"""""" صفحة رقم 400 """"""
الصلب ، فطلب الخروج فخيف منه فساد القلب ومرضه بمنزلة الدم إذا كان في العروق ، فإذا تصاعد من الصلب طبخه وغيره فابيضّ وصار منياً بإذن اللّه عزّ وجلّ ، وذكر النساء في مجلس معاوية فذمهن قوم فقال : لا تفعلوا ، فما علل المريض ولا ندب الميت ولا عمر البيوت مثلهن ، ولا احتاجت الرجال إلى مثلهن وفي بعض التفسير قال : ( أنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) الكهف : 7 قال : النساء ، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : لا يتم نسك الشاب حتى يتزوّج ، وكان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريب وغيرهما فيقول : إنْ أردتم النكاح أنكحتكم ، فإن العبد إذا زنا نزع نور الإيمان من قلبه ، وقد قال عمر رضي اللّه عنه لأبي الزوائد : ما يمنعك من النكاح إلا عجوز أو فجور ، وحدثنا بعض علماء خراسان عن شيخ له من الصالحين ، كان يصحب عبدان صاحب ابن المبارك ووصف من صلاحه وعلمه قال : فكان يكثر التزويج حتى لم يكن يخلو من اثنتين أو ثلاثة فعوتب في ذلك فقال : هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي اللّه عزّ وجلّ مجلساً ، أو وقف بين يدي اللّه موقفاً في معاملته ، فخطر على قلبه خاطر شهوة ، وأفكر في ذلك فقيل : قد يصيبنا هذا كثير فقال : لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد لما تزوّجت ثم قال ، لكني ما خطر على قلبي خاطر يشغلني عن حالي إلاّ نفذته لأستريح منه ، وأرجع إلى شغلي ثم قال : منذ أربعين سنة ما خطر على قلبي خاطر معصية ، وسمع بعض العلماء بعض الجهال يطعن على الصوفية فقال : يا هذا ما الذي نقصهم عندك فقال : يأكلون كثيراً فقال : وأنت أيضاً ، لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون ثم قال : ماذ ؟ قال : ويتزوّجون كثيراً فقال : وأنت أيضاً ، لو حفظت فرجك كما يحفظون تزوّجت كما يتزوّجون وأي شيء أيضاً قال : ويسمعون القول قال : وأنت أيضاً ، لو نظرت كما ينظرون لسمعت كما يسمعون ، وقد سئل بعض العلماء عن القراء : لِمَ يكثرون الأكل ويكثرون الجماع وتعجبهم الحلاوة فقال : لأنه يطول جوعهم ويتعذر عليهم موجود الطعام ، فإذا وجدوا استكثروا منه ، وأما الحلاوة فإنهم تركوا شرب الخمر وكثرة لذات النفوس فاجتمعت لذتهم في الحلاوة ، فهم يأكلونها ، وأما الجماع فإنهم غضّوا أبصارهم في الظاهر ، فضيقوا على قلوبهم في الخواطر ، فاتسعوا في النكاح فأكثروا منه لما ضيقوا على جوارحهم عن الانتشار في الأبصار ، وقد كان الجنيد رحمه اللّه يقول : أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت ، وكان ابن عمر رضي اللّه عنه من زهاد أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمائهم ، وكان يصوم كثيرًا ، وكان يفطر على الجماع قبل الأكل ، وربما جامع قبل أنْ يصلي بالمغرب ثم يغتسل ويصلّي . وروينا عنه أنه جامع أربعًا من جواريه في رمضان قبل صلاة عشاء الآخر ، وقد كان ابن عباس رضي اللّه عنه يقول : خير هذه الأمة أكثرها نكاحاً ، وكان سفيان بن عيينة(2/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
يقول : كثرة النساء ليست من الدنيا لأن عليًّا رضي اللّه تعالى عنه كان أزهد أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان له أربع نسوة وسبعة عشر سرية ، فالنكاح سنّة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، وقد روينا في أخيار الأنبياء أنّ عابداً تبتل وبلغ من العبادة ما فاق على أهل زمانه ، ووصف بذلك فقال : فذكر ذلك لنبي ذلك الزمان ، فأثنى عليه بحسن الثناء فقال : نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة قال : فنمى ذلك إلى العابد فأهمه فقال : ما ينفعني عبادتي ليلاً ونهاراً وأنا تارك للسنة ، فجاء إلى ذلك النبي فسأله فقال : نعم أنت تارك للتزوّج فقال : ما تركته أنني حرمته ومنعني منه إلاّ أني فقيرلا شيء عندي وأنا عيال على الناس ، يطعمني هذا مرة وهذا مرة ، فكرهت أنْ أتزوّج امرأة أعضلها وأرهقها جهداً ، فقال : ما يمنعك إلاّ هذا قال : نعم قال : فأنا أزوجك ابنتي قال : فزوجه النبي عليه السلام ابنته في قصة طويلة ، وروينا في نوادر أخبارهم أيضاً : أنّ يحيى بن زكريا عليهما السلام تزوّج امرأة ولم يكن يقربها ، قيل : لغض البصر وقيل : للفضل في ذلك ، كأنه أراد أن يجمع الفضائل كلها ، وقيل : للسنّة ، وكان بشر بن الحارث رحمه اللّه يعتقد أحمد بن حنبل رحمه الله ويقول : فضل عليّ بثلاث بطلب الحلال لنفسه ولغيره ، وأنا أطلب الحلال لنفسي واتساعه للنكاح وضيقي عنه وقد جعل إماماً للعامة ، وأنا أطلب الوحدة لنفسي ، ويقال إنّ أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه تزوّج اليوم الثاني من وفاة أم عبد اللّه ولده ، ويقال إنه لم يبت عزباً بعد وفاتها إلاّ ليلة ، ولكن قد كان بشر رحمه اللّه يحتج لنفسه بحجة ، قيل له إنّ الناس يتكلمون فيك فقال : وما عسى أنْ يقولوا قال : يقولون هو تارك للسنّة في ترك النكاح فقال : قل لهم : هو مشغول بالفرض عن السنّة ، وعوتب مرة أخرى في ترك التزوج فقال : ما يمنعني من ذلك إلاّ حرف في كتاب اللّه عزّ وجلّ : ( ولهن مثل الذي عليهن ) البقرة : 228 قال : فذكر ذلك لأحمد بن حنبل فقال : وأين مثل بشر أنه قعد على مثل حد السنان ، وعلى ذلك فقد بلغنا أنه رحمه اللّه رؤي في المنام بعد وفاته ، فسئل عن حاله فقال : رفعت سبعين درجة في عليين ، وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين ، وبلغنا عنه أنه قال : وعاتبني ربي عزّ وجلّ وقال : يا بشر ما كنت أحب أنْ تلقاني عزباً قال : فقلت له ما فعل أبو نصر التمار فقال : رفع فوقي سبعين درجة فقلنا : بماذا ، وقد كنا نراك فوقه فقال : بصبره على بناته والعيال . وقد كان ابن مسعود يقول : لو لم يبقَ من عمري إلا عشرة أيام أموت في آخرها لأحببت أنْ أتزوج ، ولا ألقى اللّه عزّ وجلّ وأنا أعزب ، وماتت امرأة معاذ بن جبل رضي اللّه عنه في الطاعون ، وكان هو أيضاً مطعوناً فقال : زوجوني فإني أكره أنْ ألقى اللّه عزّ وجلّ عزبًا ،(2/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
وقد كان بعض الصحابة ، انقطع إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يخدمه ويبيت عنده لحاجة إنْ طرقته فقال له : ألا تتزوج فقال : يا رسول اللّه ، أنا فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك ، فسكت عنه ثم أعاد عليه ثانية : ألا تتزوج ، فقال له مثل ذلك ، ثم تفكر الصحابي في نفسه فقال : واللّه لرسول اللّه أعلم بما يصلح في دنياي وآخرتي ، وما يقربني إلى اللّه عزّ وجلّ مني لئن قال لي الثالثة لأفعلن فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : ألا تتزوج قال : فقلت : يا رسول الله زوجني قال : اذهب إلى بني فلان فقل لهم إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمركم أنْ تنكحوني فتاتكم قال : فقلت : يا رسول اللّه إنّه لا شيء لي فقال لأصحابه : اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب ، فجمعوا له وذهب إلى القوم فأنكحوه ، فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : أولِمْ فقال : يار سول اللّه لا شيء عندي فقال لأصحابه : اجمعوا لأخيكم ثمن شاة ، فجمعوا له وأصلح طعاماً ، ودعا عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، وفي الخبر المشهور : من كان ذا طول فيلتزوج ، وفي لفظ آخر : من استطاع منكم الباءة يعني الجماع فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لا فليصم ، فإن الصوم له وجاء ، وأصل الوجاء رض الخصيتين للفحل من الغنم لتذهب فحولته وضرابه ، فكانت العرب تجأ بحجرين فتقطع ضرابه ، فيسكن لذلك عهره ويسمن ، ومن ذلك الخبر ضحى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بكبشين أملحين موجوءين يعني أبيضين مرضوضي الخصية . روينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : تناكحوا ، تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط والرضيع ، وفي الخبر الآخر : من أحبني فليستن بسنتي يعني النكاح ، وحديث أبي سعيد الخدري : من ترك النكاح مخافة العيلة فليس منا ، وقد كان عمر يكثر النكاح ويقول : ما أتزوج إلاّ لأجل الولد ، وقد كانت هذه نية جماعة من السلف ، يتزجون لأجل أنْ يولد لهم فيعيش ، فيوحد اللّه تعالى ويذكره أو يموت ، فيكون فرطاً صالحاً يثقل به ميزانه كيف ، وقد روينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : أنّ الطفل يجر أبويه بسرره إلى الجنة وأنّ المولود يقال له : ادخل الجنة قال : فيقف على باب الجنة ، فيظل محبنطئاً أي ممتلئاً غيظاً وغضباً فيقول : لا أدخل إلاّ وأبواي معي فيقال : أدخلوا أبويه معه الجنة ، وقد روينا خبرًا غريباً : أنّ الأطفال يجمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة : اذهبوا بهؤلاء إلى الجنة قال : فيقفون على باب الجنة قال : فيقول لهم : مرحباً بذراري المسليمن ، ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون : فأين آباؤنا وأمهاتنا قال : فتقول الخزنة : إنّ آباءكم وأمهاتكم ليسوا مثلكم ، إنهم كانت لهم ذنوب وسيّئات ، فهم يحاسبون عليها ويطالبون قال : فيتضاغون ويضجون على باب الجنة ضجة واحدة فيقول اللّه عزّ وجلّ للملائكة ، وهو أعلم : ما هذه الضجة ، فيقولون : يا ربّنا ، أطفال المسلمين قالوا لا ندخل الجنة إلاّ مع آبائنا فيقول اللّه عزّ وجلّ : تخللوا الجمع ، فخذوا بأيدي آبائهم فأدخلوهم معهم الجنة ،(2/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : من مات له اثنان من الولد ، فقد احتظر له بحظار من النار ، وفي خبر آخر : من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله اللّه عزّ وجلّ الجنة ، بفضل رحمته إياهم قيل : يا رسول اللّه ، فاثنان قال : واثنان ، وكان بعض الصالحين يعرض عليه التزويج فيأباه برهة من دهره قال : فانتبه من نومه ذات يوم فقال : زوجوني فسئل عن ذلك فقال : لعل اللّه يرزقني ولداً أو يقبضني ، فيكون مقدمة لي في الآخرة ، ثم حدث عن سبب ذلك فقال : رأيت في نومي كأن القيامة قد قامت ، وكنت في جملة الخلائق في الموقف ، وبي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي ، وكذلك الخلائق في شدة العطش من الحر والشمس والكرب قال : فبينما نحن كذلك ، إذا الولدان يتخللن الجمع ، عليهم مناديل من نور وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب وهم يسقون الواحد بعد الواحد ، ويتخللون الجمع ويجاوزون أكثر الناس قال : فمددت يدي إلى أحدهم فقلت : اسقني شربة فقد أجهدني العطش فقال : ليس لك فينا ولد إنما نسقي آباءنا فقلت : وما أنتم فقالوا : نحن من مات ، من أطفال المسلمين . وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : خير نسائكم الودود الولود ، وروي أيضاً : حصيرة في البيت خير من امرأة لا تلد ، وروي أيضاً : سوداء ولود خير من حسناء لا تلد ، هذا كله لأجل هذا ، وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : من رغب عن سنتي فليس مني وإنّ من سنتي النكاح ، ومن أحبني فليستن بسنتي ويقال : إنّ اللّه تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلاّ المتأهلين وهم خمس وثلاثون ، وقد ذكرنا آنفًا أنّ يحيى عليه السلام قد تزوّج ، وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل من السماء ويولد له ، وقد قيل إنّ فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد ، وإنّ ركعتين من متأهل أفضل من سبعين ركعة من أعزب ، وقال اللّه تعالى في وصف الرسل ومدحهم : ( وَلَقدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ) الرعد : 38 ، فعدّ الأزواج والذرية من مدحهم وذكرها في وصفهم ، وكذلك ألحق بهم أولياءه في المدح والفضل في قوله عزّ وجلّ : ( وَالَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان : 74 ، فسألوا اللّه عزّ وجلّ من فضله ، وكل ما ذكرناه من فضل النكاح يشترك في فضل ذلك النساء ، بل هو لهن أفضل وأثوب لسقوط المكاسب عنهن ، وقد أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المرأة بالتزوج وندبها(2/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
إليه ، وأخبر بفضل الرجل وفضل المتزوجة على العزباء في غير حديث ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : لعن اللّه المتبتلين من الرجال الذين يقولون : لا نتزوج ، لعن اللّه المتبتلات من النساء اللاتي يقلن : لا نتزوج بعد ما ذكر من عظيم حق الرجل على المرأة وثقل واجبه حتى قالت المرأة إذاً لا أتزوج إذاً قال : بل تزوجي ، فهو خير ، والأخبار في فضل النكاح للزوجين معًا أكثر ، وليس مذهبنا الإطالة والإكثار في الجمع ، وقد ندب اللّه تعالى إلى النكاح في قوله تعالى : ( فَاْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ ) البقرة : 223 ، وفي أنّى ثلاث ، معان : معنيان منها هنا يكون أنّى بمعنى كيف شئتم من ليل أو نهار ، فكيف شئتم مقبلة أو مدبرة ، وبين ذلك بعد أنْ يكون في موضع الحرث ، وقد يكون أنّى في موضع آخر بمعنى أين ، ولا يصلح هذا الوجه ههنا ثم قال عزّ وجلّ ( وقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ ) البقرة : 223 ، قيل : النكاح معطوف به الإتيان ، وهو أحد الوجوه الثلاثة : لما فيه من فضل الاغتسال من الجنابة ، ولما فيه من فضل مباشرة المرأة وأنّ المرأة إذا لاعبها بعلها وقبلها كثرت له من الحسنات ما شاء اللّه ، فإذا اغتسلا خلق اللّه من كل قطرة ملكًا يسبح اللّه تعالى إلى يوم القيامة ، وجعل ثواب ذلك لهما ، ولما في ذلك من التحصين لهما ووضع النطفة في محلها ، وفي ذلك فضائل جمّة ، وقد أمر به رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكراً ، زوجة مؤمنة تعينه على آخرته . والوجه الثاني في قوله تعالى : ( وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ ) البقرة : 223 ، قيل : الولد قدموا لآخرتكم ، لأنه عمل من أعمالكم ، كما قال عزّ وجلّ : ( أَلحقْنا بِهِمْ ذُريَّتَهُمْ وما أَلتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ ) الطور : 21 ، أي ما نقصناهم أولادهم ، أي جازيناهم بهم وجعلناهم مزيدًا في حسناتهم لأنهم من أعمالهم وأكسابهم ، وكما قال عزّ وجلّ : ( ما أغْنى عنْهُ مَالُهُ وما كسَبَ ) المسد : 2 ، يعني ولده ، ففي تدبره أنّ الولد يغني المؤمن في الآخرة كما يغني المال عنه إذا أنفقه في سبيل اللّه تعالى ، وفي الخبر : ولد الرجل من كسبه فأحل ما أكل من كسب ولده ، والوجه الثالث في قوله عزّ وجلّ : ( وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ ) البقرة : 223 ، قيل التسمية عند الجماع أي اذكروا اسم اللّه تعالى عنده ، فذلك تقدمة لكم ، وأنه يستحب للمجامع أنْ يسمي اللّه عزّ وجلّ عند جماعه ، ويقرأ ( قل : هو اللّه أحد ) الإخلاص : 1 قبله ، وكان بعض أصحاب الحديث إذا أراد الجماع ، هَلّل وكبر حتى يسمع أهل الدار تكبيره ، وإذا كانت المرأة معينة لزوجها على الطاعة ، طالبة للتقلل والقناعة فهي نعمة من اللّه عليه يطالبه بشكرها قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) الأنبياء : 90 فعد ذلك من نعمة اللّه عليه وإحسانه إليه ، وقيل في التفسير : كان خلقها سيّئًا فحسن ، وقيل : كان في لسانها طول فقصر ،(2/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
وروينا عن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : فضلت على آدم عليه السلام بخصلتين : كانت له زوجة عونًا له على المعصية وأزواجي عونًا لي على الطاعة ، وكان شيطانه كافرًا وشيطاني مسلمًا لا يأمرني إلاّ بخير ، فعدّ ذلك ( صلى الله عليه وسلم ) في فضائله ، وإذا كانت المرأة حسنة الوجه خيّرة الأخلاق سوداء الحدقة والشعر ، كبيرة العين بيضاء اللون ، محبة لزوجها قاصرة الطرف فهذه على صورة الحور العين قال اللّه تعالى في ذلك : ( فيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) الرحمن : 7 ، ، قيل : خيرات الأخلاق حسان الوجوه وقال تعالى : ( وَحورٌ عينٌ كأمْثالِ اللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ ) الواقعة : 22 - 23 ، والحور البيض والعين ، كبار الأعين هو جمع عيناء ، والحوراء هي البيضاء شديدة بياض العين ، شديدة سوادها وسواد الشعر وقال عزّ وجلّ : ( عُُرباً ) الواقعة : 157 العربة على معنيين : تكون العاشقة لزوجها ، وتكون المشتهية للجماع ، وذلك يكون من تمام اللّذة في الوقاع ، لأنّ المرأة إذا لم تكن محبة لزوجها ولا مشتهية لإفضائه إليها ، نقص ذلك من لذته فلذلك وصف اللّه عزّ وجلّ نساء أهل الجنة بتمام اللّذة ، ويقال : رجل شبق وامرأة عربة يوصفان بشهوة الجماع كيف وقد روي : خير نسائكم الغلمة على زوجها وقال بعض الحكماء : ثلاث من اللّذات لا يؤبه لهن : المشي في الصيف بلا سراويل ، والتبرز على الشط ، ومجامعة الربوخ يعني المشتهية للجماع وقال عزّ وجلّ في تمام وصفهن : ( قاصِراتُ الطَّرْفِ ) الصافات : 48 ، أي قد قصر طرفها على زوجها وحده ، فليست ترى أحسن منه ولاتريد بدلاً غيره ، وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : خير نسائكم التي إذا نظر إليها الرجل سرّته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسه وماله . وروينا عن محمد بن كعب القرظي رضي اللّه عنه في معنى قوله عزّ وجلّ : ( رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةَ ) البقرة : 102 قال : المرأة الصالحة ، وفي بعض التفسير : ( فلنحيينه حياة طيبة ) النحل 16 قال : المرأة الصالحة وقد كان عمر رضي اللّه عنه يقول : المرأة الصالحة ليست من الدنيا لأنها تفرغك للآخرة ، إلاّ أنه كان يقول : المنفرد يجد من حلاوة العبادة ما لا يجد المتزوّج ، وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه يقول : ما أعطى عبد بعد إيمان باللّه عزّ وجلّ خيرًا من امرأة صالحة ، ووصف النساء فقال : منهن غنم لا يجزأ منه ، يعني غنيمة لا يعتاض منها بعطاء ، الحديا هي العطاء ، ومنهن غل لا يفدي منه أي لا قيمة له فيفدى منه ويجوز أنّ لا راحة منه كالغل ، فصاحبها أسير بحبها لا يفتدى أبدًا إلاّ بموتها وقال أيضًا : قيل : كانت العرب من نهاية تعذيبها للأسير تسلخ جلد الشاة ثم تلبسه إياه لحماً طريًا ، فيلتزق على جسده وينقبض ، ثم لا تنزعه عنه حتى يقمل وينتثر منه الهوام ، فذلك ؛ هو الغل مثل المرأة المكربة ، واعلم أنّ النساء على أوصاف النفس ، من عرف صفات النفس عرف بها أوصاف النساء ، وقاساهن بالتجربة ، والخبر : عرف بذلك صفات النفس : فمنهن المسوّلة وهي(2/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
أدناهن ، ومنهن الأمارة بالسوء وهي شرهن لا تستر من الأذى ولا تني عن خلق السوء والبذاء ، ومنهن بمنزلة النفس اللوّامة وهي من صالحي النساء ، ومنهن المطمئنة المرضية وهذه هي الصالحة الخيّرة الساكنة الراضية ، وفصل الخطاب : إنْ كان صلاح قلب العبد واستقامة حاله في بالعزبة فلا أعدل بالوحدة شيئاً ، لأن أقل ما فيها السلامة ، والسلامة في وقتنا هذا فضيلة وغنيمة ، وإن تاقت نفسه إلى التزويج ولم يأمن دواعي الهوى فيتزوج إذا أدى إلى سلامة دينه ، وإنْ لم تتم كفايته بواحدة ضم إليها أخرى فإن لم تكن بهما غنيمته وتمام حاله وتحصينه زاد ثالثة إلى أربع ، فإن الأربعة مع توقان النفس إلى النكاح وقوة شهوتها في التنقل في المناكح بمنزلة الواحدة ، وإنّ الواحدة مع وقوع الكفاية ووجود الاستغناء تنوب عن الأربع ، كذلك خير اللّه عزّ وجلّ صورة النفس فيما عليه جبلها ، وفاوت بين الطبائع فيما عليه جعلها ، يقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ أباح الجمع بين الأربع لأجل الطبائع الأربع ، لكل طبيعة واحدة على قدر حركاتها وتوقان النفس عندها ، ولا نقص على العبد في ذلك إذا قام بما عليه لهن أو سمحن بحقوقهن من النفقة والمبيت له ، بل ذلك مزيد له . ودلالة على قوته وتمكنه في الحال ، وهذه طرائق الأقوياء والأئمة من الرجال ، وأيضاً فإنّ اللّه عزّ وجلّ ما أنعم به من امتطاء الأربع من النساء من الحكمة ، وتلوين الطبع في الصنعة مثل ما أنعم به من تكوين سيرة المطايا ، التي جعلهن مراكب عباده ، فجعل تفاوت تكوين وطء الأربعة بمنزلة تغاير مشي دواب البر الأربعة فقال عزّ وجلّ : ( وَالخَيْلَ والبغالَ والحميرَ لِتَرْكَبُوها وَزينَةً ) النحل : 8 ، وقال عزّ وجلّ : ( مِنَ الفُلْكِ والأنْعَامِ ما تَرْكَبُونَ ) الزخرف : 12 ، يعني الإبل ، فسير الناقة غير سير الفرس ، وسير البغل مخالف لمشي الحمار ، وكذلك جعل لمن جمع الأربع بالوطء ما لا يجعل بالآحاد والمثنى والثلاث ، فحسن ذلك وأباحه لمن جمع بنيهن أربعًا كإطلاقه لمن جعل له المطايا أربعة ينتقل على دابة بعد دابة ، فكان له فرس وبغل وحمار إذا اتسع بذلك وأقام بمؤونتهن ، وقد يكتفي الواحد بدابة واحدة فيكون فيها بلاغ إلى حين ، ذلك تقدير العزيز العليم وإتقان صنع المنعم الحكيم ، وقد شرط اللّه تعالى مع الزوجة ثلاثة شروط ، إنْ وجدت تمّت بهن كفاية العبد وسكنت بها نفسه ، وكان ذلك من آيات اللّه الدالة عليه ، وإنْ لم توجد الشروط الثلاثة مع الإحدى ، كان له المزيد عليها إلى الرباع ، وكن في المعنى كالآحاد لعدم الشروط التي أخبر اللّه عزّ وجلّ بسكون النفس عندها ، وعند الأربع توجد الشروط في قلوب المؤمنين لا محالة كما أخبر عزّ وجلّ ، وكان ذلك أيضًا من آياته وحكمته الدالة عليه فقال سبحانه : ( وَمنْ آياتِهِ أنّ خلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسًكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكنُوا إليْها وجعلَ بينْكمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )(2/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
الروم : 21 ، فإن وجد العبد سكون النفس ورحمة القلب ومودة المرأة في الواحدة ، فهو من آيات اللّه عزّ وجلّ وهي كفايته وغنيته ، وإنْ لم يجد السكون ولا الرحمة ولا المودة إلاّ في الأربع ، فهن حينئذ كفايته وقنيته ، واللّه تبارك وتعالى يغني بالواحدة ويقني بالأربع ، أي يجعل غنيًا ويجعل قنية جماعة ومدخرًا ، وذلك أيضًا من آيات اللّه تعالى واختياره لمن قوي عليه واستقام به ، وقد شبه بعض الناس الأزواج بالقمص فقال : ليس من السرف أنْ يجمع الرجل أربعة أقمصة ، وما زاد على ذلك كان سرفاً ، كما إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر بالجمع بين الأربع من النساء ، ويصلح أنْ يستدل له بقوله تعالى : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ) البقرة : 187 ، فجعلهن في معنى الملبوس ورفع فيهن إلى الأربع وفي قوله تعالى : ( فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) النساء : 3 ، ثم ابتدأ فنص على مثنى ولم يقل : إحدى على الندب والاستحباب للجمع بين اثنين ، وإنّ العدل قد يوجد ويقدر عليه معهما ، ثم رد إلى الواحدة لمن خاف الجور فيهن فقال تعالى : ( فإنْ خِفْتُمْ أن لا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) النساء : 3 ، ففي دليل الخطاب أشتراط العدل في الأربع ، ثم ذكره بقوله : ( ذَلكِ أدْنى أن لا تَعُولُوا ) النساء : 3 ، يعني أقرب أن لا تجوروا ، وقد قال بعض الفقهاء من أهل الحجاز واللغة : لا تعولوا ، أي لا تكثر عيالكم ، والأول أحب إليّ ، لأنه أشبه بالقرآن كأنه عطف على النص لما قال : أنْ لا تعولوا ، قال : ذلك أدنى أنْ لا تجوروا ، والأول أحب إليّ ، ويصلح هذا الوجه أيضًا في اللغة من قال : عال يعول ، بمعنى أعال يعيل ، وأكثر العرب فرقت بين ذلك يقولون : عال يعول إذا جار ، وأعال يعيل من العيلة إذا كثر عياله ، وشاذ نادر من يجعلها لغتين بمعنى فليتوخّ العدل بين أزواجه ، من جمع بينهن في النفقة والكسوة والمبيت ، ولا يحيف على بعض فيقصر عن كفايتها وواجبها في ذلك . فقد جاء في الحديث : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى ، وفي لفظ آخر ، فلم يعدل بينهما ، جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ولا عدل عليه في المحبة والجماع ، لأن ذلك لا يملك إذاً سوى بين البيتوتة ، ولا عليه أيضاً أنْ يجامع من بات عندها إنما عليه المبيت ليلة وليلة وفي تفسير قوله تعالى : ( وَلَنْ تَسْتطيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساء ولوْ حرَصْتُمْ ) النساء : 129 ، قال : لا تقدروا على العدل بينهن في الحب والجماع ، لأن ذلك فعل الله عزّ وجلّ في القلوب وفي شهوة النفس ، وروينا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقسم بين نسائه في العطاء والمبيت ، وكان يقول : اللّهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك ، يعني في المحبة والجماع ، فقد كان يحب بعضهن أكثر من بعض وكانت عائشة رضي اللّه عنها أحبهن ، وكان يطاف به محمولاً في مرضه في كل يوم وليلة فيقول : أين أنا غدًا ففطنت امرأة منهن فقالت : إنما يسأل عن يوم عائشة رضي اللّه عنها فقلن : يا رسول اللّه إنّه ليشق(2/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
عليك أنْ تحمل ، فقد أذنا لك أنْ تكون في بيت عائشة رضي اللّه عنها فقال : قد رضيتن بذلك قلن : نعم قال : فحولوني إلى بيت عائشة ، فلذلك كانت تقول : قبض في بيتي وبين سحري ونحري تفتخر بذلك ، ثم قال اللّه تعالى عزّ وجلّ : ( فلا تَميلوا كُلَّ المَيْلِ ) النساء : 129 يعني على واحدة دون الأخرى في التقصير والنفقة فتذروها كالمعلقة أي موقوفة غير مستقرة ، كأنها لا ذات زوج ولا مطلقة ، أي لا أيم فتتحمل لنفسها ولا ذات زوج ينفق عليها فتستغني بزوجها . والعرب تقول : علقت الأمر إذا أوقفته ، وقول معلق أي موقوف غير مطلق بحكم ، فعليه أنْ يقسم بينهن أيامه ولياليه ، فيكون عند كل واحدة يوماً وليلة ، إلاّ أنْ تهب لصاحبتها ليلتها أو تسمح له بذلك ، فكذلك كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم بين نسائه ، فأراد أنّ يطلق سودة بنت زمعة لما كبرت فوهبت ليلتها لعائشة ، وسألته أنْ يقرها على الزوجية لتحشر في نسائه ، فتركها ولم يكن يقسم لها ، فكان يقسم لعائشة ليلتين ولسائر أزواجه ليلة ليلة ، إلاّ أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لشدة عدله كانت نفسه إذا تاقت إلى واحدة في غير ليلتها أو نهارًا في غير يومها تاه فجامعها ، ثم طاف في ليلته على سائرهن ، وكذلك كان يفعل في يومه ، فمن ذلك ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها وغيرها ، أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) طاف على نسائه في ليلة واحدة ، وعن أنس ، طاف رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على تسع نسوة في ضحوة ومن لم يكن له إلاّ واحدة استحب له أنْ يفضي إليها في كل ثلاث ليال بمنزلة من له أربع نسوة ، ويكون يباشرها في الليلة الرابعة ، وبهذا قضى عمر وكعب بن الأسود رضي اللّه عنهما للرجل أن يأتيها في كل أربع ليال ليلة ، فإن علم أنّ حاجتها إلى أكثر من ذلك كان عليه أن يفعل ماهو أقرب إلى تحصينها وأثبت لعفافها ، وإنْ علم منها كراهة ذلك وقلة همتها له لم يكن عليه الإفضاء إليها إلاّ في كل شهر مرة أو في كل سنة مرة ، وعليها أنْ لا تمنعه ليلاً ولا نهارًا في كل وقت ، وإن كانت صائمة فلا يحل لها أن تصوم إلاّ بإذنه ، وتزوّج عليّ عليه السلام بعشر نسوة وتوفي عن أربع وسبع عشرة سرية ، وكان بعض أمراء الشام إذا بلغه عنه كثرة نكاحه يقول : ليست بنكحة ولا طلقة يعرض له بذلك ، ويقال أنه تزوّج بعد وفاة فاطمة صلوات اللّه عليها وعلى أبيها بتسع ليال ، ونكح أُمامة ابنة زينب ابنة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، كانت فاطمة صلوات عليها أوصته بذلك ، وتزوّج الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما مائتين وخمسين امرأة وقيل ثلاثمائة ، وقد كان عليّ عليه السلام يضجر من ذلك ويكره حياء من أهليهن إذا طلقهن وكان يقول : إنّ حسناً مطلقاً فلا تنكحوه فقال له رجل من همدان : واللّه يا أمير المؤمنين ، لننكحنه ما شاء فمن أحب أمسك ومن كره فارق ، فسرّ عليّ رضي اللّه عنه بذلك وأنشأ يقول : ولو كنت بواباً على باب جنة . . . لقلت لهمدان ادخلي بسلام(2/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان يشبهه في الخلق والخلق فقد قال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : أشبهت خلقي وخلقي ، وقال حسن : مني وحسين : من عليّ ، وكان الحسن ربما عقد على أربعة وربما طلق أربعاً فأرسل غلامه بطلاق امرأتين لهما وقال : قل لهما : اعتدا ، وأمر له أنْ يدفع إلى كل واحدة عشرة آلاف درهم ففعل ، فلما رجع إليه قال : ماذا قالتا فقال له الرسول : أما احداهما فنكست رأسها وسكتت ، وأما الأخرى فبكت وانتحبت وسمعتها تقول : متاع قليل من حبيب مفارق فأطرق ورحم لها ثم قال : لو كنت مراجعاً امرأة لراجعتها ، ودخل على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فخطب ابنته فقال : إنك لأحب الناس إلي ، ولكنك مطلاق وأكره أنْ يتغير قلبي عليك ، فإن ضمنت أنك لا تفارقها فعلت ، فسكت ثم اتكأ على بعض أصحابه ثم قال : ما أراد عبد الرحمن إلاّ أنْ يجعل ابنته طوقاً في عنقي ، وقد روينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أنّ اللّه عزّوجلّ يحب النكاح ويبغض الطلاق ، فانكحوا ولا تطلقوا ، وهذا لا يصلح لمن أراد أكثر من أربع ، وتزوّ ج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة ، وقد كان في الصحابة من له الثلاث والأربع ، وكثير منهم لا يحصى كانت له اثنتان لا يخلو منهما ، ويقال : إنّ كثرة النكاح من شدة غض البصر وقطع المشي في الأثر ، إذا خشع الطرف وقصر عن الحرام وانقطع المشي على الأرض غاض البصر والنفس فاتسع في الحلال ، وذلك أنّ للنفس استراحات إلى ما جانسها ، هو فتورها عن الذكر ، فاستراحات نفوس المتّقين إلى المباح من ذلك قوله عزّ وجلّ : ( لِيَسْكُنَ إلَيْهاَ ) الأعراف : 189 ، وهذا سكون النفس إلى الجنس لما تلائمه من الصفات المجانسة ، وهو أحد المعاني في قول عليّ عليه السلام : روحوا القلوب يعني ، في الذكر قيل : روحوها باستراحة النفس إلى المباح ، يعني ذكر الآخرة لأن الذكر أثقال وهو بمعنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنّ لكل عالم شرهاً وفترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، والشره المكابدة والفترة الوقوف والاستراحة ، وقد كان أبو الدرداء رضي اللّه عنه يقول : إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فأقوى بذلك فيما بعد على الحق ، وقد كان النساء قديماً على غير وصفهن الآن ، كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته : يا هذا وتقول له ابنته : يا أبانا ، لا تكسب اليوم شيئاً من غير حله فيدخلك النار ، فنكون نحن سببه ، فإنّا نصبر على الجوع والضر ولانكون عقوبة لك ، وأراد رجل من السلف أنْ يغيب عن أهله في غزوة ، فكره إخوانه ذلك لأنسهم به فجاؤوا إلى أهله فقالوا : لِمَ تتركين زوجك يسافر ولا يدع لك نفقة ، ويغيب عنك ولا تدرين متى يقدم فقالت : زوجي منذ عرفته أكال وما عرفته قط رزّاقاً ، يذهب الأكال ويبقى(2/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
الرزّاق ، ومع ذلك فلا أحب أنْ أكون مشؤومة عليه أقطعه عن سبيل الخير . قال أحمد بن عيسى الخراز لما تزوّج بامرأة عليّ : أي شيئ تزوّجت بي ورغبت فيّ قالت : على أنْ أقوم بحقك عليّ وأسقط حقّي عليكّ ، وخطبت رابعة بنت إسماعيل بن أبي الحواري ، فكره ذلك لما فيه من العبادة فألحت عليه وأكثرت فقال لها : يا هذه ، مالي همة في النساء لشغلي بحالي فقالت يا هذا ، إني لأشغل بحالي من شغلك بحالك ، ومالي شهوة في الرجال ، ولكني ورثت عن زوجي ثلاثمائة ألف دينار وهي حلال ، وأردت أنْ أنفقها عليك وعلى إخوانك ، وأعرف بك الصالحين فتكون طريقاً إلى اللّه عزّ وجلّ فقال : حتى أستأذن أستاذي قال : فجئت إلى أبي سليمان فذكرت قولها ، وقد كان ينهاني عن التزويج ويقول : ما تزوج من أصحابنا إلاّ تغير ، فلما ذكرت له ما قالت ، أدخل رأسه في جيبه وسكت ساعة ، ثم رفع رأسه وقال : يا أحمد ، تزوّج بها فإن هذه وليّة للّه تعالى ، وهذا كلام الصديقين قال : فتزوّجت بها قال أحمد : فكان في منزلها كرّ من جص ، فلم يبقَ منه شيء في غسل أيدي المستعجلين للخروج بعد الأكل سوى من كان يغسل يده بالأشنان في البيت قال : وتزوّجت عليها بثلاث نسوة ، فكانت تطعمني من الطيبات وتطيبني وتقول : اذهب بقوتك ونشاطك إلى أزواجك ، فكانت هذه من أرباب القلوب ، وكان الصوفية يسألونها عن الأحوال ، وكان أحمد يرجع إليها في بعض المسائل ، وكانت فاضلة تشبه في أهل الشام برابعة العدوية في أهل البصرة ، وقد كان أبو سليمان يقول في التزويج قولاً عدلاً : من صبر على الشدة فالتزويج له أفضل ، والوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل ، وقال مرة : ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوّج وثبت على مرتبته الأولى ، وروينا عنه أنه قال : ثلاث من طلبهن فقد رغب في الدنيا ، من طلب معاشاً ، أو تزوّج أو كتب الحديث ، ولعمري أنّ المرأة تحتاج إلى فضل مداراة ولطيفة من الحكمة ، وطرف من المواساة وباب من الملاطفة ، واتساع صدر للنفقة وحسن خلق ، ولطف لفظ وهو لا يحسنه إلاّ عالم حليم ، ولا يقوم به إلاّ عارف حكيم ، فمن لم يقم بذلك ولم يهتدِ إليه ، ولم يعتد للنفقة ولم يألف الجماعة ، وكان قد ألف وحدته وأعتاد الانفراد بأكلته ، وكان ضيق القلب بخيل الكف ، سيءّ الخلق غليظ القلب ، فظ اللفظ فالوحدة لهذا أصلح ، والبعد من النساء لقلبه أروح ، فمتى تزوّج من هذا وصفه عذب وعذب ، وآذى وتآذى ، وأثم وآثم به لأن النساء يحتجن إلى فضل حلم يحمل سفههن ، وإلى سعة علم يغمر جهلهن ، وإلى حسن لطف وحكمة يداري أخلاقهن ويتغافل عن زللهن ، فإذا كان الرجل جاهلاً سفيهاً ، أو كان سيءّ الخلق فظاً غليظاً ، اجتمع الجهل فافترق العقل وتقادح الجفاء ، وغلظ القلب والأذى فسد أكثر مما يصلح ، وتنافرا ولم يكن بينهما أبدًا صلح ، وليس هو وصف العقلاء ،(2/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
واستحب للرجل إذا أراد التزويج أنْ يشرح حاله ويبين أخلاقه للمرأة ، حتى تكون على بصيرة من أمره ويقين من حاله ، ويدخل على إختيار منها ، فذلك من الورع وقد فعله بعض السلف ، وقد تزوج رجل على عهد عمر رضي اللّه عنه ، وكان يخضب بالسواد فلما دخل بأمراته نصل خضابه فظهرت شيبته ، فاستعدى أهل المرأة وقالوا : نحن حسبناه شابًا فأوجعه ضربًا وقال : غررت القوم وفرق بينهما . وروينا عن شعيب بن حرب ، لما أراد أنْ يتزوج قال للمرأة : إني سيّء الخلق فقالت : يا هذا ، أسوأ خلق منك من يحوجك إلى سوء الخلق . وروي ضد هذا أنّ رجلاً أراد أنْ يتزوج فقال للمرأة : إنّ لي أخلاقًا أوقفك عليها فإن رضيت بها تزوّجتك فقالت : افعل فقال : أنا رجل ملول حقود ، سيّء الظن غيور ، ضيق الصدر واسع الضرب ، إنْ كثرت عندي مللت ، وإنْ أبعدت قلقت ، وإنْ تكلمت أوغرت صدري ، وإنْ سكت أشغلت قلبي ، فقالت المرأة : أما بعد فقد ذكرت من نفسك أخلاقاً ماكنا نرضاها لبنات إبليس فكيف نرضاها لبنات آدم ، انصرف راشداً لا حاجة لنا بك ، ومن خشي على نفسه الآفات ووفق له امرأة فيها بعض الخصال المحمودة ، فالتزويج له أفضل فليكن له حينئذ في التزويج نيّات ، لأنه من أكبر الأعمال ولا يكون نكاحه لأجل هواه مجرداً فقد قال عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه : إذا وافق الحق الهوى فذلك الزبد بالبرّ سيّان ، فلتكن نيته إقامة سنّة وصلاح قلب ، وسلامة دينه وغض بصره ، وتحصين فرجه فقد أمر بذلك ، ويحتسب في الكسب على العيال التوبة من اللّه عزّ وجلّ ، ويحتسب مثل ذلك في نصحه لها في أمر الآخرة كما يحبه لنفسه ، حتى يؤجر بسببها مثل ما يثاب لنفسه ، فهو من النصيحة لها والإشفاق عليها ، وليجعل ذلك لوجه اللّه سبحانه فقد روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أنفق الرجل على أهله فهو له صدقة ، وإنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إليّ في إمرأته ، ومنها إنه كالمجاهد في سبيل اللّه ، وقال رجل لبعض العلماء وهو يعدد نعم اللّه عزّ وجلّ عليه : من كل عمل قد أعطاني اللّه تعالى نصيباً ، حتى ذكر الحج والجهاد وصنوف العبادات فقال له العالم : فأين أنت من عمل الأبدال قال : وما هو قال : كسب الحلال والنفقة على العيال ، وقال ابن المبارك لإخوانه وهم في الجهاد : تعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه قالوا : ما نعلم ، ذاك جهاد في سبيل اللّه وقتال لأعدائه ، أيّ شيء أفضل منه قال : لكني أعلم قالوا : ما هو قال : رجل متعفف ذو عيلة ، قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه ، فعمله هذا أفضل من جهادنا في سبيل اللّه عزّ وجلّ وقال رجل لبشر : قد أضرّني الفقر والعيال فادعُ اللّه لي فقال له بشر : إذا قال لك عيالك : ليس عندنا خبز ولا دقيق ونحن جياع فادعُ اللّه لي أنت ذلك الوقت ، فإن دعاءك أفضل من دعائي ،(2/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : مَنْ حسنت صلاته وكثر عياله ، وقلّ ماله ولم يغتب المسلمين ، فهو معي في الجنة كهاتين . وفي حديث آخر : أنّ اللّه تعالى يحب الفقير المتعفف ، أبا العيال ومن النية في ذلك أنّ الأهتمام بمصلحتهم ، والغم على نوائبهم زيادة في حسناتهم ، لأنه عمل من أعماله ، وفي الخبر : إذا كثرت ذنوب العبد إاتلاه اللّه تعالى بالهم ليكفرها ، وقال بعض السلف : من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الغم بالعيال ، وقد روينا : أنّ من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش ، وله في الصبر عليهن وجميل الاحتمال لأذاهن ، وفي حسن العشرة لهن مثوبات وأعمال الصالحات ، وربما كان موت العيال عقوبة للعبد ونقصان حظ ، إذا كان الصبر عليم والإنفاق مقاماً له كان عدم ذلك مفارقة لحاله نقص به ، وحدثنا بعض العلماء : أنّ بعض المتعبدين كان له زوجة ، وكان حسن القيام عليها إلى أنْ توفيت ، فعرض عليه إخوانه التزويج فامتنع وقال : إنّ الوحدة أروح لقلبي وأجمع لهمي قال : فرأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها ، كأن أبواب السماء قد فتحت ، وكان رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضًا ، وكلما نزل واحد نظر إلي فقال : لمن وراءه هذا هو المشؤوم فيقول : نعم ويقول الثالث : لمن وراءه هذا هو المشؤوم فيقول الرابع : نعم قال : فراعني ذلك وعظم عليّ ، وهبتهم أن أسألهم إلى أنّ مر بي آخرهم وكان غلامًا فقلت له : يا هذا ، من المشؤوم الذي تومؤون إليه قال : أنت قلت : ولِمَ ذلك ؟ قال : كنا نرفع أعمالك في أعمال المجاهدين في سبيل اللّه تعالى ، فمنذ جمعة أمرنا أنْ نضعها في أعمال المخالفين ، فما أدري ماذا أحدثت فقال لإخوانه : زوّجوني ، زوّجوني فلم يكن يفارقه زوجة أو زوجتان أو ثلاث ، وربما كانت النفس الأمارة أضر على العبد من أربع نسوة ، وإنما كره من كره الأهل والولد لأجل الشغل بهم عن اللّه تعالى وما قرب إليه ، فإذا كان من لا أهل له ولا ولد مشغولاً ببطالته عن اللّه عزّ وجلّ ، منهمكاً في شهواته عن سبيل هؤلاء ، كان أسوأ حالاً من ذي الأهل والولد وقد جعل من لا يطلب الأهل والمال للكفاف به والإفضال في المنزل المكروه . وقد روي في الخبر : أنّ من أهل النار الضعيف الذي لا دين له ، هو فيكم تبع ، لا يبغون أهلاً ولا مالاً ، قيل : هم السؤال المنهومون في المسألة ، الذي همه بطنه لا يبالي كيف طلب ولا على أي حال من الفحش تقلب ، فمن لم يشغله أهله وماله عن اللّه عزّ وجلّ كان أفضل ممن لا أهل له ولا ولد ، فهو عبد بطنه وفرجه ، أسير هواه وشهوته ، وقد أخبر اللّه تعالى أنّ للمؤمنين أموالاً وأولاداً ، ثم أمرهم أن لا يشغلهم ذلك عن اللّه عزّ وجلّ ، وقد وصف أقواماً بأن بيعهم وتجارتهم لا تشغلهم عن عبادته ، وأنهم أهل خوف من يوم تنقلب فيه القلوب والأبصار ، وقد مدح قومًا فسألوه الأزواج والذرية ،(2/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
وجعل ذلك في وصفهم في قوله عزّ وجلّ : ( يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبّ لنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعْيُنٍ ) الفرقان : 74 ، وقرّة أعين لا يشغل ولا يحجب عن قرّة العين بل يكشف عنه ويقرب منه ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : حبّب إليّ من دنياكم ثلاث ، الطيب ، والنساء ، وجعل قرّة عيني في الصلاة ، وقد كان أبو سليمان يقول : إنما تركوا التزويج لتتفرغ قلوبهم لذكره ، وروينا عن ابن أبي الحواري الحديث الذي رواه عن حبيش عن الحسن : إذا أراد اللّه بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال ، قال أحمد رضي اللّه عنه : فناظرنا في الحديث جماعة من العلماء ، وإذًا ليس معناه أنه لا يكون له امرأة ولا ولد ولكن يكونون له ولا يشغلونه ، وإنما يحسّ النكاح بمشغول الهمّ عن الفكر ، فيه ذي نفس مطمئنة وعين خاشعة لرب ذي سكينة وقلب ذي خشية ، كما حدثونا عن داود الطائي أنه قال : منذ خمسين سنة ما خالط ذكري ريح ، وقيل لبعضهم : هل دخل ذكرك ريح بشهوة ؟ فقال : أما منذ قرأت القرآن فلا ، وقال بعض العلماء : منذ عشرين سنة ما وقع نظري على فرجي قاما بطال ذو نفس أمارة ونظرة ثاقبة وشهوة قوية ، فالنكاح من أحسن أعماله وأرفع أحواله ، لأنّ المباح مقام من لا مقام له ، فإن عزم العبد على النكاح فلا يكون همه من النساء إلاّ ذات دين وصلاح ، والعقل والقناعة فليس تخلص له النيّات التي ذكرناها آنفاً إلاّ على هذه القواعد ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسنها ودينها فعليك بذات الدين ، وفي لفظ آخر : من نكح المرأة لمالها وجمالها حرم مالها وجمالها ، ومن نكحها لدينها رزقه اللّه عزّ وجلّ مالها وجمالها ، وروينا أيضًا : لا تنكحوا المرأة لجمالها فلعل جمالها يرديها ، ولا لمالها فلعل مالها يطغيها ، وانكحوا المرأة لدينها فنكاح المرأة للدين والصلاح طريق من الآخرة ، والرغبة في المرأة الناقصة الخلق الدنيئة الصورة الكبيرة السن ، السن باب من الزهد ، وقد كان أبو سليمان يقول : الزهد في كل شيئ حتى يتزوّج الرجل العجوز أو غير ذات الهيئة إيثارًا للزهد في الدنيا ، وكان مالك بن دينار يقول : يترك أحدهم أن يتزوّج يتيمة فيؤجر فيها إنْ أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤونة ترضى باليسير ويتزوّج بنت فلان وفلان ، يعني أبناء الدنيا ، فتشتهي الشهوات عليه وتقول : اكسني ثوب كذا واشتر لي مرط حرير فيتمرط دينه . وقد أختار أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه امرأة عوراء على أختها صحيحة جميلة ، فسأل من أعقلهما ؟ قيل : العوراء ، فقال : زوّجوني إياها ، وقد يكون في تزويج المرذولة المجذوعة فيه بأن يرفع قلبها إذ لا يرغب في مثلها ، واستحبّ له أن ينظر إلى وجهها قبل التزويج بها وإلى ما يدعوه إليها ، فإن ضمّ إلى الوجه والكفين فلا بأس بذلك عند علماء الحجاز ، ففي النظر إلى الوجه أحاديث مأثورة ، منها حديث محمد بن مسلمة قال : رأيته يتبع النظرة فتاة في الحي حتى توارت بالنخل(2/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
فقلت له : تفعل هذا وأنت من أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : فقال : رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أمرنا بهذا ، قال : إذا أوقع اللّه عزّ وجلّ في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إليها ليرى منها ما يدعوه إليها ، وفي الحديث الآخر إن في أعين الأنصار شيئاً ، فإذا أراد أحدكم أن يتزوّج منهن فلينظر إليهن ، في لفظ آخر : إذا أوقع في نفس أحدكم من امرأة شيئ فلينظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدم بينهما ، يعني يؤدم وقوع الأدمة على الأدمة ، وهو أبلغ من البشرة لأنّ البشرة ظاهر الجلد والأدمة باطنه جاء ، هذا في المبالغة على ضرب المثل ، وقد كان الأعمش يقول : كل تزويج يقع عن غير نظر يكون آخره غمّاً وهمّاً ولا يغالي في المهر ، فقد تزوّج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث البيت ، وكان رحى يد ، وجرة ، ووسادة من أدم وحشوها ليف ، وأولم على أحد نسائه بمدّين من شعير ، وعلى أخرى بمدّي تمر ، فالوليمة سنّة وترك الإجابة إليها معصية ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ينهي عن المغالاة بمهور النساء ويقول : ما تزوّج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) امرأة من نسائه ولا زوج على أكثر من أربعمائة درهم . وروينا عن عائشة رضي اللّه عنها : كانت مهور أزواج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) اثني عشرة وقية ونصفًا ، وقد كان يزوّج أصحابه على وزن نواة من ذهب ، والنواة صغيرة وهي نواة التمر الصيحاني ، يقال : قيمتها خمسة دراهم ، وفي خبر : زوّج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بعض أصحابه على نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم وثلث ، وقد زوّج سعيد بن المسيب ، وهو من خيار التابعين وعلمائهم ، ابنته من أبي هريرة على درهمين ، ثم حملها هو إليه ليلاً ، ولا أكره التزويج على عشرة دراهم ، وهو أكثر الاستحباب في القلة ليخرج من اختلاف العلماء ، ولا أستحبّ أن لا ينقص المهر عن ثلاثة دراهم ، وهذا هو القول الأوسط من مذاهب الفقهاء وفي هذه القيمة تقطع يد السارق ، وهذا مذهب بعض أهل الحجاز . وقد روينا : أبركهن أقلهن مهراً ، وروينا أيضاً من بركة المرأة سرعة تزويجها وسرعة رحمها ، يعني الولادة ويسر مهرها ، قال عروة : وأقول فإن من شؤمها كثرة صداقها ، ولا يصلح للمتزوّج أن يسأله أي شيئ للمرأة ولا يحل له أن يدفع شيئاً ليأخذ أكثر منه ، ولا يحلّ لهم أن يهدوا إليه شيئاً ليضطروه أن يكافئ بأكثر منه ، وليس عليه أن يزيد بأكثر من قيمته إن كافأ ، وله أن لا يقبل هديتهم إن علم ذلك منهم ، وهذا كله بدعة في النكاح ، وهو كالتجارة في التزويج ، وهو داخل في الربا ، وهو يشبه القمار ، ومن زوّج أو تزوّج على هذا بهذه النية فهي نية فاسدة وليس نكاحه هذا للدين ولا للآخرة ، وكان الثوري يقول : إذا تزوّج الرجل وقال : أي شيء للمرأة فاعلم أنه لصّ ، فلا تزوّجوه ، ولا ينكح إلى مبتدع ، ولا فاسق ، ولا ظالم ، ولا شارب خمر ، ولا أكل الربا ، فمن فعل ذلك فقد ثلم دينه ، وقطع رحمه ، ولم يحسن الولاية لكريمته ، لأنه ترك الإحسان ، وليس هؤلاء أكفاء للحرة المسلمة العفيفة ،(2/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
وقد قال بعض السلف : النكاح رقّ فلينظر أحدكم عند من يرقّ كريمته ، وقال بعضهم : لا تنكح إلاّ الأتقياء فإنه إن أحبها أكرمها ، وإن أبغضها أنصفها ، وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء ، وأنكحوا إليهم ، ولا نكاح إلاّ بولي وشاهدي عدل ، وإن كانت ثيبًا فإن لم يكن ولّي فالسلطان ولي من لا ولي له أو من ولاه الحكم كذلك السنّة ، وليتعلم المتزوّج علم الحيض واختلاف أوقاته وزيادته ونقصانه وأحكام الاستحاضة من ذلك ، وعلم وقت الأطهار ليعلمها ذلك وليغنيها بذلك عن السؤال والظهور إلى الرجال ، ثم ليعلم أهله علم ما لا يسعهم جهله من الفرائض وأحكام الصلاة وشرائع الإسلام واعتقادات المؤمنين من السنّة وما عليه من مذهب الجماعة ، فإذ فعل ذلك لم يكن عليها أن تخرج إلى العلماء ، وإن قصر عن علمها علم التوحيد ومباني الإسلام وعقود الإيمان ومذهب أهل السنّة فلها أن تخرج إلى السؤال عمّا لا يسعها جهله وليس لها أن تخرج بغير إذنه لطلب علم يرجى فضله ، وليس للمرأة أنّ تحمل زوجها على المكاسب الحرام ولا تكلفه ما يقترف به الآثام ، ولا للرجل أن يدخل في مداخل السواء ولا يبيع آخرته بدنياه ، فإن صبرت معه على البرّ والتقوى أمسكها ، وإن حملته على الإثم والعدوان فارقها ، وإن يتفرقا يغنِ اللّه كلاً من سعته ، ويقال : أول من يتعلق بالرجل يوم القيامة زوجته وولده ، فيوقفونه بين يدي اللّه عزّ وجلّ فيقولون : يا ربنا خذ لنا حقّاً من هذا ، فإنه ما علمنا ما نجهل ، وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم ، قال : فيقتصّ لهم منه ، وفي خبر : أنّ العبد ليوقف للميزان وله من الحسنات أمثال الجبال ، فيسأله عن رعاية عياله والقيام بهم ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، حتى تستفرغ تلك المطالبات جميع أعماله ، فلا يبقى له حسنة ، فينادي الملائكة : هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا وارتهن اليوم بأعماله ، فلهذا قال بعض السلف : إذا أراد اللّه بعبد شرّاً سلط عليه في الدنيا أنيابًا تنهشه ، يعني العيال . وروينا في الخبر : لا يلقى اللّه عبد بذنب أعظم من جهالة أهله ، والخبر المشهور : كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول ، وروي أنّ الآبق من عياله كالعبد الآبق من سيده ، لا يقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم ، وقد قال عزّ وجلّ : ( يا أَيُّها الَّذين آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ نَاراً ) التحريم : 6 ، فأضاف الأهل إلى النفس وأمرنا أن نقيهم النار بتعليم الأمر والنهي كما نقي أنفسنا النار باجتناب النهي ، وجاء في تفسير ذلك : علّموهن وأدّبوهن ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : كلكم راع ٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته ، فالمرأة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عنه ، والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول عنهم ، ويقال : إذا أنفقت المرأة من مال زوجها بغير إذنه لم تزل في سخط اللّه عزّ وجلّ حتى يأذن لها ، ولا يحلّ لها أن تطعم من منزله إلاّ الرطب الذي يخاف فساده ، فإن(2/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
أطعمت وأنفقت عن إذنه ورضاه كان لها مثل أجره ، وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر ، وينبغي أن يعرفها أعظم حقه عليها في مقام الوالدة بقوله للمرأة : عليك بطاعة زوجك ، فإنّة جنتك ونارك ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة ، وكان رجل قد خرج في سفر وعهد إلى امرأته أن لا تنزل من العلو إلى سفل الدار ، وكان أبوها في السفل ، فمرض أبوها فأرسلت المرأة تسأذن أن تنزل إلى أبيها فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : أطيعي زوجك ، فمات أبوها فاستأذنت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، أن تنزل إليه فقال : أطيعي زوجك ، فدفن أبوها ، قال : فأرسل إليها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرها أنّ اللّه قد غفر لأبيها بطاعتها زوجها ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : إذا صلّت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها ، فأضاف : طاعة الزوج إلى أبنية الإسلام التي لا يدخل الجنة إلاّ بها ، واشترط طاعته لدخولها ، وذكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) النساء فقال : حاملات والدات مرضعات رحيمات بأولادهن ، لولا ما تأتين إلى أزواجهن دخلت مصلياتهن الجنة وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساد ، وأطلعت في الجنة فرأيت أقل أهلها النساء فقلت : أين النساء فقيل : شغلهن الأحمران الذهب والزعفران يعني الحلي ولبس المصبغات كانت العرب مشتهرة بذلك وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : تصدقن من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار قلن : لِمَ يا رسول اللّه قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير يعني الزوج المعاشر ، تكفرن نعمته عليكن فلذلك قالت الفتاة : يا رسول الله فلا أتزوج . روينا عن أم عبد المغنية عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : أتت فتاة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول اللّه ، إني فتاة أخطب وإني أكره التزويج فما حق الزوج على المرأة فقال : لو كان من فرقه إلى قدمه صديدًا فلحسته ما أدت شكره قالت : فلا أتزوج قال : بلى فتزوجي فإنه خير ، فهذا مجمل خبر الخثعمية وقد فسر حقه في حديثها ، وروينا عن عكرمة عن ابن عباس أنّ امرأة من خثعم أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني امرأة أيم ، وإني أريد أنْ أتزوج فما حق الزوج فقال : إنّ من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها على نفسها وهي على ظهر بعير أنْ لا تمنعه ، وفي الخبر الجامع لفضائل الزوج : أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لو أمرت أحدًا أنْ يسجد لشيء سوى اللّه تعالى لأمرت المرأة تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها ، ومن حقّه أنْ لا تعطي شيئاً من بيته لا بإذنه فإن فعلت ذلك كان الإثم عليها والأجر له ، ومن حقه أنه لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت(2/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
ولم يقبل منها ، ومن حقه أنْ لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه فإن فعلت لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيتها أو تنوب ، وينبغي أن تعرض نفسها عليه في كل ليلة ، وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها عزّ وجلّ إذا كانت في قعر بيتها ، وإنّ صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ، والمخدع بيت في بيت وذلك إنها عورة فما كان أستر لها فهو أسلم ، والأسلم هو الأفضل كيف وقد روي أنّ المرأة عوراء فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وفي حديث غريب أنّ للمرأة عشر عورات ، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة ، فإذا ماتت ستر القبر عشر عورات ، فإن أمرها بما يصلحها مما أبيح لهما فخالفته وعظها وزجرها ، فإن عادت لخالفه هجرها في المضجع فبعض العلماء يقول : يوليها ظهره وبعضهم يقول : يعتزل فراشها في ليلة إلى ثلاث إلى سبع ليال فإن لم ينجح فيها ذلك ولم تبال به ضربها والعلماء يقولن : ضربًا غير مبرح وتفسيره أن لا يكسر لها عظماً ولا يدمي لها جسمًا ، وله أنْ يغضب عليها في الأمر من أمور الدين من عشرة أيام إلى شهر ، فقد غضب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) شهرًا في كلام كلمه بعض أزواجه ، فأرسل بهدية إلى بيت زينب فردتها عليه فقالت له التي هو في بيتها : لقد أقمتك إذا ردت عليك هديتك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أنتن أهون على اللّه أنْ تقمينني ، ثم غضب عليهن كلهن شهرًا ومعنى أقمتك استصغرتك وأذلتك فهذه كلمة من الاتباع ، تقول العرب : أذللته وأقميته ويقولون : لتفعلن كذا صاغراً قميًا ، وما زال كذلك حتى ذل وقمى فيبتغون بهذه الكلمة لسب بالتصغير والتذلل ، للمبالغة في الوصف ولا ينبغي أن يفترِ على أهله من الإنفاق . وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : خيركم خيركم لأهله ، وكان لعليّ عليه السلام أربع نسوة ، وكان يشتري لكل واحدة في كل أربعة أيام بدرهم لحماً وقال الحسن : كانوا في الرحال مخاصيب ، وفي الأثاث والثياب تقارب وقال ابن سيرين : أستحب للرجل أنْ يعمل لأهله في كل شهر ، فالوذجة وإنْ كانت من أهله زلة أو هفوة احتمل ذلك ورفق بها ولم يعسفها ، وفي الحديث : خلقت المرأة من ضلع أعوج إنْ قومته كسرته وإنْ تركتها استمتعت بها على عوج ، وفي لفظ حسن : وكسرها طلاقها ، وقد كان أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يراجعنه القول وتهجره إحداهن يوماً إلى الليل ، ودفعت إحداهن في صدره فزجرتها أمها فقال : دعيها ، فإنهن يصنعن أكثر من هذا ، وجرى بينه وبين عائشة رضي اللّه عنها كلام حتى أدخل أبا بكر رضي اللّه عنه بينهما حكماً واستشهد فقال لها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : تكلمين أو أتكلم قالت : بل تكلم أنت ولكن لا تقل إلاّ حقًا ، فلطمها أبو بكر رضي اللّه عنه حتى دمي فوها وقال : أي عدوة نفسها ، أو يقول غير(2/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
الحق ؟ بل أنت وأبوك تقولان الباطل ولا يقول رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ حقّاً ، نصرة لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وغضباً له حتى استجارت بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقعدت خلف ظهره فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لم ندعك لهذا ولم نرد هذا منك وقالت له مرة في كلام غضبت عنده : أنت الذي تزعم أنك نبي ؟ فتبسم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حلماً وكرماً ، وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لعائشة رضي اللّه عنها : إني لأعرف غضبك من رضاك قالت : وكيف تعرف ذلك ؟ قال : إنْ رضيت قلت : لا وإله محمد وإذا غضبت قلت : لا وإله إبراهيم قالت : صدقت إنما أهجر اسمك وقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يمزح مع أزواجه ويقاربهن في عقولهن في المعاملة والأخلاق ، وفي الخبر : كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من أفكه الناس مع نسائه ، وقد كان لقمان الحكيم يقول : العاقل في بيته ومع أهله كالصبي فإذا كان في القوم وجد رجلاً ، وفي تفسير الخبر المروي أنّ اللّه يبغض الجعظري الجواظ قيل : هو الشديد على أهله المتكبر في نفسه ، وفي أحد المعاني في قوله عزّ وجلّ : ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذِلكَ زَنيمٍ ) القلم : 13 ، قيل : الفظّ اللسان الغليظ القلب على أهله وما ملكت يمينه ، وروينا في في الخبر : غيرة يبغضها اللّه عزّ وجلّ ، غيرة الرجل على أهله في غير رينة كأنه يكون من سوء الظن الذي نهى اللّه عزّ وجلّ ورسوله عنه . وروينا عن عليّ رضي اللهّ عنه : لا تكثر الغيرة على أهلك فترمي بالسوء من أجلك ولعمري إنّ الغيرة لها حدّ فإذا جاوزها الرجل قصر عن الواجب وزاد على الحق ، وقد كان الحسن يقول : أتدعون نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق قبح اللّه من لا يغار ، وقد قال ابن عمر رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه فقال بعض ولده : بلى واللّه نمنعهن فضربه وغضب عليه وقال : تسمعني أقول : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تمنعوهن وتقول : بلى تمنعهن وقد قال اللّه عزّ وجلّ : ( قَدْ جعلَ اللّه لِكُلِ شيءٍ قَدْرًا ) الطلاق : 3 ، وقال بعض الحكماء : من جاوز الشيئ فمذموم كمن قصر عنه ، فلا بأس بالحرة العفيفة أن تخرج لشيئ لا بد لها منه من قضاء حوائجها قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : إذن لكن أنْ تخرجن في حوائجكن كذلك تخرجن في الأعياد خاصة ، أطلق ذلك لهن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن لا يخرجن إلا بأذن أزواجهن وعن رضاهم : ولا يخرجن أيضًا إلاّ فيما يعني مما لا بدّ منه ومهما استغنين عن الخروج ، وأنْ لا يراهن رجل فهو أفضل لهن وأصلح لقلوبهن ، وروينا أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لابنته فاطمة عليها السلام : يا بنية ، أي شيئ خير للمرأة فقالت : أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل ، فضمها إليها وقال : ذرية بعضها من بعض ، وكان أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يسدون الثقب والكوى في الحيطان لئلا يطلع النسوان ، وروينا إنّ معَّاذًا رأى امرأة تطلع من كوة في الجدار فضربها ، وأنّ امرأته دفعت(2/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
إلى غلام لها تفاحة قد أكلت بعضها فضربها . وقد كان عمر يقول : أعروا النساء يلزمن الحجال وقال أيضاً : عودوا نساءكم لا ، وتكلم مرة في شيئ من الأمر فأخذت امرأته تراجعه في القول فزبرها وقال : ما أنت لهذا إنما أنت لعبة في جانب البيت إن كانت لنا إليك حاجة وإلاّ جلست كما أنت وهو مأجور على احتماله هفوات أهله وصبره على أذاهن ومثاب على حسن عشرتهن ، وقد كان محمد بن الحنفية يقول ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدّاً ، حتى يجعل اللّه له منه فرجًا ومخرجًا ، فإن كانت بذيئة اللسان قليلة القبول عظيمة الجهل كثيرة الأذى ، فطلاقها أسلم لدينهما وأروح لقلوبهما في عاجل دنياه وآجل أخرته ، وقد شكى رجل إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بذاء امرأته فقال له : طلّقها فقال : إني أحبها قال : أمسكها إذاً ، فخشي عليه تشتت همه بفراقها مع المحبة وتشتت الهم أعظم من أذى الجسم . وفي معنى قوله عزّ وجلّ : ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاّ أنّ يأتينَ بِفاحَشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) الطلاق : 1 . قال ابن مسعود : إذا بذت على أهلها وآذت زرجها فهو فاحشة ، وهذا يعني به في العدة لأن اللّه يقول : ( أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيْثُ سَكَنْتُمْ مِنَ وُجْدِكُمْ ) الطلاق : 6 . فهو متصل بقوله : ( وأحْصُوا العِدَّةَ ولا تُخْرِجوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِن ) الطلاق : 1 . أي في العدة ، ومن الناس من يظن أنّ الطلاق محظور يتأول هذه الآية على غير تأويلها ، فالطلاق مباح إلاّ أنه مكروه بغير سب لتفرقه الألفة . وقد يروى في خبر : ما أحل اللّه شيئًا أبغض إليه من الطلاق ، ولا بأس أنْ تفتدي المرأة من زوجها إذا خافت أنْ لا تقيم حدود اللّه فيه ولا تقوم بواجب حقوقه عليها ، وأكره أنْ يأخذ في الفدية أكثر مما أعطاها . وقد قال اللّه تعالى : ( فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقيما حُدودَ اللّه فلا جُناحَ عليْهِما فيما افْتَدتْ بهِ ) البقرة : 229 ، وهذا هو الخلع الجائز عند أكثر العلماء ، ولا يحل لامرأة أن تسأل زوجها طلاقها ولا أنْ تختلع منه بغير رضاه . قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس لم ترح رائحة الجنة ، وقال : المختلعات هن المنافقات والنشوز ، قد يكون من الزوجين معًا إلاّ أنه أبيح للزوج ضربها في النشوز وأبيح لها الصلح في نشوز الزوج قال اللّه عزّ وجلّ : ( والصُّلحُ خَيْرٌ ) النساء : 128 . وأصل النشوز أنْ يعلو أحدهما على صاحبه ويرتفع عنه ، كان يجفو عليه ويجتنبه فيكون في نحو غير نحوه ، فيكون من هذا الكلام الفاحش ويكون منه الأذى ويكون منه الهجر والانفراد ، ويحكم الحكمان في هذا أحدهما من أهله والآخر من أهلها ، يعدلون وينظرون فيما بينهما . وقد وعد اللّه عزّ وجلّ الغني مع الفرقة كما وعده مع النكاح فقال : ( وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّه كَلاً مِنْ سَعَتِهٍ ) النساء : 130 كما قال : ( وَأَنْكِحوا الأيامى مِنْكُمْ(2/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
والصَّالِحينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإِمائِكُمْ إنْ يَكُونوا فُقَراءَ يُغنِهِمُ اللّه من فَضْلهِ ) النور : 32 . فقد يكون الغني بالمال ويكون بأن يستغني كل واحد منهما عن صاحبه بما خصه اللّه عزّ وجلّ من خفي لطفه . وجاء في خبر : ثلاث لا يستجاب دعوتهم : رجل له امرأة سوء يقول أراحني اللّه منك وقد جعل اللّه الطلاق بيده إن شاء طلق ، والآخر في المملوك السوء ، وجار السوء ، وليحسن الرجل عشرة أهله والقيام بهن . فقد قال اللّه تعالى : ( فإِنْ أطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيلاً ) النساء : 34 . أي لا تطلبوا طريقاً إلى الفرقة ولا إلى خصومة ومكروه ، وهذه حينئذ على صورة الأنفس المطمئنة إذا استجابت للإيمان وطوعت لك إلى أخلاق المؤمنين فتولها من الإرفاق وأرفق بها في منالها من المباح . وقد شبه اللّه عزّ وجلّ حسن القيام على الزوجة بحسن القيام على الوالدين فقال فيهما : ( وَصاحِبْهُما في الدُّنْيا مَعْروفاً ) لقمان : 15 . وقال في أمر النساء : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) النساء : 19 ثم أجمل في النساء ما فرقه من حق الزوج في كلمة واحدة فقال : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة : 228 . وقال في عظيم حقهن : ( وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَليظًا ) النساء : 21 . وقال عزّ وجلّ : ( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْب ) النساء : 36 . قيل : هي المرأة . وآخر ما أوصى به رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث كان يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه وخفي كلامه جعل يقول : الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ، واللّه اللّه في النساء فإنهن عوار في أيديكم يعني أسرى أخذتموهن بعهد اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه . وسئل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : ما حق المرأة على الرجل قال : يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى . ولا يقبح الوجه ولا يهجر إلا في البيت وينبغي أيضًا إذا أراد النكاح أنْ يتعلم ما تحتاج إليه المرأة من حسن العشرة والقيام بما لها عليه وجميل المداراة ولطف المفاوضة ، ويعلمها حسن قيامها بما يجب له عليها ويعرفها ما أوجب اللّه له عليها من ذلك ، ولا تملك المرأة شيئًا من أمرك فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد ملكك إياها فلا تقلب بهواك حكمة اللّه فينقلب الأمر عليك ، فكأنك قد أطعت العدوّ ووافقته في قوله ، ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه وقد قال اللّه عزّ وجلّ : ( ولا تُؤْتُوا السُفَهَاءُ أمْوالَكُمُ الَّتي جَعلَ اللّه لَكُمْ قِيامًا ) النساء : 5 يعني النساء والصبيان ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : تعس عبد الزوجة لأنه إذا أطاعها فيما تهوى دخل تحت التعس ، فكأنه قد بدل نعمة اللّه كفراً لأن اللّه عزّ وجلّ جعله سيّدها في قوله عزّ وجلّ : ( وَأَلَفيا سَيِّدَها لَدَى البابِ ) يوسف : 25 . يعني زوجها . قال الحسن : ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلاّ أكبه اللّه في النار ولا يعودها عادة فتجترئ عليه وتطلب المعتاد منك ، فهي على مثال أخلاق النفس سواء إن أرسلت عنانها جمحت بك ، وإن أرخيت عنانها فترًا جذبتك ذراعًا ، وإن شددت يدك(2/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
عليها وكبحتها ملكتها فلعلها أن تطوع لك . وكان الشافعي رضي اللّه عنه يقول ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك ، المرأة والخادم والنبطي . وكان نساء العرب يعلمن أولادهن اختبار أزواجهن . كانت المرأة إن أنكحت ابنتها قال : يا بنية ، اختبري حليلك قبل أن تقدمي عليه ، انزعي زج رمحه فإن سكت لذلك فقطعي اللحم على ترسه ، فإن أقرّ فكسّري العظام بسيفه ، فإن صبر فاجعلي الأكاف على ظهره وامتطيه فإنما هو حمار . وأوصى أسماء بن خارجة الفزاري ، وكان من حكماء العرب ، ابنته ليلة زفافها فقال : يا بنية ، قد كانت والدتك أحق بتأديبك مني لو كانت باقية ، وأما الآن فإني أحق بتأديبك من غيري افهمي عني ما أقول : إنك قد خرجت من العش الذي فيه درجت وصرت إلى فراش لا تعرفينه وقرين لم تألفيه ، كوني له أرضًا يكون لك سماء وكوني له مهادًا يكون لك عمادًا فكوني له أمة يكون لك عبدًا ، لا تلحفي به فيقلاك ولا تتباعدي عنه فينساك ، إذا دنى فاقربي منه وإن نأى فابعدي عنه ، واحفظي أنفه وسمعه وعينه ، لا يشم منك إلاّ طيباً ولا يسمع إلاّ حسنًا ولا ينظر إلاّ جميلاً وأنا الذي أقول لأمك ليلة ينائي بها : خذي العفة مني تستديمي مودتي . . . ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ولا تنقريني نقرك الدفّ مرة . . . فإنك لا تدرين ماذا المغيب فإني رأيت الحب في القلب والأذى . . . إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وأوصى بعض العرب بنيه فقال : لا تنكحوا من النساء ستة ، أنانة ولا منانة ولا حنانة ولا حداقة ولا براقة ولا شداقة ، تفسير ذلك الأنانة وهي التي تعصب رأسها كثيرًا وتكثير الأنين والتوجع والتشكي والمنانة التي تمن على زوجها تقول : فعلت بك وفعلت فأنا أفعل وأفعل والحنانة تكون على وجهين ، تكون ذات ولد من غيره فهي تحن إليه وقد تكون ذات زوج قبله فيحن قلبها إليه . وقوله حداقة هي التي تومئ بحدقتها فتشتري كل شيئ وتطالب زوجها بما تشتهيه من كل شيئ ، وقد تلحظ الرجال كثيرًا كما يلاحظ بعض الرجال النساء ، والبراقة تحتمل تأويلين ، أحدهما أنّ تكون غضوبًا في الطعام فتبرق لقلته أو لسوء خلقها ولا تكاد البراقة للمأكول أن تأكل إلاّ وحدها لشرهها ، وتكون أيضاً تستقل نصيبها من كل شيئ وهذه لغة يمانية نعرفها فأشبه عندهم يقال : قد برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عليه ، والوجه الثاني من البراقة أنْ تكون من البريق أنْ تكثر صقال وجهها . وخضابه في بروقه أبدًا ، وأما الشداقة فهي التي تشدق بكثرة الكلام وتكون ذربة اللسان مفوّهة في النطق . ومن ذلك الخبر الذي جاء أنّ اللّه عزّ وجلّ يبغض الثرثارين من المتشدقين . وفي قصة الرجل السائح الأزدي أنه لقي إلياس عليه السلام في سياحته ، فأمره بالتزويج وقال : هو خير لك ، ونهاه عن التبتل وقال : لا تنكح من النساء أربعًا وأنكح من سواهن(2/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
المختلعة والمبارية والعاهر والناشر ، فالمختلعة هي التي تطلب الخلع من زوجها من غير ما بأس وهو مع ذلك يحبها . والمبارية المباهية لغيرها ، المفاخرة بأسباب الدنيا التي تطلب من زوجها ما تباهي به غيرها وتفتخر به في نظائرها . والعاهر الفاجرة التي تعرف بحليل أو خدن وهو الذي قال اللّه عزّ وجلّ : ( ولا مُتَّخِذاتِ أخْدَانٍ ) النساء : 25 . والناشر التي تعلو على زوجها في الفعال والمقال . وقد كان عليّ عليه السام يقول : شرار خصال الرجل خيار خصال النساء ، البخل والزهو والجبن . فإن المرأة إذا كانت مزهوة أي معجبة استنكفت إن تكلم الرجال ، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيئ فلم تخرج من بيتها . وأكره العزل كراهية شديدة فإنه دقيقة من الشرك الخفي ، وفيه نهى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) . وكرهه جماعة من السلف الصالح ، ولم يكن خيار المتّقين يعزلون . وأقلّ ما فيه ، الخروج من التوكل على الله عزّ وجلّ ، وقلة الرضا بحكم اللّه تعالى . وكان ابن عباس رضي اللّه عنه يقول العزل هي الموؤودة الصغرى فلقوله هذا استنباط حسن من السنّة ، وذلك أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في فضائل الجماع : أنّ الرجل ليجامع أهله فيكتب له من جماعة أجر ولد ذكر قاتل في سبيل اللّه عزّ وجلّ . فقيل له : وكيف ذلك يا رسول اللّه فقال : أنت خلقته ، أنت رزقته ، أنت هديته ، إليك محياه إليك مماته . قالوا : بل اللّه خلقه ، ورزقه ، وهداه ، وأحياه ، وأماته . قال : فأنت تراه في هذا المعنى فيّ يقول : إذا جامعت فأمنيت في الفرج . وقد قال اللّه تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَءَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) الواقعة : 58 . فإذا لم يخلق اللّه من منيك خلقاً حسب لك كأنه قد خلق منه ذكرًا على أتم أحواله وأكمل أوصافه بأن يقاتل في سبيل اللّه فيقتل ، لأنك قد جئت بالسبب الذي عليك وليس عليك خلقه ولا هدايته ، وإنما يقدر على ذلك اللّه عزّ وجلّ وهو فعله مجرّدًًا فكان لك أجر ما لو فعله اللّه تعالى إذا قد أتيت بما أمكنك عمله ، فلذلك قال ابن عباس : هو الموؤودة الصغرى لأنه يوجد العزل بعدم هذا الفضل ، إذا كان العبد سبب عدمه لأنه لم يفعل ما يتأتى منه الولد ، فذهب فضله وحسب عليه فتله ، وإنما قلنا أنّ العزل دقيقة من الشرك لأن أهل الجاهلية كان سبب قتلهم بناتهم معاني أحدها خشية العار بهن ، ومنها كراهة الإنفاق عليهن ومنها الشح وخوف الفقر والإملاق . وكان العرب من ولد له بنون وبنات فمات البنون وعاش البنات سموه أبتر وذموه بذلك . وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا الوصف الذي يكرهون مات ولده الذكر وعاش البنات ، فلذلك كان يسمونه مذمّمًا أي مذمومًا عندهم . ومنه سبه العاص بن وائل حتى قال ، إنك أبتر فرد اللّه عزّ وجلّ عليه فقال تعالى : ( إنَّ شَانِئكَ هُوَ الأبْتَرُ ) الكوثر : 3 . أي لا ذكر لك بعد موتك قد انقطع ذكرك بموت الذكور من ولدك فقال اللّه عزّ وجلّ بل :(2/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) الكوثر : 3 . الذي ينقطع ذكره وثناؤه فلا يذكر بخير بعد موته ، فأما أنت فقد رفعت لك ذكرك تذكر معي إذا ذكرت . وكانت العرب تقول : من كنَّ له أحد الحوبات الثلاث ، لم يشرف عشيرته ولم يسد قومه يعنون بالحوب الأم والأخت والبنت ، والحوبات جمع حوب وهي كبيرة قال اللّه تعالى : في أكلكم ( أمْوالَ الْيتَامَى ظُلْمًا ) ( كان حُوبًا كَبيرًا ) النساء : 2 - 10 . عندي ليس هذا الذي قلتم عندكم . وكان من خيار التابعين المؤمنين من يستحب له الجمع بين هؤلاء الثلاث : الأم والأخت والبنت ، لما فيهن من عظيم المثوبة والفضل ليخالف بذلك سنة الجاهلية . فقد توجد هذه المعاني أو بعضها في العزل فلذلك سميناه شركًا وكرهناه ، وهو مذهب الخوارج من النساء كأن فيهن تقزز وتعمق من استعمال كثرة الماء للطهارة ، ودخول الحمامات ومجاوزة الحد في الطهور . وكنّ أيضاً يقضين الصلاة أيام الحيض ويصمن في حيضهن ، ولا يصلّين في ثياب الحيض حتى يغلسنها ، ولا تدخلن الخلاء إلاّ عراة ، وكانوا يكرهون الولادة طلبًا للنظافة والتقرز خلاف السنة . نساء العرب ابتدعوا هذه البدع ففارقوا بها سنّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وسنن نسائه من أنباط العراق وأهل النهر . وكان بعضهن دخل على عائشة رضي اللّه عنها لما قدمت البصرة ، فلم تأذن لهن في الدخول عليها . وأيضًا فإن اللّه ورسوله ندبا إلى اتخاذ الولادة بقوله تعالى : ( فأتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ ) البقرة : 223 . قيل : الولد وقول رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : خير نسائكم الودود الولود وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : سوداء ولود خير من حسناد لا تلد ، وحصير في البيت خير من امرأة لا تلد . ومن بركة المرأة أن تيسر رحمها أحوج ما يكون إلى الجماع إذا طهرت من الحيض . وفي هذا الوقت أكثر ما يعبر النساء بالحمل وأحمد ما يكون المولود عاقبة إذا علق به قبل الطهر . فلهذه المعاني عقب اللّه عزّ وجلّ الأمر بالجماع والولد بعد الطهر في قوله تعالى : ( فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمرَكُمُ اللّه ) البقرة : 222 ، ولأضدادها في الكراهة والذم أمر اللّه تعالى باعتزال النساء في الحيض ، ويقال إنّ كل مبذول كان أو مجنونًا أو مجذوبًا أو مختلاً ، أو في حاله وعتلاً مخبلاً لأنه كان غرسه في سبخة من الأرض فلم يزرع ولم يزك ، ومن زرع من حرث طيب زكا زرعه وهو الغشيان في الطهر فلذلك قال : من حيث أمركم اللّه ، وقد رخص طائفة في العزل . روينا في ذلك رخصة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد كان سعد يعزل وقد أنكر عليّ عليه السلام على ابن عباس رضي الله عنهم في قوله : إنّ العزل هي الموؤودة الصغرى وقال :(2/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
إنها لا تكون موؤودة إلاّ بعد سبع ثم تلا قوله عزّ وجلّ : ( وإذا المَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ) التكوير : 8 ، أنها ذكرت بعد سبع ثم تلا قوله عزّ وجلّ آية تنقيل الخلقة : ( وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ سُلالَةِ مِنْ طينٍ ) المؤمنون : 12 . ثم جعلناه نطفة إلى قوله ثم أنشأناه خلقًا آخر أي نفخ الروح فيه قال : فلا يكون موؤودة مقتولة إلاّ بعد هذه السبع الخصال ، ولأن اللّه عزّ وجلّ ذكرها في كوّرت بعد سبع معان ثم جمع بينهما في الفهم فاستنبط ذلك ، وهذا من دقيق العلم وغامض الفهم ولطيف الاستدلال الذي تفرد به عليه السلام لثقوب علمه ونفاذ فطنته وخفي استدلاله ، فلا يجامعهن حتى يطهرن . فإذا تطهرن يعني بالماء ويكره الجماع مستقبل القبلة لحرمة القبلة . وفي الخبر ، إذا جامع أحدكم أهله فلا يتجرّدا تجرد العيرين يعني الحمارين . وروينا أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا جامع غطى رأسه وخفض صوته وقال للمرأة : عليك السكينة ، ومن جامع مرة وأراد العود فليغسل فرجه قبل ذلك ، فإن احتلم فلا يجامع حتى يغسل فرجه أو يبول ، فإن جامع بعد الاحتلام من غير غسل خيف على ولده إن كان من جماعة أنْ يصيبه لمم من الشيطان . ويكره له الجماع في ثلاث ليال من الشهر : في أول ليلة وفي آخر ليلة وفي ليلة النصف . يقال إنّ الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي وقيل إنّ الشياطين يجامعون فيها ، وروي عن عليّ عليه السلام كراهة ذلك وأبي هريرة ومعاوية رضي اللّه عنهما . ومن العلماء من كان يستحب الجماع في يوم الجمعة لأحد التأويلين من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : من غسل واغتسل أي غسل أهله . ويكره الجماع في أول الليل لئلا ينام على غير طهارة ، فإن الأرواح تعرج إلى العرش فما كان منها طاهرًا أذن له في السجود ، وما كان جنبًا لم يؤذن له . والرؤيا أيضًا على طهارة من غير جنابة ، وعلى وضوء أصح وأفضل إلاّ أنْ يغتسل ثم ينام فإن لم يغتسل وجامع فلا ينام ولايطعم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة . وقد جاء رخصة في النوم بعد الجماع من غير أنّ يمس ماء ، فعله رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أكره أنْ يحلق الرجل رأسه أو يقلم ظفره أو يستحد أو يتورّى ويخرج دمًا وهو جنب ، فإن العبد يرد إليه جميع شعره وظفره ودمه يوم القيامة ، فما سقط منه من ذلك وهو جنب رجع إليه جنباً . وقيل : طالبته كل شعرة بجنابتها . وقد روينا معنى هذا في حديث مقطوع موقوف عن الأوزاعي ويحيى بن كثير قال الأوزاعي : قد كنا نقول : لا بأس أن يطأ الجنب ، حتى سمعنا بهذا الحديث والنص فيه على النهي أن يطأ الرجل جنبًا ، ولا يحل للرجل من امرأته إلاّ الفرج لا غير على أي حال شاؤوا من جامع ، فليتمهل على أهله وليتوقّف حتى تقضي هي نهمتها كما قضى هو نهمته . فربما أخر انزال المرأة بعد الرجل فيكون ذلك كريهًا إليها ، فإن علم أنها قد سبقت(2/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
بالشهوة لم يحتج إلى توقف وليس يخفي سبقها بالشهوة على فطن . وأوفق ما يكون الجماع بينهما إذا اتفقت الشهوتان منهما معًا ، وأكثر ما يكون التباغض بين الزوجين لاختلافهما من طبع الإنزال أن يكون طبعه سابقًا لطبعها أيضًا . قود كان بعض العلماء من الأدباء لا يتأخر عن المرأة حتى يستأمرها في ذلك ، وينبغي أن يعلمها لأن المرأة إذا بلغت واحتلمت يجب عليه الغسل كما يجب على الرجل ، فإنّ في ذلك سنة لأن أم سليم سألت عن ذلك رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر بذلك قال : نعم ، النساء نساء الأنصار لا يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ، وإذا كانت المرأة حائضاً ائتزرت بمئزر صغير من حقويها إلى أنصاف الفخذين وكان له المتعة بجميع جسدها كيف شاء إلاّ تحت المئزر ، وهذا مذهب فقهاء الحجاز وهو أحب الوجهين إليّ ، وبعض علماء أهل العراق يجوز من الحائض المباشرة لما تحت خلا الفرجين ، ولا يعجبني هذا ولا حرج عليه من الاستمتاع ببدنها ، وأستحب للرجل إذا دخل في لحافها أن يأتزر بحقو صغير يكون في وسطه وهو المئرز لئلا يتجرد عريانًا ، فإنّ هذا من الأدب . ويضاجع الرجل الحائض كيف شاء وتناوله ما شاء ، أو يؤاكلها ولا يجانبها في شيئ من الأشياء إلاّ الجماع في الفرج إتفقوا عليه واختلفوا فيما دونه . فذكر أهل الحجاز كما ذكرناه آنفًا وهو استحباب ، واتفقوا على تجويز ما فوق المئزر من السرر إلى أنصاف الفخذين ، فينبغي للمتزوّج أن يعرف حكم الطلاق ، فإن عرض عليه طلاق طلق واحدة واحدة في طهر لا جماع فيه ، لأن التطليقة الواحدة إذا انقضت عدة المرأة منها بحيض أو أشهر تعمل عمل التحريم بالثلاث سواء ، إلاّ أنه يربح في التطليقة الواحدة أربع خصال : أحدها موافقة الكتاب والسنّة من قوله عزّ وجلّ : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) الطلاق : 1 ، وفي قراءة عمر وابن عباس رضي اللّه عنهم بيان ذلك : فطلقوهن لقبل عدتهن فقد دل أنّ الأقراء هي الأطهار ، وكذلك هو عندي . وإن تكافأ ذلك في اللغة و تساوى في المعاني بأن يكون الحيض أيضاً . والثانية تيسير العدة عليها وسرعة خروجها منها ، فخروجها من الطلاق محتسب من الطهر الذي طلقها فيه من غير جماع قرأ ، فتستعجل الخروج من العدة لأنها من حدود اللّه عزّ وجلّ ، ويربح أيضاً هو أنه ندم على طلاقها كان له رجعتها في العدة من غير إحداث عقد ثان ولا مهر آخر ، وإن أحب رجعتها بعد انقضاء العدة كان له تزويجها ثانية من غير زوج ثان تحدثه ، وهذا كله معدوم مع الثلاث دفعة واحدة وموجود فيه التحريم ، وإن ندم لم يجعل اللّه له مخرجاً لأنه لا تحل له إلاّ بعد ، زوج ويخسر العبد خروج المرأة من يده فإن ابتلى بهواها يحتاج أن ينتظر فراغ الزوج الثاني أو التجأ أنْ يعمل في تزويجها لغيره ، فيكون محلّلاً لنفسه ومفسد النكاح الثاني بالتحليل فيقع في ثلاث معان من المعاصي .(2/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
وقد لعن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) المحلل والمحلل له . وقال بعض العلماء : إنّ نكاح الأول بعده على التحليل لا يجوز أيضاً ، وهذا كله ثمرة الجهل ومخالفة السنة . وقد قال اللّه تعالى : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ ) الطلاق : 1 ، ثم قال : لا تدري لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرًا يعني ندمًا من المطلق فتعجب الزوجة ، فإذا كان قد طلق تطليقة واحدة أو اثنتين حلت له من العدة من غير عقد وبعد انقضائها بغير زوج ثم قال : ( ومَنْ يتّق اللّه يجعل له مخرجاً ) أي يتّقي اللّه فيطلق في العدة يجعل له مخرجًا في جواز الرجعة كما ذكرناه ومن طلق ثلاثًا مرة واحدة أو طلق في الحيض ، وقع الطلاق وحرمت المرأة ولم تحل له إلاّ بعد زوج إن كان قد خالف السنّة ووافق كراهة الأئمة بآثار ، قد كثرت في ذلك عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وعن عمر وابنه وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس وجملة من الصحابة والتابعين ، والأصل فيما ذكرناه من العزيمة والرخصة في فعل النكاح وتركه قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَانْكِحُوا الأيامى مِنْكُمْ ) النور : 32 ، فأمر بالنكاح وهو أعلم بالخير والصلاح ، والأيامى جمع أيم وهي التي لا بعل لها ، وقد يسمى به الرجل الذي لا زوجة له أيضًا كما يقال ثيبًا وبكرًا ثم قال : ( والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ) النور : 32 . فلولا أنّ النكاح فاضل ما خص به الصالحين وضمه إلى فضلهم ، وهم أهل ولايته لقوله عزّ وجلّ وهو يتولى الصالحين ، ثم قال : ( إن يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهمُ اللّه من فَضْلِهِ ) النور : 32 ، واللّه أعلم بالأغنياء كيف هم وقد يغنيهم بالأشياء كقوله : ( أَغْنى وأَقْنى ) النجم : 48 ، وقد يغنيهم عن الأشياء وهي القناعة والزهد ، وقد يغني نفوسهم عن الإعراض لقول رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : ليس الغني بكثرة العرض إنما الغني غني النفس ، وقد يغنيهم باليقين كما قال أيضًا : كفى باليقين غنى . وقد يغنيهم بغض البصر وتحصين الفرج كما قال : من استطاع الباءة فليتزوّج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ثم إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في الخبر الثاني : من وعد الغني في التفرق وذلك أيضًا في قوله عزّ وجلّ : ( وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّه كُلاً مِنْ سَعَتِهِ ) النساء : 3 . فقد أجمل وجوه الإغناء كلها في هذا المعنى الآخر أيضًا ، ويزيد عليه الغنية بالعصمة والاستغناء عن المكاسب وعن السؤال والمحاسبة على الاكتساب ، والغنية عن حال النساء وأحكامهن . ثم قال في الأمر الثاني من البيان الثاني : ( فانْكِحوا ما طابَ لَكُمْ مِنْ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) النساء : 3 . فهذا أدون من الأول لأنه علقه باختيارنا إنْ طاب لنا ، ثم رفع فيه الأربع توسعة منه وتفضيلاً لعلمه بعلاج القلوب وطبائع النفوس وتفاوت سكونها وحركاتها ، ووجود كفايتها ومصالحها ثم رحمنا فقال : ( فإنْ خِفْتُمْ ألاّتَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكِتْ أيْمَانُكُمْ ذلك أدْنى ألاَّ تَعُولُوا ) النساء : 3 . فرد إلى الواحدة وهو الحال الأوسط بين الأربع وبين التعزب ، وخير الأمور(2/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
أوسطها وفي قوله : ألاّ تعدلوا ثلاثة أوجه : تعدلوا تجوروا وهو أحسنها وأحبها إلي لأنه يواطئ قوله تعالى : ( فإنْ خِفْتُمْ أن لاّ تَعْدِلُوا ) النساء : 3 ، لأن العدل ضد الجور فعطف عليه فقال : ( ذِلك أدْنى ألاّ تَعُولُوا ) النساء : 3 ، أي تجوروا من العدل . والعرب تقول : عال يعول عولاً إذا جار ، والوجه الثاني : ألاّ تعولوا تفتقروا من العيلة وهي الفقر يقال : عال يعيل عيلة وأعاله إذا افتقر ومنه قوله : ( إن خِفْتمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللّه ) التوبة : 28 ، ومع العيال الفقر لا محالة ، والوجه الثالث : تعولوا تكثر عيالكم فيكون المعنى لذلك أقرب أن لا يكثر من تعولونه ، وحذفت الهاء التي هي اسم العيال وهذا مذهب لبعض أهل الحجاز يرجع إلى قوله : عال الرجل عياله ، يعولهم مثل مانهم يمونهم ومارهم يميرهم وصانهم يصونهم ، فيكون مشتقاً من لفظ العيال والأولان أجود وأشهر واللّه سبحانه ما افترض النكاح ولا العزبة ، كما لم يوجب الأربع من النسوة وافترض صلاح القلب وسلامة الدين وسكون النفس والدخول في الأوامر عند الحاجة إليها . فمن كان صلاحه في التزويج فهو أفضل له ، ومن كان استقامته وسكون نفسه عند الأربع فجائز له طلب السكون وصحة الحال مع القيام بالأحكام ، ومن وقعت كفايته بواحدة فالواحدة أصلح وأفضل لأنها إلى السلامة أقرب ، ومن كان صلاح حاله واستقامة قلبه وسكون نفسه في العزبة فذلك له أسلم ، والإسلام لمثله في زماننا هذا أفضل إذا لهذا يراد النكاح فإن وجد لم يضر فقده . ى السلامة أقرب ، ومن كان صلاح حاله واستقامة قلبه وسكون نفسه في العزبة فذلك له أسلم ، والإسلام لمثله في زماننا هذا أفضل إذا لهذا يراد النكاح فإن وجد لم يضر فقده . ولعمري أنا إذا قلنا إنّ في الدين طريقين : طريق عزيمة وطريق رخصة ، فإنه في النكاح أيضًا لأنه من الدين ، وفي تركه يكون لأجل الدين طريقان : طريق الأقوياء وهم أهل النكاح ، والصبر على أحكامه ، وعلى معاشرة النساء ، وطريق آخر للأقوياء بالصبر عنهن ووجود العصمة منهن والتفرّغ للآخرة وكفى بها شغلاً ، وطريق آخر من وجود الوسوسة وخوف العنت لقوة الطبع وضعف الحال بوجود الاختلاط ، فيبدأ بالنكاح طلبًا للاستقامة والصلاح . وقد كان الثوري رحمه الله تعالى يقول : يا حبذا العزبة والمفتاح . . . ومسكن تخرقه الرياح لا صخب فيه ولا صياح وللّه الأمر من قبل ومن بعد والحمد للّه وحده .(2/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
الفصل السادس والأربعون فيه كتب ذكر دخول الحمام
الأفضل في وقتنا هذا ترك دخول الحمام لكثرة العراة فيه والعجز عن القيام بأحكامه . إلاّ أنّ دخوله مباح ، وقداختلف مواجيد الصحابة في دخوله وكل فيه قدوة وهدى فقال بعضهم : بئس البيت الحمام ، يبدي العورة ويذهب الحياء ، وروي هذا عن ابن عمر رضي اللّه عنه وعن عليّ رضي اللّه عنه معناه . وقال بعضهم : نعم البيت ينفي الدرن ويذكر النار ، وروي هذا عن أبي الدرداء وأبي أيوب . ودخل أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بالشام الحمامات ، فمن كان داخلاً إلى الحمام فلا يدخله لشهوة لعاجل حظ دنياه ولا عابثًا لأجل الهوى لأنه عمل من أعمال العبد ، والعبد مسؤول عنه إن كان محاسباً على جهل أعماله فيقال : لِمَ دخلت ؟ وكيف دخلت ولمن دخلت ؟ كما يقال له : في كل عمل فعله وفي دخول الحمام ثمانية أحكام أربعة فرائض وأربعة نوافل . فأما الفرائض فستر العورة وغض البصر ، وأنْ لا يباشر جسده غير يده وأن يأمر بالمعروف وهو أن يرى عريانًا فيقول له : استتر أو هذا حرام عليك وهذا لا يحل لك ، أو قد نهى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أو حرم دخول الحمام بغير إزار ، فأي هذه الألفاظ قاله سقط عنه ماوراء ذلك من كل شيء يراه من المنكر ، وليس عليه القبول ولا الإجبار على المعروف لأن هذا على الإمام القائم بصالح الدين ، والداعي لرغبة المسلمين بالبطش والقوة والتمكين في الأرض والتسليط ، وهو ساقط عن الرعية بحمد اللّه ومنه ، فأما النوافل الأربع ، فأن يرى الطهارة لأجل الدين والنظافة للعبادة لأن الطهارة من أفضل أمور الآخرة والحمام غاية الطهر ، وأن يعطي صاحب الحمام الأجرة قبل الدخول ، وكذلك يستحب في كل ما يشتريه أو يستعمله خاصة الشيء المجهول مقداره من شرب الماء وأجرة الحجام والذي لا يتقاضى عليه ولا يشترط فيه ، فكأنه يكون غير معلوم . وإذا نظر الحمامي إليه صار معلومًا . والثالثة أن لا يكثر صب الماء عليه من غير حاجة ، ولا يستعمل ما يكفي رجلين وثلاثة سيما من الماء الحار ، فإنّ له موونة ، ولا يستعمل من ذلك إلاّ ما لو رآه الحمامي لم يكره ذلك منه ولم يسوءه ، وما علم أن الحمامي لو رآه يستعمله من الماء الكثير لشق عليه ذلك ، فإنه مكروه له في غيبه .(2/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
والرابعة أنْ يتذكّر النار بحرارة الحمام ولذع مسه وغشيان ظلمته ، لأن الحمام في الظلمة أشبه شيء بجهنم ، الحرارة من تحتك والظلمة من فوقك ، فهذا وصف جهنم نعوذ باللّه منها فليتذكر بقلة صبره على الحمام وعظم كربه فيه حبسه في جهنم ، وإنه لو أقام في الحمام فضل ساعة لضعف روحه حتى يخرج خفوقاً ، ويكون له في الحمام موعظة وعبرة إذا عبر أولي الأبصار . ومواعظ أهل التقوى لا تنقضي ، ولهم في كل شيئ عبرة وموعظة وبكل شيئ تذكرة ، لأن اللّه عزّ وجلّ قد أحياهم حياة طيبة ، وهذه علامة من كان له قلب ومن مقامه المزيد ، ولا بأس أنْ يظهر ذكر اللّه عزّ وجلّ بالتسمية والاستغفار ، ومكروه له قراءة القرآن إلاّ في نفسه سرّاً ولا يسلم على أحد فيه بلفظ السلام . وروينا أنّ رجلاً أسلم على الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما في الحمام فقال : ليس في الحمام سلام ، فإن احتاج أن يتكلم رجل فيه فلا بأس أن يأخذ بيده استئناساً للكلام أو يقول له : عافاك اللّه وأدام سلامتك . ومكروه له كثرة الكلام فيه وأن يتكلم رجل بما لا يعنيه ، ولكن يقول : بسم اللّه ، إذا دخله ويستعيذ بالله من الرجس الخبث الشيطان الرجيم . وإن أعطى الحمامي أجرة ليخليه له أجر على ذلك . قال بشر : ما أعنف رجلاً لا يملك إلاّ درهماً أنّ يعطيه لخلوة الحمامي . وكان بشر يغطي ليخلي له الحمام ، فكان يغلقه عليه من داخل ومن خارج ، فإن وليته جاريته للإطلاء في الحمام إذا كان خاليًا ستيرًا فلا بأس ، قالب بعضهم : رأيت ابن عمر رضي اللّه عنهما في الحمام مستقبلاً بوجهه الحائط ، وقد عصب عينيه بعصابة ومدّ يده على الحائط ، وقيل لإبراهيم الحربي : تصلّي خلف شارب النبيذ قال : نعم قيل : فتصلّي خلف من يدخل الحمام بلا مئزر قال : لا ، ويكره دخول الحمام عند الغروب وبين العشاءين ، فإن تلك الساعتين وقتت انتشار الشياطين ، وليعرف بدخوله نعمة اللّه عزّ وجلّ وتسخيره له من شاء من خلقه بالتعب منهم والكد فيه ، فهذا من لطيف أفضال اللّه عزّ وجلّ على المتنعمين به ، ومن دخل الحمام وقام بهذه الأحكام كان دخوله أفضل لأن له فيه أعمالاً كثيرة ، ودخل الأعمش فرأى عريانًا فغمض عينيه وجعل يتلمس الحيطان ، فقال له العريان : متى كفّ بصرك يا هذا ؟ فقال الأعمش منذ هتك سترك ، وحكى الشافعي عن مالك رضي اللّه عنهما ثلاثة أشياء فيها ، ذلة حضور المجلس بغير محيرة ولا صحيفة ، وركوب السفينة بلا زاد ، ودخول الحمام بغير كرنيب قال : فقلت للشافعي رضي اللّه عنه : لم تذكر المئزر فقال : قد أحسن ترك المئزر فسوق ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : دخول الحمام على النساء حرام وعلى الرجال إلاّ بمئزر ، وقد كان عمر رضي اللّه عنه يقول : الحمام من النعيم الذي أحدثوه ، وفي أحد الوجوه من قوله تعالى : ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعيمِ ) التكاثر : 8 ، قال : الماء الحار في الشتاء ولا بأس أن يباشره رجل بالتدليك خلا موضع العورة ، حدثني بعض إخواني عن بعض أهل العلم أنه دخل معه الحمام قال : فأردت أدلكه(2/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
فأمتنع قال : ثم دخلت معه بعد ذلك فجعلت أدلكه فلم يمتنع فقلت له : قد كنت أمتنعت أول مرة قال : كنت أعلم فيه أثرًا ثم وجدت بعد ذلك أصبغ الراشني أنّ رجلاً دلكه في الحمام فرأى على فخذه مكتوب للّه بعرق في جسده فقال : أما تنظر أما أنه ما كتبه إنسان ، وفي ذلك أيضًا أثر عن يوسف بن أسباط أنه لما حضرته الوفاة أوصى أن يغسله فلان إنسان لم يكن من أصحابه ولا كان معروفاً بفضل ، فقيل له في ذلك فقال : أنه قد كان مرة دلكني في الحمام ولم أكافئه علي ذلك وأنا أعلم أنه يحب أنّ يغسلني فأوصيت إليه فيكون ذلك مكافأة مني له ، ويصلح أن يستدل على ذلك أيضًا بتجويز الغمز للجسد والظهر . فقد روينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نزل منزلاً في بعض أسفاره ، قال بعض أصحابه : فذهبت أمشي أتخلل النخل أو قال الشجر ، فإذا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) نائم على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت له : ما هذا يا رسول اللّه فقال : أما أنّ الناقة تقحمت بي ، وقال بعضهم : لا يحلّ دخول الحمام إلاّ بمئزرين مئزر لوجهه ومئزر لعورته ، ورأى ابن عمر رضي اللّه عنه رجلاً عرياناً فخرج وهو يقول : أعوذ باللّه من الشيطان رأيت شيطانًا ، وقال مالك رضي اللّه عنه : من دخل الحمام وخرج عرياناً فلا شهادة له ، وإن كان قاعدًا عند الحوض ليغسل فلا بأس ، وغسل الرجلين بالماء البارد عند الخروج من الحمام أمان من النقرس ، والتنورد بعده قبل غسل الوجه يشيّب اللحية والخناء بعد ، يقال : إنه أمان من الجذام ويستحبّ أهل الطب البول قائمًا في الحمام بعد الإينار وقبل غسل النورة ، وأمر بعض أطباء العرب بالنورة في كل شهر وأخبر أنه يطفئ المرارة وينقي اللون وأنها تزيد في الجماع وفي السنّة الاستحداد في كل أربعين يومًا لا يستحبّ مجاوزة ذلك ، وبعض زهل الطّب يقول : بولة في الحمام في الشتاء أنفع من شربة دواء ، والبول في المستحم مكروه من جهة السنّة ، وقيل : إنّ البول في المستحم يورث الوسواس ، وبعض أهل الطبّ يقول : نومة في الصيف بعد دخول الحمام تعدل شربة دواء ، ويستحبون أيضًا الغسل بماء بارد بعد نومة في الصيف ، وأنه نافع للجسد ، ويقال : إنّ الإنسان إذا جاوز الأربعين سنة نقص في كل يوم إلاّ اليوم الذي يدخل فيه الحمام ، وإنّ الحمام عندهم في الصيف أنفع منه في الشتاء ، ويكره شرب الماء البارد عند الخروج من الحمام ، وحرم رسول الّه ( صلى الله عليه وسلم ) دخول الحمام عل النساء ، وحرمه على الرجال إلاّ بمئزر فإن دخلت المرأة الحمام ضرورة من علّة أو حيض أو نفاس أو في شتاء فلا بأس ، وقد دخلت عائشة رضي اللّه عنها من سقم كان بها ولينه الرجل امرأته وأهله عن دخول الحمام ، فإن لم يقبلن لم يحلّ له أن يعطيهن أجرة الحمام ، وكان الأمر عليهن ، ولا يحل لمسلمة في الحمام أن يليها للخدمة ذمية ، فقد نهى عمر وأبو عبيدة رضي اللّه عنهما عن ذلك وأكره للرجل أن يعطي امرأته أجرة الحمام فيكون معيناً لها على الإثم فإن نهاها فخالفته كان الإثم عليها .(2/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
الفصل السابع والأربعون فيه ذكر حكم المتسبب للمعاش وما يجب على التاجر من شروط العلم
قال اللّه تعالى : ( وَجَعَلْنا النَّهَارَ مَعَاشًا ) النبأ : 11 ، فذكره فيما عدّد من آياته ونعمته ، وقال عزّ وجلّ : ( وجَعَلنا لَكُمْ فيها مَعَايِشَ قَليلاً ما تَشْكُرونَ ) الأعراف : 1 ، ، فجعل المعاش نعمة طالب بالشكر عليها ، وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : أحلّ ما أكل المرء من كسب يده وكل عمل مبرور ، وفي لفظ آخر : أحلّ ما أكل العبد من كسب يد الصانع إذا نصح ، وفي الخبر : التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصدّيقين والشهداء . وقد جاء في الحديث : من طلب الدنيا حلالاً وتعفّفاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطّفاً على جاره لقي اللّه عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر ، وقد روي أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذات غداة جالسًا مع أصحابه فنظروا إلى شاب ذي جلدة وقوة وقد بكر يسعى فقالوا : ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل اللّه عزّ وجلّ ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل اللّه ، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل اللّه ، وإن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان ، وقال ابن مسعود : إني لأمقت الرجل أراه فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة ، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله : كان الصانع بيده أحبّ إليهم من التاجر ، وكان التاجر أحبّ إليهم من البطالة ، وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق أهو أحبّ إليك أم المتفرغ للعبادة ؟ قال : التاجر الصدوق أحب إليّ لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده وقد خالفه الحسن البصري رضي اللّه عنه في هذا ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : ما من موطن يأتيني فيه الموت أحبّ إليّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري في رحلي وقال أيوب قال لي أبو قلابة : إلزم السوق فإن الغني من العافية يعني الغني عن الناس واللّه أعلم والغني الذي يطاع اللّه تعالى(2/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
به ، وكان يقول بعض السلف : اتّجر وبعْ واشترِ ولو برأس المال يجعل لك من البركة مالاً يجعل لصاحب الزرع ، وقال ابن محيريز وكان من عباد أهل الشام : ما من طعام أملأ به ما بين جنبي بعد غنيمة في سبيل اللّه من فيء المشركين أقيم بها حق اللّه عزّ وجلّ أحبّ إليّ من طعام تاجر صدوق ، قال : وكانوا يعدون الكاسب على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ ويرون فضله على غيره ، وروي فيه أثر أنّ اللّه عز وجلّ يحبّ المؤمن المحترف ، وفي خبر آخر : أنّ اللّه يحبّ العبد يتخذ المهنة يستغني بها عن الناس . وحدثني بعض إخواني عن أبي جعفر الفرغاني قال : كنا يوماً عند الجنيد فجرى ذكر ناس يجلسون في المساجد يتشبهون بالصوفية ، ويقصرون عمّا يجب عليهم من حق الجلوس ، ويعيبون من يدخل السوق ، فقال الجنيد : كم ممن هو في السوق حكمه أن يدخل في المسجد فيأخذ بإذن بعض من هو فيه فيخرجه ويجلس مكانه ، إني لأعرف رجلاً يدخل السوق وورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثون ألف تسبيحة ، قال : فسبق ، وهمّي أنه يعني نفسه ، فإن كان العبد سوقيًّا فليبدأ فليتعلم علم البيع والشراء والأخذ والعطاء ومعاملة الناس في البيوع ومعرفة أبواب الربا ، ليعلم ذلك قبل الوقوع فيه فيجتنب ذلك ويتّقيه ، وليغدِ إلى المفتي فيسأله عن علم حاله كل يوم من وجوه معاملته ، إن لم يكن قد تقدم علمه بذلك ولم يكن عالمًا به في وقت المعاملة ، فليجعل بكوره إلى المفتي قبل غدوه إلى السوق ، فإن لكل عمل علمًا ، وللّه في كل شيء حكم ، فلا يغنيك كبير علم عن علم غيره ، فإن لم تفعل ذلك دخل عليك الربا والبيوع الفاسدة ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يطوف في الأسواق ويضرب بعض التجار بالدرة ويقول : لا يبيع في سوقنا إلاّ من تفقه وإلاّ أكل الربا شاء أو أبى ، ثم لينصرف بعد العلم فيما يدخل فيه فيما أبيح له من تجارة أو صناعة بصدق معاملة وصدق في مبايعة ، ناويًا في ذلك إقامة سنّة وأمراً بمعروف ، ونهياً عن منكر ، وجهادًا في سبيل اللّه ، لأنّ من أخذ الحق وأعطاه وعامل بصدق ونصح فهو معاون على البّر والتقوى وفي جهاد العدو والهوى سيما في زمان يكثر فيه الباطل لأنّ صلاح الدين بصلاح الدنيا وفساده بفسادها لتعلق أحدهما بالأخرى وحاجة كل واحد منهما بصاحبه . وفي الخبر : لا يستقيم عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله تعالى : ( الَّذينَ آمَنوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئكَ لَهمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام : 82 ، من هؤلاء ؟ فقال : من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفّ فرجه وبطنه ، ثم ليَنْو المتصرف في معاشه كفّ نفسه عن المسألة والاستغناء عن الناس وقطع الطمع فيهم ، والتشرف إليهم ، فذلك عبادة إذا نوى نزعه ، ثم ليحتسب السعي على نفسه وأطعمة عياله فهو له صدقة(2/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
وعليه الصدق في القول والنصح في معاملة إخوانه المسلمين لأجل الدين ، ويعتقد سلامة الناس منه نصحًا لهم ورحمة بهم ويعمل في ذلك ويكون أبدًا مقدمًا للدين والتقوى في كل شيء ، فإن انتظمت دنياه بعد ذلك حمد اللّه وكان ذلك ربحًا ورجحانًا ، وإن تكدرت لذلك دنياه وتعذّرت لأجل الدين والتقوى أحواله في أمور الدنيا كان قد أحرز دينه وربحه ، وحفظ رأس ماله من تقواه ، وسلم له ، فهو المعول عليه والحاصل له ، إلاّ أنّ من ربح من الدنيا مثل المال وخسر عشر الدين فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله وهو عند اللّه من الخاسرين ، وقال بعض السلف : أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل ، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل ، وكذلك قال معاذ بن جبل : رضي اللّه عنه في وصيته أنه لا بدّ لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنه سيمّر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاماً ويزول معك حيثما زلت . قد قال اللّه تعالى : ( ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) القصص : 77 ، لا تترك نصيبك في الدنيا من الدنيا للآخرة ، لأنك من ههنا تكتسب الحسنات فتكون هناك في مقام المحسنين ، ففي الخطاب مضمر لدليل الكلام عليه في قوله تعالى : ( وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللّه إليْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ في الأرضِ ) القصص : 77 ، وقد قال بعض العلماء : من دخل السوق ليشتري ويبيع فكان درهمه أحبّ إليه من درهم أخيه لم ينصح المسلمين في المعاملة ، وقال عالم آخر : مَنْ باع أخاه شيئًا بدرهم وهو يصلح له بخمسة دوانيق فإنه لم يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه حتى لا يبيع أخاه شيئاً بدرهم إلاّ وهو يصلح له اشتراؤه به ، فينبغي لهذا المتصرف أن يستوي في قلبه درهمه ودرهم أخيه ورحله ورحل أخيه ، ليعدل فيما يبيعه أو يشتري منه سواء بسواء ، ويكون مراعيًا لموافقة حكم اللّه تعالى الذي ورد به الشرع في الشراء والبيع ، مراعياً للسبب الذي يصل به الدرهم أن يكون السبب معروفاً في العلم ، مباحاً في الحكم ، فيكون متورّعاً في عين الدرهم المعتاض ، لا يكون من خيانة أو سرقة أو فساد أو غصب أو غيلة أو حيلة ، فهذه وجوه الحرام التي تحرم بها المكاسب المباحة ، فإذا كان متجنباً لهذه المعاني لم يشهد أحدها بعينه أو لم يعلمه من عدل فكسبه حينئذ من شبهة ، ولا يكون مع ذلك حلالاً لإمكان دخول أمر هذه الأسباب فيه ، ولأنه على غير يقين معاينة منه لصحة أصله وأصل أصله لقلّة المتقين وذهاب الورعين إلاّ أنه شبهة الحلال . وفي الخبر : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بلبن فقال : من أين لكم هذا ؟ فقيل له : من شاة كذا ، فقال : ومن أين لكم هذه الشاة ؟ فقيل : من وضع كذا ، فشرب منه ثم قال : إنّا معاشر(2/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
الأنبياء أمرنا أن لا نأكل إلاّ طيّباً ولا نعمل إلاّ صالحاً ، وقال اللّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ( يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طيِّبَاتِ ما رَزَقْناكُمْ ) البقرة : 172 ، فسأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أصل الشيء وأصل أصله ولم يسأل عمّا وراء ذلك ، لأنه قد يتعذر ولا يوقف على حقيقته ، ولأنّ أموال التجار والصناع قد اختلطت بأموال الأجناد ، وهم يأخذون ذلك بغير استحاق ، فكأنه من أكل المال بالباطل إذ قد أوقفوا نفوسهم ، وارتبطوا دوابهم في سبيل الهوى ، فصاروا يأخذون العطاء بغير حق ، ولا يملكون ذلك ، ثم ينتشر ذلك في أموال التجار واصناع وهم لا يميزون بين ذلك ولا يرغبون عنه لقلة التقوى وعدم الورع ، فلذلك غلب الحرام لأنّ الحلال إنما هو فرع للتقوى والورع ، إذا كثر المتّقون وظهر الورعون كثر الحلال وظهر ، وإذا قلّوا فشاء الحرام وانتشر فصار الحلال مستهلكاً غامضاً في الحرام لغربة الورعين وخفية المتّقين ، وإنما كان الحلال في القرن الأول موجوداً لوجود السلف الصالح ، وكان الناس ورعين وكانوا لا يأخذون ما ليس لهم بحق فكانوا متّقين وكانوا يتركون بعض حقّهم خشية دخول الشبهة عليهم ، فمن أجل ذلك كان الحلال كثيراً ، وقد حكى عن بعض فقهاء العراق أعرف أنه قال : لا أقبل شهادة شحيح ، قيل : ولِمَ ؟ قال : الشحّ يحمله على استيفاء حقّه ، وفي استيفاء حقّه أخذه ما ليس له ، ثم قال : حدثني عطاء عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أته قال : ما استقصى كريم قط ، وتلا قوله عزّ وجلّ : ( عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَنْ بعْضِ ) التحريم : 3 ، وفي الخبر : كما نترك سبعين باباً من الحلال مخافة باب واحد من الحرام ، وقال الحسن : أدركت من مضي يعرض على أحدهم المال الحلال فيقول : لا حاجة لي به ، أخاف أن يفسد على قلبي ، قد كانت الأئمة عدولاً فكانت الجنود معاونين لهم على التقوى يأخذون عطاءهم بحق . وفي الحديث عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في ذكر الخيل : اختصرناه ، قال : والخيل لرجل وزر ، وهو الذي يربطها فخراً ورياء وسمعة ونواء على الإسلام ، فما أكلت وشربت في أجوافها حتى أبوالها وأرواثها وآثارها أوزار في ميزانه يوم القيامة ، وقد قال اللّه تعالى : ( احْشُروا الَّذينَ ظَلَمُوا وأَزْواجَهُمْ ) الصافات : 22 ، يعني وأشباههم وأعوانهم ، فقال الثوري رحمه اللّه : يقال يوم القيامة ليقم ولاة السوء وأعوانهم ، قال : فمن لاق لهم دواة أو بَرى لهم قلماً أو حمل لهم لبداً أو أعانهم على أمر فهو معهم ، وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال : إني خياط وربما خطت شيئاً لبعض وكلاء السلطان فماذا ترى أكون من أعوان الظلمة ؟ قال : لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر والخيوط ، وكان بعض العلماء قد جلس في ديوان بعض الأمراء فكتب الأمير كتاباً فقال : ناولني الطين أختم به الكتاب ، فامتنع فقال : ناولني الكتاب الذي كتبته حتى أنظر فيه ، فلم(2/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
يناوله ، وفعل مثل ذلك سفيان الثوري مع المهدي فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري فقال له : يا أبا عبد اللّه أعطني الدواة حتى أكتب ، فقال : أخبرني بأيّ شيء تكتب ، فإن كان حقّاً أعطيتك وإلاّ كنت عوناً على الظلم ، وكان بمكة أمير قد أمر رجلاً أن يقوم له على الصناع في عمارة ثغر من الثغور قال : فوقع في نفسي من ذلك شيء ، فسألت سفيان عن ذلك فقال : لا تفعلنّ ولا تكنّ عوناً لهم على قليل ولا كثير ، فقلت : يا أبا عبد اللّه سور في سبيل اللّه تعالى للمسلمين فقال : نعم ولكن أقل ما يدخل عليك أن تحبّ بقاءهم ليوفونك أجرتك ، فتكون قد أحببت من بغض اللّه عزّ وجلّ ، وقد جاء في الخبر : من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبَّ أنْ يعصي اللّه عزّ وجلّ . وفي الحديث : أنّ اللّه ليغضب إذا مدح الفاسق ، وفي خبر آخر : من أكرم فاسقاً فكأنما أعان على هدم الإسلام ، وليجتنب هذا السوقي البيوع الفاسدة مثل بيع الغرر والخطر والمجهول ، ومثل بيعتين في بيعة ، أحدهما مصارفة أو مشارطة ، ولا يبيع ما ليس عنده ولا ما اشتراه حتى يقبضه ، ولا يبيع الدين بالدين ولا يتبايعان الثمار حتى يبدو صلاحها ويؤمن عليها العاهة ، ومن النخيل حتى تحمّر أو تصفرّ ، ومن العنب حتى يلين أو يسود ، ونهى ، رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن النجش ، وهو أن يعطي بسلعة شيئاً وهو لا يريد أن يشتريها بشئ ليغرّ غيره بها ، ولا يبتاع شيئاً من ذهب وخرز مثل القلادة ونحوها حتى يفصل كل واحد على حدته ، كذلك السنّة ، ولا يتبايعان ما لم يظهر من الحيوان والثمار ، ويجتنب القبالات مسانهة إلاّ شهراً بشهر أو سنة ، فقد كره ذلك ، وليتوقّ كل بيع وشراء أخبر العلم ببطلانه من دخول ربا فيه أو خروج من حكم العلم به ، فإن ذلك كله منقصة للدين ، مخبثة للكسب ، فإن أشكل عليه شيء من هده الأمور لخفائها سأل أهل العلم والفتيا فيأخذ عنهم على مذهب الورعين ورأي المتّقين ، وليحتط لدينه ، ولينظر لنفسه ولا يغمض في أمر آخرته ، فذلك خير له وأحسن توفيقاً ، وليجتنب الصنائع المحدثة من غير المعروفة والمعايش المتبدعة في زماننا هذا ، فإن ذلك بدعة ومكروه إذا لم يكن فيما مضى من السلف ، وكلما كان سبباً للمعصية من آلة وأداة فهو معصية ، فلا يصنعه ولا يبيعه ، فإنه من المعاونة على الإثم والعدوان ، وكلما أخذ من المال على عمل بدعة أو منكر فهو بدعة ومنكر ، وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته ومعصيته ، وأخذ المال على جميع ذلك من أكل المال بالباطل ، ومن أكل الحرام فقد قتل نفسه وقتل أخاه لأنه أطمعه إياه ، قال اللّه تعالى : ( ولا تأكُلُوا أَمْوالُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ ) البقرة : 188 ، وقال تعالى : ( ولا(2/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ ) النساء : 29 ، وليس هذا من سبيل المؤمنين ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُوَلّهِ ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّّمَ ) النساء : 115 ، ولا ينبغي للسوقي أن يشغله معاش الدنيا عن الآخرة ، ولا تقطعه تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة ، ولا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة ، لأنه من الموقنين ، وبيوت اللّه عزّ وجلّ في الأرض هي أسواق للآخرة ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ ) النور : 37 ، وقال اللّه عزّ وجلّ : ( في بُيُوتٍ أذِنَ اللّه أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّح لَهُ فيها بِالغُدُوِّ والآصالِ ) النور : 36 ، رجال ، فليجعل العبد طرفي النهار لخدمة سيده يذكره ويسبحه في بيته بحسن معاملته . وقد كان عمر رضي اللّه عنه يأمر التجار فيقول : اجعلوا أول نهاركم للّه عزّ وجلّ وما سوى ذلك لنفوسكم ، وفي أخبار السلف كانوا يجعلون أول النهار للآخرة وآخره لدنياهم ، ويقال : إنّ الهريسة والرؤوس لم يكن يبيعها في الشتاء إلاّ الصبيان وأهل الذمة لأن الهراسين والرآسين يكونون في المساجد إلى طلوع الشمس ، ويقال إنهم : كانوا يجتمعون في المساجد بعد العصر للذكر والتسبيح حتى يدخل الرجل فيقول : أصلّيتم العصر ؟ يظن أنهم قعود للصلاة ، وإنما كانوا يقعدون للتسبيح إلى غروب الشمس وهذا طريق قد درس ، فمن عمل به فقد كشفه ، وقال بعض العارفين : الناس ثلاثة ، رجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الفائزين ، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الناجين ، ورجل شغله معاشه عن معاده فهو حال الهالكين ، وقال عالم فوقه : من أحبّ اللّه عاش ومن أحبّ الدنيا طاش ، والأحمق يغدو ويروح في لاش ، وكان ابن عمر رضي اللّه عنه إذا دخل السوق يقول : اللهم إني أعود بك من الكفر والفسوق ومن شرّ ما أحاطت به السوق ، اللّهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة وصفقة خاسرة ، ولذكر اللّه عزّ وجلّ في السوق ما لا يجد في سواه فيلعتمد ذكر اللّه تعالى ساعات الغفلة وحين تزاحم الناس في البيع والشراء ، وكان الحسن يقول ذاكراً للّه في السوق : يجيء يوم القيامة وله ضوء كضوء القمر وبرهان كبرهان الشمس ومن استغفر الله في السوق غفر له بعدد أهله . وفي الخبر العام : ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل عن الفارين وكالحي بين الأموات ، وفي الخبر الخاص : من دخل السوق فقال : لا إله إلاّ الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألفي ألف حسنة ، وكان ابن عمر ومحمد بن واسع رضي اللّه عنهم ، يدخلان السوق قاصدين يذكران اللّه عزّ وجلّ طلباً للفضيلة ، وفإن دخلت سوقاً أو كنت فيه فلا يفوتنّك التهليل والذكر فهو عمل وقتك ، ولا تقعدن في السوق لغير ذكر اللّه أو غير معاش ، فقد كره ذلك ، وإذا سمعت التأذين للصلاة فلتأخذ في أمر الصلاة ولا تؤخرها(2/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
عن الجماعة وإلاّ كان فاسقاً عند بعض العلماء ، إلاّ أن يكون في الوقت سعة أو يكون ناوياً للصلاة في جماعة أخرى في مسجد آخر ، فإدراكه لتكبيرة الإحرام في الجماعة أحبّ إليه من جميع ما يربح من الدنيا إلى أنْ يموت ، وفوتها أشدّ عليه من جميع ما يخسر من الدنيا ، هذا إن عقل وأبصر تبينّ له ذلك ، وقد كان السلف من أهل الأسواق إذا سمعوا الأذان ابتدروا المساجد يركعون إلى وقت الإقامة ، وكانت الأسواق تخلو من التجار ، وكان في أوقات الصلاة معايش للصبيان وأهل الذمة ، وكانوا يستأجرونهم التجار بالقراريط والدوانيق يحفظون الحوانيت إلى أوان انصرافهم من المساجد ، وهذه سنّة قد عفت من عمل بها فقد نعشها ، وجاء في تفسير قوله عزّ وجلّ : ( رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزّكاةِ ) النور : 36 ، قيل : كانوا حدادين وخرازين وكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الأشفا فسمع الأذان لم يخرج الأشفا من الغرزة ولم يرفع المطرقة رمى بها وقاموا إلى الصلاة . وروينا عن وهب قال : قال مالك رضي اللّه عنه في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة : يفسخ ذلك البيع ، قيل : عامل ترك القيام إليها وهو حر : قال : يستغفر ربه ، وقال ربيعة : ظلم وأساء وقال مالك : يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة ، وليجتنب الصانع عمل الزخرف من الأشياء وما يكون فيه لهو وزينة من التصاوير والنقوش وتخريم العاج ودقائق النقوش من العاج وتشييد الجص والتزويق بالأصباغ المشهاة ، فإن عمل ذلك مكروه وأخذ الأجرة عليه شبهة ، وقد كان بعض السلف يقول : تخيّروا لأولادكم الصنائع ، وروي عن حذيفة : أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق كل صانع وصنعته ، وقد كانوا يكرهون بيع الطعام وبيع الدقيق ، وقد روي في كراهة بيعها حديث عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي الخبر : أنّ اللّه عزّ وجلّ يحب العبد الحاذق في صنعته ، وفي خبر آخر : أنّ اللّه عزّ وجلّ إذا عمل عبده عملاً أحبّ أنْ يحكمه ، وفي لفظ آخر : أن يتقنه ، وأوصى بعض العارفين رجلاً فقال : لا تسلم ولدك في بيعتين ولا في صنعتين ، بيع الطعام وبيع الأكفان ، فإنما يتمنى الغلاء ويتمنى موت الناس ، والصنعتان أن يكون جزاراً فإنها صنعة تقسي القلب ، أو صوّاغاً فإنه يزخرف الدنيا بالفضة والذهب . وروى عثمان الشحام عن ابن سيرين أنه كره الدلالة ، وسعيد عن قتادة أنه كره أجر الدلال ، وكانت العرب تقول : بعْ الحيوان واشترِ الموتان كأنهم كرهوا ردّ الثمن في الحيوان لما يخافون من تفله واستحبوا شراء الموات وهو ما لا روح فيه ، وقد كانوا يستحبون التجارة في البز ، قال ابن المسيب : ما من تجارة أحبّ إليّ من البزاز إن لم يكن فيه إيمان ، وقد روي خبراً آخر : لو اتّجر أهل الجنة لاتّجروا في البزّ ، ولو اتّجر أهل النار لاتّجروا في الصرف ، وقد كره الحسن وابن سيرين رضي اللّه عنهما التجارة في الصرف ،(2/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
وسئل الحسن عن الصيرفي فقال : الفاسق لا تستظلنّ بظله ولا تصلّين خلفه ، والبستاني والحمّال والملاح وصاحب الحمام والخشاش والمزين وقد كانت هذه الصنائع العشر أعمال الأخيار والأبرار الخرز والتجارة والحمل والخياطة والحذو والقصارة وعمل الخفاف وعمل الحديد وعمل المغازل وصيد البر والبحر والوراقة . وحدثونا عن عبد الوهاب الورّاق قال : قال لي أحمد بن حنبل : ما صنعتك ؟ فقلت : ورّاق ، فقال : كسبك طيب وصنعتك طيبة ولو كنت صانعاً شيئاً بيدي لصنعت صنعتك ، وقال لي : لا تكتب إلاّ مواصفة واستثن الحواش وظهور الأجزاء ، وكان مالك بن دينار ورّاقاً وكان السلف يستطيعون كسبه وبفضلونه ، وكل عمل يتقربّ به إلى اللّه عزّ وجلّ ويكون من أعمال الآخرة ومن البرّ المعروف ، فأخذ الأجر مكروه عليه مثل تعليم القرآن ، وتعليم العلم ، أو مجالس الذكر والصلاة بالناس في رمضان ، وغسل الموتى ، وما كان في هذا المعنى ، لأن هذه تجارات الآخرة ، فلا تأخذ أجرها إلاّ من الآخرة ، ومن أخذها من الدنيا فقد خسر خسراناً مبيناً إذا ربح المحتسبون فيها وأخذوا أجورهم التي صبروا عليها في دار الدنيا ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان بن أبي العاص : واتّخذ مؤذناً لا تأخذ على الأذان أجراً . ورووي عنه في فضل الاحتكار : من جلب طعاماً ما فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به ، وفي لفظ ، آخر : فكأنما أعتق رقبة ، ومن العلماء من كان يجعل الاحتكار في كل مأكول من الحبوب والأدام مثل العدس والباقلا والسمن والعسل والشيرج والجبن والتمر والزيت ، ويكره احتكار جميع ذلك ، وروي نحو هذا عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بإلحَاد بِطُلْم نُذِقْهُ منْ عَذابِ أليمٍ ) الحج : 25 ، قيل : الاحتكار من الظلم ، وحدثونا عن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله : مع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد ، قال : فوافق السعر فيه سعة ، قال له التجار : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً فأخره جمعة فربح فيه أمثاله ، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية ، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي . وحدث شيخنا عابد الشط مظفر بن سهل قال : سمعت غيلان الخياط يقول : اشترى سري السقطي كرّ لوز بستين ديناراً وكتب في رونامجه ثلاثة دنانير ربحه ، فصار اللوز بتسعين ديناراً ، فأتاه الدلاّل فقال له : إنّ ذلك اللوز أريده ، فقال : خذه ، فقال : بكم ؟ قال : بثلاثة وستين ديناراً ، قال له الدلاّل : إنّ اللوز قد صار الكرّ بسبعين ديناراً ، قال له السري : قد عقدت بيني وبين اللّه عقداً لا أحله لست أبيعه إلاّ بثلاث وستين ديناراً ، قال له الدلاّل : وأنا قد عقدت بيني وبين اللّه عقداً لا أحله ، أن لا أغشّ مسلماً ، لست آخذ منك إلاّ(2/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
بسبعين ديناراً ، قال : فلا الدلاّل اشترى منه ولا سري باعه ، وحدثونا عن رجل من التابعين كان بالبصرة له غلام بالسوس فجهز إليه السكر فكتب إليه الغلام : إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة فاشتر السكر قال : فاشترى سكّراً كثيراً ، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفاً ، قال : فانصرف بها إلى منزله فأفكر ليله في الربح فقال : ربحت ثلاثين ألفاً وخسرت نصح رجل من المسلمين ، فلما أصبح غدا إلى الرجل الذي كان اشترى منه السكر فدفع إليه الثلاثين ألفاً فقال : هذه لك بارك اللّه لك فيها ، قال : ومن أين صارت ؟ قال : لما اشتريت منك ؛ السكر لم آتِ الأمر من وجهه ، إنّ غلامي قد كان كتب إليّ أنّ قصب السكّر أصابته آفة فلم أعلمك ذلك ولعلك لو علمت لم تكن تبيعني ، فقال : رحمك اللّه قد أعلمتني الآن ، وقد طيبتها لك ، قال : فرجع إلى منزله فبات تلك الليلة ساهراً أو جعل يتفكر في ذلك ويقول : لم آتِ الأمر من وجهه ولم أنصح مسلماً في بيعه لعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد فقال : عافاك اللّه خذ مالك فهو أصلح لقلبي ، قال : فدفع إليه ثلاثين ألفاً ، وقال سليمان التميمي : لقد ترك محمد بن سيرين أربعين ألف درهم من شيء حاك في صدره ، لم تختلف العلماء أن ليس به بأس . ويقال : إنّ هذا كان سبب غلبة الدين عليه ، ثم ليتّق البائع مدح السلعة وتنفيقها من خرف الكلام وليحذر المشتري ذمها وعيبها بما ليس فيها للخداع ، وأما الإيمان على ذلك فهو معصية وممحقة للكسب ، وقد كان السلف يشددون في ذلك ، قال أبو ذر : كنا نتحدث أنّ من نفر لا ينظر اللّه إليهم ، التاجر الفاجر ، وكنا نعد من الفجور أن يمدح السلعة بما ليس فيها ، قال يونس بن عبيد : وكان خزازاً فجاءه رجل يطلب ثوب خز ، فأمر غلامه أن يخرج رزمة الخز ، فلما فتحها قال الغلام : أسأل الله الجنة ، فقال شدّ الرزمة ، ولم يبع منها شيئاً خشية أن يكون قد مدح ، ويقال : إنه كانت عنده حلل على ضربين أثمان ضرب منها أربعمائة كل حلة ، وأثمان الآخر مائتان ، فذهب إلى الصلاة وخلف ابن أخيه ليبيع فجاءه أعرابي يطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها منه ومشى بها هي على يده ينظر إليها خارجاً من السوق فاستقبله يونس بن عبيد خارجاً من المسجد فعرف حلته فقال بكم أخذت هذه الحلة ؟ فقال : بأربعمائة ، فقال : لا تسوي إنما قيمتها مائتان فقال : يا ذا الرجل إنّ هذه تساوي ببلدنا خمسمائة درهم ، فقال له يونس : إنّ النصح في الدين خير من الدنيا كلها ثم أخذ بيده فرده إلى ابن أخيه فجعل يخاصمه ويقول : أما اتقيت اللّه ؟ أما أستحيت أن تربح مثل الثمن وتترك النصح لعامة المسلمين ؟ فقال : واللّه ما أخذه إلاّ عن تراضي ، فقال : وإن رضي ألا رضيت له ما رضيت لنفسك ، ثم ردّ على الأعرابي مائتي درهم ، وقد فعل مثل ذلك محمد بن المنكدر وكانت عنده شقاق جنابية وبصرية أثمان بعضها خمسة خمسة ، وأثمان بعضها عشرة عشرة ، فخلفه غلامه في الحانوت فغلط فباع أعرابيّاً(2/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
شقة من الخمسات بعشرة ، فجاء ابن المنكدر فتفقد الشقاق فعرف غلطه فقال : ويلك أهلكتنا ، اذهب فاطلب الأعرابي في الأسواق ، فلم يزل يطلبه يومه أجمع حتى وجده ، فقال له ابن المنكدر : يا هذا إنّ الغلام غلط فباعك ما يسوى خمسة بعشرة ، فقال : يا هذا قد رضيت ، فقال : وإن رضيت لنفسك فإنّا لا نرضى لك إلاّ ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال ، إما أن تأخذ شقة من العشرات بدراهك وإما أن نرد عليك خمسة ، وإما أن ترد علينا شقتنا وتأخذ دراهمك ، فقال : أعطني خمسة ، قال : فأعطاه من دراهمه خمسة فانصرف الأعرابي فجعل يسأل عنه فيقول : من هذا الشيخ ؟ فقيل : هذا محمد بن المنكدر فقال : لا إلّ إلاّ اللّه هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا . وقد سئل بعض العلماء عن الورع في المبايعة فقال : لا يصحّ الورع في البيع إلاّ بحقيقة النصح ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : إذا بعته شيئاً بدرهم نظرت فإن صلح لك أن تشتريه بدرهم فقد نصحته في البيع ، وإن كان يصلح لك بخمسة دوانيق وقد بعته بدرهم فإنك إن لم ترضَ له ما ترضى لنفسك فقد ذهب النصح قال : فإذا عدم النصح ذهب الورع . ويقال : إنَّ البائع يوقف يوم القيامة مع كل رجل كان باعه شيئاً وقفة ويحاسب عن كل واحد محاسبة حتى عدد مَنْ عامله ومَنْ اشترى منه في الدنيا ، وذكر بعضهم قال : رأيت بعض التجار في النوم فقلت : ما فعل اللّه بك ؟ فقال : نشر عليّ خمسين ألف صحيفة ، فقلت : هذه كلّها ذنوب ، فقال : هذه معاملات الناس عدد ما كنت عاملته في الدنيا لكل إنسان صحيفة مفردة فيما بينك وبينه من أول معاملته إلى آخرها ، فإن كان البائع ذا ميزان فليرجح في الوزن إذا باع وأعطاه ولينقص نفسه إذا أخذ سيما إذا كان ذا ميزانين كان الأمر عليه أشد . وكان بعضهم يقول : ألا أشتري الويل من الله بحبة ؟ فكان إذا أخذ نقص نفسه بحبة وإذا أعطى زاد غيره حبة ، لقوله عزّ وجلّ : ( وَيْلٌ للمُطَفِّفينَ ) المطففين : 1 ، يعني الذين رضوا بالتطفيف بالحبة والحبتين فباعوا بذلك جنة عرضها السموات والأرض لجهلهم بأمر اللّه تعالى وقلة يقينهم بالآخرة إذا اشتروا الويل بطوبى ، ويقال : إنّ هذه المظالم لا ترد أبداً ولا تصحّ التوبة منها لتعذر معرفة أصحابها . وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه اشترى شيئاً فلما وزن ثمنه قال للوزان : زن وأرجح ، ونظر الفضيل بن عياض رحمه اللّه إلى ابنه عليّ وهو يغسل كحلاً من دينار أراد أن يصرفه فجعل ينقيه ويغسله من كحله ، فقال له : يا بني فعلك هذا أفضل من عشرين حجة ، وقال بعض أهل السلف : عجباً للتاجر والبائع كيف ينجو يزن ويحلف بالنهار وينام بالليل ، وقال سليمان عليه السلام : كما تدخل الحية بين الحجرين كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين . وحدثت أنّ بعض السلف صلّى على مخنث قد كان يجمع بين النساء والرجال وغير(2/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
ذلك ، فقيل له : إنه قد كان فاسقاً وكان كذا وكذا ، فسكت ، فأعاد عليه القائل فسكت ، قال فمه كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين يأخذ بأحدهما ويعطي بالأخرى ، هذا على التغليظ والوعظ ، أراد أنّ التطفيف مظالم بين الخلق وأنّ الفسق ظلم العبد لنفسه وبين مظالم العباد وظلم العبد لنفسه بون كبير من قبل أنّ الخلق فقراء جهلة نيام فيستوفون حقوقهم لحاجتهم إليها واللّه عزّ وجلّ عالم كريم غني فيسمح بحقه ، ولا ينبغي للمشتري أن يسأل البائع الرجحان إلاّ الله عزّ وجلّ قال : ( وَأَقيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ ) الرحمن : 9 ، أي بالعدل ، وهو السواء ، وهو استواء اللسان في البكرة لا مائلاً إلى إحدى الكفتين ، وفي قراءة عبد اللّه : ولا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط باللسان ولا تخسروا الميزان فهذا مفسر في هذا الحرف ومكروه المعاملة بالمزيفة ، ولا يصلح بدرهم تكون الفضة فيه مجهولة أو مستهلكة ولا بما لا تعرف قيمته وما يختلط بالفضة من غيرها فلا تمتاز منه ، فقد كان بعض السلف يشدد في ذلك ويحرمه منهم الثوري والفضيل بن عياض ووهب ابن الورد وابن المبارك وبشر بن الحارث والمعافى بن عمران رضي اللّه عنهم ، ويقال : إنّ كل قطعة من المزيفة ينفقها صاحبها يجدها ملصقة في صحيفته بعينها وصورتها مكتوب تحتها ألف سيّئة ، خمسة آلاف سّيئة على قدر وزنها ، ووزن ذرة منها سيّئة ، والذرة نقطة من هباء شعاع الشمس في الضوء . حدثني بعض العلماء عن بعض الغزاة في سبيل اللّه عزّ وجلّ قال : حملت على فرسي لأتناول بعض العلوج فقصر فرسي فرجعت ، ثم دنا مني العلج فحملت عليه ثانية لأتناوله فقصر فرسي ، وحملت عليه ثالثة وقد قرب مني فنقر بي فرسي ، ولم أكن أعتاد ذلك منه : فرجعت حزيناً ، فجلست إلى جنب فسطاطي منكراً للذي فاتني من أخذ العلج ، ولما اختلف عليّ من خلق فرسي قال : فوضعت رأسي على عمود الفسطاط فنمت وفرسي قائم بين يدي ، فرأيت في النوم كأنّ الفرس يخاطبني ويقول لي : باللّه عليك أردت أن تأخذ عليّ العلج ثلاث مرات ، وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً ؟ لا يكون هذا أبداً ، قال : فانتبهت فزعاً فذهبت إلى العلاّف فقلت له : أخرج إليّ الدراهم التي اشتريت بها منك بالأمس العلف ، قال : فأخرجها إليّ ، فأخذت منها الدرهم الزائف فقلت : إني كنت قد جوزت عليك هذا الدرهم بالأمس ، قال : فأبدلته له وانصرفت ، وقال عبد الوهاب : سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال : سألت المعافى عنها فقال سألت الثوري عنها فقال حرام . وحدثنا عن أبي داود قال : سمعت أحمد أنكر التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة ، وقد كان بعض علمائنا يقول : إنفاق درهم مزيف أشد من سرقة مائة درهم ، قال : لأن سرقة مائة درهم معصية واحدة منقضية ، وإنفاق دانق مزيف بدعة أحدثها في الدين ، وإظهار سنّة سيّئة يعمل بها بعده ، وإفساد لمال المسلمين ، فيكون عليه وزره إلى مائة سنة ،(2/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
فأكثر ما بقي ذلك الدرهم يدور في أيدي المسلمين ويكون عليه ، ثم أفسد ونقص من أموال المسلمين إلى آخر فنائه وانقراضه ، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه ، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه بعده مائة سنة ومائتي سنة يعذّب بها في قبره ، ويسأل عنها إلى آخر انقراضها ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُم ) يس : 12 ، ما قدموا ما عملوا ، وآثارهم ما سنّوه بعدهم فعمل به وقال في وصفه : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخّر ، قيل : بما قدم من عمل وما أخّر من سنّة عمل بها بعده ، وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : من سنّ سنّة سيّئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ، ومثل وزر من علم بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً ، وإنفاق الدرهم الرديء على من يعرف النقد أشد وأعلظ ، وهو على من لا يعرف أسهل ، فيكون به أعذر لأن هذا لا يتعمد الغش والآخر يتعمده ويقصده ، فإنما كان المسلمون يتعلمون جودة النقد لأجل إخوانهم المسلمين لئلا يغشوهم بالرديء ، وإلاّ فإنّ تعلّم النقد بلاء وإثم على صاحبه لأنّه علم علمه ولم يعلمبه ، فهو يسأل عن علمه ، ومن ردّت عليه قطعة فلينفقها ولا يجوزها على بيع آخر ، ويحتسب بذلك الثواب من اللّه عزّ وجلّ ، فله بذلك من الأجر بوزن كل ذرة منها حسنة ، وله في طرحها أعمال كثيرة من الصوم والصلاة ، فإن كان في القطعة تجوّز نقد ينصرف مثلها فأراد أن يشتري بها شيئاً فليعلم البائع الثاني أنها قد ردّت عليه ، فإن أخذها على بصيرة وعن سماحة فلا بأس ، فإن لم يعلمه فإنه لم ينصحه وربما كان على غير بصيرة بالنقد ، فقد روي عن عمر رضي اللّه عنه : من زافت عليه دراهمه فليضعها في كفه ولينادِ عليها في السوق من يبيعها سحق ثوب بدرهم زائف ، وهذا إذا كانت زائفة على وجهها كالصفر والرصاص كان لها قيمة مثلها ، وفي قول ابن عمر رضي الله عنه لنافع : لو حفظت عني كما يحفظ عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهم لكان أحبّ إليّ من أن يكون لي درهم زائف ، قيل له : أفلا جعلته جيداً ؟ قال : كذلك كان في نفسي . وروينا عن النخعي : إذا كان في الدرهم شيء من الفضة وإن قلّ فلا بأس به ، وحدثت عن أبي داود قال : سألت إسحاق بن راهويه رحمهما اللّه عن إنفاق المزيفة قال : فلا بأس به ، ففيه ترخيص بالإنفاق بالزائف إذا عرف ومن سمح في النقد ، ويجوز في أخذ الرديء طلباً للآجر ، فيما يحتسب ، ثم إذا أخرج ذلك على المسلمين وجوزه عليهم بعد ذلك فقد أثم في سماحته وتشديده حينئذ ، ونقصه في أخذ الجيد أفضل ، وهذا من دقائق الأعمال وباطن الشر في ظاهر الخير ، اللّهم إلاّ أن يأخذ الرديء ثم يلقيه ولا يخرجه إلى أحد ، فإن فعل هذا كان فاضلاً محتسباً محسناً في سماحته وله باحتسابه ذلك مثوبة وأجر ،(2/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
فينبغي للتاجر أن يكثر من الصدقة ليكون فيها كفّارة خطاياه وإيمانه وكذبه ، فقد أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التاجر بالصدقة ، لذلك فينبغي للتاجر والصانع أن يكونا مستعملين لهذه الخصال ، فإنها جامعة له تشتمل على جمل أعمال البرّ ، فليأخذوا أنفسهم بها فإنها من أخلاق المؤمنين وطرائق المتقدمين ، وقد ندبوا إلى جميعها ، منها أن يسمح إذا باع ، ويسمح إذا اشترى ، ويحسن إذا ، قضى ، ويحسن إذا اقتضى ، وليمشِ الرجل بدين غريمه إليه ولا يحوجه إلى اقتضائه فيشق عليه ، وليصبر صاحب الدين على أخيه ويحسن تقاضيه ، ويحسن له النظرة ويؤخر حقه إلى ميسرته ، وليغتنم دعاء رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لهم على ذلك فينافسوا في مدحه لمن فعل ذلك ، فقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إسمح يسمح لك ، وقال : خير الناس أحسنهم قضاء ، وقال : خذ حقك في عفاف وافياً كان أو غير وافٍ يحاسبك اللّه حساباً يسيراً ، وقال : رحم اللّه عبداً سمح البيع سمح الشراء حسن القضاء حسن الاقتضاء ، وقال : من مشى إلى غريمه بحقه أظلته الملائكة ، وقال : من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه اللّه حساباً يسيراً ، وفي خبر آخر : أظله اللّه في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله ، وذكر عليه السلام رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يجد له حسنة فقيل له : هل عملت خيراً قط ؟ فقال : لا ، إلاّ إني كنت رجلاً أداين الناس وأقول لغلماني سامحوا الموسر وانظروا المعسر ، وفي لفظ آخر : وتجاوزوا عن المعسر ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( نحن أحق بذلك منك فغفر له ) وفي خبر آخر : من أقرض ديناً إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله فإذا حلّ الأجل فانظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة ، وفي حديث : من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكّل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه ، وكان جماعة من السلف يدانون وهم واجدون لأجل هذا الخبر ، وكان جماعة لا يحبون أن يقضيهم غرماؤهم دينهم لأجل ذلك الخبر الأوّل إذ له بكل يوم تأخر قضاء صدقة . وفي الحديث : رأيت على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ، قيل : معناه لأن الصدقة تقع في يد محتاج وغيره ، والقرض لا يقع إلاّ في يد محتاج مضطر إليه ، ونظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى رجل يلازم رجلاً بدين عليه فأومأ إلى صاحب الدين بيده : ضع الشطر ففعل ، فقال للمديون : قم فأعطِ ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أدان ديناً إلى أجل فجاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ولم يتفق عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجعل الرجل يكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويشدد عليه الكلام فهم به أصحابه فقال : دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ، واستحبّ أن تكون أكثر معاونة الإنسان بين البائعتين مع المشتري منهم ، واستحب أيضاً أن يكون عونه بين المتداينين مع الذي له الدين ، إلاّ أن يعتدي من له الدين أو يعتدي المشتري فيكون حينئذ على المشتري ، وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : المستبان بالسّئة ربا والمستبان ما قالا ، فعلى المعتدي منهما ما لم يعتد المظلوم ،(2/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
ويسير المغابنة في التجارات جائز ، فإن موضوع التجارة على الغبن إذا كان عن تراضٍ ، فإذا تفاوتت القيمة وعلم الغبن فمكروه ، وقد يروى في حديث أنّ غبن المستغفل حرام ، وفي حديث : فيه مقال المغبون لا محمود ولا مأجور ، هذا واللّه أعلم إذا تغابن وهو يعلم فيخسر نفسه حقّه وحمل غيره على ظلمه ، وكان إياس بن معاوية قاضي البصرة من علماء الزمان ومن عقلاء التابعين وكانت لأبيه صحبة كان يقول : لست بخب والخب لا يغبن يعني محمد بن سيرين ، ولكن يغبن الحسين ومعاوية بن قرة ، وكان الزبير بن عديّ يقول : أدركت ثمانية عشر من أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ما منهم رجل يحسن يشتري لحماً بدرهم . وقد روي أنّ الحسن باع بغلاً له بأربعمائة درهم ، فلما استوجب المال قال له المشتري : اسمح يا أبا سعيد ، قال : قد أسقطت عنك مائة قال له المشتري : فأحسن يا أبا سعيد ، قال : قد وهبت له مائة أخرى فنقص من حقه مائتي درهم ، وفي رواية أخرى قال : أحسن ، قال : وهبت لك مائتي درهم ، فقيل له : يا أبا سعيد هذا نصف الثمن ، فقال : هكذا يكون الإحسان وإلاّ فلا ، وقد كان الحسن والحسين رضي اللّه عنهما وغيرهما من خيا رالسلف يستقصون في الاشتراء ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال فقيل لبعضهم : تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ولا تبالي ، فقال قائلهم : إنّ الواهب يعطي فضله وإن المغبون يغبن عقله ، وقال آخر : إنما أغبن وبصيرتي ، أو قال : معرفتي ، ولا أمكن الغابن من ذلك ، وإذا وهبت فإنما أعطى للّه عزّ وجلّ فلا استكثر له شيئاً والأخبار في هذه المعاني تكثر والفضائل فيها تطول ، ولم نقصد جمع ذلك ، فقد ذكرنا جملة وهذا كله داخل في البرّ والتقوى ومن العدل والإحسان ، ومن تطوع الخير وفعل المعروف فقد أمر اللّه بذلك في مواضع من كتابه ، وينبغي أن يستعمل النصح في البيع والشراء وفي الصنعة ويستوي عملهما في المبيع والمشترى والمصنوع ويفطن كل واحد منهما صاحبه بعيب إن كان في السلعة وينقص إن كان في الصنعةإن لم يفطن المشتري لذلك والمستعمل ليتكافأ العلمان ويثني كل واحد منهما على صاحبه بإحسان ، وفي الخبر : البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما وإذا كذبا وكتما أنزعت بيعهما ، وفي حديث آخر : يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ، فإذا تخاونا رفع يده عنهما ، ولما بايع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جريراً ، على الإسلام ذهب لينصرف جذب ثوبه ، واشترط عليه النصح لكل مسلم ، قال : فكان جرير إذا أقام السلعة ليبيعها بصر عيوبها ثم أخبر : فقال : إنّ شئت فخذ وإن شئت فاترك ، فقلنا له : رحمك اللّه ، إنك إذا قلت هذا لم ينفذ لك بيع ، فقال : إنما بايعنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على النصيحة لأهل الإسلام ، وكان واثلة بن الأسقع واقفاً بالناس في الكوفة فباع رجل ناقة بثلاثمائة درهم وغفل واثلة ، وقد ذهب الرجل بالناقة(2/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
فسعى وراءه وجعل يصوت به حتى رجع ، وقال : يا هذا أَللحم اشتريت هذه الناقة أمْ للظهر ؟ فقال : بل للظهر ، فقال : فإن بحقها نقناً قد رأيته وإنها لا تتابع السير عليه ، قال : فردّها ، فنقصه البائع مائة درهم ، فقال لواثلة : رحمك اللّه أفسدت عليّ بيعي ، فقال : إنا بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يحلّ لأحد يبيع شيئاً إلاّ يبين ما فيه ولايحلّ لمن يعلم ذلك إلاّ يبينه ، فانظر رحمك اللّه إلى النصح للمسلمين الذي يتعذر فعله علي كثير من المسلمين ، إنما جعله رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من شرط صحة الإسلام وكان يبايع عليه ، إلاّ إنه جعله من فضائل الدين ، ولا نهاية لقرب المتّقين ، لأنه قال : الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثاً ، ثم سوّى بين طبقات الناس فيه فقال للّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم . وقد روي في خبر مشهور : لا تزال لا إله إلاّ اللّه تدفع عن الخلق سخط اللّه ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم ، وفي خبر آخر : ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم بسلامة دينهم ، فإذا فعلوا ذلك وقالوا : لا إله إلاّ اللّه ، قال اللّه سبحانه : كذبتم لستم بها صادقين وفي لفظ آخر : ردّت إليهم ، في خبر : كأنه مفسر لحديث مجمل : من قال لا إله إلاّ اللهه مخلصاً دخل الجنة ، قيل : وما إخلاصها ؟ قال : أن تحرزه عمّا يحرم اللّه ، وخبر مشهور : ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه ، وقد روينا عن بعض التابعين : لو دخلت هذا الجامع وهو غاص بأهله فقيل له : من خير هؤلاء ؟ لقلت : نصحهم لهم ، فإذا قالوا هذا قلت : هو شرهم ، والغش في البيوع والصنائع محرم على المسلمين ، ومن كثر ذلك منه فهو فاسق ، ومن الغش أن ينشر على المشتري أجود الطرفين من المبيع ، أو يظهر من المبيع أجود الثوبين ، أو يكشف من الصنعة أحسن الوجهين ، روي أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرّ برجل يبيع طعاماً فأعجبه ظاهره فأدخل يده فرأى بللاً فقال : ما هذا ؟ فقال : أصابته السماء ، فقال : هلاّ جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس مني . وفي حديث عبد اللّه بن أبي ربيعة : أنه مرّ على طعام مصير فارتاب منه فأدخل يده فإذا طعام ممطور ، فقال : ما هذا ؟ فقال : هذا واللّه طعام واحد يا رسول اللّه ، فقال : هلاّ جعلت هذا وحده حتى يأتوك فيشترون شيئاً يعرفونه مَنْ غشّنا فليس منا ، وحدثني بعض إخواننا أنّ رجلاً حذاءً سأل : فكيف أسلم في بيع النعال ؟ فقال : استجد الأوّل وليكونوا سواء واجعل الوجهين شيئاً واحداً لا يفضل اليمين وجود الحشو ، وقارب بين الخرز ولا تطبق أحد النعلين على الأخرى ، فينبغي للبائع والصانع أن يظهرا من البيع والمصنوع أردأ ما فيه وأرذله ، ليقف المشتري والصانع على عيوبه ، ويكونا على بصيرة من باطنه ، وباع ابن سيرين شاة له فقال للمشتري : أبرأ إليك من عيب فيها قال : وما هو : قال : تقلب العلف برجلها ، وباع(2/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
الحسن بن صالح جارية فقال للمشتري إنها قد تنخمت مرة عندنا دماً ، ويبين دقائق الإعلام والبيان في ذلك مما لا يعلمه المشتري أو المستعمل ، فهو من النصح والصدق ، وذلك يكون عن التقوى والورع في البياعات والإجارات ويكون الكسب عن ذلك أحلّ وأطيب فليجتنب المسلم محرم ذلك كله وكل مكروه ، فهذه سيرة السلف وطريقة صالحي الخلف ، وأستحب له أن يتوخى في الشراء والبيع ، ويتحرى أهل التقوى والدين ، ويسأل عمن يريد أن يبايعه ويشاريه وأكره له معاملة من لا يرغب عن الحرام أو من الغالب على ماله الشبهات . وحدثت عن محمد بن شيبة أخت ابن المبارك قال : كتب غلام ابن المبارك إليه : أنّا نبايع أقوماً يبايعون السلطان ، فكتب إليه ابن المبارك إذا كان الرجل يبايع السلطان وغيره فبايعه ، وإذا قضاك شيئاً فاقبض منه إلاّ أن يقضيك شيئاً تعرفه بعينه حراماً فلا تأخذه وإذا كان لا يبايع إلاّ السلطان فلا تبايعه . وحدثنا عن بعض الشيوخ عن شيخ له من الخلف الصالح قال : قال أتى على الناس زمان كان الرجل يأتي إلى مشيخة الأسواق فيقول : من ترون لي أن أعامل من الناس من أهل الصدق والوفاء ؟ فيقال له : عامل من شئت ، ثم أتى عليهم وقت آخر فكان الرجل يقول : ترون لي أن أعامل من الناس ؟ فيقال : عامل من شئت إلاّ فلاناً وفلاناً قال : ونحن في زمن إذا قيل لنا : من نعامل من الناس ؟ فيقال : عامل فلان بن فلان وأخشى أن يأتي على الناس زمان يذهب فلان بن فلان أيضاً ، ولا يحلف ولا يكذب ولا يخلف موعداً ، فإنّ اليمين الكاذبة ممحقة للكسب ، وقد قيل : ويل للتاجر من يقول : لا واللّه ، وبلى واللّه ، وويل للصانع من اليوم وغد وبعد غد ، أبو عمرو الشيباني عن أبي هريرة قال : قال ر سول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة ، عبد متكبر ومنّان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه ، ولا يمدح إذا باع أو صنع صنعة ولا يذم إذا اشترى أو استعمل صانعاً ، فإنّ هذا لا يزيد في رزقه ولا ينقص منه تركه ، وهذا من اليقين في الرزق في هذا الباب ، وفعله يزيد في الذنوب فينقص من الدين ، وعلى الصانع أنْ يبلغ غاية النصح في صنعته لمستعمله لأنه أعرف بصلاح صنعته وفسادها وبسرعة فناء الصنعة وكثرة بقائها ، فينبغي أن يتقن نهاية علم الصانع بصلاح الصنعة وحسن بقائها مع نهاية بغية مستعمله من تجويدها وأحكامها ، ويتّقي من فساد يسرع إلى فنائها ما لا يفطن له مستعمله ، فإذا فعل الصانع والتاجر ذلك كانا قد عملا بعملهما وسلما من المطالبة والمساءلة عنه ، وإلاّ فهما يسألان فيقال لهما : ماذا عملتم فيما علمتم ؟ إذ كانوا على علم من التجارة والصناعة وبهذه الأشياء عمارة المملكة ، فلا بدّ أن يُسألا عن ذلك كما يسأل من كان على علم من الدين والإيمان ، لأن لهم في علوم العقل والتمييز من أبواب الدنيا(2/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
أحوالاً أيضاً ومقامات من حيث كان عليهم في ذلك تكليف وعبادات ، ويقال : إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكّوا في صلاحه ، وشهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بشهادة فقال : ائتني بمن يعرفك ، فأتاه رجل فأثنى عليه خيراً . فقال له عمر رضي اللّه عنه : أنت جاره الأدنى الذي تعرف مدخله ومخرجه قال : لا قال : فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال : لا قال : فعاملته بالدينار والدرهم الذي يتبين به ورع الرجل قال : لا قال : أظنك رأيته قائماً في المسجد يصلي يخفض رأسه طوراً ويرفعه له زمرة بالقرآن قال : نعم ، قال : اذهب فلست تعرفه فقال مرة : أنت القائل ما لا تعلم ثم قال للرجل : اذهب فائتني بمن يعرفك ، وقد كال من سيرة السوقة فيما سلف أنه كان للبائع دفتران للحساب أحدهما ترجمته مجهول ، فيه أسماء من لا يعرفه من الفقراء الضعفاء ، وذلك أنّ المسكين والضعيف كان يرى المأكول فيشتهيه أو يحتاج إليه ولا يمكنه أنْ يشتريه فيقول للبائع : أحتاج إلى خمسة أرطال من هذا أو عشرة وليس عندي ثمنه فيقول : خذ إلى ميسرة فإذا رزقت فاقضِ ، ويكتب اسمه في الدفتر المجهول قال : ولم يكن من يفعل هذا من خيار المسلمين بل كان الخير من الباعة من لا يكتب اسمه في دفتره ولا يجعله ديناً حتماً عليه ولا مظلمة عنده ، ولكن يقول : خذ حاجتك مما تريد فإن وجدت فاقضني وإن لم تجد فأنت في حل ، لا تضيقن قلبك لذلك ، وهذا طريق قد مات فمن قام به فقد أحياه فكان مثل هؤلاء في المتقدمين أكثر من أنْ يسعهم كتاب ، وكان من ينصح دقائق النصح وشدد على نفسه غاية التشديد وسمح لإخوانه نهاية الجود أكثر من ذلك ، وإنما ذكرنا هؤلاء لتنبيه الغافلين على أعمالهم ونكشف بعض ما عفا من طريقهم ، ولم يكن هؤلاء المذكورون من السوقة من خيار الناس كلهم إنما كان الأخيار المسجدية العباد و النساك المنقطعون إلى اللّه الزهاد ، فإذا حصلت كفاية السوقي في بعض يومه فليجعل بقيته لأخيه ، فقد كان بعض السلف منهم من ينصرف من حانوته بعد صلاة الظهر ويجعل نصف يومه لربه ، ومنهم من ينصرف بعد العصر فيكون آخر يومه لآخرته . وكان بعضهم إذا حصلت كفايته في يومه وتأتي قوت عياله في أي وقت من نهاره غلق حانوته وانصرف إلى منزله أو مسجده يتعبد بقية يومه ، وكان منهم من إذا ربح دانقاً أو قيراطاً انصرف قناعة وزهداً أو قلة حرص على الدنيا ، وأعجب من ذلك ما سمعت عن حماد بن سلمة أنه كان يبيع اللحم في سفط بين يديه ، فكان إذا ربح حبتين رفع سفطه وانصرف . وقال إبراهيم بن يسار : قلت لإبراهيم بن أدهم أمر اليوم أعمل في الطين فقال : يا(2/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
ابن يسار إنك طالب ومطلوب يطلبك ما لا تفوته وتطلب ما لا يفوتك ، أما رأيت حريصاً محروماً وضعيفاً مرزوقاً ؟ فقلت : إنّ لي دانقاً عند البقال فقال عزّ عليّ بك تملك دانقاً وتطلب العمل ، وقد كان كثير من الصناع يعمل نصف يومه وثلثي يومه ثم يأخذ ما استحقه من كفايته وينصرف إلى مسجده ، ومنهم من كان يعمل في الأسبوع يوماً أو يومين ويتعبد سائر الأسبوع في خدمة سيده ، وقد كانوا يجعلون أول النهار وآخره للآخرة في تجارة المعاد والمرجع ، ويجعلون وسط النهار لتجارة الدنيا ، وفي الخبر : أنّ الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد من أول النهار ومن آخره فيها خير وذكر كفر اللّه عزّ وجلّ عنه ما بينهما من سيّئ العمل ، وفي الخبر : يلتقي ملائكة الليل والنهار ، عند طلوع الفجر تنفرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار ، وعند صلاة العصر فتنزل ملائكة الليل وتنفرج ملائكة النهار فيقول اللّه عزّ وجلّ : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم يصلون وجئناهم يصلّون فيقول اللّه سبحانه وتعالى : أشهدكم أني قد غفرت لهم ، وقد كان عليّ رضي اللّه عنه يمرّ في سوق الكوفة ومعه الدرة وهو يقول : يا معشر التجار ، خذوا الحق وأعطوا الحق ، تسلموا ولا تردوا قليل الربح فتحرموا أكثر ما منع من حق إلاّ ذهب أضعافه في باطل ، وقيل لعبد الرحمن بن عوف : ما كان سبب يسارك ؟ فقال : ثلاث ، ما رددت ربحاً قط ولا طلب مني حيوان وأخرت بيعه ولا بعت بنسإ ، ويقال إنه باع ألف ناقة فربح عقلها وباع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفي درهم ، ألف أخذها وألف نفقة عليها في يومها ، وقد كان الورعون يكرهون ركوب البحر للتجارة ويقال : من ركب البحر للتجارة فقد استقصى في طلب الرزق ، وفي الخبر لا يركب البحر إلاّ حاجٍ أو غازٍ أو معتمر ، وعن زيد بن وهب عن عمر رضي اللّه عنه كان يقول : ابتاعوا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وثمروها لهم بالأرباح ، وإياكم والحيوان فإنه ربما هلك ، وإياكم ولجج البحر اتجروا لهم فيها مالاً . وكان عمرو بن العاص يقول : لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر خارج فإنّ بها باض الشيطان وفرخ ، وروينا عن معاذ وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم أنّ إبليس قال لولده زلنبور : يا زلنبور سِرْ بكتابيك وأنت صاحب السوق زين الحلف والكذب والخديعة والمكر والخيانة والخلف ، وكنْ مع أول داخل وآخر خارج منها . وروينا عن ابن عمر وابن عباس رضي اللّه عنهم : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينهي أن يدخل السوق أوائل النهار وأن يخرج منها آخر أهلها ، فإذا كان المتسبب في المعاش والمتصرف في الأسواق على هذه الأوصاف المحمودة بهذه الشروط الموصوفة قائماً بحكم حاله(2/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
حافظاً لمقامه فإنه في سبيل من سبل اللّه عزّ وجلّ ، أفعاله وآثاره حسنات وكل ما تسبب به إلى الآخرة ، وكان عوناً له عليها وطريقاً له إليها فهو من الآخرة ، وإذا خالف هذه الشروط ولم يستعمل العلم في أحواله وفارق التقوى في تصرفه ، أو كان يسعى تكاثراً وحرصاً على الدنيا جزوعاً على ما فاته من الدنيا مستقلاً لما في يديه منها ، لا يبالي ما ذهب من دينه إذا سلمت دنياه ولا يبالي من أين اكتسب وفيما أنفق ، فهذا يتقلب في المعاصي والمكاره ظهر البطن متعرضاً للمقت من اللّه عزّ وجلّ ، يعمل في البعد والهرب غير مستعد للموت ولا موقن بالحساب ، أفعاله وآثاره سيّئات وترك التجارة على هذه الأوصاف المكروهة خير لهذا .
ذكر ما روينا من الآثار في البيوع والصنائع وطريقة الورعين من السلف
روينا عن علقمة رضي اللّه تعالى عنه عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : من جلب إلى مصر من أمصار المسلمين فباعه بسعر يومه كان له عند اللّه تعالى أجر شهيد ، ثم قرأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه ، وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه ، وروينا عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : لا يدخل الجنة صاحب مكس ، وروينا عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : من أقال نادماً في بيع أقاله اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ، روينا عن هشام بن عروة ذكر لمعاوية أنّ رجلاً من المعمرين من الجراهمة بالقرب منه فأحضره فقال : ممن الرجل ؟ قال من جرهم قال : وكم تعد من السنين ؟ قال : خمسين وثلاثمائة سنة قال : أخبرني أيّ المال أفضل ؟ قال : عين خدارة في أرض خوارة تعول ولا تعال قال : ثم ماذا ؟ قال : فرس في بطنها بتبعها فرس قال : فقال : الإبل والغنم لا أراك تذكرها قال : إنها لا تصلح لمثلك تصلح لمن يباشرها بنفسه . وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : خير مال المسلم سكة مأبورة أو مهرة مأمورة ، قوله سكة مأبورة يعني النخيل التي قد أبرت فهي طريق كالسكك ، وقوله مهرة مأمورة يعني الخيل النواتج مأمورة كثيرة . ومن هذا قوله تعالى : ( أمَرْنا مُتْرَفِيْهَاْ ) الإسراء : 16 أي أكثرناهم ، يقال : أمر القوم إذا كثروا ، وحدثونا عن عبد اللّه بن أحمد قال : قدمت من عند معاوية بثلاثمائة ألف دينار وليس بيدي منها إلاّ دقيق وغنم وأثاث ، ففزعت من ذلك فلقيت كعب الأحبار فذكرت له ذلك فقال : أين أنت من النخل ، فإنّا نجدها في كتاب اللّه تعالى المطعمات في المحل الراسخات في الوحل وخير المال النخل ، بائعها ممحوق ومبتاعها مرزوق ، مثل من باعها ثم لم يجعل ثمنها في مثلها كمثل رماد صفوان ، اشتدت به الريح في يوم عاصف ففزعت إلى النخل فابتعتها قال : وقال مروان بن الحكم لوهب بن الأسود : ما المروءة ؟ قال : برّ الوالدين وإصلاح المال ،(2/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
حدثت عن عبد القدوس بن عبد السلام قال : كتب إبراهيم ابن أدهم إلى عباد بن كثير : اجعل طوافك وسعيك وحجك كنومة غازٍ في سبيل اللّه عزّ وجلّ ، فكتب عباد إلى إبراهيم : اجعل حرسك ورباطك وغزوك كنومة كاد على عياله من حله ، وروينا عن العباس قال : سمعت أحمد بن ثور يقول : شيع رجل إبراهيم ابن أدهم إلى الصنوبر فقال : يا أبا إسحاق أوصيني قال : أكثر وأوجز قال : ما الحاج المعتمر ولا الغازي المرابط ولا الصائم والقائم بأفضل عندنا ممن أغنى نفسه عن الناس . وروينا عن لقمان قال لابنه : يا بني ، خذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها كل الرفض فتكون عيالاً على الناس . وحدثون عن شاذان قال : سألت الحسن بن حيّ عن شيء من المكاسب فقال : إن نظرت في هذا حرم عليك ماء الفرات ثم قال : طلب الحلال أشد من لقاء الزحف . وروينا عن الهيثم بن جميل قال : قال ابن المبارك : اركب البر والبحر واستغن عن الناس ، قال الهيثم : ربما يبلغني عن الرجل يقع فّي فأذكر استغنائي عنه فيهون ذلك علي . وروينا عن حماد بن زيد قال : قال أيوب : كسب فيه بعض الشيء أحب إليّ من الحاجة إلى الناس . أنشدونا عن ابن أبي الدنيا قال : أنشدني عمر بن عبد اللّه : لنقل الصخر من قلل الجبال . . . أخف عليّ من منن الرجال يقول الناس كسب فيه عار . . . فقلت العار في ذل السؤال حدثنا عن موسى بن طريف قال : ركب إبراهيم بن أدهم البحر فأخذتهم ريح عاصف أشرفوا على الهلكة فقالوا : يا أبا إسحاق ، أما ترى ما نحن فيه من الشدة ؟ قال وهذه شدة ؟ قالوا فأي شيء الشدة ؟ قال الحاجة إلى الناس ، وأنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء : لموت الفتى خير من البخل للغني . . . وللبخل خير من سؤال بخيل فلا تجعلن شيئاً لوجهك قيمة . . . ولا تلق مخلوقاً بوجه ذليل ولا تسألن من كان يسأل مرة . . . فللفقر خير من سؤال سؤل وأنشدنا بعض الأشياخ : إذا عدت الآفات فالبخل شرّها . . . وشرّ من البخل المواعيد والمطل ولا خير في وعد إذا كان كاذباً . . . ولا خير في قول إذا لم يكن فعل وأنشدنا لبعضهم : إذا كنت لا بدّ مستطعماً . . . فمن غير من كان يستطعم فإنّ الذي كان مستطعماً . . . إذا ذكر الجوع لا يطعم(2/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
وأنشدنا لبعضهم : ما خلفت حواء أحمق لحية . . . من سائل يرجو الغنى من سائل وحدثونا عن زيد بن أسلم قال : كان محمد بن مسلمة في أرض يغرس النخل ، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال : ما تصنع يا محمد ؟ قال : ما ترى قال : أصبت ، استغنِ عن الناس يكن أصون لدينك وأكرم لك عليهم كيف ، قال صاحبكم لحيحة بن الحلاج : فلن أزال عن الزوراء أعمرها . . . إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال روينا عن ابن مسعود قال : ما كس دون درهمك فإنّ المغبون لا محمود ولا مأجور ، وقال سفيان الثوري رحمه اللّه تعالى : إذا قلت لصاحبك أحسن فأحسن فهو صدقة ، وحدثت عن عبد اللّه بن عبد الرحمن قال : كان إبراهيم بن أدهم ورفقاؤه في المسجد في شهر رمضان ، فلما سلم الإمام قام رجل فسأل ، فلم يعط شيئاً ووضعوا عشاءهم فقالوا لإبراهيم : يا أبا إسحاق ندعوه ؟ قال : لا تدعوه ، فبات بغير عشاء فلما كان من الغد جاء رفيق لإبراهيم فقال له : يا أبا إسحاق ، رأيت الذي سأل البارحة وعلى رأسه حزمة حطب فقال : تدرون لِمَ قلت لكم : لا تدعوه سبق إلى قلبي أنه لم يسأل قبلها فكرهت أنْ أدعوه فيتكل على عشائكم ، قال عبد اللّه : وقال رجل لإبراهيم : كيف أصبحت ؟ قال : بخير ما لم يتحمل مؤونتي غيري ، وعن موسى بن طريف قال : كان إبراهيم بن أدهم لا يماكس إذا عمل مع أحد ، حدثونا عن يوسف بن سعيد قال : سمعت إنساناً يسأل عليّ بن بكار : أيهما أفضل ، اللقاط أو التكابة ؟ فقال : اللقاط فيه معروف كثير ، كان سليمان الخواص يلقط ههنا عندنا وكان إبراهيم بن أدهم يؤاجر نفسه وكان حذيفة يضرب اللبن ، أبو عمرو بن العلاء قال : قال الحسن : الأسواق موائد اللّه تعالى فمن أتاها أصاب منها ، الحسن بن دينار عن قتادة قال : مكتوب في التوراة اتّقِ توق وسل تعط وأطلبْ تجد ، ومكتوب في الإنجيل : ابن آدم اصبر تصبر . عن أبي خلدة عن أبي العالية قال : إذا اشتريت شيئاً فاشترِ أجوده . أبو الطفيل قال : كنت عن أنس بن مالك فقيل له : خرج الدجال فقال : كذبة صباغ ، حدثنا عن يحيى بن يمان عن بسام الصيرفي عن عكرمة قال : أشهد أنّ الصيارفة من أهل النار . وروينا عن عبد الحميد بن محمود قال : كنت عند ابن عباس ، فأتاه رجل قال : أقبلنا حجاجاً حتى إذا كنا بالصفاح توفي صاحب لنا فحفرنا له ، وإذا أسود قد ملأ اللحد كله ، ثم حفرنا له قبراً آخر فإذا الأسود قد ملأ اللحد ، فحفرنا له قبراً آخر فإذا الأسود قد ملأ اللحد كله ، فتركناه وأتيناك نسألك ما تأمرنا ، قال : ذاك عمله الذي كان يعمل ، وفي رواية(2/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
أخرى : ذاك غله الذي كان يغل به ، اذهبوا فادفنوه في بعضها فو الله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذاك ، قال : فألقيناه في قبر منها ، فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألنا عن عمله فقالت : كان رجلاً يبيع الطعام ، فيأخذ قوت أهله كل يوم ثم ينظر مثله من قصب الشعير فيقطعه فيخلطه في الطعام مكان ما أخذ فيبيعه ، عن حجاج عن أبي جعفر محمد ابن عليّ : أنَّ عليّاً رضي اللّه تعالى عنه كان يضمن القصار والصباغ والخياط ليحفظوا على الناس أمتعتهم ، وروينا عن هشام بن عمار قال : سئل مالك بن أنس : في الرجل يسلم الثوب إلى الحائك بالنصف ودرهم والنصف ودرهمين قال : هذا شرط فاسد وله أجرة مثله إلاّ أن يخالف الشر فعليه العزم ، وحدثنا عن أحمد بن الحسن المقري قال : سئل أبو بكر المروزي : وأنا أسمع الحائك ينسج الثوب على الخمسين ودرهمين وعلى الخمسين وثلاثة دراهم وأكثر قال : لا بأس إذا رضينا قلت : فالنصف ودرهم والنصف ودرهمين قال : لا بأس . سئل أحمد بن حنبل عن هذه المسألة فقال : لا بأس ، وحدثنا عن أبي داود قال : سمعت ابن حنبل سئل عن الثوب يعطي على الثلث أو الربع للحائك قال : لا بأس به ، ثم قال هل هذا إلاّ مثل المضاربة ومثل قصة جبير ، لعله أنْ يربح المضارب شيئاً ولا يخرج الأرض شيئاً ، كلها عندي قريبة ، وعن ابن وهب قال : قال مالك في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة قال : يفسخ ذلك البيع قيل : عامل وترك القيام إليها وهو حدّ قال : بئسما صنع ، فليستغفر ربه عزّ وجلّ ، وقال ربيعة : ظلم وإساء قال : وقال مالك : يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة . حدثنا عن أبي داود قال : سمعت أحمد بن حنبل غير مرة يكره التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة ، قال أبو داود : سألت إسحاق بن راهويه عن إنفاق المزيفة فقال : لا بأس به ، وقال عبد الوهاب الوراق : سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال : سألت المعافى عنها فقال : سألت سفيان الثوري عنها فقال حرام ، حدثنا عن الحسن الخياط قال : سمعت بشر ابن الحارث وقال له رجل من جيرانه : أسلمت عمامة إلى الحائك الدقيق عليّ من قال على الحائك والخيوط لك ، وحدثونا عن بشر عن الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد أنّ مريم عليها السلام مرت بحاكة قعود على ظهر طريق في طلب عيسى عليه السلام فقالت : كيف طريق موضع كذا وكذا ؟ فأرشدوها إلى غير الطريق التي أرادت ، فضلّت فدعت اللّه تبارك وتعالى عليهم فقالت : اللّهم ، إانزع البركة من كسبهم وأمتهم فقراء وحقرهم في أعين الناس ، قال بشر : أحسب أنّ اللّه عزّ وجلّ استجاب دعاءها فيهم ، وروينا عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من فرق بين الوالد وولده في البيع ، فرق اللّه عزّ وجلّ بينه وبين أحبته يوم القيامة ،(2/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
سفيان عن منصور عن موسى بن عبد اللّه أنّ أباه بعث بغلام له بمال إلى أصبهان بأربعة آلاف ، فبلغ المال ستة عشر ألفاً أو نحو ذلك فبلغه أنه مات ، فذهب يأخذ ميراثه فبلغه أنه كان يقارف الربا فأخذ أربعة آلاف وترك البقية ، وحدثونا عن أبي بكر المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن الذي يعامل بالربا يؤكل عنده قال : لا قال : وسمعت أبا عبد اللّه يقول : الذي يتعامل بالربا يأخذ رأس ماله ، وإن عرف أصحابه رده عليهم وإلا تصدق بالفضل ، وروينا حديث ربيعة بن يزيد عن عطية السعدي قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لابأس به حذراً لما به بأس ، وروينا حديث عباس بن جليد قال أبو الدرداء : إنّ تمام التقوى أنْ يتّقي العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حجاباً بينه وبين الحرام ، حدثنا عن أبي بكر المروزي قال : سألت أَبا عبد اللّه عن الرجل : يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم حرام لا يعرفه قال : لا يأكل منه شيئاً حتى يعرفه ، واحتج أبو عبد اللّه بحديث عدي بن حاتم أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر فقال : لا تأكل حتى تعلم أنّ كلبك قد قتله ، وسألت أبا عبد اللّه عن الرجل : يدفع إليه الدراهم الصحاح بصوغها قال فيها : نهى عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وعن أصحابه وأنا أكره كسر الدراهم والقطعة قلت : فإن أعطيت ديناراً أصوغه كيف أصنع ؟ قال : تشتري به دراهم ثم تشتري به ذهباً قلت : فإن كانت الدراهم من الفيء ويستهي صاحبها أن تكون بأعيانها قال : إذا أخذت بحذائها فهو مثلها . وروى أبو عبد اللّه حديث علقمة بن عبد اللّه عن أبيه ، أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس ، قال أبو عبد اللّه : البأس أن يختلف في الدراهم فيقول الواحد : جيد ويقول الآخر : رديء فيكسره ، لهذا المعنى قال : وسألت أبا عبد اللّه عن الرجل يكتسب بالأجر فيجلس في المسجد فقال : أما الخياط وأشباهه فما يعجبني إنما بنى المسجد ليذكر اللّه تعالى فيه وكره البيع والشراء فيه ، قلت لأبي عبد اللّه : للرجل يعمل المغازل ويأتي المقابر فربما أصابه المطر فيدخل في بعض تلك القباب فيعمل فيها قال : المقابر إنما هي من الآخرة وكره ذلك قلت لأبي عبد اللّه : اشتري الدقيق فيزيد في مثل القفيز المكوك قال : هذا فاحش ، هذا لا يتغابن الناس فيه قلت : فكيلجة أو دونها قال : هذا يتغابن الناس بمثله ، قلت لأبي عبد اللّه : رفاء الوسائد والأنماط يرفوا للتجار وهم يبيعون ولا يخبرون بالرفو قال : يعمله العمل الذي يبتين لا يعمل الخفي الذي لايتبين إلاّ لمن يثق به ، قلت لأبي عبد اللّه : الثوب ألبسه ترى أن أبيعه مرابحة قال : لاوإن بعته مساومة فبين أنك قد لبسته وإلاّ بعته في سوق الخلق ، سألت أبا عبد اللّه عن إبريق فضة يباع قال : لا حتى(2/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
يكسر ويقول : لا يباع الحرير . أمية بن خلد قال : كان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع أهل إلى وكيله بالسوس أنّ أعلم من يشتري منه المتاع أنّ المتاع يطلب ، وحدثنا عن المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن الجوز ينثر فكرهه وقال : يعطون يقسم عليهم يعني الصبيان قال : ودخلت على أبي عبد اللّه وقد حذق ابنه ، وقد اشترى جوزاً يريد أن يعده على الصبيان يقسمه عليهم وكره النثر وقال : هذه نهبة ، وقال أبو عبد اللّّه وذكر مسائل ابن المبارك فقال : كان فيها مسألة دقيقة ، سئل ابن المبارك عن رجل رمى طيراً فوقع في أرض قوم : لمن الصيد ؟ قال : لا أدري ، قلت لأبي عبد اللّه : فما تقول أنت فيها ؟ قال : هذه دقيقة ما أدري فيها ، قلت لأبي عبد اللّه : إنّ عيسى بن عبد الفتاح قال : سألت بشر بن الحارث : هل للوالدين طاعة في الشبهة ؟ قال : فقال أبو عبد اللّه : هذا شديد ، قلت لأبي عبد اللّه : فللوالدين طاعة في الشبهة قال : فقال أبو عبد اللّه : هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال ، وهذا بشر بن الحارث قد قال ما قال ، ثم قال أبو عبد اللّه : ما أحسن أن يداريهم ، ثم قال أبو عبد اللّه : إلاثم حواز القلوب ، قال المروزي : أدخلت على أبي عبد اللّه رجلاً فقال : إنّ لي أخوة وكسبهم من الشبهة ، فربما طبخت أمنا وتسألنا أن نجتمع ونأكل فقال له : هذا موضع بشر لو كان لك كان موضعاً ، أسأل اللّه تعالى أنْ لا يمقتنا ، ولكن تأتي أبا الحسن عبد الوهاب فتسأله فقال له الرجل : فتخبرني بما في العلم قال : قد روي عن الحسن إذا استأذن والدته في الجهاد فأذنت له ، وعلم أنّ هواها في المقام فليقم ، قال : سمعت أبا عبد اللّه وسئل عن رجل له والدة يستأذنها يرحل يطلب العلم فقال : إن كان جاهلاً لا يدري كيف يطهر ولا يصلّي فطلب العلم أوجب ، وإن كان قد عرف فالمقام عليها أحب إليّ ، قلت : فإن كان يرى المنكر فلا يقدر أن يغيره قال : يستأذنهما ، فإن أذنا له خرج . حدثنا عن أبي الربيع الصوفي قال : دخلت على سفيان بالبصرة فقلت له : يا أبا عبد اللّه ، إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على المخنثين ونتسلق عليهم الحيطان فقال : أليس لهم أبواب ؟ قلت : بلى ، ولكن ندخل عليهم كيلا يفروا ، فأنكرذلك إنكاراًشديداً وعاب فعالنا ، فقال رجل : من أدخل هذا ؟ فقلت : إنما دخلت إلى الطبيب أخبره بدائي ، فانتفض سفيان وقال : إنما هلكنا إذ نحن سقمى فسمّينا أطباء ثم قال : لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من فيه ثلاث خصال ، رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر عالم بما ينهي ، عالم بما يأمر عدل بما ينهي ، حدثنا عن أحمد بن محمد بن الحجاج قال : سألت أبا عبد اللّه قلت : أمرّ في السوق فأرى الطبول تباع فأكسرها قال : إن قويت يا أبا بكر قلت : أدعي أغسل الميت(2/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
فأسمع صوت الطبل قال : إن قدرت على كسره وإلاّ فاخرج ، سألته عن كسر الطنبور قال : يكسر قلت : فإذا كان معطي ؟ قال : إذا ستر عنك فلا قلت : فالطنبور الصغير يكون مع الغلام قال : تكسره أيضاً إذا كان مكشوفاً قلت لأبي عبد اللّه : رجل له قراح نرجس ترى أنْ يباع ؟ فقال : إنهم يقولون الزئبق يعمل منه قلت : فإن كان لا يشتريه إلاّ أصحاب المسكر قال : يسأل عن ذا فإن كان هكذا إلاّ يباع ، سمعت أبا عبد اللّه وسأله رجل فقال : إنّ أبي كان يبيع من جميع الناس وذكر من تكره معاملته فقال يدع من ذلك بقدر ما ربح فقال له : فإنه له ديناً وعليه دين قال : يقتضي ويقضي عنه قلت : وترى له بذلك ؟ قال : فتدعه محتسباً بدينه ، سألت أبا عبد اللّه عن قريب لي أكره ناحيته يسألني أن أشتري له ثوباً أو أسلم له غزلاً فقال : لا تعنه ولاتشترِ له إلاّ أن تأمرك والدتك ، فإذا أمرتك فهو أسهل لعلها أن تغضب . سمعت أبا عبد اللّه وسئل عن رجل له أب مراب يرسله أن يتقاضى له : ترى له أن يفعل ؟ قال : لا ولكن يقول : لا أذهب حتى تتوب ، ذكرت لأبي عبد اللّّه رجلاً من المحدثين فقال : رحمه اللّه أي رجل كان لولا خلة واحدة ؟ ثم قال : ليس كل الخلال يكملها الرجل فقلت له : أليس كان صاحب سنّة قال : أي لعمري وقد كتبت عنه ولكن خلة واحدة فقلت : مثل أيش ؟ قال : كان لا يبالي ممن أخذ ، سمعت أبا عبد اللّه وذكر بشر بن الحارث فقال رحمه اللّه : لقد كان فيه أنس ، وذكر له شيء من الورع فقال يسأل عن مثل بشر : هذا موضع بشر وأنا لا ينبغي لي أن أتكلم في هذا . ذكرت لأبي عبد اللّه رجلاً فقيراً في أطمار خلقان وقلت : ما أحوجه إلى علم ؟ فقال لي : اسكت لصبره على فقره وعريه من العلم إني لأذكره وأنا في الفراش وقال : هؤلاء خير منا ، قلت لأبي عبد اللّّه قيل لابن المبارك : كيف يعرف العالم الصادق ؟ قال : يزهد في الدنيا ويقبل على أمر آخرته فقال أبو عبد اللّه : نعم ، هكذا يريد أن يكون . سألت أبا عبد اللّه عن امرأة كانت تجري على أخرى وتصلها وذكر المرأة ما أمرني به أبو عبد اللّه من شيء صرت إليه قال : أن تصدق به وتسأل . سمعت أبا عبد اللّه وذكر ابن عون فقال : كان لا يكري دوره من المسلمين قلت : لأي علّة ؟ قال : لئلا يروعهم ابن المبارك عن حكيم بن زريق عن أبيه عن سعيد بن المسيب في البر بالدقيق قال : هو ربا ، قلت لأبي عبد اللّه : أخبرت أنّ بشر بن الحارث أرسل أخوه بتمر من الأيلة ، فأبقت أمه تمرة من التمر الذي كانت تفرقه يعني على أهل بيته ، فلما دخل بشر قالت له أمه : بحقي عليك لما أكلت هذه التمرة ؟ فأكلها وصعد إلى فوق ، وصعدت خلفه فإذا هو يتقيأ ، وكان أخوه على شيء فقال أبو عبد اللّه وقد روي عن أبي بكر رضي اللّّه عنه نحو هذا ، وسمعت أبا عبد اللّه وذكر وهيب بن الورد فقال : قد كلمه ابن المبارك فيما يجيء(2/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
من مصر ، وإنما أراد ابن المبارك أن يسهل عليه ولم يدرِ أنه يشدد عليه ، وكان لا يأكل مما يجيء من مصر ، إلاّ الزبيب ، وقال أبو عبد اللّه : بشر بن الحارث كان يأكل من غلة بغداد قلت : لا هو كان ينكر على من يأكل فقال : إنما قدر بشر لأنه كان وحده لم يكن له عيال ، ليس من كان معيلاً كمن كان وحده ، لوكان إلى ما باليت ما أكلت ، وذهب أبو عبد اللّّه إلى أن يأخذ من السواد القوت ويتصدق بالفضل ثم قال : لايعجبني أنْ أبيع شيئاً قلت لأبي عبد اللّه : ترى أن يشرب الرجل من السواد ؟ قال : هذا الذي نحن فيه ميراث إنما آخذ الغلة على الاضطرار ، قيل لأبي عبد اللّه : فيشتري الرجل فيه ؟ فقال للسائل : إن كنت في كفاء فلا ، ثم قال أكره أن يبيع الرجل داره ولا أرضى في شيء من السواد ولا يشتري إلاّ مقدار القوت ، فإذا كان أكثر من قوته تصدق به وقال : أنا أذهب إلى أنّ السواد وقف على المسلمين ، أما عمر رضي اللّه تعالى عنه ، فترك السواد ولم يقسمه ، وهكذا عثمان تركه ، إلاّ أنه أقطع قوماً من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ابن مسعود وسعداً وذكر غير واحد ، وأما عليّ رضي اللّه تعالى عنه فأقره ولم يقسمه ، قال أبو عبد اللّه : من ذهب إلى قول ابن المبارك فذاك البلاء يزعم أنّ السواد يقسم على من شهد الوقعة . وقال ابن إدريس في دار ببغداد : يبيع أمرها حتى يردها إلى من فتحها بالسيف قلت : ومن أين تقدر على هذا ؟ فتبسم وقال : يصير إلى المدينة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيسأل عنهم ، قال أبو عبد اللّه : أهل المدينة على مذهب ابن إدريس يقولون : المدينة إذا فتحت عنوة قسمت على من شهدها ، قلت لأبي عبد اللّه : فمن خالفهم ؟ قال : عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي اللّّه عنهما أوقفاها على المسلمين ، قلت لأبي عبد اللّه : فمن ورث داراً في القطيعة ؟ قال : قال ابن إدريس يردها على من شهد القادسية قلت : وهذا هو عندك القول ؟ قال : نعم ، ما أحسن ما قال ، ولكن مثل هذا الذي في أيدينا إنما هي قطائع لو أنّ وجلاً أراد أنْ يخرج مما في يديه كنا نأمره أنْ يوقفها لأنها فيء ، سألت أبا عبد اللّه عن الكوفة والبصرة : أليس افتتحت ؟ قال : لا ، إنما جاؤوا فابتنوا فيها ، وأدخلت على أبي عبد اللّه رجلاً فقال : إني ورثت عن أبي أرضين من السواد فقال له : أوقفها على قرابتك ، فإن لم يكن فعلى جيرانك ، وقيل له أيضاً : ورث رجل داراً في القطيعة فقال : يوقفها ، ثم قال : السواد فيء للمسليمن رخص في الشراء ، قلت لأبي عبد اللّه : كيف أشتري في السواد ولا أبيع ؟ قال : الشراء عندي خلاف البيع ، واحتج أنّ أصحاب رسول اللّّه ( صلى الله عليه وسلم ) رخصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها ابن عباس وجابر بن عبد اللّه ، سئل أبو عبد اللّه : أيما أحبّ إليك ؛ سكني القطيعة أو الربض ؟ فقال : الربض ، قلت لأبي عبد اللّه : إنّ القطيعة أرفق من سائر الأسواق فقال : أمرها معلوم تعرفها لمن كانت قلت فتكره العمل فيها قد وقع في قلبي منه شيء ، فقال ابن مسعود : الإثم حواز القلوب ،(2/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
قلت لأبي عبد اللّه : فرجل يريد الخروج إلى الثغر وله دار يريد أن يبيعها قال : لا قلت : فإن قال : إنما أبيع النقض ، فتبسم وقال : إن رضي المشتري كأنه عنده حيلة ثم قال : قد ورث ابن سيرين أرضاً من أرض السواد قلت : فهي رخصة قال : هذا معروف عن ابن سيرين ، قال أبو بكر : سمعت أبا عبد اللّه يقول : أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء وقال : ما أعدل بالفقر شيئاً وقال : هذه الغلة ما تكون قوتنا ، فأخبرته أنّ رجلاً قال : لو أنّ عبد اللّه ترك هذه الغلة وكان يتصنع صديقاً له كان أعجب إلي فقال أبو عبد اللّه : هذه طعمة سوء أو قال : ردية من تعود هذا لم يصبر عنه ثم قال : هذا أعجب إليّ من غيره . حدثنا عن عبد اللّه بن نوح السراج قال : قال لي بشر : ياسراج ، أنت بعد في القطيعة قلت : نعم قال : أغناك اللّه عزّ وجلّ عن الدخول إليها ، حدثت عن بعض أصحاب بشر قال : وصف لي شيء أتداوى به وقال : ليس تجده إلاّ في بستان بني كذا يعني القطيعة فقال : لو كان شفائي فيه ما أردته ، محمد بن حاتم قال : سمعت ابن أبي بشر يقول : كنت مع بشر وقد خرجنا من باب حرب فقال لي : يا أبا يعقوب ، فكرت في هذه القرية ومن كره الدخول إليها وأعلم أنّ الدباغ إذا كان في المدبغة لا يشم رائحتها إنما يشم رائحتها من ورد عليها ، قال بعضهم : وسمعت بشراً يقول : من ذنوبي مقامي ببغداد ، وقال شعيب بن حرب : أي رجال ببغداد كان لهم خير ؟ وعن عبد الوهاب قال : خرج من ههنا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب قوم فكلموه في النزول ببغداد فأشار علهم أن لايرجعوا ، فتركوا دورهم وأقام بعضهم ليستقي ماء بالمدائن ، ولقد رأى شعيب بعضهم يستقي الماء فقال : لو رآك سفيان لفرح بك ، قلت لأبي عبد اللّه : جاءنا كتاب من طرسوس فيه أنّ قوماً خرجوا من نيف الأسل فطحنوا لهم طعاماً على رحى ، فتبينوا بعد أن الرحى فيه ما يكرهونه غصب ، فتصدق بعضهم بنصيبه وأبى بعضهم وقال : لست آمر فيه شيء لا أرضى أكله لا أرضى أتصدق به فأي شيء تقول ؟ فكان مذهب أبي عبد اللّه أنْ يتصدق به إذا كان شيئاً يكرهه ، ورجل اشترى حطباً واكترى دواب وحمله ، ثم تبين بعد أنه يكره ناحيتها ، كيف يصنع بالحطب ؟ ترى أنْ يرده إلى موضعه وكيف ترى أنْ يصنع به ؟ فتبسم وقال : ما أدري ، قلت إنّ رجلاً قال لأبي عبد اللّّه : ما تقول في نفاطة لمن تكره ناحيته ينقطع شسعي أستضيء به قال : لا . وذكر أبو عبد اللّه عثمان بن زائدة أنّ غلامه أخذ له ناراًمن قوم يكرههم فأطفأها ، فقال أبو عبد اللّه : النفاطة أشد ، قلت لأبي عبد اللّه : تنور سجر بحطب أكرهه فخبز فيه ، فجئت أنا بعد فسجرته بحطب آخر فيه قال لا ، أليس أحمى بحطبهم وكرهه ، قلت لأبي عبد اللّه : الخادم الخصي ينظر إلى شعر مولاته قال : لا ، قلت : المرأة(2/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
تكون بها الكسرة فيضع المجبر يده عليها قال : هذا ضرورة ولم ير به بأساً قلت : قال المجبر : لابد لي أن أكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها ، قال طلحة : يوجد ، قلت لأبي عبد اللّه : فالكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده النساء ، هل هذه الخلوة منهي عنها ؟ قال : أليس هو على ظهر الطريق ؟ قيل : نعم قال : إنما الخلوة تكون في البيوت ، قال أبو بكر : قلت لأبي عبد اللّه : إذا اضطر الرجل إلى الميتة ووجد مع قوم طعاماً ما يأخذ الطعام بغير إذن صاحبه أو يأكل الميتة قال : يأكل الميتة قد أحلت له ، سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يمر بالحائط أو النخل يأكل منه فقال : قد سهل فيه قوم من أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قلت : فماذا تقول إذا اضطر الرجل إلى الميتة ووجد مع قوم طعاماً يأخذ الطعام بغير إذن صاحبه أو يأكل الميتة ؟ قال : يأكل ولا يحمل ، قلت : الرجل يمر بالبستان قال : إذا كان عليه حائط لم يدخل ، وإذا كان غيرمحوّط أكل ولا يحمل ، سألت أبا عبد اللّه عن أجور بيوت مكة فقال : لا يعجبني ، قلت لأبي عبد اللّه : فيكتري الرجل الدار ويخرج ولا يقضي الكراء قال : لايعجبني أن لايخرج الكراء ، ثم قال : هذا بمنزلة الحجام لابدّ من أن يعطي ، قلت لأبي عبد اللّه : فترى شراء دور مكة والبيع قال : لا ، أما الدور الكبار فمثل دار فلان وفلان سماها فتفتح أبوابها حتى يضرب الحاج فيها فساطيطهم وينزلوها لا يمنع أحد من نزولها ، قيل لأبي عبد اللّه : هذا عمر بن الخطاب قد اشترى السجن قال : لا هذا لا يشبه ما اشترى عمر إنما اشترى السجن للمسلمين ، يحبس فيه السراق وغيرهم ، سئل أبو عبد اللّه عن السقايات التي يعملها من تكره ناحيته ، ترى أن يتوضأ منها ؟ قال : لا إلاّ أن يخاف فوت الصلاة يعني يوم الجمعة ، سئل أبو عبد اللّه عن السقايات التي تفتح إلى الطريق : ترى أن يشرب منها فقال : قد سئل الحسن فقال : قد شرب أبو بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما من سقاية أم سعيد فمه ، قلت لأبي عبد اللّه : حكي عن فصيل أنّ غلامه جاءه بدرهمين فقال : عملت في دار فلان فذكر من يكره ناحيته قال : فرمى بها بين الحجارة وقال : لايتقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ إلاّ بالطيب ، فعجب أبو عبد اللّه وقال : رحمه اللّه ، وذهب أبو عبد اللّه إلى أن يتصدّق كأنه كان أحوط وقال : يعجبني أن يتصدّق به إذا تصدّق به فأي شيء بقي .
ذكر ما رأى أحمد بن حنبل الخروج منه
، حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال : حدثنا أبو بكر المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يدعى إلى الوليمة ، من أي شيء يخرج ؟ فقال : خرج أبو أيوب حين دعاه ابن عمر ، فرأى البيت قد ستر ودعي حذيفة فخرج ، وإنما رأي شيئاً من زمي الأعاجم قلت : فإن لم يكن البيت مستوراً ورأى شيئاً من فضة فقال : ما كان يستعمل يعجبني أن يخرج ، وسمعت أبا عبد اللّه : يقول دعانا رجل من أصحابنا قبل المحنة ، وكنا نختلف إلى(2/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
عفان فإذا فضة ، فخرجت فأتبعني جماعة فنزل بصاحب البيت أمر عظيم ، قلت لأبي عبد اللّه فالرجل يدعى فيرى المكحلة رأسها مفضض قال : هذا يستعمل فأخرج منه إنما رخص في الضبة أو نحوها فهو أسهل ، سألت أبا عبد اللّه عن الكلة فكرهها قلت : فالقبة أو الحجلة فلم ير به بأساً ، قلت لأبي عبد اللّه أنّ رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة أو إبريق فكسره ، فأعجب أبا عبد اللّه كسره ، سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج : ترى أن يقعد عليه أو يقعد في بيت آخر ؟ قال : يخرج ، قد خرج أبو أيوب وحذيفة ، وقد روي عن ابن مسعود قلت : فترى أن يأمرهم ؟ قال : نعم ، فيقول : هذا لا يجوز ، قلت لأبي عبد اللّه : الرجل يكون في بيت فيه ديباج فيدعو ابنه للشيء قال : لا يدخل عليه ولا يجلس معه ، قلت لأبي عبد اللّه : الرجل يدعى فيرى الكلة فكره وقال : هو رياء ، لا يرد من حرّ ولا من برد ، قلت : الرجل يدعى فيرى تصاوير قال : لا ينظر إليه قلت : فقد نظرت إليه قال : إن أمكنك خلعه خلعته ، أبو صالح الفراء عن يوسف بن أسباط قال : قلت : من أجيب ؟ قال : لا تدخل على رجل ، إذا دخلت عليه أفسد عليك قلبك ، قد كان يكره الدخول على أهل البسط يعني الأغنياء ، المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك وقال : لا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره ، قلت : فالرجل يكتري البيت يرى فيه التصاوير ترى أن يحكه قال : نعم ، قلت لأبي عبد اللّه : فإذا دخلت حماماً فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس قال : نعم .
ذكر الورع في أشياء
ابن عبد الخالق ، قال : حدثنا أحمد بن الحجاج قال : قلت لأبي عبد اللّه : ترى الرجل الوصيء تسأله الصبية أن يشتري لها لعبة قال : إن كانت صورة فلا ، وذكر فيه شيئاً قلت : أليس الصورة إذا كان يد أو رجل ؟ فقال : عكرمة يقول : كل شيء له رأس فهو صورة ، قال أبو عبد اللّه : وقد يصيرون لها صدراً وعيناً وأنفاً قلت : وأحبّ إليك أن تجتنب شراءها ؟ قال : نعم ، سألت أبا عبد اللّه عن قبلة اليد فلم يرَ بها بأساً إن كان على التدين ، قال : قد قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنهما وإن كان على طريق الدنيا ، فلا رجل يخاف سيفه أو سوطه ، قال لي أبو عبد اللّه : قال لي سعيد الحاجب ألا يقبل يد ولي عهد المسلمين فقلت : بيدي هكذا ولم أفعل ، وروينا عن عليّ بن ثابت قال : سمعت حفيان يقول : لا بأس بها للإمام العادل وأكرهه على الدنيا يعني تقبيل اليد ، قلت لأبي عبد اللّه : رجل يريد الخروج إلى الثغر وقد سألني أسألك ، وهذا الطريق طريق الأنبار مخيف ، فإن عرض له اللصوص ترى أن يقاتلهم قال : إن طلبوا أشياءه قاتلهم لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من قتل دون ما له فهو شهيد قلت : فإن عرضوا للرفقة ، ترى أن يقاتلهم ؟ قال : حتى إن يطلبوه هو ولم يرَ أن يقاتل عن الرفقة بالسيف ،(2/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
سئل أبو عبد اللّه عن الأسير : يفر ؟ قال : نعم إذا قدر على ذلك ، قلت لأبي عبد اللّه : ترى للرجل إذا جاءه الرجل يسأل ترى أن يسأله له قوماً قال : لا لكن يعرض كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم عليه القوم مجتابي النمار فقال : تصدق رجل بكذا ، سمعت أبا عبد اللّه يقول : عبد الوهاب أطيب طعمة من غيره يريد الوراقة ، سمعت أبا عبد اللّه يقول : كان يحيى بن يحيى أوصى إليّ بجبته ، فجاءني ابنه فقال لي فقلت : رجل صالح قد أطاع اللّه تبارك وتعالى فيها أتبرك بها . حدثت عن بعض العلماء أنّ يحيى بن يحيى قالت له إامرأته تشربه دواء : لو قمت فترددت في الدار فقال : ما أدري ما هذه المسألة ، أنا أحاسب نفسي منذ أربعين سنة ، حدثت عن موسى بن عبد الرحمن بن مهدي قال : لما قبض عمي أغمي على أبي فلما أفاق قال : البساط نحوه أدرجوه لغلة الورثة ، ابن أبي خالد قال : كنت مع أبي العباس الخطاب ، وقد جاء يعزي رجلاً ماتت امرأته ، وفي البيت بساط فقام أبو العباس على باب البيت فقال : أيها الرجل معك وارث غيرك قال : نعم قال : قعودك على ما لا تملك ، فتنحى الرجل عن البساط ، وحدثت عن ابن الضحاك صاحب بشر بن الحارث قال : كان يجيء إلى أخته حين مات زوجها فيبيت عندها ، فيجيء معه بشيء يقعد عليه ولم يرَ أن يقعد على ما خلف من غلة الورثة ، ابن عبد الخالق عن المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء أو الخشبة قال : يتصدق به ، سألته عن الجص والآجر يفضل عن المسجد قال : يصير في مثله ، قلت لأبي عبد اللّه : إني أكون في المسجد في شهر رمضان فيجاء بالعود من الموضع الذي يكره فقال : وهل يراد من العود إلاّ ريحه ؟ إن خفت خروجك فأخرج ، روينا عن أبي عوانة عن عبد اللّه بن راشد قال : أتيت عمر بن عبد العزيز بالطيب الذي كان في بيت المال فأمسك على أنفه وقال : إنما ينتفع بريحه عبد العزيز بن أبي سلمة قال : حدثنا إسماعيل بن محمد قال : قدم عليّ عمر رضي اللّه عنه مسك من البحرين فقالت : واللّه لوددت إني أجد امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة بنت عمرو بن نفيل : إني جيدة الوزن فهلّم أزن لك قال : لا قلت : ولِمَ ؟ قال : إني أخشى أن تأخذيه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين عنقك فأصيب فضلاً عن المسلمين ، وسليمان التيمي قال : حدثني نعيم عن العطارة قال : كان عمر يدفع إلى امرأته طيباً من طيب المسلمين قال : فتبيعه امرأته ، فباعتني طيباً فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسره بأسنانها فيعلق بأصبعها شيء منه فقالت به : هكذا بأصبعها ثم مسحت به خمارها فدخل عمر فقال : ما هذه الريح ؟ فأخبرته بالذي كان فقال : طيب المسلمين تأخذينه أنت فتتطيبين(2/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
به ؟ فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرّاً من ماء فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ، ثم يصب عليه الماء ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ففعل ما شاء اللّه ، قالت العطارة : ثم أتيتها مرة أخرى فلما علق بأصبعها منه شيء فعمدت فأدخلت أصبعها في فيها ، ثم مسحت بإصبعها التراب . أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد اللّه : يحضر يوم الجمعة يوم بارد ترى أن يسخن الماء من الموضع الذي أكره ؟ قال : لا ترك الغسل أحبّ إليّ من هذا ، سمعت أبا عبد اللّه ينكر على أبي ثور قوله ، وإذا أجمع الأطباء أنّ شفاء الرجل في الخمر أنه ليس به بأس فأنكر إنكاراً شديداً عليه وقال : لقد كرهت أن يداوي الدبر بالخمر فكيف بشربه ؟ وتكلم بكلام غليظ . حدثت عن شعيب بن حرب قال : لأن أرى ابني يسرق أو يزني أحبّ إليّ من أن يأتي عليه وقت لا يعرف اللّه تبارك وتعالى فيه ، محمد بن أبي داود الأنباري قال : قلت لأبي أسامة : أجيب وليمة فيها نبيذ قال : لا قلت : أخاف الحديث الذي جاء عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : مَنْ لم يجب فقد عصى فقال : مَنْ لم يجب اليوم فقد أطاع اللّه تعالى ورسوله ، هارون بن معروف قال : جاءني فتى فقال : إنّ أبي حلف عليّ بالطلاق أن أشرب دواء مع مسكر ، فذهبت به إلى أبي عبد اللّه فلم يرخص له وقال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : كل مسكر حرام وكل مسكر خمر . المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن خياط الملحم فقال : ما كان للرجال فلا ، وما كان للنساء فليس به بأس ، وسألته : يخاط للنساء هذه الزيقات العراض فقال : إن كان شيء عرض فأكرهه هو محدث ، وإن كان شيء وسطاً لم يرَ به بأساً ، وكره أن يصير للمرأة مثل جيب الرجال ، وقطع أبو عبد اللّه لابنته قميصاً وأنا حاضر فقال للخياط : صير جيبها من قدام ، وقطع أبو عبد اللّه لابنته قميصاً وأنا حاضر فقال للخياط : صير زيقانها دقاقاً وكره أن يصير عريضاً ، وقطعت لأبي عبد اللّه جبة وصيرت زيقها دقيقاً فقلت لأبي عبد اللّه : هل أدركت أحداً من المشايخ كان له زيق عريض ؟ قال : لا ، وكنت يوماً عند أبي عبد اللّه فمرت جارية عليها قباء فتكلم بشيء فقلت : تكرهه قال : كيف لا أكرهه جداً ، لعن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) المتشبهات من النساء بالرجال ، وروينا عن عبد الصمد قال : دعا يزيد ابن هارون خياطاً من النساك فقال : اقطع لهذه الجارية قباء فوضع الخياط المقراض من يده وقال : يا أبا خالد ، قباء عمن فسكت يزيد المروزي ، قال : ذكر لأبي عبد اللّه رجل من المحدثين فقال : إنما أنكرت عليه أن لبس زيه زي النساك ، سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يلبس النعل السبتي فقال : أما أنا فلا أستعملها ، ولكن(2/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
إذا كان للمخرج أو الطين فأرجو ، وأما من أراد الزينة فلا ، ورأى نعلاً سندياً على باب المخرج فسألني : لمن هي ؟ فأخبرته قال : يتشبه بأولاد لوط يعني صاحبها ، سألت أبا عبد اللّه قلت : أمروني في المنزل أن أشتري نعلاً سندياً للصبية قال : لا تشتر قلت : تكرهه للصبيان والنساك قال : نعم أكرهه ، زياد ابن أيوب قال : كنت عند سعيد بن عياض فأتاه صبي ابن ابنته وفي رجله نعل سندي فقال : من ألبسك هذا قال : أمي قال : اذهب إلى أمك تنزعها . المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن المرأة تلبس المقطوع الأحمر فكرهه كراهة شديدة وقال : أما أن تريد الزينة فلا يقال أول من لبس الثياب الحمر آل قارون ، ثم خرج على قومه في زينته ، قال في ثياب حمر ، مجاهد عن عبد اللّه بن عمر قال : مر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه ، المروزي قال : رأى أبو عبد اللّه بطانة جنبي حمراء فقال : لِمَ صبغتها حمراء قلت : للرقاع التي فيها قال : وايش تبالي أن يكون فيها رقاع قلت : تكرهه قال : نعم ، وأمرني أن أشتري له تِكّة فقال : لا يكون فيها حمرة قلت : تكرهه قال : نعم ، قلت لأبي عبد اللّه : الثوب الأحمر تغطى به الجنازة فكرهه قلت : ترى أن أجذبه قال : نعم ، وأمروني في منزل أبي عبد اللّه أن أشتري لهم ثوباً عليه كتاب فقال : قل لهم : إن أردتم أن أشتريه وأقلع الكتاب قلت : هم إنما يريدون الكتاب قال : لاتشتره ، وأخبرتني المرأة قالت : نهاني أبو عبد اللّه عن النقش في الخطاب وقال : أغمسي اليد كلها ، وسمعت أبا عبد اللّه وذكر المختضبة فقال : قالت عائشة : أسليه وادعميه ، سليمان التيمي عن أبي عثمان قال : أرسلت أم الفضل ابنة غيلان إلى أنس تسأله عن القلادة في عنق المرأة وعن الخضاب ، فأرسل أنه يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها شيئاً في الصلاة ولو سيراً وقال في الخضاب : آمرها أن تغمس يدها كلها ، المروزي قال : سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يجصص فقال : أما أرض البيوت فثوقيهم من التراب ، وكره تجصيص الحيطان ، وذكرت لأبي عبد اللّه مسجداً قد بني وأنفق عليه مالاً كثيراً ، فاسترجع وأنكر ما قلت وقال : قد سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكحل المسجد فقال : لا عريش كعريش موسى ، قال أبو عبد اللّه : إنما هو شيء من الكحل يطلي فلم يرخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال : حدثنا أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد اللّه لا يبيع حاضر لباد كيف هو ؟ فقال : حدثنا سفيان قال : حدثنا أبو الزبير قال : سمعت جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : لا يبيع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق اللّه بعضهم من بعض ، قال : والبادي الأعرابي وأنت حاضر ويجيء الأعرابي وهو لا يعرف السعر ، فتقوم أنت وقد عرفت السعر فتبيع له بما تعرف فهو الذي نهى عنه ، قلت لأبي عبد اللّه : فتشتري له إذا جاء لأنه لو ترك لأشتري منهم الغالي بمنزلته إذا جاء فباع منهم(2/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
الرخيص فقال : ليس هذا لو كان هذا هكذا ما اشترى الناس ولا باعوا ، إنما عليه لا يبيع له ولم يرَ بأساً أن يشتري له ، قلت لأبي عبد اللّه : ما معنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا شرطين في بيع قال : قول الرجل أبيعك أمتي هذه على أنك إذا بعتها فأنا أحق بها ، سئل أبو عبد اللّه عن ربح ما لم يضمن قال : الرجل يبيع الطعام قبل أن يقبضه ، قيل لأبي عبد اللّه في الرجل يشتري الطعام صبرة ترى له أن يبيعه قبل أنْ يكيله ؟ فقال : لا ، سئل عن بيع المباطح فقال : جنية يوم بيوم ، قلت لأبي عبد اللّه : يكون في سقف البيت الذهب بجانب صاحبه قال : نعم هذا يكره وذهب ، إلى أن يجفي ، قلت لأبي عبد اللّه : الرجل يكون له القرابة سكران يجفي قال : أي شيء بقي إذا سكر ؟ نعم يجفي أو يجانب ، سألته عن المكره يراد على شرب الخمر فقال : يروى عن عمر رضي اللّه عنه في شرب الخمر ، إلاّ أنه لا يفعل حتى ينال بعذاب ، قلت : فإن أمر أن يقتل قال : أما القتل فلا يكون عند اللّه المقتول ، قلت لأبي عبد اللّه : الرجل يبيع داره من نصراني قال : لا ، أليس يكفر فيها وذكر المحاريب التي فيها ، قال لي أبو عبد اللّه : أي شيء قال لك عبد الوهاب في خروجي إلى مكة ؟ قلت : ما أرى لك أن تخرج أنت ههنا بالقرب ليس تسلم فكيف إن تباعدت ؟ قال : أشار علي رجل صالح أن لا أخرج ، أخبره أني قد قبلت ما أشرت به عليّ وقد كنا اشترينا بعض حوائجه ، سألت أبا عبد اللّه عن رجل لبي بالحج وليس عنده شيء وعليه دين قال لا يجوز حتى يسأذن أصحاب الدين ثم قال : قد أوجب على نفسه الحج ، سألت أبا عبد اللّه عن رجل له أم ضريرة وله مال يحج عنها فقال : يحج عنها إذا لم تقدر الركوب ، وقال يعجبني أنْ لا يحج إلاّ عن قرابة ، قلت لأبي عبد اللّه : إني دخلت أغسل رجلاً من أصحابنا فإذا قد دخل علينا رجل من أهل الخلاف قد سميته له فقال لي : قد وقفت حيث ثبت وغسلته ، لو خرجت كنت لا تأمن أن يجيء برجل من أصحابنا فيتولاه ، سألت أبا عبد اللّه عن رجل مات وترك كتباً وله ورثة قال : تدفن ، فإن كانوا صبياناً صغاراً قال : يدفنها الوصي عليهم ، سمعت أبا عبد اللّه يقول : حكم المخنثين أن ينفوا ، سئل أبو عبد اللّه عن المرأة إذا كانت موسرة وزوجها غائب : هل تحج ؟ قال : تكتب إليه فإن أذن وإلاّ خرجت مع ذي محرم ، قيل فإن كان شاهداً يمنعها تخرج من غير علمه مع محرمها ؟ قال : نعم ، ليس له أن يمنعها قال : ولا تخرج مع غيره ، فإن كان أخوها من الرضاعة خرجت ، قيل لأبي عبد اللّه الرجل يستأجر الدار والحانوت فيؤاجره بأكثر مما استأجره قال : فيها اختلاف ولم يجب ، قيل له : رجل له شجر في أرضه وأغصانها في أرض غيره قال :(2/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
يقطع أغصانها ، قيل فإن صالحه على أن تكون الغلة بينهم قال : لا أدري ، سمعت أبا عبد اللّه يقول في المحرم إذا اضطر إلى الصيد قال : يأكل الميتة وقال : اذهب في الميتة إلى حديث ابن حكيم ، أتانا كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وفاته بشهر : لا تنتفعوا من الميتة بشيء ، سألت أبا عبد اللّه عن محرم ذبح صيداً : يؤكل ؟ قال : لا ، هذا ليس بزكاة هذا لا يؤكل ، قلت : فالرجل يقلع ضرسه ثم يرده إلى موضعه ، فمكث ثلاثاً ثم يقلعه أيش تقول فيه ؟ فإن الشافعي قال يعيد الصلاة لأنه صلّى في ميتة قال : لا تعجل عليّ ، ثم سكت ساعة ثم قال : ما أبعد ما قال ، بلى لو أخذ سن شاة مما يؤكل لحمه فوضعه لم يكن به بأس . وذكر في هذا أحبّ إليّ أن يعيد ما صلّى ، سألت أبا عبد اللّه : يباع الغزل في الفلكة ولعلها ميتة قال : إن علم فلا قلت : لقد يخصف به الخف أو النعل فقال : إذا كان من حمار فأكرهه قلت : فأي شيء ترى ؟ قال : ما لا تعلم فلا تريد أن تبحث قلت له : تنور شوي فيه خنزير ترى أن يخبز فيه قال : لا حتى يغسل ويقلع ما فيه قلت : فيكسر قال : لا ، سألته عن البرّ يداس بالحمير فيبال فيه ثم يطحن قبل أن يغسل قال : لا يؤكل ، قلت لأبي عبد اللّه : إنّ رجلاً قال : من كان له امرأة يسكن إليها وخبز يأكله فهو من المتنعمين قال أبو عبد اللّه : صدق ، سمعت أبا عبد اللّه وذكر المطاعم ففضل عمل اليدين قلت له : إنّ عبد الوهاب قال : قل لأبي عبد اللّه : يخاف عليّ من أمر الحديث إن امتنعت شيء قال : وأي شيء يمنعه من الحديث ؟ قال : الكسب والمعاش قال : هذا أوجب عليه يعني الكسب ، قال المروزي : سمعت بعض أصحابنا يقول : رأيت أبا عبد اللّه في الجمعة وسائل يسأل ، فأعطى رجل لبس قطعة ليدفعها إلى السائل ، فأخذها فدفعها إليه ، قلت لأبي عبد اللّه : إذا كان لي جار أعلم أنه يجوع قال : تواسيه قلت : فإذا كان قوتي رغيفين قال : تطعمه شيئاً ، الذي جاء في الحديث إنما هو في الجار ، قلت لأبي عبد اللّه : إذا كان للرجل قميصان أو جبتان ، تجب عليه المواساة ؟ قال إذا كان يحتاج إليه في هذا البرد ، إلاّ أنْ يكون يفضل ، قلت : الأغنياء تجب عليهم المواساة ؟ فقال إذا كان قوم يضعون شيئاً على شيء كيف لا يجب عليهم ، قال المروزي : سمعت يحيى الجلاء وأبا طالب صاحبنا قالا : سمعنا يزيد بن هارون ، وسئل عن أنفاق المكحلة قال : حرام لا نصلح ، قيل له : فإن تراضيا أبا خالد قال : الزانيان يتراضيان أفحلال هو ؟ قال : قال وسمعت عبد الوهاب يقول : قال أبو أسامة : تقطع الأيدي في المكحلة يعني الذي يعملها ، قلت لأبي عبد اللّه : أقرضت رجلاً عشرة دراهم فردها على مكحلة فقبضت درهماً قال : لم تستوف حقك ؟ قلت له : الرجل يدفع إليّ الدنانير فتكون مكحلة أحكها قال : حكها صلاح لصاحبها .(2/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
قال المروزي : سمعت يحيى الجلاء يذكر عن شعيب بن حرب قال : لأن أرى ابني يحك درهماً أحبّ إلي من أن أحمل على فرس في سبيل اللّه عزّ وجلّ ، قال : ودفع إلى أبو عبد اللّّه ديناراً فقال : صرفه بدراهم صحاح ، فجئت بالدراهم فأعطيته فلما كان بعد ذاك اليوم خرج في تلك الدراهم درهم رديء قلت : فهات حتى أبدله فقال : قد اختلفوا فيه ، وفيه أربعة أقاويل ثم قال : قال مالك : الصرف منتفض وأما الثوري فيقول : مانقص من الدراهم فتكون له حصته من الدنانير ، وهذا قول ما أدري ماهو ، قلت : إلى ما تذهب قال : أرجو أن لا يكون به بأس وأما ابن عمر فيقول : ليس له أن يرد ، قال أبو عبد اللّه : وليس هو بذاك ، رواه رجل مجهول ، وأما قتادة فيقول : له أن يرده ثم قال : قول قتادة أوسع على الناس استخر اللّه عزّ وجلّ ورده ، فدفعه إلي فأبدلته ، عن المغيرة عن إبراهيم أنه كره أن يشتري الدراهم بدينار على أن كان فيها زيف رده ، وعن وكيع عن سفيان عن رجل عن الحسن في الرجل يصرف الدينار فيعطي الدرهم الزيف قال : لا بأس أن يستبدله ، قال سفيان : إذا كان ستوقاً رده ويكون شريكه في الدينار بحصته ، وسئل محمد ابن جعفر عن رجل ابتاع دراهم بدنانير وشرط على صاحبها أنه ما ردّ فعليك بدله قال : أخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال : إن كان فيها زيف رده ولكن لا يشترطان ، سئل أبوعبد اللّه عن الرجل يستأجر يكتب الورق المائة بعشرة دراهم فيدفع إليه ديناراً فقال ابن عمر : قد اكترى شيئاً فأعطاه دنانير وصارف ولم يرَ به بأساً ، قال : ولا يعطي الدنانير من الدراهم إلاّ بسعر يومها ولا زيادة دانق ، سألت أبا عبد اللّه عن حلق القفا فقال : هو من فعال المجوس قال : ودعي حذيفة إلى شيء فرأى شيئاً من زي الأعاجم فخرج وقال : من تشبه بقوم فهو منهم ، وكان أبو عبد اللّه لا يحلق قفاه إلاّ في وقت الحجامة ، قلت لأبي عبد اللّه : فما ترى في تحذيف الوجه قال : أما الوجه فالمقاريض تأتي عليه ، وكره أن يؤخذ الشعر بالمنقاش من الوجه وقال : لعن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) المتنمصات ، سألت أبا عبد اللّه عن المرأة تصل شعرها بقرامل فكره ، وسمعت امرأة تقول : جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد اللّه فقالت : إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها فترى أن أحج مما كسبت قال : لا ، وكره كسبه لنهي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال : يكون من مال أطيب منه ، قلت لأبي عبد اللّه : فالمرأة الكبيرة تصل رأسها بقرامل فلم يرخص لها وقال : إن كان صوفاً أبيض ، وتبسم ودخلت على أبي عبد اللّه فرأيت امرأة تمشط صبية له فقلت للماشطة بعد أن وصلت رأسها بقرمل فقالت : لِمَ تتركي الصبية قالت : إن أبي نهاني وقالت يغضب .(2/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
وروينا عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير عن جابر أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً ، قال أبو بكر : سألت أبا عبد اللّه عن حلق الرأس فكرهه قلت : تكرهه قال : أشد الكراهية ، ثم قال : كان معمر يكره الحلق واحتج أبو عبد اللّه بحديث عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه قال لرجل لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ، قال أبو بكر : رأيت رجلاً من أصحابنا صلّى إلى جانب أبي عبد اللّه ، وقد كان استأصل شعره وظن أبو عبد اللّه أنه محلوق وكان رآه بالليل فقال لي : تعرفه قلت : نعم قال : أردت أن أغلظ له في حلق رأسه ، سألت أبا عبد اللّه عن الحقنة فقال : إذا اضطر إليها فلا بأس ، ورأيت أبا عبد اللّه ألقى لختان درهمين في الطست وسمعته يقول : الجوز إذا لعب به الصبيان ما يعجبني أن يؤكل ، سألته عن مسوك السباع : تفترش ؟ فقال : لا تفترش ، نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنْ تفترش ، ذكرت لأبي عبد اللّه أنّ رجلاً خلف متاعه عند غلامه فباع ثوباً ممن يكره ناحيته ، فأخذ الدراهم فألقاها في كيسه فجاء الرجل فأخبره ، فأخذ الكيس وانطلق به إلى يوسف بن أسباط فأخبره ، فذكر له يوسف عن الثوري وابن المبارك : ما أجد قلبي يسكن إلاّ أنْ أتصدق بالكيس ، فقال أبو عبد اللّه بارك اللّه فيه : سئل أبو عبد اللّه عن الرجل يكون محتاجاً فيجيئه الرجل من إخوانه بشيء يخاف عليه إن لم يقبله فقال : إن أتاه من غير مسألة ولا استشراف نفس ، أخاف أن يضيق عليه إن لم يقبل ، قال : وجئته بحمال دقيق فقال : أعطيته الكراء قلت : نعم ، فأخرج رغيفاً فقال لي : أعطه ، فدفعته إليه فقال : ويحك ما أعلم أني قبلت من أحد شيئاً ولكن لا أرد على أبي عبد اللّه ، أتبرك به ، وجئته به مرة أخرى فأخرج إليه رغيفاً فقال : إنّ نفسي استشرفت إليه ، فتبسم أبو عبد اللّه وقال : لك أن ترد ونحن نحب أن تقبل فقبله ، سألت أبا عبد اللّه عن بيع المراوح الرقاق ، وربما باعوا المروحة بالدرهم أو أكثر فقال : هي بمنزلة الثياب الرقاق قلت : فأي شيء تقول فقال : إذا باعها من تاجر فلا بأس ، قال : سألت أبا عبد اللّه عن مصحف قد بلي : ماترى في دفنه ؟ قال يدفن ، قلت : الرجل تدعوه أمه وهو في الصلاة . قال : قد روي عن ابن المنكدر أنه قال : إذا كان في التطوّع فليجبها ، قلت لأبي عبد اللّه : رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث وفوائد ، فأخذتها أن أنسخها وأسمعها قال : لا إلاّ أن يأذن صاحبها ، سألت أبا عبد اللّه عن شيء من أمر الورع ، فأطرق رأسه إلى الأرض وسكت وكان ربما تغير وجهه ، يقول في بعض ما أسأله : استغفر اللّه قلت : فأي شيء تقول يا أبا عبد اللّه ؟ قال : أحبّ أن تعفيني قلت : فإذا أعفيتك فمن أسأل ، لقد أصبح الأدلاء متحيرين قال : هذا أمر شديد ، وسمعته يقول : أنا منذ أكثر من سبعين سنة في فقد وقال : ما قل من(2/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
الدنيا كان أقل للحساب ، قلت له : إنّ رجلاً قال : إنّ أحمد بن حنبل وبشر بن الحارث ليس هما عندي زهاد ، أحمد له خبز يأكله وبشر له دراهم تجيئه من خراسان ، فتبسم أبو عبد اللّه ثم قال : من الزهاد أنا ، وسمعته يقول : وقع للتيمي فضرب فيه فسطاطاً أو خباء عشرين سنة ، وسمعته يقول : وذكر قوماً من المترفين فقال : الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة ، قلت لأبي عبد اللّه : إنّ مولى ابن المبارك حدثني أنّ سعيد بن عبد الغفار قال لابن المبارك : ما تقول إذا نزل دار من تكره ناحيته بأجر قال : لا بأس بها ، قلت لأبي عبد اللّه : فإذا أجاز الذي تكره ناحيته رجلاً فاشترى دار غلة ترى إن أنزلها بأجر قال : لا ، قال أبو وهب : قال أبو عبد اللّه يعني المبارك في رجل يشتري جارية من رجل فإذا هي صافنة قال : يردها على الذي كانت له ولا يردها على الذي اشتراها منه وهي صافنة ، وذكره عن سفيان عباس العنبري عن رجل قال : كنت مع عبد الرحمن بن مهدي بعبادان ، وكنا نغسل أيدينا من ماء السيل وكان هو لا يفعل ، يأمر غلامه فيجيء من ماء البحر عبد الصمد ابن مقاتل ، قال : كانوا يكتبون الكتاب ولا يتربونه من دور السيل ، يرسلون فيأخذون من طين البحر ، قال : وكتب إلينا ابن حشرم وكتب في كتابه أنّ بشراً كان لا يشرب بعبادان من الحياض التي اتخذها الملوك ، وكان يشرب من ماء البحر . وروينا عن سعيد بن خيثم عن محمد بن خالد قال : مرّ إبراهيم النخعي على امرأة يقال لها أم بكر من مراد وهي تغزل فقال : يا أمّ بكر ، أما آن لك أن تتركينه فقالت : يا أبا عمران كيف أتركه وقد سمعت عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه يقول : إنه من أطيب الكسب ، قلت لأبي عبد اللّه : إنّ حسناً مولى ابن المبارك حكى عن سعيد بن عبد الغفار أنه قال لابن المبارك : ما تقول في رجلين دخلا على من تكره ناحيته فأجازهما ، فقبل واحد ولم يقبل الآخر فخرج الذي قبل ، فاشترى منه الذي لم يقبل ، ما تقول ؟ فسكت ابن المبارك فقال له ابن سعيد : ما يسكتك ، لِمَ لا تجيبني فقال : لو علمت أنّ الجواب خير لي لأجبتك ، قال سعيد : أليس أصلنا على الكراهة : قال ابن المبارك : نعم فقال أبو عبد اللّه : ومن يقوى على هذا ؟ قال له : فما تقول في رجل أجازه فاشترى داراً ؟ ترى أن أنزلها فسكت ابن المبارك فقال : لِمَ لا تجيبني فقال : هذا أضيق أكره أن أجيبك فقلت له : إنّ الثوري قال : ما في أيدي الحشم سحت فأنكر أبو عبد اللّه أنّ عبد الوهاب قال في الرجل : يجاز ثم يدفعها إلى الآخر إنّ المال عنده شيء واحد فقال : هذا شديد قلت : إذا أعطي تكرهه للأوّل ، والثاني لا ترى به بأساً قال : إنما اكرهه للأوّل من طريق المحاباة ، والثاني ليس هو مثل عطية الأوّل ، قال : من أعطى هذا المال أو حوبي على أثره فليقبل وليفرق كما فعل أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ بعث عمر رضي اللّه عنه بمال(2/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
إلى أبي عبيدة ففرق ، وبعث مروان إلى أبي هريرة ففرق ، وبعث إلى ابن عمر ففرق ، وبعث إلى عائشة رضي اللّه تعالى عنها ففرقت ، قلت : فعلى أي وجه قبلها منهم ابن عمر ؟ فإنّ قوماً يحتجون يقولون : لو لم يكن مباحاً لأخذ ، فأنكر ذلك وقال : إنه لما رأى أنّ حوبي كره أن يرد إليهم وفرقه بالسوية قلت : فإنّ معاذاً يروى عنه أنه فضل عنده دينار ، فطلبت منه امرأته فأعطاها فقال : كانت محتاجة إليه فقلت له : أنت تقول من بلى من هذا المال بشيء فليعدل في تفريقه ، وعائشة رضي اللّه عنها لما شكا ابن المنكدر إليها قالت : لو أنّ عندي عشرة آلاف لأعنتك ، فلما خرج أرسل إليها بعشرة آلاف فبعثت خلفه فأعطته فقالت : إنها كانت بليت بقولها ، ومع هذا قد أخرجته وذكر من زهدها وورعها وقال : كان أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يسألونها ، مثل أبي موسى الأشعري وغيره ولم يكن في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها وإنما كانت ابنة ثمانية عشرة سنة . أبو يحيى الناقد قال : حدثنا أبو طالب قال : قلت : حدثوني عن عبد اللّه بن يحيى ابن أبي كثير عن أبيه عن رجل من الأنصار ، أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن إذن القلب فقال : نعم هكذا قلت ، ما هذا الحديث ؟ قال : نهى عن أكل إذن القلب قال : لايؤكل ، وعن عبد اللّه بن أحمد قال : قلت لأبي الغدة فقال : لا تؤكل ، النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كرهها في حديث الأوزاعي عن واصل عن مجاهد ، وروينا عن عبد اللّه بن يزيد عن أم سلمة سألها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن إذن القلب فقالت : ألقيته فقال : طاب قدرك ، وهذا آخر كتاب المعاش وما اتصل به من الآثار في الورع واللّه تعالى أعلم .(2/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
الفصل الثامن والأربعون فيه كتاب تفصيل الحلال والحرام وما بينهما من الشبهات وفضل الحلال وذم الشبهة وتمثيل ذلك بصور الألوان
: روينا عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلاّ أكل الربا ، فمن لم يأكله أصابه من غباره يعني واللّه أعلم أنه يدخل عليه ، وإن لم يعمل به من غير قصد له ولا اكتساب ، كما يدخل الغبار في المشام للمجتاز لفشو الربا وانتشار مداخله مما لا يمكن التحرز منه ، وفي الخبر : درهم من ربا أعظم عند اللّه عزّ وجلّ من ثلاثين زنية في الإسلام ، وما تواعد اللّه عزّ وجلّ ولا تهدّد في معصية مثل ما تواعد في أكل الربا ، فإنه عزّ وجلّ عظم شأنه بوصفين عظيمين إعظاماً له وترهيباً منه ، فذكر في أوله المحاربة للّه عزّ وجلّ ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي آخره الخلود في النار ينتظم ذلك في قوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) البقرة : 278 ثم اشترط للإيمان ترك الربا بقوله : إن ، وهي للشرط والجزاء ثم قال : ( فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) البقرة : 279 ثم أوجب التوبة منه بعد إعلامه الظلم منه فقال : وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، ثم نص على تحريمه في قوله : ( وأَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) البقرة : 275 ثم تواعد بالخلود بعد ذلك كله فقال : ( ومَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ ) البقرة : 275 ، وهذا من شديد الخطاب وعظيم العذاب . وروي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ، فسوّى بينه وبين العلم في الفرض فأوجب الطلب لهما ، مثل فرض الحلال(2/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
للأكل مثل طلب العلم للجاهل ، والفرائض إذا شرعت ثبتت إلى يوم القيامة ، فإذا أمر بطلبها دلّ على وجودها لأنه لا يؤمر بطلب مفترض علينا يكون معدوماً ، فالحلال موجود من حيث افترض علينا وأمرنا بطلبه ، ولكن طريقه ضيق ووجوهه غامضة والتسبب إليه فيه مشقة ، والحاصل منه فيه خشونة وقلة ، ومع ذلك فإنّ المعاون عليه قليل والطالب غريب وهذه أسباب تكرهها النفوس ، وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم ، ثم إنّ الفرائض لها علوم وأحكام ؛ فمن لم يعرف علومها ولم يقم بأحكامها فكأنه لم يعلمها ، وكان عمر رضي اللّه عنه يضرب أهل السوق بالدرة ويقول : لا يتّجر في سوقنا إلاّ من تفقّه وإلاّ أكل الربا : وكان بعض العلماء يقول : تفقّه ثم ادخل السوق فبعْ واشترِ ، وتأول معنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : طلب العلم فريضة على كل مسلم قال : هو طلب علم الحلال والحرام والبيع والشراء ، إذا أراد الإنسان أن يدخل فيه افترض عليه علمه ، ففي الخبر : من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ ، ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء ، ويقال : إنّ أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه ، ومن أقام نفسه في مقام ذل في طلب الحلال ، تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء إذا يبس ، وكان بعض العلماء يقول لبعض المجاهدين : أين أنت من عمل الأبطال : كسب الحلال والنفقة على العيال ؟ وقد كان شعيب بن حرب ، وغيره يقول : لا تحقر دانقاً من حلال تكسبه تنفقه على نفسك وعيالك أو أخ من إخوانك ، فلعله لا يصل إلى جوفك أو لا يصل إلى غيرك حتى يغفر لك ، وفي الخبر : من أكل الحلال أربعين يوماً نور اللّه قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه ، وفي بعض الروايات زهده اللّه في الدنيا ويقال : من أكل حلالاً وعمل في سنة فهو من أبدال هذه الأمة . وقد كان سهل يقول : لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يأكل الحلال بالورع . وروينا عن إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض رضي اللّه عنهما : لم ينبل من نبل بالحج ولا بالجهاد ولا بالصوم ولا بالصلاة ، وإنما ينبل عندنا من كان يعقل ما يدخل(2/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
جوفه يعني الرغيف من حله ، وقال يوسف بن أسباط لشعيب بن حرب : أشعرت أنّ الصلاة جماعة سنّة وأن كسب الحلال فريضة ؟ قال : نعم ، وسأل رجل إبراهيم بن أدهم قال : أنا رجل أتكسب في السوق ، فإذا عملت فاتتني الصلاة في جماعة فأيما أحبّ إليك أصلّي في جماعة أو أكتسب فقال : اكتسب من حلال وأنت في جماعة ، وقد كان إبراهيم بن أدهم يعمل هو وإخوانه في الحصاد في شهر رمضان ، فكان يقول لهم : انصحوا في عملكم بالنهار حتى تأكلوا حلالاً ولا تصلّوا بالليل ، وإنّ لكم ثواب الصلاة في جماعة وأجر المصلّين بالليل ، وقال بعض السلف : أفضل الأشياء ثلاث ؛ عمل في سنة ودرهم حلال وصلاة في جماعة . وكان سهل رحمه اللّه يقول : لا يبلغ العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يؤدي هذه الأربع ؛ أداء الفرائض بالسنّة وأكل الحلال بالورع واجتناب النهي في الظاهر والباطن والصبر على ذلك إلى الممات ، وقال : مَنْ لم يكن مطعمه من حلال لم يكشف الحجاب عن قلبه ولم ترفع العقوبة عن قلبه ولم يبالِ بصلاته وصيامه إلاّ أنْ يعفو اللّه عزّ وجلّ عنه ، وقال : من اختار أن يرى خوف اللّه في قلبه ويكاشف بآيات الصدّيقين ، لا يأكل إلاّ حلالاً ولا يعمل إلاّ في سنة أو ضرورة ، وكان يقول : إنما حرموا مشاهدة الملكوت ، وحجبوا عن الوصول بشيئين سوء الطعمة وأذى الخلق ، وكان يقول : بعد سنة ثلاثمائة لا تصح لأحد توبة ، قيل : ولِمَ قال : يفسد الخبز وهم لا يصبرون عنه ، وقد روى مرة الطيّب عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : جسم غذي بحرام لا يدخل الجنة ، النار أولى به ، وفي الخبر : أنه أكل من كسب غلامه ثم سأله عنه فقال : رقيت لقوم فأعطوني ، وفي لفظ آخر : تكهنت لهم فأدخل يده في فيه وجعل يقيء حتى استقاءَه عن آخر لقمة ثم قال : اللّهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الإمعاء . وقد روي أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر بذلك فقال : أو ما علمتم أنّ الصديق لا يدخل جوفه إلاّ طيّباً ؟ وفي الخبر : أنه سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه سأل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أنْ يجعله اللّه مستجاب الدعوة فقال : يا سعد ، أطب طعمتك تستجب دعوتك ، وقال العلماء : الدعاء محجوب عن السماء بفساد الطعمة ، ويقال : إنه اللّه لا يستجيب دعاء عبد حتى يصلح طعمته ويرضى عمله ، وقال جماعة من السلف : الجهاد عشرة أجزاء ؛ تسعة في طلب الحلال ،(2/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
وقال عليّ بن فضيل لأبيه : يا أبَتِ ، إنّ الحلال عزيز فقال : يا بني إنه وإن عزّ فقليله عند اللّه كثير ، يقال : إنّ مَنْ صلّى وفي جوفه طعام حرام ، أو على ظهره سلك من حرام لم تقبل صلاته ، وقال بعض السلف : يا مسكين إذا صمت فانظر عند من تفطر وطعام من تأكل ، فإنّ العبد ليأكل الأكلة فيتقلب قلبه وينغل كما نغل الأديم ، فلا يعود إلى حاله أبداً وهذا أحد التأويلين في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : كم من صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، قال : هو الذي يصوم ويفطر على الحرام ، وفي الخبر : من طلب الدنيا حلالاً مفاخراً مكاثراً ألقي اللّه عزّ وجلّ وهو عليه غضبان ، وحدثونا من آثار السلف أنّ الواعظ والمذكر كان إذا جلس للناس ونصب نفسه سأل أهل العلم عن مجالسته فكانوا يقولون : تفقدوا منه ثلاثاً ، انظروا إلى صحة اعتقاده وإلى غريزة عقله وإلى طعمته ، فإن كان معتقد البدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق ، وإن كان سيّء الطعمة فاعلموا أنه ينطق عن الهوى ، وإن كان غير ممكن العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه ، وهذا التفقد والبحث عن طريق قد مات فمن عمل به فقد أحياه . وذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الحريص على الدنيا فذمه ثم قال : رب ، أشعث أغبر مشرد في الآفاق ، مطعمه حرام وملبسه حرام غذي بالحرام ، يرفع يده في صلاته فيقول : يا ربّ يا ربّ ، فأنّى يستجاب له ذلك ، وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أنّ للّه عزّ وجلّ ملكاً على بيت المقدس ينادي في كل ليلة : من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل ، قيل الصرف النافلة والعدل الفريضة ، وفي حديث أبي هريرة : المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة صدرت العروق إليها بالصحة ، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق إليها بالسقم ، ومثل الطعمة من الدين مثل الأساس من البنيان ؛ فإذا ثبت الأساس وقوي(2/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
استقام البناء وارتفع ، وإذا ضعف الأساس واعوج انهار البنيان ووقع ، وقد قال اللّه : ( أَحسَنَ الخَالِقينَ ) الصافات : 125 ، أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خيراً من أسس بنيانه على شفا حرف جرف هار فانهار به في نار جهنم . وفي الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : من اكتسب مالاً من حرام وإن تصدق به لم يقبل منه ، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار ، وقيل في معنى قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلاَ تأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) النساء : 29 ، قيل : من أكل حراماً فقد قتل نفسه لأنه كان سبب هلاكها وتعذيبها ، وفي الأخبار المشهوة عن عليّ وغيره : أنّ الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب ، وقال يوسف بن أسباط وسفيان الثوري رحمهما اللّه : لا طاعة للوالدين في الشبهة ، وقال الفضيل بن عياض : من قام في موقف ذل في طلب الحلال حشره اللّه مع الصدّيقين ورفعه إلى الشهداء في موقف القيامة ، وقال أبو سليمان أو غيره من العلماء : لا يفلح من استحيا من طلب الحلال ، وفي بعض التفسير فإن له معيشة ضنكاً ، قيل أكل الحرام كما قيل في قول : ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : نرزقه حلالاً وقد قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) البقرة : 172 ، قيل : من الحلال كما قال : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صَالِحاً ) المؤمنون : 51 ، أي من الحلال ، فأمر بأكل الحلال قبل العمل الصالح ، وهكذا قال بعض العلماء : زكاة الأعمال بأكل الحلال ، فكلما كانت الطعمة أحل كان العمل أزكى وأنفع ، وكان بشر بن الحارث إذا ذكر أحمد بن حنبل يقول : قد فضل عليّ بثلاث ؛ صبره على العيال وأنا أضيق عن ذلك وهو يطلب الحلال لنفسه ولغيره وكان يقول : ما أترك الطيبات زهداً فيها وإنما أتركها لأنه لا يصفو لي درهمها ، ولو صح لي الدرهم الذي اشتريها به لأكلتها ، وقد قال علماء الظاهر : إن الحلال من عشرة أوجه ومنهم من قال : يوجد من سبعة أشياء وأصل ذلك كله يرجع إلى ثلاثة أشياء : تجارة بصدق وصناعة بنصح وعطية بحكم ، ثم تنقسم العطية أربعة أقسام ؛ فيكون فيئاً أو ميراثاً أو هبة عن طيب نفس ، أو صدقة مع وجود فقر ، ومدار ذلك كله وقطبه أنّ الحلال مشتق من اسمه بمعنيين ؛ ما انحلّ الظلم عنه أو حل العلم فيه ، فما انحل الظلم عنه انحلت المطالبة عنه ، وما حل في العلم حلت الإباحة والأمر به ، والحلال عند العلماء ما لم يعصَ اللّه عزّ وجلّ في أخذه ، قال بعض علماء الباطن : الحلال ما لم يعصَ اللّه عزّ وجلّ في أوله ولم ينسَ في آخره . وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه ، وكان سهل إذا سئل عن الحلال يقول : هو العلم ، وقال : لو فتح العبد فمه إلى السماء وشرب القطر ثم تقوى بذلك على معصية أو لم يَطعْ اللّه عزّ وجلّ بتلك القوة لم يكن ذلك حلالاً ، وقال طائفة من أهل العلم : إنّ المتصنع(2/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
للناس والمتزين لهم يأكل حراماً ، لأنه لم ينصح مولاه في عمله ، وقال بعض الموحدين : لا يكون حلالاً حتى لا يشهد فيه سوى اللّه تعالى ، وإنّ من أشرك في رزق اللّه العباد فذلك شبهة وإنْ حل من طريق الأحكام ، واحتجوا بقول عيسى عليه السلام : يأكلون رزقه ويشركون فيه خلقه ، ومن الأبدال من يقول الحلال ما لم يؤخذ من أيدي الخلق ولم ينتقل إلى أملاكهم ، وكان بعضهم لا يأكل إلاّ مما أنبتت الأرض التي هي غير مملوكة ، وقوله عدل أنّ الحلال ما لم يؤخذ من أيدي الظالمين ، وما أخذ من أيدي المتّقين ، وحدثت عن بعض الأبدال في قصة طويلة ذكرها ، أنّ بعض العامة من السياحين دفع إليه شيئاً من الطعام فلم يأكله ، فسأله عن امتناعه فقال : نحن لا نأكل إلاّ حلالاً ، فلذلك تستقيم قلوبنا على الزهد في الدنيا وتدوم على حالة واحدة ، ونكاشف بالملكوت ونشاهد الآخرة ثم قال : لو أكلت مما تأكلون ثلاثة أيام لما رجعنا إلى شيء مما نحن عليه من علم اليقين ، ولذهب الخوف والمشاهدة من قلوبنا في كلام طويل ، قال له الرجل في آخره : فإني أصوم الدهر وأختم القرآن في كل شهر ثلاثين ختمة فقال له البدل : هذه الشربة من اللبن التي رأيتني فد شربتها أحبّ إلي من ثلاثين ختمة في ثلاثمائة ركعة من أعمالك ، وكانت شربة من لبن من أروى وحشية وهو الأنثى من الوعل ، وقال بعض السائحين : قلت لبعض الأبدال وقد حدثه عن أكل الحلال بمثل هذا الحديث : أنتم تقدرون على الحلال ولا تطعمون إخوانكم من المسلمين فقال : لا يصلح لجملة الخلق ولم نؤمر بذلك ، لأنهم لو أكلوا كلهم حلالاً لبطلت المملكة وتعطلت الأسواق وخربت الأمصار ، ولكنه قليل في قليل من الخلق وخصوص في مخصوصين أو معنى هذا الكلام ، وقال بعض العلماء : لا أعلم حلالاً لا شك فيه إلاّ ماء الغدران ، وماأنبتت أرض غير مملوكة أوهدية من أخ صالح أو معاملة تقي بصدق ونصح ، وكان يحيى ابن معين قد صحب أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه في السفر سنين ، ولم يكن أحمد يأكل معه لأجل كلمة بلغته عنه وهو أنه قال : أنا لا أسأل أحداً شيئاً ، ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته ، فهجره أحمد رضي اللّه عنه حتى اعتذر إليه يحيى وقال : إنما كنت أمزح قال : تمزح بالدين ، أما علمت أنّ الأكل بالدين قدمه اللّه على العمل فقال : كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً ، وقد كان كثير من الورعين يقول : منذ أربعين سنة ما دخل جوفي إلاّ ماء أعلم من أين هو ، وبعضهم يقول : منذ ستين سنة ما أكلت إلاّ من حيث أعلم ، وكان وهب بن الورد لا يأكل إلاّ من حيث يعلم أو يشهد عنده شاهدان بصحته ، وقد(2/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
كان بشر يقول : من فقر جاع ، ومن تغافل شبع ، وعند العلماء : إنّ من طلب الدنيا حلالاً فهو أزهد فيها ممن أكل الشبهات من غير طلب ، وفي الخبر : من لم يبال من أين مطعمه لم يبالِ اللّه تعالى من أي أبواب النار أدخله ، وقيل : ذلك في التوراة مكتوب . ذكر تفصيل الحلال من الشبهة والأصل في ذلك حديث النعمان بن بشير الحلال بيِّن والحرام بيِّن والشبهات بين ذلك لا يعلمها كثير من الناس ، من تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه وإنّ لكل مالك حمى وإن حمى اللّه في أرضه محارمه ، يقال : إنّ هذا الحديث ثلث العلم ، فالحلال ما ظهر وتبين وكنت على يقين منه واطمأن به قلب المؤمن العالم ، والحرام أيضاً ما تبين وانكشف على يقين منه ولم يختلف أحد من المسلمين فيه ، ونفر قلب المؤمن واشمأز منه وقد تطمئن بعض القلوب إلى شيء لقلة ورعها ، وقد تنفر بعض القلوب من شيء لقصور علمها وليس يقع بمثل هذين القلبين اعتبار ، وإنما الاعتبار بقلب المعيار الذي قد جعل كالمحك يختبر به معادن الملكوت وهو قلب المؤمن الموقن العالم ، وهذا القلب في القلوب أعزّ من الذهب إلابريز في سائر المعادن . وقد روينا عن بعض السلف عن تفسير قوله تعالى : ( وَكَذلكَ نُوَلّي بَعْضَ الظَّاِلمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأنعام : 129 ، قال : إذا فسدت أعمال الناس جعل عليهم ولاة يشبهون أعمالهم ، وقال بعض العلماء في معناه : إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم والشبهات على وجوه ، أحدها ما أشبه الحلال من وجه وما اختلط أيضاً بها فاختلط ولم يتميز منهما ، والشبهة أيضاً ما دل باطن العلم على تحليله فهو حلال الحكم وأظهر باطن الورع الوقوف عنه ، والشبهة ما أباحه علم الظاهر وكرهه علماء الباطن لحبك القلوب وحوازها ولعدم الطمأنينة ومواجيد القلوب ، كنحو ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على ما أسمع منه وهو يعلم خلافه ، فمن قضيت له على أخيه فإن أقطع له قطعة من النار ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يحكم بظاهر الأمر وردهم إلى حقيقة علم العبد بما شهد وعرف من عيب نفسه المستتر عن الأبصار ، والشبهة أيضاً ما اختلف فيه لخفاء أدلته ولتكافؤها بالسوية وما لم تره عينك فتقع على(2/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
غيبه ، والحلال والحرام ما أجمعواعليه وظهرت الأدلة عليه ، والشبهة أيضاً ما حل سببه وصودف فيه حكمه إلاّ أنّ عينه مجهولة غير متيقن تحليلها ، والشبهة أيضاً ما فقد منه بعض القيام بالأحكام أو ما اعتل سببه الذي يوصل العبد ويتطرق إليه من فضول جهل أو حدوث آفة من آفات النفوس ، فهذه الأنواع كلها من الشبهات ، ثم تختلف نفس الشبهات فيكون ذلك شبهة الحلال وتكون شبهة الحرام ، شبهة كدرة ، وتكون شبهة متقاربة لأنّ الحلال عند علماء الباطن على ثلاث مقامات ، حلال كاف وهذا عموم وكأنه ما حل من طريق الحكم ، وحلال صاف وهذا خصوص وكأنه ما ظهرت الأدلة فيه وحل سببه ووجدت السنّة فيه ، وحلال شاف وهذا خصوص الخصوص ، وكان ذلك ما علم أصله وأصل وجرى على أيدي المتقيّن ولم يخالطه جهل ، فلذلك تفاوتت الشبهات لتفاوت حلال ضدها ، فأما الحرام فطعمة الفاسقين ، أكله فسوق وطلبه فسوق وإطعامه فسوق ، والمعاونة عليه فسوق والمدمن عليه فاسق ، وهو من الكبائر وليس من حاجة المسلمين ولا يغنيهم ، والحلال هو ما أجلّه الكتاب والسنّة وحللته الأحكام والعلوم من سائر الأسباب والمعاني المطلقة والمباحة التصرف في العلم ، وهو بغية المؤمنين وطعمة المتّقين ومقام الصالحين ، فطلبه جهاد وإطعامه برّ والمعاونة عليه تقوى وأكله عبادة ، والمدمن عليه مؤمن تقي ، والشبهة ما اختلف العلماء فيه ولم يجمعوا عليه ، أو ما التبس باطنه فاشتبه لغموض الأدلة أو خفاء الاستدلال فلم يكن بيّناً فلم يجمع أهل الظاهر . والورع عليه كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : لا يعلمه كثير من الناس فهذه طعمة عموم المسلمين فإن ابتليت بهذا فخذ منها حاجتك وضرورتك من كل شيء ، تكن بذلك فاضلاً ويصح لك مقام في الورع ، والاستكثار منه والاقتناء مكروه ، وتركه إذا أمكن أفضل لأن في الخبر : من تركه فقد استبرأ لدينه أي تنزه وتنظف وتفقد دينه واحتاط له ، وقيل : إنّ الأيمان نزه نظيف فتنظفوا وتنزهوا ، ومعنى التنزه التباعد من الدناءة والأوساخ ، ومن ذلك قيل : خرجنا نتنزه ، وخرج فلان في نزهة إذا تباعد عن المصر وفارق جملة الناس ، ثم قال : وعرضه أي استبرأ لعرضه أن يتكلم الناس فيه بسوء وينسبوه إلى فحش ، وقد جعلنا الشبهة طريقاً إلى الحرام وموقعة فيه لأن في الخبر : من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه أي يطلب الشبهة ويدمن عليها ويستكثر منها يسرع الوقوع في الحرام ، أي تسرع إليه وتدخله فيه ، وقال بعض العلماء : ما أخذ من يد تقي عدل بحكم جائز فهو حلال ، وما أخذ من يد من لا يعرف بعدالة ولا جرح فهو شبهة ، وما أخذ من يد ظالم أو فاجر فهو حرام وإن أخذ بحكم جائز وهذا القول يقرب من الحق ، ومثله من المقال مثل ما قال بعض أهل العلم : إنّ من لم يعرف أنّ ماله خالطه خيانة ولا معاملة ظالم فذلك حلال ، ومن خالط(2/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
الظلمة واكتسب المال من خيانات فما في يده حرام وإن اختلط ماله فلم يتميز ، وكان يعامل بعض الظلمة ويعامل أهل التقوى والإيمان فما في يده شبهة . وقد جاء في الخبر : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الخير طمأنينة وإنّ الشرّ ريبة ، معناه دع ما تشك فيه إنه حلال إلى شيء آخر لا شك فيه ، فإن الشرّ ريبة وليس بيقين ، وفي لفظ آخر : الإثم حيك الصدور . وقد جاء في الحديث : الإثم حواز القلوب أي ما حزّ في القلب وأثر فيه بنكث فهو إثم ، لأن اللّه تعالى علق الإثم بالقلب وجعله من أوصافه في قوله عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة : 283 ، وفي الخبر : البرّ ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس فدعه لأنه قال : المؤمنون شهداء اللّه وقال : ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند اللّه حسن ، وما رأوه قبيحاً فهو عنداللهّ قبيح كما قال سبحانه : ( فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرُسُولُُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) التوبة : 105 لأن كراهتك نظر اللّه إليك دليل على وجود الريبة فيك ، وفصل الخطاب من ذلك أنه ليس على العبد أكثر من جهده وطاقته ، وأن يعمل في دينه بمبلغ علمه وما يؤدي إليه اجتهاده ووسعه ، وأنْ لا يخبأ لنفسه خبيئة ولا يرخص لنفسه بهواه رخصة ، فإن قصر علمه استعان بعلم غيره ، فما أخطأ حقيقته وراء ذلك فهو معفو الخطأ ، وبعض الورعين يقول : الحلال ما لم يتناوله أيدي الظالمين ، وقال بعضهم : ما لم تجرِ عليه يد ظالم ، وقال بعض العلماء : لا يكون حلالاً حتى لا يتخالج في القلب منه شيء وحتى يسكن القلب إليه ويطمئن به ، وقال آخر : الحلال ما عرض على أهل الظاهر والباطن ، فإذا لم ينكروا منه شيئاً فذلك الحلال ، وقد كان اجتمع جماعة من العلماء يتذاكرون أي الأعمال أشد فقال بعضهم : الجهاد وقال بعضهم : الصيام والصلاة وقال آخر : مخالفة الهوى وقال بعضهم : الورع ، فأجمعوا على الورع ورجعوا إلى هذا القول ، وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء عندي أسهل من الورع قيل : وكيف ؟ قال : إذا حاك في صدري شيء تركته وهذا سهل على من ساعده القدر بالزهد وقواه على ذي النفس(2/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
الشهوانية ، كما أنّ الزهد سهل على من أمده اللّه بروح التأييد باليقين ، وعزيز على من ابتلي بحبّ الدنيا ، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أفضل الأعمال والذي نقيم به وجوهنا عن اللّه عزّوجلّ هو الورع ، فقال له أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : صدقت ، ولعمري أنّ اليقين إذا وجد والزهد إذا حصل سهل والورع والإخلاص وهما عمدة الأعمال . وحكي عن يوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وغيرهم من عباد أهل الشام أنّ قائلهم يقول : منذ ثلاثين سنة ماحاك في صدري شيء إلاّ تركته ، وبعضهم يقول : منذ أربعين سنة ما وقف قلبي عن شيء وتخالج فيه إلاّ تركته ، وقال بعضهم : منذ ثلاثين سنة ما أبالي على أي حال رآني الناس إلاّ أن يكون حاجة الإنسان ، وحكي أنّ بعض الورعين وقع منه دينار فانكبّ ليأخذه ، فوجد دينارين فلم يعرف ديناره منها فتركهما معاً ، وحكي أنّ امرأة من المتعبدّات من أهل القلوب سألت إبراهيم الخواص عن تغير وجدته في قلبها فقال : عليك بالتفقد فقالت : قد تفقدت فما وجدت شيئاً أعرفه ، فأطرق ساعة ثم قال : ألاّ تذكرين ليلة المشعل فقالت : بلى فقال : هذا التغير من ذلك ، فذكرت أنها كانت تغزل فوق سطح لها فانقطع خيطها ، فمر مشعل السلطان فغزلت في ضوئه خيطاً وأدخلت في غزلها ، ونسجت منه قميصاً فلبسته قال : فنزعت القميص وباعته وتصدقت بثمنه ، فرجع قلبها إلى الصفا ، قد حكي عن ذي النون المصري رحمه اللّه فوق ذلك أنه لما سجن لم يأكل طعاماً ولم يشرب أياماً ، فوجهت إليه امرأة يعرفها من العابدات بطعام إلى السجن وقالت : هذا من حلال ، فلم يأكله فقالت له بعد ذلك ، فقال : ذلك الطعام من حلال إلاّ أنه جاءني في طريق حرام فلم آكله فقالت : وكيف ذلك قال : جاءني في يد السجان وهو ظالم فلذلك لم آكله وهذه خصال الورعين ، والورع هو باب الزهد ومفتاح الخوف وحقيقة الصدق ، فعموم الورع أول عموم الزهد وخصوصه أول خصوص الزهد . فينبغي للعبد أن يبتدئ بطلب الحلال فيكون هو همه وقصده ، فيجعل ما استطاب من المكاسب وأعلى ما قدر عليه مما يسلم فيه ، فيجعل ذلك لحاجة نفسه فيما يطعم ويلبس ، ويجعل مادخل عليه من الشبهات مما في نفسه منه جزازات في مؤونة عياله وفيما يرتقق به من مؤونة البيت مما لا يطعم ولا يلبس ، مثل الحطب والبز وأجرة البيت وما أشبه ذلك ، وسنذكر تمثيل ذلك بصور الألوان حتى تعرفه ، وفي هذه رخصة وله فيه مجاهدة وحسن نية ومعاملة إذا أخذ نفسه به وصبر عليه ، وكان ذلك من باله وهمه فاحتسب في ذلك ما عند اللّه عزّ وجلّ ، وتحرى بذلك لدين اللّه عزّ وجلّ ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يشكر له سعيه ، ويجزل عليه أجره ، وهذا طريق يوصل إلى اللّه عزّ وجل وهو محجة كثير من السلف ، ولو أنّ عبداً شك في شيء فتحرز منه شكر اللّه له نيته ، وإن كان قد أخطأ حقيقة الشيء عنده فكان(2/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
الشيء حلالاً في علم اللّه عزّ وجلّ ولو أنه أقدم على شيء بقلّة مبالاة فلم يدعه ، فتناول شيئاً على أنه حلال عنده كان مأزور السوء نيته وقلة ورعه ، وإن كان أصاب الحقيقة عند اللّه فهو أفضل وله أجران : أجر العلم ومقام التوفيق ، ومن قصد ترك العلم وأخطأ الحقيقة عند اللّه عزّ وجلّ فعليه وزران : وزر الجهل ونقص العصمة ، ومن عمل بعلم فأخطأ الحقيقة فله أجر واحد ، ومن عمل بجهل فأصاب الحقيقة فعليه إثم الجهل وهو معصوم في الفعل ، وحكى وهب اليماني مما نقل من الزبور أنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى داود عليه السلام : قل لبني إسرائيل : إني لا أنظر إلى صيامكم ولا إلى صلاتكم ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي ، ذلك الذي أؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي ، وقد كان بعض العلماء يقول لأهله : أرفقوا بدهن المصباح فإنما توقدون بلحمي ودمي ، قيل : وكيف ؟ قال لأنكم توقدون من كسبي ، وكسبي من ديني وديني من لحمي ودمي ، وقد كان يقال : من تفقد من أين يكسب الدرهم تبصر أين يضعه ، ومن لم يبال من أين اكتسب لم يبال فيما أنفقه ، وقد قال بعض العلماء لرجل رآه بطالاً وكان ذا عيال قال له : احترف فإنه إذا كان لك كسب أكل عيالك دنياك ، وإن لم يكن لك كسب أكلوا دينك ، وروي أنّ بعض الزهاد وقعت منه قطعة فجعل يطلبها عامة يومه فقيل له : أنت قد زهدت في الدنيا كلها وأنت تطلب هذه القطعة هذا الطلب فقال : إنّ طلبي هذه القطعة من زهدي في الدنيا لأني لا أعتاض منها غيرها ، لأنها من حيث أعلم وأنا لا آكل إلاّ من حيث أعلم ، وقد كان بشر يقول : المال إذا اجتمع من الشبهات لا ينفق إلاّ في الشهوات ، وقال سري السقطي : لا يصبر على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات ، وفي الخبر أنّ رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن كسب الحجام فنهاه عنه فأعاد مسألته عنه فقال : إنّ لي غلاماً حجاماً فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنْ كان لا بدّ فأعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك ، وفي الخبر أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال : لا تأكلوه ، وفي خبر آخر : إن كان جامداً فألقوها ، وإن كان ذائباً فاستصحبوا به ، وعن جماعة من علماء الكوفة : لا بأس بشحوم الميتة تطلى بها السفن ويدبغ بها الجلود . وقد روينا فيه حديثاً مسنداً ، فهذا حجة فيما ذكرناه من أنّ حكم الشبهات أن ينفق منها فيما لايطعم ولا يلبس إلاّ إن يضطر إليها فيتناول منها مقدار الحاجة ، وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أتى بلبن فسأل عن أصله فأخبر به ، فسأل عن أصل أصله فأخبر به ، فلما رضيه شرب منه ، فهذا حكم الحلال أن تعرف عين الشيء ثم تعرف أصله ، فإذا صح لك أصله وأصل أصله سقط عنك ما وراء ذلك ، فإن لم تعلم رأى عين وأخبرك مسلم تقي أخباره لك مقام ذلك ،(2/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
وفي الخبر : لا تأكل إلاّ طعام تقي ولا يأكل طعامك إلاّتقي ، لأن التقي قد استبرأ لدينه واجتهد بعلمه واحتاط لنفسه ، فقد سقط عنك البحث والاجتهاد لأنه قد ناب عنك فيه وقام لك به ، فكفاك كلفته فغنيت عن تكلفه ، فلذلك جاءت الأحاديث على هذا المعنى : إذا دخل أحدكم إلى منزل أخيه فقدم إليه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأل ويشرب من شرابه ولا يسأل ، لأنه قد كفى والسؤال عمّا قد كفى تكلف ، والتكلف ليس مما يعني المسلم ، وفي الخبر الآخر : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، فلهذا سقط عنا السؤال من البحث ولذلك كان المتقدمون يستحبون أكل طعام العلماء والصالحين . وأما من لا يحتاط لنفسه ولا يستبرئ لدينه ولا يتِقي في مكسبه حتى لا يبالي من أين أكل ولا من أين اكتسب ولا من أين جاءه الدرهم أبداً ، فهذا غير تقي فحينئذ يلزمك أنت البحث لنفسك والاجتهاد والاحتياط لدينك إذا لم يقم به غيرك ولم يكلفه أخوك ، ففي مثل هذا جاء الخبر : لا يأكل طعامك إلاّ تقي ولا تأكل إلاّ طعام تقي ، والتقي هو الورع الدين المتّقي للحرام المجتنب للآثام ، ففي دليل خطابه : لا تأكل طعام غير تقي فلا يصح التقوى من عبد يتصرف حتى يكون مستعملاً في تجارته وصناعته حكم الكتاب والسنّة ، ويشهد له العلم بسلامته وبراءة دينه من الخيانة والمكر في المعاملة ، من الكذب والغبن في التجارة والصنعة ، بالصدق والنصح في جميع ذلك وحتى يحل السبب المعتاض منهما ، وكل تجارة وصناعة يخالف العبد فيها حكم الكتاب والسنّة فليست بتجارة ولا صناعة حلال ، وإن كان الاسم موجوداً لعدم المعنى الذي تصح به الأسماء في الحكم ، لأن وجود الأسماء فارغة لا يغني مع عدم صحة المعاني لموافقته شيئاً ، فإذا كان ما يسميه الجاهلون تجارة وصناعة وما يسميّه المستحلون بيعاً وشراء ومعاملة ، وهو غير موافق للعلم ، فليس ذلك بتجارة ولا صناعة ولا معاملة ، ولا يستحل به أكل الحلال لأنه باطل واسمه عند العلماء خيانة وخلابة ، أو غيلة أو حيلة أو محاتلة ، وهذه أسماء محرمة للمكاسب لفساد معانيها وعدم حقائقها يتعلق عليها أحكام مذمومة ، ، لا يحل بها أخذ لأن التسمية إلى العلماء من قبل ، أن إيجاب الأحكام منهم يسمون على صحة المعاني بوقوع الأحكام إذا كانوا هم الحكام ، فقد اعتزل هذا التصرف ، وإن وجد فيه الاسم المبيح لفقد المعنى الصحيح ، وهو حكم الكتاب والسنّة ، فإن وجد الاسم بحقيقة المعنى حتى تسميه العلماء تجارة وصناعة ، إلاّ أنهما لم يصادفا حكم اللّه تعالى فيه بالسلامة من الربا واجتناب البيوع الفاسدة ، فهذا حرام أيضاً لعدم حكم اللّه عزّ وجلّ فيه بالإطلاق ، وإن كان الشراء مباحاً وصودف الأحكام فيه إلاّ أنّ عين المأخوذ المعتاض حرام رأي عين أو خبر من صدق ، فهذا الكسب حرام أيضاً لأنّا على يقين من وجود الحرام فيه(2/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
حتى يصفو العوض المشتبه من عين الحرام بأحد معنيين : إما بيقين أنه حلال الأصل وحلال أصل الأصل ، بأن لانعلم في عينه حراماً رأيناه ولا أخبرناه ، فيحل به حينئذاً أكل المال ونسميه مع ذلك شبهة ، وهو شبهة الحلال إذ لسنا على يقين من حلاله ، لا مكان دخول الحرام فيه لغلبة الأموال المأكلولة بالباطل وبالأسباب المكروهة من قبل الأجناد ، ومن قلّة المتّقين واختلاط ذلك بالأملاك الصحيحة وبأموال التجار والصناع ، فما كنا من حلاله على علم ظن سميّناه شبهة لفقد علم اليقين . وفي الخبر : جاء عقبة بن الحرث إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني تزوّجت امرأة ، فجاءتنا امرأة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة فقال : دعها فقلت : إنها كاذبة فقال : وكيف ؟ وقد زعمت أنها قد أرضعتكما لا خير لك فيها دعها عنك ، وفي لفظ آخر : كيف ؟ وقد قيل ، وفي حديث عبد اللّه بن زمعة أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قضي بالولد له لأنه ولد على فراشه ، وأبطل دعوى الرجل فيه وإن كان منه ، فلما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شبهاً بيّناً قال لسودة : احتجبي عنه يا سودة وهي أخته ثم قال : الولد للفراش وكذلك يجب التقوى في الفراش للورع ، وإنّ الأحكام على الظاهر تجيزها فيكون تركها مقاماً للورعين والحلال عند الورعين اسم ما انحلت عنه المطالبة وحل فيه العلم على حلال المقتبس في قوله عزّ وجلّ : ( وَحَلاِِئِلُ أَبْنَائِكُمْ ) النساء : 23 ، وحلائل جمع حليلة وقيل : إنما سمّيت المرأة حليلة الرجل لأن يحل معها أين حلت ، أي يوجد عندها ويقيم كأنها فعيلة من فعول أي حلول ، والمعنى الآخر سمّيت حليلة ، والرجل حليلها لأن الآثام قد انحلت بينهما ، أي لأنها تحل له ويحل لها والحلال في العلم اسم لما أباحه الكتاب والسنّة بسبب جائز مباح ، وكان الحلال هو ما وجد فيه ثلاث معان : سبب مباح في العلم وعلم بأصل الدرهم والمعتاض به وبأصل أصله أنه خالص من شبهة ومصادقة حكم اللّه عزّ وجلّ في المعاملة ، فإذا فقد أحد هذه المعاني فهو شبهة إلى الحلال أقرب ، وإذا فقد معنيان فهي شبهة الحرام ، فإذا فقدت المعاني الثلاث حتى يكون السبب الذي وصل به الدرهم والمعتاض منه مكروهاً ، أو يكون عين الدرهم مكروهاً مجهولاً ولم يصادف فيه حكم الشرع في البيع والشراء أو الهبة بطيب نفس ، فهذا هو الحرام بعينه والحرام والحلال ضدان ظاهران ، والشبهات أعني شبهة الحلال وشبهة الحرام مشتبهان ، فهي تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه فمثل الحلال والحرام . من أصول الألوان مثل : البياض والسواد ، هما أصلان ليسا فرعين لشيء ولا متوالدين من شيء ومثل شبهة الحلال كمثل الصفرة لأنه لون متولد من البياض ، ومثل شبهة الحرام كالخضرة لون متولد من السواد ،(2/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
فإن رأيت الصفرة فهي علامة شبهة الحلال رددتها إليه وحكمت عليها به ، كما أنّ الخضرة أقرب إلى السواد ، فإن اجتمع في لون صفرة وخضرة فهي الشبهات المخلطة في الشيء ، فانظر إلى الأغلب منها الأكثر ، فاحكم عليه ، فإن كانت الصفرة هي الأكثر والأغلب ، فهذا شبهة الحلال ، تناول منه غير متسع فيه إذ ليس حلالاً صافياً وهذا مثل أموال التجار والصناع المختلطة بأرزاق الجند والمعاملات ، وإنْ رأيت الخضرة أكثر وأغلب فهذا شبهة الحرام ، خذ منه ضرورتك إذ ليس بشبهة صافية ، وهذا مثلا أملاك أولياء السلطان ، لالتباس ملك أيديهم في خدمتهم لأمرائهم حتى تري البياض المحض الذي هو علامة الحلال فخذ كيف شئت واتسع ، لاجناح عليك على أنك لا تكون زاهداً بذلك ، وهذا مثل لفيء المشركين والغنائم في سبيل اللّه ، ومثل المواريث الطيبة وما أنبتت الأرض التي هي غير مغصوبة ، ومثل ماء السماء والسيح في الأنهار وصيد البر والبحر ، وإنْ رأيت السواد الغريب فهو علامة الحرام ، فاجتنبه ولا تأخذ منه شيئاً ، فإن فعلت كنت بذلك فاسقاً وأكل الحرام من الكبائر ، وهذا مثل المغصوب والجنايات ، وما أكل بأسباب المعاصي وما تملك من غير طيب نفس من الواهب ، واعلم أنّ الحلال والحرام فرعان للتقوى والفجور والعلم والجه ، والعلم والتقوي هما حلالان للمتقين العلماء ، فإذا كثر المتّقون ووجد المؤمنون كان الحلال أظهر وأكثر ، ووجود الحرام بظهوره وكثرته ، بكثرته وجود الجهل والفجور وهما حالا الجاهلين الفجار ، فإذا كثر الجاهلون وظهر الفاسقون كان الحرام أغلب وأكثر ، وأصل وجود الحلال في الكافة عدل الأئمة واستقامة الولاة ، وطاعة أوليائهم فيما لهم معهم في سبيل اللّه عزّ وجلّ لصلاح الدين وحيطة المسلمين ، كما إنّ أصل ظهور الحلال وانتشاره هوالرعية ، فإذا قل ذلك وكان الأمر على ضده غمض الحلال واختفى ، فظهر الحرام وفشا ، فكان الحلال قليلاً عزيزاً ، وكان في خصوص من المسلمين يخص اللّه به من يشاء ويصرفه إلى من أحب ، كيف أحب من طريق التوفيق والهداية وبمعنى العصمة والوقاية ؟ وقد جاء في الخبر إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم ، وقال بعض أهل التفسير في قوله عزّ وجلّ : ( وَكَذلكَ نُوَلِّي بَعضِ الظََالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأنعام : 129 ، قال : إذا فسدت أعمال الناس ، جعل عليهم أئمة يشبهون أعمالهم ، وقد روينا عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : رزق المؤمن ، مثل قطر الحب ، فهذا يحتمله معنيان ، أحدهما الضيق والقلة والثاني في الصفاء ، وهذا على معنى ما قال سهل رحمه اللّه : لو كانت الدنيا دماً غبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً ، فهذا على معنيين ، أحدهما أنّ المؤمن موفق معصوم قد عمل للّه عزّ وجلّ بما علم ، واللّه قد حفظه من حيث لا يعلم بأن يستخرج له الحلال من الحرام(2/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
باختياره من عمله ، كما يستخرج له العلم من الجهل ، والتوحيد من الشرك بلطف قدرته ، فمن تذكر به وتبصر به أقامه مقام التوحيد من الحكمة ، والمعنى الثاني المؤمن عنده ، لا يتناول شيئاً إلا فاقة أو ضرورة ، فقد حلّت له وإنْ حرمت على غيره ، وهذا هوالمؤمن الصديق وقد قيل لابن المبارك يظهر بعد المائتين عدل فقال : تذاكرنا ذلك عن حماد بن سلمة ، فغضب وقال : إن استطعت أنْ تموت بعد المائتين فمت ، فإنه يحدث في ذلك الزمان أمراء فجرة ووزراء ظلمة وأمناء خونة ، وقراء فسقة حديثهم فيما بينهم ، التلاوم يسمون عند اللّه الأنتان ، وقال بعض السلف الصالح : إني لأستحي من اللّه عزّ وجلّ أنْ أسأله بعد المائتين أن يرزقني حلالاً ، ولكني أسأله رزقاً لا يعذبني عليه ، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه اللّه : ما ترك لنا بنو فلان من الحلال شيئاً ، يعني الملوك والأمراء ، ويقال إن عليَّا ًرضي اللّه عنه ، لم يأكل بعد قتل عثمان ، ونهب الدار إلاّ طعاماً مختوماً عليه ، وروي في الخبر العامل الذي أراد عليّ رضي اللّه عنه ، أنْ يستعمله على صدقات قال : فدعا بطينة مختومة طننت أنّ فيها جوهراً أو تبراً ففض ختامها ، فإذا فيها سويق شعير فنثره بين يدي وقال : كل من طعامنا ، فقلت : أتختم عليه يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم هذا شيء اصطفيته لنفسي ، وأخاف أنْ يختلط فيه ما ليس منه ، والحديث فيه طول فاختصرت هذا منه . وروي أنّ جماعة من الصحابة ما شبعوا من الطعام منذ قتل عثمان رضي اللّه عنه لاختلاط أموال أهل المدينة بنهب الدار ، منهم ابن عمر وسعد وأسامة بن زيد رضي اللّّه عنهم ، وكان يوسف ووكيع بن الجراح يقولان : الدنيا عندنا على ثلاث منازل ، حلال وحرام وشبهات ، فحلالها حساب ، وحرامها عقاب ، وشبهاتها عتاب ، فخذ من الدنيا ما لا بدَّ لك منه فإن كان ذلك حلالاً كنت زاهداً ، وإن كان شبهة كنت ورعاً وكان في عتاب بسير ، وقد روينا عنهما أنهما قالا : لو زهد أحد في زماننا هذا حتى يكون كأبي ذر وأبي الدرداء في الزهد ما سميناه زاهداً قيل : ولِمَ ؟ قال : لأن الزهد عندنا إنما يكون في الحلال المحض ، والحلال المحض لا يعرف اليوم ، ومات يوسف ووكيع قبل المائتين ، وقد كان وكيع بن الجراح أشبه العلماء بالسلف ، وكان يشبه بعبد اللّه بن مسعود وقد كان يشدد في الطعمة فسئل عن الحلال ، فجعل يعزره ويقول : أين الحلال ؟ وكيف لي بالحلال ؟ ثم قال : لوسألنا مسترشد عن علمنا في الحلال فقلنا له : كل أصول البردي وألقي ثوبك وادخل في الفرات قيل : وأنت يا أبا سفيان من أين تأكل ؟ قال : آكل من رزق اللّه وأرجو عفو اللّّه ، وقد كان بشر بن الحارث من المتقدمين ، سئل عن الحلال قيل له : من أين تأكل يا أبا نصر ؟ فقال : من حيث تأكلون ،(2/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
وليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهويضحك ، وقال مرة أخرى في رواية عنه : ولكن يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة ، وسأله رجل عمّا لا يسكر من النبيذ فقال : انظر في الدرهم الذي تشتري به التمر من أين هو ؟ فإن كان حلالاً وإلاّ هلكت دع عنك ما لا يسكر ، وقد كان سري السقطي يتحري في أكل الحلال ولم يكن يأكل إلاّ من حيث يعرف ، وكان إذا ذكر لأحمد بن حنبل رضي اللّه عنه أثنى عليه وقال : تعنون ذلك الفتى المعروف بطيب الغذاء ، وكان يقول : لا يقوى على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات ، ويقال إنّ بشر بن الحارث كان يأكل من قبله ، وذكر لنا أنّ سرياً السقطي وقف على بشر وهو يتكلم فاطلع في حلقته وقال : يا بشر ، لعل يدا نقين تلبسها وتستريح من هذا الاسم : يعني قولهم بشر الحافي ، فسكت بشر ، فظن من كان من أصحاب سري عند بشر أنه قد وجد عليه فقالوا : يا أبا نصر ، إنه لم يرد إلاّ خيراً فقال : سبحان اللّه ، هو سري كما سري ، وكان سري رحمه اللّه قد وجه إلى أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه بمال فرده ، فجاء سري فكلمه بكلام من هذا العلم فعرفه فيه ما يدق من آفة الرد فقبل منه ولم يكن بعد ذلك يرد عليه شيئاً . وحدثونا عنه أنه قال : انتهيت ذات يوم في سفر إلى نبات من الأرض وعند غدير ماء ، قال : وكنت جائعاً فأكلت من الحشيش ، وشربت من ذلك الماء بكفي ، ثم استندت على ظهري ، ثم خطر ببالي أني إن كنت أكلت حلالاً فاليوم ، فهتف بي هاتف يقول : يا سري زعمت أنك أكلت حلالاِ ، فالقوّة التي بلغتك إلى ههنا من أين هي ؟ قال : فاستغفرت اللّه تعالى مما كان وقع في قلبي ، وكان شقيق البلخي رحمه اللّّه يقول : إنّ المكاسب اليوم قد فسدت ، وإنّ التجارات والصناعات شبهات كلها ، لا يحل الاستكثار والادخار منهما لوجود الغش وعدم النصح ، قال : وإنما ينبغي للمسليمن أنْ يدخلوا فيها ضرورة ، وقال : الناس كقتلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأنهم أعانوا على إماتة السنن ، ودرس طرق الأنبياء ، ومن أبطل سنن نبي فكأنما قتله هذا بقوله في سنة سبعين ومائة ، فإذا كان الأمر أيها المسلم الموقن بتوحيد اللّه ووعيده ، على هذا عند العلماء من السلف والأخيار من الخلف ، في ذلك الوقت ، فكيف بوقتك هذا ؟ وقد افترض عليك الزهد في الدنيا ، وقد وجب عليك الأخذ بالبلغة ، مما لابد منه من كل شيئ ، فإن استكثرت أو جمعت من مثل هذه الأشياء كان ذلك معصية ، وكل ما يظهره اللّه عزّ وجلّ لك من غير الأمور وبديهات المصائب ، فإنما هو تزهد لك في الدنيا إنْ فطنت لذلك ، وكل ما صرف عنك مثل هذا فهو خير ، وإنْ كرهت ، وفي الخبر : ما ملأ ابن آدم وعاء شرَّاً من بطن ولو كان من حلال ، فإن كان لا بدّ فثلث طعام ، وثلث شراب ، وثلث نفس ، فقد صار الأكل(2/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
في ثلث البطن خير من الأكل ملأه لأنه شرّ ، وما نقص من الشر فهو خير ، وفي الخبر : ما شيء أبغض إلى اللّه من بطن مليء ولو من حلال . وقد جاء في الخبر : لا يعذّب اللّه عبداً جعل رزقه في الدنيا قوتاً ، وفي قوله تعالى : ( وَرِزقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأبْقى ) طه : 131 قيل : يوم بيوم ، وقيل : القناعة ، وقد كان المسلمون يتورّعون عن الشبهات في وقت العدل ، ومع وجود الفضل ، حدثونا : أنّ الفضل بن عياض وابن عيينة وابن المبارك رضي اللّه عنهم ، اجتمعوا عند وهيب بن الورد بمكة ، فذكروا الرطب فقال وهيب : هو أحبّ الطعام إليّ إلاّ أني لا آكله ، قيل : ولِمَ ؟ قال : لأنه قد اختلط رطب مكة بهذه البساتين التي اشتروها هؤلاء ، يعني زبيدة وأشباهها ، فقال له ابن المبارك : رحمك اللّه إنْ نظرت إلى مثل هذا ، ضاق عليك الخبز ، فقال : وما سببه ؟ قال : نظرت في أصول الضياع بمصر فإذا هي قد اختلطت بالصوافي ، قال : فغشي على وهيب ، فقال له سفيان : ما أردت بهذا ؟ قتلت الرجل ، قال ابن المبارك : واللّه ما أردت إلاّ أنّ أهوّن عليه ، قال : فلما أفاق وهيب قال للّه عليّ أنْ لا آكل خبزاً أبداً حتى ألقاه ، قال : فكان يشرب اللبن ، قال : فأتته أمه بلبن فقال : من أين لك هذا ؟ قالت من شاة بني فلان ، قال : ومن أين لهم ثمنها ؟ قالت : من كذا وكذا ، فرضيه ، فلا أدناه من فيه ، قال : قد بقي شيء فأين ترعى هذه الشاة ؟ فسكتت ، فقال : لتخبريني ، فإذا هي ترعى مع غنم لابن عبد الصمد الهاشمي أمير مكة في الحي ، فقال : هذا اللبن للمسلمين ، فيه حق لا يحل لي أنْ أشربه دونهم ، وهم شركائي فيه ، فقالت له أمه : اشربه فإن اللّه يغفر لك ، فقال : ما أحبّ أني شربته وأنه غفر لي ، قالت : ولِمَ ؟ قال : أكره أنْ أنال مغفرته بمعصية ، وقد كان لطاووس اليماني بضاعة يتجر له فيها من التمر ، فاشترى مضاربه ببضاعة أديماً من بعض أولياء السلطان وكتب إليه بذلك ، وكتب إليه طاووس : أفسدت علينا مالنا ، ما أحبّ أن أتلبس بشيء منه فبع الأديم باليمن ، وتصدق بثمنه ، ولا تدخل منه إلى الحرم درهماً واحداً ، وأنا أستغفر اللّه من طعمة الفقراء ، وأرجو أنْ أنجو كفافاً لا عليّ ولا لي ، فيقال : إنّ ذلك كان سبب فقره ولم يكن له مال غيره ، فبقي بغير معلوم من دنيا ، وكان خالد القشيري لما ولّي مكة بعد ابن الزبير أجرى نهراً في طريق أهل اليمن إلى مكة ، فكان طاووس ووهب بن منبه اليمانيان رضي اللّّه عنهما إ ذا مرّا عليه لم يتركا دوابهما أنْ تشرب منه ، وقد كان سهل رحمه اللّه يقول : رجل بات في قرية جائعاً قام إلى الغداة لم يقدر أنْ يصلّي من الجوع ، أعطاه اللّه في منزله جميع صلاة المصلّين القائمين في قريته ، قيل : وكيف ذلك ، قال : طلب الحلال ، فلم يجده فكره أنْ يدخل جوفه حراماً فبات طاوياً فله أجر المصلين القائمين في تلك الليلة وهو سليمان التيمي رحمه اللّه ترك أكل الحنطة ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنها تطحن في هذا الأرحى ، فقال : المسلمون شركاء في الماء(2/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
وهؤلاء يأخذون خراجها دون سائر الناس . وحدثت أنّ امرأة أهدت إلى بشر بن الحارث سلة عنب ، فقالت : هذه من صنيعة أبي فردها بشر عليها ، فقالت : سبحان اللّه تشك في كرم أبي وفي صحة ملكه وميراثي منه وشهادتك مكتوبة في كتاب الشراء ، فقال : صدقت ملك أبيك ولكنك أفسدت الكرم ، قالت : بماذا ؟ قال : سقيته من نهر طاهر يعني طاهر بن الحسين بن مصعب بن عبد اللهّ بن طاهر صاحب المأمون ، وهذا النهر هوالخندق المعترض في الجانب الغربي ، لم يكن يشرب من الخندق ولا يمشي على الجسر وقد كان بشر يقول : منذ ثلاثين سنة أشتهي شواء وما أتركه زهداً فيه ولو صحّ لي درهمه لأكلته ، فهذه سيرة المتقدمين وطريق السالفين ، من سلكها لحق بهم وكان كأحدهم ، ومن خالفها فليس على سنّة السلف ، ولا من صالحيّ الخلف وسعة رحمة اللّه الواسعة بمشيئته السابقة ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وقد كان من سيرة القدماء من أهل الورع أنْ لا يستوعب أحدهم كليّة حقّه بل يترك شيئاً خشية أنْ يستوفي الحلال كله ، فيقع في الشبهة ، فإنه يقال : من استوعب الحلال حام حول الحرام ، فكانوايستحبون أنْ يتركوا بينهم وبين الحرام من حقهم حاجزاً من الحلال لقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : من يرتع حول الحمى يوشك أنْ يواقعه ، ومنهم من كان يترك من حقه شيئاً لغير هذه النية ، ولكن لقول اللهّ عزّ وجلّ ( إنَّ اللّه يَأمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ ) النحل : 90 قالوا : فالعدل أنْ تأخذ حقك كله وتعطي الحق ، والإحسان أنْ تترك بعض حقك وتبذل فوق ما عليك من الحق لتكون محسناً ، ولأن اللّّه تعالى كما أمر بالعدل قد أمربالإحسان لقوله : ( حَقّاً عَلَى المتَّقينَ حَقّاً عَلَى المحُسِنينَ ) البقرة : 18 ، - 236 ، وهذه الطريقة قد جهلت من عمل بها فقد أظهرها ، حدثونا عن بعضهم قال : أتيت بعض الورعين بدين له عليّ وكان خمسين درهماً ، قال : ففتح يده فعددت فيها إلى تسع وأربعين درهماً فقبض يده ، فقلت : هذا درهم قد بقي لك من حقك ، قال : قد تركته لك إني أكره أنْ أستوعب مالي كله ، فأقع بما ليس لي ، قد كان عبد اللهّ بن المبارك وغيره يقول : من اتّقى من تسعة وتسعين شيئاً ولم يتّقِ من شيء واحد لم يكن من المتّقين ، ومن تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن من التوّابين ، ومن زهد في تسعة وتسعين شيئاً ولم يزهد في شيء واحد فليس من الزاهدين ، وقد روى عطية السعدي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يكون الرجل من المتّقين حتى يترك ما لا بأس به حذاراً مما به البأس ، وروينا عن أبي الدرداء : إنما التقوى أن يتقي اللهّ العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حراماً ، يكون حجاباً بينه وبين الحرام ، وبمعنى هذا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قال : كنا نترك سبعين باباً من الحلال(2/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
مخافة باب واحد من الحرام ، وهذا طريق قد مات أهله ، فمن سلكه فقد أحياهم فأما أموال التجار والصناع والمتصرفين في المعايش المباحة بالأسباب الجائزة في العلم ، مع موافقة الكتاب والسنّة فهي شبهات ، ثم تتنوع بنوعين : فتكون شبهة حلال إذا عاملت المتّقين وأخذت من الورعين ، وتكون شبهة حرام إذا عاملت قليلي التقوى والورع ، وأما غير ذلك من أموال الجند فإنه حرام لفساد سببه ولمخالفة الأحكام ، فما كان عن معاملة لهم وكسب ولم تعلم شيئاً بعينه غصباً ولا جناية فهو أسهل ، وما علمته فهو نص الحرام ، فاللّّه اللّه في نفسك انظر أيها المسكين لمعادك واحفظ لدينك ، فإنّ كسبك من دينك وطمعتك من إيمانك ، فإن تهاونت بذلك فقد تهاونت بالدين ، ونبذت الأحكام وضيعت اليوم نفسك ولم تنظر فيما قدمت لغد ونعوذ باللّه من سوء القضاء ، ويقال إنّ العدو إذا ظفر من العبد بسوء الطعمة لم يعترض عليه في الأعمال ، وقال : قد ظفرت منك بحاجتي ، اعمل الآن ما شئت ولم يعد عليه من أعماله إلاّ ظلمة في قلبه ، وقسوة وضعفاً في عزيمة ، وفتوراً ومعصية وحرم التوفيق والعصمة ، ولم يورث علم المكتوب والحكمة ، فإن كان المتصرف في السوف على الوصف المكروه ، مخالفاً للعلم في تصرفه مفارقاً للأحكام لايبالي من أي وجه ظهر وبأي سبب عليه قدر ، غير متّقٍ في كسبه ولا مرعٍ لدين اللّه عزّ وجلّ فيه وحكمه ، فهوآكل للمال بالباطل قاتل لنفسه مفسد لدينه غاشٍِ للمسلمين ، واللّه لا يصلح عمل المفسدين كما لايضيع أجر المصلحين ، ومع ذلك فهو غير ناصح للّه عزّ وجلّ ولخلقه في الدين ، مقامه في الظلم وحاله الهوى ، واللهّ لا يحب الظالمين ، فهو مأمور بالتوبة في جميع تصرفه مفترض عليه الإنابة في جميع تقلبه قبل أنّ يبغته الموت ويفجأ الفوت ، فيلقى اللّه تعالى ظالماً ذا هوى فقد قال تعالى : ( وَمَنْ لَمَْ يَتُبْ فأوُلئِك هُمُ الظَّالمُِونَ ) الحجرات : 11 ، وقال تعالى : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقلَبٍ يَنْْقَلِبُونَ ) الشعراء : 227 ، وقال بعض الحكماء : الدنيا بحر عجاج والتجار فيه غاصة ، فواحد يغوص فيخرج دراً ، وهؤلاء أبناء الآخرة الذين لها يعملون ، وآخر يغوص فيخرج آجراً وهؤلاء عمال الدنيا الذين عليها يحرصون ، وآخر يخرج سمكاً ، وهؤلاء المقتصدون ، وآخر في قعره قد غرق ، وهؤلاء المطرودون عن الطاعة إلى الأسواق كلما أرادوا أعمال البرّ طردوا عنها إلى السوق وشغلوا ، فقد غرقوا في بحر الخطايا ، وآخر طاف مع الأمواج يضطرب يطلب النجاة ، كلما رفعته موجة طمع في النجاة ثم تغطيه موجة أخرى فيخاف الهلكة ، وهؤلاء المريدون الاستقامة في زماننا هذا ، ترفعهم التوبة إلى النجاة وتحطهم العادة إلى الهلكة . لم وحاله الهوى ، واللهّ لا يحب الظالمين ، فهو مأمور بالتوبة في جميع تصرفه مفترض عليه الإنابة في جميع تقلبه قبل أنّ يبغته الموت ويفجأ الفوت ، فيلقى اللّه تعالى ظالماً ذا هوى فقد قال تعالى : ( وَمَنْ لَمَْ يَتُبْ فأوُلئِك هُمُ الظَّالمُِونَ ) الحجرات : 11 ، وقال تعالى : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقلَبٍ يَنْْقَلِبُونَ ) الشعراء : 227 ، وقال بعض الحكماء : الدنيا بحر عجاج والتجار فيه غاصة ، فواحد يغوص فيخرج دراً ، وهؤلاء أبناء الآخرة الذين لها يعملون ، وآخر يغوص فيخرج آجراً وهؤلاء عمال الدنيا الذين عليها يحرصون ، وآخر يخرج سمكاً ، وهؤلاء المقتصدون ، وآخر في قعره قد غرق ، وهؤلاء المطرودون عن الطاعة إلى الأسواق كلما أرادوا أعمال البرّ طردوا عنها إلى السوق وشغلوا ، فقد غرقوا في بحر الخطايا ، وآخر طاف مع الأمواج يضطرب يطلب النجاة ، كلما رفعته موجة طمع في النجاة ثم تغطيه موجة أخرى فيخاف الهلكة ، وهؤلاء المريدون الاستقامة في زماننا هذا ، ترفعهم التوبة إلى النجاة وتحطهم العادة إلى الهلكة . وروينا عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ، وأوحى اللّه عزّ(2/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
وجلّ إلى بعض أنبيائه لا تتخذوا الأهل والمال في زمن العقوبات ، ولا حول ولا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم . نحمدك يا من هيأت القلوب للتيقظ لمرضاتك ، وفتحت أقفالها بأسرار معرفتك وأنوار هباتك ، ونصلي ونسلّم على من أرسلته بطب القلوب ، وأيدته بما أنزلت عليه من قوت القلوب وتبيين الغيوب ، وعلى آله الذي تحقّقوا برياضة النفوس فتحلّوا بأنوار اليقين ، وأصحابه السائرين على منهجه المبين . أما بعد ، فقد تمّ بحمده تعالى طبع كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب ، للأمام الفاضل والأستاذ الكامل سيّدنا ومولانا الشيخ أبي طالب المكي رحمه اللّه وأثابه رضاه ، وهو كتاب له من اسمه أكبر نصيب ، ومن المتكلم على آفات النفوس والاستشهاد بالآي كلا مطرب غريب ، وفي تبيين طريق السلف الصالح ما يجعل الغائب كأنه حاضر مبصر ، وفي أحوال أهل اليقين ما يزيح الخفاء ويجلو من عين القلب النظر ، وبالجملة ، فهو كتاب شهرته طبقت الآفاق ، وهي أقل مما فيه ، وليس الخبر يكفي ما العيان يكفيه .(2/488)