباطرة الفرس: قورش، وداريوس الأول، وأرتحشتا.(3)[69])
المطلب الخامس:- هيكل هيرودس:-
__________
(1) 67] - انظر سفر الملوك الثاني ، الإصحاح الخامس والعشرون ، الفقرتان 8-9 ، 13-17 ، أخبار الأيام الثاني ، الإصحاح السادس والثلاثون ، الفقرتان 18-19 .
(2) 68] - انظر قاموس الكتاب المقدس ، دار الثقافة – القاهرة ، الطبعة السابعة 1991م ، ص 1014.
(3) 69] - انظر سفر عزرا ، الإصحاح السادس ، الفقرة الرابعة عشرة .(1/34)
قام هيرودس الوالي اليهودي على فلسطين من قبل الرومان ببناء هيكل جديد على أنقاض هيكل زور بابل الذي أصابه الخراب أو لكونه لم يعجب الوالي نفسه، فهدمه وقام ببناء هيكل آخر مكانه أضخم منه، بدأ هيرودس العمل في البناء سنة 20 ق.م واستمر العمل فيه وقتاً طويلاً ولكنه مات قبل أن يتمّه، وتم البناء في عهد أجريباس الثاني سنة 64م(1)[70]). جاء في قاموس الكتاب المقدس أن يسوع المسيح زار هذا الهيكل وأخذ يسأل التلاميذ عند درجات دار بني إسرائيل التي كانت إحدى الدور التي أحاطت بالهيكل، وأنّ أمّه مريم تطَهرت عند أحد أبواب الهيكل(2)[71]). ولقد هدم هذا الهيكل في التاسع من آب أغسطس سنة 70م على يد القائد الروماني طيطس. ويذهب اليهود إلى أنّ هدم الهيكل كان عقاباً لهم على ما اقترفوه من الذنوب(3)[72]) منها: عبادة الآلهة من دون الله ،وعدم القيام بفرائضه ووصاياه، وعدم حفظ عهوده التي قطعها على بني إسرائيل(4)[73]).
المطلب السادس:- إعادة بناء الهيكل:-
لمّا كان الهيكل هو المعبد المقدس عند اليهود، وقد هدم عام 70م فإنّهم يحرصون بشدة على إعادة بنائه وتشييده من جديد، ويطلقون مصطلح "الهيكل الثالث" على الهيكل الجديد.
__________
(1) 70] - انظر قاموس الكتاب المقدس ، ص 1014 ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 4/163
(2) 71] - انظر ص 1015 من القاموس .
(3) 72] - انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – مصدر سابق – 4/166 .
(4) 73] - سيأتي ذكر هذه الذنوب في ثنايا البحث .(1/35)
ولكي يبقى الهيكل المهدوم حياً في ذاكرة كل يهودي فقد ابتدع الحاخامات اليهود مجموعة من الطقوس والمراسم يقوم بها اليهودي، ومن ذلك: ذكر الهيكل عند الميلاد والموت، وعند الزواج يحطّم أمام العروسين كوب فارغ لتذكيرهم بهدم الهيكل، وقد ينثر بعض الرماد على جبهة العريس. وفي الماضي كان الحاخامات يوصون اليهودي الذي يطلى بيته أن يترك مربعاً صغيراً دون طلاء حتى يتذكر حادثة هدم الهيكل، وفي يوم التاسع من آب (أغسطس) يصوم اليهود تخليداً لتلك الحادثة ، وعلى اليهود الأتقياء الصلاة في منتصف الليل حتى يعجل الإله بإعادة بناء الهيكل.
وعليهم أن يتذكروا الهيكل عند كل وجبة طعام وعند كل صلاة في الصباح (1)[74]).
المطلب السابع: مكانة الهيكل في الوجدان اليهودي:
يقول المؤرخ "ول. ديورانت" عن قدسية الهيكل ومكانته اليهودية: "كان بناء الهيكل أهمّ الأحداث الكبرى في ملحمة اليهود. ذلك أنّ هذا الهيكل لم يكن بيتاً ليهوه (إله اليهود) فحسب، بل كان أيضاً مركزاً روحياً لليهود، وعاصمة ملكهم، ووسيلة لنقل تراثهم، وذكرى لهم، كأنّه علم من نار يتراءى لهم طوال تجوالهم الطويل المدى على ظهر الأرض، ولقد كان له فوق ذلك شأن في رفع الدين اليهودي من دين بدائي متعدد الآلهة إلى عقيدة راسخة غير متسامحة" (2)[75]).
__________
(1) 74] - انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – مصدر سابق -4/160 .
(2) 75] - قصة الحضارة : ول . ديورانت ، ترجمة د. زكي نجيب محمود ، مطابع الدجوي – القاهرة 1973م ، 2/338(1/36)
وعن أهمّية الهيكل الدينية يقول المؤرخ" لودز" : لقد بالغ كتبة العهد القديم في العصور المتأخرة في أهمية بناء الهيكل في أورشليم، لقد بدأ الهيكل يأخذ مكانة مميزة في الديانة اليهودية ، نتيجة لتدمير مملكة إسرائيل الشمالية سنة 722 ق.م من قبل الآشوريين… وكان الفضل كله يرجع إلى إصلاح يوشيا سنة 622 ق.م، الذي أعلن أنّ الهيكل هو المعبد الشرعي الوحيد للإله يهو، بحيث أصبح الهيكل بالنسبة للديانة اليهودية وحتى إبطال تقديم القرابين عام 70م قلب الديانة الوطنية …"(1)[76]).
وبعد بناء هيكل سليمان بدأ تحوّل عظيم في الطقوس اليهودية، فقبل بنائه لم يكن هناك مكان مقدّس يحمل اسم الإله "يهوه"، يمارس اليهود فيه طقوسهم الدينية، ولقد كان اليهود قبل بناء الهيكل يصعدون إلى المرتفعات لتأدية الطقوس الدينية، وبعد بنائه أصبحت تأدية الطقوس داخله أمراً واجباً وأصبح ينظر إلى تأدية هذه الطقوس خارجه كأنّها عبادة وثنية لأنّ الهيكل مقر إلههم ومعبودهم، وهو مسكن الأرواح وبه المذبح المقدس، وبمرور الزمن أصبح هيكل سليمان مهوى أفئدة اليهود، ولقد اتفقوا على طقوس واحدة وعبادة واحدة(2)[77]). جاء في "دائرة المعارف البريطانية": "إنّ اليهود يتطلعون إلى افتداء إسرائيل واجتماع الشعب في فلسطين، واستعادة الدولة اليهودية وإعادة بناء هيكل سليمان، وإقامة عرش داود في القدس، وعليه أمير من نسل داود" (3)[78]).
__________
(1) 76] - نقلاً عن : داود وسليمان في العهد القديم والقرآن الكريم ، د. أحمد عيسى الأحمد مطبعة حكومة الكويت 1410هـ – 1990م ، ص 114 .
(2) 77] - سياسة الاستعمار الصهيوني تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين : د. حسن صبري الخولي ، بدون دار الطباعة أو النشر ، وبدون تاريخ – القاهرة هامش 1/6
(3) 78] - نقلاً عن كتاب "قبل أن يهدم المسجد الأقصى"عبد العزيز مصطفى، دار التوزيع والنشر الإسلامية ، القاهرة ص126.(1/37)
لقد سيطّر الهيكل على نفوس اليهود وخيالهم، فأورشليم اقترنت به وإذا ذكر اسمها فهو المراد أولاً وقبل كل شيء، وما كتبه الأحبار والكتاب اليهود عن الهيكل وأورشليم تضيق عنه مئات المجلدات، بحيث كان اليهود في أرض الشتات، وفي كلّ أماكن تواجدهم يعيشون في هيكل أورشليم مع سطور التلمود وكتابات الأحبار"(1)[79]). إنّ الهيكل كنز الإله مثل جماعة إسرائيل، وهو عند الإله أثمن من السماوات بل من الأرض لأنّه خلقها بكلتي يديه، وخلق الهيكل بيدٍ واحدة، والإله نفسه هو الذي قرّر بناء الهيكل قبل خلق الكون نفسه، وأنّ قدس الأقداس(2)[80]) الذي يقع في وسط الهيكل هو بمنزلة سُرَّة العالم(3)[81]).
__________
(1) 79] - انظر أبحاث في الفكر اليهودي : د. حسن ظاظا ، دار القلم – دمشق ، دار العلوم والثقافة – بيروت ، الطبعة الأولى 1407هـ – 1987م ، ص 30 .
(2) 80] - قدس الأقداس : هو حسب المزاعم اليهودية أقدس الأماكن في الهيكل ، وهو عبارة عن مكعب حجري مصمت أي بدون نوافذ ، وكان يضم تابوت العهد ، ويفصله عن الهيكل ستارة وسلسلة من الذهب وباب . انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية –مصدر سابق- 4/165 ، ويؤسفنا أنّ بعض الساسة ووسائل الإعلام الفلسطينية تطلق مصطلح قدس الأقداس على المدينة القدس ليدلل على قدسيتها
(3) 81] - انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية –مصدر سابق- 4/159 .(1/38)
ولقد تحدّث التلمود (الكتاب المقدس الثاني) عند اليهود عن الهيكل في مواضع متعددة منه، ومن ذلك: " لمّا دخل طيطس الهيكل، وبهزةٍ من سيفه مزّق ستار الهيكل، فسال الدمّ من الستار، فأرسلت بعوضة لعقابه ودخلت مخه، وأخذت تكبر حتى صارت مثل الحمامة، وحين فتحت جمجمته وجدوا أنّ البعوضة لها فم من نحاس، ومخالب حديدية"، وزعم التلمود أنّ الرب –تعالى عما يقولون علواً كبيراً– بعد تدمير الهيكل وإلى الآن لم ينقطع عن البكاء والنحيب، ويردد عبارات الندم على سماحه بهدم الهيكل، ومن ذلك: (تباً لي ! أَمرت بخراب بيتي وإحراق الهيكل وتشريد أولادي) (1)[82]).
إنّ معظم قادة اليهود في فلسطين المحتلة من الحاخامات والأحبار ورجال السياسة لا يملون من الحديث عن وجوب إقامة هيكل سليمان ومن العبارات التي يرددونها دائماً: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل".
القسم الثالث
إبطال المزاعم الصهيونية في وجود هيكل سليمان
__________
(1) 82] - إسرائيل والتلمود : إبراهيم خليل أحمد ، دار المنار-لم يذكر اسم البلد-1403هـ –1983م، ص 40 .(1/39)
... "يثير اليهود الشكوك حول المسجد الأقصى المبارك وما حوله ويزعمون أنه بني فوق أرض يهودية، وعلى أنقاض الهيكل المقدس الذي كان يشكل رمزاً للهوية اليهودية،ومعلماً دينياً ووطنياً لهم في زمن من العصور الغابرة. وقد جنّد اليهود ومن أجل تأكيد هذه الشكوك ، كثيراً من الطاقات،والمقدرات،والإمكانات البشرية والمادية ،لتصبح بعدئذٍ حقائق دينية أكيدة لدى جمهور كبير من اليهود الذين صبغت عقولهم بعنصرية دينية مارقة ، وجبلت أذهانهم على حب الانتقام من الآخر ، واستغلال كل فرصة وامتطاء أية وسيلة مهما كانت من أجل الوصول إلى الهدف المنشود وهو تدمير الأقصى، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، مستمدين عزيمتهم وإصرارهم من وحي عبارات تلمودية وتوراتية، صاغها كبار حاخاماتهم وزعاماتهم الدينية وغيّروا وبدّلوا فيها عبر كل عصر ، حتى قيل إنّ التوراة دخلها أكثر من ثلاثمائة تحريف. تم صياغة الفكر اليهودي المشوه في صحائفهم المزورة إلى حقائق مادية على أرض الواقع ، تتمثل بمجموعات كبيرة من الشبان العنصريين الذين غرسوا وتربوا وترعرعوا على فكرة واحدة، وهي: "بناء الهيكل لخلاص (إسرائيل)"، فكان هؤلاء الشبان هم الحصان الذي امتطى عليه كبار الحاخامات من أجل تغيير معالم المنطقة المقدسة تمهيداً للحدث الكبير ، سواء كان ذلك بوساطة الحفر لتقويض أركان المسجد الأقصى، أو بالاعتداء الوحشي والمتكرر على المصلين المسلمين الذين يؤكدون على قدسية وإسلامية هذا المكان خمس مرات في اليوم الواحد".(1)[83])
__________
(1) 83] -من مقال:أقصى المسلمين وهيكل اليهود- الحق والملكية في إطار السياق التاريخي وإشكاليات الصراع الحاضر- محمد الحلايقة –موقع المركز الفلسطيني للإعلام على الإنترنت.(1/40)
يمكننا نقض مزاعم الصهيونية في الهيكل المنسوب لسيدنا سليمان عليه السلام وكشف الزيوف المتعلقة بهذا الأمر من عدة أوجه -كل وجه في مطلب- معتمدين أولاً على الأسفار اليهودية المقدسة عندهم، وعلى أقوال علماء الآثار من اليهود والنصارى وغيرهم ، ثمّ على حقائق التاريخ ووقائعه، وعلى أقوال علماء المسلمين من المؤرخين والمفسرين ونحوهم.
المطلب الأول: إبطال قدسية مصدر وجود الهيكل:
إنّ المصدر الديني المقدس الذي يتحدث عن وجود هيكل سليمان بالصفة المحددة عند اليهود هو الكتاب المقدس الذي يشتمل على التوراة بأسفارها الخمسة وأسفار الأنبياء والأسفار التي يسمونها بالكتابات.
... إنّ سفري الملوك الأول والثاني-من أسفار الكتاب المقدس- هما اللذان تحدثا عن بناء سليمان عليه السلام للهيكل وذكرا أوصافه وهيئته ومواد بنائه. والدارس للكتاب المقدس يتبين له أنّه لا يصلح أن يكون مصدراً تاريخياً موثوقاً، فضلاً أن يكون مصدره الوحي والإلهام كما يزعم اليهود وهناك الكثير من الأدلة والبراهين العلمية على عدم قدسية هذا الكتاب وكونه كتاباً غير موثوق به كمصدر تاريخي يمكن الاعتماد عليه أو الاستناد إليه في إثبات قدسية الهيكل أو وجوده، ومن ثَمَّ نسبته إلى نبي الله سليمان عليه السلام.
ونذكر هنا بعض الأدلة والبراهين التي نوَّه إليها العلماء والباحثون المهتمون والمتخصصون في دراسة الكتاب المقدس عند اليهود.
البرهان الأول:(1/41)
... إنّ العهد القديم –الكتاب المقدس عند اليهود– مصدر الحديث عن الهيكل لم يصل إلينا بسند متواتر متصل إلى موسى أو سليمان أو غيره من الأنبياء ولم يستطع أحبار وحاخامات اليهود –مهما استعملوا من الحيلة والمكر والدهاء– أن يقيموا دليلاً واحداً على ذلك. إن الكتاب السماوي المقدس يجب أن يثبت سنده بالطريق المتواتر القطعي، والمتواتر ما يرويه جمع من الناس يُؤْمن تواطؤهم واجتماعهم على الكذب عن جمع مثله حتى منتهاه إلى الرسول الذي أنزل عليه وحياً من الله تعالى(1)[84]).
إنّ أقدم نسخة مكتشفة للعهد القديم هي النسخة المكتشفة في (كهوف قمران)، وهذه النّسخة لا تمثل العهد القديم كله بل ينقصها الشيء الكثير، فلا يكاد يوجد سفر من هذه النسخة كاملاً إلا القليل، واختلفت آراء المؤرخين في تاريخ كتابتها، فالباحث الأمريكي "ألبرايت" ذهب إلى أنها كتبت حوالي "200" سنة قبل الميلاد، وذهب آخرون ومنهم البريطاني "درا يفر" إلى أنها تعود إلى ما بعد الفتح الإسلامي، وإذا أُخِذ بالرأي الأول بأنها تعود إلى مائتي سنة قبل الميلاد، فهذا يفيد أنّ الفرق الزمني بين النسخة المكتشفة وبين موسى عليه السلام صاحب التوراة لا يقل عن ألف (1000) سنة وبينها وبين سليمان عليه السلام باني الهيكل حوالي سبعمائة (700) سنة. فهل يمكن لهذه النسخة أن تعد وثيقة تاريخية موثوقاً منها لتثبت مزاعم اليهود في الهيكل(2)[85]).
البرهان الثاني:-
__________
(1) 84] - انظر محاضرات في النصرانية : الشيخ محمد أبو زهرة ، مطبعة المدني،القاهرة،الطبعة الثالثة 1385ه-1966م ،ص85.
(2) 85] - انظر مقال : هيكل سليمان حقيقة أم خيال : عثمان سعيد العاني ، صحيفة الرسالة – فلسطين – العدد 45 الخميس 14 ذو القعدة 1418هـ ، 12/3/1998م ، ص 17 .(1/42)
إنّ أسفار العهد القديم صرّحت وفي أكثر من موضع أنّ كثيرين من أنبياء بني إسرائيل وأتباع الأنبياء قد كذّبوا على الله تعالى، وحرّفوا كلامه وتنبأوا بأحلام كاذبة...ونذكر هنا بعضاً من نصوص الكتاب المقدس التي تثبت ذلك :-
ما قاله داود على لسان الرب: "ماذا يصنعه بي البشر، اليوم كلّه يحرِّفون كلامي"(1)[86]).
ما قاله أرميا على لسان الربّ: "قال الربّ لي: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي لم أرسلهم، ولا أمرتهم، ولا كلّمتهم بالرؤى الكاذبة، ومكر القلب يتنبئون"(2)[87])، "أمّا وحي الربّ فلا تذكروه بعد لأنّ كلمة كلّ إنسان تكون وحيه إذ قد حرفتم كلام الإله الحي ربّ الجنود إلهنا"(3)[88]).
البرهان الثالث:-
__________
(1) 86] - مزامير داود الإصحاح 56 ، الفقرة 5 .
(2) 87] - سفر أرميا الإصحاح 14 ، الفقرة 13 .
(3) 88] - السفر نفسه، الإصحاح 23 ، الفقرة 35 .(1/43)
إنّ أسفار العهد القديم ومنها أسفار الأنبياء التي جاء فيها الحديث عن هيكل سليمان قد كتبت ولفقت وجمعت من مصادر مختلفة متباينة، والذي جعل العلماء والباحثين يكتشفون ذلك: لغة الكتاب المقدس وعباراته، وعدم إتقان الكتبة لعملية التلفيق والتزوير والتحريف(1)[89]).واعترفت بهذه الحقيقة الموسوعة اليهودية ودائرة المعارف الأمريكية التي قالت: إن الكتبة قد غيّروا بقصد وبدون قصد في الوثائق والأسفار اليهودية التي كتبوها على مدار الفترة من القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى القرن الأول بعد الميلاد، ولم تصلنا نسخة المؤلف الأصلي لهذه الأسفار(2)[90]). يقول الدكتور اليهودي "آرثرروين" أستاذ علم الاجتماع بالجامعة العبرية في القدس: إنّ علماء الكتاب المقدس كلهم مجتمعون على أنّ العهد القديم جرى وضعه خلال وبعد النفي إلى بابل (3)[91]).
__________
(1) 89] - الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي – د. عبد العظيم المطعني – دار الوفاء-المنصورة، مصر الطبعة الثانية 1412هـ/1992م – ص 355-356 .
(2) 90] - تأثر اليهودية بالأديان الوثنية – د. فتحي محمد الزغبي – دار البشير، طنطا، مصر الطبعة الأولى 1414هـ/1994م – ص 372-373 .
(3) 91] - د. المطعني – مصدر سابق – ص 74 ، حدث الأسر البابلي ليهود فلسطين في القرن السادس قبل الميلاد .(1/44)
إنّ سفري الملوك الأول والثاني –اللذين تحدثا عن هيكل سليمان– ترجع التقاليد اليهودية كتابتهما إلى أرميا، وهذا باطل، وليس ثمة دليل واحد يؤيده، فالسفر الثاني تمتد حوادثه إلى ما بعد عصر أرميا، وبالتالي فلا يعقل أن يكون هو كاتبه(1)[92]). ومن هنا شكّك العلماء والمؤرخون في هذين السفرين –كما شكّكوا في العهد القديم كله– كمصدر تاريخي يمكن الوثوق به، وذهبوا إلى أنّ السفرين عبارة عن مجموعة من المدونات استقى كاتبها مواده من سجلات البلاط وسجلات الهيكل وسير الأنبياء واعتمد على كثير من الروايات الشفهية والحكايات الشعبية(2)[93]). وذهب العلماء إلى أنّ هذين السفرين قد تمّ تأليفهما مرتين وبصيغتين مختلفتين، فالصيغة الأولى أواخر القرن السابع ق.م، أو ما بين 622-609 ق.م، أي ما قبل السبي. وأما الصيغة الثانية فقد وضعت في السبي، حيث جاء مؤلف ثان وأعاد تأليفه من جديد، ويستدل على ذلك بعبارات كثيرة جاءت في السفرين(3)[94]). ويرجح أنّ هذا التأليف قد تم فيما بين عامي 561-538 ق.م(4)[95])، ويذكر
__________
(1) 92] - حبيب سعيد : المدخل إلى الكتاب المقدس – دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية – القاهرة – 1959م – ص 99 .
(2) 93] - باروخ سبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة – ترجمة وتقديم د. حسن حنفي ، دار وهدان للطباعة والنشر ، بدون تاريخ – ص 276-277 ، الأب ديلي : تاريخ شعب العهد القديم – ترجمة الأب جرجس مارديني ، المطبعة الكاثوليكية – بيروت – 1961م - ص 206 ، كاترين هنري : التاريخ في الكتاب – تلخيص حبيب سعيد ، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية – مصر – بدون تاريخ - ص 109-110 .
(3) 94] - انظر سفر الملوك الأول 8 : 44 – 51 ، 9 : 1-9 ، سفر الملوك الثاني 17 : 19-20، 21 : 1-15 ، 22 : 16-18 .
(4) 95] - انظر الأب ديلي : تاريخ شعب العهد القديم ص 206 ، كاترين هنري : التاريخ في الكتاب ص 110 ، حبيب سعيد : المدخل إلى الكتاب المقدس ص 102 .(1/45)
الكاتب الفرنسي "موريس بوكاي" أن أسفار صموئيل والملوك قد شك العلماء في قيمتها التاريخية حيث تختلط الأحداث بالأساطير وأنّ "أدموند جاكوب" وجد فيها أخطاء متعددة، وأن الحدث الواحد له روايات مزدوجة وحتى ثلاثية(1)[96]).
إنّ سفري أخبار الأيام الأول والثاني –اللذين جاء فيهما ذكر لبناء سليمان للهيكل– قد طعن العلماء فيهما وشككوا في كونهما كتاباً تاريخياً موثوقا فيه، وبيان ذلك :- ... إنّ علماء التقليد اليهودي زعموا أنّ كاتب السفرين الكاهن "عزرا "( (2)[97])، لكن الناقد اليهودي "باروخ سبينوزا"(3)[98]) يذكر أنّ سفر أخبار الأيام الأول قد كتب بعد موت عزرا بمدة طويلة، وربما بعد إعادة بناء المعبد في عصر المكابيين(4)
__________
(1) 96] - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة – دار المعارف ، مصر - ص 34.
(2) 97] -جاء في سفر عزرا : الكاهن عزرا يرجع في نسبه إلى هارون، وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وكان عزرا مقربا من الملك الفارسي " أرت حشتا " ،وعمل له مستشارا في شئون الطائفة اليهودية، وقد رجع إلي فلسطين بعد أن سمح لليهود بالرجوع .انظر سفر عزرا،الإصحاح السابع، الفقرات 1-15.
(3) 98] -باروخ سبينوزا (1632ه-1677م) فليسوف يهودي برتغالي . تجاسر فنقد العهد القديم في كتابه:"البحث اللاهوتي السياسي" أو "رسالة في اللاهوت والسياسة " صدر 1670م ، ويعد من رواد الدراسات النقدية لأسفار التوراة في العصر الحديث . انظر : الموسوية النقدية للفلسفة اليهودية . وعبد المنعم الحفني مكتبة مدبولي _ القاهرة _الطبعة الأولي 1980م.ص119 .
(4) 99] -المكابييون : جماعة يهودية تنسب إلى الكاهن اليهودي مكابياس بن ماتياس قتل سنة 161ق.م بعد قيادته للثائرين اليهود ضد السلطات الحاكمة لفلسطين ،حيث طالب هؤلاء الثائرين نوعاّ من الاستقلال لليهود في فلسطين . ويري الصهاينة أنّ المكابيين هم الذين بعثوا الروح العسكرية في الشعب اليهودي .انظر مقارنة الأديان –اليهودية – الدكتور احمد شلبي ، مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – الطبعة الثامنة 1988م ص 87.(1/46)
[99])، وأنّ المؤلفين الحقيقيين لهذا السفر لا يعلم عنهم شيء يقيني، كما لا يعلم شيء عن سلطتهم وعقيدتهم. وقد شارك "سبينوزا" فيما ذهب إليه عدد من العلماء، وأكد هؤلاء العلماء أن كاتب سفر الأخبار قد استقى معلوماته من مصادر قديمة، ومن بعض المأثورات الشفهية، ولكنّه لم ينقل منها مجرد نقل، بل كان يتصرف من تلقاء نفسه بالتغيير والتبديل والتعديل والإضافة كي يخدم وجهة نظر الكهنة والحاخامات(1)[100]).
__________
(1) 100] - راجع تأثر اليهودية بالأديان الوثنية – د. فتحي الزغبي – ص 371-372 .(1/47)
ولقد شكّك علماء كثيرون من اليهود والنصارى في العهد القديم كمصدر موثوق به، ومن هؤلاء "ول.ديورانت" صاحب كتاب (قصة الحضارة) و"أين أسرا" من علماء القرن السادس عشر، "وباروخ سبينوزا"(1)[101]) الذي قال: "الواقع أننا نجهل تماماً مؤلفي كثير من هذه الأسفار أو نجهل الأشخاص الذين كتبوها أو نشك فيهم، ومن ناحية أخرى لا ندري في أية مناسبة وفي أي زمن كتبت هذه الأسفار التي نجهل مؤلفيها الحقيقيين ولا نعلم في أيدي مَنْ وقعت، وممن جاءت المخطوطات الأصلية التي وجد لها عدد من النسخ المتباينة، ولا نعلم أخيراً إن كانت هناك نسخ كثيرة أخرى في مخطوطات من مصدر آخر"(2)[102])، "وسيلفر"، "وموريس بوكاي" الذي قال: "إنّ العهد القديم يتكون من مجموعة من المؤلفات الأدبية، أنتجت على مدى تسعة قرون تقريباً، وهو يشكل مجموعة متنافرة جداً من الفصول عدّل البشر من عناصرها عبر السنين، وقد أضيفت أجزاء لأجزاء أخرى كانت موجودة من قبل، بحيث إن التعرف على مصادر هذه النصوص اليوم عسير جداً في بعض الأحيان"(3)[103]). ودوّن علماء الإسلام المصنفات التي كشفوا فيها عن زيوف معتقدات اليهود، وأثبتوا بالأدلة والبراهين عدم مصداقية كتبهم المقدسة من الناحية التاريخية.
البرهان الرابع:-
__________
(1) 101] - انظر كتابه "البحث اللاهوتي السياسي" أو رسالة في اللاهوت والسياسة ، ويعتبر اليهودي سبيوزا من أشهر نقاد العهد القديم .
(2) 102] - رسالة في اللاهوت والسياسة – ص 255 .
(3) 103] - دراسة الكتب المقدسة – مصدر سابق- ص 284 .(1/48)
إنّ العهد القديم مليء بالروايات والأحداث المناقضة تماماً للعلوم والمعارف الحديثة مما يكشف وبوضوح تام أنه ليس كتاباً مقدساً، بل كتاب بشري، امتدت إليه يد التحريف والتزوير، وكثرت فيه الأساطير والأحلام الكاذبة، ولقد لاحظ ذلك جماعة من العلماء الغربيين، يقول الكاتب الفرنسي"موريس بوكاي": "وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا"(1)[104])، وأيضاً: "قليل من الموضوعات التي يعالجها العهد القديم تسمح بالمقابلة مع معطيات العلوم الحديثة، ولكن عندما يحدث تعارض بين نص التوراة والعلم فإنه يجيء في مسائل نستطيع أن نصفها بالمهمة"(2)[105])، وأيضاً: "توجد في العهد القديم روايات مختلفة في موضوع واحد، وأخطاء تاريخية، وأمور متناقضة، وأخرى غير معقولة، أو يستحيل أن تتفق مع المعطيات العلمية الثابتة"(3)[106])، ونقل "موريس بوكاي"عن عدد من العلماء النقاد الأوربيين اللاهوتيين أقوالاً تبين مواقفهم تجاه الأخطاء العلمية التي اشتمل عليها العهد القديم(4)[107]).
__________
(1) 104] - المصدر السابق – ص 13 .
(2) 105] -المصدر –نفسه- ص 39 .
(3) 106] -المصدر -نفسه- ص 61 .
(4) 107] -المصدر- نفسه- ص 55-62 .(1/49)
ولقد أكدّ العلماء و الباحثون الإسرائيليون المعاصرون ما ذكره العلماء القدامى ، فلقد أكدت الأبحاث و الأعمال و التنقيبات الأثرية التي قام بها العلماء اليهود في فلسطين المحتلة أنهم لغاية الآن لم يعثروا على الأدلة والشواهد الأثرية التي تثبت صحة روايات وقصص التوراة ، و من هؤلاء العلماء اليهود الباحث "زئيف هيرتسوغ" أستاذ في قسم آثار وحضارة الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب الذي عمل في أعمال الحفريات، وقد أصدر "هيرتسوغ" بحثاً بعنوان: "الحقائق الأثرية تدحض الادعاءات التوراتية حول تاريخ شعب إسرائيل "(1)[108])، ومما جاء في بحثه هذا : إن هناك صعوبة تواجه الإسرائيليين في هضم الحقائق التي دلت عليها المكتشفات الأثرية التي تثبت أن كتاب التوراة بكل حكاياته وأساطيره لكونها تتناقض تناقضاً علمياً مع الحقائق التي اكتشفها علماء الآثار الإسرائيليون، و أنه من المعتقد أن سكان العالم كله ،والإسرائيليون خاصة سيذهلون بسماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار في الحفريات داخل إسرائيل منذ عقدين من الزمان. وسوف تحدث انقلاباً حقيقياً في نظرة هؤلاء إلى التوراة باعتبارها مصدراً تاريخياً موثوقاً به.. وكابن للشعب اليهودي وتلميذ للمدرسة التوراتية أدرك عظم الإحباط الناجم عن الفجوة بين التوقعات للبرهنة عن العهد القديم كمصدر تاريخي و بين الحقائق التي تتكشف على الأرض، و أنّ مدرسة الانتقاد للتوراة التي ازدهرت بدءاً من النصف الثاني
__________
(1) 108] - نشرت ملخص هذا البحث صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية يوم 29/10/1999م .وانظر مقال "الحقائق الأثرية تحض الادعاءات التوراتية للكاتب محمد النيلات ، كتاب الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم : فراس السواح ، وقد نشرت على حلقات في مجلة النشرة ، انظر هذه المجلة – السنة الرابعة عشر ، العددان الحادي و الثاني عشر – أواخر ديسمبر – كانون أول 1999م ص 24-27 ، مجلة الرأي العدد(28) ديسمبر 1999م ص42 -43 .(1/50)
للقرن التاسع عشر قد زعزعت تاريخ حكايات التوراة، وكشفت أن التاريخ الجغرافي التوراتي قد تعرض لزلزال علمي يهدم كثيراً من أسسه، و أنّ علم الآثار في إسرائيل مستعد للاصطدام مع مكتشفات البحث التوراتي والتاريخ القديم كما تبينه الأسطورة التوراتية.
البرهان الخامس:-
إنّ أسفار العهد القديم مملوءة بالاختلافات والأغلاط، والمقصود بالاختلاف: هو ما كان بين سفرين، أو إصحاحين في سفر واحد، أو بين فقرتين في نفس الإصحاح الواحد، أو في نفس الفقرة بين طبعتين أو بين ترجمتين بلسانين وهكذا. والمقصود بالأغلاط: مناقضة ما فيها للواقع أو للعرف أو للتاريخ أو للعقل أو لأقوال المحققين، أو لمعطيات العلم ومكتشفاته أو لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ولقد كشف العلماء والباحثون عن جملة من الاختلافات والأغلاط في أسفار العهد القديم. ولقد ذكر كثيراً منها العلامة "رحمت الله بن خليل الرحمن الهندي" المتوفى 1308هـ–1891م في كتابه الموسوعة إظهار الحق.
المطلب الثاني: إثبات التناقض بين روايات الأسفار اليهودية التي تتحدث عن الهيكل:-
... إنّ روايات الأسفار المقدسة عند اليهود التي تحدثت عن بناء سليمان للهيكل وعدم قيام أبيه داود ببنائه فيها من التناقض والاختلاف الذي يثبت بلا مراء خرافة الهيكل. ومن ذلك:-
التناقض الأول :-
إنّ الربّ منع داود من بناء الهيكل لأنّه سفك دماءً كثيرة وخاض حروباً كثيرة، واختار الرب سليمان للقيام بمهمة البناء لاستقامته.(1/51)
جاء في سفر أخبار الأيام الأول: "وقال داود لسليمان: يا ابني قد كان في قلبي أن أبني بيتاً لاسم الرب إلهي فكان إلي كلام الرب: قد سفكت دماً كثيراً وعملت حروباً عظيمة فلا تبني بيتاً لاسمي لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي. هُوَذا يولد لك ابن يكون صاحب راحة… هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً وأنا له أباً وأثبت كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد" (1)[109]).
وجاء في سفر الملوك الأول: "وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيدونيين، ومَلكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يَتْبع الرب تماماً كداود أبيه… فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءَى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى. فلم يحفظ ما أوصى به الرب، فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها. فإنّي أمزق المملكة عنك تمزيقاً وأعطيها عبدك..."( (2)[110]).
ومن خلال دراسة السفرين نجد التناقض التالي :-
داود عليه السلام حرمه الرب من بناء الهيكل لسفكه الدماء، أي ارتكابه معصية – حجبت عنه شرف بناء بيت الرب، وسليمان عليه السلام ناله هذا الشرف مع أنه عبد آلهة من دون الله تعالى ومات عابداً للأوثان. والشرك أشد من معصية سفك الدماء.
سليمان لم يحفظ وصايا الرب وعهوده وفرائضه، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه كما في سفر الملوك الأول، وأما في سفر أخبار الأيام الأول فقد وعد الله داود أن يولد له صاحب راحة، وهو الذي يبني بيت الرب، بل يكون لله ابناً والله له أباً، أي لاستقامة داود وحسن عبادته للرب.
__________
(1) 109] -الإصحاح :الثاني والعشرون الفقرات7-10
(2) 110] -الإصحاح: الحادي عشر الفقرات 4-11(1/52)
الربّ يثبت كرسي ملك سليمان على إسرائيل إلى الأبد... كما في سفر أخبار الأيام الأول… بينما الرب سيمزق المملكة عنه تمزيقاً ... كما في سفر الملوك الأول.
التناقض الثاني :-
تناقضت أسفارهم المقدسة تناقضاً كبيراً حول سعر بيدر (الأرض) أرونة اليبوسي الذي اشتراه داود لبناء الهيكل عليها. جاء في سفر أخبار الأيام الثاني: "وشرع سليمان في بناء بيت الرب في أورشليم في جبل المُريَّا حيث تراءَى لداود أبيه حيث هيأ داود مكاناً في بيدر أرنان اليبوسي"(1)[111]).
ففي سفر صموئيل الثاني: "فقال الملك لأرونة: لا. بل اشترى منك بثمن ولا أُصْعِد للرب إلهي مُحْرَقات مجانية. فاشترى داود البيدر والبقر بخمسين شاقل من الفضة… "(2)[112]).
وفي سفر أخبار الأيام الأول: "فقال الملك داود لأرنان: لا بل شراء اشتريه بفضة كاملة، لأني لا آخذ مالك للرب فأصعد محرقة مجانية، ودفع داود لأرنان عن المكان ذهباً وزنه ست مائة شاقل" (3)[113]).
التناقض الثالث:-
تناقض الأسفار في أعداد العمال المشاركين في بناء الهيكل:-
ففي سفر الملوك الأول: "وكان لسليمان سبعون ألفاً يحملون أحمالاً وثمانون ألفاً يقطعون من الجبل، ما عدا رؤساء الوكلاء لسليمان الذين على العمل ثلاثة آلاف وثلاث مائة المتسلطين على الشعب العاملين العمل"(4)[114]).
__________
(1) 111] -الإصحاح الثالث ، الفقرة : 1-2.
(2) 112]- الإصحاح الرابع والعشرون:الفقرة24.
(3) 113] -الإصحاح الحادي والعشرون :الفقرة 24.
(4) 114] -الإصحاح الخامس:الفقرات 14-16.(1/53)
بينما جاء في سفر الأيام الثاني: "وأمر سليمان ببناء بيت لاسم الرب، وبيت لملكه، وأحصى سليمان سبعين ألف رجل حمّال وثمانين ألف رجل نحّات في الجبل، ووكلاء عليهم ثلاثة آلاف وست مائة" (1)[115]). وفي نفس الإصحاح قريباً منه: "فجعل منهم سبعين ألف حمال وثمانين ألف قطاع على الجبل، وثلاثة آلاف وست مائة وكلاء لتشغيل الشعب"(2)[116]).
التناقض الرابع:-
تناقضت أسفار الكتاب المقدس في مدة بقاء الهيكل ففي بعض الأسفار أنه بناء اتخذه الرب له مسكناً إلى الأبد، وفي أسفار أخرى توعد الرب بني إسرائيل بهدمه عقاباً لهم لكونهم عصوا أمره ولم يقوموا بوصاياه وعهوده، وقد أنفذ الرب وعيده.
جاء في سفر الملوك الأول: "حينئذ تكلم سليمان: "قال الرب إنه يسكن في الضباب، إني قد بنيت لك سكنى مكاناً لسكناك إلى الأبد …" (3)[117]).
وجاء في نفس السفر: "قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد، وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام…"(4)[118]).
__________
(1) 115] -الإصحاح الثاني : الفقرتان 1، 2
(2) 116] -انظر الفقرة 17.
(3) 117] -انظر الإصحاح الثامن الفقرتان 12،13.
(4) 118] -الإصحاح التاسع ،الفقرة الثالثة.(1/54)
ثمّ جاء التهديد والوعيد في نفس السفر ونفس الإصحاح(1)[119]): "إنّ كنتم تنقلبون أنتم أو أبناؤكم من ورائي ولا تحفظون وصاياي وفرائضي التي جعلتها أمامكم بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتم إياها ، والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأةً في جميع الشعوب، وهذا البيت يكون عبرة. كلّ من يمر عليه يتعجب ويصفر، ويقولون: لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت؟ فيقولون: من أجل أنّهم تركوا الرب إلههم الذي أخرج آباءهم من أرض مصر، وتمسكوا بآلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوها لذلك جلب الربّ عليهم كلّ هذا الشر". ولقد نفّذ الرب وعيده هذا كما جاء في نفس السفر.(2)[120]).
المطلب الثالث: خرافة وأسطورة قصة بناء الهيكل كما جاءت في الأسفار اليهودية:-
إنّ الدارس لنصوص الكتاب المقدس عند اليهود المتعلقة ببناء الهيكل يأخذه العجب والاستنكار، بل يجزم بأنّ قصة البناء حديث خرافة وأسطورة نسجتها الأوهام والتخيلات، ذلك أنّه سيقف أمام بناء عظيم جداً لا يمكن أن يضاهيه بناء عرفته البشرية في تاريخها القديم أو الحديث. فالكتاب المقدس رصد لهذا البناء أموالاً طائلة ورجالاً أعدادهم كبيرة جداً.
__________
(1) 119] - انظر مثله سفر أخبار الأيام الثاني ، الإصحاح السابع ، الفقرات : 17-22 .
(2) 120] - انظر الإصحاح الحادي عشر ،الفقرات :4 –13 .(1/55)
جاء في الكتاب المقدس أن داود عليه السلام هيأ لبناء الهيكل: مائة ألف وزنة(1)[121]) ذهباً ومليون وزنة فضة، ونحاس وحديد بلا وزن لأنه كثير،وهيأ خشباً وحجارة تزيد عليها، وأمر داود رؤساء إسرائيل أن يساعدوا ابنه سليمان في بناء الهيكل، وقد أعطى هؤلاء لخدمة بيت الله خمسة آلاف وزنة، وعشرة آلاف درهم من الذهب، وعشرة آلاف وزنة من الفضة وثمانية عشر ألف وزنة من النحاس، ومائة ألف وزنة من الحديد. ولم يكتف سليمان بذلك بل أرسل إلى حورام ملك صور يطلب منه أن يرسل له خشباً كثيراً من أَرْز وصندل من لبنان لأن البيت الذي سيبنيه عظيم وعجيب، وقد أجابه حورام إلى طلبه، وأرسل سليمان ثلاثين ألفاً يقطعون الخشب من لبنان كل عشرة آلاف يعملون سوياً زمناً واحداً(2)[122]). وأمّا أعداد العمال: فسبعون ألف رجل لحمل الأثقال وثمانون ألفاً يقطعون في الجبل، والمشرفون عليهم ثلاثة آلاف وست مائة أو ستة آلاف وثلاث مائة.
وعلى الرغم من كثرة مواد البناء وأعداد العمال فإنّ هيكل سليمان طوله حسب روايات الكتاب المقدس: ستون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، والرواق الذي أمامه طوله عشرون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع(3)[123]).
__________
(1) 121] -الوزنة : تعني الشيكل ، وكان الشيكل كوحدة وزن يعادل ستة عشر جراماّ تقريبا والشيكل اسم العملة المستعملة لدى اليهود اليوم في فلسطين المحتلة .انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية –مصدر سابق – 4|13.
(2) 122] - انظر : أسفار الملوك الأول ، الإصحاح الخامس ، أخبار الأيام الأول ، الإصحاح الثاني والعشرين ، والإصحاح التاسع والعشرون ، أخبار الأيام الثاني ، الإصحاح الثاني .
(3) 123] - انظر سفر الملوك الأول ، الإصحاح السادس ، سفر أخبار الأيام الثاني ، الإصحاح الثالث .(1/56)
إذاً فإنّ البناء الذي رصد له المال الكثير والرجال بأعداد كبيرة جداً لم يكن كبيراً، ولا يحتاج هذه الأعداد من الرجال والمواد، يقول العلّامة "ويلز" معلقاً على مساحة بناء الهيكل: "إننا لو استخرجنا من الفضة أطوال معبد سليمان لوجدنا أنّ في الإمكان وضعه داخل كنيسة صغيرة من كنائس الضواحي"، ويضيف: لقد كانت قياسات هيكل سليمان عبارة عن قياسات قصر صغير(1)[124]). ولقد وافقه في هذا الرأي الباحث "غوستاف لو بون" وذهب إلى أن قصة بناء الهيكل لا تخلو من المبالغات والكذب. كما ذهب الباحث "أحمد سوسة" -الذي اعتنق الإسلام بعد اليهودية- إلى التشكيك في فكرة الهيكل كما جاءت في الكتاب المقدس عند اليهود، وذهب إلى أنها فكرة دخيلة على اليهودية، وهي فكرة كنعانية وثنية(2)[125]).
ويعلق الباحث "روبنسون" في كتابه (تاريخ إسرائيل ص 250-251) على فقرات العهد القديم التي تنص على أن الهيكل كان مغشى من الداخل بالذهب فيقول: إن هذا الأمر مع أنه غير ممكن تاريخياً، فهو محل تساؤل من وجهة النظر النقدية، مما يجعلنا نستبعد صحته بالنسبة لمعظم أنحاء الهيكل(3)[126]).
المطلب الرابع:- اختلاف نصوص الكتاب المقدس اختلافاً بيناً في تحديد
مكان بيت الله :-
__________
(1) 124] - انظر كتابه : The Outline of History, p. 263 نقلاً عن داود وسليمان في العهد القديم والقرآن الكريم :الدكتور أحمد عيسى الأحمد، مطبعة حكومة الكويت-1410ه – 1990م ، ص113 .
(2) 125] - نقلاً عن : داود وسليمان في العهد القديم والقرآن الكريم – مصدر سابق – ص 113 .
(3) 126] -نقلا عن- المصدر السابق- نفس الصفحة .(1/57)
النص الأول:- يفيد أن مكان بيت الله، بيت سكناه هو على جبل جرزيم قرب نابلس: جاء في سفر التثنية أن الرب اختار مكان سكناه "بل المكان الذي يختاره الربّ إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه، سكناه تطلبون وإلى هناك تأتون، وتقدمون إلى هناك محروقاتكم (1)[127])، وذبائحكم، وعشوركم ورفائع أيديكم، ونذوركم، ونوافلكم، وأبكار بقركم وغنمكم.."(2)[128]).وحدّد الرب الشروط التالية لهذا المكان:- عبر الأردن –وراء طريق غروب الشمس في أرض الكنعانيين الساكنين في العربة –مقابل الجلجال– بجانب بلوطات مورة(3)[129]).
وجاء في التوراة السامرية سفر تثنية الاشتراع، الكتاب الخامس( (4)[130]) : أن موقع الهيكل هو في المكان الذي تتوفر فيه الشروط التالية: جنب الأردن –تبع طريق مغيب الشمس– في أرض الكنعاني –الساكن في البقعة– مقابل الجلجال –جانب مرج البها– مقابل نابلس. وجاء فيها كذلك "وتكون بعد عبوركم الأردن تقيمون الحجارة التي أنا موصيكم اليوم في جبل جرزيم"(5)[131]). إنّ الأماكن المذكورة في سفر التثنية سواء من التوراة التي يؤمن بها اليهود، أو التوراة السامرية هي في منطقة نابلس وليس لها وجود في القدس الشريف، ومن هنا فإن الطائفة السامرية من اليهود لا يؤمنون بقدسية القدس، بل يؤمنون بقدسية جبل جرزيم قرب نابلس.
__________
(1) 127] -المحروقات :هي القرابين من الحيوان والثمار التي يقدمها اليهود في أعيادهم وطقوسهم ثم يقومون بحرقها بعد ذلك أمام المعبد ، ويزعمون أن الرب ينتعش برائحتها.انظر مقارنة الأديان – مصدر سابق- ص205-206.
(2) 128] -انظر-السفر نفسه - الإصحاح الثاني عشر الفقرات 5-12.
(3) 129] -انظر-السفر نفسه- الإصحاح الحادي عشر الفقرات 30-32.
(4) 130] _ انظر ص : 298.
(5) 131] - التوراة السامرية، ترجمة الكاهن السامري: أبو الحسن إسحاق الصوري، نشرها وعّرف بها الدكتور أحمد حجازي السقا، الناشر دار الأنصار -القاهرة، الطبعة الأولى، 1398هـ-1978م.(1/58)
النص الثاني:- يفيد هذا النص أنّ بيت الله بناه يعقوب عليه السلام في المنطقة التي تعرف بـ "بيت إيل" وهي تقع شمال القدس وجنوب رام الله .
- جاء في سفر التكوين: "فخرج يعقوب من بئر السبع وذهب نحو حاران وصادف مكاناً وبات هناك لأن الشمس كانت قد غابت، وأخذ من حجارة المكان ووضعه تحت رأسه، فاضطجع في ذلك المكان، ورأي حلماً، وإذا سُلَّم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وَهَوَذَا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وَهَوَذا الرب واقف عليها، فقال : "أنا الربّ إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق...فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: حقاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم! وخاف وقال: ما أرهب هذا المكان! ما هذا إلا بيت الله! وهذا باب السماء! وبكّر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عموداً، وصب زيتاً على رأسه، ودعا اسم ذلك المكان "بيت إيل".(1)[132]) ولكن اسم المدينة أولاً كان لُوز، ونذر يعقوب قائلاً: إنْ كان الله معي وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه، وأعطاني خبزاً لآكل،وثياباً لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهاً، وهذا الحجر الذي أقمته عموداً يكون بيت الله…"(2)[133])، وقد وفَّى يعقوب بنذره وأقام بيت الله في نفس ذلك المكان(3)[134]).
إنّ النص واضح في تحديد بيت الله ، فرؤيا الأنبياء حق، ويعقوب عليه السلام عرف مكان بيت الله، فالرب في هذا المكان، وباب السماء في هذا المكان، والملائكة تنزل منه وتصعد إلى السماء، لذا فإن يعقوب وضع حجر الأساس لبيت الله، ونذر عليه السلام بعد أن يعود بسلام إلى بيت أبيه أن يبني بيت الله في نفس هذا المكان.
__________
(1) 132] - بيت إيل : معناه بيت الله ، وبيت الله هو المعبد أو الهيكل .
(2) 133] -انظر سفر التكوين ، الإصحاح الثامن والعشرون ، الفقرات10-22.
(3) 134] - انظر- ا لسفر نفسه - ، الإصحاح الخامس والثلاثون ، الفقرات 1-8 .(1/59)
النص الثالث:- جاء في سفر أخبار الأيام الثاني أن سليمان عليه السلام بنى بيت الرب في أورشليم (القدس) في جبل المُرِيَّا حيث تراءَى لأبيه داود، وأن داود هيأ له مكاناً في بيدر أرنان اليبوسي(1)[135]).
النص الرابع:- إنّ موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل بناء مذبح للرب، فبناه يشوع بن نون في جبل عيبال (يقع في نابلس اليوم)، كما أمر موسى، وكما هو مكتوب في سفر توراة موسى، جاء في سفر يشوع: "حينئذ بنى يشوع مذبحاً للرب إله إسرائيل في جبل عيبال، كما أمر موسى عبد الرب بن إسرائيل، كما هو مكتوب في سفر توراة موسى، مذبح حجارة صحيح لم يرفع أحد عليه حديداً وأصعدوا عليه محروقات للرب، وذبحوا ذبائح سلامة(2)[136])، وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل".(3)[137])
إن المذبح هو إحدى المكونات المقدسة للهيكل، والذي جاء ذكره في سفر يوشع هو المذبح المقدس، لأنه يُبنى بأمر نبي الله موسى أعظم أنبياء بني إسرائيل، ولأنه مكتوب في التوراة، وقد كتبوا على حجارته نسخة التوراة التي كتبها موسى أمام بني إسرائيل. ومكان المذبح جبل عيبال، وجبل عيبال من جبال مدينة نابلس التي تبعد عشرات الكيلومترات عن مدينة القدس.
__________
(1) 135] - انظر الإصحاح الثالث ، الفقرتان 1-2 .
(2) 136] -ذبائح السلامة : هي القرابين من الحيوان التي يقدمها اليهود للرب من باب الشكر على سلامتهم من أعدائهم . ويذبحونها في الأعياد وعلى رؤوس الشهور ، وعند اكتمال أيام النذر التي ينذرونها للرب.حيث يكون ا ليهودي الناذر في هذه الأيام مقدساّ عند الرب .انظر : سفر العدد ، الإصحاح السادس، الفقرات 1-2، الإصحاح العاشر – الفقرة العاشرة .
(3) 137] - سفر يوشع، الإصحاح الثامن: الفقرات 30-32.(1/60)
القول الخامس:-ذهب الحاخام ديفيد كمخي- من كبار شراح التوراة عاش بين 1160-1235م- إلى أنّ المنطقة التي أقيمت فوقها الهياكل السابقة لا تزال خربة تماماً- أي في عصره- ولم تقم عليها أي أبنية ترجع للمسلمين أو النصارى.(1)[138]) وهذا يعني أنّ الهيكل اليهود المنسوب لنبي الله سليمان ليس له علاقة بمنطقة الحرم القدسي.
القول السادس:- ذهب بعض اليهود إلى أن الهيكل قد بني في غرب القدس: يقول عالم الآثار الأمريكي "غوردن فرانز" –وقد عاش سنتين في معهد الأرض المقدسة بالقدس-: "إن بعض اليهود يرون أن الهيكل قد سبق وتم بناؤه على شكل كنيس ضخم في شارع جورج الخامس في غرب القدس، وهؤلاء اليهود الذين يؤمنون بهذه النظرية يستدلون بقول إسحاق بن يعقوب عندما سئل أين بيتي؟ ويفسرون هذا النص بأنه يعني أن الهيكل لم يكن فوق الأرض الإسلامية اليوم، ولكنه في مكان آخر(2)[139]).
ولقد حاولت العثور على سؤال إسحاق الذي ذكره في التوراة ولكنّي لم أجده.
المطلب الخامس: اختلاف حاخامات وعلماء اليهود في تحديد مكان الهيكل فوق جبل مُريّا كما جاء في الكتاب المقدس:-
وجبل المريّا هو جبل الهضبة حيث يوجد المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة.
__________
(1) 138] - الهيكلان اللذان نسيتهما القدس: الدكتور إيرنست.ل. مارتن ص21.
(2) 139] - ذكرت قوله : الصحفية الأمريكية "غريس هالسل" التي زارته في غربي القدس عندما كان مقيماً في معهد الأرض المقدسة ، وكان وقتها يعمل في الحفريات تحت الحرم الشريف ، انظر كتابها : النبوءة والسياسة ص 109 .(1/61)
يقول الكاتب الأمريكي "هول ليدنسي" في كتابه: "آخر أعظم كرة أرضية": "لم يبق سوى حدث واحد ليكتمل المسرح تماماً أمام دور إسرائيل في المشهد العظيم من مأساتها التاريخية، وهو إعادة بناء الهيكل القديم في موقعه القديم ، ولا يوجد سوى مكان واحد يمكن بناء الهيكل عليه استناداً إلى قانون موسى في جبل مُريّا حيث شيد الهيكلان السابقان"(1)[140]).
إنّه على الرغم من اعتقاد كثير من اليهود أن سليمان بنى الهيكل فوق جبل مريا حيث تراءَى الرب تعالى لأبيه داود إلا أن اليهود اليوم لم يستطيعوا تحديد مكان الهيكل، وعلى الرغم من عمليات الحفر والتنقيب التي بدأت من سنة 1968م إلى يومنا هذا فإنّهم ما زالوا مختلفين، لأنّ نصوص الكتاب المقدس لم تحدّد مكان الهيكل بالضبط، ولأنّ علماء الآثار لم يجدوا دليلاً واحداً يسعفهم في ذلك. ولعلماء اليهود وحاخاماتهم أقوال متعددة حول تحديد المكان.
__________
(1) 140] - نقلاً عن النبوءة والسياسة –مصدر سابق - غريس هالسل ص 101 .(1/62)
1) يقول عالم الآثار الأمريكي "غوردن فرانز"(1)[141]): "لا توجد دلائل على أن الهيكل كان هناك أو أنه لم يكن هناك، إن بعض الناس يعتقد أنه كان هناك". ويضيف: "هناك عدة نظريات حول الهيكل: كثيرون يقولون: إنه يقع حيث تقع الصخرة اليوم، ولذلك يقول الصهيونيون يجب إزالة المسجد… إن كبير الحاخامين الاشكناز الحاخام غوردن(2)[142]) يعتقد أن الهيكل كان يقع على الشمال قليلاً من قبة الصخرة. وثمة نظرية ثالثة تقول: إن الهيكل كان يقع على الجانب الشمالي من الساحة، وهم يعتقدون أن قدس الأقداس يقع قرب قبة الروح القدس…"(3)[143]).
وأحب أن أذكر هنا أنّ معظم الباحثين الإسرائيليين من الحاخامين يرون أن الهيكل كان يقوم في المكان الذي يقع فيه مسجد قبة الصخرة اليوم ومن هؤلاء مجموعة اليهود الأرثوذكس من حركة غوش إيمونيم الذين يسكنون مستوطنة كريات أربع المقامة في قلب مدينة الخليل، ومن أبرز قياداتهم الحاخام موشي لافينغر،والحاخام إليعازروالدمان، وقد حاولت مجموعة من هؤلاء اليهود نسف مسجد قبّة الصخرة، وقد نشر "روبرت فريدمان" تفاصيل مخططهم في مجلة "صوت القرية" الصادرة يوم 12 نوفمبر 1985م (4)[144]).
__________
(1) 141] - غوردن فرانز : عالم آثار أمريكي من ينوجرسي ، أمضى عامين في أعمال الحفريات مقيماً في معهد الأرض المقدسة في القدس بفلسطين .
(2) 142] -الحاخام غوردن : هو شلومو غوردن كان في الستينات الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي .
(3) 143] - النبوءة والسياسة : -مصدر سابق- ص 109 ، وقدس الأقداس : هو أقدس الأماكن في الهيكل وكان يضم تابوت العهد كما يزعمون . انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-مصدر سابق-3/165.
(4) 144] - المسجد الأقصى المبارك وهيكل بني إسرائيل ، د. محمود مصالحة – القدس 1418هـ/1997م - ص 130 .(1/63)
2) وهناك دراسة جديدة أعدها اليهودي أستاذ الفيزياء في الجامعة العبرية "أشركوفمان" المهاجر لإسرائيل من اسكتلندا، وقد أعلن بأن دراسته تعتمد على أدلة ثابتة، تفيد هذه الدراسة بأن المعبد -الهيكل- اليهودي لم يكن قائماً في الموقع الحالي لقبة الصخرة إنما إلى الجنوب منه. ولقد نشرت هذه الدراسة في مجلة "الآثار التوراتية" واعترف "آشركوفمان" أن الحكومة الإسرائيلية قد موّلت دراسته(1)[145]). وقد أيّد هذه الدراسة بنسبة50% العالم البيولوجي الأمريكي "جيمس جاننغ" والذي سبق أن أجرى دراسات جيولوجية كبيرة في مصر والأردن وفلسطين.
ولكن هذه الدراسة لم تعجب كثيرين من العلماء اليهود. ويعتبرون أن وراء الدراسة دوافع سياسية: حتى تقول إسرائيل للعالم: إننا لا نريد تدمير المسجد لبناء الهيكل، وإننا سنقيمه إلى جانب قبة الصخرة، ويتمنى كثير من اليهود أن لا ينظر إليهم كمجرمين بل كمعتدلين، وحتى تتجنب الحكومة مخاطر الدخول في حرب مقدسة مع مئات الملايين من المسلمين. ولعل الحكومة الإسرائيلية تريد من وراء ذلك أن تختبر الأجواء السياسية لبناء الهيكل في الموقع الذي تريد ولو على حساب المسجد الأقصى(2)[146]).
3) هناك نسبة كبيرة من اليهود يرون أن مكان الهيكل هو تحت المسجد الأقصى (3)[147])، وأصحاب هذا الرأي يقولون: يجب إزالة المسجد الأقصى وبناء الهيكل لنثبت للعرب والمسلمين وللعالم كلّه أنّ لليهود السيادة الكاملة على أرض إسرائيل والسيادة الكاملة على مدينة أورشليم.
__________
(1) 145] - النبوءة والسياسة - ص 110 .
(2) 146] - المصدر السابق نفسه .
(3) 147] - المسجد الأقصى المبارك وهيكل بني إسرائيل ، د. محمود مصالحة ص 158 .(1/64)
جاء في "دائرة المعارف اليهودية" في شرح كلمة صهيون: "يبغي اليهود أن يجمعوا أمرهم وأن يقدموا إلى القدس، ويتغلبوا على قوة الأعداء، وأن يعيدوا العبادة إلى الهيكل مكان المسجد الأقصى، ويقيموا أملاكهم هناك"(1)[148]).
4) يذهب بعض العلماء والباحثين اليهود إلى أنّ الهيكل يقع في المنطقة الواقعة بين المسجد الأقصى وبين مسجد قبة الصخرة، ومن هؤلاء الباحث اليهودي" لفنوني"، والباحث "برافر"، والحاخام "الرامبام"، والرابي "أشتوري هفرحي" -وجد قبل 600 سنة تقريباً- واعتمد هؤلاء على تفسيراتهم وفهمهم لنصوص من المشناة التي تحدد قياسات الهيكل وهيئته ثم بتطبيقها على أرض الحرم وقياساتها(2)[149]).
5) في شهر سبتمبر سنة 2000م– أصدر المهندس الأثري "طوبيا سغيف" من تل أبيت –وقد كرّس سنوات طويلة من حياته للبحث عن مكان الهيكل– دراسة ينكر فيها الافتراض الذي ذهب إليه كثير من الحاخامين اليهود الإسرائيليين الذي يقضي بوجود الهيكل تحت مسجد قبة الصخرة، ويذهب إلى أن أطلال الهيكل مدفونة في الساحة الواقعة بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى. وكان "طوبيا سغيف" ينشر أفكاره منذ سنوات، ولكن لم يكن يهتم بها الأثريون اليهود، واليوم يصغون إليه(3)[150]).
__________
(1) 148] - نقلاً عن كتاب : قبل أن يهدم المسجد الأقصى -مصدر سابق– ص164 .
(2) 149] - المسجد الأقصى المبارك – مصدر سابق – محمود صالحة - ص 182-189 .
(3) 150] - جريدة القدس العدد 1161 ، 18 جمادى الآخرة 1421هـ،16 سبتمبر 2000م ص 2(1/65)
6) ونودّ أن ننبه هنا: أنه توجد دراسة من الدكتور الأمريكي (مايكل جيرمان)- المتخصص في علم الآثار والأنثروبولوجية- تثبت أنّ الهيكل الأول وكذلك الثاني لم يكونا في أرض الحرم القدسي، وأن مكانهما كما تفترض الأوصاف التوراتية والأدبية كان موجوداً فوق نبع جيحون، شمالي مدينة داود القديمة المعروفة بجبل صهيون، وذلك عند الطرف الجنوبي الشرقي للقدس، وأنّ كافة الأقوال اليهودية حول وجود الهيكل في مكان ما داخل الحرم القدسي إنّما هي أقوال خاطئة.وأنّ المواصفات التوراتية حول جبل صهيون تتوافق مع موقع الهياكل(1)[151])، وجبل صهيون يوجد في الطرف الجنوبي للتلال الجنوبية الشرقية للقدس.(2)[152]) وجاء في الدراسة أيضاً: أنه لا يوجد دليل في الكتاب المقدس تشير إلى أن صخرة- مثل الصخرة الموجودة التي توجد تحت مسجد قبة الصخرة – كانت جزءاً من السمات الجغرافية لهيكل سليمان أو هيرود. بل الكتاب المقدس يثبت أنّ الهيكل بني فوق أرض مندرسة، واستدل الباحث بما جاء في سفر صموئيل(24: 16-24) حول إقامة بيت الرب على البيدر- والبيدر أرض صالحة للزراعة خالية من الصخور الكبيرة الذي اشتراه نبي الله داود عليه السلام(3)[153]).
المطلب السادس: الأسفار المقدسة عند اليهود تفيد أن الرب هو الذي أمر بهدم الهيكل ولم يأمر بإعادة بنائه:-
__________
(1) 151] - جاء في مزامير داود(87: 1-7)." أساسه في الجبال المقدسة- أي الهيكل- الرب أحب أبواب صهيون أكثر من جميع مساكن يعقوب. قد قيل بك أمجاد يا مدينة الله .."
(2) 152] - الهيكلان اللذان نسيتهما القدس: الدكتور إيرنست.ل. مارتن ص 3،26.
(3) 153] - المصدر السابق ص17.(1/66)
إذا سلمنا جدلاً بصحة روايات الكتاب المقدس حول بناء سليمان عليه السلام للهيكل، فيجب أن يسلّم اليهود بأن الله تعالى نفسه الذي أمر ببناء الهيكل هو الذي قرّر هدم الهيكل ونفيه من الأرض عقاباً لسليمان عليه السلام باني الهيكل، لأنّه حسب الكتاب المقدس ترك عبادة الرب وحده لا شريك له، ومال إلى عبادة آلهة أخرى، ولم يقم بحفظ وصايا الله وفرائضه بل مات مشركاً وثنياً فضلاً عن سماحه لنسائه بعبادة الآلهة والأوثان من دون الله تعالى وتقديم القرابين لها.
لقد جاء التهديد والوعيد الإلهي بهدم الهيكل في سفر الملوك الأول الإصحاح التاسع الفقرات 1-8، وفي سفر أخبار الأيام الثاني الإصحاح السابع، الفقرات 19-22، ففي السفر الأول: "وكان لما أكمل سليمان بناء بيت الرب… وقال له الرب… إن كنتم تنقلبون أنتم أو أبناؤكم من ورائي ولا تحفظون وصاياي فرائضي التي جعلتها أمامكم، بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها، فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها، والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب، وهذا البيت يكون عبرة، كل من يمر عليه يتعجب ويصفر، ويقولون لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت فيقولون من أجل أنههم تركوا الرب إلههم… وتمسكوا بآلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوها، لذلك جلب الرب عليهم كل هذا الشر".
وجاء في السفر الثاني حول تهديد الرب بإزالة الهيكل وهدمه: "وهذا البيت الذي قدّسته لاسمي أطرحه من أمامي وأجعله مثلاً وهزأة في جميع الشعوب، وهذا البيت الذي كان مرتفعاً، كل من يمر به يتعجب ويقول: لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت؟.(1/67)
وجاء قرار الرب تعالى بتنفيذ وعيده وتهديده لسليمان عليه السلام لأنه لم يحفظ ما أوصى به الرب ولم يحفظ عهده وفرائضه، بل عمل الشر في عيني الرب، وعبد آلهة أخرى وبنى لها معابد. فاستحق غضب الرب ومقته واستحق تمزيق مملكته تمزيقاً(1)[154]).
وحسب الروايات اليهودية فلقد تم هدم الهيكل وإزالته ومحو آثاره تماماً في القرن السادس قبل الميلاد (عام 586 ق.م) على يد الملك البابلي "نبوخذ نصر".
إذا كان الرب تعالى قد توعد بتدمير الهيكل وأنفذ وعيده بتسليط "نبوخذ نصر" من أجل تدميره لفساد معتقدات بني إسرائيل وشرك أنبيائهم وبعدهم عن التوحيد الخالص لله في الطاعة والعبادة ، وعدم قيامهم، وكذا أنبيائهم بفرائض الله وحفظ وصاياه وعهوده. فإن عدداً من الأسئلة تطرح نفسها وهي تنتظر الإجابة عنها، ومنها:-
1- مَنْ الذي أمر ببناء الهيكل بعد أن دمره الرب عز وجل ؟
2- ما هو المصدر المقدس الذي جاء فيه الأمر الإلهي ببنائه مرة ثانية ؟
3- مَنْ هو الذي بناه وفق أوامر الرب تعالى ؟
4- هل أصبح اليهود من أهل الإخلاص في طاعة الله وعبادته، وهل هم اليوم قائمون بفرائض الرب ووصاياه، ومن المحافظين على عهوده ومواثيقه؟ هل تركوا عبادة الآلهة والأوثان، وهل ابتعدوا عن الخرافات والشعوذات، وسفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ؟
__________
(1) 154] - انظر سفر الملوك الأول : الإصحاح الحادي عشر ، وسفر الملوك الأول ، الإصحاح الرابع عشر : أن القدس تعرضت لهجوم مصري فرعوني جاء في سنة 970 ق.م وهي تحت حكم رحبعام بن سليمان الذي عبد الأصنام كأبيه ، وأخذ الملك المصري خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء .(1/68)
إنّه يمكننا أن نجيب عن السؤال الرابع، ومن خلال الكتاب المقدس نفسه، ومن خلال تاريخهم القديم وواقعهم المعاصر الذي لا يخفى على أي أحد. إنّ الباحث المتتبع للتوراة وبقية أسفارهم المقدسة يجد عشرات النصوص التي تؤكد عبادتهم للأوثان والأصنام، بل يخرج بنتيجة مفادها أن اليهود في تاريخهم عبدوا آلهة كل الشعوب الوثنية المخالطة لهم، والمحيطة بهم، وآلهة الشعوب التي تعاملوا معها، وآلهة الشعوب المسيطرة عليهم، وأنهم لم يعبئوا بتهديدات وتحذيرات الرب تعالى بهلاكهم وتشتيتهم وطردهم من رحمته عز وجل. ولكثرة النصوص الموجودة في الكتاب المقدس حول عبادة اليهود للأوثان والآلهة من دون الله فإني أحيل القارئ إلى مكانها من الكتاب المقدس.
سفر الخروج: الإصحاح العشرون، الثالث والعشرون.
سفر اللاوين: الإصحاح الثامن عشر.
سفر العدد: الإصحاح الخامس والعشرون.
سفر التثنية: الإصحاح السابع، الثالث عشر.
سفر يشوع: الإصحاح الرابع والعشرون.
سفر القضاة: الإصحاح السادس، الإصحاح الثامن.
سفر الملوك الأول: الإصحاح الحادي عشر، الثامن عشر.
سفر الملوك الثاني:الإصحاحات: الأول والثالث والحادي عشر، والسادس عشر والثالث والعشرون.
سفر أرميا:الإصحاحات: السابع،و الحادي عشر و الثاني والثلاثون.
10-سفر حزقيال: الإصحاح العشرون.
... ولقد دوِّنَت الكثير من الدراسات والأبحاث التي تكشف الوثنية والأسطورة في معتقدات اليهود وعبادتهم وطقوسهم الشعائرية. ومن أجودها الدراسة العلمية التي أعدها الباحث فتحي محمد الزعبي بعنوان "تأثر اليهودية بالأديان الوثنية"، وقد نال بها درجة الدكتوراه في العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر سنة 1987م وقامت دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية -مصر- بنشرها عام 1994م.
المطلب السابع: علم الآثار ودعوى وجود الهيكل تحت المسجد الأقصى:-(1/69)
إنّ الأدلة الأثرية من أكبر البراهين الدامغة على بطلان مزاعم اليهود والكاشفة لمفترياتهم، وأكاذيبهم حول وجود الهيكل تحت الحرم القدسي الشريف، وبيان ذلك:-
إنّ اليهود قد احتلوا الشطر الشرقي من القدس عام 1967م، ومنذ ذلك الزمن إلى اليوم وهم يحاولون العثور على أيّ أثر يدل على بقايا الهيكل المزعوم ويثبت مكانه تحت الحرم القدسي الشريف. لقد قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بإجراء حفريات وأنفاق تحت أسوار جبل بيت المقدس، وتحت أسوار المسجد الأقصى من جانبيها الغربي والجنوبي، وامتدت الحفريات إلى الأرضية الداخلية تحت ساحة المسجد، وتحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، واستمرت الحفريات بشق نفق واسع طويل اخترق المسجد من شرقه إلى غربه، وأقام اليهود في النفق كنيس يهودي صغير افتتحه رسمياً رئيس الدولة ورئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1986م.وفي عام 1981م أعلنت الهيئات اليهودية الدينية عن اكتشاف نفق كبير تحت الحرم القدسي. ولقد مرّت عمليات الحفر والتنقيب بعشر مراحل، كل مرحلة جديدة أشد شراسة من سابقتها، وتعد المرحلة العاشرة من مراحل الحفريات أخطر مرحلة لأن هدفها هو: تفريغ الأتربة والصخور من تحت المسجدين الأقصى وقبة الصخرة لترك المسجدين قائمين على فراغ ليكونا –لا قدّر الله تعالى– عرضة للانهيار والسقوط. ولقد افتتحت الحكومة الإسرائيلية تحت جدران المسجد الأقصى الجنوبي نفقين يمران من تحت المسجد الأقصى تزعم إسرائيل أنهما كانا يستخدمان لنقل المياه إلى الهيكل المزعوم، افتتح النفق الأول عام 1996م في عهد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو بينما افتتح النفق الثاني بعيداً عن أعين وسائل الإعلام في عهد رئيس وزراء إسرائيل أيهود باراك، وتنوعت الجهات المشرفة على عمليات الحفر والأنفاق، فمن ذلك: وزارتا الأديان والآثار الإسرائيليتان، والجامعة العبرية ودائرة الآثار اليهودية، وصناديق تمويل خارجية، وجماعات دينية يهودية من(1/70)
داخل الكيان الإسرائيلي ومن خارجه، وقد شارك في هذه الحفريات أكثر من سبعين عالماً أثرياً(1)[155]).
والسؤال: هل وجد علماء الآثار اليهود والأوربيون والأمريكان خلال عمليات الحفر والتنقيب أثراً واحداً يدل على الهيكل المقدس المزعوم؟ وهل وجدوا برهاناً أثرياً يثبت أن المسجدين الأقصى وقبة الصخرة قد أقيما على أنقاض ذلك الهيكل كما تزعم الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية ؟
__________
(1) 155] - راجع هذه الحفريات في المصادر التالية: الحفريات الإسرائيلية حول المسجد الأقصى ومسجد الصخرة المشرفة: روحي الخطيب -عمان -1981م. من ملفات الإرهاب الصهيوني : غازي السعدي ، الطبعة الأولى – دار الجليل – عمان -1985م ، أيام دامية في المسجد الأقصى : د. أحمد العلمي ، دار الجيل ، عمان. قبل أن يهدم المسجد الأقصى: عبد العزيز مصطفى ، التحدي الصهيوني للدعوة الإسلامية في العصر الحديث : يحيى الدجني، غزة –فلسطين –تقرير الاعتداءات التي تعرض لها المسجد الأقصى المبارك منذ احتلاله من إعداد دار الفتوى والبحوث الإسلامية بمؤسسة الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية – أم الفحم – فلسطين .(1/71)
والجواب: منذ عدة سنوات أبدت وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية في الأردن مخاوفها من أن تؤدي الحفريات والتنقيبات الأثرية التي تجري تحت المسجد الأقصى إلى هدم المسجد وتدميره، في عام 1983م عقد الشيخ محمد أبو شقرا مؤتمراً صحفياً تحدث فيه عن نتائج أعمال الحفريات الأثرية تحت المسجد فقال: "إنّ الحفريات الأثرية تحت المسجد لم تسفر إلا على إلقاء الضوء على آثار من العهود الأموية والعباسية والعثمانية، ولم يجد الإسرائيليون أية أدلة تؤكد أن معبداً (الهيكل) أقيم في أي وقت في هذا المكان"(1)[156]).ولليهود أكثر من موقع على شبكة المعلومات الدولية –الإنترنت-عن القدس لم يثبتوا فيها وجود حجر واحد يشهد لإدعاءاتهم عن القدس والمسجد الأقصى.(2)[157])
__________
(1) 156] - النبوءة والسياسة ، ص 108 .
(2) 157] - ذكر ذلك الدكتور سعود بو محفوظ:في محاضرة بعنوان-القدس حاصرها وماضيها- بثتها قناة الشارقة الفضائية يوم6 يناير 2001م.(1/72)
يقول الدكتور مروان أبو خلف- مدير المعهد العالي للآثار الإسلامية بجامعة القدس -:"حقيقة الآثار العربية الإسلامية هي الظاهرة حتى الآن، وبالتالي لا نرى حتى الآن آثارا يهودية؛ لأن الادعاءات بوجود آثار يهودية في القدس غير واضحة وغير معلومة أثريا، والآثار العربية الإسلامية بارزة في أنحاء المدينة".ويضيف : " أولاً:- لم يتم الكشف حتى الآن عن أي بقايا مادية تعود للهيكل، وما قيل ما هو إلا ادعاء، يتخيل الإسرائيليون أن المعبد كان موجوداً في منطقة الحرم، وماديا لم يكشف ولن يكشف عن أي آثار يهودية. وثانياً:- بدخول المسلمين المنطقة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم تشر الدلائل إلى وجود أي بناء في المنطقة، وتشير الدلائل إلى أنها بقيت منطقة معزولة منذ الإمبراطور هدريان الذي هدم المدينة عن بكرة أبيها 137 ميلادية وسمّاها أيليا كابت لولينا. فالادعاءات كلها باطلة والدليل أن العديد من الباحثين في القرن السابع عشر كانوا يتحدثون عن كنيسة كانت قبل المسجد الأقصى لكن في حفريات 1971م فيما يسمى بحارة اليهود حاليا جنوب غرب القدس تم الكشف عن الكنيسة هناك، وكل ما قيل حول هذه الكنيسة كان باطلا ولا دليل أيضا على وجود معبد سليمان وكل الحفريات التي أجريت حول المسجد الأقصى لم تثبت شيئا ولم يوجد أي دليل عليه".(1)[158]) وأذكر هنا طائفة من أقوال وتصريحات الباحثين وعلماء الآثار من اليهود وغيرهم التي تفنِّد وتبطل كل المزاعم الصهيونية حول هيكل سليمان:-
__________
(1) 158] - من مقال له : موقع الإسلام على الطريق(على الإنترنت).(1/73)
1. في شهر آب –أغسطس– 1981م أعلن عن وجود نفق بعمق ستة أمتار يمتد من أسفل الحائط الغربي للحرم القدسي في الموقع المسمى بالمطهرة حتى يصل إلى سبيل "قايتباي" المواجه لمسجد قبة الصخرة. وأثارت وقتها وسائل الإعلام الإسرائيلية ضجة حول هذا النفق في محاولة بائسة للإيهام بأن اكتشاف النفق ينطوي على دليل أثري يخدم مزاعم اليهود في البحث عن هيكل سليمان. ولقد روَّج فريق الحفر التابع لوزارة الأديان الإسرائيلية أنّ حجارة النفق هي من نوع حجارة الهيكل الثاني الذي بناه هيرودس (27 ق.م–4م). ولكن سرعان ما كشف عن زيف الادعاءات الصهيونية،وأن المزاعم اليهودية حول هذا النفق وحجارته ما هي إلا محاولة للتزوير والتزييف الهدف منها مواصلة الحفريات تحت المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة ضمن الخطة اليهودية التي تستهدف هدمهما وإزالة المقدسات الإسلامية في القدس لتبقى يهودية خالصة، خاصة بعد أن عجزت الحفريات تحت المسجدين عن الكشف عن أية آثار للهيكل المزعوم –والتي استمرت أربعة عشرة عاماً-، ولقد اعترف علماء الآثار اليهود أنفسهم بكذب الادعاءات الإسرائيلية. فصرح عالم الآثار الإسرائيلي "مائير بن دوف" أن العثور على النفق لا يعد اكتشافاً، لأنه نفق معروف- منذ سنة 110 سنوات- ويعود اكتشافه إلى الكولونيل البريطاني "تشارلز وارين"، وأفاد التقرير الذي أصدره مهندس إعمار المسجد الأقصى أنّ النفق أثر إسلامي خالص. وقامت الهيئة الإسلامية بإغلاق فتحتي النفق بالقوة صباح 3/9/1981م أثناء الإضراب العام الذي ساد الضفة الغربية في تلك الفترة احتجاجاً على حفريات النفق(1)[159]).
__________
(1) 159] - الموسوعة الفلسطينية : إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية ، دمشق ، الطبعة الأولى سنة 1984م ، 2/221-222 .(1/74)
2. يقول الباحث "كورنفلد": إن كثيراً من البحوث والدراسات الأثرية أثبتت أنه لا وجود لأي أثر لهيكل سليمان أو لأية بنايات يهودية تحت مسجد قبة الصخرة أو حوله، فهذه الأرض طبيعية لا آثار فيها للهيكل. وقد استدل هذا الباحث بما يلي:-
** إنّ قطر الهيكل أكبر من قطر الصخرة، فلو أن الهيكل دمر أو حرق في هذه المنطقة، لتغطت الصخرة المشرفة بآثار الحريق، ولبقيت الآثار تحت الصخرة أو حولها، أو لبقيت حجارة محروقة أو تربة مع رماد في المنطقة، ولمّا لم يجد علماء الآثار شيئاً يدل على ذلك، ثبت يقيناً أنّه لم يحدث حريق في هذه المنطقة. وهذا يدل قطعاً على عدم وجود الهيكل في هذا المكان.
** أثبتت الحفريات التي جرت في هذه المنطقة أنّ لون التربة هو اللون الأصلي لتراب هذه المنطقة، والحجارة التي أخرجت بفعل الحفريات كانت باللون الطبيعي لتلك الحجارة، ولم تكن محروقة.ـ
** إنّ الآثار الفخارية التي اكتشفت في منطقة الحرم القدسي أثبتت أنّ اليبوسيين سكنوا القدس في بداية ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، واكتشفت أيضاً قطعة من سور كان يحيط بمدينة يبوس، ولقد كانت مساحة مدينة يبوس حوالي أربعين دونماً، واتسعت هذه المدينة زمن سليمان عليه السلام حتى وصلت مائة وثلاثين دونماً(1)[160]).
__________
(1) 160] - نقلاً بتصرف عن المسجد الأقصى المبارك وهيكل بني إسرائيل ، ص 170 .(1/75)
3. إنّ الحفريات التي قام بها الباحث اليهودي "بن دافيد" شرق الحرم القدسي لم تثبت وجود آثار تدل على أي وجود لليهود من زمن الهيكل الأول عام 968 ق.م أو من أيام رجوع اليهود إلى القدس بعد السبي البابلي سنة 587 ق.م، ومن الناحية الجنوبية للحرم اكتشفوا بئر ماء محفورة بالصخرة يوجد فيها خمس عشرة أداة فخارية كانت مستعملة في ذلك الوقت وسقطت بالبئر يرجع تاريخها إلى سنة 900 ق.م، ومن الناحية الجنوبية الغربية وجدت آثار مدينة ترجع إلى العصر الأموي(1)[161]). في فبراير سنة 1997م أعلنت أجهزة الإعلام الإسرائيلية عن خبر كشف آثار يهودية بالقرب من المسجد الأقصى ترجع إلى "عصر الحشمونائيم"(2)[162])، لكن بعد أيام أعلنت المصادر العلمية الإسرائيلية نفسها عن خيبة الأمل، لأنّ الآثار المكتشفة كانت تابعة لشعوب سامية أخرى ليست يهودية ومنها الشعب الفلسطيني(3)[163]).
__________
(1) 161] - نقلاً عن المصدر السابق ، ص 171 .
(2) 162] - الحشمانانيم أسرة من الكهنة الملوك حكموا اليهود في فلسطين في بداية 168ق.م –33ق.م .
(3) 163] - انظر مقال : آخر أسطورة إسرائيلية : عادل حمودة ، مجلة البيان – قطاع غزة – العدد 18 ، السنة الثانية ، صفر 1418هـ/يونيه 1997م – ص 13 .(1/76)
4. من علماء الآثار الذين جاءوا إلى القدس واشتغل في أعمال الحفريات تحت المسجد الأقصى مدة عامين الأمريكي "غوردن فرانز" من نيوجرسي: لقد صرّح هذا العالم بأنه لا توجد دلائل على أنّ الهيكل كان هناك أو أنّه لم يكن هناك، ولمّا سئل أين كان موقع الهيكل قبل ألفي (2000) سنة كما تعتقد ؟ فأجاب قائلاً: إنني لا أعرف.لا أحد يعرف؟(1)[164]). وقد أكدت هذا القول: "أيلان ما زار" المسئولة اليهودية عن الحفريات جنوبي المسجد الأقصى حيث قالت: "إنّ هناك تقليداً بأن مكان الهيكل في تلك المنطقة، وأنه لا أحد يعرف المكان الذي كان عليه الهيكل بالتحديد"(2)[165]).
5. إنّ الكاتبة الصحفية الأمريكية "غريس هالسل" زارت القدس عدة مرات، والتقت مع العشرات من اليهود والنصارى الصهاينة في أمريكا والأراضي الفلسطينية المحتلة، وقابلت علماء آثار وباحثين من اليهود والأمريكان المهتمين ببناء الهيكل، تقول هذه الكاتبة: "إنّ علماء الآثار لم يجدوا أيّ أثر يشير إلى أين كان يقع الهيكل الأول أو الثاني"(3)[166]).
__________
(1) 164] - انظر النبوءة والسياسة:غريس هالسل ، ص 109 .
(2) 165] - انظر كتيب:القدس في خطر الذي يشتمل مسابقة عالمية عن القدس والأقصى من إعداد جمعية الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية – أم الفحم – ص 30 .
(3) 166] - النبوءة والسياسة ، ص 100 ، وقد تحدثت في كتابها هذا عن العقيدة الصهيونية المسيحية واليهودية المشتركة تجاه هيكل سليمان ، كما تحدثت عن المؤامرة المشتركة ضد المسجد الأقصى .(1/77)
6. ومن علماء الآثار الذين عملوا في البحث عن مكان الهيكل ولم يجدوا شيئاً العالم الأمريكي "لامبرت دولفن" وهو من العلماء البارزين في "معهد أبحاث ستاندفور" في ولاية كاليفورنيا لقد وضع خبراته ومعداته وأبحاثه لغرض التنقيب الأرضي عن هيكل سليمان،واستخدم في التنقيب أجهزة رادارية للبحث والتصوير الأرضي تحت المسجدين الأقصى وقبة الصخرة(1)[167]) . ولم تثبت أبحاثه وأعماله وجود أي أثر تاريخي يدل على مكان الهيكل.
7. لقد قام الباحثان: الدكتور إبراهيم الفني، وطاهر النمري بتصنيف كتاب بعنوان (المسجد الأقصى والصخرة المشرّفة) (2)[168]) تتبعا فيه أعمال الحفريات وأعمال البحث الأثرية التي قام بها علماء وأثريون أوربيون ويهود من أجل البحث عن بقايا الهيكلين الأول والثاني، وبقايا عهد كل من داود وسليمان- عليهما السلام- أثبت هذان الكاتبان كذب المزاعم الأثرية اليهودية حول تاريخهم القديم في فلسطين، وأثبتا بالدليل والبرهان العلمي عدم وجود دليل أثري واحد يثبت وجود هيكل لليهود في منطقة الحرم القدسي.
__________
(1) 167] - البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ، د. يوسف الحسن ص 141 .
(2) 168] - نشر وتوزيع –دار الشروق- عمان، الأردن- الطبعة الأولى 2001م.(1/78)
يقول الباحثان: "وبعد فحص جميع المعطيات التي ذكرها علماء الهندسة وعلماء العمارة والمساحة الأثريون، نستطيع أن نقول بوضوح تام أنّ هذه الآبار، وتلك الأنفاق ،والبرك الموجودة داخل منطقة المسجد الأقصى، وفي طبقاته الأرضية إنّما تعود إلى العصور اليونانية والرومانية والإسلامية ".(1)[169]) ويضيفان: "الباحثون الذين عملوا في منطقة المسجد الأقصى، قدّموا رسومات ومقاطع متعددة لتلك المواقع التي فحصوها. هذه المعلومات كانت البنية التحتية لعلماء الآثار الإسرائيليين الذين سارعوا لفحص هذه الرسومات والمقاطع لعلهم يجدون ما يخصّ الهيكل أو أيّ بناء يعود لفترة العصر الحديدي. لهذا قام هؤلاء العلماء بإجراء حفريات موسّعة في الطبقات الأرضية لمنطقة المسجد الأقصى، غطّت الساحة الداخلية والمنطقة الجنوبية والزاوية الجنوبية الغربية التي تقع خارج ساحة المسجد الأقصى..إنّ المنشورات التي أصدرها هؤلاء لم تقدّم أدلة جديدة، أو اكتشافاً لبقايا أثريّة تعود لفترات تاريخية يبحثون عنها "(2)[170]).
وأنقل هنا بعضاً ممّا جاء في كتابهما ممّا له صلة بموضوع بحثنا:
** إنّ المعلومات الكثيرة التي نشرها كل من العالمين الغربيين كوندير وشيك حول أعمالهم وحفرياتهم الأثرية نفت الكثير من القصص التي ذكرت في الكتب اليهودية المقدسة ، ومن ذلك:1- ما يتعلق بجبل موريا الذي يزعم اليهود أنّ الهيكل قد بني فوقه.2 - قصة الهيكل الأول الذي بناه سليمان عليه السلام. 3- قصة الهيكل الثاني الذي زعم اليهود بناؤه بعد العودة إلى فلسطين بعد انتهاء الأسر البابلي. وأيضا إنّ الدراسة التي قام بها شيك للمخطوطات المكتوبة باللغتين اليونانية واللاتينية في منطقة المسجد الأقصى لم تتحدث عن أي دور لليهود في أحداث عامي 65م، و137م.(3)[171])
__________
(1) 169] - ص510، من الكتاب المذكور
(2) 170] - ص 251.
(3) 171] - ص 204.(1/79)
** يزعم بعض علماء الآثار اليهود أنّ أحد اثنين من عشرات من آبار المسجد الأقصى -ويسميه اليهود (المكفاة)- وأنّه جزء من مذبح الهيكل المقدس. ولكنّ علماء الآثار الذين عملوا في منطقة المسجد الأقصى لم يجدوا معلومة واحدة تثبت هذا الزعم ، بل الخرائط والرسوم الكثيرة التي قدّمها العلماء : ولسون وكوندير ، وكتشنر، وشيك، تبطل الزعم اليهودي.(1)[172])
** إنّ علماء الآثار اليهود: ألن ما زار، ودان بهاط، وكايل جبسون فحصوا جميع الأقنية والممّرات والآبار الموجود تحت المسجد الأقصى محاولة منهم للعثور على بقايا تعود لفترة الهيكلين الأول والثاني، ولكنّ أعمالهم المتعددة لم تسهم حتى بدليل افتراضي واحد عن وجود تلك الآثار والبقايا.(2)[173])
** إن البحث العلمي الذي انتهجه عدد من العلماء الغربيين لتقييم المخطّطات التي أعدت من قبل الباحثين من اليهود الذين عملوا في منطقة المسجد الأقصى، وكذلك الحفريات التي جرت في القدس من قبل علماء الآثار اليهود أمثال : ألن عازار، ودان بهاط، وأفي جايد، ومائير بن دوف تقدم أدلة تدحض وتنفي وجود صلة بين هذه الآثار وما يسمى بالهيكل الأول أو الثاني، ومازال غيرهم من علماء الآثار الإسرائيليين لم يجدوا الأجوبة المحددة على كثير من الأسئلة التي تطرح نفسها حول الهيكل المزعوم (3)[174]).
** إنّ القطع الأثرية التي عثر عليها في أبار المسجد الأقصى تنفي كثيراً من الأساطير والمزاعم اليهودية حول بقايا الهيكل المقدس المزعوم(4)[175]) .
__________
(1) 172] - ص230.
(2) 173] - ص 253.
(3) 174] - ص 366، 509.
(4) 175] - ص 320،321.(1/80)
** إنّ علماء التلمود وعلماء الآثار اليهود الذين اشتغلوا في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر لم يستطيعوا أن يقنعوا اليهود بأدلة تثبت وجود الهيكل.إذ أنّ كلّ المعلومات الجديدة التي قدّموها بعد ذلك، ما هي إلا فرضيات، وأيضاّ فإنّ علماء اليهود المعاصرين أمثال: أ لن مازار، مائير بن دوف، ودان بهاط لم يقدّموا سوى مجموعة الادعاءات الفرضية التي لا تمت إلى الواقع بصلة ومما يدلّل على ذلك أنّ هناك قصصاً كثيرة طرحت حول موقع الصخرة منها:- صخرة جبل موريا ، ومنها صخرة المذبح الذي بناه نبي الله داود عليه السلام ، ومنها قصة الهيكل الصغير.(1)[176])
** إنّ الحفريات التي أجراها علماء الآثار اليهود على مدى ثلاثين عاماً لم تقدم أي أثري يثبت الهيكل المزعوم . فهذه الحفريات شملت فحص عدة مواقع في منطقة الحرم القدسي، ومن ذلك :-
1- الآبار في ساحة المسجد الأقصى .2 - خط النفق الذي يمر عبر السور الغربي لمنطقة الأقصى .
3- مواقع قريبة من موقع الصخرة .4- الباب الذهبي . 5- باب السلسلة وباب السلام. 6- موقع المدرسة العمرية. 7- منطقة برج اللقلق .
وأيضاً لم يجدوا شيئاً يدل على وجود قصر سليمان ،وكل الآثار التي وجدوها تدل على وجود حضارات أخرى ليست لها علاقة بالتاريخ اليهودي القديم (2)[177]).
__________
(1) 176] - ص 202،203
(2) 177] - ص203، وانظر ص 272،280.(1/81)
** إنّ الكونت دي فوجيه عام 1864م بفحص بعض الوقائع الأثرية في مبني المصلى المرواني، والزاوية الجنوبية الشرقية، ولم يستطع أن يقدم دليلاً واحداً صحيحاً عن موقع الهيكلين الأول أو الثاني . وفي القرن العشرين قام عالم الآثار الإسرائيلي ألن مازا بإجراء حفريات واسعة في موقع المصلى المرواني ، وموقع الممر المزدوج، والبوابة المزدوجة، وكان لديه أمل أن يجد غرفاً وساحات الهيكل، وقصر سليمان ، ولكنّه لم ينشر شيئاً عن هذه الحفريات ،لأنّه لم يجداً دليلاً واحداً يشير إلى ما أمله(1)[178]) .
** إنّ العلماء الباحثين الغربيين الذين يسلكون المنهج العلمي في البحث والدراسة ينفون وجود أية علاقة بالصخرة المشرّفة لمذبح داود التي تذكره الكتب اليهودية المقدسة ومن هؤلاء العالمان: باجتي، وهولسن.
فباجتي:مثلاً : أ- قام برسم خطة لكل من الكهف والصخرة التي تعلوه واعتمد على المعلومات التي ذكرها وليمز، في هذا المقطع ناقش باجتي كلاً من الصخرة التي بني فوقها الخليفة عبد الملك بن مروان وفوق كهفها الصخرة، ونفى أية علاقة لوجود مذبح أقيم على هذه الصخرة من قبل إبراهيم أو داود كما ذكرت المصادر اليهودية.
ب- يقول إذا كان صحيحاً أن مذبحاً قد أقيم على هذه الصخرة ، فإنّ أساس هذا المذبح يوجب أن يكون مادة بنائية، لا صخراً متضرساً، ولابد أن تترك أثراً على سطح هذه الصخرة.إذاً، كيف تم استعمال هذه الصخرة كمذبح ؟
ج- ذهب بعيداً في تحليله حيث قال: إذا آمنّا بأنّ القرابين التي كانت تقدّم على المذبح يتم نقلها شمال هذا المذبح، إذن أين كان ينقل الدم وبقايا الذبح ؟ هل كانت تنقل باتجاه الكهف ؟ الواقع أنّ هذا الأمر مستحيل قبوله، إذ لم نجد في أرضية الكهف أية بقايا لدم أو لذبح يؤكّد صحة هذا الإدعاء حسب قول باجتي.
__________
(1) 178] - ص 204.(1/82)
د-عارض بشدة تلك الادعاءات التي ذكرها كل من كوندير، وورين عام 1884م،وولسون عام 1910م حول تحديد موقع (قدس الأقداس) الذي زعم اليهود أن موقعه يرتبط بالصخرة المشرّفة (1)[179]).
وأمّا عالم الآثار هولسن فقام ببحث يتعلق بالفرضيات اليهودية حول تحديد موقع قدس الأقداس، وفي عام 1934م نفى بشدة تلك الادعاءات، وقدّم أدلة تقول: إنّ سطح قبة الصخرة الذي أقيم عليه بناء قبة الصخرة لازال شاهداً ليومنا هذا ولمدة أربعة عشر قرناً أنّه لم يمس بأي متغيرات.
8. نشرت مجلة "جيروساليم ريبورت" في الفترة الأخيرة تصريحات لعالم الآثار اليهودي "إسرائيل فلنكشتاين" من جامعة تل أبيب منها : إن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية وأثرية تدل على وجود الهيكل أو أنّ الهيكل كان موجوداً بالفعل ، وشكّك "إسرائيل فلنكشتاين" بفكرة وجود الهيكل ، وعدّها مجرد خرافة ليس لها وجود أصلاً ، وأنّ كتبة التوراة في القرن الثالث أضافوا قصصاً لم تحدث (2)[180]) .
__________
(1) 179] - ص 659.
(2) 180] - جريدة القدس الصادرة في فلسطين ، العدد 1219 ، الاثنين 13/11/2000م ، ص 6 .(1/83)
9. وممّا يؤكّد أقوال فلنكشتاين ما نشرته صحيفة "هاآرتس" اليهودية التي تصدر في فلسطين المحتلة في عددها يوم29/10/1999م من دراسة تاريخية هامة، لمجموعة من علماء الآثار الإسرائيليين تبطل حكايات وأحداث الكتاب المقدس، وأشارت هذه الدراسة إلى أنّ المكتشفات الأثرية في العقدين الأخيرين تثبت أنّ حكايات وقصص التوراة تتناقض علمياً مع الحقائق التي اكتشفها علماء الآثار الإسرائيليون، وعلى رأس المشتركين في هذه الدراسة العلمية الباحث "زئيف هيرتسوغ" الأستاذ في قسم آثار وحضارة الشرق الأوسط القديم في جامعة تل أبيب الذي فنّد بعض الأباطيل التي وردت في التوراة كالصعوبة التي واجهها الباحثون في الاتفاق بينهم على الفترة الأثرية التي تتوافق مع عهد الأجداد، فبناءً على النص التوراتي أقام سليمان الهيكل المقدس في السنة الأربعمائة والثمانين (480) سنة من الخروج من مصر، وكذلك فترة التعمير العمرية الطويلة للأجداد حتى القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، وهو تاريخ هجرة إبراهيم إلى أرض كنعان، لم تسفر الحفريات الكثيرة التي أجراها علماء الآثار في إسرائيل عن هذا التسلسل التاريخي(1)[181]).
وإذا كانت الحقائق الأثرية التي أثبتها الباحثون والعلماء المتخصصون تناقض مزاعم اليهود في الهيكل، بل تنسفها نسفاً، وتبين بشكل واضح أن الهيكل خرافة وأسطورة، فلماذا يتغافل الحاخامات والأحبار اليهود والقادة السياسيون وجمهور اليهود هذه الحقائق العلمية..؟؟
__________
(1) 181] - انظر الحديث التوراتي والشرق الأدنى القديم : فراس السواح ، نقلاً عن مجلة النشرة العددان الحادي والثاني عشر ، ديسمبر 1999م ، ص 24 وما بعدها . مقال : الحقائق الأثرية تدحض الإدعاءات التوراتية محمد النميلات ، مجلة الرأي ، العدد 28 ، ديسمبر ، ص 42-43 .(1/84)
وللإجابة عن هذا السؤال: نقول: إنّ الكيان الإسرائيلي قائم كله على مجموعة من الأساطير والخرافات التي ألبسها قادته وزعماؤه الدينيون والسياسيون ثوب الدين والتوراة (1)[182])، وإنّ مجموعة من الأساطير التوراتية هي التي شكّلت حجر الزاوية الأساسي في بناء الهوية القومية الإسرائيلية وهي المؤسسة لدولتهم إسرائيل ، التي ما زالت إلى اليوم تحفظ تجمعهم وبقاءهم وتجلب لهم عطف الشعوب النصرانية المضللة في أمريكا والدول الأوربية، واعتراف الكيان الإسرائيلي بالحقائق العلمية التي ذكرها العلماء والباحثون يشكل تهديداً خطيراً لمشروعية الوجود الإسرائيلي في فلسطين(2)[183]).
10. جاء في سفر الملوك من الكتاب المقدس: "والبيت في بنائه بني بحجارة صحيحة مقتلعة ، ولم يسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول ولا أداة من حديد" (3)[184]).
__________
(1) 182] - ينصح في هذا الجانب قراءة كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" للفردالمسلم رجاء جارودي ، وهو مترجم إلى العربية ، طباعة دار الغد العربي – القاهرة – 1996م .
(2) 183] - مجلة الرأي – مصدر سابق – ص 43 .
(3) 184] -الإصحاح السادس، الفقرة السابعة .(1/85)
... يقول الباحث" حسن الباش" معقباً على هذا النص: "ما الذي يعنيه النص، وماذا يفيدنا إذا ما وضعناه في سياق علم الآثار؟ الواقع يقول لنا: إنّ الحجارة كانت موجودة مسبقاً، ولم تأخذها الأيدي من الصخور، ثم هي صحيحة أو منحوتة جاهزة للبناء، إذ لم يستعمل لأجلها أي أداة حديدية. وعلم الآثار يقول بكل بساطة أن مثل هذه الحجارة لا تكون بهذا الشكل إلاّ إذا كانت حجارة بيوت أو معابد مهدمة حديثاً، وهي بهذه الكثافة تدلّ على أنّها كانت مشيّدة في أبنية ضخمة سبق وجودها وجود النبي سليمان وأتباعه والطبقات الصخرية تدلّ بشكل قاطع على أنّ الحجارة التي تزعم التوراة أنّ الهيكل بُني بها ليست حجارة بعيدة العهد عن عصر سليمان ومن المسلمات الأثرية أنّ الأقوام التي تلي أقواماً أخرى رحلت، أو غيّرت مكان سكنها تستخدم حجارة بيوتها في بناء بيوت أخرى".
ويضيف: "والتوراة نفسها تورد أنّ أهل يبوس ظلوا في مساكنهم وعايشهم بنو إسرائيل وتصاهروا معهم، فمن أين جاء العبيد بالحجارة التي بُني بها هيكل سليمان؟ أهل القدس ظلوا في مساكنهم ولم تهدم البيوت. والعبيد لم يقتلعوا حجارة جديدة من الصخور ونحتوها. فهل هناك معجزة إلهية أسقطت مئات الآلاف من الحجارة المنحوتة الجاهزة للبناء؟ أم أن هيكل سليمان بُني من خشب ولم تدخل في بنائه الحجارة؟ أم أن الهيكل قصة تخيلها كتبة التوراة وهي ليست حقيقة واقعة؟..وقد نفترض أن سليمان قد بنى هيكلاً له، ولكن ليس في مدينة القدس حتماً، لأن كافة المعطيات الأثرية والتاريخية تتناقض تماماً مع ما قالته التوراة عن الهيكل".(1/86)
ويضيف مبيناً النتيجة التي يخلص إليها: "إنّ ما أوردناه من نفي لوجود ما يسمى هيكل سليمان يعني أنّ سليمان لم يكن يتعبد بما يسمى هيكلاً، إنما كان له معابد هي أشبه بالمساجد، طالما أنه كان يقيم محاريب(1)[185]). وهذه المحاريب هي أجدر أن تكون أمكنة للتعبد ولا سيما الصلاة"(2)[186]).
__________
(1) 185] - كما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيان …" سورة النبأ : 13 .
(2) 186] - القرآن والتوراة أين يتفقان وأين يفترقان ؟ حسن الباش – دار قتيبة – بيروت – الطبعة الأولى سنة 1420هـ – 2000م ، ص 343-344 .(1/87)
11. إنّ عالمي الآثار اليهوديين "مائير بن دوف" و "هر تسك" لم يجدا أيّ أثر للهيكل بعد حفريات استمرت ثلاثين سنة (1)[187])، وفي 18 يناير سنة 2001م أعلن مائير بن دوف: أنّه لاوجود لأيّ أثر للتاريخ العبري في منطقة الحرم الشريف بالقدس.(2)[188]) وفي يوم 28 /09 /2001م أجرت جريدة القدس الفلسطينية مقابلة مع مائير بن دوف نشرتها تحت عنوان (عالم إسرائيلي: هيكل سليمان أكذوبة)، جاء فيها ما يلي: لقد فجّر عالم الآثار الإسرائيلي مائير بن دوف قنبلة دوّت صداً في المنطقة حيث كشف النقاب عن أنّه لا يوجد آثار لما يسمى بجبل الهيكل تحت المسجد الأقصى، مناصراً بذلك الأصوات السابقة التي كشفت عن ذلك ولا سيما علماء الآثار الإسرائيليين بقسم التاريخ بالجامعة العبرية. وفي هذا اللقاء تحدّث مائير بن دوف قائلاً: في أيّام الّنبي سليمان عليه السلام كان في هذه المنطقة هيكل الملك الروماني هيرودس وقد قام الرومان بهدمه ، أمّا في العهد الإسلامي فلم يكن هناك أثر للهيكل ، وفي العهد الأموي بني المسجد الأقصى المبارك ومسجد قبة الصخرة المشرفة وهو المكان الذي عرج منه النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء،وأشار عالم الآثار الإسرائيلي إلى أنّ منطقة الحرم القدسي الشريف كانت على مستوى مختلف مما هي عليه اليوم ، فقبل ألفي سنة لم تكن تلك المنطقة بنفس المستوى التضاريس فمثلاً هيكل الملك هيرودس الروماني كان بمستوى أعلى من مستوى الصخرة المشرفة هذا اليوم.
__________
(1) 187] - ذكر ذلك الشيخ رائد صلاح رئيس بلدية أم الفحم ، ورئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م في برنامج بلا حدود الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية من قطر يوم الأربعاء 5 شعبان 1421هـ ، الموافق 1/11/2000م .
(2) 188] -انظر صحيفة القدس العدد 11284-20 يناير 2001م –26شوال1421ه- ص1.(1/88)
وتابع يقول: ومن خلال أبحاثنا ودراستنا التي أجريناها نستطيع معرفة المعادلة الحسابية وكيف كانت تلك المنطقة وأكّد أن هيكل هيرودس لم تكن له أيّ علاقة بالصخرة المشرفة حيث كان هذا الهيكل مرتفعاً بخمسة أمتار.واستطرد يقول : جاء المسلمون إلى هذه الديار وبنوا على تلك الصخرة التي وجدت في تلك المنطقة التي ليس لها أي علاقة مع الهيكل،كما أنّ الصليبيين هم الذين أطلقوا على الصخرة المشرفة اسم صخرة الهيكل وأضاف: إذا قمنا بإجراء حفريات أسفل تلك المنطقة فإننا سنجد آبار مياه متشعبة، وقد رأينا قنوات مائية خلال مسيرة الحفريات، والدراسة التي أجريناها خلال الخمسة والعشرين سنة الماضية استنتجنا منها أنّه لا يوجد هيكل هناك ( أي لا توجد بقايا من ذلك الهيكل ) وإذا قمت بالحفر فإنك لن تستطيع إطلاقاً أن تجد أيّة بقايا للهيكل تدل على تلك الفترة مما يؤكد بأنه إذا ما تم الحفر خارج السور من الجهة الشرقية فإنّه من الممكن أن يتم العثور على كتابات أو قطع أثرية لكن في الداخل أو أسفل منطقة الحرم القدسي فلا توجد أيّة بقايا أثرية أو غيرها.
12. إنّ المؤرخ اليهودي" يهودا ريمان" مثلاً أكد أنه لم يتم العثور على أيّ دليل أثريّ يمكن أن يكون أساسا للاعتقاد أنّ المسجد الأقصى قد أقيم على أنقاض جبل الهيكل، بل إنّ "ريمان" يشكك في حقيقة أن يكون هناك أصلاً هيكل في هذا المكان. وأيضاً باحثة الآثار البريطانية كاثلن كلنتون لم تجد شيئا بعد أن عملت أكثر من 5 سنوات في مجال التنقيب الأثري.
وقد كتب بندروف في إحدى الدوريات الأثرية يقول بوضوح:أن المصلى المرواني وجميع الأبنية الموجودة حاليا في الأقصى هي أبنية أموية وليس هناك ما يدلل على أي وجود إسرائيلي .(1/89)
13. أكدّ الدكتور حمد أحمد يوسف (رئيس مؤسسة التراث والبحوث الإسلامية في القدس) أنّ المدارس الأثرية الأجنبية التي عملت - قبل احتلال القدس سنة 1967م- على مدى مائة سنة بالتنقيب عن الآثار اليهودية لم تجد شيئاً من هذه الآثار، وأنّ عالم الآثار اليهودي أبراهام برانيس الذي قضى عدة سنوات في إجراء حفريات حول القدس لم يتوصّل إلى أدلة علمية تثبت وجود آثار يهودية مقدسة في هذا المكان.
14. إنّ حقائق التاريخ تؤكّد بأنّه لا يوجد أيّ موقع ذكر في أي كتاب تاريخ عن الهيكل، لم يثبت التاريخ بأن الهيكل كان مبنياً في مكان الأقصى أبداً، وهذا ثبت عن طريق الحفريات الأثرية التي بدأت منذ عام 1863م وإلى الآن، ولقد أكملت إسرائيل حوالي 55 حفرية، درستها كلّها وكلّ ما نشر عنها، والكتب التي ألفها علماء الصهاينة الذين بدءوا في هذه الحفريات أولهم الكابتن (تشارلز مرين) البريطاني ثم (فنسن)، وبعده جاء العالم الألماني (كونراد تشيك)، وهكذا إلى اليوم. علماء الآثار الذين بدءوا في الحفريات في القرن الماضي كلهم كانوا يكذبون ويقولون: "اكتشفوا أحجار وأسوار تمت إلى الهيكل" بدون أي إثبات. إنما جاء منذ سنة 67 وإلى اليوم حوالي خمسة أو ستة علماء من اليهود وليسوا من العرب، وهم (جدعون أفني) (روني رايخ) (يائير زاكوبتش)، (إسرائيل فنكلشتين)، (طوبية سادوم)، كلهم قالوا أنهم لم يجدوا أي حجر يمت إلى الهيكل بصلة، ولم يكن الهيكل مبنى في هذه المنطقة، بل بالعكس اكتشف (يائير زاكوبتش) آثاراً يبوسية في سلوان التي هي كانت مدينة اليبوسيين من قبل خمسة آلاف سنة وفيها قناة طويلة مائية وقال: "كانت لليبوسيين حضارة عظيمة في هذه المنطقة ويجب أن نحني رؤوسنا إجلالاً لهم".(1)[189])
__________
(1) 189] -انظر قوله: موقع البراق الفلسطيني، تحت عنوان:إلى أي مدى تكمن صحة وجود هيكل سليمان-بحث-.(1/90)
15. إنّ كثيراً من العلماء والباحثين -وبخاصة من اليهود- يؤكدون أنّ منطقة الحرم القدسي ليس من المناطق المقدسة عند اليهود، فوجود الهيكل إذاً داخل الحرم القدسي خرافة وأسطورة. وبيان ذلك:-
أولاً: صرح الحاخام الأكبر السابق للجيش الإسرائيلي "شلومو غورن" بأن بعض أقسام منطقة الحرم القدسي ليست من أقسام جبل الهيكل المقدس عند اليهود، وقال: إنه توصل إلى تلك النتائج بعد القيام بقياسات وشهادات تستند إلى علم الحفريات (1)[190]).
ثانياً: إن الكاهن اليهودي "كوهين" ذهب إلى أن منطقة الأقصى والمسجد الأقصى خارج المنطقة المقدسة التابعة للهيكل واستند إلى القياسات والخرائط التي أعدها المهندسون اليهود لمنطقة الحرم، وبيان ذلك:-
أن منطقة الأقصى صخرية ضيقة، والمساحات التي تحيط بها اليوم هي مساحات اصطناعية، ثم إن الصخرة يزيد ارتفاعها عن الأقصى عن ثمانية (8) أمتار، ومن الشروط التي يجب أن تتوفر في مكان الهيكل أن يكون في أعلى نقطة على جبل مُريا، ومنطقة الأقصى ليست كذلك.
حسب المقاييس التي استعملت حديثاً تبين أن هناك منطقة غير تابعة لمنطقة الحرم القدسي، وهي التي تقع بجانب سور الحرم من ناحية الجنوب، وتمتد إلى مسافة مائة (100) متر للناحيتين الشمالية والجنوبية لسور الحرم، ويضاف إلى هذه المنطقة مسافة تسعين 90متراً إلى الشمال ، حيث تعتبر هذه المنطقة أيضاً غير مقدسة عند اليهود، أي غير تابعة لمنطقة الهيكل.
__________
(1) 190] - انظر نشرة الاعتداءات التي تعرض لها المسجد الأقصى من إعداد دار الفتوى والبحوث الإسلامية التابعة لمؤسسة الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية – الصفحة الإلكترونية ، ص 1 .(1/91)
إنه على امتداد اثنين وثلاثين (32) متر في الناحية الجنوبية الشرقية من سور الحرم تظهر وصلة في السور، وهذا دليل على أن هذه المنطقة من السور ليست أصلية، وإنما بنيت نتيجة أعمال التسوية التي تعرضت لها المنطقة. وهذا دليل على أن منطقة الأقصى خارج المنطقة المقدسة عند اليهود، أي أن الهيكل المقدس المزعوم ليس له وجود في منطقة الأقصى المبارك(1)[191]).
ثالثاً: إذا كان اليهود يزعمون أن حائط البراق –الذي يسمونه حائط المبكى- هو جزء من هيكلهم المزعوم فإن هذا الزعم أبطلته وكشفت زيفه الدراسات العلمية الحديثة، ومن ذلك الدراسة التي ظهرت مؤخراً حول حائط البراق من "مركز القدس لأبحاث إسرائيل" حيث أكد فيها الباحث الدكتور "شموئيل بريجو فيتش" أنّ حائط البراق وقف إسلامي خالص (2)[192]). وفي سنة 1930م أوفدت عصبة الأمم إلى فلسطين لجنة ثلاثية، وبعد تحقيقها المستفيض في أحداث البراق التي وقعت في تلك السنة أصدرت اللجنة الدولية تقريراً يمتاز بالطابع العلمي التاريخي والالتزام بالحيدة التامة والموضوعية، جاء فيه ما يلي: "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي المعروف باسم حائط المبكى.. وللمسلمين وحدهم الحق العيني فيه، لأنّه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف.. وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط حيث يقيم اليهود صلواتهم وتضرعاتهم.."(3)[193]).
__________
(1) 191] - انظر المسجد الأقصى المبارك وهيكل بني إسرائيل – مصدر سابق – ص 161-163 .
(2) 192]- انظر كتيب : القدس في خطر- مصدر سابق –ص6.
(3) 193]- انظر تقرير اللجنة الدولية وما سبقه من أحداث: سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين -مصدر سابق، ص554-557، هامش ص556-557.(1/92)
رابعاً: يقول الباحث "حسن الباش": " ترى التوراة أنّ هيكل سليمان بُني على بقعة سهلية في القدس وعندما نقارن المسافة التي ذكرتها والتي بُني عليها الهيكل مع المساحة الجغرافية الحقيقية في القدس وجدنا كما وجد كافة علماء الآثار أنه لا توجد أية بقعة سهلية في جبال القدس تسع لهذا الهيكل، أي أنّ المساحة المزعومة في التوراة لا تتطابق البتة مع المساحة الجغرافية لطبيعة القدس الجغرافية، وإذا أردنا أن نفصِّل فهذا هو الإصحاح السادس من سفر الملوك أمامنا. وإذا جمعنا عدد الأذرع التي بُني عليها الهيكل وسرادقاته وجدنا أنها تبلغ مساحة أكبر بكثير مما هو موجود في الواقع عدا مرابط الخيول التي بنيت خارج هذا الهيكل(1)[194]).
خامساً: قام علماء الآثار اليهود -بعد حرب 1967م- بإجراء الحفريات تحت أساس الحائط الغربي، وكل ما وجدوه في الحجارة تحت الأساس،آيتين من سفر النبي أشعيا محفورتين بخط يجعل نسبة هذه الحجارة لزمن النبيين داود وسليمان عليهما السلام مستحيلة، ولمّا كان هذه الكشف الأثري لا يخدم المزاعم الصهيونية في الهيكل، بل ربما ينسفها نسفاً قامت الحكومة الإسرائيلية بوضعه في ملف النسيان (2)[195]).
المطلب الثامن: المسجد الأقصى موجود قبل الهيكل المزعوم بأزمان طويلة:-
__________
(1) 194]- القرآن والتوراة أين يتفقان وأين يفترقان – مصدر سابق – ص 342 .
(2) 195]- أبحاث في الفكر اليهودي -مصدر سابق، ص38.(1/93)
المسجد الأقصى بُني قبل نبي الله تعالى سليمان عليه السلام بأزمان بعيدة، فكيف يوجد هيكل سليمان تحته كما يزعم اليهود. يقول الله تعالى: "إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين" سورة آل عمران:96، وجاء في الحديث الصحيح:أنّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أيّ مسجد وُضع في الأرض أوّل؟ قال: "المسجد الحرام" قال: قلت: ثمَّ أيّ؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثمّ أين ما أدركتك الصلاة بعدُ فصلِّه فإنّ الفضل فيه"(1)[196]).
__________
(1) 196] - رواه البخاري رقم 3366 في كتاب الأنبياء، باب رقم (10)، وفي موضع آخر، باب قوله تعالى : "ووهبنا لداود سليمان …" ، ومسلم رقم 520 في المساجد في فاتحته وابن خزيمة في صحيحه رقم 1290 ، 2/268 ، والإمام أحمد في المسند 5/150 ، 156، 157 ، 160، 166 ، والنسائي في سننه 2/32 ، باب ذكر أي مسجد وضع أول ؟ وابن ماجة 1/248.(1/94)
لقد اختلف العلماء في تحديد الباني الأول للمسجد الأقصى، بناءً على اختلافهم في فهم الآية الكريمة والحديث الشريف، فمنهم من يرى أنّ الملائكة التي قامت ببناء المسجدين الحرام والأقصى، ومنهم من يرى أنّ الباني الأول لهما هو آدم عليه السلام، ومنهم من يرى الباني الأول لهما هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، واتفق العلماء على أنّ الباني المجدد للمسجد الأقصى هو نبي الله سليمان عليه السلام. وهناك من العلماء مَن يجمع بين الآية والحديث ويوفق بين الأقوال المختلفة فيقولون: إنّ أول من بنى الكعبة آدم عليه السلام، ثم بنى بعض ولده المسجد الأقصى، ثم بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة بعد الطوفان الذي اجتاح الأرض عقوبة لقوم نوح(1)[197]).
__________
(1) 197] - انظر زاد المسير في علم التفسير : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي ، دار الفكر – بيروت – الطبعة الأولى 1407هـ – 1987م ، 2/6 ، الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1408هـ – 1988م ، فتح الباري شرح صحيح البخاري : ابن حجر العسقلاني ، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية 6/408 – 411 ، مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام : شهاب الدين ابن تميم المقدسي ، تحقيق أحمد الخطيمي ، دار الجيل – بيروت ، الطبعة الأولى 1415هـ ، 1994م ، ص 131-134 . الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل : قاضي القضاة مجير الدين الحنبلي ، مكتبة المحتسب ، عمان – الأردن ، طبعة 1973م ، 1/38 ، تفسير روح المعاني : محمود الألوسي ، دار إحياء التراث العربي – بيروت ، 5/4 .(1/95)
... وسواء أخذنا برأي من ذهب إلى أنّ الباني الأول للمسجد الأقصى بعض ولد آدم أو إبراهيم عليهما السلام، فإن بين ولد آدم، وسليمان عليه السلام آلاف السنين، وبين إبراهيم عليه السلام وسليمان عليه السلام ما يقرب من ألف سنة. فهذا يعني أن المسجد الأقصى وجد في جبل بيت المقدس، قبل أن تكون هناك قبيلة يهودا، أو يكون هناك يهود، وقبل أن يكون التاريخ اليهودي أصلاً، وأيضاً قبل بناء سليمان عليه السلام الهيكل كما يزعم اليهود، وهل من المعقول أو الجائز شرعاً أن يقوم نبي الله سليمان ببناء معبدٍ لله تعالى تحت المسجد القائم.
إذن إنّ وجود المسجد الأقصى قبل الهيكل المزعوم من أقوى الأدلة التاريخية التي تبطل مزاعم اليهود وتكشف عن مدى تهافت أساطيرهم.(1/96)
** إنّه ما من أحد من المؤرخين -بمن فيهم المؤرخ اليهودي الشهير "يوسفوس" -الذين كتبوا تاريخ القدس بأدق التفاصيل ذكر أو ادعى أنّذ-أي عندئذ- المسلمين لمّا دخلوا القدس وجدوا فيها معبداً يهودياً فهدموه، أو أثراً يهودياً واحداً فطمسوه، أو استولوا على كنيس يهودي فحولوه إلى مسجد. وهذا من الأدلة التاريخية القوية التي تثبت أنّ القدس لما دخلها المسلمون بقيادة عمر بن الخطاب لم يكن فيها معابد أو هياكل يهودية.(1)[198]) وأيضاً عند ما اشترط النصارى على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن لا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود، لم يسجل التاريخ أنّ أحداً من اليهود احتج على هذا الشرط بحجة أن اليهود لهم معبد مقدس في القدس لا يمكن أن يتخلوا عنه من الناحية الدينية، ولو كان لهم شئ من ذلك لطلبوا من أمير المؤمنين أن يمكنهم من زيارته أو تأدية طقوسهم الدينية فيه لما حرمهم من ذلك، ومن المعلوم تاريخياً أن عمر بن الخطاب-رصي الله عنه- لما دخل الساحة سأل كعب الأحبار عن مكان الصخرة فدله عليها ،وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد خلف الصخرة، فقال له الخليفة عمر-رضي الله عنه-:ضاهيت اليهودية وجعل المسجد أمامها، و شارك بنفسه بتنظيف الصخرة -صخرة يعقوب- وإزالة ما عليها من قمامة التي طمرتها فترة من التاريخ.(2)[199]) وعليها أقام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان القبة الرائعة، ومن حولها بنى المسجد المشهور بمسجد قبة الصخرة.(3)[200])
__________
(1) 198] - القدس: عبد الحميد الكاتب -دار الشروق -القاهرة وبيروت -الطبعة الأولى 1415هـ-1994م، ص160.
(2) 199] -انظر البداية والنهاية: الحفاظ ابن كثير-مكتبة المعارف-بيروت-الطبعة الرابعة 1402ه-1982م،5/56.
(3) 200] -انظر الأنس الجليل-مصدر سابق- 1/273.(1/97)
... ولا بد من التنويه هنا: إنّ إطلاق المسجد الأقصى على المسجد المعروف الآن هو اصطلاح حادث، فالمسجد الأقصى في المصطلح القرآني هو المكان الموجود الآن بين أسوار الحرم الشريف بالقدس، وقد كان مخصصاً للعبادة، وإنّ جميع المؤرخين والعلماء يطلقون اسم المسجد الأقصى أو مسجد بيت المقدس على ما دار عليه السور، وفيه الأبواب، وفيه اليوم المسجد المعروف بالأقصى ومسجد قبة الصخرة وكثير من الأبنية، وهذا المكان هو الذي كان معروفاً عند الإسراء والمعراج النبوي بالمسجد الأقصى.
المطلب التاسع:ليس من المعقول أن يأمر الله تعالى ببناء معبدين في مكان واحد :-
يقول الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله وهو السميع البصير} سورة الإسراء: الآية الأولى.(1/98)
إنّ الله تعالى هو الذي سمى المعبد الموجود بالقدس بالمسجد الأقصى وقد أسرى بعبده ورسوله محمداً من المسجد الحرام إلى ذلك المسجد الأقصى، والله عز وجل يعلم مكان وجود الهيكل إن كان هناك هيكل لليهود، ومن المستحيل شرعاً وعقلاً أن يأمر نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام بالصلاة مكان الهيكل، والله سبحانه تعالى يعلم علماً أزلياً أنّ المسلمين سيبنون مسجداً في هذا المكان، وليس من الجائز شرعاً وعقلاً أن يسمح لأتباع نبي من أنبيائه بعدم احترام ما بناه النبيّ السابق، وبناء معبد جديد لعبادته عز وجل مكان المعبد الذي بناه النبيّ السابق، فهذا بدوره يؤدي إلى عدم احترام المسلمين للأنبياء السابقين وعدم الإيمان بأعمالهم الجليلة وخاصة المتعلقة بدور العبادة. وأيضاً يقال: إنّ الله تعالى يعلم علماً أزلياً بأن المسلمين سيدخلون بيت المقدس وسيبنون في الحرم مساجدهم. فكيف يأمر الله تعالى نبيّه داود عليه السلام أن يبني الهيكل في هذا المكان الذي سيبني فيه المسلمون مسجداً لعبادته عز وجل(1)[201]).
المطلب العاشر:- إن نبيّ الله تعالى سليمان عليه السلام هو المجدّد لبناء المسجد الأقصى:
__________
(1) 201] - المسجد الأقصى المبارك وهيكل بني إسرائيل -مصدر سابق، ص128-129.(1/99)
إنّ سليمان عليه السلام بنى لله تعالى بيتاً للعبادة هو المسجد الأقصى، ولم يبنِ هيكلاً كما يزعم اليهود. ويدل على ذلك الحديث النبوي الشريف، وهذا محل إجماع علماء المسلمين على مر العصور. يقول الصحابي عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سليمان بن داود عليه السلام سأل الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون الثالثة: فسأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه الله إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله عزّ وجلّ قد أعطاه إيّاه"(1)[202]).
__________
(1) 202] - رواه أحمد في المسند – دار الفكر ، 2/176 ، الحاكم في المستدرك – دار المعرفة – بيروت – وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي ، 1/30-31 ، وقال : حديث صحيح وقد تداوله الأئمة وقد احتجا (أي البخاري ومسلم) بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة ، ووافق الذهبي الحاكم فيما قاله .(1/100)
وأخرج النسائي وابن ماجة وابن خزيمة هذا الحديث مختصراً بلفظ "أنّ سليمان بن داود- صلى الله عليه وسلم- لمّا بنى بيت المقدس سأل الله عزّ وجلّ خِلالاً ثلاثة: سأل الله عز وجل حكماً يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمُّه"(1)[203]).
__________
(1) 203] - رواه النسائي 2/34 ، في المساجد ، باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه ، انظر سنن النسائي : دار الفكر – بيروت – 1398هـ/1978م ، وابن ماجة رقم 1408 ، في إقامة الصلاة ، باب ما جاء في الصلاة في بيت المقدس ، انظر سنن ابن ماجة ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر ، بيروت . وابن خزيمة في صحيحه 2/288 ، رقم 1334 باب فضل الصلاة في مسجد بيت المقدس ، انظر صحيح ابن خزيمة – تحقيق محمد مصطفى الأعظمي – الطبعة الأولى 1399هـ/1979م – المكتب الإسلامي – بيروت – دمشق والحديث صححه الشيخ محمد ناصر الألباني في صحيح سنن النسائي – مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض – ط 1419هـ /1998م ، 1/229 ، صحيح سنن ابن ماجة مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض 1417هـ/1997م ، 1/421 .(1/101)
وقد ذهب أهل العلم من المؤرخين وغيرهم أنّ داود عليه السلام أراد بناء المسجد، بل وشرع في بنائه، لكنه عليه السلام توفي قبل أن يستتم بناؤه فأوصى إلى ولده سليمان بالمهمة، فبناه سليمان عليه السلام، وأتمه وأكمله بناءً عظيماً. وما قام به داود وسليمان عليه السلام هو تجديد بناء للبناء الأول(1)[204]).
... يقول شيخ الإسلام "ابن تيمية": "فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام، لكن سليمان عليه السلام بناه بناءً عظيماً، فكل من المساجد الثلاثة –يقصد المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى– بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والنّاس"(2)[205]).
__________
(1) 204] - انظر تاريخ الطبري – تاريخ الرسل والملوك : محمد بن جرير الطبري ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف – مصر ، الطبعة السادسة 1/485 ، الكامل في التاريخ – عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير ، دار الفكر – بيروت 1/227 ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي – مصدر سابق – 4/89 ، مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام – مصدر سابق – ص 138 ، 143 ، 147 ، 148 ، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل – مصدر سابق – 1/117 ، إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى – أبو عبد الله محمد بن شهاب الدين السيوطي ، تحقيق د. أحمد رمضان أحمد ، الهيئة المصرية للكتاب 1982م ، 1/117 ، البداية والنهاية – الحافظ أبو الفداء ابن كثير ، مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1404هـ ، 1983م ، 2/26 ، 12/325 .
(2) 205] - مجموع الفتاوى – ابن تيميه 7/351 .(1/102)
... وقد أقرّ بهذه الحقيقة التاريخية -بناء سليمان للمسجد الأقصى– علماء النصارى، يقول المؤرخ السرياني النصراني "ابن العبري" (1)[206]): وفي السنة الرابعة من ملكه شرع سليمان عليه السلام في بناء بيت المقدس وهو المعروف بالمسجد الأقصى في جبل الأموريين في أرنان(2)[207]).
__________
(1) 206] - ابن العبري : أبو الفرج ، غريغوريوس بن هارون بن توما الملطي ، مؤرخ سرياني مستعرب من نصارى اليعاقبة ، وصل إلى منصب رئيس رؤساء الكهنة السريانيين في بلاد المشرف ، ولد في ملطية سنة 1243م ، له كثير من المصنفات في علوم مختلفة منها بالعربية "مختصر تاريخ الدول"، توفي في أذربيجان سنة 1286م ، انظر ترجمته : مقدمة كتابه مختصر تاريخ الدول ، الأعلام للزركلي ، طبعة دار العلم للملايين – الطبعة التاسعة 1990م ، 5/117
(2) 207] - تاريخ مختصر الدول : غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري ، أشرف على طبعه ووضع حواشيه الأب أنطون صالحا اليسوعي ، دار المشرق – بيروت – الطبعة الثالثة 1992م ، ص 32 .(1/103)
وإذا كان نبيّ الله تعالى سليمان قد بنى المسجد الأقصى، فإنّ سليمان عليه السلام كان مسلماً ولم يكن يهودياً ولا نصرانياً، إنّه من ذرية أبي الأنبياء إبراهيم الذي قال الله في حقه: "وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" آل عمران:67، وقال: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين" الأنعام: 84، وأخبر الله تعالى عن إسلام نبيه سليمان فقال حاكياً عن كتاب سليمان لملكة سبأ: "وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين" النمل:31، وقال تعالى حاكياً قول سليمان: "قال يا أيّها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين" النمل: 38، ولما أسلمت ملكة سبأ ودخلت في دين سليمان حكى الله تعالى قولها: "قالت ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" النمل:44.(1/104)
ولقد ورد في القرآن ما يدل على أنّ المسجد الأقصى كان قائما في عهد الأنبياء زكريا ويحيى عليهما السلام حيث كانت مريم عليها السلام قد وهبتها أمها لخدمة بيت المقدس، قال تعالى:- (إذ قالت امرأة عمران رب إنّي نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإنّي سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا. قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. هنالك دعا زكريا ربّه قال رّب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء. فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين). آل عمران:35-39 . فالنّذر من امرأة عمران كان لخدمة المعبد المقدس ، ولكن جاء المولود أنثى هي مريم عليها السلام ، وكفّلها زكريا عليه السلام الذي كان قائماً على المسجد حينئذ ، وفي محراب المسجد دعا زكريا عليه السلام ربّه بأن يرزقه الذرية الطيبة ، فجاءته البشرى بيحيى عليه السلام وهو قائم يصلي في المحراب. ثم إنّ زكريا عليه السلام قد نشره اليهود بالمنشار فقتلوه، كما قتلوا ولده يحيى عليه السلام عندما وشوا به إلى الملك الظالم في عصره. وما دام هؤلاء القتلة الذين ما انفكوا يقتلون الأنبياء والصالحين الذين كان المسجد الأقصى مكان صلاتهم وتعبدهم إلى الله تعالى فأيهما أحق به؟ هل اليهود قتلة الأنبياء؟ أم المسلمون أتباع محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ووارث مساجد ومعابد إخوانه الأنبياء عليهم السلام.؟(1)[208])
__________
(1) 208] - انظر: مقال، محمد الحلايقة، وقد سبق ذكره.(1/105)
وممّا يدل على أن المسجد الأقصى كان قائما في عهد عيسى عليه السلام ما ثبت في السنة الصحيحة من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) قال: "إنّ الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ،وإنّه كاد أن يبطئ بها ، فقال له عيسى: إنّ الله أمرك بخمس كلمات:أن تعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب ، فجمع الناس في بيت المقدس ، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشّرف ،فقال: إنّ الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهنّ.. أولهن: أنّ تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً..الخ) الحديث (1)[209]).
ولقد واجه عيسى عليه السلام إفساد كهنة الهيكل(المسجد) من اليهود محذراً إياهم من مغبة جشعهم وظلمهم جاء في إنجيل لوقا: (19/45-47) [ ولمّا دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة،وأنتم جعلتموه مغارة لصوص]. ولمّا استيأس عيسى عليه السلام من استجابتهم لنصائحه، أخبرهم بأن هذه النّعمة سوف تسلب منهم –بهدم المعبد- لأنهم لم يؤدوا واجب شكرها. جاء في إنجيل متى: (24/1،2): [ ثم خرج يسوع، ومضى من الهيكل، فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع: ماذا تنظرون؟ الحق أقول لكم إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض ].(2)[210])
__________
(1) 209] - رواه الترمذي ،رقم2867 في الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة.وقال حديث حسن غريب،وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وصححه.
(2) 210] -انظر: مقال، محمد الحلايقة، سبق ذكره.(1/106)
ثمّ جاء أخيراً إسراء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى وصلاته بالأنبياء إماماً ركعتين في المسجد نفسه، ثمً يأتي معراجه -عليه السلام- منه ليدلّل: أنّ المسجد الأقصى قد دخل في ملكية المسلمين، وأنّ القيادة الروحية عليه هي للمسلمين الموحدين وارثي الرسالات والمقدسات.حيث ظل مكان المسجد خالياً من بناء مقام فيه بقية عهد الرومان النصارى حتى حدث الإسراء بالنبي محمّد صلى الله عليه وسلم في عهد الحاكم الروماني هرقل-610-641م-وحتى الفتح الإسلامي للقدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 636م ، ولم يكن لليهود آنذاك وجود ، بل إنّ صفرونيوس بطريك النصارى اشترط في عقد تسليم المدينة المقدسة أن لا يدخلها أحد من اليهود.
... وهكذا أغلق التاريخ ملف بني إسرائيل - من اليهود والنصارى - فيما يتعلق بحيازة تلك الأرض المباركة ووراثتها وسدنة مسجدها المقدس، لتنتقل الأرض والمسجد بعد ذلك إلى حيازة الأمة الإسلامية، أمّة التوحيد، وارثة الرسالات والنبوات، أمّة محمّد صلى عليه وسلّم.
الخاتمة
الحمد لله تعالى الذي أعانني على إتمام هذا الكتاب، وأرجوه تعالى أن يجعل عملي هذا جهاداً في سبيله، ودفاعاً عن مقدساته، وأن يكون عملاّ خالصاً لوجهه الكريم.
وفي الختام أشير إلى أهم النتائج التي توصلت إليها وهي:-
* إنّ الهيكل عقيدة يهودية توراتية، وهو مسكن الرب عندهم، وأن الرب نفسه أمر ببنائه، وأن الهيكل له قدسية خاصة في الفكر والوجدان اليهودي.
* إنّ اليهود يتطلعون إلى بنائه من جديد، وفي نفس المكان الذي يزعمون أنّه قد بني فيه الهيكل السابق-هيكل سليمان- أي فوق هضبة الحرم القدسي-حيث يوجد المسجدان الإسلاميان: الأقصى وقبة الصخرة.(1/107)
* إنّ معتقدات اليهود في الهيكل هي مجرد مزاعم باطلة، وخرافات وأساطير، نسجتها أيدي الكهان والأحبار، الذين دونوا الكتاب المقدس عند اليهود. وأنّ هذا الكتاب ليس له صلة بالوحي الإلهي، كما ليس له صلة بالأنبياء الذي نسب اليهود الهيكل إليهم، وأنّ الدراسات العلمية والأبحاث التاريخية تكذّب المزاعم اليهودية في هذا الأمر.
* إنّ حكايات وأحداث الكتاب المقدس التي تتعلق بالهيكل مليئة بالتناقض الذي يبين تهافتها، ويكشف كذب المقولات اليهودية في الهيكل
* إنّ اضطراب وتناقض أقوال الحاخامات والعلماء اليهود حول وجود الهيكل، أو تحديد مكانه من الأدلة القوية، التي تثبت أنّ قصة الهيكل مختلقة وملفقة.
* إناّ لو سلمنا بأن الله تعالى هو الذي أمر ببناء الهيكل كما جاء في الكتاب المقدّس، فيلزم اليهود أن يؤمنوا إيماناً جازماً بأن الله تعالى هو الذي توعّد بهدمه عقاباً لهم، لأنهم انحرفوا عن شريعة الله تعالى، وتنكبوا لوصاياه ولم يقوموا بفرائضه.وأنّ الله تعالى لم يأمر أحداً ببنائه بعد هدمه.
* إنّ الحفريات والتنقيبات تحت الحرم التي قام بها اليهود منذ أكثر من ثلاثين سنة لم تثبت شيئاً من مزاعم اليهود في وجود الهيكل.
* إنّ علماء الآثار من اليهود والأوروبيين والأمريكان الذي عملوا شهوراً وسنوات في البحث عن أيّ أثر للهيكل، قد كذبوا مزاعم اليهود في وجود الهيكل تحت الحرم القدسي، بل عدّ بعضهم فكرة الهيكل أسطورة من الأساطير الدينية التي لم تثبت تاريخياً ولا أثرياً، بل هي خرافة على حد تعبير عالم الآثار اليهودي المعاصر "إسرائيل فلنكشتاين".(1/108)
* إنّ نبيّ الله تعالى سليمان عليه السلام لم يبن هيكلاً ليكون بيتاً للرب كما يزعم الكتاب اليهودي المقدّس، ولكنّه بنى مسجداً لعبادة الله تعالى، وهو المسجد الأقصى، وسليمان عليه السلام كان كغيره من الأنبياء حنيفاً مسلماً، ولم يكن يهودياً ولا نصرانياً. ولا يشرفه أن ينتسب إليه اليهود-غير المغضوب عليهم- الذين يقدّسون كتاباً -محرفاّ مدنساً بالكذب والأساطير- يتهمه-هو وأبيه داود- في عقيدته وإيمانه وخلقه.
* إنّ المسجد الأقصى يطلق على كل المساحة التي يدور عليها السور الذي بداخله: المسجدان الأقصى وقبة الصخرة، وغيرهما من الأبنية القائمة اليوم.
---(1/109)