قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج
تأليف
الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
شرحه وعلق عليه
سمير حسين حلبي
دار الكتب العلمية
الطبعة الأولى
1408 هـ - 1988 م(/)
قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج
تأليف: للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني(1/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
1- الحمد لله العزيز الغفار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدل السيئات حسناتٍ، وماحي الأوزار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار. أما بعد.
2- فإني سئلت عن علم الحديث الذي أخرج في بعض السنن عن العباس بن مرداس السلمي في مغفرة الله عز وجل ذنوب الحاج ذي التبعات.
هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف يعمل في الفضائل بمثله؟ أو هو في حيز المنكرات أو الموضوعات؟
3- والجواب عن ذلك:
أنه جاء من طرق أشهرها حديث العباس بن مردان السلمي، فخرج في(1/17)
((مسند الإمام أحمد))، وأخرج أبو داود في ((السنن)) طرفاً منه وسكت عليه، فهو على رأي ابن الصلاح ومن تبعه حسن، وعلى رأي الجمهور كذلك، ولكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه لا بانفراده.(1/18)
4- فاستخرت الله تعالى في جمع طرقه، وبذلك يتبين حاله، فإن المقبول ما اتصل سنده، وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة.
5- وبهذا يظهر عذر أهل الحديث في تكثيرهم طرق الحديث الواحد ليعتمد عليه، إذ الإعراض عن ذلك يستلزم ترك الفقيه العمل بكثير من الأحاديث اعتماداً على ضعف الطريق التي اتصلت إليه.
وهذا حين الشروع في المقصود فيما قصدت، وعلى الله الكريم اعتمدت، وبتيسيره اعتضدت.
6- أما حديث العباس بن مرداس فقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في (زيادة المسند) مسند أبيه:
حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا عبد القاهر بن السري حدثنا(1/19)
عبد الله بن كنانة بن العباس بن مرداس عن أبيه أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء، فأجابه الله عز وجل: {أن قد فعلت وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضاً}. فقال: ((يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيراً من مظلمته)). فلم يكن تلك العشية إلا ذا.
فلما كان الغد غداة المزدلفة، فعاد يدعو لأمته فما لبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها؛ فما أضحكك؟ أضحك الله سنك.
قال: تبسمت من عدو الله إبليس، حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي، وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثبور والويل، ويحثو التراب على وجهه ورأسه فتبسمت مما يصنع من جزعه.
7- وقال الطبراني في (المعجم الكبير):
حدثنا معاذ بن المثنى وآخرون، قالوا: أنبأنا أبو الوليد الطيالسي(1/20)
زاد معاذ: وأنبأنا عيسى بن إبراهيم قالا: حدثنا عبد القاهر بن السري عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه عن جده عباس بن مرداس، وذكره.
وقال في روايته: ((إلا ظلم بعضهم بعضاً، فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها)).
وقال فيها: ((فلما كانت غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه: إني قد غفرت. قال: فتبسم)).
فذكره مثله إلى قوله: ((على رأسه)).
8- وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) ولفظه كلفظ رواية الطبراني، وفي أكثر الروايات لم يسم ابن كنانة.
وقد سماه بعضهم عن عبد القاهر بن السري فقال ابن ماجة:(1/21)
حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي، حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، حدثنا عبد الله بن كنانة بن عباس بن مردان السلمي‘ أن أباه أخبره عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: ((إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه)). فقال: ((أي رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم)). فلم يجب عشية عرفة، فلما أصبح بالمزلدفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قال سر، فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها؛ فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنك. قال: ((إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي، وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فضحكت لما رأيته من جزعه)).
9- وأخرجه ابن عدي عن علي بن سعيد عن أيوب بن محمد بهذا السند، وسمى ابن كنانة عبد الله كما عند ابن ماجة.
وقال في سياقه عن أبيه العباس بن مرداس وفيه: دعا ربه، وفيه: أن الله أجابه بالمغفرة لأمته إلا ظلم بعضهم بعضاً، فإنه يأخذ(1/22)
للمظلوم من الظالم، فأعاد الدعاء، فقال: ((أي رب إنك قادرٌ أن تثيب المظلوم خيراً من مظلمته الجنة، وتغفر لهذا الظالم)).
وفيه: فأجابه الله عز وجل: ((إني قد فعلت)) ولم يقل: أو سر.
وفيه: ضحكت أن الخبيث إبليس حين علم أن الله استجاب دعائي.
10- وأخرج أبو داود هذا الحديث في ((السنن)) فقال في كتاب الأدب:
حدثنا عيسى بن إبراهيم البركي، حدثنا عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه عن جده:
ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر أو عمر: أضحك الله سنك، وساق الحديث.
11- وسكت عليه أبو داود فهو صالح عنده، وقد أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في ((الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين)) من طرق عن عبد القاهر بن السري.(1/23)
12- قال البيهقي هذا الحديث له شواهد كثيرة، قد ذكرناها في كتاب ((البعث))، فإن صح بشواهده ففيه الحجة.
قلت: جاء أيضاً عن عبادة بن الصامت و أنس بن مالك و عبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي هريرة و زيد جد عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد.(1/24)
13- أما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه)، والطبراني في (المعجم الكبير) من طريقه، عن معمر عن من سمع، قتادة يقول:
حدثنا خلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس إن الله عز وجل تطول عليكم في هذا اليوم، فغفر لكم إلا(1/25)
التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله)).
فلما كان بجمع قال:
((إن الله قد غفر لصالحيكم، وشفع صامحيكم في طالحيكم، ينزل المغفرة فيعمهم، يفرق المغفرة في الأرض، فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل.
يقول: كنت أستفزهم حقباً من الدهر، ثم جاءت المغفرة، فغشيتهم؛ فيتفرقون وهم يدعون بالويل والثبور)).
14- ورجال هذا السند ثقات، إلا الذي سمع قتادة، ولم يسمه معمر فإن كان ثقة فهو على شرط الصحيح؛ وإن كان ضعيفاً فهو عاضد للسند الذي قبله، وقد سمع معمر من قتادة كثيراً، لكنه بين أنه بينه وبين قتادة فيه واسطة.
15- وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في (مسنده)، قال:(1/26)
حدثنا إبراهيم بن الحجاج -هو السامي البصري- أنبأنا صالح المري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة)) يقول: يا ملائكتي. انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا، يضربون إلي من كل فج عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميعا ما سألوني غير التباعات التي بينهم.
فإذا أفاض القوم إلى جمع، ودفعوا، وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله تعالى؛ فيقول الله تعالى: يا ملائكتي عبادي وقوفا فعادوا في الرغبة والطلب؛ فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني، وكفلت عنهم التبعات التي بينهم)).
وهذا السند ضعيف، فإن صالحاً المري وشيخه ضعيفان.(1/27)
16- وقد أخرجه أحمد بن منيع في (مسنده) من وجه آخر عن صالح المري.
وذكره الحافظ المنذري في (الترغيب) من رواية عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تغرب،(1/28)
فقال: ((يا بلال، أنصت الناس)). فقال بلال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فنصت الناس، فقال: ((معاشر الناس، أتاني جبريل آنفاً، وأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل، غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات)).
فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله. هذا لنا خاصة؟ قال: ((هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة)). فقال عمر: كثر والله خير الله وطاب.
17- قلت: إن ثبت سنده إلى عبد الله بن المبارك فهو على شرط الصحيح.
فقد أخرج البخاري من رواية الزبير بن عدي حديثاً(1/29)
ومسلم من روايته حديثاً آخر.
وقد أخرج مسدد بن مسرهد في (مسنده) لهذه الطريق شاهداً من وجه آخر مرسل رجاله ثقات، ولكنه ليس بتمامه.
18- وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة:
{واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في(1/30)
الملائكة فيقول لهم: ((عبادي آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم.
فذلك قوله تعالى:
{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
19- ثم قال: حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، حدثنا بشار بن بكير الحنفي، أنبأنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: ((أيها الناس. إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله)).
فلما كان غداة جمع، قال: ((أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في(1/31)
مقامكم فقبل من محسنكم، ووهب سيئكم لمحسنكم والتبعات عوضها من عنده، أفيضوا على اسم الله)).
فقال أصحابه: يا رسول الله. أفضت بنا بالأمس حزيناً، وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إني سألت ربي بالأمس شيئاً لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل فقال: إن ربك يقرؤك السلام، ويقول: ضمنت التبعات وعوضتها من عندي)).
20- وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) عن محمد بن عبد الرحمن بن مخلد، عن سهل بن موسى، حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري.
وأخرجه أبو نعيم أيضاً من ((مسند الحسن بن سفيان)) قال: حدثنا إسماعيل بن هود، حدثنا أبو هشام، حدثنا عبد الرحيم بن هارون الغساني، عن عبد العزيز بن أبي رواد، فذكره باختصار.(1/32)
21- ولحديث ابن عمر طرق أخرى أخرجها أبو حاتم ابن حبان في (كتاب الضعفاء) من رواية يحيى بن عنبسة، عن مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: وقف بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفات، فلما كان عند الدفعة استنصت الناس. فأنصتوا. فقال: ((أيها الناس، إن ربكم تطول عليكم في يومكم هذا)).
فذكر الرواية السابقة بطولها إلى قوله: ((ادفعوا بسم الله)). وزاد:
فقام أعرابي فأخذ بزمام الناقة فقال: يا رسول الله. والذي بعثك بالحق ما بقي من عمل إلا عملته، وإني لأحلف على اليمين الفاجرة، فهل أدخل فيمن وقف. فقال: ((يا أعرابي. أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم بأبي أنت. فقال: يا أعرابي. إنك إن تحسن فيما تستأنف يغفر لك)).(1/33)
22- وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو حاتم ابن حبان أيضاً في (كتاب الضعفاء) والدارقطني في (غرائب مالك مما ليس في الموطأ) من رواية أبي عبد الغني الحسن بن علي الأردني، عن عبد الرزاق، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج، وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار، فإذا كان يوم منى غفر الله للحمالين، فإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال، فلا يشهد ذلك الموضع أحد إلا غفر له)).
23- قال ابن حبان في (الضعفاء) .. .. (1)
__________
(1) سقط كلام ابن حبان من الأصل، ونصه: (أبو عبد الغني يضع الحديث على الثقات، لا تحل الرواية عنه بحال).(1/34)
وقال الدارقطني: هذا حديث باطل، وضعه أبو عبد الغني على عبد الرزاق.
24- وأما حديث زيد فأخرجه أبو عبد الله ابن منده في: (كتاب الصحابة) من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن صالح بن عبد الله بن صالح. عن عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، عن أبيه عن جده قال:
وقف النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال: ((أيها الناس. قد تطول الله عليكم في يومكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، وغفر لكم ما كان بينكم)).
25- وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في (الموضوعات) من حديث(1/35)
العباس بن مرداس، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبادة بن الصامت.
وقال: قال ابن حبان: كنانة منكر الحديث جداً، ولا أدري التخليط منه أو من ولده.
وقال في حديث ابن عمر: عبد العزيز بن أبي رواد قال ابن حبان: كان يحدث على الوهم والحسبان.
وعبد الرحيم كذبه الدراقطني، وبشار مجهول، ويحيى كذبوه.
وقال في حديث أبي هريرة: الحسن بن علي أبو عبد الغني كان يضع الحديث.
وقال في حديث عبادة شيخ معمر الذي حدثه عن قتادة: لا يعرف حاله، وخلاس كان مغيرة بن مقسم لا يعبأ به.
وقال: أيوب لا يروى عنه، فإنه صحفي.(1/36)
26- قلت: حكمه على هذا الحديث بأنه موضوع لما ذكر من العلل التي في أسانيده مردود.
فإن الذي ذكره لا ينهض دليلاً على كونه موضوعاً.
أما حديث العباس فقد اختلف قول ابن حبان في كنانة فذكره في (الثقات)، وذكره في (الضعفاء).
وذكر ابن منده أنه قيل: إن له رؤية. يعني من النبي صلى الله عليه وسلم .
وذكره البخاري في ((الضعفاء)) وقال: لم يصح حديثه.
وتبعه أحمد بن عدي، ونقل كلام البخاري فيه.
27- وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام ابن حبان أيضاً، وكل ذلك لا يقتضي الحكم على الحديث بالوضع.
بل غايته أن يكون ضعيفاً، ويعتضد بكثرة طرقه.
وأما حديث ابن عمر ففيه عبد العزيز بن أبي رواد وثقه يحى القطان ويحيى بن معين(1/37)
وأبو حاتم الرازي والعجلي والدارقطني.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال أحمد: كان صالحاً، وليس في الثبت مثل غيره.
وتكلم فيه جماعة من أجل الإرجاء.
قال القطان: لا يترك حديثه لرأي أخطأ فيه.
ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع.
28- وأما بشار فلم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وقد توبع.
وأما عبد الرحيم ويحيى بن عنبسة في حديث أبي هريرة فجرحهما ثابت.(1/38)
لكن الاعتماد على غيرهما فكأن حديثهما لم يكن.
29- وأما حديث عبادة فليس فيه إلا الرجل المبهم، ولا يستحق أن يوصف بالوضع بمجرد أن راويه لم يسم.
30- وأما كلامه في خلاس فمردود، فإنه ممن أخرج له البخاري ومسلم:
وقال فيه أحمد بن حنبل: ثقة.
وكذا قال: روى عن علي وأبي هريرة من صحيفة.
ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع.
31- وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق.(1/39)
وقد ورد ما في الحديث في أحاديث أخرى تذكر ما تيسر منها:
32- فمنها ما أخرجه مسلم في ((صحيحه))، والنسائي، وابن ماجه، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء)).
33- وعند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبرا)).
34- وعند أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن(1/40)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إن الله يباهي ملائكته بعبيده عشية عرفة .. .. الحديث)).
35- وعند ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) وأخرجه البزار وأبو يعلى والبيهقي، عن جابر رفعه:
ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي(1/41)
جاؤوني شعثاً غبراً ضاجين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي.
فلم ير يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة.
وزاد البيهقي: ((فتقول الملائكة: إن فلاناً فيهم، وهو مرهق. قال: فيقول الله عز وجل: {قد غفرت لهم})).
36- وهذا الحديث، وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهد لبعض حديث ابن عمر رابع أحاديث الباب.
37- وقد أخرج مالك في (الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رؤي الشيطان يوماً هو أصغر ولا أدحر، ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام)).
هذا مرسل.
وقد وصله الحاكم من حديث أبي الدرداء.(1/42)
38- ومنها ما أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع، وفيه:
((فإن وقف بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج)).(1/43)
39- ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف، فيستقبل القبلة بوجهه، ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) مائة مرة، ثم يقرأ:
{قل هو الله أحد}.
مائة مرة، ثم يقول: [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وعلينا معهم). مائة مرة، إلا قال الله عز وجل:
((يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني وهللني وكبرني وعظمني وعرفني، وأثنى علي، وصلى على نبيي، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له، وشفعته في نفسه، ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف)).
وسنده ضعيف.
40- قال البيهقي: ليس في سنده من ينسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قوله تعالى:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك.
والله أعلم.(1/44)
فصل : في ضبط الأسماء والألفاظ الواقعة في هذه الطرق على الترتيب.
41- قوله (السامي): هو بالسين المهملة.
42- قوله (السُّري): بفتح المهملة، وكسر الراء بعدها ياء مشددة.
43- قوله (السُّلمي): بضم السين نسبة إلى بني سليم، قبيلة مشهورة.(1/45)
44- قوله (كِنانة): بكسر الكاف، وتخفيف النون.
45- قوله (مِرداس): بكسر الميم، وبدال وسين مهملتين.
46- قوله (وتثيب): بالثاء المثلثة من الثواب.
47- قوله (فلم يكن في تلك العشية إلا ذا): بحرف الاستثناء بعدها حرف الإشارة.(1/46)
48- قوله (أهوى): بفتح الهمزة، وسكون الهاء، وفتح الواو، مقصور: أي مال إلى الأرض.
49- و(الثبور): بضم المثلثة، بعدها موحدة.
50- قوله (البركي): بفتح الراء، وكسر الباء، بعدها كاف.
51- قوله (يحثو): بفتح أوله، وسكون المهملة، بعدها ثاء مثلثة.
52- و(جَزَعه): بفتح الزاي والجيم، بعدها مهملة.
53- قوله (أو قال سُرَّ): بضم المهملة، وتشديد الراء، شكٌ من الراوي.
54- قوله (أن تُثيب): بضم أوله، وكسر المثلثة، وآخره موحدة، من الثواب، والمراد تعويضه بدل مظلمته.(1/47)
55- قوله (الجنة): بالنصب لأنه بدل من قوله خيراً.
56- قوله (الخبيث): وزن خسيس.
57- قوله: (خِلاسٌ): بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف اللام، آخره سين مهملة.
58- قوله (تطول): بالطاء المهملة أي تفضل، من الطول وهو الفضل.
59- قوله (التبعات): بفتح المثناة، وكسر الموحدة، جمع تبعة وهي الطلب.
60- قوله (جمعٌ): بفتح الجيم وسكون الميم، اسم مكان بالمزدلفة.(1/48)
61- قوله (صالحيكم): بمهلتين جمع صالح، ضد طالح من الطلح، وهو الإعياء.
62- قوله (واستفزهم): هو بمهملة، ثم بمثناة، ثم فاء، ثم زاي ثقيلة: أي استخفهم. من الفز، وهو الخفة، قال الله تعالى:
{واستفزز من استطعت منهم}.
63- قوله (حقباً): بكسر المهملة، وفتح القاف، ثم موحدة، جمع حقبٍ: وهو زمان من الدهر قيل ثمانون سنة، وقيل غير ذلك.
64- قوله (فغشيتهم): بغين وشين معجمتين؛ أي شملتهم.(1/49)
65- قوله (المري): بضم الميم، وتشديد الراء.
66- قوله (الرقاشي): بتخفيف القاف، وبعد الألف شين معجمة.
67- قوله (يباهي): بموحدة، أي يفاخر، من البهاء وهو الحسن والجمال، والمعنى: يُظهر على فضلهم الملائكة، ويريهم حسن أعمالهم.
68- قوله (شُعثا): بضم المعجمة، وسكون المهملة، بعدها مثلثة.
69- قوله (غُبرا): بضم المعجمة، وسكون الموحدة.
وهما جمع: أشعث، وأغبر. يقال: شعث، إذا تفرق، أصله من تفرق الشعر.
واغبر، بتشديد الراء، إذا أصابه الغبار.
وأطلق ذلك على الحاج لكون ذلك يقع للمسافر غالباً.
70- (فج): بفتح الفاء، وتشديد الجيم.
و(عميق): وزن عظيم.(1/50)
والفج: هو الطريق الواسع، والعميق: البالغ في الاتساع.
71- قوله (آنفاً): أي قريبا.
72- قوله (المشعر): هو موضع الموقف بالمزدلفة، وسمي بذلك لأنه من معالم العبادة، وشعائر الحج معالمه التي يندب الله إليها.
73- قوله بشار: بموحده، ومعجمة ثقيلة.
وأبوه: أوله موحدة، مصغر.
74- قوله روَّاد: بفتح الراء، وتشد الواو.(1/51)
75- قوله (لم يجُد): بفتح أوله، وضم الجيم، من الجود.
76- قوله (فأبى): بموحدة، من الإباء، وهو الامتناع.
77- قوله (الأردني): بضم الهمزة والدال المهملة، وبينهما راء ساكنة، وقبل ياء النسب نون مشددة: موضع بالشام.
78- (فُديك): بفاء ودال مهملة وكاف، مصغر.
79- قوله (مِقسم): بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح السين.
80- (لا يعبأ): بفتح أوله، وسكون العين المهملة، ثم همزة، أي: لا يأبه به.
81- قوله (صَحَفي): بفتح الصاد والحاء المهملتين، منسوبٌ إلى الصحيفة، وقد يطلق(1/52)
على من يوهم أنه سمع، ولم يسمع، وإنما يروي ما في الصحيفة التي يجدها، فيطلق الأخبار والتحديث موضع الوجادة، وهو من جملة التدليس.
82- قوله (ضاجين): بضاد معجمة، وجيم مشددة، من الضجيج، وهو الصياح المجتمع.
وهذا آخر ما قصدت، ولله الحمد.
83- قال المؤلف: علقه جامعه أحمد بن علي بن حجر في يوم الأحد: تاسع عشر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، حامداً مصلياً مسلماً.
نفعنا الله تعالى به آمين آمين آمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً أبداً دائماً إلى يوم الدين آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/53)