7297 - قوله: ({قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى} (الإسراء: 85)) وهي ما لم تتصل بالجسم، ولم تتلوَّث بالألواث البشرية، تسمَّى روحاً، فإذا اتَّصلت بها سُمِّيت نفساً ونَسَمَةً، وحينئذٍ تتغيَّر بعضُ صفاتها أيضاً. وقد وَرَدَ إطلاقُ المولود على النَّسَمَةِ دون الروح، وقد ذَكَرْنَا الفرقَ بينهما من قبل. ثم التنقيحُ، وإن ساوى القياسَ في المآل، لكنهما أَمْرَان مُتَغَايِرَان. فإنَّ المجتهدَ في التنقيح يفرِّقُ بين الأوصاف الدخيلة في الحكم وغيرها من غير التفاتٍ منه إلى الخارج، فإذا تقرَّر المناطُ عنده عَمَّ حكمُ النصِّ، وحينئذٍ فيجريه إلى الجزئيات. بخلاف القياس، فإنه يَحْتَاجُ إلى التعليل بعد التفاته إلى الجزئيات، فإنَّ إلحاقها بنصَ يحتاج إلى تجريد النصِّ عن خصوصيات المورد، لِيَعُمَّ حكمُه، فإذا نَظَرَ في علَّة الحكم عَمَّ حكمُهُ، لكنه من خارج. فكأنَّ الحاكمَ في التنقيح هو النصُّ، والحاكمَ في القياس هو الإِلحاقُ، فإن التعليلَ لأجل الإِلحاق لا غير. ومن ههنا ظَهَرَ السِّرُّ في كون التنقيح أقوى.
ثم اعلم أن اللَّهَ سبحانه ذَمَّ الظَّنَّ لمعنًى آخر، وهو أن الظَّنَّ المذمومَ هو إيجادُ الشيء من جانبه بدون نظرٍ في الخارج. والعلمُ هو ما يُتَلَقَّى من الخارج، فإِذا تفحَّصت عن الواقع، ثم عَلِمْتَ أنه على تلك الصفة مثلاً، فذلك هو العلمُ. وأمَّا إذا جَلَسْتَ على أَرِيكَتِكَ مطمئناً، ولم تُتْعِبْ نفسك، ثم جعلتَ تَحْكي عن الواقع تخميناً لا غير، فذلك هو الظَّنُّ المذمومُ. وإلاَّ فأكثرُ علومنا من قبيل الظنون لا غير.
باب الاِقْتِدَاءِ بِأَفعَالِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ في العِلمِ، وَالغُلُوِّ في الدِّينِ وَالبِدَع
---
باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثا
رَوَاهُ عَلِيٌّ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم(7/363)
دَخَلَ في بيان حكم أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعد الفراغ عن بيان حكم أقواله عليه الصَّلاة والسَّلام.
والغُلُوُّ في البِدَع: بأن يُحْرَمَ عن العمل بالسُّنَّةِ، فجعل يَخْتَرِعُ البِدَعَ لِيَعْمَلَ بها.
7300 - قوله: (ذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بها أَذْنَاهُمْ)، وهو حالُ صلاة الجماعة عندنا، فيتحمَّلُ الإِمامُ عن قراءة الجميع، حتى تكونَ قراءتُهم واحدةً.
7302 - قوله: (قال: كَادَ الخَيِّرَانِ أن يَهْلِكَا)، يريد أبا بكرٍ، وعمر.
7302 - قوله: (كأخي السِّرَار)، وهو عندي بمعنى الصاحب، أي: سر كوشى والا.
7304 - قوله: (ولم يَأْمُرْهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبِفِرَاقِهَا) وأَخْطَأَ هذا الراوي، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقد كان أَمَرَهُ بفراقها، كما مرَّ مِرَاراً. أو يُقَالُ معناه: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَأْمُرْهُ أن يطلِّقَهَا، ولكنَّه طلَّقها هو من عند نفسه.
7305 - قوله: (قَالَ العَبَّاسُ: يا أميرَ المؤمنين اقْضِي بيني وبين الظَّالِمِ، اسْتَبَّا) وترجمة السِّبَاب: برا بهلا كهنا. ومثلُه يسعُ للعبَّاس، فإن له كان قرابةً وسناً، وإن كان الأفضلُ علياً، فإن القرابةَ والسِّنَّ مُرَخِّصٌ لمثل هذه الأمور.
باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ القِيَاس
{وَلاَ تَقْفُ}: لا تَقُل {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36).
باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَل عَلَيهِ الوَحْيُ، فَيَقُولُ: «لاَ أَدْرِي». أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيهِ الوَحْيُ، وَلَمْ يَقُل بِرَأْيٍ وَلاَ بِقِيَاس
---
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105). وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ، حَتَّى نَزَلَت الآيَةُ.(7/364)
باب تَعْلِيمِ النبي صلى الله عليه وسلّمأُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَّهُ اللَّهُ،لَيسَ بِرَأْيٍ وَلاَ تَمْثِيل
وقد مرَّ منِّي أنه مِنْكِرٌ للقياس مطلقاً، وهو حقُّ ألفاظه، وتراجمه. والشَّارِحُون حَمَلُوا كلامه على مختاراتهم. والذي ينبغي أن يُعْطَى أولاً حقُّ كلام المتكلِّم لِيَظْهَرَ مراده. فالمصنِّفُ عَمِلَ في كتابه بالتنقيح، وعَدَلَ عن القياس.
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ يُقَاتِلُونَ»
وَهُمْ أَهْلُ العِلمِ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (الأنعام: 65)
أقولُ: مرادُه أن القائسين لا يَنْعَدِمُون، وإن قَلُّوا.
باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلاً مَعْلُوماً بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا، لِيَفهمَ السَّائِل
---
دَفْعُ دَخَلٍ مقدَّرٍ. أمَّا تقريرُ الدَّخَل، فبأنك قد أَنْكَرْتَ القياسَ مع ثبوته من الحديث، كقوله صلى الله عليه وسلّم «لَعَلَّ هذا عِرْقٌ نَزَعَهُ»، وكقوله صلى الله عليه وسلّم «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ على أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قاضَيْتِهِ؟ قالت: نعم»... إلخ. فهذا كما ترى، كلُّه قياسٌ، فكيف يَسُوغُ لك إنكاره؟ وأمَّا تقريرُ الدفع، فبأنه من باب التنظير للتفهيم والإِيضاح، لأن الحكمَ فيهما من نصَ مستقلَ، وليس أن حكمَ المشبَّه اسْتُقَى من النصِّ المشبَّه به. فإذا كان حكمُ المشبَّه، والمشبَّه به من النصِّ، ظَهَرَ أنه لا قياسَ فيه، بل تشبيهٌ للتفهيم والتوضيح لا غير.
باب مَا جَاءَ في اجْتِهَادِ القُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى(7/365)
لِقَوْلِهِ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ} (المَائدة: 45) وَمَدَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم صَاحِبَ الحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لاَ يَتَكَلَّفُ مِنْ قِيلِهِ، وَمُشَاوَرَةِ الخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ العِلمِ.
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»
يريدُ أن الاجتهادَ غيرُ القياس. فإن الغَوْرَ في إطلاق القرآن، وتقييده، والعموم، والخصوص، وما ذَكَرَهُ الأصوليون من تقاسيم الكتاب كلُّها يجري فيها الاجتهادُ. فمحلُّ الاجتهاد هذه دون القياس، فإنه مذمومٌ عنده.
---
قوله: (لا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ)، كأنَّه يُرِيدُ أن القياسَ تكلُّفٌ من قِبَلِهِ، فلا يَفْعَلُهُ. وليعلم أن النَّسائيَّ قد تَبِعَ البخاريَّ في كثيرٍ من التراجم من كتاب القضاء من «صغراه» فترجم: باب الحكم بالتشبيه والتمثيل، ثم أَخْرَجَ تحته الأحاديثَ التي أخرجها المصنِّفُ في باب من شَبَّه أصلاً مَعْلُوماً... إلخ. وكذلك تراجمه الأخرى، فليراجع من كتابه.
باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ، أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَة
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} (النحل: 25) الآيَةَ.
وتلك من سُنَّة الله عزَّ وجلَّ: أن من سَنَّ سُنَّةً لم تَكُنْ من قبل فابتدعها للناس، أنه لا يَزَالُ يَقَعُ على مبدعها كِفْلٌ منها من أجرٍ، أو وزرِ ما دام يَفْعَلُهَا الناسُ.
باب مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ العِلمِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيهِ الحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بهما مِنْ مَشَاهِدِ النبي صلى الله عليه وسلّموَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمُصَلَّى النبي صلى الله عليه وسلّموَالمِنْبَرِ وَالقَبْر(7/366)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء} (آل عمران: 128)
باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الإِنْسَنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً} (الكهف: 54) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُجَدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَبِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)
شرح في بيان حُجِّية الإِجماع، لا سِيَّما إجماعُ أهل الحرمين.
---
قوله: (ومَا كَان بهما من مَشَاهِدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّم أَشَارَ منه إلى التوارث، وذاك لا يَحْتَاجُ إلى الإِسناد، بل الأخذُ فيه يكون من طبقةٍ عن طبقةٍ، وأَخْرَجَ له أحاديث، والمقصودُ منها ذكر الأشياء الثابتة من التوارث، كالمنبر، والمُصَلَّى، والقَبَاء، ومدفن أمهات المؤمنين، إلى غير ذلك مما ثَبَتَ كلّه من التوارث.
7322 - قوله: (إنَّما المَدِينَةُ كالكِيرِ)، شبَّهها بالكِيرِ، لأنَّ الكِيرَ إنَّما ينفي الخَبَثَ عن الحديد بعد شِدَّةٍ ومدَّةٍ، فكذلك المدينة.
باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143) وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بِلُزُومِ الجَمَاعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ العِلمِ
ح
وراجع تفسيرَه من «فتح العزيز»، وقد احتجَّ به الشافعيُّ في الإِجماع، بأن شهادتنا إذا اعْتُبِرَت فيمن سَلَفُوا، فكيف لا يُعْتَبَرُ بها فينا. والوسطُ: أي بين الإِفراط والتفريط.
قوله: (وما أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبِلُزُومِ الجماعَةِ، وهُمْ أَهْلُ العِلْمِ) وقد مرَّ منِّي التنبيه على أن أحاديثَ الأمر بلزوم الجماعة إنَّما وَرَدَتْ في الجماعة مع الأمير، وعرضُها في مسألة الباب بعيدٌ إلاَّ بضربٍ من التأويل. أو يُقَالُ: إن مِصْدَاقَ لزوم الجماعة هي إطاعةُ الأمير أوَّلاً، والإِجماع ثانياً، وقد نبَّهناك على أنه قد يُرَادُ من اللفظ معنيان: يكونُ أحدهما مُرَاداً أوليّاً، والآخر ثانوياً.(7/367)
باب إِذَا اجْتَهَدَ العَامِلُ أَوِ الحَاكِمُ، فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِمِنْ غَيرِ عِلمٍ، فَحُكْمُهُ مَرْدُود
لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
---
باب أَجْرِ الحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأ
وعند الترمذيِّ: «أن المجتهدَ إذا اجتهد فَأَصَابَ، فله أجران، وإن أَخْطَأَ، فله أجرٌ» وقد كان يَخْطُرُ بالبال أنه ماذا يَقُولُون إذاً في حديث: «الحسنةُ بعشر أمثالها؟» حتى وَجَدْتُ في حديثٍ عند أحمد في «مسنده»: «أن له الأجر بعشر أمثاله»، وحينئذٍ تبيَّن أن ما عند الترمذيِّ بيانٌ للأجر الأصليِّ، وما عند أحمد بيانٌ للفضليِّ.
باب الحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ النبي صلى الله عليه وسلّمكَانَتْ ظَاهِرَةً، وَمَا كَانَ يَغِيب بَعْضُهُمْ عَنْ مَشَاهِدِ النبي صلى الله عليه وسلّموَأُمُورِ الإِسْلاَم
فيه رَدٌّ على الباطنية حيث زَعَمُوا: أن المرادَ من الجنة والنار ليس ما يَظْهَرُ من اسميهما، بل هما عبارتان عن نعيمٍ، أو عذابٍ معنويين، فَرَدَّ عليهم المصنِّفُ: أن أحكامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكلَّها محمولةٌ على ظاهرها، لا أن لها بواطن مُخَالِفُ ظواهرها حتى يَتِمَّ ما راموه. وكذلك نبَّه على أن كثيراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يُدْرِكُوا كلَّ المشاهد، وجملة تعليمه صلى الله عليه وسلّم فليس أن كلَّ الدين قد بَلَغَ إلى كلِّ صحابيَ.
باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلّمحُجَّةً، لاَ مِنْ غَيرِ الرَّسُول
وهذه مسألةُ التقرير. فاعلم أن التقريرَ إنما يكون حُجَّةً من صاحب الشرع، دون غيره.
---(7/368)
7355 - قوله: (قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بن عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ باللَّهِ بأن ابن الصَّيَّاد الدَّجَّال، قُلْتُ: تَحْلِفُ باللَّهِ؟ قال: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ على ذَلِكَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فم يُنْكِرْهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم قلتُ: فما الريب إذاً في كونه دجَّالاً، وإن لم يَكُنْ الأكبر. وله روايةٌ أيضاً في «مصنف عبد الرزاق» تكفي لدحض جميع الأباطيل التي زَخْرَفَها لعين القاديان.
باب الأَحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلاَئِلِ، وَكَيفَ مَعْنَى الدَّلاَلَةِ وَتَفسِيرُهَا
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم أَمْرَ الخَيلِ وَغَيرِهَا، ثمَّ سُئِلَ عَنِ الحُمُرِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: «لاَ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ». وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النبي صلى الله عليه وسلّمالضَّبُّ، فَاسْتَدلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيسَ بِحَرَامٍ.
والظاهرُ: أنه إشارةٌ إلى تقاسيم الاستدلال من الكتاب التي ذكروها في الأصول من دلالة النصِّ وغيرها.
قوله: (وكَيْفَ مَعْنَى الدِّلاَلَةِ)، ولمَّا تعسَّر على المصنِّف تعيينها على الوجه الأتمِّ، أتى بأمثلتها للتقريب إلى الذهن. فأخذ من الحديثِ الأوَّلِ: أن الأصلَ الاستدلالُ بالخاصِّ، فإذا لم يُوجَدْ الخاصُّ في الباب فبالعامِّ. وهذا، وإن كان مختار الشافعيِّ، إلاَّ أنه قويٌّ عندي من حيث الدليل، وعليه اعتمادي.
7357 - قوله: (قَالَتْ عَاِئَةُ: فَعَرَفْتُ الذي يُرِيدُ)، أي فعائشة فَهِمْتَ مراده صلى الله عليه وسلّم أمَّا من أيِّ طريقٍ فَهِمَتْ: من الدلالة، أو الإِشارة؟ فالله تعالى أعلم به.
---
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيء»
باب كَرَاهِيَةِ الخِلاَف(7/369)
يريد به بيان حُجِّية شرائع من قَبْلِنَا. وقد أَجَادَ الكلامَ فيه الحُسَامي.
7361 - قوله: (وإنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الكَذِبَ)، أي الغلط دون الكذب العمد، لأنه تابعيٌّ جليلُ القدر، كان يكلِّم مع ابن عمر، ويَسْتَفِيدُ منه علماً. وإطلاقُ الكذب على الأغلاط كثيرٌ فيهم، فتنبيَّه له. فإِن الإِنسانَ يتعجَّبُ أنهم يَصِفُون رجلاً بالصيام والصلاة، ثم يَنْقُلُون عنه أنه يَكْذِبُ، مع أن الكذبَ أقبحُ في الملل كلِّها، فكيف بمن صام وصلَّى، وذلك أنهم أَطْلَقُوا الكذبَ على الغلطِ أيضاً.
باب نَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلّمعَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ، وَكَذلِكَ أَمْرُه
نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا: «أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ»، وَقَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيهِمْ، وَلكِنْ أَحَلَّهُنَّ لهُمْ. وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَينَا.
باب
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38)، {وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159). وَأَنَّ المُشَارَوَةَ قَبْلَ العَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ، لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159). فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُصلى الله عليه وسلّملَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
---(7/370)
وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ في المُقَامِ وَالخرُوجِ فَرَأَوْا لَهُ الخرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأْمَتَهُ وَعَزَمَ قالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِل إِلَيهِمْ بَعْدَ العَزْمِ وَقَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيّ يَلبَسُ لأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ». وَشَاوَرَ عَلِيَّاً وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمى بِهِ أَهْلُ الاْفكِ عَائِشَةَ فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ القُرْآنُ، فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَكَانَتِ الأَئِمَةُ بَعْدَ النبي صلى الله عليه وسلّميَسْتَشِيرُونَ الأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ العِلمِ في الأُمُورِ المُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الكِتَاب أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيرِهِ، اقْتِدَاءً بِالنبي صلى الله عليه وسلّم وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَينَ مَا جَمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ. فَلَمْ يَلتَفتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ، إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّمفي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَينَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وقَالَ النبي صلى الله عليه وسلّم «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، كُهُولاً كَانُوا(7/371)
---
أَوْ شُبَّاناً، وَكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
دخل في مسألةٍ أصوليةٍ أخرى، وهي: أن الأمرَ عند الإِطلاق للوجوب، والنهي للتحريم، إلاَّ أن تقومَ قرينةٌ بخلافه. قلتُ: ويُسْتَفَادُ من كلام جابر، وأم عَطِيَّة: أن تحتَ الأمرِ والنهيِ مراتبَ.
كتاب التَّوْحِيد
باب مَا جَاءَ في دُعَاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمأُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
دَخَلَ المصنِّفُ العلاَّمة في بعض المسائل الكلامية، بعد فراغه عن مسائل الأصول.
قوله: (التَّوْحِيد) بالنصب، والرفع. أمَّا النصبُ، فبناءً على أنه مفعولٌ للردِّ، أي هذا كتاب في الرَّدِّ على توحيدهم الذي اعتقدوه. وأمَّا الرفعُ، فلعطفه على كتاب الرَّدِّ، أي الرد عليه هو التوحيد. ثم جَهْم بن صَفْوَان - رجلٌ مبتدعٌ، نَشَأَ من تِرْمذ في أواخر عهد التابعين - تُنْقَلُ عنه الأشياء الفلسفية من نفي الصفات، وغيرها. وفي «المسايرة»، عن أبي حنيفة: أنه قال له بعدما ناظره في مسألةٍ: أخرج عنِّي يا كافر، وقد أُوِّل قوله هناك. قلتُ: بل ما قاله صحيحٌ، لا ينبغي أن يُؤَوَّلَ قوله، فإن شأنَ الإِمام أرفعُ من أن تجري كلمةٌ على لسانه لا يَرْضَاهَا اللَّهُ ورسولُه. وكان جَهْمُ ينفي الصفات السبعة، كالفلاسفة. وإليه ذَهَبَ المعتزلةُ، زعماً منهم أن الصفات إن لم تَكُنْ عينَ الذات، فإِمَّا أن تكون واجبةً، أو ممكنةً، فعلى الأوَّلِ يَلْزَمُ تعدُّد الواجب، وعلى الثاني يَلْزَمُ الحدوث. وقام التَّفْتَازَانيُّ بجوابه، فلم يسوِّ شيئاً، غير أن قال: إنها ممكنةٌ لذاتها، وواجبةٌ لغيرها.
---(7/372)
قلتُ: إن الإِمكانَ بالذات، والاستحالةَ بالغير من مخترعات ابن سِينَا، وكان الشيءُ عند قدمائهم إمَّا واجباً، أو ممكناً. وكان الواجبُ عندهم ما يُوجَدُ أزلاً وأبداً، والممكن ما يُوجَدُ مرَّةً، ويَنْعَدِمُ أخرى. وما لا يُوجَدُ أزلاً، وأبداً فهو ممتنعٌ عندهم. هكذا صرَّح به ابن رُشْد. فلمَّا جاء ابنُ سِينَا، ورأى أن بعضَ قواعدهم لا يُوَافِقُ الشرع، أَرَادَ أن يتخذَ بين ذلك سبيلاً، فاخْتَرَعَ الإِمكانَ بالذات، والمستحيلَ بالغير. فإِطلاقُ الممكن بالذات مع الاستحالة بالغير إنما يَسُوغُ على مذهبه، ولا يَجِبُ علينا تسليم اصطلاحه، بل هي واجبةٌ عندنا، لكونها ضروريةَ الوجود، وليست بحيث تُوجَدُ مرَّةً، وتَنْعَدِمُ أخرى، فلا تكون ممكنةً.
بقي أن وجوبَها هذا بالنظر إلى ماذا؟ فذاك أمرٌ لم يَخُضْ فيه قدماء الفلاسفة ولا يُعْقَلُ، وذلك اعتبارٌ ذهنيٌّ، فإن الواجبَ بالغير إذا سَاوَقَ الواجب بالذات في استحالة الانعدام، لم يَبْقَ بينهما كثيرُ فرقٍ إلاَّ باعتبار الذهن، وذلك أيضاً ينبني على اعتبار هذا الغير خارجاً. فلو اعْتَبَرْنَاهُ داخلاً، عاد إلى الواجب بالذات، لكون الوجوب حينئذٍ من مقتضيات الذات دون الخارج.
وأمَّا قولُهم: إن القيامَ بالغير يُلاَزِمُ الاحتياج، وهو مناطُ الإِمكان، فباطلٌ أيضاً، لبنائه على قواعد ابن سِينَا. فإن نفسَ الاحتياج لا يُوجِبُ الإِمكان عندنا، لأنه عبارةٌ عن وجود شيءٍ مرَّةً، وانعدامه أخرى. فإذا لَزِمَتْ تلك الصفات ذات الواجب لزومَ الضوء لجرم الشمس، فقد وُجِدَتْ مع الذات أزلاً وأبداً، ولم تنفكَّ عنها في الخارج أصلاً. فهي إذن واجبةٌ على مذهبنا، فإِنا لا نقول: إلاَّ أنَّ الممكنَ ما يَنْعَدِمُ ويُوجَدُ.
---(7/373)
وصرَّح ابن رُشْدٍ: أن قدماءَهم كانوا يَقُولُون: بأن الفلكَ واجبٌ بالذات، وممكنٌ بالتحرُّك. فلمَّا جاء ابنُ سِينَا، وزَعَمَ أنه قولٌ لا يَسُوغُ في الشرع أصلاً، غيَّر في التعبير إلى ما رَأَيْتَ.
أمَّا قولُهم: بأن زيادةَ الصفات تُوجِبُ الاستكمال بالغير، فليس بشيءٍ. كيف وأن الشيخين منهم ذَهَبَا إلى أن علمَ الباري تعالى حصوليٌّ، فهل لَزِمَ منه الاستكمال بالغير. والعجبُ من هؤلاء أنهم نفوا كثيراً من صفاته تعالى، فنفوا عنه القدرة، والإِرادة، وغيرها. بقي العلم، فقالوا: بأنه حصوليٌّ، فيكون غير الذات لا محالة. فلم يَبْقَ إذن لقولهم بعينيَّةِ الصفات مفهومٌ محصَّلٌ. وقد كَشَفْنَا عن مغالطتهم في المقدمة مفصَّلاً، فراجعه منه.
فالصوابُ أن الله سبحانه عزَّ برهانه، ليس مجرَّداً عن الكمالات في مرتبةٍ من المراتب، بل تلك الصفات من فروع كمال الذات، كما عبَّر بهذا ابن الهُمَام في «التحرير». ولولا الذاتُ كاملةٌ بحسب نفسها، لَمَا كانت فيها تلكل الصفات، فإنها مبدؤها. فإن الذاتَ لبساطتها عينُ علمٍ، وعينُ كلِّ كمالٍ، بمعنى مبادىء تلك الصفات، إذ يَسْتَحِيلُ أن تتكثَّرَ الذاتُ في مرتبة ذاتها.
7375 - قوله: (لأَنَّنَا صِفَةُ الرَّحْمنِ)، وإطلاقُ الصفة في ذاته تعالى غير مُنَاسِبٍ عند الشيخ الأكبر. قلتُ: كيف وقد وَرَدَ في صريح لفظ الحديث.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَآء الْحُسْنَى} (الإسراء: 110)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} (الذاريات: 58)
---(7/374)
قال العلماءُ: إن اسمَ الرحمن كان مشهوراً عند بني إسرائيل، واسمَ الله عزَّ وجلَّ عند بني إسماعيل. فَلِذَا جمع القرآن بينهما في التسمية، ودَلَّ على أن تعالى أسماءَ كلَّها حُسْنَى، والذاتَ واحدةٌ. وذَهَبَ بعضُ النحاة إلى أن «الرحمن» أيضاً من أسماء الذات. وأَظُنُّ أنه لا بُعْدَ في أن تكونَ الرحمةُ من الصفات الذاتية، لا من صفات الأفعال. فإن قلتَ: إن لها ضِدّاً، وهو الغضبُ، وكلاهما من صفات الرَّبِّ جلَّ مجده، فيكون من صفات الأفعال لا محالة. قلتُ: جاز أن يكونَ الغضبُ في مرتبة الأفعال، ولا يكون للصفة شيءٌ يقابلها. وحينئذٍ خَرَجَ شرحٌ آخر لقوله صلى الله عليه وسلّم «سَبَقَتْ رحمتي غضبي»، بمعنى أن الرحمةَ لم يُوجَدْ لها ضِدٌّ، وصفاتِ الأفعال لها أضدادٌ. وقد تكلَّمنا على الحديث، فيما مرَّ مبسوطاً، فتذكَّرْهُ.
باب
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {عَلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن: 26)، {وإِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ} (لقمَان: 34)، {وَأَنْزَلَهُ بِعِلمِهِ} (النساء: 166)، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فاطر: 11)، {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (فصلت: 47)، قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ عِلماً، وَالبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ عِلماً.
---(7/375)
ولم يَقُلْ: فلا يَظْهَرُ غَيْبَهُ على أحدٍ، لأن الغيبَ خِزَانةٌ، ولا يريد اللَّهُ سبحانه أن يطَّلِعَ أحدٌ على غيبه. ومن ههنا جاء هذا التعبير. قال الزمخشريُّ: إن اللَّهَ سبحانه أخبر بعدم إظهار غيبه إلاَّ ما كان بالوحي، فانتفى الشكفُ، ولم يَبْقَ منه شيءٌ. قلتُ: إن الاستئناءَ منقطعٌ، والجملةُ بأسرها مستثنًى، والمعنى: أن الاطِّلاعَ بهذه الصفة يَخْتَصُّ بالأنبياء عليهم السَّلام. والمرادُ منها القطع، فالاطِّلاعُ على سبيل القطع من خواص الأنبياء عليهم السَّلام، فبقي الكشفُ مسكوتاً عنه. ومعلومٌ أن ما يتلقَّوْن من أوليائه تعالى من الإِلهام والكشف، فهو على سبيل الظنِّ دون القطع. وما يَدُلُّكَ على أن الاستثناءَ منقطعٌ، قوله تعالى في موضعٍ آخر: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ} (آل عمران: 179) فجاء بحرف «لكن»، وذلك صريحٌ في المنقطع.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {السَّلَمُ الْمُؤْمِنُ} (الحشر: 23)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ} (الناس: 2)
فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الصافات: 180)
{سُبْحَنَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180). {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (المنافقون: 8)، وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصَفَاتِهِ.
---(7/376)
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ». وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «يَبْقى رَجُلٌ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ اصْرِف وَجْهِي عَنِ النَّارِ، لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيرَهَا». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّمقَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَكَ ذلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ». وَقَالَ أَيُّوبُ: «وَعِزَّتِكَ، لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ».
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ} (الأنعَام: 73)
والسَّلامُ بمعنى من يُسَلِّم غيرَه، لا بمعنى من يكون سالماً بنفسه، وإن تحقَّق بهذا المعنى في ذاته تعالى أيضاً.
باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء: 134)
وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ تَمِيمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النبي صلى الله عليه وسلّم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (المجَادلة: 1).
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} (الأنعَام: 65)
باب مُقَلِّبِ القُلُوب
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ} (الأنعَام: 110).
---(7/377)
قد أَشْكَلَ عليهم إثباتُ السمع والبصر تعالى، من حيث أن علمَ الله تعالى محيطٌ بجميع الأشياء، فلم يَبْقَ شيءٌ ما إلاَّ وقد دَخَلَ في حيطته، مُبْصَراً كان أو مَسْمُوعاً، فليس شيءٌ إلاَّ وقد عَلِمَهُ اللَّهُ تعالى من علمه المحيط. وحينئذٍ لو أثبتنا له السمعَ والبصرَ، لا تكون فيه فائدةٌ، وإنَّما كان السمعُ والبصرُ في الممكنات، لأنَّ علمَ البشر ناقصٌ جداً لا يشمل غير الكليات، أو بعض الجزئيات المجرَّدة.
أمَّا المسموعات والمُبْصَرَات، وكذلك سائر ما يُدْرَكُ بالحواس، فلا عِلْمَ لهم بهما أصلاً، فكانت تلك الصفات لتكميل علمهم. فَذَهَبَ الغزاليُّ إلى أنهما عبارتان عن حصتين من العلم، فالعلمُ بالمسموعات هو المعبَّرُ عنه بالسمع، وكذلك البصر. فكأنَّه أرجعهما إلى العلم، ولم يَجْعَلْ لهما مِصْدَاقاً غيره، وهذا هو المنسوبُ إلى الأشاعرة. وذهب المَاتُرِيدِيُّ إلى كونهما غير العلم، غير أن علماءَنا لم يَذْكُرُوا لإِيضاحه شيئاً.
قلتُ: وهذا الذي عرض لشيخ الإِشراق، حيث ذَهَبَ إلى أن عِلْمَه تعالى كلَّه بالإِبصار، وذلك عنده علمٌ حضوريٌّ، فَأَرْجَعَ العلمَ إلى البصر، على خلاف الغزاليِّ، فالعلمُ عنده ليس أمراً غير الرؤية، فانْحَصَرَ علمُه تعالى كلُّه في الإِبصار عنده. أمَّا قدماءُ الفلاسفة، فلم يتعرَّض أحدٌ منهم إلى أن صفةَ السمع مذا، وصفةَ البصر ماذا. وما لهم أن يتكلَّموا بعدما لم يُرْزَقُوا الاعتقاد بهاتين الصفتين، فإنَّ الأغبياءَ قد نفوها رأساً. نعم جاء الإِشراقيُّ في الدورة الإِسلامية، فتكلَّم هو في السمع والبصر، وأَرْجَعَ العلمَ أيضاً إلى البصر.
---(7/378)
وبالجملة تفرَّقت فيها كلمات القوم، فمنهم من نفاهما، ومنهم من أَدْرَجَها تحت العلم، ومنهم من عَكَسَ، فَجَعَلَ العلمَ كلَّه البَصَرَ لا غير. فهذا ما سَمِعْتُ سعيهم في هذا الباب. والذي أرى هو أنه لا بُدَّ من هاتين الصفتين في ذاته تعالى، فإنهما أيضاً من الصفات الكمالية، وليس من الكمالات شيءٌ إلاَّ والله تعالى سبحانه جامعٌ له.c
ومحصَّل الكلام: أن العَالَمَ قبل وجوده كان في حيطة علمه تعالى بكشفٍ تفصيليَ، فلمَّا خَرَجَ إلى ساحة الوجود تعلَّق به السمعُ والبصرُ أيضاً، لا بمعنى زيادة شيءٍ في الكشف والانجلاء بعده، بل بمعنى تكرُّر العلم بهذين النحوين أيضاً. فهذان نحوان للانكشاف، وإن اتحدا مع العلم في الثمرة، إلاَّ أن الانكشافَ في العلم بنحوٍ آخر، وفي هاتين بنحوٍ آخر، وكلا النحوين يُغْنِي أحدُهما عن الآخر من حيث أن الانكشافَ تامٌّ فيهما. فحينئذٍ لا يُفِيدَان إلاَّ تكرُّر العلم بهذين الطريقين أيضاً، فالسمعُ يَقْتَصِرُ على المسموعات، أمَّا البصرُ فَيَعُمُّ المبصرات. وهذا التكرُّر إنما يكون بالنسبة إلى الباري تعالى، أمَّا في البعد فلا، فإنَّ السمعَ والبصرَ فيه يتعلَّقان بما لا يُدْرِكُهُ العقلُ، كما عَلِمْتَ، فمدركاتهما غير مدركات العقل.
وذهب جماعةٌ من المتكلِّمين إلى تعميم السمع، فجوَّز تعلُّقه بالأجساد أيضاً: فَيُقَالُ: سَمِعْتُ هذا الجسد. بقي الذَّوْقُ، والشَّمُّ، وغيرهما، فهي من خواص الماديات. فإن قلتَ: إذا كان السمعُ والبصرُ غيرَ العلم، فما معنى قِدَمهما؟ فإنَّهما لا يتعلَّقان إلاَّ بالمسموعات والمبصرات، وتلك حادثةٌ بالضرورة. قلتُ: قِدَمُهما كَقِدَم صِفات الأفعال عند المَاتُرِيدِيَّة، فالحلُّ هو الحلُّ، والتقريرُ هو التقريرُ، وسيأتي إيضاحُ ذلك.
---(7/379)
7386 - قوله: (فإنَّكُم لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، ولا غائباً، تَدْعُون سَمِيعاً بَصِيراً قَرِيباً) واستفدتُ منه: أن السمعَ خاصٌّ بالمسموعات، لأنه قَابَلَهُ بالأصمِّ، والبصرُ عامٌّ، لأنه قَابَلَهُ بالغائب.
باب إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلاَّ وَاحِدا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ذُو الْجَلْلِ} (الرحمن: 27) العظَمَةِ. {الْبِرَّ} (الطور: 28) اللَّطِيفُ.
باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالاِسْتِعَاذَةِ بِهَا
والأسماءُ الحُسْنَى عند الأشاعرة عبارةٌ عن الإِضافات، وأما عند المَاتَرِيدِيَّة فكلها مندرجةٌ في صفة التكوين. ثم إن قولَه: «مئة إلاَّ واحدة»، بعد قوله: «إن تسعةً وتسعين اسماً»، ليس إلاَّ تفنُّناً في التعبير.
واعلم أنَّ للقوم نِزَاعاً في أن أسماءَه تعالى عينُ المسمَّى، أو غيره؟ ولا يُعْلَمُ ماذا منشؤه، كما نيَّة عليه في بعض حواشي البيضاويِّ وقد كان السيد الجُرْجَاني أراده في «شرح المواقف»، لكنه اخطتفته المنايا قبل تكميله. وذكر الغزاليُّ، وغيرُه: أن أصلَ نزاعهم كان في صفاته تعالى، أنها عينُه، أو غيره. ولما كانت الأسماءُ مشتقةً من تلك الصفات، سَرَى هذا الاختلاف في الأسماء أيضاً.
باب مَا يُذْكَرُ في الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِي اللَّه
وَقَالَ خُبَيبٌ: وَذلِكَ في ذَاتِ الإِلهِ، فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى.
* وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ** عَلى أَيِّ شِقّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
* وَذلِكَ في ذَاتِ الإِلهِ وَإِنْ يَشَأْ ** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا.
---(7/380)
قد تردَّد بعضُهم في إطلاق الذات على الله تعالى، لكونها مؤنَّث ذو، فَأَزَاحَهُ المصنِّفُ وجوَّزه، سواء قلتَ: إنها مؤنَّث ذو، أو قلتَ: إنها اسمٌ مستقلٌّ، وعلى الأوَّلِ تكون منسلخةً عن معنى التأنيث، وتكون للجزء المعيَّن فقط. ثم لفظُ النعت أَوْلَى من لفظ الصفة، وذلك لأنَّ المتكلِّمين قسَّمُوهَا إلى قسمين: عقلية، وسمعية، وأَرَادُوا من العقلية: الصفات السبع، ومن السمعية نحو: يد، ووجه، وغيرهما من المُتَشَابِهَات. وإنما سمَّوها صفاتٍ سمعيةً لكونها مما لا يُدْرَكُ إلاَّ من جهة السمع.
وعبَّر المصنِّفُ عن تلك الصفات بالنعوت، وهو الأقربُ. فإن لفظَ الصفة على مصطلح أهل العرف يَدُلُّ على كونها معانٍ خارجةً عن الذات. فتسميتها بالنعت أَوْلَى، لأن النعتَ هو وصفٌ حلية لأحد، ليفيد معرفته كما في حديث مسلم في حديث ذي الخُوَيْصِرَةِ، فإذا هو على النعت الذي نعته النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وقد سمَّاها الشاهُ عبد العزيز حقائقَ إلهيةً، وكُنْتُ أرى أن تعبيرَها بالنعت أَوْلَى من تعبيره، ثم بدا لي أنه لعلَّه أخذه من الشيخ الأكبر.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: 28)
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} (المَائدة: 116).
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: 88)
والظاهرُ حَجْرُ إطلاق النفس على ذاته تعالى، لأنَّه من التنفُّس. إلاَّ أن المصنِّفَ جوَّزه، نظراً إلى ورود الشرع به، فيكون مبنيّاً على الانسلاخ.
---(7/381)
7405 - قوله: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي) وآخرُ ما وَضَحَ لي في مراده: أنَّ كلَّ أحدٍ يُحِبُّ صاحباً يكون معه ليَسْكُنَ إليه، ويطمئنَ به، فذلك من خاصَّة الذكر. فَمَنْ ذَكَرَ الله تعالى يَجِد الله تعالى جليسه، وعنده يطمئنُّ بذكره قلبه، ويَنْشَرِحُ به صدره، قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28). وهكذا وَرَدَ في لفظٍ: «أنا معه إذا ذَكَرَني»، فمعيته تعالى هي من خاصة ذكره جلَّ مجده. فإنَّ الإِنسانَ يَشْمَئِزُّ من الوحدة والانفراد، ويَحْرِصُ على أن يكونَ معه آخر يَسْتَأْنِسُ به. فمن ذَكَرَ اللَّهَ تعالى، فإنَّه يجده عنده ومعه يَسْتَأْنِسُ به، ويَسْتَلِذُّ بقربه. كيف لا وهو الرفيقُ الأعلى.
وحينئذٍ ظَهَرَ معنى الفاء في قوله: «فإن ذكرني في نفسه»... إلخ. وهل أَدْرَكْتَ معنى قوله: «في نفسي؟»، ولعلَّك ما ذُقْتَهُ. فاعلم أنه مقابلٌ لقوله: «فإن ذكرني في ملأ». ومعلومٌ أن التكلُّمَ يَستدعي أن يكونَ هناك أحدٌ يَسْمَعُ كلامه ليخاطبه، وإذا لم يَكُنْ هناك أحدٌ، لا بُدَّ إلى قيدٍ في النفس، أو يَحْذُوَ حَذْوَهُ. فإذا قلتَ: تكلَّمتُ في نفسي، يكون معقولاً ولو لم يَكُنْ هناك أحدٌ. فلو لم يَكُنْ هناك أحدٌ يَسْمَعُ كلامك، وقلتَ: تكلَّمْتُ - بدون قيدٍ - لم يعقَّل المعنى. وههنا لمَّا كان الذكرُ في النفس مقابلاً لذكره في ملأٍ، قيَّده به ليعقل الذكر بدون ملأٍ. فافهم، ولا تَعْجَل، فَرُبَّ عَجَلَةٍ تُفْضِي إلى عَثُرَةٍ.
ثم إنه لا دليلَ فيه على فضل الذكر السريِّ على الجهريِّ، والذي فيه: أن الجزاءَ من جنس عمله، فَجُوزِيَ كما عَمِلَ. فإذا ذَكَرَهُ في ملأٍ يُذْكَرُ في ملأٍ، لأن هذا جزاءه من جنس عمله. وإذا ذَكَرَ خالياً، يُذْكَرُ كذلك لكون ذلك جزاءه، لا لأنَّه أفضل أو مفضول.
---
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى} (طه: 39)(7/382)
تُغَذَّى. وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14).
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِىءُ المُصَوِّرُ} (الحشر: 24)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} (ص: 75)
وَقَالَ عُمَرُبْنُ حَمْزَةَ: سَمِعْتُ سَالِماً: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّمبِهذا.
فالعينُ، والوجهُ، وأمثالُهما كلُّها من النعوت. وما أحلى تلك الكلمات في شأن موسى عليه الصلاة والسَّلام.
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ»
وَقَالَ عُبَيدُ اللَّهِبْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ المَلِكِ: لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ.
باب {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَدةً} (الأنعام: 19)
وسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفسَهُ شَيئاً، قُلِ اللَّهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم القُرْآنَ شَيئاً، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ: {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: 88).
فيه إطلاقُ الشخص على ذاته تعالى، مع عدم صُلُوحه لغةً، فهو أيضاً مبنيٌّ على التجريد والانسلاخ عن معناه الأصليِّ. ونُوقِشَ أن الحديث في مورد النفي، والمقصودُ هو إثباتُ إطلاقه عليه تعالى. قلتُ: فلينظر في أن «من» التفضيلية إذا وَرَدَتْ بعد النفي، فهل يكون فيه إطلاق المنفي على مدخولها، أو لا؟.
باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآء} (هود: 7)
{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 129).
---
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (المعارج: 4).
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ} (فاطر: 10).(7/383)
وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَلَغَ أَبَا ذَرّ مَبْعَثُ النبي صلى الله عليه وسلّم فَقَالَ لأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلمَ هذا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالْعَمَلُ الصَّلِحُ} (فاطر: 10): يَرْفَعُ الكلِمَ الطَّيِّبَ. يُقَالُ: {ذِي الْمَعَارِجِ} (المعارج: 3): المَلاَئِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ.
ذَهَبَ الحافظُ ابن تَيْمِيَة إلى قِدَمِ العرش - قِدَماً نوعيّاً ، وذلك لأنه إذا أخذ الاستواء بالمعنى المعروف، اضْطَرَّ إلى قِدَم العرش لا محالة، مع حديثٍ صريحٍ عند الترمذيِّ في حدوثه، ففيه: «ثم خَلَقَ عرشه على الماء». بَقِيَ الأشعريُّ، فلا حقيقةَ له عنده غير تعلُّق صفةٍ من صفات الله تعالى به. قلتُ: أمَّا الاستواءُ بمعنى جلوسه تعالى عليه، فهو باطلٌ لا يَذْهَبُ إليه إلاَّ غبيٌّ، أو غويٌّ. كيف وأن العرشَ قد مرَّت عليه أحقابٌ من الدهر لم يَكُنْ شيئاً مذكوراً، فهل يُتَعَقَّلُ الآن الاستواء عليه بذلك المعنى؟ نعم أقول: إن هناك حقيقةً معهودةً عبَّر عنها بهذا اللفظ، فليس الاستواءُ عندي محمولاً على الاستعارة، ولا على الحسيِّ الذي نتعقَّلُه، بل هو نحوٌ من التجلي، وقد كشفنا عنه من قبل.
قوله: ({اسْتَوَى إِلَى السَّمَآء})... إلخ، أثبت تعالى العُلُوَ على ما يَلِيقُ بشأنه. قال الحافظُ ابن تَيْمِيَة: من أَنْكَرَ الجهَةَ تعالى، فهو كمن أَنْكَرَ وجودَه عزَّ برهانه. فإِنه وجودُ الممكن، كما لا يكون إلاَّ في جهةٍ، وإنكارُ الجهة له يَؤُول إلى إنكار وجوده. كذلك الله سبحانه، لا يكون إلاَّ في جهةٍ وهي العُلُو، وإنكارها يَنْجَرُّ إلى إنكار وجوده.
---(7/384)
قلتُ: ويا للعجبَ ويا للأسف، كيف سوَّى أمرَ الممكن، والواجب؟ أَمَا كان له أن يَنْظُرَ أنَّ من أَخْرَجَ العالمَ كلَّه من كتم العدم إلى بقعة الوجود، كيف تكون علاقته معه كعلاقة سائر المخلوقات؟ فإنَّ اللَّهَ تعالى كان ولم يكن معه شيءٌ، فهو خالقٌ للجهات. وإذن كيف يكون استواؤه في جهةٍ كاستواء المخلوقات، بل استواؤه كمعيته تعالى بالممكنات، وكأقربيته. والغُلُو في هذا الباب يُشْبِهُ القولَ بالتجسيم، والعياذ بالله أن نتعدَّى حدودَ الشرع.
قوله: ({إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّلِحُ يَرْفَعُهُ}) يَحْتَمِلُ معنيين: الأول: أن الكَلِمَ الطَّيِّبِ يَصْعَدُ إلى الله تعالى، لكنه لا بُدَّ للصعود من مَصْعَدٍ يُصْعِدُهُ، فَدَلَّ على أنه العملُ الصالحُ. والثاني: أن الكلمات الطيبات تَصْعَدُ إلى الله تعالى، ولا تحتاج إلى مصعد. وأمَّا العملُ الصالح، فإنه لا يُرْفَعُ إلاَّ برفعه إليه، وذاك إذا كان خالصاً لوجهه الكريم. وما فسَّر به مجاهد، فَيُوَافِقُ التفسيرَ الأوَّل.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ}(القيامة: 22 - 23)
شرع في مسألة الرؤية.
7437 - قوله: (ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ منَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ) لا يريد أن اللَّهَ تعالى كان ممنوعاً عن شيءٍ إلى الآن، ثم فَرَغَ، فإن الله تعالى كل يومٍ هو في شأنٍ، لا يُشْغِلُهُ شيءٌ عن شيءٍ، فلو أراد أن يَفْعَلَ جملةَ الأمور في آنٍ واحدٍ لفعل، لكنه لمَّا كان خروجُ الأشياء في الخارج مترتباً، عبَّر عن ترك شيءٍ والأخذ بالآخر بالفراغ. أعني أنه صورةُ الفراغ من الشغل، مع أنه لا شغلَ ولا فراغَ عند التحقيق.
7437 - قوله: (انْفَهَقَت): كهلكهلانا.
---
7437 - قوله: (فإذَا ضَحِكَ - اللَّهُ - مِنْهُ، قَالَ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةِ)، وفيه: ثبوتُ باب الظرافة عند ربِّك أيضاً.(7/385)
7439 - قوله: (حَسَكَةٌ): كوكهرو.
7439 - قوله: (ويُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)، وفيه: أن صورةَ الشيء غيره، فإن هؤلاء كانوا قد امْتُحِشُوا، وصاروا كالحُمَمِ، ثم يُقَال فيهم: إن اللَّهَ تعالى يُحَرِّمُ صُوَرَهم على النار. وقد مرَّ: أن هؤلاء هم الذين عندهم الإِيمان فقط، ولا عملَ عندهم من الخيرات، وليسوا من أهل الفَتْرَةِ، وقد مرَّ التفصيل في كتاب الإيمان.
فائدةٌ: وهل دريت السِّرَّ في قوله: «ثم يُؤْتَى بجهنَّمَ تُعْرَضُ كأنَّها سَرَابٌ»، وذلك أن اليهودَ كانوا في الدنيا في تلبيسٍ وتخليطٍ، يَخْبِطُون في مفاوز الضلال، فَخُلِطَ عليهم الأمر في المحشر أيضاً. وبالجملة: الناسُ في المحشر يكونون على أحوال: منهم من يُسْحَبُ على وجهه، ومنهم من يَبْقَى في تخليطه حتى يُقْضَى عليه، ومنهم من يَلْتَقِطُه عنقٌ من جهنَّم. والعياذ بالله العلي العظيم.
باب مَا جَاءَ في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56)
يريد إثباتَ الرحمة، أو قربها.
7449 - قوله: (فَأمَّا الجَنَّةُ، فإنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أحداً، وإنَّهُ يُنْشِيءُ للنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا) قلتُ: وهذا غلطٌ من الراوي بلا ريب، وما كان لأرحم الراحمين أن يُنْشِيءَ خلقاً للنار، فَيُلْقَى فيها، ولكن الأمرَ على عكسه، فإنه يَخْلُقُ خلقاً، ويُدْخِلُهُ في الجنة من فضله. ولا يَظْلِمُ أحداً، فَيُلْقِي في النار بلا عملٍ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ} (فاطر: 41)
---(7/386)
واعلم أنَّ من الأشياء ما نَرَاهَا موجودةً ومعدومةً بأعيننا كسائر الحيوانات والنباتات، فإن الحيواناتِ نراها موجودةً بعد انعدامها، ثم تَفْنَى. وكذلك النباتات تَنْبُتُ فَتَخْضَرُّ، ثم تَهِيجُ مصفرًةً حتى تذروها الرياح. ومن أشياء ما لم نَرَ انعدامها كالأفلاك، وسائر الأجسام الأَثِيرِيَّةَ، مثل الشمس والقمر. ومن ههنا ذَهَبَ بعضُ من لا دراية لهم من الناس أنها قديمةٌ بالشخص. وما أجهلهم، ما غرَّ هؤلاء إلاَّ استحالة الخَرْقِ والالتئام فيها. وقد ثَبَتَ اليومَ أن الشمسَ مركَّبةٌ، حتى أنهم دوَّنوا عناصرها، ويدَّعون فيه مشاهدتهم، ولا أقلَّ من أن انعدامَ إذا ثَبَتَ في العالم السُّفْليِّ الذي هو من جنسه، لا بُدَّ من القول به في العالم العُلْويِّ أيضاً، كذلك الاشتراك. وقد أقرَّ به أرسطو في أثولوجيا، وقد أقرَّ فيه بقيام القيامة لهذا الدليل. ثم لا أدري لِمَ نَكَصَ على عَقِبَيْهِ. نعم القدر يَغْلُبُ، وإليه يَرْجِعُ الإِنسانُ آخراً. وبالجملة: إذا كان الممكنُ معدوماً حقيقة العَدَمِ، لا بُدَّ لوجوده من يُمْسِكُهُ، وهذا معنى قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّموَاتِ والأَرْضَ}أَن تَزُولاَ... إلخ(فاطر: 41).
باب مَا جَاءَ في تَخْلِيقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيرِهَا مِنَ الخَلاَئِق
وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَهُوَ الخَالِقُ هُوَ المُكَوِّنُ، غَيرُ مَخْلُوقٍ. وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهُوَ مَفعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ.
---(7/387)
واعلم أن المصنِّفَ أشار في تلك الترجمة إلى أمرين: الأوَّل إلى إثبات صفة التكوين، القائل بها علماؤنا المَاتُرِيدِيَّة، حتى صرَّح به الحافظُ مع أنه ممكن لا يُرْجَى منه أن يتكلَّمَ بكلمةٍ يكون فيها نفعٌ للحنفية. وأَنْكَرَهَا الأشاعرةُ. فالتفصيلُ: أن الصفات عند الأشاعرة سبع، واللَّهُ تعالى مع صفاته السبع قديمٌ. وقالوا في نحو صفة الإِحياء، والإِماتة، والترزيق أنها عبارةٌ عن تعلُّق القدرة بها. فالإِحياءُ عندهم عبارةٌ عن تعلُّق القدرة والإِرادة مع حياة أحدٍ، وكذلك أمثالها. فاستغنوا عن صفة التكوين، ورَأُوْا أن لهم بمجموع القدرة والإِرادة غُنْيَةً عن التكوين. ثم قالوا: إن تلك الصفات، وإن كانت قديمةً، إلاَّ أن تعلُّقَهَا بالمرزوقات ونحوها حادثٌ.
وزاد المَاتُرِيِدَّيَّةُ على هذه السبع، صفةً ثامنةً سَمَّوْهَا بالتكون، وقالوا: إن القدرةَ تكون على الجانبين. أمَّا الإِرادةُ فأيضاً تتعلَّق بالجانبين - وإن كان بدلاً - فتارةً تتعلَّق بوجود الشيء، وأخرى بعدمه، بخلاف التكوين، فإنه يتعلَّق بوجود الشيء فقط، ولا يتعلَّق بالعَدَمِ أصلاً.
قلتُ: ولعلَّهم أَخَذُوهَا من قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82)، والمشيئةُ عندي ما به تَحْصُلُ الشيئية في الشيء، فإذا أراد اللَّهُ أن يُلْبِسَهُ لباسَ الوجود جاء التكوين، وقال له: كن. ففي الآية ما يُشِيرُ إلى أن الشيئيةَ في الشيء تكون مقدمةً على تكوينه.
وبالجملة القدرةُ والإِرادةُ إذا تعلَّقتا بجانبي الشيء، ولم تُفِيدَا فعلية وجوده، احتاج إلى صفةٍ تكون منشأ للفعلية، وهي التكوين. فإِذا أراد الفعلية، قال له: كُنْ، أي جاء التكوين فَأَوْجَدَهُ. ثم إن تلك مراتب عقلية، لا أنه يتخلَّل بين ذلك زمان، ولكنه إذا أراد شيئاً لم يتخلَّف عنه مراده طرفة عين.
---(7/388)
فالصفاتُ عند علمائنا، كما في «الدر المختار» في باب الإِيمان على نحوين: صفات ذاتية، وصفات فِعْليَّة: والأولى ما تكون هي صفة الله تعالى دون ضدها، كالعلم، فإنه صفةُ الله تعالى، وليس ضده - أعني الجهل - صفةً له تعالى. وكذلك الحياة، فليس الموت من صفاته تعالى. وهكذا فليقس عليه سائر الصفات. والثانية ما هي صفةٌ تعالى وكذلك أضدادها، كالإِحياء، فإن ضده الإِماتة، وهو أيضاً صفةٌ له تعالى. والصفاتُ بنحويها قديمةٌ، ذاتيةً كانت أو فعليةً. نعم تعلُّقاتها حادثةٌ.
فهناك ثلاثةُ أمورٍ عند الأشاعرة، وأربعةٌ عند المَاتُرِيدِيَّة: الذات، وصفاتها السبع، وهاتان بالاتفاق. أمَّا الصفاتُ الفعليةُ، فقال بها المَاتُرِيدِيَّةُ فقط، واستغنى عنها الأشاعرةُ، فقالوا: إنَّها ليست إلاَّ تعلُّقات القدرة، وتلك التعلُّقات حادثةٌ عندهم. فالاثنان من الثلاث قديمةٌ عندهم، والواحد (حادثة).
أمَّا عندنا، فالصلاتُ الفِعْلِيّةُ أيضاً قديمةٌ، كالصفات الذاتية. نعم تعلُّقاتها حادثةٌ. فالمراتبُ أربعٌ، الثلاث منها قديمةٌ، والرابعة حادثةٌ.
ثم إن صفةَ التكوين هل هي مباديء الصفات الفعلية، أو القدرُ المُشْتَرَكُ بينهما؟ ففيه اختلافٌ لأصحابنا، فبعضُهم ذَهَبَ إلى أنها اسمٌ للقدر المشترك، وآخرون إلى أنها مباديء تلك الصفات.
قلتُ: وقد أَحْسَنَ المَاتُرِيدِيَّةُ حيث جَعَلُوها صفةً برأسها مستقلَّةً، فإنَّ القرآنَ يُشْعِرُ باستقلالها، فإنه سمَّى اللَّهَ تعالى مميتاً، ومحيياً. وإرجاعُ تلك كلِّها إلى القدرة والإِرادة بعيدٌ، فالأَوْلَى أن تُسَمَّى تلك أيضاً باسمٍ، وهو صفةُ التكوين.
---(7/389)
بَقِيَ الأفعالُ الجزئيةُ المُسْنَدةُ إلى الله تعالى كالنزول، والاستواء، وأمثالهما، فاختلفوا فيها بأنها قائمةٌ بالباري تعالى، أو منفصلةٌ عنه، مع الاتفاق على حدوثها. فذهب الجمهورُ إلى أنها منفصلةٌ. وذَهَبَ الحافظُ بن تَيْمِيَة إلى كونها قائمةً بالباري تعالى، وأَنْكَرَ استحالةَ قيام الحوادث بالباري تعالى، وأصرَّ على أن كون الشيء محلاًّ للحوادث لا يُوجِبُ حدوثه. واسْتَبْشَعَهُ الآخرون، لأن قيامَ الحوادث به يَسْتَلْزِمُ كونه محلاًّ لها، وهذا يَسْتَتْبِعُ حدوثه، والعياذ بالله.
قلتُ: أما كون الباري عزَّ اسمه محلاًّ للحوادث، فأنكره هذا التعبير، غير أن السمعَ وَرَدَ بنسبتها إليه تعالى. ويرى المتكلِّمون كافةً إلى تلك الأفعالَ كلَّها مخلوقةٌ حادثةٌ. والحافظُ ابن تَيْمِيَة مع قوله بحدوثهما، لا يقولُ: إنها مخلوقةٌ، ففرَّق بين الحدوث والخلق. وإليه مال المصنِّفُ، فجعل الأفعالُ حادثةً قائمةً بالباري تعالى على ما يَلِيقُ بشأنه، غير مخلوقةٍ.
وأمَّا الثاني، فهو تأسيسٌ للجواب عمَّا أُورِدَ عليه في مسألة كلام الباري تعالى، وهذه هي المسألةُ التي ابْتُلِي بها البخاريُّ، وقاسى فيها المصائب. فترجم أوّلاً ترجمةً طويلةً جامعةً كالباب، ثم ترجم تراجمَ أخرى في هذا المعنى كالفصول له. كما كان فعل في كتاب الإِيمان حيث ترجم أوّلاً تَرجمةً مبسوطةً مفصَّلةً، ثم ترجم بعدها كالفصول لها، إلاَّ أنه لم يُفْصِحْ بالجواب، ولكنَّه عَرَضَ إليه بالإِيماءات والإِشارات.
---(7/390)
فاعلم أنه لم يَذْهَبْ أحدٌ من أئمة الدين إلى أن القرآنَ مخلوقٌ، وامْتَنَعُوا بإِطلاق المخلوق عليه. كيف وأنه صفةٌ للرَّبِّ، والصفاتُ ليست مخلوقةً، وإلاَّ كانت حادثةً، وإذ ليست، فليست. ولمَّا جاء البخاريُّ قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. ولم يَكُنْ البخاريُّ يُحِبُّ أن يُفْشِيَه بين الناس، إلاَّ أن محمد بن يحيى الذُّهْلي شيخ مسلم لم يَتْرُكْهُ، واضْطَرَّه إلى التكلُّم به، فكرَّر عليه بالمسائل. فلمَّا لم يَجِدْ المصنِّفُ بُدّاً إلاَّ من إفصاح مراده، قال للسائلين عنه: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. فلم يُدْرِكِ الناسُ مرادَه، فصاحوا عليه، ورَمَوْهُ بالابتداع والاعتزال. حتى جَلَبُوا عليه من المصائب ما لا حاجةَ لنا إلى نشرها، والله يَغْفِرُ لنا، ولهم.
وإذن لا بُدَّ لنا أن نوضِّحَ مراده رحمه الله تعالى، ولنمهِّد له مقدمةً تُعِينُكَ في فَهْم المراد، وهي: أن المفعولَ المطلقَ أصلٌ سائر المفاعيل، ولذا قدَّموه في الذكر، وذلك لكونه فعلَ الفاعل حقيقةً، نحو ضَرَبْتَ ضراً، فلا شكَّ أن ما هو فعلٌ هو الضربُ لا غير. أمَّا المفعولُ به، فليس من فعلك أصلاً، ولكن هو لذي يَقَعُ عليه فعلُك، فنحو ضَرَبْتَ زيداً، معناه أن ضَرْبَكَ الذي هو فعلُك وَقَعَ على زيدٍ الذي ليس من فعلك. فالمفعولُ به ليس من فعل الفاعل، ولا تأثيرَ له فيه، فهو مُسْتَغْنًى عنه باعتبار ذاته، وإن كان مَوْرِداً لفعله. نعم أثرُ فعله هو المفعولُ المطلق.
---(7/391)
قال ابنُ الحَاجِبِ: إن السموات والأرض في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْضَ} (الأنعام: 1) مفعولٌ مطلقٌ، وذهب الجمهورُ إلى أنها مفعولٌ به. وذلك لأنَّ المفعولَ المطلقَ عند ابن الحاجب لا يكون موجوداً من قبلِ، بل يُوجَدُ من فعل الفاعل. والمفعول به ما كان موجوداً من قبل، ثم يَقَعُ عليه فعل الفاعل. ولمَّا كانت السمواتُ والأرضون معدومةً من قبل، أَوْجَدَها فعل الرَّبِّ سبحانه، سمَّاها مفعولاً مطلقاً على اصطلاحه. كسائر أفعال الممكنات، فإِنها من أفعال الفاعلين، تُوجَدُ بفعلهم. فالضربُ لا يتحقَّقُ إلاَّ بضرب زيدٍ، وكذلك الأفعالُ الجزئيةُ الخاصَّةُ لا تحقُّق لها إلاَّ من جهة فاعلها. وأنت تَعْلَمُ أن كلَّ فاعلٍ لا يَحْتَاجُ في فعله إلى مادَّةٍ، ولكن الاحتياجُ إليها إنما يكون إذا كانت المادةُ موردَ الفعل. فالضاربُ لا يحتاج في ضربه إلى مادَّةٍ، ولكنه يُحْدِثُهُ من كتم العَدَمِ.
ومن ههنا قلتُ: إن العالمَ بأسره فعلٌ للرَّبِّ سبحانه، كالمفعول المطلق لفاعله، فَيَحْدُثُ بلا مادةٍ. ولو فَهِمَهُ الفلاسفةُ الأغبياءُ لَمَا تَسَارَعُوا إلى القول بِقِدَمِها، ولكن المحرومون لم يَهْتَدُوا إلى الفرق بين المفعولين، فَجَعَلُوا الله سبحانه محتاجاً إلى المادة لِيُظْهِرَ فيها خلقَه وتصويرَه. كيف وإن المادَّةَ نفسها مخلوقةٌ له. ولنا فيه كلامٌ طويلٌ، بَسَطْنَاه في رسالتنا «في حدوث العالم»، وليس ههنا موضع بسطه.
---(7/392)
وإنَّما المقصودُ ههنا بيانُ أن ابنَ الحَاجِبِ ذَهَبَ إلى أن السمواتِ والأرضَ مفعولٌ مطلقٌ، لِمَا تقرَّر عنده أن ما يُوجَدُ من فعل الفاعل مفعولٌ مطلقٌ، وما وَقَعَ عليه فعلُه، فهو مفعولٌ به. أمَّا المعاني المصدريَّةُ، فكلُّها مفعولٌ مطلقٌ عندهم. غير أن الجُرْجَانيَّ ذَهَبَ إلى أن المفعولَ المطلقَ هو الحاصلُ بالمصدر. ولم يَذْهَبْ إليه أحدٌ من النحاة غيره، وذلك لأن الحاصلَ بالمصدر خفيٌّ عندهم، وإنما نوَّه بشأنه المعقوليُّون.
فإن قلتَ: ما حَمَلَ الجُرْجَانيُّ على جعل الحاصل بالمصدر - الذي هو أثرُ فعل الفاعل - مفعولاً مطلقاً؟ قلتُ: نعم، الذي حَمَلَهُ عليه هو أن الحاصلَ بالمصدر قد يكون هيئةً مُبْصَرَةً، كحركة اليد، كما صرَّح بحرُ العلوم في «حاشية الملا جلال» فإذا جَعَلْنَا المعنى المصدريَّ مفعولاً مطلقاً، وزيداً مثلاً مفعولاً به، فماذا نسمِّي تلك الهيئة المشهودة، فَأَدْخَلَهُ على المفعول المطلق لهذا التشويش.
وبعبارةٍ أخرى: إن الضربَ إذا صَدَرَ من فاعلٍ، فهناك ثلاثة أمور: الضرب الذي هو فعلُه، أعني به المعنى المصدريَّ. والثاني: أثرُ هذا الضرب الذي قام بالفاعل، أعني هيئةَ الضَّرْب، وهيئةَ تلك الحركة. ولا شَكَّ أنها غير المعنى المصدريِّ، فإنها تابعةٌ وأثرٌ له. والثالث: محلُّ وقوع ذلك الفعل. فإذا كان الأوَّلُ: مفعولاً مطلقاً، والثالث: مفعولاً به عندهم، حدث التردُّدُ في الثاني ماذا نسمِّيه، وماذا نقول فيه؟ فَرَأَوْهُ أشبهَ بالمفعول المطلق، وأَدْرَجُوه تحته. وهذا الذي عُرِضَ لابن الحاجب حيث جَعَلَ السمواتِ والأرضَ في قوله تعالى المذكور مفعولاً مطلقاً.
وأمَّا عند الجمهور، فالحاصلُ بالمصدر داخلٌ في المفعول به فضرباً في قولنا: ضَرَبْتُ ضرباً، مفعولٌ مطلقٌ عندهم إن قلنا: إنه مصدرٌ، وإن أخذناه حاصلاً بالمصدر، فكذلك عند الجُرْجَانيِّ.
---(7/393)
وبالجملة: اتَّفَقُوا على أن الحاصلَ بالمصدر ليس قسماً ثالثاً، فهو إمَّا داخلٌ في المفعول المطلق، كما اختاره الجُرْجَانيُّ، أو في المفعول به، كما هو عند الجمهور. وبعد اللَّتَيَّا والتي، إن المفعولَ المطلقَ غيرُ المفعول به، وهَدْرُ الفرق بين فعل الفاعل، ومورد فعله غباوةٌ. والخَلْطُ بين فعل العبد، ومورد فعله شقاوةٌ، وسيأتي تفصيله.
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن البخاريَّ لم يَقُلْ: إن القرآنَ مخلوقٌ. كيف وهو صفةُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، ولكنه قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. فهناك شيآن: التلفُّظُ، وهو فعلُه. والقرآنُ. وهو الذي وَرَدَ عليه فعلُه. فالحكمُ بالخلق على لفظي، دون القرآن. والأوَّلُ نائبٌ مناب المفعول المطلق، والثاني مناب المفعول به. وقد عَلِمْتَ أن المفعولَ به يكون مفروغاً عن تأثُّر فعل المتكلِّم، ولا يكون لإِيجاده دَخْلٌ إلاَّ في فعله، وهو المفعولُ المطلقُ، وليس هو في المثال المذكور غير التلفُّظ.
وحاصلُ معنى كلامه: أن التلفُّظَ الذي هو من فعل العبد مخلوقٌ، وهذا التلفُّظُ تعلَّق بالقرآن الذي هو غيرُ مخلوق، وصفةٌ للرَّبِّ جلَّ مجده. ومن لا يميِّزُ بين فعل العبد، وصفة الرَّبِّ جلَّ مجده، يَقَعُ في الخبط. فهذا أصلُ جوابه، أَوْمَأَ إليه في هذه الترجمة، حيث قال: إن الرَّبَّ بصفاته، وأمره، وفعله، وكلامه هو الخالقُ المكوَّنُ. فكلامُ الله من حيث كونه صفةً له تعالى في جانب الخالق، ومن يَجْتَرِىءُ أن يقولَ: إنه مخلوقٌ من هذه الجهة؟ وأمَّا تلفُّظُنَا به، فذاك ليس من صفته تعالى، بل من صفاتنا، ونحن بما فينا من الصفات مخلوقون تعالى.
---(7/394)
وجملته أن الواردَ مخلوقٌ، والمورد غيرُ مخلوقٍ. وهاك أجلى نظيرٍ له، فإِنك إذ تَقْرَأُ كتاباً، فيكون هناك أوَّلاً قراءتك، ولا يَمْتَرِي أحدٌ أنه فعلُك. وثانياً الذي تَقْرَأُهُ، ولا يَشُكُّ أحدٌ أيضاً أنه ليس من فعلك، بل هو من الشيخ السعدي. فهكذا القرآن، وقراءتنا به.
ومحصَّل تلك الترجمة: أن اللَّهَ تعالى وما يتعلَّق به من صفاته وأمره كلِّها غيرُ مخلوقٍ، والعالمَ بقَضِّه وقَضِيضِه مخلوقٌ.
باب قَوْلِهِ تَعالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (الصافات: 171)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل: 40)
يعني أن الكلمةَ والكلامَ، والقرآن كلَّه يُطْلَقُ ف يجَنَابِهِ تعالى، بخلاف اللفظ، فإنَّه لا يُسْتَعْمَلُ في جَنَابِهِ تعالى، لِمَا عُرِفَ في «حواشي شرح الجامي». وقد جوَّز المصنِّفُ إطلاق الصوت أيضاً، وأَبَى عنه الجمهور من أهل السنة. وسيجيء.
---
7454 - قوله: (ثُمَّ يَنْفُخْ فِيهِ الرُّوحَ) وقد عَلِمْتَ الفرقَ بين النَّسَمَةِ، والروح. فإنَّ النَّسَمَةَ تُوصَفُ بالولادة، فورد في الخبر: «أنَّ ما من نسمةٍ مولودةٍ»... إلخ. بخلاف الروح، فإنها لا تتصفُ به، وإن اتَّصَفَتْ بالنفخ، والخلق. وبالجملةِ: إن الروحَ بعد نفخها في الجسد تَكْتَسِبُ أحوالاً تتغيَّر منها خواصُّها، فَتُسَمَّى نَسَمَةً، وغيرها. وقد مرَّ بسطه. فالشيءُ واحدٌ، وله مراتب، فهو نَسَمَةٌ في المرتبة التحتانية، وما دام لم تتعلَّق بالجسد، وكانت تُسْنَدُ إلى اللَّهِ تعالى وأمرهِ روحٌ. ولعلَّ فوقها مراتب أخرى أيضاً، بعضها فوق بعضٍ في التجرُّد، أَدْرَكَهَا الصوفيَّةُ، بها تتصل سلسلة الأكوان، مع ربِّها، ولم يتعرَّض إليها العلماء، فإنَّ لكلِّ فنّ موضوعاً، ولكلِّ موضوعٍ باحثاً.(7/395)
7456 - قوله: ({قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى}) قد مرَّ بعضُ الكلام في كتاب العلم. والحاصلُ: أنهم اختلفوا في تحديد عَالَمِ الأمر والخلق. قال الغزاليُّ: إن فيه اصطلاحاً عديدةً. فقيل: ما تُدْرِكُهُ الحواس، فهو عالمُ الخلق، وما لا، فهو عالم الأمر. وقال الشيخُ المجدِّد السَّرْهَنْدِي: إن الذي تحت العرش عالم الخلق، وما هو فوقه فعالم الأمر. وقال الشيخُ الأكبرُ: إن ما خَلَقَهُ اللَّهُ تعالى بلا واسطةٍ، فهو عالمُ الأمرِ، وما خَلَقَ الشيء من الشيء - أعني بالواسطة - فعالمُ الخلق. فالروحُ من عالم الأمر، لكونها مخلوقة بلا واسطة، بخلاف الجسم، فإنه من العناصر. وذَهَبَ ذاهبٌ إلى أن نفس الجسمية عالم الخلق، وتحريكها من عالم الأمر، كالآلات الميكانيكية، التي تتخذ من الحديد إذا تعلَّقت بها الكهربائية تتحرَّك وتجري. فهذه أربعةُ فروقٍ من نحو أربعة أوجهٍ.
---
7460 - قوله: (وَهُمْ بالشَّام)، يريد معاويةُ رضي الله تعالى عنه: أن قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «لا يَزَالُ قومٌ من أمتي»... إلخ، صادقٌ عليه، وعلى أصحابه، لكونهم بالشام. مع أن في الحديث: «أنهم الأَبْدَال الذين يكون أربعون منهم بالشام». أمَّا الحديثُ، فقد أَثْبَتَهُ من كان على طريق الصوفية، وأَسْقَطَهُ المحدِّثُون. فإن لم يَكُنْ في حقِّهم، فهو في عيسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين يَكُونُونَ معه بعد نزوله من السماء.(7/396)
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف: 109)، {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَتُ اللَّهِ} (لقمَان: 27)، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَوتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ} (الأعراف: 54). سَخَّرَ: ذَلَّلَ.
---
قوله: ({إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْضَ في سَتَّةِ أيَّامٍ})، قد أَعْلَنَ القرآنُ جِهَاراً: أن العالمَ خُلِقَ في ستة أيَّامٍ، ثم حصل الاستواء بعدها. وحينئذٍ فالخلقُ بُدِيءَ من يوم السبت، وتَمَّ على يوم الخميس، هكذا عند مسلم عن أبي هريرة. وفي «مسند الشافعيِّ»، عن أنس: «أن الاستواءَ كان يوم الجمعة». نعم لمَّا أراد اللَّهُ سبحانه بعد ذلك بأزمانٍ متطاولةٍ - لا يعلمها إلاَّ هو - خَلْقَ آدم عليه الصلاة والسَّلام يوم الجمعة، فَتَبَادَرَ إلى بعض الأوهام أن تلك الجمعة هي التي كانت عَقِيب الستة التي خَلَقَ فيها العالم، وليس كذلك. هكذا قرَّر ابنُ دقيق العيد: أن الجمعة التالية كان فيها تعطيلاً، ولم يَخْلُقْ الربُّ سبحانه فيها شيئاً، وهو معنى الاستواء.(7/397)
وقد اضطرب الناس في معناه، والرَّزِيَّةُ في القرآنَ، والحديثَ يعبِّران عن المغيبات بما في عالمنا، فيجيءُ قليلُ الفَهْم، قليلُ الديانة، كثيرُ الجهل، فَيَحْمِلُهَا على ظواهرها، ثم يؤوِّلها بعين ما في عالمنا، ومن ثَمَّ يقع في الإِلحاد. مع أن أعدلَ الأمورِ إمرارُها على ظواهرها مع عدم التكلُّم في معناها، كما مرَّ عن أئمة الدين رحمهم الله تعالى.
وذَهَبَ الحافظُ ابن تَيْمِيَة إلى أن الخلقَ بُدِيء من يوم الأحد، وتمَّ على يوم الجمعة، ويوم التعطيل يوم السبت، وذلك لأنه رأى أن الحديثَ يَدُلُّ على أن آدم عليه الصلاة والسَّلام خُلِقَ يوم الجمعة، وأنها آخر يومٍ تَمَّ فيها الخلق. ودَلَّ القرآنُ أن الخلقَ تمَّ في ستة أيامٍ. وإذن فالستةُ لا تكون إلاَّ من يوم الأحد، ويكون التعطيلُ في يوم السبت. بقي حديث مسلم: فقال: إن أصلَه عن أُبَيّ بن كعبٍ، وليس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولكنه سَمِعَهُ أبي هريرة من أبيّ، والصوابَ ما ذكرناه.
---
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآء} (آل عمران: 26)، {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآء اللَّهُ} (الكهف: 23، 24)، {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء} (القصص: 56)، قَالَ سَعِيدُبْنُ المسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ في أَبِي طَالِبٍ. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).(7/398)
جَزَمَ المتكلِّمُون باتحادهما في جَنَابه تعالى، كما في «فتح القدير» من باب تفويض الطلاق. وقد مرَّ منِّي الفرقُ بينهما، فالمشيئةُ ما به شيئية الشيء، فهي مساوقة للعلم، أي هي في مرتبيته. غير أن العلمَ ما به الانكشاف، وهذه ما به الشيئية. فالمعلومُ في جَنَابِهِ تعالى لا يجيء من الخارج، ولكن علم الله تعالى هو الذي يُوجِدُ المعلوم. وأمَّا الإِرادةُ، فتتعلَّق بالإِيجاد والإِعدام سواء، والتكوين لا يتعلَّق إلاَّ بالإِيجاد. وبالجملة: المشيئةُ قويةٌ من الإِرادة، حتى إنه لا شيء فوقها. وفي تلك المرتبة صفة العلم.
ومن ههنا عَلِمْتَ أن صفة المشيئة، والعلم تتقدَّمان على وجود الشيء، ومرتبةُ المعلوم في جَنَابِه تعالى لا تُوجَدُ إلاَّ من تلقاء المشيئة، بخلاف الممكنات. فمعنى صفة المشيئة: أن اللَّهَ تعالى لا مُسْتَنْكِرهُ له، فلا مخصِّص، ولا مرجِّح فوقها، فهي صفةٌ متقدِّمةٌ على الإِرادة. فافهم.
7464 - قوله: (وَلاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فإنَّ اللَّهَ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ)، أي ما أنتم تَرْخُون العنان في المسألة، فإن اللَّهَ تعالى فاعلٌ ما هو شاء، سواء قُلْتُمْ: إن شِئْتَ، أو لا، فإنَّه لا يَسْتَكْرِهُ عليه أحدٌ، فهذا القول منكم لَغْوٌ.
---(7/399)
7471 - قوله: (إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُم حِينَ شَاءَ) وعن بعض السَّلَفِ: إن في الإِنسان روحين: واحدةً لليقظة، وأخرى تَسْبَحُ في النوم. قلتُ: وهؤلاء لمَّا لم تَلْتَئِمْ عندهم أطوار الروح، قالوا بتعدُّدها، مع أنها واحدةٌ في الحالين، والفرق بصرفها. ففي اليقظة تكون مصروفةً إلى عالم المشهود، وفي النوم تتعطَّل منه، وتُصْرَفُ إلى عالمٍ آخر. وليس معنى القبضِ أن اللَّهَ تعالى يَذْهَبُ بها، ليحتاجَ إلى القول بالتعدُّد. بل معناه العصر، فإذا قَبَضَهَا الله، أي كما تَقْبِضُ القطنَ المفوشَ المنتفخَ، فَيَنْقَبِضُ في يدك، فَتَظْهَرُ أفعالها في الباطن أكثر من الظاهر، لانزوائها إلى الباطن. وهذا القبضُ كالقبض من المُشَعْبِذِينَ، كما هو مذكورٌ في التاريخ، أعني به نظر بندى.
7473 - قوله: (فَلاَ يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ ولا الطَّاعُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى)، هذا هو الصوابُ في الترتيب، فإن عدمَ دخول الدَّجَّالِ المدينة حَتْمٌ، والاستثناءُ مع دخول الطاعون فقط. ويُتَوَهَّمُ من سوء ترتيب بعض الرواة أن عدمَ دخول الدَّجَّالِ أيضاً أمرٌ مرجوٌ، لا أنه حَتْمٌ، وليس كذلك.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 23).
وَلَمْ يَقُل: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ.
---(7/400)
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255)، وقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السِّماوَاتِ شَيئاً، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ، عَرَفُوا أَنَّهُ الحَقُّ وَنَادَوْا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ}، وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِبْنِ أُنَيسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلّميَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ العِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ».
ترجم بالإِذن، وهو كلمةٌ، أو كلامٌ.
قوله: ({قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ})، أي أهل السموات السُّفْلَى سَأَلُوا أهل السموات العليا. {قَالُواْ الْحَقَّ}، أي أهل السموات العليا قالوا لمن تحتهم من الملائكة، {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ}.
(قوله:) (ولم يَقُملْ: ماذا خَلَقَ)، وذلك لأن القولَ قائمٌ بالباري تعالى، ولا يُطْلَقُ عليه لفظُ المخلوق، لأنه منفصلٌ، وسيجيء تفصله.m
قوله: (وسَكَنَ الصَّوْتُ) ذَهَبَ البخاريُّ إلى إثبات الصوت تعالى، وأَنْكَرَهُ الآخرون. قلتُ: لو قيل به، فلا بُدَّ فيه من قيدٍ، وهو بحيث لا يُشْبِهُ أصوات المخلوقين. وهذا الصوتُ عند العلماء: إمَّا صوتُ الملائكة، أو مخلوقةٌ في محلَ. واستدلَّ البخاريُّ على كونها صوتاً للباري تعالى، من قوله صلى الله عليه وسلّم «يَسْمَعُهُ من بَعُدَ، كما يَسْمَعُهُ من قَرُبَ»، فإن فيه استغراباً. ولو كان صوتُ المَلَكِ، لَمَا كان فيها استغرابٌ.
---(7/401)
7482 - قوله: (ما أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ)... إلخ. قلتُ: والإِذنُ فيه بمعنى الاستماع، وكان في الترجمة بمعنى الإِجازة، إلاَّ أن يُقَالَ: إن اللَّهَ تعالى أَجَازَ نبيَّه بالقراءة، فلمَّا قَرَأَ استمعها. فاسْتُعْمِلَ الإِذنُ في الاستماع، بهذا الطريق. ثم إن اللغويين صرَّحُوا بكونه بمعنى الاستماع، وحينئذٍ لا حاجةَ إلى هذا التَّمَحُّل أيضاً.
باب كَلاَمِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ، وَنِدَاءِ اللَّهِ المَلاَئِكَة
وَقَالَ مَعْمَرٌ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ} (النمل: 6) أَي يُلقى عَلَيكَ وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ، أَي تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37).
شَرَعَ في صلة الكلام، وتراجمه فيه على نحوين: الأُولَى في إثبات قِدَم كلام الله تعالى، والثانيةُ في إثبات حدوث فعله الوارد عليه.
فاعلم أن الكلامَ إمَّا كلامٌ نفسيٌّ، أو لفظيٌّ. والأوَّلُ أقرَّ به الأشعريُّ، وأنكره الحافظ ابن تَيْمِيَة. قلتُ: أمَّا إنكارُ الحافظ ابن تَيْمِيَة، فتطاولٌ، فإنه ثابتٌ بلا مِرْيَة.
وتفصيلُه أن في الكلام ثلاثَ مراتب:
الأُولَى: عبارةٌ عن حالةٍ بسيطةٍ إجماليةٍ غيرِ متجزئةٍ، من شأنها الإِفادة، فلا تقدُّم فيها، ولا تأخُّر، كالقرآن في ذهن من حَفِظَهُ، فإنه يَحْضُرُ في ذهنه جملةً، حتَّى إنه يُدْرِكُهُ أيضاً. إلاَّ أنه لا تفصيلَ في تلك المرتبة، وهي مبدأٌ للتفصيل.
والثانيةُ: عبارةٌ عن الصور المخيَّلة المنفعلة في الذهن. تعرَّض إليها بحرُ العلوم في «شرح مسلم». وفي تلك المرتبة يَحْضُرُه تفصيله، نحو أن تَقْرَأَ القرآنَ في نفسك، ففيها انكشافٌ تامٌّ، وتصيلٌ كاملٌ، وإن لم يَشْعُرْ به المُخَاطَبُ.
---(7/402)
والثالثة: عبارةٌ عن إجراء تلك الكلمات على اللسان، فالكلامُ ما دام دائراً في النفس بسيطٌ، فإذا نَزَلَ في الخيال صار عبارةً عن كلمات مخيَّلة، ثم إذا نَزَلَ على اللسان صار كلماتٍ ملفوظةً. فالكلامُ النفسيُّ ثابتٌ عقلاً. نعم، كلامُ المصنِّف ليس إلاَّ في اللفظيِّ، ومع ذلك تلك الحوادث القائمة ليست مخلوقةً. واسْتَبْعَدَهُ الحافظُ: فقال: إن في إثبات حدوثها، ونفي كونها مخلوقةً تناقضاً، لأنه لا فرقَ بين الحادث والمخلوق.
قلتُ: وهذا إنَّما نَشَأ من عدم اطلاعه على اصطلاح القدماء، فإن المخلوقَ عندهم هو المُحْدَثُ المُنْفَصِلُ، أمَّا إذا كان قائماً لفاعله، فلا يُقَالُ له: إنه مخلوقٌ. وهذا عينُ اللغة، فإنك تقولُ: قام زيدٌ، وقَعَدَ عمرٌو، ولا تقولُ: خَلَقَ زيدٌ القيامَ، وخَلَقَ عمرٌو القعودَ، وذلك لأن القيامَ والقعودَ، وإن كانا حَادثَيْن، إلاَّ أنهما ليسا بمنفصلين عن زيدٍ، وعمرٍو، فالشيءُ إذا قام بفاعله، فهو حادثٌ غيرُ مخلوقٍ.
والعجب من الحافظ حيث خَفِي عليه هذا الاصطلاحُ الجليُّ، فإن بين اللفظين بَوْناً بعيداً. أَلاَ ترى أن المُحْدَثَ قد أطلقه القرآن بنفسه، فقال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ}... إلخ (الأنبياء: 2)، وأمَّا المخلوقُ، فقد نُقِلَ عن أبي حنيفة وصاحبَيْهِ: أن من قال بخلق القرآن فقد كَفَرَ، هكذا نقله البيهقُّ في كتاب «الأسماء والصفات». فالمُحْدَثُ وَرَد في القرآن، وإطلاقُ المخلوق أفضى إلى الكفر. وإذا دَرَيْتَ الفرقَ بينهما، هان عليك إطلاقُ الحادث على القرآن، مع نفي المخلوق عنه، ولم يَبْقَ بينهما تناقضٌ.
---(7/403)
أمَّا الكلامُ اللفظيُّ في دائرة البشر، فهو حادثٌ ومخلوقٌ، ومعنى قول المصنِّف: «لفظي بالقرآن مخلوقٌ»، أي إن المَوْرِدَ الذي هو صفةٌ تعالى، وإن كان قديماً، لكن تلفُّظُنا الواردُ عليه فعلَنا وصفتَنا، وهو مخلوقٌ. ومن لم يُدْرِكْ مرادَه، ظَنَّ أنه جَعَلَ القرآنَ مخلوقاً. ومعلومٌ أن المَوْرِدَ الذي هو قائمٌ بالباري تعالى كيف يكون مخلوقاً؟ هذا تقريرُ مرام المصنِّف، وتقريبه.
أمَّا المحدِّثون، فهم فيه على فرقتين: منهم من أَنْكَرَ قيام الحوادث بالباري تعالى، ومنهم من أقرَّه. بقي المتكلِّمون، فاتَّفَقُوا على إنكاره، وهو المذهبُ الأسلمُ والأحكمُ.
والذي تلخَّص من مذهب المصنِّف: أن الذاتَ، وصفاتَه السبع، والتكوين كلَّها قديمٌ. بَقِيَتِ الأفعالُ الجزئيةُ، كالنزول، والضحك، وأمثالهما، فهي قائمةٌ بالباري تعالى، وحادثةٌ عنده. وتكل مُنْفَصِلَةٌ عند المَاتُرِدِيَّةِ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَئِكَةُ يَشْهَدُونَ} (النساء: 166)
قَالَ مُجَاهِدٌ: {يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12) بَينَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأَرْضِ السَّابِعَةِ.
فالإِنزالُ صفةٌ للباري تعالى، وليس بمخلوقٍ، مع كونه حادثاً. وفيه إشارةٌ إلى أني أؤمِنُ بكون القرآن كلامَه تعالى، وهو الجزءُ الأوَّلُ من مَلْحَظَيْهِ، أعني كون القرآن صفةً تعالى، والواردُ عليه هو فعلُنا، وهو مخلوقٌ حادثٌ، وهو الجزءُ الثاني.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَمَ اللَّهِ} (الفتح: 15)
{لَقَوْلٌ فَصْلٌ} حَقٌّ {وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ} (الطارق: 13 - 14) بِاللَّعِبِ.
---(7/404)
فهناك أمران: كلامُ الله، وهو صفةٌ تعالى، من يتمكَّن على تغييرها وتبديلها. والثاني هو فعلُنا، وهذا الذي أرادوا فيه التبديلَ، فالمُوْرِدُ محفوظٌ على مكانه، والوارد متغيِّرٌ متبدِّلٌ. والإِشكالُ إنما نَشَأَ من جهة اشتراك الاسم، فإِنَّما هو صفةٌ لنا يُقَال لها: القرآن أيضاً. وهكذا يُطْلَقُ القرآن على ما هو صفةٌ تعالى، والأوَّلُ مخلوقٌ، مكوَّنٌ متبدِّلٌ، متغيِّرٌ، بخلاف الثاني.
ومَنْ لا يُمْعِنُ النظر يَلْتَبِسُ عليه الحال نظراً إلى اشتراك الاسم، فَيَجُرُّ صفات القرآن عندنا إلى القرآن الذي عنده تعالى، مع أن المخلوقَ هو الذي مفعولٌ مطلقٌ للعباد، أي فعلٌ لهم، وقراءتهم. وأمَّا ما هو مفعولٌ به، فهو محدَثٌ غير مخلوقٍ، صفةٌ للرَّبِ عز وجلَّ. فأشار المصنِّفُ إلى ذكر التبديل: أن ما سَرَى إليه التغير، كيف يكون من صفة الله؟ فإن اللَّهَ تعالى لا يتغيَّرُ، ولا يتبدَّلُ، ثم إن المصنِّفَ أخرج في هذا الباب أحاديثَ كثيرةً تَدُلُّ على إقراره بكلام الله تعالى، إلاَّ أنه لا يُرِيدُ الإِفصاحَ به، ففي كلِّ حديثه ذكرٌ لكلام الله تعالى.
7501 - قوله: (وإنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلي، فاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً) وكان اللفظُ في عامة الروايات هكذا: «فإن لَمْ يَعْمَلْهَا»... إلخ. وهذا صادقٌ على السلب البسيط أيضاً، ولا يُعْقَلُ فيه أجرٌ. وقد كُنْتُ قلتُ: إن المرادَ به تركُ العمل بالاختيار، لأنَّ عدمَ العمل بشيءٍ في العُرْفِ إنما يُطْلَقُ إذا كان تركُهُ باختياره. فمعنى قوله: «لم يَعْمَلْهَا»، أي بالاختيار. وحينئذٍ الأجرُ عليه معقولٍ. وفي تلك الرواية تصريحٌ بما كُنْتُ شَرَحْتُ به من قبل، فإن قوله: «تركها من أجلي»، يَدُلُّ على اختيارٍ منه، وسُنُوح نَصُوح النية له.
7502 - قوله: (قَامَتِ الرَّحِمُ)، وهذا نحو تجلي عندي.
---(7/405)
7506 - قوله: (لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً لا يُعَذِّبُهُ أَحَداً من العَالَمِينَ) - واعلم أنَّهم اخْتَلَفُوا في أنَّ أَثَرَ النفخ هو فكُّ النظم، أو العدمُ المحضُ، وذهب الشيخُ الأكبرُ، إلى أنه يجيء وقتٌ ما لا يكون فيه موجودٌ سوى الله تعالى، ويتحوَّل العالمُ بنقيره وقِطْمِيره إلى العدم المحض.
باب كَلاَمِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيرِهِم
ترجم المصنِّفُ إلى الآن تراجم عديدة على إثبات الكلام، ولم يُتَرْجِمْ بعدُ على ما هو مرامه خاصَّةً، أي: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، غير أن تلك التراجم باعتبار إثبات الكلام في مواضع مختلفةٍ، وهذه في إثبات الكلام في المحشر.
7510 - قوله: (ويُلْهِمُني مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لا تَحْضُرُني الآنَ)، وهذا اللفظ في هذا الموضع فقط، فمن الزيغُ أي زيغِ ادِّعاءُ العلم المحيط للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم
7510 - قوله: (فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وأَخِرُّ لَهُ سَاجِداً) واعلم أن راويه لم يَثْبُتْ له قَدَمٌ في تقديم الحمد على السجدة، فتارةً ذكر: أنه حَمِدَ أولاً، ثم خرَّ ساجداً. وتارةً قال: إنه خرَّ أولاً، ثم سجد. والفصلُ عندي في مثل هذا الموضع أن يُنْظَرَ إلى ما هو الأليقُ بالمقام، ويكون هو الراجحُ، وقد ذكرته في «نيل الفرقدين».
باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: 164)
باب كَلاَمِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الجَنَّة
باب ذِكْرِ اللَّهِ بِالأَمْرِ، وَذِكْرِ العِبَادِ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإِبْلاَغ
---(7/406)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ}(البقرة: 152) {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْوَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ}فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 71 - 72). غُمَّةٌ: هَمٌّ وَضِيقٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: اقْضُوا إِلَيَّ مَا في أَنْفُسِكُمْ، يُقَالُ: افرُقِ اقْضِ. وَقال مُجَاهِدٌ: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} (التوبة: 6)، إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ، فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ فَيَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ، وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيثُ جَاءَهُ {النَّبَإِ الْعَظِيمِ} (النبأ: 2): القُرْآنُ {صَوَاباً} (النبأ: 38) حَقَّاً في الدُّنْيَا، وَعَمِلَ بِهِ.
أخرج فيه المصنِّفُ حديثاً طويلاً في «المعراج». وعدَّ ابنُ الجوزيِّ عشرةَ أوهامٍ في تلك الرواية، أشدُّها ما في آخر الحديث: «فاستيقظ وهو في المسجد»، فَيَدُلُّ على أن المعراجَ كان مناماً لا يَقَظَةَ. ويَتْلُوه في الشناعة قوله: «ودنا الجبَّارُ، رَبُّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى»، قال الخطابيُّ: ليس في هذا الكتاب - يعني «صحيح البخاريِّ» - حديثٌ أشنعُ ظاهراً، ولا أشنعُ مذاقاً من هذا الفصل، فإنَّه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين، وبين الآخر، وتمييز مكان كلِّ واحد منهما... إلخ.
---(7/407)
واعلم أنه كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي ليلة المِعْرَاجِ معاملةٌ مع جبرئيل عليه الصَّلاة والسَّلام، ومعاملةٌ مع ربِّه عزَّ وجلَّ. وقد جَمَعَتْ سورة النجم بينهما، فاختلط الأمرُ على الرواة أيضاً. ثم إن الرؤيةَ لمَّا كانت رؤيةَ التجلِّيات، جاء فيها النفيُ والإِثباتُ، فقيل: نورٌ أنَّى أَرَاه، وقيل: نورٌ إنِّي أَرَاه. وقد قدَّمنا الكلامَ في بَدْء الوحي: أن الرؤيةَ كانت رؤيةً بصريَّةً محقَّقةً، إلاَّ أن رؤيةَ الماديِّ للمجرد، لا تكون إلاَّ ما ناسبه، فلا توفِّيها الألفاظ، ويَتَجَاذَبُ فيه النفيُ والإِثباتُ، فهي كقوله:
*أشْتَاقُهُ، فإذا بَدَا ** أَطْرَقْتُ من إجلالٍ
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} (البقرة: 22)، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَلَمِينَ} (فصلت: 9)، وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ} (الفرقان: 68) {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّكِرِينَ} (الزمر: 65 - 66) وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} (الزخرف: 87) {ومَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمَان: 25). فَذلِكَ إِيمَانُهُمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيرَهُ.
---(7/408)
وَمَا ذُكِرَ في خَلقِ أَفعَالِ العِبَادِ واكْتِسَابِهِمْ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَا تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ إِلاَّ بِالحَقِّ} (الحجر: 8) بِالرِّسَالَةِ وَالعَذَابِ {لِّيَسْأَلَ الصَّدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} (الأحزاب: 8): المُبَلِّغِينَ المُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ {وَإِنَّا لَهُ حَافِظُونَ} (الحجر: 9): عِنْدَنَا {وَالَّذِى جَآء بِالصّدْقِ} القُرْآنُ {وَصَدَّقَ بِهِ} (الزمر: 33) المُؤْمِنُ، يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: هذا الَّذِي أَعْطَيتَنِي عَمِلتُ بِمَا فِيهِ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: 22)
فيه احتراسٌ آخر عمَّا يَنْشَأُ من قوله: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، بأن لفظَكَ إذا كان مخلوقاً، فكأنَّكَ صِرْتَ خالقاً لأفعالك، وهذا بعينه مذهبُ أهل الاعتزال. فيكون ضِغْثاً على إبَّالَة، فَأَزَاحَهُ، وقال: إن أفعالَ العبادِ، وإن كانت مخلوقةً، لكنَّها مخلوقةٌ تعالى. ولو جعلنا العبادَ خالقين لأفعالهم، لَزِمَ إثباتُ الندّ تعالى، والعياذ بالله.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرّحمن: 29)
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الأنبياء: 2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1).
---(7/409)
وَأَنَّ حَدَثَهُ لاَ يُشْبِهُ حَدَثَ المَخْلُوقِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11). وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْره مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ: أَنْ لاَ تَكَلَّمُوا في الصَّلاَةِ».
يريد به إثباتَ قيام الحوادث بالله تعالى.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (القيامة: 16)
وَفِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلّمحِينَ يُنْزَلُ عَلَيهِ الوَحْيُ.
يريد الفرقَ بين الوارد والمَوْرِد، نحو حركة اللسان واردةٌ على القرآن، وهو مَوْرِدٌ. والمخلوقُ هو الأوَّلُ دون الثاني، وذكر منه الحركةَ التي هي من فِعْلِ العبد.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِأَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 13 - 14)
{يَتَخَفَتُونَ} (القلم: 23) (طه: 103): يَتَسَارُّونَ.
فالسِّرُّ، والجَهْرُ فعلُ العبد، وكلٌّ منهما يَرِدُ على قوله تعالى، فالواردُ مختلفٌ، والمَوْرِد غيرُ مختلفٍ. ثم إنَّ في الآية اختلافاً، فعن ابن عبَّاس: «أنه في الصلاة»، وعن عائشةَ: «أنها في الدعاء»، كما روى عنهما البخاريُّ في الباب. قلتُ: وقولُ ابن عبَّاسٍ أقربُ إلى نظم القرآن، وتأويل قولها: إن المرادَ من الدعاءِ الدعاءُ في الصلاة، أو أن الدعاءَ مِصْدَاقُها أيضاً. ثم إنه قد مرَّ منِّي أن الجهرَ في الآية ليس على ما عُرِفَ عند الفقهاء، ولكنه جهرٌ لغويٌّ. أمَّا السِّرُّ، فذهب الهنْدُواني إلى أنه لا يُعْتَبَرُ فيه إسماعُ نفسه أيضاً، واعْتَبَرَهُ الكَرْخِيُّ، وبقوله أخذ العلماءُ.
---(7/410)
قوله: ({أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}) تعرَّض أوَّلاً إلى الجهر والسِّرِّ اللذين هما من الأضداد، ويتعلَّقان بالقرآن. ثم صرَّح بمن {خَلَقَ}، لِيُعْلَمَ أن مع القرآن جزءاً مخلوقاً أيضاً، وليس هو إلاَّ من أفعالنا.
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هذا فَعَلتُ كمَا يَفعَلُ»
فَبَيَّنَ اللَّهُ: أَنَّ قِيَامَهُ بِالكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ. وقَالَ: {وَمِنْ ءايَتِهِ خَلْقُ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ وَاخْتِلَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْونِكُمْ} (الروم: 22). وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الحج: 77).
وقد مرَّ منِّي أن نظيرَه، كفعلك، وقراءتك بجلستان للسعدي. فإن قراءتَك فعلُكَ، بخلاف المقروء.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ} (المَائدة: 67)
---(7/411)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّمالبَلاَغُ، وَعَلينَا التَّسْلِيمُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَلَتِ رَبّهِمْ} (الجن: 28)، وَقَالَ تَعَالَى: {أُبَلّغُكُمْ رِسَلتِ رَبّى} (الأعراف: 62). وَقَالَ كَعْببْنُ مَالِكٍ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 94). وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِىءٍ فَقُلِ: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105) وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: {ذلِكَ الْكِتَابُ} هذا القُرْآنُ {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) بَيَانٌ وَدِلاَلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} (الممتحنة: 10): هذا حُكْمُ اللَّهِ {لاَ رَيْبَ} (البقرة: 2): لاَ شَكَّ. تِلكَ آيَاتُ اللَّهِ: يَعْنِي هذهِ أَعْلاَمُ القُرْآنِ، وَمِثْلُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} (يونس: 22): يَعْنِي بِكُمْ، وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم خَالَهُ حَرَاماً إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ./
قوله: ({وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ})، فَأَسْنَدَ إلينا العملَ في مرتبةٍ. فَزَيدٌ مع أفعاله منفصلٌ عن الباري عزَّ اسمه، ومخلوقٌ له. وليس أفعالُ زيدٍ منفصلةً عنه، ولذا لا يُقَال: إنها مخلوقةٌ له، يريد هذا.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} (آل عمران: 93)
---(7/412)
وَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ القُرْآنَ فَعَمِلتُمْ بِهِ». وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: {يَتْلُونَهُ} (البقرة: 121): يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ {يُتْلَى} (النساء: 127) يُقْرَأُ، حَسَنُ التِّلاَوَةِ: حَسَنُ القِرَاءَةِ لِلقُرْآنِ {لاَّ يَمَسُّهُ} (الواقعة: 79): لاَ يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفعَهُ إِلاَّ مَنْ آمَنَ بِالقُرْآنِ، وَلاَ يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلاَّ المُوقِنُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم الإِسْلاَمَ وَالإِيمَانَ عَمَلاً، قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم لِبِلاَلٍ: «أَخْبِرْنِي بِأَرْجى عَمَلٍ عَمِلتَهُ في الإِسْلاَمِ؟». قَالَ: مَا عَمِلتُ عَمَلاً أَرْجى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلاَّ صَلَّيتُ، وَسُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ».
قوله: (أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُو بِهَا)... إلخ، فاستدلَّ من قوله: «عَمِلُوا بها»، أن التوراةَ كتابُ الرَّبِّ، والعملَ بها فعلٌ من جانب العباد، وتعلقَ بها. وهكذا القرآنُ، صفةٌ تعالى، وأفعالُنا تَرِدُ عليه.
باب وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم الصَّلاَةَ عَمَلاً، وَقَالَ: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»
---(7/413)
يريد أن الصلاةَ تحتوي على القرآن، وهو صفةٌ تعالى، ومع ذلك سمَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعملاً، فلا يَكُونُ إلاَّ باعتبار الوارد. أمَّا المَوْرِدُ، فظاهرٌ أنه ليس من عمله، فتبيَّن أنه لا بُدَّ من الفرق بين الوارد والمَوْرِد، وهَدْرُ الفرق بينهما يُفْضِي إلى التسوية بين فعل الخالق والمخلوق.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإنسَنَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19 - 21): هَلُوعاً: ضَجُورا
ولعلَّ في هذه الترجمة له نظرٌ إلى الخلق.
باب ذِكْرِ النبي صلى الله عليه وسلّموَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّه
باب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، بِالعَرَبِيَّةِ وَغَيرِهَا
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} (آل عمران: 93).
فهناك أيضاً أمران: أمرٌ من النبيِّ، وأمرٌ آخر يتعلَّق بجَنَاب الرَّبِّ عزَّ اسمه، تعلَّق به فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
7538 - قوله: (لكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، والصَّوْمُ لي)... إلخ، نظر المصنِّفُ إلى لفظ العمل. وهذا اللفظُ لم يخرِّجْهُ البخاريُّ إلاَّ في هذا الموضع، ولا بُدَّ من النظر إليه عند بيان معناه.
فالتوراةُ من الله تعالى، وتفسيرُها من أفعال العباد، وكذا الكتابةُ من أفعالهم. فهل يقول عاقلٌ: إن التلاوةَ، والكتابةَ، وأمثالَهما من صفاته تعالى. وإذن وَجَبَ الفرقُ بين الوارد والمَوْرِد، وفعل العبد، وصفة الله تعالى، ويقضي العجب مما نَسَبَ إلى الحنابلة: أن المكتوبَ ما بين الدفتين أيضاً قديمٌ.
---
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ الكِرَامِ البَرَرَةِ»
و«زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ».(7/414)
فالقرآنُ من الله تعالى، وأمَّا الصوتُ فمن العبد، حتى أنه يتمكَّنُ تزيينه وعدمه. بخلاف كلام الله الذي هو مَوْرِد صوته، فإنه عالٍ متعالٍ عنهما.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} (المُزَّمِّل: 20)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ} (القمر: 17)
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ». يُقَالُ: مُيَسَّرٌ مُهَيَّأ. وَقَالَ مَطَرٌ الوَرَّاقُ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17). قَالَ: هَل مِنْ طَالِبِ عِلمٍ فَيُعَانَ عَلَيهِ.
هذه الترجمةُ مع نظرائها كلِّها في الفرق بين الوارد والمَوْرِد. فإنَّ القرآنَ من الله تعالى، والقراءةَ فعلُ العبد. وكذا التيسيرُ من الله تعالى وفعله، والقرآن مورد فعله، وهو معنى قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ} (القمر: 17).
---(7/415)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21 - 22) {وَالطُّورِ وَكِتَبٍ مُّسْطُورٍ} (الطور: 1 - 2) قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ. {يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) يَخُطُّونَ {فِى أُمّ الْكِتَبِ} (الزخرف: 4): جُمْلَةِ الكِتَابِ وَأَصْلِهِ. {مَّا يَلْفِظُ} (ق: 18): مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيءٍ إِلاَّ كُتِبَ عَلَيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَب الخَيرُ وَالشَّرُّ. {يُحَرّفُونَ} (النساء: 46) يُزِيلُونَ، وَلَيسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ، يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيرِ تَأْوِيلِهِ. {دِرَاسَتِهِمْ} (الأنعام: 156): تِلاَوَتُهُمْ. {وعِيَةٌ} حَافِظَةٌ {وَتَعِيَهَآ} (الحَاقة: 12) تَحْفَظُهَا. {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ {وَمَن بَلَغَ} (الأنَعام: 19) هذا القُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ.
قوله: (قال ابنُ عَبَّاسٍ:... {يُحَرّفُونَ} يُزِيلُونَ، ولَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، ولكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ، يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ) واعلم أن أقوالَ العلماء في وقوع التحريف، ودلائلَهمن كلَّها قد قضى عنه الوَطَرَ المُحَشِّي، فراجعه. والذي ينبغي فيه النظرُ ههنا أنه كيف سَاغَ لابن عبَّاس إنكارُ التحريف اللفظيِّ، مع أن شاهد الوجود يُخَالِفُهُ. كيف وقد نعى عليهم القرآن أنَّهم كانوا يَكْتُبُونَ بأيديهم، ثم يقولون {هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 78)، وهل هذا إلاَّ تحريفٌ لفظيٌّ، ولعلَّ مرادَه أنَّهم ما كانوا يُحَرِّفونها قصداً، ولكن سَلَفهم كانوا يَكْتُبُون مرادها كما فَهِمُوه. ثم كان خَلَفُهم يُدْخِلُنَه في نفس التوراة، فكان التفسيرُ يَخْتَلِطُ بالتوراة من هذا الطريق.
---(7/416)
7553 - قوله: (فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) فالمكتوبُ، وإن كان فوق العرش، إلاَّ أنه مع ذلك جارٍ على ألسنتنا أيضاً، فذاك من فعلنا، لا عين المكتوب. أمَّا الرحمةُ والغضبُ، فهما من صفات الفعل.
قيل: إن «ما» مصدريةٌ، والمعنى: واللَّهُ خلقكم، وعملكم، فيكون فيه رداً على المعتزلة القائلين: بأن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لهم. كذا في «شرح العقائد» للنسفي. قلتُ: والصوابُ أن ما موصولةٌ، والمعنى: أنكم وما تَعْمَلُونَهُ بأيديكم من الأصنام كلَّها مخلوقةٌ تعالى، فكيف تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُون بأيديكم.
قوله: ({أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ}) فالقرآنُ تحت الأمر، وأفعالُنا تحت الخلق.
قوله: (سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قال: إيمانٌ باللَّهِ)، ولذا حقَّقت في كتاب الإِيمان: أن الإِيمانَ عملُ القلب.
باب قِرَاءَةِ الفَاجِرِ وَالمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ لاَ تجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم
يريدُ أن الفرقَ بين الواردِ والمَوْرِد ممَّا لا يَكَادُ يخفي، فإن الواردَ لا يختصُّ بالمؤمنين أيضاً. بل أصواتُ المنافقين أيضاً تتعلَّقُ بالقرآن، وذلك فعلهم قطعاً. ثم الذي لا يُجاوِزُ حناجرَهم ليس إلاَّ فعلُهم، وإلاَّ فالقرآنُ على مكانه ومرتبته. فالمَوْرِدُ غير الوارد.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَمَةِ} (الأنبياء: 47) وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَن
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: القُسْطَاسُ: العَدْلُ بِالرُّوميَّةِ، وَيُقَالُ: القِسْطُ مَصْدَرُ المُقْسِطِ وَهُوَ العَادِلُ، وَأَمَّا القَاسِطُ فَهُوَ الجَائِرُ.
---
(تَمَّ صَحِيحُ الإِمَامِ الْبُخَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).(7/417)
يريد أن أفعالَنا متميِّزةٌ من القرآن غايةَ التمييز، حتَّى إن أفعالَهم يُنْصَبُ لها الميزان. وأمَّا القرآنُ، فمن يَزْعُمُ أنه يُوضَعُ له الميزان، فافترقا من كلِّ وجهٍ.
ثم اعلم أن المصنِّفَ بدأ كتابه بمبدأ المبادي، وهو: الوحي، والنية، وخَتَم بغاية الغايات، وهو قوله: «سبحانه الله، وبحمده، سبحان الله العظيم».
---(7/418)