وكأن هذا من دأب الصحابة، أنهم إذا عَمِلوا بأمر في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمثابروا عليه. قلنا: أما أبو سعيد، فله أن يُنفقَ مالَه كله في سبيل الله، فما بالصاع، ولكن الفاصل أنَّ الصاعَ المذكورَ كان واجبًا عليهم أولا، ولا يثبتُ ذلك من القول المذكور.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْر عَلَى الحُرِّ وَالمَمْلُوك
1511 - قوله: (وكانوا يعطون)... إلخ، واعلم أن تقسيمَ صدقة الفِطر كان إلى الأمراء. وقد ثبت في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنَّ الناس كانوا يبعثُونَ بصدقاتِهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ثم إنه كان يقسِمُها حسَبَ ما يراه الله عز وجل. وهو معنى قوله: ليجمع، أي ليجمع للإِمام ليصرفها في مصارفها من تعارفه، كالزكاة، فلما علمنا من عمل السلفِ هذا، ناسبَ أن نحملَ عملَ ابن عمر أيضًا على ذلك.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِير
قوله: (قال أبو عمرو)... إلخ، وليست هذه القطعة في الشرحين. وهو مذهب الشافعي. وأما عندنا فلا زكاة في مال اليتيم، وهو مذهب ابن مسعود. وليراجع ألفاظ هذه الآثار أيضًا، لينجلي لك الحال.
صحيح البخاري
كتاب الحَج
صحيح البخاري
باب ُ وُجُوبِ الحَجِّ وَفَضْلِه
ولنقدم قبل الخوضِ في المقصود جُمَلا:
الأولى: أن العلماءَ اختلفوا في السنة التي فرض فيها الحج على أقوال: فقيل: سنة خمسٍ، حكاه الوَاقِدي. وقيل: سنة ست. وقيل: ثمان. وقيل: سنة تسع، ولكل منهم مُسْكة تمسكوا بها، فليطالعها في مواضعها من شاء.
(4/198)
---(4/194)
الثانية: اختَلف الناسُ في وجوب الحج، هل هو على الفور أو على التراخي؟ وكيف ما كان، التسارع إليه مطلوبٌ، وحينئذٍ يُشكل حجُ النبي صلى الله عليه وسلّمفي العاشرة مع فرضيته في الأعوام الماضية على اختلافها. فقيل في الجواب: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يترقَّبُ أن تعوَدَ الأيامُ على هيئتها، وقد كانت العربُ خلطتها لمكان النسيئة عندهم، فلم تكن أشهر الحج في محلها، فإذا عادت ذو الحجة في موضعها عَزَمَ على الحج، ونادى بين الناس.
قوله: (ومن كفر)... إلخ، أي لم يحج، وإنما عبَّرَ عنه بالكفر تهويلا، وعلى تعبير القرآن جاء حديث ابن ماجه: «فليس على الله أن يموتَ يهوديًا أو نصرانيًا».
1513 - قوله: (فجعل الفضل ينظر إليها)، واعلم أن الحجابَ عندنا داخلُ الصلاة وخارِجُها سواءً فجاز كشفُ الوجه والكفين عند أجنبي، بشرط الأمن من الفتنة. واختُلف في الرِّجلين، والفتوى على الحجاب مطلقًا، وذلك لانقلابِ الزمان، وظهورِ الفتن. وإنَّما صرفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّموجه الفضل احتياطًا، كما هو المذكور في الحديث.
1513 - قوله: (إن فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت شيخًا كبيرًا)، واعلم أنهم اختلفوا في وجوب الحج على المعْضُوب. فقيل: يجبُ عليه إذا مَلك الزادَ والراحلَة، ومُؤنَة من يرفعُه ويضعُه ويقودُه إلى المناسك. وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة. وهو قول الشافعي. وقيل: لا يجبُ وهو المشهور عن إمامنا. فقيل: معنى الحديث: أن الحج فرضٌ على الناس، فأدرك أبي أيضًا زَمَنَ افتراض الحج. وراجع التفصيل من «فتح القدير».
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 27 - 28)
1514 - قوله: (يركب راحلته)، والخلافُ فيه في الأفضلية، ووافقنا ابن عباس، كما عند أبي داود.
(4/199)
---
صحيح البخاري(4/195)
باب ُ الحَجِّ عَلَى الرَّحْل
وهو شرطٌ عندنا إن كانت المسافةُ مسافةَ الرَّحل، وأما الشغدف والهودج فلا.
1516 - قوله: (قال عمر)، أراد به الإِعداد للحج والاهتمام به.
1517 - قوله: (زاملته)، وهي الراحلة التي عليها الزاد. وفي «الفتح» عن ذي النورين أنه كان يحجُّ على البعير، وكان يحمل عليها الحبوب، ثم يقعد عليها، فدل على جواز القُعود على الحبوب.
1518 - قوله: (ولم أعتمر)، واعلم أن الحنفية والشافعية اختلفوا في أمر عائشة، فقال: إنها كانت معتمرةً، فلما دنت أيام الحج، ولم تخرج عن حيضها أَمرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن تخرجَ عن عمرتها، وتفسخها إلى الحج، ثم تقضيها. وأنكره الشافعية. وهذا اللفظُ ظاهرٌ للحنفية، وسيجيءُ تفصيله.
1518 - قوله: (فأعمرها من التنعيم)، ومن ههنا قلنا: إن الحاج يُهلّ من الحَرَم، والمعتمر من الحِلِّ ولا فرق بينهما عند المصنف. والحديثُ حجةٌ عليه، لأنه لو جاز للمعتمر أن يُهلَّ من الحرم لما بعثها إلى التنعيم.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الحَجِّ المَبْرُور
وهو ما لا جِنَاية فيه. أما الحجّ الأكبرُ المشهور بين الناسِ. وهو الحج الذي يكون يومَ الجمعة، فلا أصلَ له في الشرع، وهو في القرآن بمعنى آخر. ثم إنه مكفرٌ للصغائر والكبائر جميعًا، أو للأولى فقط، فرجَّح ابن نُجيم الثاني، ومال الأكثرون إلى الأول.
صحيح البخاري
باب ُ فَرْضِ مَوَاقِيتِ الحَجِّ وَالعُمْرَة
وادَّعى الشافعيةُ أنَّ فرضيةَ المواقيتِ كانت قُبيل حَجة الوداع. وادَّعى الحنفيةُ أنها كانت قَبْلها بكثير، لما سيجيء. ثم إن تلك المواقيت كلها وقَّتَها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأولا؟ فقيل: نعم؛ وقيل: غير ذات عِرْق، فإنَّها وقّتها عمر. والصوابُ هو الأول. نعم، اشتهرت بعضها في زمن عمر، فنُسبت إليه.
(4/200)
---
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة: 197)(4/196)
1523 - قوله: (وتزودوا فإِن خير الزاد التقوى)، وفسره السيوطي بما يُتقى به من السؤال، وهو المال. وليس بمرادٍ عندي، بل التقوى على معناه المعروف. والمراد أنه الزاد الحِسِّي، فقد علمتم أنه لا بد لكم، فسوف تأخذونه، ولكن ههنا زاد آخر أقومُ وأهم منه، وهو التقوى، فهو زادٌ معنوي فلا تَنْسَوه، واجعلوه أيضًا من زادكم، فإنَّه خيرُ زادٍ لمن تزوَّدَه. ويؤيِّدُه ما عند أبي داود، أنَّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلّمالزاد، فقال: «زوّدك الله التقوى». وإنما أوَّل به السيوطي، لأن تعليل قوله: (وتزودوا) بقوله: (فإنَّ خيرَ الزِّاد التقوى) بظاهره غيرُ مستقيمٍ.
قلتُ: حرف «إن» في كلامهم لا يجيءُ بمعنى العلة المنطقية، بل لمجردِ التناسُبِ بين الأمرين. والتناسُب بين الزَّادين ظاهرٌ، فالمقصود منه الأمر بهذا وهذا. أي تزوّدوا للحج واتقوه أيضًا، فأبرَزَه في شاكلةِ التعليل، لا أنه تعليل منطقي، فإنَّ المقصودَ فيه لا يكون إلا أمرًا واحدًا، والتعليل يكون لتقريره فقط. وههنا المقصود أمران، وقد فصلنا الفرقَ بينهما في رسالتنا «فصل الخطاب»، فإنهم حَمَلوا قوله صلى الله عليه وسلّم «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ»... إلخ، على التعليل المنطقي، فناقض أوَّلَ الحديث آخره، وكان محل «إن» لمجرد التناسب، ولكنهم لم يحملوه عليه. ثم قيل: إن الظاهر: التقوى خير الزاد، مكان (خير الزاد التقوى)، فراجع للفرق بينهما كلامَ الزَّمَخْشَري.
صحيح البخاري
باب ُ مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلحَجِّ وَالعُمْرَة
قد علمت أنَّ المصنفَ لم يفرق بين ميقات الحج وميقات العمرة، ولا شيءَ عنده غير العمومات، وقد علمت المسألة عندنا.
(4/201)
---(4/197)
1524 - قوله: (ممن أراد الحج والعمرة) تمسك به الشافعية على أن الإِحرام إنما يجبُ على مَنْ دخل مكة معتمرًا أو حاجًا، أما مَنْ لم يردهما، بل أرادَ التجارةَ أو غيرها، فليس عليه إحرام. ويجبُ عليه الإِحرام عندنا مطلقًا، لأنه لتعظيم البقعة المباركة، فيستوي فيه الحاجُّ وغيره، فكأن الإِحرام عندنا لازمٌ لمن دَخَلها. وأما عند الشافعية فموقوفٌ على إرادته إحدى العبادتين. وقوله: «فمن أراد الحج والعمرة» نص لهم.
قلنا: إن التمسك به يتوقف على مقدمةٍ أخرى، وهي كون تلك الإِرادة غير لازمةٍ عليه، فإن قلنا: إن إرادة إحدى العبادتين واجبةٌ عليه، فلا تمسُّك لهم فيه. وقد علمت أن وِزانَه وِزانُ لفظ الخير، وهذا يستعمل في الفرائض أيضًا، ولا دليل في لفظ الإِرادة فإِنها كما تكون في المُستحبَّات تكون في الفرائض. فإنَّها مما لا بد منه في جميع الأفعال الاختيارية.
وبعبارة أخرى نقول: إن مَنْ مرّ بالمواقيت يجبُ عليه أن يريدَ إحدى العبادتين عندنا، وعند الشافعية هو مخيّر، إن أراد أن يفعل فعل، وإلا لا. وفهموا أنَّ الحجَ والعمرة إذا توقف على إرادته لا يكون واجبًا أصلا. قلنا: إنما يتم ذلك لو ثبت أن الإِرادة لا تُستعملُ إلا في الجائزات، وليس بثابتٍ، فإنَّها تُستعمل في الواجبات، كلفظ الخير. وليس مرادُنا من الأفعال الاختيارية ما هي في اختيارنا من جهة الشرع، فإنَّ الواجبات تجبُ علينا، ولكن المرادَ منا الاختيارية لغةً ولا شك أن الواجبَ الشرعي أيضًا اختياري بحَسَب اللغة، بمعنى أن الوجوبَ لا يَسلُبُ الاختيار عن المكلف.
(حيلة لدخول مكة من غير إحرام)
(4/202)
---(4/198)
ثم إنَّ المسألةَ عندنا في الآفاقي، أما من كان يسكن داخل الميقات، فله أن يدخُلَها بدون إحرام لرفع الحرج عنه، وهذه هي الحيلةُ لمن أراد أن يدخلَ مكة بدون إحرام، أن ينوي عند مروره بالميقاتِ موضِعَا في داخل الميقات، ولا ينوي البيت، وحينئذٍ لا يجبُ عليه الإِحرام، لأنه لم ينو الموضعَ الذي يجبُ عليه الإِحرام لأجله، فإذا دخله يلحقُ بأهله، فيكونُ له حكم داخلِ المواقيت، ويسقط عنه الإِحرام. ثم المسألةُ فيمن يقعُ في طريقه الميقاتان، أن يحرم من أولاهما، فإن أحرم من الثانية له ذلك، ولا يجبُ عليه شيءٌ بمرورِ أوْلى الميقاتين بدون إحرام، ولم أجد تلك المسألة إلا عند محمد في «موطئه» فليحفظ.
صحيح البخاري
باب ُ مِيقَاتِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلا يُهِلُّونَ قَبْلَ ذِي الحُلَيفَة
صحيح البخاري
باب ُ مُهَلِّ أَهْل الشَّأْم
صحيح البخاري
باب ُ مُهَلِّ أَهْلِ نَجْد
واعلم أن المواقيتَ عند فقهائنا على نحوين: ميقاتٌ زماني، وميقاتٌ مكاني. أما الأول: فهو أشهر الحج. وأما الثاني: فما فصَّلُوه من البُقَع. وقالوا: لا يُقدَّمُ الإِحرام على الأول، ويستحب له أن يُقدِّمه على الثاني. فيستحب أن يُهل أهل المدينة قَبْلَ ذي الحُلَيْفة، فإنها ميقاتهم، وأنكره البخاري، ولذا قال: لا يهلوا قَبْلَ ذي الحُلَيْفة، وإنما خصَّصَ أهلَ المدينة بالذكر مع كون المسألة عامةً، لكون ميقاتهم أقربَ المواقيت، فإذا وجبَ عليهم أن يخرجوا إلى ميقاتهم ويُهلوا منها، فغيرهم ممن كانت مواقيتهم على بعد، أولى أن يُحرموا منها.
(4/203)
---(4/199)
قلتُ: أما المسألة في أهل المدينة خاصة، فينبغي أن تكون كذلك عند الحنفية أيضًا، وأرجو أن لا تكون خلافًا لمسائلهم، فإنَّ أهلَ المدينة لما كان ميقاتُهم أمامَهم، فلا حاجة لهم إلى تقديم الإِحرام، مع أن في إحرامِهم بميقاتهم تأسي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم بخلاف غيرهم، فإنَّ لهم في التقديم عملا بالعزيمة، وتماديًا في الإِحرام، مع أنه لا يلزمُ عليهم مخالفةً للسنة أيضًا، فافترقا.
صحيح البخاري
باب مُهَلِّ مَنْ كانَ دُونَ المَوَاقِيت
وقد مر أنَّ إطلاقَ الحديثِ يقتضي التسويةَ بين مُهَلِّ الحج والعمرة، وإنما قلنا بالفرق بينهما لما قام عندنا من الدليل عليه من الخارج.
صحيح البخاري
باب مُهَلِّ أَهْلِ اليَمَن
قد علمتَ من عادة المصنفِ، أنَّ الحديث إذا كان عنده بطرقٍ عديدة، يُخرجْه مرةً بتراجمَ عديدةٍ وفوائدَ جديدة.
صحيح البخاري
باب ذَاتُ عِرْقٍ لأَهْلِ العِرَاق
قوله: (فانظروا حذوها من طريقكم)، دلّ على جوازِ الإِحرام إذا مرّ بحذائِها، ولا يشترط المرورُ عليها خاصة.
صحيح البخاري
باب
واعلم أنَّ الشجرةَ صارت اسمًا بالغلبةِ لذي الحُلَيْفة. ويقال لها الآن: بئر على. وهذا غير علي بن أبي طالب. ولفظ الراوي يُشعرُ بالتغاير بين الشجرة، وذي الحُليفة. ثم المُعَرَّسُ موضعٌ قريب منها، ولكن لا تتميزان لاندِراس الرسوم والمعالم. والذي يُظن أن أولها ذو الحُلَيْفة، ثم المُعَرَّس، ثم العقيق - وادي - . وتلك المواضعُ كلها متقاربةٌ، كما ذكره السَّمْهُودي في «الوفا».
(4/204)
---
ثم اعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمخرج من المدينة يوم السبت بعد الظهر، لخمسٍ بَقَيْنَ من ذي القعدة، وكان الشهر تِسعًا وعشرين، ودخلَ مكةَ يوم الأحد، لأربع ليالٍ خَلَونَ من ذي الحجة، فتلك تسعة أيام. وبعد حذفِ يومي الدخولِ والخروج، تبقى سبعة أيام، لسفره صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري(4/200)
باب ُ خُرُوجِ النبي صلى الله عليه وسلّمعَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَة
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ»
1534 - (قل: عمرة في حَجّة)، وهذا نصٌ للحنفية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان قارنًا من أول إحرامه، فإنَّ وادي العقيق عند ذي الحليفة، وهي ميقات أهل المدينة.
وبالجملة قد ثبت قِرَانُه صلى الله عليه وسلّمثبوتًا لا مردَّ له، وإنما اختلف الصحابة في نقل حجه صلى الله عليه وسلّم لأنه كان معاملةَ ألوف من الصحابة، فنقل كلٌّ منهم حَسَبَ ما سمع من تلبية النبي صلى الله عليه وسلّم وأنت تعلَمُ أن القارن له أن يُلبي كيف شاء. فمن سمع منه: لبيك بحجة زَعَمَ أنه مفرد، وأصاب حَسَب زعمه، وكذلك من سمع: لبيك بعمرة، ظنَّ أنه متمتِّع، والأمر ما قررنا. وإنما لم نبسط في إثبات قِرَانه صلى الله عليه وسلّم لأنَّ علماءَ المذاهب الأربع، كادوا أن يتفقوا على ذلك، بل قد اتفقوا مع اختلافٍ بينهم، في أنه كان معتمرًا في أول أمره، ثم قَرَن، أو كان قارنًا من أول الأمر. وراجع «الطحاوي» فإنَّه قد بَسَطَ الكلامَ في المسألة بما لا مزيد عليه. ونقل القاضي عِيَاض أنَّه صنف في إثبات قِرَانه صلى الله عليه وسلّمألفَ ورقةٍ. وأرى أنَّ للمالكيّة اعتناءً بتصانيف الطحاوي أزيدَ من الحنفية.
صحيح البخاري
باب غَسْلِ الخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَاب
(4/205)
---
واعلم أنَّ الخَلُوق اسم لنوع من الطيب، يُجعل فيه الزعفران، والزعفرانُ مباحٌ أكلا، ومحرم تطيُّبًا لأجل اللون، لا أريد للمحرم، بل للرجل في سائر أحواله. ثم إنَّ من تطيَّبَ قَبْل الإِحرام، وبقي أثره، أو عينُه بعده جاز عندنا، وإنما محذورُ إحرامه أن يتطيَّبَ بعد الإِحرام بخلاف اللباس، فإنَّ المحظورَ منه محظورٌ ابتداءً وبقاءً. وقالت المالكية: إن الباقي إن كان أثرًا للطيب، فجائزٌ، وإن كان عليه فلا.(4/201)
1536 - قوله: (وهو متضمخ بطيب)، وهو محمولٌ على طيب الإِحرام، فإنه لا بأس بالتضمخ بطيبٍ قبل الإِحرام على ما علمت. وقد كان يختلجُ في صدري أن العربَ كانوا يحجون من زمن الجاهلية، ولم يُعلم من حالهم التفريطُ في أمر الحج، نعم، كان فيهم بعض تعمق وإفراط، حيث كانوا يطوفون بالبيت عُراةً، زعمًا منهم أن الطوافَ إنما يليق في ثياب لم تتلوث بمعاصيهم، فإذا كان حالهم هذا، فكيف فَرَّط هذا الرجل، وتطيِّبَ في الإِحرام؟ ثم رأيتُ في كلام القاضي أبي بكر بن العربي: أنهم كانوا يُفرِّطون أيضًا، لكنه كان في العمرة دون الحج. وذلك لكونها من أفجر الفجورِ في زمنِ الحج عندهم. والله تعالى أعلم بالصواب.
1536 - قوله: (وهو يغط) - لمبى لمبى سانس لى رهى تهى.
1536 - قوله: (وانزع عنك الجبة)، وقد علمتَ أن الثوبَ المخيطَ من محظوراتِ الإِحرام، ابتداءً وبقاءً.
صحيح البخاري
باب ُ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَما يَلبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجّلَ وَيَدَّهِن
صحيح البخاري
باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا
صحيح البخاري
باب ُ الإِهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفَة
(4/206)
---
لعله أشارَ إلى مُوَافقةِ الحنفية والشافعية في مسألة التَّطيُّبِ قبل الإِحرام. أما الشَّمُّ فهو مكروهٌ عندنا، ويُجاز للتداوي. وكذا يجوزُ شدُّ الهِمْيَان، ولبس المخيط على غير هيئتِهِ، كما إذا ارتدى بالقميص. ولا يجوزُ عندنا التطيب بالزيت، لكونه أصلَ الطيب، وإن جاز أكله.
1537 - قوله: (وكان ابن عمر)... إلخ، فلم يكن يستعمل الطيب قبل الإِحرام، ولا بعدَه. فمذهبُه أضيقُ من مالك أيضًا، ومذهب إبراهيم كمذهبنا.
1537 - قوله: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب)... إلخ، دل على جواز بقاءِ جِرْم الطيب بعد الإِحرام.(4/202)
1538 - قوله: (كنت أطيب)... إلخ، استدل منه النووي على أن «كان» لا تستدعي الاستمرارَ، لكونها واقعةً واحدةً ههنا. وقال الشيخ ابن الهُمَام: إنه كذلك سيما إذا كان خبرُه مضارعًا. قلتُ: وهو صحيح لغةً، غير أنه في العرفِ للاستمرار، وهو مستقيمٌ ههنا أيضًا بحذف فعلِ الاتصاف، ولا ريب أنَّ اتصافها بذلك دائمٌ.
قوله: (ولحله قبل أن يطوف)... إلخ، قيل: إن المحلل عندنا هو الحلق. وإنِّما يظهرُ تحليله في حق الجِماع بعد طواف الزيارة.v
وقيل: بل المحلل اثنان: الحلق، والطواف؛ فالأول: محللٌ لجميع المحظورات غير الجماع؛ والثاني: محللٌ للجماع. وكيفما كان يَحِلُّ له بعد الحلق كل شيء، إلا الجماع. وقيل: إلا الجماع، والطيب، وهو رواية شاذة.
صحيح البخاري
باب ُ ما لا يَلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَاب
صحيح البخاري
باب ُ الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ في الحَج
وذكر ضابطةً في «كتاب المناسك» أنَّ كل ثوبٍ مخيطٍ مُستَمسِكٍ على الجسد إذا لُبس بطريقه المعروف، كانت جنايةً عندنا.
(4/207)
---
1542 - قوله: (ليقطعهما أسفل من الكعبين)، وهو واجبٌ عند الثلاثة، ومستحبٌ عند الحنابلة، لأن بعض الرواة لم يذكروه. قلنا: إنه ساكت، فيحمل الساكت على الناطق. ثم الكعبَ في الحج هو العظمُ النابتُ في وَسَط القدم، وخَلَطَ من نقله في الوضوء.
1542 - قوله: (مسه الزعفران)، قال الحنفية: إن المحظور في الإِحرام هو الطيب، وفي الإِحدادِ اللون، وإنما يُكره الطيبُ فيه لأجلِ الزِّينة.
قوله: (لا يحك جسده)، وهو جائز عندنا.
قوله: (ويلقي القمل)، وهكذا عندنا، ويتصدَّق فيه دون البَقِّ، لكون القملِ متولدةً من جسد، دون البق. ثم اعلم أنه يجوزُ له لُبس السراويل بعد فتقِهِ، وإلا تكون جنايةٌ، فإِن لبسه عند الحاجة وجب عليه الدم، ولا يأثم، وهذا من خصائص الحج، أن المعذورَ يرخصهُ الشرعُ بأشياء، ثم يوجِبُ عليه الدم، كحلق الرأس عند التأذِّي، هكذا ذكره الطحاوي.(4/203)
صحيح البخاري
باب ُ ما يَلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأُزُر
قوله: (الثياب المعصفرة)، ونهى عنها الحنفية أيضًا.
قوله: (ولا تتبرقع) إذا مس وجهها، أما إذا كان مُجَافيًا لا يمسُّ وجهها، فلا بأس به.
قوله: (بالحليِّ)، وهي مكروهةٌ تنزيهًا عندنا، كما في «البدائع»، ويشهد له حديث أبي داود، غير أنه اختُلف في وقفه ورفعه، وجنح المصنف إلى وقفه. وعمل به الحنفية، فحملوه على الكراهة تنزيهًا.
1545 - قوله: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلّممن المدينة بعدما ترجّل، وادّهن، ولبس إزاره، ورداءه)... إلخ، هذا بيان لإِعداده للإِحرام، ولم يكن أحرم بَعدُ، لأنه جامَعَ بعدَه. ولبس الإِزارِ، والرداء لم يكن لكونه مُحرِمًا، بل لكون ذلك لباس العرب. وإنما يتبادَرُ منه الإِحرام، لكونه لُبْسة المحرم في عرفنا.
(4/208)
---
1545 - قوله: (إلا المزعفرة)، قال الطحاوي: إن المزعفرة إذا لم ينفض اللونَ جاز، واستدلَ بروايةٍ فيها يحيى بن حميد الحماني، وهو الأزدي، من علماء الكوفة، وكان يحيى بن مَعِين يوثقه حتى الموت، وتردد فيه بعضهم، ولعله لا ذَنْب له: غير أنه حنفيٌ، وإن من الذنوب ما لا يغفَرُ عند بعضهم.
واعلم أن الراوي لم يتعرض إلى طَوَافه صلى الله عليه وسلّمالنَّفل، مع ثبوته في الخارج، لأنه كان بالليل. وإنما لم يَطُف النبي صلى الله عليه وسلّمبالنهار، مع كونه أفضل العبادات في تلك البقعة الشريفة، مخافةَ أن يقعَ الناسُ في مَغْلَطة.(4/204)
مسألة: قال الحنفية: إن الحاج يقطعُ التلبيةَ عند رمي الجمار. والظاهر أنَّ التلبيةَ لما كانت للبيت، ينبغي أن تنقطعَ عند البيت. قلتُ: والسِّر في ذلك أن التلبيةَ إعلانٌ بالإِجابة والحضور. وذا لا يناسبُ له، وهو قائمٌ بين يدي الجِمار، فناسب قَطْعَها عندها، فإذا انقطعت عندها لهذا المعنى انقطعت بعدها رأسًا، على أن معاملة المحرم إلى الجمار كانت مع الجماعة، ثم صارت أحاديًا وانفراديًا، فيأتي بها الحاجُّ متى شاء، مع الجماعة أو قبلها، أو بعدها، فانقطعت تلبيتُه أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ بَاتَ بِذِي الحُلَيفَةِ حَتَّى أَصْبَح
فكأنه من المُستَحَبَّات، ولم يعدها الحنفية مُستحبًا.
صحيح البخاري
باب ُ رَفعِ الصَّوْتِ بِالإِهلال
والرفعُ مطلوبٌ بشرطِ التحرُّزِ عن الإِفراط.
1548 - قوله: (سمعتهم يصرخون بهما جميعًا)، وهذا حالُ بعض الصحابة، وفيه حجةٌ للحنفية على ما لا يخفى.
صحيح البخاري
باب التَّلبِيَة
(4/209)
---
واعلم أن الإِحرامَ عندنا قوليٌّ وفعليٌّ. ونعني بالقوليَّ التلبية، فإِذا لبىَّ ناويًا. فقد أحرم، وبالفعلي أن يسوقَ الهدْي ناويًا، فعلم أن المرء لا يصير مُحرمًا بمجرد النية، ما لم يقترن معها قولٌ، أو فعل مخصوص بالحج. ثم لا يُشترط ذكر النسك أو النسكين في التلبية، بل كفى له النية. وصرَّح علي القاري أنّه يُستحب الوقوفُ في كلمات التلبية في أربعة مواضع: لبيك اللهم لبيك، لبّيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك.
والأفصحُ فيها: «إن» بالكسر، كما هو مروي عن محمد، ورُوِي عن أبي حنيفة الفتح. وهو مخالفٌ للذوق، فاغتممتُ لها حتى رأيت في «الكشاف» أن فيه روايتين عنه - الفتح، والكسر - فعلمتُ أن الفتحَ محمولٌ على الجوازِ، والكسرَ على الاختيار؛ وحينئذ زال الاضطراب. والأولى أن لا يزيدَ على تلك الكلمات، وإن أبى إلا أن يفعَلَها، ففي آخرها، كما رُوِي عن ابن عمر.
صحيح البخاري(4/205)
باب ُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، قَبْلَ الإِهْلالِ، عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَة
صحيح البخاري
باب ُ الإِهْلالِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَة
ولا يمنعُ الحاجُّ عن الأذكار كلها، وإن كان الفضلُ في الوظيفةِ الوقتية، وهي التَّلبية.
1551 - قوله: (ثم أهل بحج وعمرة)، وفيه حجةٌ صريحة للحنفية.
1551 - قوله: (وأهل الناس بهما)، وفيه توسع. والمعنى أنَّهم أهلُّوا بهما، ولو بتخلُّلِ حِلَ.
(4/210)
---
قوله: (ونحر النبي صلى الله عليه وسلّم، واعلم أن بَدَنات النبي صلى الله عليه وسلّمالتي كان أهداها ثلاثٌ وستون؛ وجاء عليٌّ بسبعٍ وثلاثين، فتلك مئة. والنُّكْتة في العدد المذكور أنَّ ذلك كان عُمُر النبي صلى الله عليه وسلّمفأهدى من كل سنة بَدَنة، ولعل عليٌّ نحر منها ثنتين وثلاثين، وأظن أن ذلك عُمُره، بقيت منها خمس، فنحرها النبي صلى الله عليه وسلّمفي وقت آخر، وهي التي ذكرها الراوي ههنا. وحينئذٍ لا حاجةَ إلى إعلال رواية أبي داود: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمنحر خمسًا منها، فإِنها كانت من بَقَايا هَدَايا عليَ، نحرها في مجلس آخر.
1551 - قوله: (وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالمدينة كبشين)، وهذه قِطعة من حديث آخر في الأُضحية، ولا تعلقَ لها بحديثِ الحج.
صحيح البخاري
باب ُ التَّلبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ في الوَادِي
1555 - قوله: (مكتوب بين عينيه: كافر)، تردد الشيخُ الأكبر في صورة ما يكون بين عيني الدَّجَال، هل هي بصيغة الماضي أو بصيغة اسم الفاعل؟ قلتُ: وفي تلك الرواية دليل الثاني.
1555 - قوله: (وأما موسى)... إلخ، والسرُّ فيه أنه عليه الصلاة والسلام لعله لم يحجّ في حياته، وكذا عيسى عليه السلام، ولذا يحجُّ بعد نزوله. وقد ثبت حج أكثر الأنبياء عليهم السلام. ثم تلك الوادي هي: الأزرق.
(4/211)
---(4/206)
واعلم أنهم اختلفوا في تحقيقِ نسبة الدنيا مع الآخرة، فقيل: كنسبة الروح مع البدن، وليست كنسبة الدرة بالحقة، ولا كنسبة أحد المنفصل بالمنفصل الآخر. وقيل: كنسبة الشجرةِ بالبَذْر، فتنشقُّ الدنيا عن الآخرة، كما ينشقُّ البَذرُ عن الشجرة. وعندي نسبتُها كنسبة الظاهر بالباطن، والغيب إلى الشهادة، فإِذن لا فرق بحسَب العالم والحيِّز، بل باعتبار النظرِ والبصر. فلو قوي البصرُ الآن لرأى الآخرة والنار والجنة، ولكن الأبصارَ عامةٌ ضعيفة، فلا ترى ما يراه حديد البصر. فالأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام يرون الجنة والنار في حياتهم أيضًا. أما العوام فسيرونَها بعد الحشر حتى يصير البصرُ حديدًا، قال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (قلله: 22).
صحيح البخاري
باب كَيفَ تُهِلُّ الحَائِضُ وَالنُّفَسَاء
واعلم أنَّ الحُيَّضَ والنُّفَسَاء لسنَ بمحجوراتٍ عن شيء من مناسك الحج غيرَ الطواف، والسعي. أما الطوافُ، فلكونه في المسجد؛ وأما السعيُ فلكونه مترتبًا عليه، فعليهن أن يغتسلنَ لدفعِ الأذى، وتحصيلِ النظافة، وتخفيف النجاسة، ثم يفعلن كما يفعل الحاج، غير أنهنَّ لا يَطُفنَ بالبيت. ومن ههنا تبين نوع آخر من الغُسل، وهو ما لا يفيدُ الطهارةَ غير النظافة، فلا يُباح لهنَّ بهذا الغُسل مسُّ المصحف وغيره.
قوله: (وما أهل لغير الله به)، وراجع الفرق بينه وبين قوله: وأهلّ به لغير الله من «تفسير ابن كثير».
1556 - قوله: (فأهللنا بعمرة)، هذا حال المتمتعين فقط، لا حالُ الجميع.
(4/212)
---(4/207)
1556 - قوله: (انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة)، قال الشافعية: إن أم المؤمنين عائشة كانت قارنةً، فَوَرَدَ عليهم الامتشاط. فقالوا: إنه محمولٌ على الامتشاط بالتخفيف، بحيث لا يؤدي إلى نقض الأشعار، وكذا أوّلوا قوله: «ودعي العمرة»، وقالوا: معناه: اتركي أفعال العمرة لا إحرامها. وقال الحنفية: إنها كانت معتمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلّمحين حاضت أن تخرجَ من عمرتها، وتفعل ما يفعلُه الحلال، فأمرها بالامتشاط، فهو صريح في نقض الإِحرام. ومما يدلُّك على أن الامتشاطَ عندهم كان معهودًا للإِحلال، ما أخرجه البخاري عن أبي موسى في الباب التالي، قال: «فأحللتُ، فأتيت امرأةً من قومي فَمَشَطَتْني»... إلخ، فإن كان امتشاطُه للإِحلال، فكذلك امتشاطُ عائشة، وحملُه على غير ذلك تكلُّفٌ بارد. ومما يدل على رفضِ عمرتِها، أمرُ النبي صلى الله عليه وسلّمإياها بعد الفراغ عن الحج، أن تعتمرَ عمرةً أخرى مكان المفروضة. وحملَه الشافعية على أن أمره كان لتطييب خاطرها، وسيجىء الكلام.
1556 - قوله: (وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة)، وسيجىء ما لَه وما عليه عن قريب.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَهَلَّ في زَمَنِ النبي صلى الله عليه وسلّمكَإِهْلالِ النبي صلى الله عليه وسلّم
(4/213)
---(4/208)
قيدُ «في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم اتفاقيٌّ وليس مَحَطًا للحكم. ومُحصَّلُ كلامه تحقيقُ التعليق في الإِحرام، أي إذا أهلَّ كإِهلال فلان هل يصيرُ بذلك مُحرمًا أو لا؟ فنسب النووي إلينا: أنه لا يكون محرمًا عندنا، وهو سهوٌ، فإنَّه يصح عندنا، غيرَ أنه يجبُ عليه أن يعين إحدى العبادتين: الحج، أو العمرة، قبل الدخول في الأفعال. والنووي لم يحقق مذهبَ الحنفية، حتى أظن أنه غَلِطَ في نقل مذهبنا في نحو مئة مسألة. بخلاف الحافظ ابن حجر، فإِني لا أذكر خطأه في ذلك إلا في مسألة - من باب الزكاة - وعند الشافعية يصيرُ محرمًا بعين ذلك الإِحرام. فالفرق بيننا وبينهم أنه يصيرُ بالتعليق محرِمًا بأصل الإِحرام عندنا، فله أنْ يُعيِّن قبل الدخول ما شاء، وعندهم يصيرُ محرمًا بعين ذلك الإِحرام. وتمسكوا بإِحرام علي، قلنا: فماذا تقولون في إحرام أبي موسى، فإِنه كان أهلَّ كما أهلَّ به علي، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلّمأن يُحل؟ وأما عليٌّ فإنَّما لم يأمُرْه النبي صلى الله عليه وسلّمبه لمكان الهَدْي عنده.
1558 - قوله: (لولا أن معي الهدي لأحللت) فيه دَلالة على أن المانعَ من إحلاله صلى الله عليه وسلّملم يكن إحرامه للقِرَان، كما قلنا، بل كان وجودَ الهَدْي، وهو المنقولُ في عذرِ عدم إحلاله صلى الله عليه وسلّمعامة. والمناسبُ على نظر الحنفية أن يقول: لولا أني جمعت بين الحج والعمرة لأحللت، فإنَّ المؤثّرَ حقيقةً عندنا هو إحرامُه للقِرَان، فإنَّه لو لم يكن ساق الهَدْي لما أحلَّ أيضًا.
(4/214)
---(4/209)
والجواب: أنه اعتذرَ بالسَوْق، ليتَّضحَ عذرُه لمن لم يكن أهدَى، ليعلموا أنه منَعَه عن الإِحلال الهَدْي، ولا شك أنَّ له مدخلا أيضًا، وأنه لولاه لوافَقَهم في الحِلِّ. ومن ههنا ظهر الجواب عما تمسك به الحنابلة، حيث قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلّموإن كان قَارِنًا، لكنه تمنى أنْ لو كان متمتعًا، ولا ريبَ أنَّ الفضلَ يكونُ فيما تمناه، وذلك أنه تمنى التمتعَ ليكون موافِقًا لهم في الإِحرام، فلا يَعسُرُ عليهم الحِلُّ في البيْنِ، لا لكونه أفضلَ عنده، فقم بالفرقِ بين المقامين، ولا تعجل.
قوله: (قال عمر: أن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ})تفرَّق الناسُ في بيان مرادِ عمر. وتقرير كلامِهِ على آراء. فقال قائل: إنه كان ينهى عن فسخ الحج إلى العمرة، كما هو مذهب الجمهور، فإنَّه كان مخصوصًا بتلك السنة، كما يدل عليه ما رُوي عن أبي ذر، عند مسلم: «أنه كان خاصًا بذلك العام، ولم يكن للأبد». وأجاز أحمد لمن بعدَه أيضًا. وشدد فيه الحافظ ابن تيمية وتلميذه، فاختارا الوجوب، حتى ذَكَر أن الحجَّ ينفسخُ إلى العمرة بمجرد رؤية البيت، أراد أو لم يرد.
صحيح البخاري
وهذا كما قال ابن تيمية في شرح قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، فقد أفطر الصائم»، أي حُكمًا من جهة الشرع، سواء أفطرَ أو لم يُفطر، فكذلك الحاجُّ إذا دخل مكة شرَّفَها الله تعالى، ووقع بصرُه على البيت، فقد انفسخَ حجُّه وصار عمرةً. وحينئذٍ فتقريرُ كلامه أن الله تعالى يأمرنا بالتمام، أي بعدم فسخ الحج، على خلاف مذهب أحمد. وهذا هو الذي فهمه أكثر الشارحين وذهب جماعةٌ: منهم النووي، أنه كان يَنهى عن القِرَان والتمتع، وكان يأمرُهم بالإِفراد، وحينئذٍ فمحطُّ الإِتمام النهيُ عن هذين، كأنه رآهما خلافَ الإِتمام.
(4/215)
---(4/210)
قلتُ: والذي ظَهَر لي أن الأمر ليس كما فهمه الشارحون، ولا كما زعمه النووي، بل أراد عمرُ أنْ لا يصيرَ البيتُ مهجورًا، فإِن في القِرَان والتمتُّع أداءً للنُّسُكين في سفرٍ، سواء تحلل في البين أو لا. وذلك يوجبُ أن لا يتردد الناسُ إليه بخلافهم في الإِفراد، فإنَّه يجبُ عليهم العوْدُ إليه ثانيًا للعمرة، فأحبَّ أن يزارَ البيتُ مرةً بعد أخرى. وحينئذ فتقرير كلامه، حسَبَ مُرَامه، ما ذكره عبد الله ابن عمر، عند الطحاوي، قال: «إتمام العمرة أن تُفْرِدُوها من أشهر الحج، والحج أشهرٌ معلومات، فأخلِصُوا فيهنَّ الحجَّ، واعتمروا فيما سواهُنَّ من الشهور»، فأراد عمر بذلك تمامَ العمرة، لقول الله عز وجل: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} اه. وعلى هذا، معنى الإِتمامُ أنْ لا يعتمرَ في أشهر الحج، وأن يفصِل بينهما، كما عند الطحاوي عن عمر: «أُفْصلُوا بين حجكم وعمرتكم. فإنَّه أتمُّ لحجكم، وأتمُّ لعمرته أن يعتمرَ في غير أشهر الحج». اه- .
ثم اعلم أن الإِفراد على نوعين: الأول ما هو المشهور. والثاني: ما ذكره محمد في «موطئه»: وهو الإِفراد في السفرين. ولا ريب أنَّ الثاني أفضلُ من القِرَان، صرح به محمد، ولم يَنْقل فيه خلافًا عن الشيخين، فهو المذهب عندي. أما الخلاف في المفاضلة بين الإِفراد والقِرَان والتمتع، فهو بمعناه المشهور، أما في المعنى الذي ذكرناه، فلا خلاف فيه، وهذا الذي أحبَّهُ عمر، وأراده من إفراد الحج، ولا خلافَ فيه لأحدٍ، كما علمت هذا في نهيه عن القران.
(4/216)
---(4/211)
بقي نهيُه عن التمتع، فلعله كان مفضولا عنده، لأنه يوجبُ التحلُّل في البين، مع أن المطلوبَ تمادي الإِحرام. وهذا هو الذي كرهه الصحابة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتحلَّلوا ويفسخوا حجَّهم إلى العمرة، كما يدل عليه قولهم عند مسلم: «ومَذَاكِيرُنا تقطر المنيَّ» أي كيف نتحللُ، ونجامعُ نساءَنا، ونحن على شرف الحج، فأيُّ حلَ هذا؟ فالكراهة لهذا، لا كما ذكره الشارحون، كما يدل عليه ما عند مسلم، والنسائي فقال عمر: قد علمت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقد فعله، ولكن كرهتُ أن يظلوا معرِّسين بهنَّ في الأرَاك، ثم يَرُوحوا بالحج تقطُرُ رؤوسهم.
صحيح البخاري
وبالجملة: نهيُه عن التمتع كان لكراهةِ الحِلِّ، وانقطاع الإِحرام، وحينئذٍ فتقريرُ كلامه {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ}... إلخ، أي لا تُحِلوا في البين، فعبَّر عن الحل في التمتع بعدم الإِتمام.
وصار الحاصل: أن لا تمتعوا، لأنه يوجبُ انقطاعَ الإِحرام المستلزِمِ لعدم الإِتمام. وتحصل من مجموع الكلام: أن القِرَان والتمتعَ يوجبان تركَ الإِتمام. أما القِرَانُ فلأن الإِتمامَ عبارةٌ عن إفراد الحج في أشهر الحج، والقرانُ يخالفه. وأما التمتعُ، فلكونه موجِبًا للحل في البين. فإن قلتَ: فلم أمر النبي صلى الله عليه وسلّمآلافًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالتحلل مع كونه مكروهًا؟ قلتُ: ردًا لأمر الجاهلية، وتشريعُه عَمَلا، وتوكيدُه فعلا وقولا، فإنَّه كان أواخِرَ أوانِهِ في الدنيا، فأراد أنْ يجعلَ شعائرَ الجاهليةِ كلَّها تحت قدميه، ويَرى الناسُ عِيَانًا أنَّ التمتعَ جائزٌ في أشهر الحج، وليس كما تزعُم العرب: أن العمرةَ فيها من أفجرِ الفجور. ثم استقر اجتهاد عمر رَضي الله تعالى عنه على فضل الإِفراد، كما مر تقريره.
(4/217)
---(4/212)
والذي يفيدُ ثلجَ الصدر في هذا المقام، أن عمر لم يكن ينهى عن القِرَان. وما رواه الطحاوي عن ابن عباس، قال: يقولون: إن عمر رضي الله تعالى عنه نَهى عن المُتعة، قال عمر: لو اعتمرتُ في عام مرتين، ثم حججتُ لجعلتها مع حجَّتي. اه- . أي لو وقع في نفسي أنْ أعتمرَ عُمرتين، لجعلت إحدَاها مع حجتي، فأحرمت بالقِرَان، وهذا صريح في كون القِرَان أحبُّ عنده من الإِفراد في سفر.
ثم الظاهرُ أن نهي عثمان أيضًا كان من هذا القبيل. ولا نرى به أن يكونَ نهيٌ عن أمرٍ قد فعله النبي صلى الله عليه وسلّم كيف وأن عليًا لم يتَّبِعْه في ذلك، وأبى إلا أنْ يفعلَ ما رآه النبي صلى الله عليه وسلّميفعله.
ثم اعلم أنَّ العمرةَ عندنا سنةٌ في المشهور، وفي قول: واجبةٌ. ويردُ على الأول أنَّ النصَّ لم يفرق بين الحج والعمرة، وأمر بإِتمامهما. وأجيبَ أنَّ المأمورَ به الإِتمامُ بعد الشروع، ولا خلاف فيه، فإنَّها تجبُ عندنا بعد الشروع مطلقًا، وهو حكم سائر التطوعات.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ} (البقرة: 197)
هذا الباب في الميقاتِ الزماني، كما أن الباب السابق كان في الميقات المكاني. وهي عند فقهائنا: شوال، وذو القَعدة، وعشرُ ليالٍ من ذي الحجة. فمن وقفَ ليلةَ النحرِ بعرفة، فقد أدرك الحجّ ومن فات عنه الوقوف من تلك الليلة أيضًا، فقد فات عنه الحج، ولذا قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، ولم يقل: فمن حج فيهن، فإنَّ افتراضَ الحجِّ يتلعقُ بهنَّ فقط، وإن كان بعضُ المناسكِ، كالرمي وغيره، بعد تلك العشر أيضًا.
(4/218)
---(4/213)
والمراد من العشرةِ عند الشافعية عشرةُ أيامٍ. وقد مر أنَّ المرادَ عندنا الليالي. وأما عند مالك، فذو الحِجة بتمامها، وهو ظاهر قوله تعالى: {أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ} فإنه أقلُّ الجمع، ولعله أخَذَها بتمامِهَا لكون الأضحية تصحُّ عندَه، إلى آخر الشهر. فلمّا بقيَ بعضُ أحكامِهِ إلى آخر الشهر، اعتبر كلَّ الشهر من أشهر الحج.
قيل في توجيه الجمع على مذهب الجمهور: إن معناه الحج في أشهرٍ معلوماتٍ، فلم يقتض الاستيعابَ فرقًا بين حذف «في»، وذكرها، كما ذكروه في قوله: أنت طالقٌ غدًا، وفي غدٍ. ثم إن قول ابن عمر: عشر من ذي الحِجة، بدون التاء، يوافقنا. ولو كان المراد به الأيام لأتى بالتاء، قال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَنِيَةَ أَيَّامٍ} (الحاقة: 7) ثم إن الرَّفَثَ والفسوقَ، وإن كان ممنوعًا في سائر الأيام، غير أنه في تلك الأيام أشد، كذا في «المدارك».
قوله: (وقال ابن عباس) من السنة أن لا يُحرِم بالحج إلا في أشهر الحج، وهي مسألة كراهيةِ تقديمِ الإِحرام على الميقات الزماني.
قوله: (وكره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان)... إلخ، وقِصَّتُه أنَّ عامِلَه كان نذر لئنْ فتحَ اللهاُ عليه كَرْمان ليحجنَّ إلى بيت الله محرِمًا، ففتح اللهاُ تعالى له فأوفى بنذره، وأحرم من كرمان، فَعَاب ذلك عثمان، وقال: «إنك جاهدت في سبيل الله وغزوت، ثم صَغَّرْت أمر الحج»، ومراده أنك أحرمتَ من بُعدٍ بعيد، وما خشيت الجنايات في الحج. وحينئذٍ تبين لي أن نهيَه إنما كان من أجل مخافة الجنايات، وراجع «الأسماء والكنى» للدُّوْلابي. وحرر ابن أمير حاج أنَّ التمتعَ قد يفضُلُ القِرَان بالعوارضِ، كما في هذه القِصة، فإنَّ المتمتعَ يُحِلُّ بعد العمرة، فيأمنَ عن الجِنَايات، بخلاف القارن، فإنَّه التمادي إحرامه لا يأمنُ عنها.6
صحيح البخاري
والاحترازُ من الجناياتِ أحبُّ من لتمادي في الإِحرام.
(4/219)
---(4/214)
1560 - قوله: (فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه، فقال: «من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل»)... إلخ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّمخيَّرهم في أول أمرِهم، ثم أمرَهم ثانيًا قبل شروعهم في الأفعال حين بلغَ مكةَ شرَّفها الله تعالى، فلم يعمل به أحدٌ منهم، فلما رآهم امتنعوا عنه غَضِبَ عليهم، وعزمَ عليهم حين صعد المروةَ. وإنما غضبَ عليهم لأنهم أَبَوا أنْ يأتوا بما كان أمرَهم به، وتنزَّهُوا عن رخصتِهِ. وفي مثله وردَ الغضبُ.
كما وقع في بعض من أرادوا أن يمتنِعُوا عن النكاح، ويخرجوا إلى الصُّعُدات، فقال لهم: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم»، وكما غضب على من صام في السفر، فقال: «ليس من البر الصيام في السفر»، وكما غَضبَ على أمهاتِ المؤمنين في الاعتكاف، حين رأى خيمتين في المسجد، فقال: «آلبِرَّ تُرِدْنَ؟». فقد يحل الغضب على ترك الرخصةِ أيضًا، فإنْ قلتُ: كيف يلتئم قوله في هذه الرواية: «فالآخذ بها والتارك لها»، مع ما ورد في بعض الروايات: «لم يعمل به أحد»؟ قلتَ: كانت تلك معاملة ألوفٍ من الصحابة، وفي مثلها تأتي الاعتبارات كلها.
قوله: (فلم يقدروا على العمرة) أراد بها العمرةَ المنفصلةَ عن الحج، بحيث يتخلل الحِلُّ بينهما، وإلا فلا ريبَ أنَّ القارنين كلهم قد أتوا بأفعال العمرة.
(4/220)
---(4/215)
وتوضيحه: أنَّ الرواة إنما يعتدون بالعمرة التي يعقُبُها الحل، وما لا حلَّ بعدها لا يعبرونَ عنها بالعمرة، لكونها غير معتدَّةٍ عندهم، وذلك لأن العمرة إذا صادَفها الحلُّ تميزت عن الحج حِسًا، بخلاف ما إذا لم يصادفها حِلٌّ، فإنَّها لا تتميزُ عنه كذلك، وإن كانت معتبرةً عند الفقهاء، فإنها إذا تميزت عن الحج بحلَ، لم يسع لهم إخمالها، وإذا لم تتميز جاز لهم أن يغمِضُوا عنها في العبارة، وهو الملحَظُ في قولهم: «إنهم طافوا طوافًا واحدًا»، لأن طوافَهم للعمرة إذا لم يتميز عن طوافِهم للحج بحلَ في البيْنِ، لفُّهوهما في عبارة واحد، وعبَّرُوا عنهما بطوافٍ واحدةٍ. وقد مر غير مرة أن الرواةَ يعتبرون بالحِسِّ، ولا بحثَ لهم عن الأنظار المعنوية، على عكس أنظارِ الفقهاء، فإنَّ موضوعَهم كشفُ الملاحظ.
1560 - قوله: (فمنعت العمرة)، قد علمتَ الخلافَ بيننا وبين الشافعي في إحرام عائشة، فإنَّها كانت معتمرةً عندنا، وقارنةً عندهم، وأنها كانت رفضتْ عمرتُها عندنا، ولم ترفض عندهم. ويؤيدنا اللفظ المذكور، وكذا قوله صلى الله عليه وسلّملها: «كوني في حجتك»... إلخ، وقوله صلى الله عليه وسلّم «عسى الله أن يرزقكيها»، وقوله: «هذه مكان عمرتك»، وقوله: «وهي عمرتك وانقضي رأسك، وامتشطي»، وكذلك قول عائشة: «لم أطف بين الصفا والمروة»، تشكو حُزنها وبثَّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك قولها: «يرجع الناسُ بحجةٍ وعمرةٍ، وأرجع بعمرة فقط» ففي كلها آياتٍ بيناتٌ، على أنها لم تأت بأفعال العمرةِ، ولكنها أفردتْ بالحج، ثم أتت بالعمرة قضاءً مما كانت رفضتها، وأنَّ طوافها للحج لم يُحسَبْ عن طوافها للعمرة. فإن قلنا: إنها كانت قارنةً، وأن طوافها للحجِّ حُسِبَ عن طوافِها للعمرة، كما يقول الشافعي بتداخل العمرة في الحج، لما كان لهذه الأقوال معنىً صحيح.
صحيح البخاري
(4/221)
---(4/216)
فالعجبُ أنَّها تبكي، وتشكو بثَّها، وتُظهِرُ جَزَعها لعدم عمرتِها، وتضطربُ لفواتها، ثم لا يقول لها النبي صلى الله عليه وسلّم ما هذا الاضطراب، وما هذه الشكوى، فإنَّ عمرتَك قد أديت في الحج، مع أنها ألحت عليه ثلاث مرار في سَرِفٍ، وفي مكة قبل الطواف، وفيها بعد الحجِّ عند العزمِ بالرجوع، ومع ذلك لم يُعْلمها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأنَّ القارنَ لا يحتاج إلى الاعتمار مستقلا.
ثم العجب من مثلِ عائشة رضي الله عنها، أنها اضطربت لأمرٍ لم يفعلْه النبي صلى الله عليه وسلّمأيضًا، وإنما كان هذا محلُّ افتخارٍ وابتهاج، أنها وافقت النبيَّ صلى الله عليه وسلّمفي الأفعال، فإنْ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلّمطاف لهما طوافين، ولم يسع سعيين، فعلى أي أمرٍ كانت تتحسَّر؟ أعلى أمرٍ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدل على أنَّها كانت ترى الناس فائزين بالطوافين، كما نطقت به أيضًا، حيث قالت: «يرجع الناس بحجةٍ وعمرة»... إلخ، ونفسها خائبةً عن إدراك طواف العمرة، فتحسرت لذلك.
ولأجلِ ذلك أمرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبعد الحج أن تعتمرَ من التَّنْعِيم، تلافيًا لما فاتها، وجبرًا لانكسارها، ولو كان المقصودُ منه تطييبُ خَاطِرِها فقط، لما احتاج إلى هذا التطويل، واكتفى بتعليمِ المسألة إياها فقط، أو بإِخبارها عن نفسه أنه لم يؤد أفعالها مستقلة أيضًا. ولو أخبَرَها أنه لم يَطف للعمرة أيضًا، كما أنها لم تطف لها لطابتْ نفسًا، ولآثرت موافقتها إيَّاه في الأفعال على ألف عمرة، ولم يرفع إليها رأسًا أصلا، فهذه قرائن أو دلائل على أنها كانت مفردةً قطعًا، ولم تكن قارنةً إن شاء الله تعالى.
صحيح البخاري
باب ُ التَّمَتُّعِ وَالإِقْرَانِ وَالإِفرَادِ بِالحَجِّ، وَفَسْخِ الحجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي
أحال الفصل على الناظرين.
(4/222)
---(4/217)
1561 - قوله: (لا نرى إلا الحج)، مع أنها قالت من قبل: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّمحَجَّة الوداع، فأهللنا بعمرة، كما مر في: باب كيف تهل الحائض، وكلاهما صحيحان. فإنها كانت تريدُ الحجَّ بعد العمرة، أو قولُها: «لا نرى إلا الحج»، بيانٌ لحالهم إلى ذي الحُلَيفة، فإذا بلغوا ذا الحُلَيفة افترقوا على أحوال. على أنَّ الحصر فيه بالنسبة إلى الأفعال الأخر، لا بالنسبة إلى التمتع والقِرَان، أي ما كنا نريد الدنيا وزينَتَها، إنَّما كنا نريدُ الحج، لأنَ الموسم كان له، وهذا عرفٌ جيد، وهو العرفُ في الهند، فإنَّ الناس إذا خرجوا لزيارة البيت لا يقولون إلا: إنا نريد الحج، وإن كانت من نيتهم العمرة، أو القِرَان، أو الإِفراد، فكأن الحج عندهم في مرتبة المقْسَم، والتمتع وغيره من أقسامه. أو لكونه متبُوعًا، والعمرة تابعة له.
1561 - قوله: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت)... إلخ، بيانٌ لحال سائر الصحابة رضي الله عنهم، لا لحال نفسها، فإنَّها كانت حائضةً، لم تَطُف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة. وهو كحديث أبي هريرة في قِصة ذي اليدين: «صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنما أراد به صلينا نحن معاشرَ المسلمين، ولم يرد نفسه، فإنه أسلمَ السنةَ السابعة، وقِصة ذي اليدين متقدِّمة، كما ذكرها الطحاوي. ثم إن في قوله: «فلما قدمنا»... إلخ، دليلٌ على أن هذا الطوافَ كان طوافُ العمرة، لا طوافَ الحج، وكذا في قوله: «وما طفت ليالي قدمنا مكة»... إلخ، أيضًا دليلٌ على أنها لو أتت به في تلك الليالي لكان لها عمرةٌ كما كانت لسائر الناس، ولَمَا احتاجت إلى قضائها بعد الحج، وهذا استنباطٌ مني، واستحسنه مولانا وشيخنا، شيخ الهند.
1561 - قوله: (أو ما طفت يوم النحر)... إلخ، يدل على أن طوافَ الصَّدَرِ سقط بالعذر.
(4/223)
---(4/218)
واعلم أنَّ الحنفية قالوا: إنه لا فرق بين الواجب والفرض عملا، وليس بصواب عندي، لتطرُّقِ الأعذار إلى الواجبات دون الأركان، كما رأيت في طواف الصَّدر، فإنه يسقطُ لعلة الطَمْث، ولا تكون جناية، ولو كان ركنًا لما سقط، ولوجَبَ عليها أن تنتظرَه حتى تطهُرَ، فتأتي به، فظهر الفرقُ بينهما عملا أيضًا. وهكذا قال أرباب الفتاوى: إنه لو سها في العيدين، أو صلاة الخوف تسقطُ عنه سجدة السهو. وتردد صاحب «الدر المختار» فيما إذا وجب عليه السهو وطلعت الشمس قَبْله. وعندي يسقطُ عنه، فالواجباتُ تسقطُ عند الأعذار، بخلاف الأركان (مصعد) أي ذاهبٌ إلى خارج البلد، والهبوط ضده، أي الدخول في البلد.
صحيح البخاري
1562 - قوله: (فمنا من أهلّ بعمرة)... إلخ، أراد به من حَلُّوا بعد عمرتهم، لأنه ذكرهم في مقابلة القارنين، وأنهم لم يحلوا.
1562 - قوله: (ومنا من أهل بالحج)... إلخ، صريح في أنه كان منهم مفرِدُون أيضًا. وأنكر ابن تيمية أن يكون في تلك السنة مفردٌ، فحكم عليه بالوَهَم من رأيه فقط.
1562 - قوله: (وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالحج)... إلخ، واعلم أنَّ المدارَ فيه على النية فقط، ولا يجب التلفظ بما نوى في التلبية أيضًا، فيصح للقارِنِ أن يكتفيَ في تلبيتِهِ بالحج، والنية لا تُعلم إلا بالبيان من قِبَلِه. وحينئذٍ لا إشكال في بيان الأحوال المختلفة. وقوله فيما يأتي: «ولم تحلل أنت من عمرتك»، صريح في كونه قارنًا، ودلَّ أيضًا دَلالة لطيفة على أنَّه كان أتى بأفعال العمرة، إلا أنَّه لم يكن تحلل بعدها، وإلا لكان المناسب أن يقول: ولم تحلل أنت من عمرة، بدون الإِضافة، والإِضافة تدلُّ على أنها كانت، ثم لم يكن بعدها حِلٌّ. وفي مثله وصيةٌ عن عبد القاهر في «دلائل الإِعجاز» يأخذ على شعر المتنبي:
*عجبًا له حفظ العنان بأنمُلٍ
** ما كفها الأشياء من عاداتها
(4/224)
---(4/219)
فإنَّ المقام مقام النفي رأسًا، فينبغي أنْ تُحذف الإِضافة، لدلالتها على أن كف الأشياء، وإن لم تكن لها عادة، إلا أنها قد تفعله، فلا يناسبُ التعرُّض إلى المتعلقات في مقام النفي. وهكذا في قوله: «من عمرتك»، فإنَّ العمرةَ إذا كانت منفيةً رأسًا، ناسبَ أن يقول: ولم تحلل أنت من عمرة، بقطعها عن الإِضافة.
واستشعره الإِمام الشافعي، فقال: إن معناه إن الناس حَلُّوا، فلو اعتمرتَ لتحللت أيضًا. كأنها تتمناه. ونقل الحافظُ جوابَ الإِمام، ثم لم يفهمه، لأنَّ الإِمامَ في الذُّرْوَة العُليا من الفصاحة، ودَرْكُ مرادِه عسيرٌ، وبمثله قرروا في قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: 157)، ففيه دليلٌ على أنه كان هناك مقتولا، أو مصلوبًا غيره، وذلك لانصباب النفي إلى القيد. وإلا فالأظهر أن يقال: وما قتل وما صلب، فإنَّه يكفي لبيان نفي القتل عنه، فاعلمه.
1568 - قوله: (واجعلوا التي قدمتم بها متعة)... إلخ، فأمَرَهم النبي صلى الله عليه وسلّمأن يفسخوا حجَّهم، ويُحرموا لعمرة، ثم يحرِمُوا بالحج يوم التَّروية.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَبَّى بِالحَجِّ وَسَمَّاه
وقد علمت فيما مر أن الواجبَ عندنا هو النية والتلبية، أما التسميةُ فهي جائزةٌ أيضًا. ثم القَدْرُ الواجبُ من التلبية هو قوله: لبيك بحجة، أو عمرة. أما التلبية المأثورة فهي سُنةٌ.
صحيح البخاري
باب ُ التَّمَتُّع
1571 - قوله: (فنزل القرآن) أي نزلَ القرآنُ بجوازِهِ. أو معناه لم يزلْ القرآن يتنزَّلُ بَعْدَه، ولم يتنزَّل فيه النهيُ عن التمتع.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة: 196)
صحيح البخاري
باب ُ الاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّة
(4/225)
---(4/220)
وغَلِطَ الكاتب ههنا - في النُّسخة المطبوعة بالهند - في الكتابة، فكتب: «قال» بالخط الخفي، «وحدثنا» بالجلي، مع أنَّ المناسبَ أن يكتبَ «قال» بالجلي، لأنه مبدأ السَندِ، دون «حدثنا»، فتنَبَّه.
قال الحنفية: إن {ذلِكَ} إشارةٌ إلى القِرَان، والتمتع، فلا قِرَان للمكي، ولا تمتُّع. فإنْ قَرَنَ: أو تمتع، اختُلِف فيه، فقيل: يبطلُ قِرَانه، وكذا تمتعه. وقال ابن الهُمام: بل يُكره تحريمًا. وقال الشامي: يُكره القِرَان، ويبطُلُ التمتع.
قلتُ: وهو الأوجه، كأن الإِلمام يتحققُ في التمتع، فيبطل، بخلاف القِرَان، فلا يبطل. ثم اعلم أن الشيخ ابن الهُمَام قام دهرًا على أن المكيَّ لا عمرةَ له في أشهر الحج، سواءٌ أراد الحجَّ أو لا. واتفقَ له في ذلك مناظرةً مع علماء مكة، ثم تبيَّنَ له بعد ثلاثين سنة أن الصواب مع الجمهور، أنَّ الكراهةَ للمكي فيما إذا أراد الحج من عامه ذلك، وإلا فلا بأس في العمرة في أشهر الحج، وكتبه على الهامش، ثم أدخله بعضُهم في الصُّلْب، ولعله من تلميذه العلامة قاسم. وعند الشافعي قوله: ذلك إشارة إلى الدم المذكور، واعترض عليه الحنفية أنَّ المناسبٍ حينئذٍ أنْ تكون «على» أي ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وقد أجابوا عنه أيضًا. ثم قال الحنفية: إن المرادَ من الحاضرين هم الذين في داخلِ الميْقَات. وقيل: ساكني المسجد الحرام خاصة.
(4/226)
---(4/221)
1572 - قوله: (فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة)... إلخ. واعلم أنه ادَّعى الحافظ ابن القيم أنه لم يكن في حجة الوداع إلا سعيٌ واحد، ولم يثبت عن أحدٍ منهم أنه سعى سعيين، حتى المتمتعين أيضًا.قلتُ: وفي هذه الرواية حجةٌ صريحةٌ لتعدد السعي للمتمتعين، وهو مذهبُ الجمهور. ولابن القيم رواية عند أبي داود في باب إفراد الحج وفيه: «فلما كان يوم التَّروية أَهلُّوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدِمُوا فطافوا بالبيت، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة»... إلخ. وهو عند الطحاوي أيضًا متنًا وسندًا. وهو عند مسلم أيضًا مختصرًا، وفيه: «لم يطف النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أصحابه إلا طوافًا واحدًا بين الصفا والمروة»، وحمله النووي على القارنين، وليس عليهم عند الشافعية إلا سعيٌ واحد.
قلتُ: كيف حملَه عليهم مع التصريح بكونهم متمتعين؟ فالجواب: إما بالترجيح، وهو لحديث البخاري قطعًا، وتركُ ما عند أبي داود، أو يقال: إن الراويَ أرادَ من النفي في أبي داود نفيَ السعي جماعةً. وهكذا يُستفاد من الأحاديث، فإنَّ معاملَتهم إلى جمرة العقبة كانت جماعة، ثم صارت إرسالا، فأدَّى كلٌّ منهم مناسِكَه، متى تيسر له. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم «أني نحرتُ ههنا. ومِنى كلها منحر، فلينحر كلكم أين شئتم». أو يُقال: إنهم طافوا متنفلين بعد إحرام الحج، وسَعوا بعده، وإذن لا يجبُ عليهم السعي ثانيًا بعد طواف الإِفاضة، ويُحتمل أنْ يكونَ الطوافُ المذكور فيه طوافَ الصدر بعد طواف الزيارة، ولا سعي في طوافِ الصدر.
صحيح البخاري
1572 - قوله: (وأباحه للناس غير أهل مكة)... إلخ، فهذا ابن عباس يؤيدُ الحنفيةَ أنْ لا قِرَان للمكي ولا تمتع، وأن ذلك إشارةٌ إلى التمتع والقران كما قلنا، لا إلى الدم، كما اختاره الشافعي.
صحيح البخاري
باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيلا
(4/227)
---
صحيح البخاري
باب مِنْ أَينَ يَدْخُلُ مَكَّة(4/222)
صحيح البخاري
باب مِنْ أَين يَخْرُجُ مِنْ مَكَّة
واعلم أنَّ باب مكة في الشرق، فكأنه فرضَ وجهها إلى جانب الشرق، وظهرها إلى الغرب. والأدب في السلاطين أنْ يُدخل عليهم من جانب الوجه. فاستحبُّوا للزائر أيضًا أنْ يَدخلَ مكة وهو يُواجهها، وهذا فيمن دخلها من كداء - ممدودة - لكونها في جانب الشرق، ويخرج من كُدي لكونها ظهرَ البيت، وهو في الغرب. ثم الكَداء - ممدودة - أعلى مكة، وكُدي - مقصورة - أسفلَها. والراوي قد يعكِسُ بينهما، ويقول: وخرج من كُدي من أعلى مكة، مع كونها أسفلها، إلا أن يقال: إن قوله: من أعلى مكة، يتعلق بقوله: من كَداء.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْل مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الحَرَم
(4/228)
---(4/223)
قوله: {وإذا جعلنا}... إلخ، قال السيوطي: إن الظرف مفعول فيه، والأصلُ: واذكر الحادث {إِذْ}... إلخ. وعندي تصلح {إِذْ} أنْ تقعَ مفعولا به أيضًا، أعني واذكر {إِذْ}... إلخ. وراجع لتفصيله «عقيدة الإِسلام في حياة عيسى عليه السلام»، فقد بسطته فيها حين تكلمت على قوله: {وإذ قال ااُ يا عيسى إني مُتَوَفِّيْكَ}... إلخ(آل عمران: 55) {وَأَمْناً}. وفي «الجامع الصغير» للسيوطي: «إن مكة تبقى أمنًا وعزيزًا إلى أن يذلها أهلها» بالمعنى {وَاتَّخِذُواْ}... إلخ بيان لركعتي الطواف {وَالْعَكِفِينَ} أي معتكفين، ولذا قلنا: إن الاعتكافَ مختصٌّ بالمسجد. قوله: {وَمَن كَفَرَ} عطفُ تلقينٍ {وَإِسْمَعِيلَ}، وإنما فَصَلَه من إبراهيم، ولم يقل: وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل، لكونه مُعِيْنًا له، وإنما كان يرفَعُ بنيانها إبراهين فقط؛ {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} أي قائلين. قال الأَشْمُوْني: لما أراد الله سبحانه حكاية الحال، نقله بعين اللفظ، ولم يقل: قائلين {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، صريحٌ في إطلاق الإِسلام على من قبلنا أيضًا، وادّعى السيوطي اختصاصَه بهذه الأمة، {وَمِن ذُرّيَّتِنَآ} إنما جاء بحرف التبعيض، لعلمِهِ أنَّ كلَّهم لا يكون مسلمًا.
1582 - قوله: (فخر إلى الأرض)، وقد مر البحث فيه. واعلم أنَّ عبد الله بن الزبير لما استخلِفَ أراد أنْ يعيدَ بناءَ البيت إلى ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأرادَه، فنقَضَ البُنيانَ، وأرخى الثيابَ حول البيت ليعرِفَ الناسُ قبلتهم في الصلوات، فدل على أنَّ القِبلة هي الهواء، كما قال به الحنفية.
صحيح البخاري
باب ُ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيعِهَا وَشِرَائِهَا وَأَنَّ النَّاسَ فيمَسْجِدِ الحَرَامِ سَوَاءٌ خاصَّة
(4/229)
---(4/224)
اختلف الحنفية والشافعية في أنَّ أراضي مكة موقوفةٌ أو مملوكة؟ فعندهم هي مملوكةٌ. وقال الحنفية: هي موقوفة من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وأصلُ النزاعِ في أنَّ مكة فُتِحت عَنْوةً أو صلحًا، فإن كان عَنْوة، تعين كونُ أراضيها موقوفةً لكونها لم تُقسمْ بين الغانمين، وإن كان صُلحًا كانت مملوكةً لأهليها على الأصل، فيجوز فيها سائر التصرفات.
فقال الحنفية: إنها فُتحت عَنْوة، واختار الشافعي أنها فُتحت صُلحًا. وكنت أقضي العجبَ من مثلِ الشافعي كيف قال بالفتح صُلحًا، مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمغزا عليها، مع ألوف من الصحابة رضي الله عنهم، وقاتل أيضًا، وإن كان يسيرًا، فهل يُسمَّى مثلُه صُلحًا؟ ثم تبين لي أن الحال لما انتهى إلى الصُّلح - وإن كان بعد القِتَال - اعتبَرَه صُلحًا.
والحاصل: أن الإِمام الهُمَام نظر إلى أول الحال، والإِمام الشافعي نظر إلى آخره، فلينظُر العلماء أنَّ العبرةَ في مثله بالحال الأول، أو الآخر. ثم إن العلماء صرَّحوا أن السلاطين قد وَقَفُوها مِرارًا. وإذًا لا يجوز بيعُها عند الشافعية أيضًا، فهي عندنا موقوفةٌ بوقفِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعندهم بوقف السَّلاطين.
هذا في الأراضي، بقيت الدُّور، فالمذهب عندنا أنَّ البناءَ على الأرض الموقوفة مِلكٌ للمالك، نعم، يجري الخلافُ في الدور التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم وفي «الدر المختار» من باب الحظر والإِباحة: أنه يجوزُ بيعُ دورِها وأراضيها. قلتُ: أما بيع الدور فكما قال، وأما بيع الأراضي فلا يجوز عندنا، على ما علمت من المذهب. وراجع له «الجامع الصغير» لمحمد، فإنها موقوفةٌ عندنا.
(4/230)
---(4/225)
وما رُوي عن أبي حنيفة أنه كان يَكْره إجارةَ البيوت في الموسم، فهي مسألةٌ أخرى، لا تدخل في هذا الباب، ولا تدل على وقْفِ الدور عنده، فإنها لرعاية الحاج، لأنه إذا كان عندك فضلُ بيتٍ، فالذي تقتضيه الفِطرة أنْ لا تؤجِرَها للحجاج، بل يُباح لهم فيها السكنى، وتُضِيْفُ زوَّار بيت الله. وفي «الدر المختار» أنه كان يكره الإِجارة لقوله تعالى {سَوَآء الْعَكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وفيه في باب الشفعة: فصح بيعُ دورِ مكة، قلتُ: فالإِجارة بالأولى، وراجع كلام الطحاوي من باب بيعِ دُور مكة، وإجارتها. فقال: لا يجوزُ بيعُها، وإجارتها.
صحيح البخاري
قلتُ: لم يقل الإِمام بالبطلان بل بالكراهة. أما حال أراضيها فقد ذكره الطحاوي في باب فتح مكة، فقال: فأما أراضي مكة... إلخ، وذلك لأنه علم أنَّ مسألةَ الأراضي غير مسألة الدور، والإِجارة، فذكرها في باب آخر. والحاصل: أنَّ بيعَ دُورها وتوريثها جائزٌ عندنا أيضًا.
1588 - قوله: (إن الذين كفروا)... إلخ، قلنا: هذا في المسجد الحرام، فلا يتم حجةً علينا. ولعل أبا يوسف يقول بجواز بيع الأراضي أيضًا. أما المصنِّف فذكر الدّور، ولم يتعرض إلى الأراضي، فلعله اختار التفصيل الذي ذكرناه.
قوله: (وهل ترك عقيل)... إلخ، واعلم أنه كان لأبي طالب أربعةُ بنين، فأسلم منهم علي وجعفر من قبلُ، وعقيل بعدهما، أما طالب فمات على الكفر.
فلما هاجَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمهاجر معه عليٌّ، وجعفر، وبقي عقيلٌ بمكة، فباع جميع دُور بني هاشم. واستدل منه المصنف على جواز بيع دور مكة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّملم ينقض بيعه.
قلتُ: وفيه نظرٌ، لأن بيعَ تلك وإن جاز في نفسه، إلا أنه لا يجوز غصبًا عند أحد. وهذا عقيل قد بَاعه كذلك، فإنه باع في حياتهم، فلا يكون توريثًا بل غصبًا، وعدمُ تعرض النبي صلى الله عليه وسلّميمكنُ أن يكون مروءةً.
(4/231)
---(4/226)
ثم إن الشافعية كتبوا: أن المهاجرين إذا كانوا يهاجرون من مكة لم يأخذوا من أموالهم شيئًا، وذلك لأنهم إذا تركوا الدار، تركوا ما اكتسبوا فيها من الأموال، فكأنهم رأوا أنَّ من تمامِ هجرتهم أن لا ينتفِعُوا من أموالهم أيضًا، قال تعالى: {إن الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل ا}... إلخ.
قلتُ: ويعلم من قِصة حاطب بن أبي بَلْتَعة أنَّ الصحابَة رضي الله تعالى عنهم كانوا يحبون حماية أموالهم بمكة، ولذا أراد حاطِبُ أن تكون له يدٌ عليهم، إذ فاتته قرابته منهم، فكان من أمره كما في الحديث. فهذا دليلٌ على بقاءِ قبضتهم على تلك الأموال، وحينئذٍ بيعُ عقيل ليس بصحيح، فالاستدلال في حَيِّز الخفاء.
صحيح البخاري
باب ُ نُزُولِ النبي صلى الله عليه وسلّممَكَّة
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
1589 - قوله: (بخيف بني كنانة)، أخذ المسألة من الإِضافة.
1590 - قوله: (وبني عبد المطلب)... إلخ، والصحيح بني المُطَّلب، والعبد سهوٌ.
1590 - قوله: (يحيى بن الضحاك)... إلخ، قال ابن مَعِين: إن ابن الضحاك لم يسمع من الأوْزَاعي شيئًا، وإنما يروي من كِتَابه.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
وتفسير القيام عند البخاري أنَّ البيتَ سببٌ لبقاء العالم، وقيامُه بمنزلةِ خيمةِ السلطان، تكون أولها نصبًا ونقضًا، فكذلك البيتُ ظهر أوَّلا، ثمّ يُنقض كذلك، وبنقضة تندكُّ الأرض، وتنفطِرُ السموات، فإنَّ رفعَ الخيمة يكونُ أَمارة للرحيل. ومن ههنا ظهرت مناسبة حديث السُّوَيْقَتَيْن من الترجمة. وذكر السيوطي: أنَّ بين تخريب البيت والساعة مئة وعشرين سنة.
صحيح البخاري
باب ُ كِسْوَةِ الكَعْبَة
ويُعلم من الروايات أنَّ مَلِكًا كساها بثوبٍ كان نسيجُه من ذهب، وقد رآه بعض من التابعين أيضًا، ثم لا يُدرى أين ذهب.
(4/232)
---
صحيح البخاري
باب ُ هَدْمِ الكَعْبَة(4/227)
واعلم أن وقعةَ الخسفِ متقدِّمةٌ، ثم واقعة ذي السُّوَيْقَتَيْن بعدها، فلا قلق.
صحيح البخاري
باب ُ ما ذُكِرَ في الحَجَرِ الأَسْوَد
وفي الروايات أنه يمينُ الله في الأرض، ووضعُ اليدين عليه يقوم مقامَ المُصَافحة، فلا بأس أن يكون أصلا للمصافحة باليدين، ثم إن تقبيله ثابت شرعًا، فيكن أصلا لتقبيل تبركات الصالحين. وقَبَّلَ عمر بن عبد العزيز المصحف، وأباح أحمد تقبيلَ الرّوضة المُطَهرة، وتحير منه الحافظ ابن تيمية، فإنه لا يجوزُ عنده. ثم إن الرفعَ عند الحجر الأسودِ على هيئته في الصلاة باستقبالهما القبلة، إما على الصفا والمروة، فإن شاء رفعهما، كما في الدعاء، أو كما في الصلاة، وإما في الجمرتين الأولى والوسطى، فيرفعهما كما في الدعاء، وهو عن أبي يوسف، عند الطحاوي.
صحيح البخاري
باب ُ إِغْلاقِ البَيتِ، وَيُصَلِّي في أَيِّ نَوَاحِي البَيتِ شَاء
وهو جائزٌ عندنا أيضًا، فإنَّه ليس مسْجدًا. وقد علمنا أنَّ القِبلة عندنا هو الهواء، خلافًا للشافعي، فتجوز الصلاةُ عندنا أمامَ الباب، وهو مفتوحٌ.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّلاةِ في الكَعْبَة
وقد مرّ الكلام فيه مبسوطًا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الكَعْبَة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ كَبَّرَ في نَوَاحِي الكَعْبَة
صحيح البخاري
باب ُ كَيفَ كانَ بَدْءُ الرَّمَل
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِلامِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ ما يَطُوفُ، وَيَرْمُلُ ثَلاثًا
(4/233)
---
واعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يدخل مكة في صلح الحُدَيْبِية، ثم لم يدخل البيتَ في عُمرة القضاء، وعمرة الجِعْرَانة لمكان الأصنام فيها. ودخل فيها في فتح مكة وطهرها من الأصنام، ولم يدخل فيها في حجة الوداع. ويُستحبُّ الدخولُ فيها إن تيسر بدون الرِّشوة، وإلا لا.
صحيح البخاري
باب ُ الرَّمَلِ في الحَجِّ وَالعُمْرَة(4/228)
وعن ابن عباس أنه كان مصلحةٌ، وليس بسنة. وعند الجمهور سنةٌ في الجوانب الأربعة، كما ثبت في حجة الوداع، فكان تشريعًا لا مصلحةً فقط، وإن كان في عُمرة القضاء مصلحة، فاعلمه. وقال الحنفية: كل طواف بعده سَعيٌ، ففيه رَمَلٌ. وإلا لا، فإنْ سعى القَارِنُ سعيَ الحج بعد طواف القدوم، لا يَرْمُل في الزيارة، وإن سعاه بعد الزيارة يرمل فيها. وأما المتمتِّعُ، فلمَّا لم يكن له طواف القدوم يَسعى بعد الزيارة لحجه، ويَرْمُل فيه، وإنْ أرادَ أنْ يقدِّم السعي، فله أنْ يطوفَ نفلا، ثم يطوفُ بين الصفا والمروة، ثم يطوف للزيارة، وحينئذٍ لا يسعى بعدها لأدَائه بعد طوافِ النفل.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِلامِ الرُّكْنِ بِالمِحْجَن
والطوافُ المذكور فيه هو طوافُه للزيارة، لا للقُدُوم، لأنَّه لم يَرْمُل فيه.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلا الرُّكْنَينِ اليَمانِيَين
صحيح البخاري
باب ُ تَقْبِيلِ الحَجَر
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَلَيه
صحيح البخاري
باب ُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْن
هكذا مذهبُ محمد رحمه الله تعالى.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ طَافَ بِالبَيتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيتِهِ،ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَينِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا
(4/234)
---
1614 - قوله: (ذكرت لعروة)... إلخ، وفي لفظ الحديث اختصارٌ مخِلٌ، توجه إليه الشارحون. وحاصله: التعريضُ بمذهب ابن عباس، وكان مذهبُه أنَّ الحاج إذا وقعَ بصرُه على البيت انفسخ إحرامُه للحج من غير اختيارٍ منه، فإنْ بَدَا له أن يحجَّ فقط، فعليه أن لا يشاهدَ البيت، ويذهبُ كما هو إلى عرفاتٍ، فيقِفُ بها.(4/229)
1614 - قوله: (فأخبرتني عائشة)، قلتُ: وهذا لا يردُ عليه، لأنَّ كلامَه في المفرد، وهذا للقَارِن. فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان قارنًا، ولكن السَّلفَ لم يكونوا يتعمقون هذا التعمق. وكان من دأْبهم أنهم إذا وجدوا فعلا في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلّمأتوا به، وإن غاير يسيرًا.
1614 - قوله: (ثم لم تكن عمرة) أي مُتميِّزة عن الحج. وقد مرّ مني التنبيهُ على أنَّ الرواة يعتبرونها عند تميُّزِها من الحج، والحِل بعدها.
1614 - قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا)... إلخ، ولا دَخْل لهذه القطعة في رد ابن عباس، إنما ذكرها استطرادًا. ثم ههنا إشكالٌ، بأن الحِلَّ لا يكون بعد المسح، بل بعد السعي. وأجاب عنه الجمهور أنَّ المعطوفَ محذوفٌ، أي مسحوا الركن وسعوا. قلتُ: مسحُ الركنِ كنايةٌ عن الفَرَاغ، كما يدل عليه قوله:
*ولما قضينا من منى كل حاجة
** ومسح بالأركان من هو ماسح
*وشدت على دهم المهارى رحالنا
** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
*أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
** وسالت بأعناق المطي الأباطح
صحيح البخاري
باب ُ طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرجال
يعني لم يكن بين طوافِ الرجال والنساء امتيازٌ باعتبار الوقت، بل كان باعتبار المكان، فكان الرجال يطوفونَ بالبيت قريبًا منه، وكانت النساء يطفن مِنْ حولهم. وإذن دائرتُهنَّ تكون أوسع.
(4/235)
---
1618 - قوله: (رأيت عليها درعًا موردًا) أي وقعَ بصري عليها اتفاقًا، فرأيتها كذلك. وفي كتب الطحاوي أنَّ حجابَ أمهاتِ المؤمنين بعد نزول الآية كان بالشخص، بخلاف العامة، فإنَّ النظرَ إلى الوجه والكفين يجوزُ فيهن بشرطِ الأمن.
صحيح البخاري
باب ُ الكَلامِ في الطَّوَاف
صحيح البخاري
باب إِذَا رَأَى سَيرًا أَوْ شَيئًا يُكرَهُ في الطَّوَافِ قَطَعَه(4/230)
أشار إلى حديث الترمذي: أن الطواف بالبيت، وإنْ كان صلاةً، إلا أنَّ الكلامَ في خلاله جائز، وكذا الأفعالِ الأخر، كما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقطعَ خيطًا رَبَطَه إنسانٌ، وهو يطوف.
صحيح البخاري
باب لا يَطُوفُ بِالبَيتِ عُرْيَانٌ، وَلا يَحُجُّ مُشْرِك
وسترُ العورة، وإنْ كان فرضًا في الخارج، إلا أنَّه في الحج من الوَاجبات، فهو من واجب الشيءِ مع كونه الشيءَ الواجب.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَقَفَ في الطَّوَاف
وهو مذهب أبي حنيفة، فلو أقيمت الصلاة خلالَ الطواف يتركه، ثم يَبْني، ويُتمُّ ما بقي، لأنَّ الصلاة ليست بأجنبية. وكذا يجوزُ مرور الطائف أمام المصلي.
صحيح البخاري
باب صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَين
وقال نافع: كان ابن عمر يُصلي لكل سُبُوع ركعتين - يعني لم يكن يجمعُ بين الأطْوِفَة، ثم بركعتيها - ولكن كان يطوف، ثم يُصلي له، وكذلك يطوفُ آخر. ويصلي له، فلم يكنْ يجمعُ بين ركعتيها مرةً واحدة.
1623 - قوله: (سألنا ابن عمر)... إلخ. يُشير إلى مذهب ابن عباس، وصرح به جابر.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَقْرُبِ الكَعْبَةَ، وَلَمْ يَطُف حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَوَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأَوَّل
(4/236)
---
وفيه تصريح أنَّه صلى الله عليه وسلّمطاف طوافين: الأول عند القدوم، وهو عندنا للعمرة. والثاني بعد عرفة. ولم يثبت في تلك الأيام طوافُه للنفلِ إلا بالليل، كما عند البيهقي، وذلك لئلا تتشوَّشَ على الناس مناسِكُهم، فيختبطُوا فيها.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَي الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ المَسْجِد
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَلفَ المَقَام
قال الحنفية: إن الأفضلَ أنْ يُصليها عند المقام إن تيسر، وإلا ففي المسجد الحرام حيث شاء، وإلا ففي الحرم، فإنْ صلاها خارج المسجد أجزأه أيضًا.(4/231)
قوله: (وصلى عمر خارجًا من الحرم) أي بذي طُوى. وإنَّما فعلَ ذلك لأنَّه طافَ بعد الصبح وكان لا يرى النفلَ بعده مُطلقًا حتى تطلعَ الشمس، كما قلنا. وقد بوّب عليه الطحاوي أيضًا.
1626 - قوله: (فطوفي على بعيرك)... إلخ، أي من وراء الناس.
1626 - قوله: (فلم تصل حتى خرجت)... إلخ، لا أدري ماذا أراد به، خروجَها من الحرم، أو مكة، أو المسجد الحرام، ولو تعيَّنَ لنفعنا في مسألة الأوقات المكروهة، لكونها بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري
باب ُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْر
ونَقَل فيه آثارًا متعارضةً، ولعل المرجَّح عنده ما ذهب إليه عمر على ما أظن. ثم إنه لم يزد لفظ «نحوه» ههنا، وزاد بعد العصر في باب المواقيت، لأنه لما ثَبَتَ عنده الركعتان بعد العصر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن اختلف الناس في تخريجها، أراد أن يُدرجَها في هذا اللفظ، بخلاف الصبح، فإنَّه لم يَعْبأ بما في السنن، وذهب إلى المنع مطلقًا، ولعل عائشة كانت تجوزها مع كراهتها إيَّاها.
(4/237)
---
ولا بُعْد أنْ يكون البخاري وافقنا في المسألة. أما عُمر فأثَرُه موافقٌ لنا قطعًا، بخلاف أثر ابن عمر. أما حديث عائشة، فلا حجةَ لنا فيه، فإنه راجعٌ إلى التشفيعِ على الصلاة في نفسِ الطلوع والغروب، وهذا مما لا نِزَاع فيه لأحد.
صحيح البخاري
باب ُ المَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا(4/232)
واعلم أن المشي في الطواف واجبٌ عندنا، ولا جَزَاء إن تركه من عذر، غير أني أتردَّدُ في المسألة، كما قال صاحب «الهداية» - عند شرح قول القُدُوري: ويلزمُه السهو إذا زاد في صلاته فعلا من جِنْسها، ليس منها : إن هذا يدل على أنَّ سجدةَ السهو واحبةٌ، وهو الصحيح، لأنَّها تجبُ لجبر نقصانٍ ممكنٍ في العبادة، فتكون واجبةً كالدِّماء في الحج، وإذا كان واجبًا لا يجبُ إلا ترك الواجب... إلخ. ففيه إيماءٌ إلى أنَّ النقصانَ يعتري في الحج بترك الواجب، ثم يجبَرُ بالدم، ولا تفصيل فيه بين عذر وعدمه، فعُلم أنه يجبُ الدم بترك واجبٍ من الحج مطلقًا.
هكذا يُستفاد من بعض الكتب، وعدَّد في «البدائع» ستةَ واجبات، ثم قال: لا يلزم بتركها جِنَاية، فتردَّدت أنَّ حكمَ سائرِ الواجبات ذلك، أو هو مقصورٌ على تلك الستة، ولا ورودَ على الركوب في الطواف، فإنَّه من الستة التي صرح «البدائع» أنْ لا جِنَاية بتركها. إما المصنف فحمله على المَرَضِ.
(4/238)
---
أما ترجمة المصنف، والحديث الذي أخرج لها ففيه كلامٌ، وهو أن حديثه في حَجَّة الوداع كما جاء مصرحًا عند أبي داود عن ابن عباس: «أنه طاف في حجة الوداعِ على بعيرٍ يَستلمُ الركنَ بمِحْجَن»، وركوبه في تلك الحجة، لم يكن من أجل المرض، بل كان لأن يَرَاه الناس، وليسألوه عما هم سائلون، كما هو عند مسلم وحينئذٍ لا يُطابق الحديثُ الترجمة، فإنَّها في الركوب من أجل المرض، والحديث في الركوب لرؤية الناس، فاضطر الحافظ ههنا إلى الاستعانة من حديث أبي داود عن ابن عباس، بلفظ: «قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلّممكة، وهو يشتكي، فطافَ على راحلته»... إلخ.(4/233)
قلتُ: وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وفيه لِيْنٌ، ولذا لم يخرج عنه البخاري. وهذا هو الراوي لحديث البراء في ترك رفع اليدين، وحديث القميص في كفنه صلى الله عليه وسلّمعند أبي داود، فلمَّا رأيتُ أنَّ ترجمة البخاري تتوقف على حديثه في الطواف راكبًا، قلتُ: إنه لا يليقٌ بشأن المصنف، وحينئذٍ وَسِع لي أن أتمسك بحديثه في الترك أيضًا.بالجملة: لمّا اضطر الحافظ إلى إثبات ترجمتِهِ تمسَّك من حديثه، وهذا هو الذي - لما رَوى الترك - تكلم عليه الحافظ، وجهر بضَعْفِه، حتى سمعه من قُربٍ ومن بُعدٍ، فهذا خبرهُم عند الوِفاق، وذلم مخْبِرهُم عند الخلاف.
صحيح البخاري
باب سِقَايَةِ الحَاج
(4/239)
---
واعلم أنَّ خدمات الحج كانت موزعةً عليهم في الجاهلية، فكان مِفتاحُ البيت في بني شَيْبَة، وهو إلى اليوم كذلك، وكانت السِّقايَة في بني عبد المطلب، فلما ظهرَ الإِسلامَ وانطمست رسوم الجاهلية، تكفَّل بها العباس، وإن كانت حقًا لبني عبد المطلب في الجاهلية، فقام بها مدةَ عُمُرِه، ولذا كان يتعجَّلُ في أيام منى، فكان كذلك إلى زمن عليَ، فلما استُخلِفَ عليٌّ ادّعى السِّقَاية، وكان أحقَّ بها لكونه مُطَّلِبِيَّا، غير أن ابن عباس لما شهد بأنها كانت انتقلت إلى أبيه العباس، تركها في أيديهم، ولم ينازعهم.
ثم إن بني أميةَ بَنوا في زمنهم حوضًا آخر، وكانوا يجعلونَ فيه لبنًا وعسلا، طمعًا في أن يردَ الناسُ حوضهم، وتكون السِّقَاية لهم، غير أن الناس لزموا حوض ابن عباس، وآثرُوه على اللبن والعسل.
صحيح البخاري
باب ما جاءَ في زَمْزَم(4/234)
واعلم أنه قد علم العلماء وعلمت الأمة: أنَّ ماءَ زمزم لما شُرِبَ له، فحفِظَه كلٌّ في زمن حجِّة، ودعا بما بلغت إليه أمنيَّتُه، فذكر الحافظ أنه دعا أنْ يُرزَق حفظَ الذهبي، فلما تَشرَّفَ من زيارة البيت ثانيًا، رأى أنَّ حفظَه قد فاق عليه. وكذلك دعا السيوطي أنْ يرزقَ الحَذَاقَةَ في ستة فنون. قلتُ: وتلك الفنون تكون من فنون الدين، وإلا فالفنون العقلية، فإنَّه كان قائلا بعدم جوازها. وهكذا الشيخ ابن الهُمَام، لمَّا بلَغَه دعا بأن يُرزقَ الاستقامة على الدين، والوفاة على السنة البيضاء، ويا له من دعاءٍ سبقَ الأدعية كلها. أقول: ولعل مراد الحافظ من زيادة الحفظِ على الذهبي في حق المتون، والعلل، أما في حقِّ الرجال، فلا أراه فَاق عليه.
(4/240)
---
ثم إن الشيخ ابن الهُمَام كما اقتفى الحافظَ في دعائه، كذلك اقتفاه في التصنيف أيضًا، حيث صنَّفَ في سفر الحج رسالةً في أحكام الصلاة سَمَّاها «زاد الفقير، وهي رسالة جيدة في أحكام الصلاة. ولعله قد كان بلغه أنَّ الحافظ أيضًا صنف رسالة في سفره، سماها «نُخْبَة الفِكَر». ولعل الشيخ استجَازَ من الحافظ كتابته، ولا أراه أنْ يكونَ لقيه، وذلك لأنه نقلَ روايَتَه في «الفتح» عن الحافظ، وذكره: عن لفظ شيخنا، فهذا يدل على تلمذةٍ، ولا أقلَّ من أنْ تكونَ كتابته، والله أعلم.
1636 - قوله: (جبرائيل) «إيل» بالعبريّة: الله، و«الجبرة»: القوّة، و«الميكاء»: الماء، و«الإسراف»: الصّوْر. ذكر الشيخ الأكبر أن لله تعالى أسماءً إيلية، وإلهيّة: والإبلية تُستعمل في الملائكة كجبرائيل، وغيره، والإلهية تُستعمل في سائر خلقه.
1636 - قوله: (ممتلىء حكمة وإيمانًا)... إلخ، وتلك كانت حقيقةُ الإِيمان على ما مر تحقيقها. ولا ريب أنَّ تلك الحقيقة لا تذهبُ ذرةً منها، إلى جهنم. والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
باب طَوَافِ القَارِن
صحيح البخاري
باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوء
(4/241)
---(4/235)
واعلم أنَّ القارن عندنا يطوفُ طوافين ويسعى سعيين، فإنَّه قد أحرم بإِحرامين، فيطوف لحجه، ويسعى له، وكذلك يطوف لعمرَتِهِ ويسعى لها. غير أنَّ المعتمرَ يتحلَّلُ بعد الفراغ عن أفعال العمرة، وهذا يبقى حرامًا إلى يوم النحر لمكان إحرام الحج، وإن كان فرغ من أفعال العمرة. ولا فرق بعدها بينه وبين المفرد عندنا أيضًا، فيطوف للزيارة طوافًا واحدًا، وللصَّدَر طوافًا واحدًا، ويحلق حلقًا واحدًا، ثم يخرجُ من إحراميه معًا. وإنَّما الكلامُ في تعدُّد الطوافِ والسعي عند دخوله مكة، فحسب، فقلنا: إن عليه طوافين وسعيين. وقال الإِمام الشافعي: إنه يطوف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا للقُدُوم، ثم يطوف يوم النحر عن حجه وعمرتِهِ طوافًا واحدًا.
وبعبارة أخرى إنه لا فرقَ بين القَارِن والمفرِدِ عنده إلا بحَسَب الإِحرام، فإن القارن يُحرم بهما، والمفرد يُحرم بالحج فقط. أما بحسب المناسك فقال: إن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، يعني به أنَّ أفعالها دخلتْ في أفعال الحج، فطوافُه عن واحدٍ ينوبُ عن آخر. وقلنا: إن دخولَها إنَّما هو في زمان الحج، لا في أفعاله، فيأتي بها منفردًا، وبالحج منفردًا، ولا تتداخل العبادتان من غير الجِنس.
وبعبارة أخرى إن العمرةَ أربعة أفعال: الإِحرام، والإِحلال، والطواف، والسعي. وقد قلنا بتداخل اثنين منها، فإِحرام القارن وإحلاله واحدٌ عندنا أيضًا، ولا تداخُلَ في الطواف والسعي، لأنهُما مقصودان، وقال الشافعية بالتداخل فيهما أيضًا، فلم تبق العمرةُ عندهم إلا كالعنقاء.
إذا علمتَ هذا، فاعلم أنَّ الشافعي تمسك من قوله: «أما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا» فإنه يدل على أنَّ القاَرنين طافوا طوافًا واحدًا، وحُسِبَ ذلك عن نُسُكَيْهم الحج والعمرة.
(4/242)
---(4/236)
قلتُ: وظاهِرُه يخالفُ الأئمة كلهم، بل يخالف الشافعية أيضًا، فإنَّه لا نِزَاع في أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمطاف ثلاثة أطوفة في الحج: طوافًا حين قدِمَ، وطوافًا آخر يوم النحر، ثم طوافًا للصَّدَر، فعلى الشافعية أيضًا أنْ يطلُبُوا له سبيلا. فقالوا: معناه طوافٌ واحد للحج والعمرة. وقلنا: بل للحِلِّ منهما، وسيأتي تقريره، فإذا ثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمومن كانوا على إحرامه، لم يكتَفُوا بالطواف الواحد، بل طافوا ثلاثة أطوفة، لم يبق النصُّ حجةً لهم، ونزل الأمر إلى تخاريج المشايخ.
صحيح البخاري
فخرَّجَ الشافعية طوافه الأول كان للقُدُوم. وقلنا: إنه كان للعمرة، وإنما لم يطف النبي صلى الله عليه وسلّمللقدوم، لئلا يزيد عدد أطوفَتِهِ صلى الله عليه وسلّمعلى أطوفة سائر الناس الحاجين معه عامئذٍ، فإنَّه كان فيهم مفردُون ومتمتعون، وليس لهم إلا ثلاثة أطوفة، فلو زاد النبي صلى الله عليه وسلّمرابعًا لاختل عليهم مناسكهم، فاستحبَّ أنْ تبقى شاكلَتَه، كشاكلة سائر الناس، ولذا لم يطف للنفل إلا في الليل على ما مر من البيهقي، وإن نفاه البخاري، لأنه ليس في النفل استتباع، وإنما هو حاله الانفرادي.
ولما كان طواف القدوم سنة لم تجب بتركه جِنَاية عندنا، وأقرَّ به الطحاوي أيضًا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملم يطف للقدوم عامئذ. وإن حملناه على التداخل بين طواف القدوم والعمرة، فله أيضًا وجه، وإذن لا نحتاج إلى أن ندعي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يطف للقدوم، بل لنا أن نقول بالتداخل. ولكني لم أجد أحدًا من الفقهاء كتب التداخل، نعم، صرَّحُوا أن تركَ القدوم لا يوجب الدم لكونه سنة، ولا دم بتركها، أما الثاني فهو للزيارة، وعندهم للحج والعمرة، فلا فرقَ إلا في التخريج.
(4/243)
---(4/237)
فنقول في الجواب: إن الطواف بهذه الصفة بأن يقعَ الواحدُ عن الحج والعمرة معًا ليس إلا واحدًا، لا أريد به النيابة، أو البدلية، بل المرادُ أنَّ المحلَّ كانَ محل طوافين، ثم طاف فيه طوافًا واحدًا، على حد قوله:
*وخيل قد دلفت لهم بخيل
** تحية بينهم ضرب وجيع
لا يريد به بدليةَ الضربِ الوجيع، ولا نيابته مكانَ التحية، بل كونه حلَّ محل التحية. وهكذا أقولُ في عدد الأطوفة: إنه كان محل طوافين للحج والعمرة، ولكنه طاف في المحل الذي اقتضى طوافين، طوافًا واحدًا فقط، دون التعرض إلى البدلية والنيابة. وههنا لفظ آخر لابن عمر، وهو قوله: «طاف لهما طوافًا واحدًا»، وهو أصرحُ لهم، وأدلُّ على مرادهم، بخلاف حديث عائشة، فإنَّه لم يكن في حديثهما لفظ: «لهما»، وهو يُشير إلى تخريجهم أنَّ الطوافَ الواحد كان للحج والعمرة، وإن كان لغيرهما طواف آخر أيضًا.
وجوابه أنه لم لا يجوز أن يكون المرادُ من طواف الحج طوافُه للقدوم، دون الزيارة، كما فهمه الشافعية، وحينئذٍ معناه أنه طاف للقدوم والعمرة طوافًا واحدًا، وذلك صحيحٌ عندنا أيضًا. وفي بعض الروايات عن ابن عمر ما يدل على ذلك، أن التداخل إنما كان بين طوافه للعمرة والقدوم، دون الزيارة، كما في قوله في الحديث الآخر من ذلك الباب، ورأى أنْ قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، فإنه صريحٌ في أنه جعل طواف القدوم طوافه للحج والعمرة، ونحن نلتزم التداخل بينهما أيضًا.
صحيح البخاري
(4/244)
---(4/238)
ولنا أن نقول: إن هذا التخريج اجتهادٌ منه فقط، ولا نص عنده، وإنما يقومُ ذلك حجة علينا، إذا ثبت بيانًا من جهة النبي صلى الله عليه وسلّم وإلا فكله من مقاييس الرواة. ولا يمكن الاطلاع على نية أحد إلا من جهته، فمن أخبرك أن طوافَه يوم النحر كان لحجته وعمرته، ولم يكن لحجته فقط، فهذا تخريج منه لا غير. نعم، لو أتيت بنص من صاحب الحج أنه كان كذلك لكان لك حجة، ثم إنك إنْ تمسكت من اجتهاد هؤلاء الرواة، فلنا أيضًا أن نحتجَّ باجتهادِ عليَ، أعلم الناس بمناسِك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكفانا سلفًا وقدوة.
ثم إن قوله: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، لا يستقيم على مذهب الشافعية، فإنَّ الطوافَ الأول عندهم للقدوم، ولا دخل للعمرة عندهم فيه، فما هذا التعرُّض إليه، إلا أن يقال: إن طوافَ العمرة يصح أن يدخل عندهم في القدوم أيضًا، كما يصح أنْ يدخل في الزيارة، كما في «مختصر المُزَني»، وهو - خال الطحاوي - وإن كان في عامة كتبهم أنه لا يدخل إلا في الزيارة.
وجملة الكلام: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأول ما دخلَ مكة بدأ بالطواف، وهذا القدر متفقٌ عليه، ثم هو طوافٌ للقدوم عند الشافعية، وطواف للعمرة عندنا سَوَاء. قلتُ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمترك طواف القدوم ليكون شأنُه وشأن الناس في المناسك سَوَاء، أو التزمت تداخله في العمرة، أو قلت: إن الطوافَ الواحدَ حلَّ محل الطوافين، فذلك كله إليك، فإنَّ المعنى واحدٌ، والاختلافُ في الأنظار لا غير.
(4/245)
---(4/239)
وأحسن الأجوبة ما أجاب به شيخنا ومولانا محمود الحسن: أن عائشة إنما أرادت من قولها: «الطواف الواحد»، طافوا طوافًا واحدًا الطواف للحل منهما، ولا ريبَ أنه واحدٌ عندنا أيضًا، لأنَّ إحرامَهُما لمّا كان واحدًا، وجب أن يكون الإِحلال عنهما أيضًا واحدًا، وهو بطواف الزيارة. فالقارن إذا طاف طواف الزيارة، حل من إحراميه، والذي يدلك على هذا المعنى ما روته عائشة في البخاري ومسلم: «فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبالصفا، والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافُوا، طوافًا آخر، بعد أن رَجَعُوا من مِنىً لحجهم، وأما الذين كانوا جَمَعوا الحجَّ والعمرةَ، فإنما طافوا طوافًا واحدًا». انتهى.
وهذا صريح في أنَّ محطَّ كلامها الفرقُ بين القَارِنين، وغيرهم في حق الحِل. تعني به أنَّ المتمتعين حلوا من عمرتهم بطوافِها، ثم حلُّوا من إحرام الحج بطوافه، واحتاجوا إلى طوافين: طواف للحِلِّ عن عمرتهم، وطواف آخر للحل عن حجهم. وأما الذين كانوا جَمَعُوا الحج والعمرة، فلم يحلوا منهما إلا بطواف واحدًا، ولم يطوفوا للحل طوافين، كالمتمتعين.
صحيح البخاري
وأصرح منه ما عند مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «من كان معه هَدْيٌ، فليهل بالحج مع عمرتِهِ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا». وكذا ما عند البخاري في باب ركوب البدن، «ثم لم يَحْلِل من شيءٍ حَرُم منه حتى قضى حجه»، وفيه: «فطاف لهما طوافًا واحدًا، فلم يحلّ حتى حلَّ منهما جميعًا»، كل ذلك دليلٌ على أنَّ المقصودَ الأصلي بيان الحِلِّ دونَ وحدة الطواف أو تعدده، كما فهمه الشافعية.
(4/246)
---(4/240)
ثم العجب أنهم شرحوا قول ابن عمر: «ما شأنُ الحجِّ والعمرة إلا واحدًا» أيضًا بمثله، فقالوا: معناه إذا كان التحلل للحصر جائزًا في العمرة - مع أنها غير محدودةٍ بوقتٍ - فهو في الحج أولى بالجواز، - كذا قاله القَسْطلاني - فإذا كان عندهم شأن الحج والعمرة واحدًا - يعني في الحِلِ - فكذلك عندنا معنى طوافهما، فإنَّه أيضًا واحدًا - يعني لأجل الحِل منهما - لكنهم نسوه ههنا، أو تناسوه:
*أصمٌ عن الشيء الذي لا أريدهُ
** وأسمعُ خلقِ الله حينَ أُريدُ
وعندنا قول ابن عمر في حق المانع، أي ما يمنعُ عن العمرة، فهو يمنعُ عن الحج أيضًا، كما يؤيده السياق.
ولنا أنّه ثبت عن علي، وابن مسعود، ومجاهد بأسانيد قوية عند الطحاوي: أن القَارِن يطوفُ طوافين، ويسعى سعيين، وهل تعرف عليًا من هو؟:
*هذا الذي تعرِفُ البطحاءُ وطأَتَه،
** والبيتُ يعرِفِهُ والحِلُّ والحَرَمُ
هو العمدةُ والأُسوةُ في هذا الباب، فإنه أحرَمَ بإِحرام النبي صلى الله عليه وسلّم وصاحبه، ورافقه في حَجِّه، فلم يكنْ ليتركَ ما فعَلَه النبي صلى الله عليه وسلّم أو يفعلَ ما لم يفعله صلى الله عليه وسلّم ثم لما كان من مذهبه ما قد علمت، علم أنه لا بُدَّ أن يكون عنده أُسوة من النبي صلى الله عليه وسلّم أو عهد به، فإنَّه إنما تعلَّمَ ما تعلَّم منه، وطاف على طوافه. والحافظ أيضًا أقرَّ بكون أسانيدها صالحة للاحتجاج. ولإِثبات تعدّدِ السعي طريقٌ آخر سَلَكَه العلامة القاضي. ثناء الله الفاني فتى في «تفسيره»، وقد ذكرناه في درس الترمذي.
صحيح البخاري
باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالمرْوَةِ، وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه
والسعي بينهما واجبٌ عندنا، وركنٌ عند آخرين.
1643 - قوله: (نزلت في الفريقين كليهما)... إلخ، وهي ثلاث فرق في سياق مسلم، فيقال إنها نزلت فيهم أجمعين.
(4/247)
---(4/241)
وحاصل الحديث أن عُروة تمسَّك على عدم وجوبه بقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ}، وإجابته عائشة ببيانها نُكتة بلاغية فيه، وساقت قِصتَه لإِيضاحها فقط.
1643 - قوله: (إلا من ذكرت عائشة)... إلخ، جملة معترضة بين اسم «إن» وخبرها. وهذا الاستثناء بعد ما سمعها تقول: «إن الآية نزلت في رجال من الأنصار خاصة».
صحيح البخاري
باب ُ ما جاءَ في السَّعْيِ بَينَ الصَّفَا وَالمَرْوَة
بوّب المصنِّفُ على كيفيته. فالرَّمَل هو العَدْو، مع هذّ الكتفين. والسعي هو الإِسراع بين المِيْلين الأخضرين. وقد تعرض الشارحان إلى سدهما.
صحيح البخاري
باب تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالبَيتِ وَإِذَا سَعى عَلَى غَيرِ وُضُوءٍ بَينَ الصَّفَا وَالمَرْوَة
واعلم أن السعي إنَّما شُرِع عَقِبَ الطواف، فإذا حُجِرن هؤلاء عن الطواف للعذر، حُجِرن عن السعي أيضًا، فإنَّ السعي بدون الطواف غير معهود. ولذا نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعائشة أنْ تسعى بين الصفا والمروة، فإنَّها كانت حائضةً، وهي لا تطوف بالبيت، فحُجِرت عن السعي أيضًا.
1651 - قوله: (وليس مع أحدٍ منهم هديٌ غير النبي صلى الله عليه وسلّم وطلحة)... إلخ، قلتُ: وقد ثبتَ خمسةٌ أو ستةُ نفرٍ غيره صلى الله عليه وسلّمأيضًا الذين كان معهم هَدْي.
1651 - قوله: (فقالوا: ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر منيًا)... إلخ، وهذا هو وجه الكراهية التي كنت نبَّهتُ عليه، لا لأنهم كانوا يعدون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
1651 - قوله: (لو استقبلت من أمري)... إلخ، استدل به الحنابلة على أنَّ التمتعَ أفضلُ، وقد مرّ مني وجه التمني.
صحيح البخاري
باب الإِهْلالِ مِنَ البَطْحَاءِ وَغَيرِهَا لِلمَكِّيِّ وَلِلحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى
صحيح البخاري
(4/248)
---
باب أَينَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَة(4/242)
وهي المُحصَّبُ، ويقال لها: خَيف بني كِنانة، علم بالغلبة. وقد مر من مذهب المصنف أنه لا يجبُ عنده لمن أهلَّ بالعمرة أن يخرجَ إلى الحِلِّ.
قوله: (حتى تنبعث به راحلته)، واعلم أنَّ ابن عمر كان يُهلُّ يومَ التَّرويه، ولا يجوزُ تأخيرُ الإِحرامِ بعده، وإنما كان يُهل بهذا التأخير علمًا منه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يُحرم إلا إذا دخل في السير، وانبعثت به راحلته. والمكي لمّا كانت بداية سيره لحجته يوم الترويه، وجب له أنْ يُحرِم في ذلك اليوم.
والحاصل: أنه فَهِم أنَّ الأفضلَ الإِهلالُ عند بداية السير، وهي للمكي من يوم التروية. والأفضل عندنا أن يقدِّم إحرامَه. وقد علمتَ أنَّ قياسَه على إهلاله صلى الله عليه وسلّمقياس مع الفارق عندنا، كما مر في كتاب الوضوء.
صحيح البخاري
باب الصَّلاةِ بِمِنًى
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَة
صحيح البخاري
باب التَّلبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَة
صحيح البخاري
باب ُ التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَة
ولما كان ذو النورين يتم صلاته في مِنىً في آخر خلافته، وإن كان يقصرها أولا، بوّب عليها المحدثون، وإلا ليست إليه حاجة، لظهور أمرها، فإنَّه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن الشيخين غيرُ القصر. وما ثبتَ عن عثمان آخرًا فبالتأويلات التي بسطها أبو داود، والطحاوي، وليس علينا تصحيحها، وهذا يَدل على أنَّ القصرَ عنده أيضًا كان رخصةَ إسقاطٍ لا ترفيه، كما زعمه الشافعية. ولما استشعَرُوا بأن تأويلَه في القصر يخالفُهم، جعلوا يناقضونها، وينقضون عليها.
(4/249)
---
قلنا: لا نبحثُ في تلك التأويلات كيف هي؟ ولكن ثبت منها أنَّ عثمانَ لم يكن يترخَّصُ بالإِتمام، إلا بعد التأويل، وذلك يخالف مذهبَهم. ومن الحنفية من اشتَغَلَ بالأجوبة عن تلك الإِيرادات، مع أنها لو وردت لوردت على عثمان، فلينظر الشافعية، أنهم على مَنْ يورِدُون.(4/243)
1656 - قوله: (ونحن أكثر ما كنا قط وآمَنُه)... إلخ، أي آمن ما كنا، فالضمير راجع إلى «ما كنا»، لكونه في تأويل المصدر، وإلا فالضمير لا يرجعُ إلى الحروف، وإن لم يكتُبوه، وإنما يتعرضون إلى الأمن ليُعلم أنَّ الخوفَ المذكورَ في النص ليس شرطًا للقصر، وإن جاء ذِكرُه في السياق.
1657 - قوله: (فيا ليت حظي من أربع، ركعتان متقبلتان)، واعلم أن ابن مسعود كان يُصلي خلفَ عثمان أربعًا، لصحة الاقتداء في المسائل المجتهد فيها، كما مر مبحثه في الطهارة.
ونقل الحافظ ابن تيمية الإِجماعَ على صحة اقتداء حنفيَ بشافعي، وكذلك كل صاحب مذهب بصاحبِ مذهب آخر، وصرح أن هذا هو مذهب الإِمام أبي حنيفة. ومع ذلك نجدُ في «الدر المختار» خلافَه، فذهب إلى أنه لا يصح. قلتُ: كيف مع أن الدينَ واحد، والنبيَّ واحدٌ، والقبلة واحدةٌ، فبعيدٌ كل البعدِ أنْ لا يصح اقتداءُ حنفيَ بشافعي في أمر الصلاة التي هي من أهم مُهمات الدين. وراجع «فتح القدير» من كتاب القضاء، والوتر، وقد مر الكلام فيه مبسوطًا، وراجع «الهداية».
صحيح البخاري
باب ُ الوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَة
وهو أفضل، وجاز الوقوف على الأرجل أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ الجَمْعِ بَينَ الصَّلاتَينِ بعَرَفَة
(4/250)
---
وهو من النُّسك عندنا، فيشمَلُ المقيم، والمسافر. وعند بعضهم للسفر، فيختصُّ بالمسافرين. قلتُ: ولم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمولا عن الصحابة أنهم أتموا بعرفة، أو أمروا أحدًا ممن اقتدى بالإِتمام، على سُنة الإِمام المسافر للمقيم، فإنْ كان هؤلاء مسافرين، أفكان أهلُ مكةَ وأمثالهم مسافرين؟، ولم نجد نقلا في ذخيرة الحديث أنْ يكونَ أعلنَ بعرفة لأهل مكة، بأن أتموا صلاتكم، مع أن عمر لما صلى في مكة بأهلها، نادى بعد الصلاة أن أتموا صلاتَكم. فإِنا قوم سَفْرٌ.(4/244)
فلو كان الجمعُ هنا لأجل السفر لنادى به أيضًا، ليتم أهل مكة صلواتهم، فدل على أنه كان من النُّسك، فلذا استوى فيه أهل مكة وغيرهم، ولم يحتج إلى نداء بينهم. وقد ذكرنا فيما مر الفرقَ بين أحكام الجمع بعرفة، والجمع بالمزدلفة، حيث يُشترطُ الإِمامُ للأول دون الثاني. وكذلك في شرائط أخرى. والوجه في الأمر بإِعادةِ المغرب إنْ صلاها قبل العشاء إلى الفجر خاصة، وأنها لماذا تنقلبُ بعده صحيحةً مع الكراهة؟.
صحيح البخاري
باب ُ قَصْرِ الخُطْبَةِ بِعَرَفَة
ولو ترك المصنف لفظ «بعرفة» كان أحسن، فإنَّ تلك الخُطبة إنما هي خارج عَرَفة.
صحيح البخاري
باب ُ التَّعْجِيل إِلَى المَوْقِف
صحيح البخاري
باب ُ الوُقُوفِ بِعَرَفَة
قال أبو عبد الله: يُزاد في هذا الباب: هم، هذا الحديث، ولفظ (هم) فارسي. وكان المصنف فارسيًا، وجرى على لسانه نحوه في مواضع من كتابه، كذلك أكثر المحدثين، كانوا يَعلَمون الفارسية، كأبي داود السَّجِسْتَاني، وهو معرب سبستان. وما كتبه ابن خلِّكَان فغلطٌ. والترمذي وإن كان مما وراء النهر، لكن كان يعرف الفارسية، كذلك ابن ماجه، وعبد الله بن المبارك، وكان الشيخ العيني يعلمُ التركي أيضًا، ولم يكن الحافظ يعلمها (ف).
(4/251)
---
واعلم أن مَنْ وقف ببطنِ عَرَفة أجزأه، لكونها جزءٌ من عرفة، مع أن النهي ورد عن الوقوف فيها، وهذا يرجع إلى خِلافية أخرى، وهي النهيُّ عن الأفعال الشرعية، وبسْطُه في الأصول.
1665 - قوله: (ثم أفيضوا)... إلخ، قالوا: إن «ثم» ههنا للتراخي ذكرًا. قلتُ: وليس كذلك، بل هي لقطعِهِ عن الأول، والتنبيه على أنَّه محطُّ الفائدة، فالمعنى أنكم أيها الحُمْس تؤدُّون مناسِككم على وجهها، إلا طواف الإِفاضة، فإنَّكم لستم فيه على صوابٍ وسنةٍ، فتوجَّهوا إليه أيضًا، وأفيضوا من حيث أفاض الناس.(4/245)
واعلم أنَّ من دأب إبليس أنه إذا أضل أحدًا عن سبيل الله يُحدِثُ في نفسه شبهات ووساوسَ، لتزل قدمٌ بعد ثُبُوتها، وإذا أرادَ تمكينَ باطل في صدره أوجدَ له مناسباتٍ ركيكة، فيستقر عليه لأجل تلك المناسبات، ويثلِجَ بها صدرُه. وهذا الذي عَرَضَ لعين القاديان - المرزا غلام أحمد القادياني - حيث جعل جهنَّم مأواه ومثوَاه وادّعى النبوةَ، فأوجد له شيطانه مناسباتٍ رَكيكة بين ختم النبوة، وادِّعاء نبوتِهِ وعيسويته، فألقَمَه علماء الإِسلام حجرًا، فخاب وخسر خسرانًا مبينًا.
صحيح البخاري
باب السَّيرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَة
هذا من باب الآداب، والإِصلاح، والتعليم بالسَّكِينة عند الزحام. ثم النص مضاعفٌ، والمناصُ أجوف، وبينهما اشتقاقٌ كبير، والمصنِّف ينتقلُ في مثلِ هذه المواضع من أحدهما إلى الآخر.
صحيح البخاري
باب النُّزُولِ بَينَ عَرَفَةَ وَجَمْع
صحيح البخاري
باب ُ أَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلّمبِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيهِمْ بِالسَّوْط
صحيح البخاري
باب ُ الجَمْعِ بَينَ الصَّلاتَينِ بِالمُزْدَلِفَة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ جَمَعَ بَينَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّع
(4/252)
---
وإنما نزل النبيُّ صلى الله عليه وسلّملقضاء حاجته، وتوضأ وضوءًا، ثم توضأ بعده وضوءً كاملا، كما يأتي في باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، من حديث أسامة بن زيد.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا(4/246)
واعلم أنَّ الخِلافَ في تعدد الإِقامة ووَحْدَتها، ليس في الجوازِ وعدمه، بل في السُّنِّية. فالجمع عندنا بعرفة بأذان وإقامتين، وبالمزدلفة بأذان وإقامة. وعند الشافعي بأذان وإقامتين فيهما. واختلف فيه العلماء على ستة أقوال، ذكرها المحشي. وذلك لاضطراب الروايات في هذا الباب، فلم يتنقَّح الأمر، ولذا أتى المصنف بلفظ «مَنْ» في الترجمة. والسر في ذلك تعدُّدِ الجماعات فيها فاشتَبَه الحالُ، واختلفت الآراء. واختار الطحاوي تعدد الإِقامة، كما في حديث جابر عند مسلم، وإليه ذهب ابن الهُمَام، وزُفَر، والشافعي.
قلتُ: وعن ابن عمر وَحْدة الإِقامة أيضًا، كما هو عند مسلم أيضًا. وحديث الباب لا يرد علينا، لأن فيه ذكر التَّعشي بعد صلاة المغرب، ومسألةُ وَحْدة الإِقامة عندنا إنَّما هي فيما جَمَع بين الصلاتين، بدون فاصلة بينهما، وإلا فتعاد الإِقامة عندنا أيضًا، كما في الحديث. وقد مرّ من قبل أنَّ مدرك إمامنا فيه هو أنَّ صلاة المغرب في هذا اليوم تُحوَّلُ عن وقتها إلى وقت العشاء، كما في الحديث نصًا.
قوله: (الصلاة أمامك)، وبه يظهر السِّرُ في تأخيره المغرب إلى المزدلفة، مع غروب الشمس بعرفة، ولا وجه له، غير أنَّ وقتَها في هذا اليوم هو وقت العشاء، فلا حاجة إلى تعدد الإِعلام، بخلاف الجمعِ بعرفة، فإنَّ معنى التعجيل ههنا أظهر، وهو إطالة الوقوف، بحيث لا تتخلَّلُ بينه عبادة أخرى. وجملة الكلام أنَّ الروايات إذا اضطربت في قِصةٍ واحدةٍ، نزل الأمرُ إلى باب التفقه والترجيح، والكلام فيه - الأسئلة والأجوبة - في مَقَامِهِ مشهورٌ.
(4/253)
---(4/247)
1675 - قوله: (هما صلاتان تحولان)... إلخ، فيه حجةٌ لنا على مسألة الإسْفَار، فإنَّ الصلاة بالتغليس عُدّت متحولةً عن وقتها المعروف، ومعلوم أنَّها لم تكن إلا بعد طلوع الفجر، فعُلِم أن صلاة الفجر عند تبيُّن الفجر لم تكن في وقتها المعروف عندهم، وهو مخالفٌ لما أنَّ وقتَها المستحبَّ عند الشافعية هو ذلك. وما اعترضَ به النووي مدفوعٌ مما عند النسائي، وقد ذكرناه في المواقيت.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيلٍ، فَيَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ،وَيُقَدِّمُ إِذَا غابَ القَمَر
الوقوفُ بالمزدلفة من الواجبات الستة التي إنْ تركه تاركٌ بالعذرِ لم يجب عليه الدم. ثم إنَّ المسألةَ التي في كُتبنا هي في ترك هذا الوقوف رأسًا، وأما مسألة المصنف ففيها الوقوف بالليل، أي قبل أوَانه، ولا أراه أن يثبتَ له في المرفوع شيءٌ. وما ذكره ابن عمر، فهو اجتهادٌ منه، ثم إنه إذا قدَّم أهله إلى مِنىً، فهل لهم أن يرموا وهم في الليل؟ فقال الشافعي: يجوزُ من نصف الليل. وعندنا لا رميَ إلا بعد الطلوع، وبه أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمابن عباس أنْ لا يرمي ليلا. ولنا فيه آثارٌ كثيرة، أخرجها الطحاوي.
1679 - قوله: (ما أُرانا إلا قد غَلَّسنا)... إلخ، فيه دليل على خمولِ التَّغْليس.
صحيح البخاري
باب مَنْ يُصَلِّي الفَجْرَ بِجَمْع
صحيح البخاري
باب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْع
قد علمت أنَّ تعجيلَ الظهر بعرفة، وتأخيرَ المغرب، وتغليسَ الفجر بالمزدلفة، كله لأجل الوقوف.
صحيح البخاري
باب التَّلبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الجَمْرَةَ، وَالارْتِدَافِ في السَّير
وقوله: (والارتداف بالسير) فيه إنجاز عندي.
صحيح البخاري
(4/254)
---(4/248)
باب {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة: 196)
كاد الناس يتفقون على أنَّ المرادَ من التمتع في النص هو التمتع اللغوي، فيطلق على القِرَان أيضًا. قلتُ: والأظهرُ عندي أنَّ المرادَ في الآية هو التمتع الشرعي، وفيه تقديم العمرة على الحج. أما في الحديث فقد ورد بالنحوين، فتارةً إطلاقهُ على اللغوي، وأخرى على الشرعي. أما ذكر القِرَان في القرآن، فهو عندي في قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196).
قوله: (فما استيسر من الهدي).[
.. إلخ، وهي دمُ شُكرٍ عندنا، فيؤكل. ودم جبرٍ عند الشافعية فلا يؤكل. وقد ثبتَ عندنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان قارنًا، ثم اهتم بالأكل من هداياه، حتى أخذَ من كلها قِطعة، ثم جعلها في قدر، ثم شرب من مرقها.
صحيح البخاري
باب رُكُوبِ البُدْن
قالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ البُدْنَ لِبُدْنِهَا. وَالقَانِعُ: السَّائِلُ، وَالمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرُّ بِالبُدْنِ مِنْ غَنِيَ أَوْ فَقِيرٍ، وَشَعَائِرُ الله اسْتِعْظَامُ البُدْنِ واسْتِحْسَانُهَا، وَالعَتِيقُ: عِتْقُهُ مِنَ الجَبَابِرَةِ، وَيُقَالُ: وَجَبَتْ سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ، وَمِنْهُ وَجَبَتِ الشَّمْسُ.
(4/255)
---(4/249)
والبَدَنَةُ في باب الجِنَايات عامٌّ عندنا للبقر والبعير كليهما، كما صرح به الخليل في «كتاب العين». وقال الشافعي: إنه للبعير خاصة، ثم إنه لا يجوزُ عندنا الركوب عليها إلا عند الاضطرار، فإِنها إذا صارت هَدْيًا في سبيل الله لم يجز له الانتفاعُ بها قبل البلوغ إلى محلها. وقال الشافعي: يجوزُ عند الحاجة، فلا فَرق، غير أنَّا أخذْنَا الرخصةَ عند الإِلجاء، وأخذها الشافعي عند الحاجة. ولنا ما عند مسلم لفظ: «إذا ألجئت إليها» نصًا. قلتُ: وأني ينفصلُ الأمر من مِثل هذه الألفاظ، فإِن تعيينَ المراتبِ الذِّهنية خارجٌ عن طوق البشر، فللشافعية أن يحملوه على الحاجة، نعم، لا ريب أنَّ ظاهره للحنفية.
قوله: ({صَوَآفَّ}) أي قائمات، وذلك في الإِبل، دون البقر. ({الْقَنِعَ}) وهو من القُنُوع دون القَنَاعة. قلتُ: ولعل القانِعَ من يسألُك بلسانه. ({وَالْمُعْتَرَّ}) من اعترضك، ولم يسألك باللسان، ولا أدري ما وجه تفسير المصنِّف.
صحيح البخاري
باب مَنْ سَاقَ البُدْنَ مَعَه
صحيح البخاري
باب مَنِ اشْتَرَى الهَدْيَ مِنَ الطَّرِيق
والسوق مستحبٌّ عندنا، حتى يُستحب له أن يذهبَ بها معه إلى عَرَفة، مع أنها تُذبح بمنىً، فالهَدْي اسمٌ لما يُهدى إلى البيت بعد شرائه من خارج.
1691 - قوله: (بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأهل بعمرة)... إلخ، هذا بالنظر إلى تلبيته صلى الله عليه وسلّم فمن سمعه يقول: لبيك بعمرة وحجة غرَّ عنه كما ترى، وإلا فإِنه كان قارنًا، والقارن يُهلُّ بهما من الميقات.
1691 - قوله: (فطاف حين قدم مكة)... إلخ، وفي الحديث تصريحٌ بأنَّه طاف أطوفةً، فدل على أنَّ من حكى عن طوافه أنَّه لم يكن إلا واحدًا، فقد اعتبر في ذِهنه اعتبارًا.
(4/256)
---(4/250)
1691 - قوله: (ثم حل)... إلخ، هذا هو محطُّ الفائدة. كما علمتَ أنَّ المقصودَ بيانُ الفرقِ بين القَارِنين وغيرهم في حق الحلّ. ثم إن ابن عمر، وإن أطلق لفظ التمتع في حقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إلا أنه صرَّحَ بعدم الحلِّ في البين.
صحيح البخاري
باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الحُلَيفَةِ ثُمَّ أَحْرَم
واعلم أنَّ أبا حنيفة لم يُنكر أصلَ الإِشعار، بل إشعارُ زمانه، كما ذكره الطحاوي. ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أن الإِشعار مستحبٌّ، ويجيء زمان يجعله الناس نَكالا، وهو بالإِفراط فيه. وأخرج الترمذي عن وكيع حين روى حديث ابن عباس في الإِشعار، قال: لا تنظروا إلى قولِ أهل الرأي في هذا، فإِن الإِشعارَ سنةٌ، وقولَهم: بدعةٌ. وحمَلَه القاصرون على أنَّ وكيعًا لم يكن في بردِ صدرٍ من الإِمام الهُمَام. قلتُ: وليس كذلك، فإِن قوله لا يُبنى على مخالفته أصلا، بل من سجيةِ النقي التُّقى، أنه إذا عَرَضَ عليه شيء مما خالف الحديث، يأخذه غضبٌ وسخطٌ في الله، من غير نظر إلى القائل، وهذا الذي اعتراه ههنا، لا أنه تعصُّبٌ، كيف وأنه كان يفتي بمذهب أبي حنيفة، كما في «كتاب الضُّعفاء» لأبي الفتح الأَزدي، و«التهذيب» في ترجمته.
قوله: (وقلد بذي الحليفة)... إلخ، يدل على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأحرمَ من ذي الحُلَيفة، وهذا في الحُدَيْبِيَة، كما في الحديث. فدلَّ على تعينِ المواقيت قبلها، وأنكرها الشافعية ليفيدهم في نكاح المحرم، كما سيجيء تفصيله.
صحيح البخاري
باب فَتْلِ القَلائِدِ لِلبُدْنِ وَالبَقَر
صحيح البخاري
باب إِشْعَارِ البُدْن
صحيح البخاري
باب مَنْ قَلَّدَ القَلائِدَ بِيَدِه
(4/257)
---
1697 - قوله: (قال: إني لبدت رأسي)... إلخ، فيه دليل على عدم التداخل بين أفعال الحج والعمرة، وينبغي أن يكونَ التلبيدُ بحيث لا يؤدي إلى تغطية الرأس. ثم النُّكْتة فيه أنْ لا تنتشرَ الأشعار.
صحيح البخاري(4/251)
باب تَقْلِيدِ الغَنَم
صحيح البخاري
باب القَلائِدِ مِنَ العِهْن
صحيح البخاري
باب تَقْلِيدِ النَّعْل
صحيح البخاري
باب الجِلالِ لِلبُدْن
واعلم أن تقليد الغنم لما كان بشيء خفيف، كالعِهن ونحوه، ترك فقهاؤُنا ذكرَه في الكتب، لا أنه منفيٌّ عندهم، بخلاف تقليد الإِبل، فإِنه يكون بشيء ثقيل، كالمزادة، وغيرها، فكأنه التقليد حقيقة. أما تقليد الغنم فتركوه إلى الفطرة السليمة، لظهورِهِ وعدم خفائه، لا لنفيه رأسًا، ثم إنه لا يُعطي الجلد في الجزارة، بل يتصدَّقُ به.
صحيح البخاري
باب مَنِ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ وَقَلَّدَهَا
1708 - قوله: (عام حجة الحرورية)، والمراد به عام نزل الحَجَّاج، ولم يكن الحَجَّاج من الخوارج، إلا أنَّه كُني عنه هجوًا له.
صحيح البخاري
باب ذَبْحِ الرَّجُلِ البَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيرِ أَمْرِهِن
صحيح البخاري
باب النَّحْرِ في مَنْحَرِ النبي صلى الله عليه وسلّمبِمِنًى
صحيح البخاري
باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِه
صحيح البخاري
باب نَحْرِ الإِبِلِ مُقَيَّدَة
صحيح البخاري
باب نَحْرِ البُدْنِ قائِمَة
صحيح البخاري
باب لا يُعْطِي الجَزَّارَ مِنَ الهَدْيِ شَيئًا
صحيح البخاري
باب يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الهَدْي
(4/258)
---
صحيح البخاري
باب يُتَصَدَّقُ بِجِلالِ البُدْن
1709 - قوله: (لا نرى إلا الحج)، وقد مرّ معناه، فلا تَجمُد على الألفاظ، وتعبيرات الرواة، فإِنها أتت في هذا الباب على كل نحو.(4/252)
1709 - قوله: (بلحم بقر)، وعند النسائي: «بلحم بقرة»، بتاء الواحدة، فيشكل كون بقرة واحدة عن سائر نسائه، ومرّ جوابه. وحاصله: أن غرضَ الراوي بيانُ كون البقرة الواحدة عن متعددٍ فقط، أما إنها عن تِسعة أو سبعة، فليس من مقصودِهِ في شيء. فمحطُّ الوحدة كونها عن متعدد فقط، لا عن تِسعة أو سبعة، على أنَّ البقرة بالتاء ليست في أحد من روايات البخاري. نعم، هي عند النسائي، وقد أجَبْنا عنها.
1709 - قوله: (فقلت: ما هذا؟) هذا هو موضع الترجمة، فإِنه يدلُّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن استأمرَ عائشة، ولذا لم تَعرِف، وسَألت عنها. ولا بد منه عند الفقهاء.
قلتُ: لما ثبت عندنا ضرورةُ الاستئمار شرعًا، وجب علينا أنْ نحمِلَه على معنىً لا يُخالِفُ ما ثبت عنه ضرورةً، وحينئذٍ المعنى أنها سئلت عنه، أنها هي التي أمرت بذبحها أو غيرها.
124 - بابٌ
واعلم أن حرف {إِذْ} تستعمل عندهم للفصل بين الكلامين، وتحقيقه في رسالتنا «عقيدة الإِسلام».
صحيح البخاري
باب مَا يَأْكُلُ مِنَ البُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّق
قوله: (ما يأكل من البدن؟)... إلخ، ويؤكل عندنا من هدي التطوع والقِرَان لكونهما دم شُكرٍ، ولا يؤكلُ من دمِ الجَبْر والجزاء، فلا يؤكل من جزاء الصيد. فأثر ابن عمر بعمومه موافقٌ لنا. وقال الشافعي: إن دم القِرَان لا يؤكل، وذلك لأنَّ القِرَان عندهم مفضولٌ من الإِفراد، فجعلوا هدْيَه دمَ جبر، فلا يُؤكل. وقد مر منا أنه ثبت أكله عن النبي صلى الله عليه وسلّم فلا يكون إلا دمَ شُكرٍ.
صحيح البخاري
باب الذَّبْحِ قَبْلَ الحَلق
صحيح البخاري
(4/259)
---
باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَحَلَق(4/253)
واعلم أنَّ الأفعالَ في يوم النحر أربعة: الرمي، والنحر، والحلق، والطواف. ويلزمُ الترتيب بينها للقارِن دون المُفرد، فإنَّ الدم لا يجب عليه رأسًا. ثم الطواف عبادةٌ لا جناية في تقديمه. بقي الرميُ، والحلق في حق المُفرد، والثلاثة الأوَل للقارن، فيجب الترتيبُ في حقِّهما، والأسئلة في سوء الترتيب نحو ستة، وجوابُه في كلها: «افعل ولا حَرَج».
ثم الجوابُ عندنا في المسائل كلها نحو ما في الحديث، إلا في مسألة، ففيها الحرجُ عندنا، وكذلك يجبُ الجزاءُ في بعض الصور عند مالك، وعند أحمد. نعم، لا جزاءَ عند الصاحبين، والشافعي مطلقًا. وعموم قولِهِ صلى الله عليه وسلّم «لا حرج» حجةٌ لهم، وقد مر جوابه عن الطحاوي في كتاب العلم أن نفيَ الحرجِ محمولٌ على نفي الإِثم، لا نفي الجزاء، وذلك من خصائص الحج أنَّ الشرعَ يُبيح له ارتكابَ محظورٍ لعذر، ثم يوجب عليه الجَزَاءَ، ككفارة الأذى في القران، فلا تنافيَ في هذا الباب بين إيجاب الجزاء، ونفي الجُنَاح، وقد بَسَطه في كتابه جدًا.
ولا بعد عندي أنْ يُحمل قوله: على نفي الجزاء أيضًا. نعم، يقتصر على عهده صلى الله عليه وسلّمللجهل بالمسائل في ذلك الزمان، وإنما يُعدُّ ذلك عذرًا عند انعقاد الشرع، لا بعد تقرره واشتهارِه على البسيطة كلها. ثم هل الجهلُ عُذْرٌ في مسائل العبادات والديانات أو لا؟ فقد تكلمنا عليه في العلم، فراجعه.
1724 - قوله: (فقال عمر: إن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام)... إلخ، وللمعارض أنْ يقول: إن القرآن وإن كان يأمر بالتمام لكنه يأمر بالتمتع أيضًا، وكذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّموإن لم يُحلل بنفسه، لكنه أمر ألوفًا من الناس أن يتحلَّلوا.
واعلم أنَّ البخاري أخرج عن قيس بن سعد في تعليقه عن حماد من هذا الباب، وبهذا الذي في زكاة الإِبل، عند الطحاوي، فتصدى له البيهقي هناك، فاعلمه.
(4/260)
---
صحيح البخاري
باب الحَلقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإِحْلال(4/254)
صحيح البخاري
باب تَقْصِيرِ المُتَمَتِّعِ بَعْدَ العُمْرَة
والربُع عندنايحكي عن الكل، فيكفي له حلقُ الربع. وقاسه صاحب «الهداية» على مسح الرأس، فاعترض عليه الشيخ ابن الهُمَام، وتفرد في هذه المسألة، فراجعه من كتابه «فتح القدير». والجواب أنه ليس من باب القياس، بل من باب آخر، وهو أنَّ الأمر بإِيقاعِ فعلٍ على محل، هل يوجبُ استيعابَ ذلك المحل أو بعضَه؟ فذهب نظرُ إمامنا إلى أن الربُع يحكي عن الكل، فيحُلُّ محله، خلافًا لمالك، والشافعي. ولو تنبه الشيخ على هذا الباب لما تفرد فيه.
1727 - قوله: (اللهم ارحم المحلقين)... إلخ، وإنما خص المحلقين بمزيدِ الدعاءِ لأنهم بَادَروا بالامتثال. وفي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملما سُئل عن دُعائه للمحلقين، قال: «لأنهم لم يشكوا».
واعلم أن ما في كتب السير أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يحلق رأسه إلا مرتين، فلا أصل له. وإنما ظن هذا القائل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّماعتمر عمرتين، وحج حجة، فجعل القصرَ في واحد منها، فبقي الحلقُ في الاثنين، ثم ظن أنه كان من سيرتهِ العامة الشعر، فلم يثبت عنده الحلق إلا مرتين. ولا دليل عليه. وكذلك ما اشتُهر من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يثبت عنه أكلُ لحم البقر، ففاسد أيضًا، فإنَّه ثبت عنه أكله في قِصة بَرِيْرة، وكذلك في قصة أخرى.
1730 - قوله: (عن معاوية، قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمبمشقص)، واستشكله الشارحون، لأنه لا يصح في الحُدَيْبِيَة أصلا، ولا في عمرة القضاء، فإنَّ معاوية لم يُسلم يومئذٍ، ولا في عُمرة الجِعْرانة لكونه في الليل، ولا في حَجَّة الوداع للتصريح بالحلق فيه. وادَّعى ابن حزم أنه كان في حجة الوداع، لاحتمال أنْ يكون بقي من الحلق بعضه، فقصَّرَه بعده، وهو كما ترى.
(4/261)
---(4/255)
ثم في بعض الروايات: أنه قَصَّر على المروة، وتمسك به بعضهم على كونه متمتعًا بغير سوق الهَدْي، مع تضافر الروايات بخلافه. ثم قيل: يمكن أنْ يكونَ في عمرة القضاء، ولا نسلِّمُ أنه لم يكن أسلم يومئذٍ، بل يمكن أن يكون أسلم، ولم يكن أظهَرَ إسلامه، ولو سلَّمنَا، فلا بِدْعَ في خدمة الكافر للمسلم. ويردُّ كله ما عند النسائي: «قصرت رأسه في عشرة ذي الحجة»، فإنَّ عُمَرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكلها لم تكن في هذا التاريخ. وعلل ابن كثير رواية النسائي. بقيت الروايات التي فيها ذكر العشرة فقط، فلا حاجة إلى إعلاله، لأن العشرةَ تحتملُ أنْ تكونَ من ذي القَعْدة أو شوال، فإنَّهما أيضًا من أشهر الحج.
صحيح البخاري
ثم إن حديث معاوية هذا لما نُقل عند ابن عباس، قال: لا أراه إلا حجةً عليه، فإِنه إذا رَوى أنه قصَّر النبي صلى الله عليه وسلّمعلى المروة ثَبَتَ أنَّه كان متمتعًا، فَلَم ينه عن التمتع.
ثم هناك قطعة أخرى عند مسلم، أشكل شرحها على الشارحين، وهي أنَّ سعدَ بن وقاص كان يرى التمتعَ جائزًا، فقيل له: إن معاوية ينهى عنه، فقال سعد: «قد فعلناه مع النبي صلى الله عليه وسلّم وكان هذا الرجل - معاوية - كافرًا يومئذ في عريش مكة. ولا يصحُّ أنْ تكون هذه إشارة إل قِصة حجة الوداع، فإنَّه أسلم قبل ذلك بسنتين. وكذا ليست قبلها واقعةٌ يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلّمتمتع فيها، فأي قِصة هي؟.
(4/262)
---
قلتُ: المراد منه قِصة الحُدَيْبِيَة، وإنما عبَّر عنها بالتمتعِ بجامع الحِل قبل الأوان بينهما، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمحل في الحديبية قبل أوانه، وكذا المتمتع يحل قبل أوان الحج، ولذا كان الناسُ يتأخرون عن الحِل حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّمبه. فحاصل مقالةِ سعدٍ أنَّ معاوية إنما ينهى عن التمتع، لأنه يوجِبُ الحِلَّ قبل أوانه، مع أنا قد حللنا في الحُدَيْبِيَة مع الني صلى الله عليه وسلّمقبل أوانه.(4/256)
والجوابُ عندي عن أصلِ الإِشكال أنَّه يمكنُ أنْ تكونَ هذه قِصة قبل الهجرة. وفي السير أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكان يحج قبل الهجرة، ثم تتبَّعْتُ عُمْرَ معاوية يومئذ، فظهر أنه كان ابن ستة عشر، أو اثنين وعشرين، وهذا صالح للقصر، وحينئذ لا حاجة إلى إعلال رواية النسائي، نعم يرد عليه، أنه لا يتم حينئذٍ ردّ ابن عباس عليه، فإنه لما جعل قصرَه على المروة حجةً عليه في منعِهِ عن التمتع، عُلِمَ أنه حَمَلَه على القصر في عمرة. هذا ما قصدنا إلقاءَه عليك بالاقتصار. والكلام فيه أطول من هذا، ذكره الحافظ في «الفتح»، فراجعه إن شئت.
صحيح البخاري
باب الزِّيَارَةِ يَوْم النَّحْر
واختلفت الروايات في طوافه صلى الله عليه وسلّميوم النحر، ولا سبيل في بعضها إلا إلى الترجيح، والأظهرُ أنَّه طافَه بعد الظهر، فأدَّاه بعضهم أنه أخره إلى الليل، كما عند الترمذي. ومن مارَس توسُّعات الرواةِ في التعبيراتِ لا يَستبْعِدُ منهم ذلك.
قوله: (كان يزور البيت أيام منى)، وهذا طوافه للنفل بعد يوم النحر. إما أنه طاف بين القدوم والإِفاضة أم لا؟ فنفاه البخاري، وأثبته البيهقي.
1732 - قوله: (وقال لنا) يعني أنه سمعه منه بلا واسطة، إلا أنه تأوَّل لضعفِ عنده.
(4/263)
---
1732 - قوله: (طوافًا واحدًا)، وأراد به ههنا طوافَ الإِفاضة، وهو الطّوافُ الثاني، فاختلف الرواة في مِصْدَاق هذا اللفظ عن ابن عمر، فجعل بعضهم مِصْدَاقه الطواف الأول، أي القدوم، وبعضهم طوافُ الزيارة. وحينئذٍ لم تبق فيه حجة للشافعية، فإنَّ الطوافَ الواحدَ عن الحج والعمرة هو الزيارة عندهم، ولم يتعين بعد أن أيهما المراد ههنا.(4/257)
ولنا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلّموإن طافَ لهما طوافين. إلا أنهما لم يكونا متميزين، أيهما عن الحج، وأيهما عن العمرة، لعدم تخلل الحِل بينهما، فعبَّرَ عنه الراوي هكذا، كأنه طاف لهما طوافًا واحدًا، أي لكل واحدٍ منهما طوافًا طوافًا. ولكنه جعل الواحد عن اثنين في العبارة، لعدم تميزهما في الحِسِّ. وبعبارة أخرى إن طوافَه الواحدَ كان عن الحج والعمرة، لعدم التميز، لا لعدم التعدد، فلو شئت اعتبرتَه عن الحج، فعلت، وإن أردتَ جعلتَه عن العمرة، فذاك أيضًا إليك.
والحاصل: أنه طاف لهما دَفْعة واحدة طوافًا. ونُوضح لك مزيد الإِيضاح: أن الذين أهلوا بالعمرة، ثم بالحج، وأحلوا في الوسط، كان طوافُهم للعمرة متميِّزًا عن طوافهم للحج، لتخلُّل الحِل في البين، فصح أن تقول: إن هذا للعمرة، وهذا للحج، ولا يصح أن تقول فيهم: إنهم طافوا لهما طوافًا واحدًا، بخلاف القارنين، فإِنهم أهلوا بالحج والعمرة معًا، ثم يُحِلوا في الوسط حتى طافوا طواف الزيارة، فلم يتميز طوافهم للحج عن طوافِهم للعمرة.
(4/264)
---
وإذا لم يتميز في الحسّ أحد الطوافين عن الآخر، عبَّر عنه الراوي بالطواف الواحد، فهم فهموا أنه طاف لهما طوافًا واحدًا حقيقة، ونحن فهمنا أنه طاف طوافًا لكلٍ منهما، ولكنه لم يتميَّز في الحِسِّ، فعبر عنه الراوي كذلك. وبعبارة أخرى هم جعلوا الطواف الواحدَ مسألة، ونحن جعلناه تعبيرًا فقط، لما ثبت عندنا في الخارج تعدد الأطوفة، عمن كان إحرامُه مع إحرامه صلى الله عليه وسلّم ورافَقَه وصاحَبَه، ورأى حَجَّهُ ومناسكه من الأول إلى الآخر.
صحيح البخاري(4/258)
والحاصل: أن الواحدَ في مقابلة الثاني. والمعنى أنه طاف للحج واحدًا، ولم يطف له ثانيًا، وكذلك للعمرة، فطاف لها واحدًا، ولم يطف لها ثانيًا، وحينئذٍ ثبتَ أنه طافَ لهما واحدًا، وليس فيه نفيٌ لطواف العمرة، فإنَّه كان وكان، ولكنه لما لم يتخلل الحِل في البين، لم يتميز أحد الطوافين عن الآخر، وبقي لكل منهما طوافًا طوافًا غير متعيِّن، أيهما لحجه، وأيهما لعمرته، فاحفظه، فإنَّه تليدك مع طارفك.
صحيح البخاري
باب إِذَا رَمى بَعْدَ ما أَمْسى، أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذبَحَ، نَاسِيًا أَوْ جاهِلا
صحيح البخاري
باب الفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الجَمْرَة
وحاصله: أنه أخلّ في الترتيب. وقيَّده بالنسيان والجهل، فدل على أنه لو تعمده وجب عليه الجزاء، فوافق أبا حنيفة في بعض الصور.
وقد مر أن المصنِّف يعتبرُ النسيان والجهلَ عذرًا في كثير من المواضع. ثم إنَّ ابن عباس - راوي الحديث - وفتواه موافقٌ لنا، كما أخرجه الطحاوي.
صحيح البخاري
باب الخُطْبَةِ أَيَّامِ مِنًى
واعلم أنَّ في الحج ثلاث خُطبات: في السابعة، والتاسعة، والحادية عشرة. وأما ما سواها، فحمَلَها الحنفيةُ على الحوائج العامة، لا من المناسك.
(4/265)
---
1739 - قوله: (قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام)... إلخ، وأمعن النظرَ في آخر خُطبة خَطَبها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي حَجِّة الوداع، كيف تدل على بقاءِ حُرمة الأشهر الحرم، حتى سمَّوه بالشهر الحرام، مع أنَّ الجمهور ذهبوا إلى نَسخِهِ، وأنكره ابن تيمية، وادّعى أن البداية بالقتال فيها حَرَامٌ إلى الآن أيضًا.(4/259)
قلتُ: وكان ينبغي للجمهور أن لا يتركوا تسميتَها بالأشهر الحرم. ونازعوا في الأحكام على نحو ما قلت في حَرَمِ المدينة: إن لها حَرَمًا أيضًا، إلا أنَّ أحكامَه ليست كأحكام حرم مكة كذلك. فليقل: إنَّ لتلك الأشهر حرمةٌ باقيةً عندنا أيضًا، إلا أن حرمَتَها ليست على ما كانت قبل النَّسخ، وحينئذٍ لمّا لم ترد عليهم ألفاظُ الأحاديث التي ورد فيها إطلاقُ الأشهر الحرم عليها، فإنَّه يدُل على بقاء حرمتها بعدُ.
1741 - قوله: (اللهم اشهد)... إلخ، وإنما جعله شاهدًا، لأنَّ الأممَ يُسألون عن أنبيائهم يوم القيامة، أنهم هل بلغوا أم لا؟ فيكذِّبون بعضهم، ويقولون: إنهم لم يبلغْهم شيئًا، وحينئذ يحتاج الأنبياء عليهم السلام إلى الشهادة.
صحيح البخاري
باب هَل يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ أَوْ غَيرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى؟
صحيح البخاري
باب رَمْيِ الجِمَار
صحيح البخاري
باب رَمْيِ الجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي
صحيح البخاري
باب رَمْيِ الجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَات
واعلم أنَّ رميَ الجِمَار واجبٌ عندنا، والبَيْتُوتَةُ سنةٌ.
صحيح البخاري
باب مَنْ رَمى جَمْرَةَ العَقَبَةِ فَجَعَلَ البَيتَ عَنْ يَسَارِه
صحيح البخاري
باب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاة
صحيح البخاري
باب مَنْ رَمى جَمْرَةَ العَقَبَةِ وَلَمْ يَقِف
(4/266)
---
وعند الترمذي: «حِذَاءه»، مكان اليسار، وينبغي الاعتمادُ على لفظِ البخاري.
صحيح البخاري
باب إِذَا رَمى الجَمْرَتَينِ، يَقُومُ وَيُسْهِلُ، مُسْتَقْبِلَ القِبْلَة
صحيح البخاري
باب رَفعِ اليَدَينِ عِنْدَ الجَمْرَتَيْنِ الدُّنْيَا وَالوُسْطى
/
صحيح البخاري
باب الدُّعاءِ عِنْدَ الجَمْرَتَين
قوله: (ثم يدعو)... إلخ، وفي الروايات أنه كان يُطَوِّل في الدعاء قدر سورة البقرة.
صحيح البخاري
باب الطِّيبِ بَعْد رَمْيِ الجِمَارِ، وَالحَلقِ قَبْلَ الإِفاضَة(4/260)
واعلم أنَّ المُحرمَ له جميعُ محظورات إحرامِهِ بعد الحلق، إلا النساء، وفي رواية شاذة: إلا الطيب أيضًا، وتؤيدها رواية عن ابن ماجه، وأوَّلها الناس. قلتُ: بل الصواب أن تلتزمَ ذلك، ويُقال: إن الروايات العامة حجةٌ للروايةِ المشهورة عن الإِمام، والشاذة للشاذة، ولا حاجة إلى التأويل. فإن قلتَ: إن قولَ المصنِّف: «بعد رمي الجِمار» في غير محله، لأنه لا دَخْل له في الحِلِّ، وإنما الدخل فيه الحلق. قلتُ: لأنَّ بعضَ الأفعال الأربعة يوم النحر مما ليس بجناية في وقتٍ من الأوقات.
صحيح البخاري
باب طَوَافِ الوَدَاع
صحيح البخاري
باب إِذَا حاضَتِ المَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفاضَت
وهو واجبٌ عندنا. وفي قولٍ: سنة. كما أن القدومَ سنة في المشهور، وفي قولٍ: واجبٌ، كما في «خزانة المفتين»، وهو معتبر. أما خزانة الروايات، فلا أعتمدُ عليه، وهو من تصانيف عالم من كجرات.
ويسقط الوداع عن الحائض والنُّفَساء. وكان ابن عمر يقول: بأن الحائض والنفساء تنتظر له حتى تطهُرَ، فتطوف له، فلما بلغه الحديث: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرخص لهنَّ، رجع عنه، كما في الباب الآتي. أما طواف الزيارة، فإنَّها تنتظر له عند جميعهم.
(4/267)
---
صحيح البخاري
باب مَنْ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفرِ بِالأَبْطَح
صحيح البخاري
باب المُحَصَّب
وهو المستحبُّ عندنا، ثم الأبْطَحُ، والمُحَصَّبُ، والبَطْحَاءُ، وخَيْفُ بني كِنَانة كلها اسمٌ لمكان واحدٍ، وهي من مِنىً. واستدل عليه الشافعي من قول الشاعر:
*يا راكبًا قِفْ بالمحصَّبِ من مِنى
** واهتف بقَاطنِ خيفِهَا والنَّاهِضِ
ثم إن البطحاءَ عند مكة، وعند المدينة أيضًا بطحاء.
صحيح البخاري
باب النُّزُولِ بِذِي طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَالنُّزُولِ بِالبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الحُلَيفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّة
صحيح البخاري
باب مَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّة(4/261)
ونزول البطحاء التي بذي الحُلَيفة إذا رجع من مكة. فإن قلت: لم جمع المصنِّفُ بين نزوله بذي طُوَىً، وبين نزوله بذي الحُلَيفة، فإن الأولَ كان حين دخوله مكة، فإنَّ ذي طُوَى على ثلاثة أميال من مكة؛ والثاني عند قُفُولِهِ من مكة إلى المدينة؟ قلتُ: أشار إلى أنَّ نزول النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبالموضعين كان قصدِيَّا، فينزل بذي طُوَىً عند ذهابه إلى مكة، وذي الحُلَيفة عند إيابه من مكة.
صحيح البخاري
باب التِّجَارَةِ أَيَّامَ المَوْسِمِ، وَالبَيعِ في أَسْوَاقِ الجَاهِلِيَّة
ترجم بها نظرًا إلى لفظ القرآن {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ}، وإنما يجوزُ البيعُ في أسواق الجاهلية، إن لم يكن سببًا لشوكتهم وإلا يُمنع عنه.
صحيح البخاري
باب الادِّلاجِ مِنَ المُحَصَّب
والإِدِّلاج - بتشديد الدال - أسير في آخر الليل ، وبسكونها: اسم للسير في أول الليل.
صحيح البخاري
كتاب العُمْرَة
(4/268)
---
صحيح البخاري
باب ُ وُجُوبِ العُمْرَةِ وفَضْلِهَا
أبواب العمرة
قيل: إنَّ العمرةَ مُشتقٌ من العُمْر، وذلك وقتُها، وليس بصحيح، بل العمرةُ بمعنى الزيارة، جزمَ المصنفُ بوجوبها. والواجبُ والفرضُ عنده سواء. والمشهور عندنا أنها سنة، وقوَّاه ابن الهُمَام، واستدل عليه بحديثٍ فيه حجاج بن أرْطأة. وواجبٌ في قولٍ، كما في «الجوهرة» وهو المختار عندي.
وقد ورد إطلاق الحجِّ على العمرة أيضًا، فإنَّ الحجَّ الأكبر عندهم هو الوقوفُ بعرفة، والحج الأصغر العمرة، ولقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196) أي أدوه بوصفِ التمام، فالمطلوب هو العمرة، مع تلك الصفة، لا أنَّ المأمورَ به هو الإِتمام عند الشروع، دون العمرة نفسِها، فإنَّه تأويلٌ عندي.(4/262)
وعن أبي يوسف: أنَّ الناس كانوا يُقصِّرُون في العمرة في زمن الجاهلية من كل وجه، وفي الحج شيئًا، فلم يكونوا يذهبون إلى عرفات، فأمَرَهم الله سبحانه أنْ يُطهِّروا الحج والعمرة من تلك النقائص، ويأتوا بهما تامَّين، كما أمر الله سبحانه. فَثَبَتَ أنَّ العمرةَ أيضًا مأمورٌ بها، فتكون واجبًا كما جزم به المصنف، وصاحب «الجوهرة» منا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الحَج
يَحتملُ لفظُه أن يكونَ المرادُ الإِتيانَ بالعمرة قبل أفعال الحج، ويَحتملُ أن يكون المراد أداء العمرة فقط، وهذا الثاني هو المراد ههنا، كما يُعلم من حديث الباب.
صحيح البخاري
باب كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري
باب ُ عُمْرَةٍ في رَمَضَان
(4/269)
---
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّماعتمر أربع عُمْرات. واختلف الرواة في تعديدها، فبعضُهم لم يعدُّوا عمرةَ الحُدَيْبِيَة، لعدم تماميتها، والحِلُّ قبل أوانها، وبعضٌ لم يَعُدُّوا عمرة الجِعْرَانة، لكونها في سواد الليل، ومنهم من لم يَعُدَّ العمرة مع حجته، لعدم تميُّزها من حجته، فهذه اعتباراتُ أن ذلك اختلاف.
1775 - قوله: (إحداهن في رجب)، وهو ههنا نَكِرَةٌ قطعًا لزوال العَلَمية، نحو جاء عمر، وعمر آخر. ثم إن الشارحين اتفقوا على كونِهِ غلطًا من ابن عمر. وتبيَّنَ لي مَنْشأ غلطه، وهو أن العمرة في الملة الإِبراهيمية، كانت في رجب، وكان الحج في ذي الحجة، فجعل ابن عمر عمرتَه أيضًا في رجب، بناءً على المِلة الإِبراهيمية.
ثم إن صلاة الضحى في المسجد ليست بدعةً على الإِطلاق، وإنَّما حكم عليها ابن عمر بكونِها بدعةً لبعض أمور عَرَضتْ هناك.(4/263)
1779 - قوله: (ومن القابل عمرة الحديبية)، وهو سهوٌ من الراوي، فإِن عمرة النبي صلى الله عليه وسلّممن العام القابل كانت عمرة القضاء. ويُحتمل أن يكونَ قوله: «عمرة الحديبية» متعلِّقًا بقوله: «حيث ردوه»، لا بيانًا لما في العام القابل، كما تدل عليه الرواية التي تليها، ففيها: «عمرته من الحديبية، ومن العام المقبل» هذا الترتيب هو الصحيح.
وقد علمتَ فيما ألقينا عليك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يعتمر قبل حجته إلا في أشهر الحج، فلا تكون العمرة في حَجة الوداع، لرد زعم الجاهلية، فإِنَّه رده قبله مرارًا.
صحيح البخاري
باب ُ العُمْرَةِ لَيلَةَ الحَصْبَةِ وَغَيرهَا
واعلم أنَّ العمرةَ عندنا جائز في السنة كلها، إلا في الخمسة من ذي الحجة، من يوم عرفة إلى آخر النَّفْر. نعم، له أن يقضيها في تلك الأيام أيضًا إن كان رَفَضَها، وإلا كُره.
صحيح البخاري
باب ُ عُمْرَةِ التَّنْعِيم
(4/270)
---
قد سمعتَ مرارًا أنَّ المكيَّ يُهلُّ عندنا لعمرتِهِ من الحِل، والأفضل أنْ يحرمَ من التنعيم، لأن عائشة أهلَّت منها. وقال آخرون: إنَّ بَعْثَها إليها كان اتفاقًا، لا لأن إحرامَ المكي لعمرتِهِ لا يكون إلا من الحِلِّ.
1785 - قوله: (ألكم هذه خاصة يا رسول الله)، والإِشارة عندنا إلى الحِل. وجعلها أحمد إلى فسخِ الحج إلى العمرة. ولنا ما عند مسلم عن أبي ذر.
صحيح البخاري
باب ُ الاعْتِمَارِ بَعْدَ الحَجِّ بِغَيرِ هَدْي(4/264)
قوله: (ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم) وقد مر مني أنه لا منَاص من الهدْي، إما للقِرَان كما قاله الشافعية، أو لرفضِ عمرتِها كما قلنا. فقيل: المراد به نفي دم الجِنَاية. والجوابُ عندي أنَّ الهَدْي رَسْمٌ لِمَا يُهدى إلى البيت من بيته، فالسوقُ داخلٌ في مفهومه، ولم تكن عائشةُ ساقت هَدْيَها، وإنما اشترى لها من الطريق، فصحَّ نفيُ الهدي بهذا المعنى، وإلا فالهدي واجب على المذهبين، وإنما تعرض الراوي إلى نفي الصوم والصدقة لكونهما قد يجبان في باب الحج، وإن لم يكونا واجبين في الصورة الموجودة.
تنبيه
قد سبق منا فيما أسْلَفْنا أنَّ ألفاظَ الأحاديث كلها تدل على رفض عمرتها، وأنَّ عمرتَها، بعد حجها كانت قضاءً للمرفوضة، إلا أنَّه لا يتبينُ حينئذٍ ما وجه إصرارها، لأنها لو كانت العمرةُ واجبةً عليها قضاءً عن عمرتها المرفوضة، لأَمَرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبقضائها ابتداءً، ولم تحتج إلى هذا الإِصرار، ولم أر أحدًا توجَّه إلى جوابه، وقد أجبت عنه في برنامجتي.
صحيح البخاري
باب أَجْرُ العُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَب
لا يريد به بيانَ مسألة، ولكن كان عنده حديث في ذلك (فأراد) أن يترجمَ عليه ترجمته.
(4/271)
---
1787 - قوله: (ولكنها على قدر نفقتك، أو نصبك)، قال مولانا شيخ الهند: معناه أنَّ عمرتَك أفضلُ من عُمَر سائر الأصحاب، وإن كانت مؤخرة بحسَب الظاهر، لأنك قاسيت مرارةَ الانتظار. وهذا يُفيد الحنفيةَ، لأنه مبنيٌّ على رفض عمرتِها. قال الحافظ: بل هو دالٌّ على قِلة أجرها من عمراتهم، لكون عمرتهم آفاقية بخلافها، فإنَّها كانت مكيةً.
صحيح البخاري
باب ُ المُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ العُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ، هَل يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الوَدَاع
صحيح البخاري
باب يَفعَلُ في العُمْرَةِ ما يَفعَلُ في الحَج
وهكذا المسألة عندنا، فإنَّه كتحية المسجد.
صحيح البخاري
باب مَتَى يَحِلُّ المُعْتَمِر(4/265)
لعله تعريضٌ إلى ابن عباس، فإنَّه يقول: إن المعتمرَ يحلُّ بالطواف، ويسعى فيما بعده.
1792 - قوله: (لا صخب فيه ولا نصب)، ومر عليه الشيخ الأكبر، وقال: إنها جُوزيت ببيت في الجنة كذلك لكونها ربة البيت. وقوله: لا «صخب» لأنه يُهيأ للعروس منزلٌ خالٍ. وقوله: لا «نصب» لأنها كانت تُتْعِبُ نفسَها في الدنيا، حين كانت تذهب بطعام النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي أيام تحنُّثِه بِحِرَاء.
1795 - قوله: (فكنت أفتي به، حتى كان في خلافة عمر، فقال: إن أخذنا بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام)... إلخ، فإنْ قلتَ: إن عمر كان ينهى عن التمتعِ، فما محملُ الآية عندَه، فإنَّها صريحةٌ في التمتع، {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ} ...إلخ؟(البقرة: 196) قلتُ: ولعله يحملها على أنَّ التمتعَ لا حلّ فيه، كما صرح به خَوَاهر زاده في «مبسوطة»: إن الذي لم يسق الهَدْي، يجوز له الحِلُّ، ولا يجب عليه. وأما عند صاحب «الكنز» وصاحب «الهداية» فيجب عليه أنْ يَحِل.
صحيح البخاري
(4/272)
---
باب ُ ما يَقُول إِذَا رَجَعَ مِنَ الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ أَوِ الغَزْو
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِقْبَالِ الحَاجِّ القَادِمينَ وَالثَّلاثَةِ عَلَى الدَّابَّة
صحيح البخاري
باب ُ القُدُومِ بِالغَدَاة
صحيح البخاري
باب ُ الدُّخُولِ بِالعَشِي
صحيح البخاري
باب لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ المَدِينَة
صحيح البخاري
باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ المَدِينَة
1797 - قوله: (يكبر على كل شرف)... إلخ، وعند الدارمي في «مسنده»: «أن التكبيرَ على شَرَفٍ، والتسبيحَ في الخفضِ من صفات هذه الأمة المكتوبة في التوراة»، وعند أبي داود في الجهاد في باب ما يقول الرجل إذا سافر: «وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّموجيوشُه إذا علوا الثَنَايا كبَّروا، وإذا هبطوا سبَّحُوا، فوضعت الصلاة على ذلك». اه- .(4/266)
ولعل هذا هو منشأ ما نُسب إلى بعض السلف من ترك التكبير عند الخفض في الصلوات أيضًا. وعندنا أيضًا في قول: أن يأتي بالتكبير في القومة، ويُخلي الانحناءَ عن الذكر. وقال الطحاوي: إن السنة أن يبسطَ التكبير على الانخفاضِ، ويملأَ من الذكر، وهو الأصوب.
ومن ذهب من السلف إلى ترك التكبير في الانخافض، فلعلَّه لأجل حديث أبي داود هذا لا غير، وكثيرًا ما يكون، أن شيئًا إذا تمكن في الذهن، جعله الإِنسان مدارًا، ومَطْرَدًا، ومُنعَكسًا.
فائدة
(4/273)
---
واعلم أنَّ أبا بكر المُقْرِي، وأبا عَرُوبة الحراني، وابن مُظَفَّر البغدادي، كلهم من تلامذة الطحاوي. أما أبو بكر، فهو من أئمة الحديث، وقد جمع «مسند أبي حنيفة»، ولا يوجد، وكذلك أبو عروبة من الأئمة، وجمع «مسند أبي يوسف»، وابن مظفر، وهو حافظ أيضًا، جمع «مسند أبي حنيفة» ولا أريدُ أنَّ هؤلاء كلهم حنفيون، بل أريدُ أنَّ شغَفَهم بجمع «مسند الإِمام الهُمَام» من آثار تلمذتهم على الحنفي، فأدوا حق تلمذتهم، وراعوه حتى بقي ذلك من آثاره.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوبِهَا} (البقرة: 189)
صحيح البخاري
باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَاب
واعلم أنَّ أهل الجاهلية يعدون الدخول من الأبواب من محظورات الإِحرام، ويزعُمون ظِل الباب على الرأس كتغطيته، فكانوا يحترزون عنه. وفي «الفتح» أن العرب لم يكونوا يدخلون البيوت من الأبواب إلا الحمس. ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلّممرةً بيتَه من الباب، وهو محرمٌ، فدخل معه رجلٌ آخر أيضًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «كيف دخلت من الباب؟ فأجاب لأنك دخلتَ منه، قال له: إني من الحُمْس، ولست منهم، فقال: ولكني على دينك»، فدل على أنَّ هذا لم يكن باطلا محضًا، فليفتش إسناده، فإنْ كان قويًا حدث إشكالٌ يحتاج إلى جوابه.
صحيح البخاري
باب ُ المُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِه(4/267)
واعلم أنَّ واقعة ابن عمر هذه واحدةٌ قطعًا، وهي على نظر الحنفية، وليس فيها الجمع حقيقة، كما هو مصرَّحٌ عند أبي داود. ويقضي العجبُ من مثل الحافظ حيث ادَّعى أنهما واقعتان، مع اتحاد مادة القِصتين.
صحيح البخاري
كتاب المُحْصَر
صحيح البخاري
باب ُ المُحْصَرِ وَجَزَاءِ الصَّيد
(4/274)
---
صحيح البخاري
باب إِذَا أُحْصِرَ المُعْتَمِر
صحيح البخاري
باب ُ الإِحْصَارِ في الحَج
واعلم أن الإِحصار عندنا، وعند جماعة من السلف، وأهل اللغة عامٌ للمرض والعدو، كما نُقل عن الفَرَّاء أيضًا. وعند الشافعية يختص بالعدو. وادَّعى بعضٌ من الحنفية أنَّ المحصرَ لا يقال إلا في المرض، أما في العدو فيقال له: محصورٌ، لا محصر. قلتُ: وليس بجيد، فإنَّ الآية حينئذٍ تقتصر على المرض، مع أنها نزلت في العدو بالاتفاق، فإنَّها نزلت في قصة الحُدَيْبِيَة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّمفيها مريضًا.
وههنا دقيقةٌ، وهي أنَّ اللفظَ قد يُشتهر في نوع من الجنس، ثم يرد استعماله في نوع آخر من ذلك الجنس، أو في الجنس بعينه، فيجعله الناس مقابِلا كالإِحصار، فإنَّه عامٌ للمرض والعدو، إلا أنه اشتُهر الإِحصار في المرض، والحصر في العدو، حتى تذهب أوهام العامة، أنهما متقابلان، فجعلوا الإِحصارَ مختصًا بالمرض، والحصرَ بالعدو ليس كذلك. وإنما أخذ القرآن في النظم، واللفظ العام، لئلا يختصَ الحكمُ بالعدو، ويعم للمرض، والعدو كلاهما، ونظيره لفظ: «كل» بالكاف الفارسية في اللغة الفارسية، فإنَّه عامٌ، ثم اشتهر في بعض أنواعه. وهذا الذي عَرَضَ لهم في لفظ: «الخمر» فاختلفوا فيه، كما رأيت. والسر فيه ما قلنا.(4/268)
قوله: (قال أبو عبد الله: {وَحَصُورًا}: لا يأتي النساء) ومر عليه الشيخ الأكبر، وقال: إن زكريا عليه السلام لما رأى مريم عليها السلام، وما بها من نعمة الله، ظاهرًا وباطنًا، حيث كان يأتيها رزقها بُكرة وعشيًا، وكانت عفيفةً راغبةً عن النكاح، تعجب منها، وعند ذلك دعا أنْ يُرزَق ابنًا، فكان من أثر دعائه أنه أُعطي ولدًا حصورًا متجنبًا عن النكاح، كتجنبها عنه.
(4/275)
---
ثم اعلم أن الحكم في الإِحصار عندنا أنْ يبعثَ دمًا يُذبحُ بالحَرَم، ويُوَاعِده أنْ يذبحه يوم كذا، فإذا جاء ذلك يَحِل في مقام الحصر، ويقضي من قابل. ودمُ الإِحصار لا يتقيد عندنا بالزمان فيجوز ذبحُه قبل يوم النحر، وإن تقيَّدَ بالمكان فلا يذبحه إلا في الحَرَم. وقال الشافعية: إن الإِحصار مختصٌّ بالعدو، ولا يتقيَّدُ دمُ الإِحصار عندهم بالمكان أيضًا، ولا يجب عليه القضاء.
وأصل النزاع في عُمرة الحُدَيْبِيَة:
فقال الحنفية: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقَضَاها من قابلٍ، ولذا سميت عُمرة القضاء، على أنَّ في السِّير أنه نادى في الناس عند خروجه لعمرة القضاء: أن يذهبَ معه كلُّ من كان رافقه في عمرة الحديبية.
صحيح البخاري
وقال الحجازيون: القضاءُ فيه بمعنى الصلح، سميت به لأنَّه صالَحهم عليها من قابلٍ، وليس مقابلا للأداء.
ثم إنَّ الشافعية لما لم يكن عندهم الإِحصار بالمرض، اضطروا إلى إقامة باب آخر، وهو الاشتراط في الحج، كما في قِصة ضباعة بنت الزبير، فالمريض عندهم يُهِلُّ ويشترط: اللهم مَحِلِّي حيث حبستني. والحنفية لما عمموا الإِحصار استغنوا عن هذا الباب. ووافقنا البخاري على ذلك أيضًا، فلم يخرجْ حديثَ الاشتراط في كتاب الحج، وأخرجه في كتاب النكاح. وسيأتي الجوابُ عن الحديث في محله إن شاء الله تعالى.
صحيح البخاري
باب ُ النَّحْرِ قَبْلَ الحَلقِ في الحَصْر
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ قالَ: لَيسَ عَلَى المُحْصَرِ بَدَل
صحيح البخاري(4/269)
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196)
(4/276)
---
خالف الإِمام الهُمَام أبا حنيفة، فإنَّ القضاء يجبُ عندنا مطلقًا، معتمرًا كان أو حاجًا، ولا قضاء عند الحجازيين للعمرة. وأما على المحصر عن الحج فعليه قضاء اتفاقًا. ويُستفاد من كلام ابن عباس أن القضاء عنده في حال الاختيار، فإن كان من عذرٍ سماويٍ، لا قضاء عليه.
قوله: (وقال مالك وغيره: ينحر هديه، ويحلق بأي موضع كان)، وعندنا يُشترط أنْ يبلغَ الهَدْي مَحِلَّه، فلا يذبحُ خارج الحرَمَ. وعندهم يذبحُ حيث تيسَّر، بل حيث أُحْصِر.
قوله: (والحديبية خارج الحرم)، وعارضه الطحاوي عما روى عن محمد بن إسحاق: أنَّ الحُدَيْبِيَةَ بعضها من الحرم، وأنه كان يُصلي بالحرم، وإن كانت خيمتُه مضروبةً في الحِل. أقول: وما ذكره الطحاوي صوابٌ بلا مِرْية، وحقٌّ بلا فِرْية، لما أخرجه البخاري في حديث طويل في تلك القِصة: أن ناقتَه لما بلغت حدود الحرم خلأت ولم تدخلها، وعند ذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «حَبَسَها حابس الفيل» فدل على قُرْبه من الحرم جدًا. وفي السِّير أنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمحلق رأسَه فهبت ريحٌ، فطارت بأشعاره إلى الحرم، فدَلَّ هذا كله أنه كان من الحَرَمِ بمكان، لو أراد أنْ يذبحَ بالحرم لذبح فيه. وإذن لا بد عند الكل أن يذبح بالحرم دون الحل، فإنَّه كان على مَكِنةٍ من ذبحه فيه، فأيُّ حاجةٍ إلى الذبح في الحِلِّ مع القدرة في الحرم؟.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ صَدَقَةٍ} وَهيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِين
صحيح البخاري
باب الإِطْعَامُ في الفِدْيَةِ نِصْفُ صَاع
صحيح البخاري
باب النُّسُكُ شَاة(4/270)
واعلم أنَّ العبرةَ عندنا بالجنس، فإنْ كان بُرَّا فنصف صاع، وإن كان شعيرًا ونحوه فصاعٌ. واعتبر المصنف الوزنَ، فَطَرَد بالنصف في الجميع.
صحيح البخاري
(4/277)
---
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ} (البقرة: 197)
وترجمة الفسوق: ابنى حوصله سى باهر هو جانا ومنه الفِسقُ.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ} (البقرة: 197)
صحيح البخاري
كتاب جَزَاءِ الصَّيد
صحيح البخاري
باب ُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
قوله: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً}... إلخ. أجمعوا أنَّه لا فرقَ بين التعمُّد والنسيان في وجوب الجزاء، فإنَّه للمَحَل دون الفعل، فيستوي فيه الأمران، والتقييدُ به لمزيد التقبيح.
قوله: ({فَجَزَآء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ})... إلخ، والخلاف فيه مشهور. فقال الشيخان: إن المأمور به أداء القيمة، وقوله: ({مِنَ النَّعَمِ}) ليس بيانًا للجزاء، بل لما قتل، والمعنى أنَّ من قتل منكم من النَّعم فعليه جزاءٌ يماثله ويساويه في القيمة.I
وقال محمد، وآخرون: إن الأصلَ هو المِثْل الصُّوْري من الحيوانات، وحينئذٍ ({مِنَ النَّعَمِ}) بيانٌ للجزاء، وعند فقده يُعدل إلى المِثْل المعنوي، وهو القيمة.
وقوله تعالى: ({يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ}) يؤيدنا، فإنَّ القيمة هي التي تحتاج إلى حكومة ذوي عدل، وأما المِثْل صورة، فليس لهما فيه كثير دخل، ويمكن تقديره بالنظر حِسًا. فإذا كان المِثْل عندنا على المثل المعنوي، فحينئذٍ يَشتري منه هديًا إلى الكعبة إن بلغت قيمتُه، وإلا فيتصدق به. وعند محمد يرسلُ ذلك الحيوان الذي وجب عليه، وما ماثَلَه صورةً.
(4/278)
---(4/271)
قوله تعالى: ({أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ})... إلخ، ولما كان السياق في ذكر الإِحرام ومحظوراتِهِ، تبادر منه أن الحِلَّة فيه لفعل الاصطياد دون المصيد، فلا يكون دليلا للشافعية على حِلِّ جميع حيوانات البحر، كيف والله سبحانه لم يجعل كله طعامًا، بل جعل منه طعامًا، فقال: {وطعامُه حِلٌّ لكم})، فأحل الصيد، أي الاصطياد مطلقًا، ثم تَعَرض إلى ما يحل له أكله، فعبَّره عن الطعام، فدل على أن الأولى لم تكن فيها صفة الطعامية.
وبعبارة أخرى: إن الله سبحانه لما ذكر حل الاصطياد أردَفه بذكر ما يحلُ منه أكله، فجعله لنا طعامًا. وبعبارة أخرى: أنه إذا أحلَّ لهم اصطيادَ ما في البحر مطلقًا أدَّاهم ذلك إلى حِلِّ المصيد أيضًا، فأشار إلى دفع هذا التوهم، بأن ليس جميعَه حلالٌ لكم، ولكن الحلال منه ما هو طعامٌ لكم، فالاصطياد حلال مطلقًا، والحلال للأكلِ ما هو طعامُه فقط.
ألا ترى أنَّ الله حرم علينا الخبائث مطلقًا، قال تعالى: {يُحِلُّ لكم الطيبات ويحرِّمُ عليكم الخبائث}، وكذا كلّ ذي ناب، وذي مَخْلب، ولم يفصِّل بينهما بكونه بحريًا أو بريًا، مع أنَّ العلة توجبُ العمومَ، وكذا لم يتوارث إلا أكل السمك، وهو الطعام في الأمم السالفة، فقال تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ...إلخ(الأعراف: 163)، فلم يذكر غير الحوت، وهي التي كانت في غداء موسى عليه السلام حين سافر إلى حيث لقي الخضر عليه السلام. ولم يُعرف من الصحابة أكلُ شيءٍ من الحيوانات غير السمك. والعنبر كان حوتًا، كما في البخاري، وحينئذ كفانا ما أحل الله سبحانه لنا من حيوانات البر، وليست لنا حاجةٌ أنْ نأكل سباعَ البحرِ وخبائثه. وقد ذكرنا الكلام فيه في تقريرنا على الترمذي مبسوطًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا صَادَ الحَلالُ فَأَهْدَى لِلمُحْرِمِ الصَّيدَ أَكَلَه
(4/279)
---(4/272)
ذهب جماعة من السلف إلى أنه لا يحلُ لحم الصيد للمحرِمِ مطلقًا سواء صاده أو صِيْد له، أو لم يصد له. وقال الحجازيون بجوازه، بشرط ما لم يصدْ له. ويجوز عندنا ما لم يُشِرْ، أو يُعن عليه، سواء صِيْد له أو لا. والبخاري وَافقنا في المسألة، ولذا لم يخرج حديثَ الحجازيين، وأخرج حديثَ أبي قتادة، وهو حجةٌ للحنفية. وليس في طريق منه أنَّه سأله أنه صَاده بنيَّتِهم أو لا. مع أن المدارَ عند الشافعية، والظاهرَ من عادات الناس أنهم ينوون في مثله لرفقائهم أيضًا، سيما إذا كان الصيدُ كالحمار الوحشي، جسيمًا، يُشبِعُ جماعةً. ومع أنه سأله عن دلالته وإشارته، فهذا وإن كان سُكوتًا، لكنه سكوتٌ في موضع البيان، فهو بيانٌ حكمًا. أيّ بيان، ولو بسطته علمت أنَّه فوقَ البيان، فإنَّه يوجبُ السكوتَ من صاحب الشرع في موضع النطق، والعياذ بالله.
1821 - قوله: (قايل السقيا)، وهو بالإِضافة، لأن الواقعةَ عند الرواية ماضيةٌ، وإن كانت عند إخبار الصحابي مستقبلا، إلا أن الكِسَائي لا يرى الإِضافَة ضروريًا في الماضي، تمسكًا من قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ} (الكهف: 18).
صحيح البخاري
باب إِذَا رَأَى المُحْرِمُونَ صَيدًا فَضَحِكُوا فَفَطنَ الحَلال
صحيح البخاري
باب لا يُعِينُ المُحْرِمُ الحَلالَ في قَتْلِ الصَّيد
1822 - قوله: (فجعل بعضهم يضحك إلى بعض)... إلخ. وعند مسلم: «يضحك إليّ»، وهو يُشعر بدلالتهم، ولم يخرجه البخاري، ولا توجدُ مسألة الضحك في كتبنا، هل هو من الدلالة عندهم أو لا؟.
(4/280)
---(4/273)
1822 - قوله: (تركته بتعهن)، وهو قائل السقيا. ويُستفاد منه أن «تعهن» مقدَّمٌ على السُّقْيَا. وتَعْهُن موضع يَقْرُب من المدينة، والسقيا قريب من مكة. والسَّمْهُودي صرح بعكسه، وهو المعتمد في هذا الباب. فالمعنى على ما ذهب إليه السَّمْهُودي: أن أبا قَتَادة لقي رجلا من بني غِفار في جوف الليل، وكان يجيءُ من مكة، وكان في طريقه تعهن، فرأى النبي صلى الله عليه وسلّمفي ذلك الموضع، وسار إلى المدينة حتى لقي أبا قتادة في السُّقيا، فأخبره، وقال له: خبر النبي صلى الله عليه وسلّمهناك. فالقائل من القول، لا من القَيْلُولة.
(فائدة لغوية)
صحيح البخاري
باب لا يُشِيرُ المُحْرِمُ إِلَى الصَّيدِ لِكَي يَصْطَادَهُ الحَلال
والإِشارة في الحاضر، والدلالة في الغائب. قال اللغويون: الدِّلالة - بالكسر - في المعاني، والدَّلالة - بالفتح - في المحسوسات.
فزاد لفظ «الحي» إشارة إلى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمردَّه لكونه حيًا، لا لأنه علم أنه صاده له صلى الله عليه وسلّم فترك مذهب الشافعية، واختار مذهب الحنفية، ولم يُفَصِّل في النية أصلا. قلتُ: أولا إن حديث صَعْب بن جَثَّامَة فيه اختلاف، واضطرابٌ، فعند مسلمٍ أنَّه أهدِي قطعة منه، ولم يُبال به المصنف، وحمله على أنه كان حيًا. ثم لا حجةَ لهم في قوله: «إلا أنَّا حُرُمٌ»، لأنه لو كانت فيه حجة، لكان لبعض السلف الذين ذهبوا إلى حُرمة الأكل للمحرم مطلقًا بدون تفصيل في النية. ويجوز لنا أن نحمله على الكراهة تنزيهًا، أو على سد الذرائع، لئلا يجعلَه الناسُ حِيْلة للأكل.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَهْدَى لِلمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًا حَيًّا لَمْ يَقْبَل
صحيح البخاري
باب ُ ما يَقْتُلُ المُحْرِمُ مِنَ الدَّوَاب
(4/281)
---(4/274)
قال الشافعية في قتل غير مأكول اللحم من الحيوانات، وهو المَنَاط عندهم، في خمس. وقال مالك: بل المَنَاط العدو. وهو أقوى من مناط الشافعية، لأنه أخذ في النطق المؤذيات، فمعنى الإِيذاءُ فيها ظاهر، بخلاف الأكل، فلا شيء في قتل السَّبُع العادي. واقتصر الحنفية على المنصوص، ويقتل غيرُه من السِّبَاع عند العدو، وإلا لا، وسها مولانا فيض الحسن؛ فأباح قتل السَّبُعِ العادي مطلقًا، سواء عدا بالفعل أو لا. وليس هذا مذهبنا، والصواب ما قررنا.
واعلم أنه قال صاحب «الهداية» مجيبًا عن قياس الشافعية: إن القياس على الفواسق ممتَنِعٌ، لما فيه من إبطالِ العدد، فزعم بعضهم أنه اعتُبر بمفهوم العدد. قلتُ: مراده عبرة العدد في خصوص هذا الموضع لدَلالة الدلائل الخارجية، لا على طريق الضابِطَة الكلية.
1828 - قوله: (الكلب العقور)، الكلب أهلي ووحشي، وهما سواءٌ في الحكم، إلا أنَّ المرادَ منه في الحديث الوحشي، عند ابن الهمام، لأنه من الصُّيُود. وعندي المراد منه الأهلي الذي اعتاد العقر، وهو المعروف، لأن ملابسةَ المحرمِ إنما هي منه دون الوحشي، وإن كان الحكم فيهما سواء. وفي «الهداية»: لا شيء بقتل الذئب أيضًا عند أبي يوسف. قلتُ: وليس هذا تنقيحًا للمناط، بل هو إلحاقٌ له بالكلب، لأنه لا فرقَ بينهما إلا بكون الكلب أهليًا، والذئب وحشيًا، وإلا فيتشابهان صورة. وقال زُفَر: لا شيء بقتل الأسد. قلتُ: وهذا أيضًا ليس بتنقيحٍ للمناط، فإنَّ الكلبَ أُطلق على الأسد أيضًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلّم «اللهم سلط عليه كلبًا» فسلط عليه أسدًا.(1)(2).
والحاصل: أنَّا لم نعملْ بتنقيح المناطِ، واقتصرنا على عدد المنصوص.
1829 - قوله: (الغراب) وعند مسلم: «الأبقع»، كما في «شرح الوقاية». وهو عندي قيد اتفاقيٌّ، فإن الغراب من المؤذيات شرعًا، كيفما كان.
(4/282)
---(4/275)
1830 - قوله: (في غار بمنى - إلى أن قال : إذ وثبت علينا حية)... إلخ، وعند النسائي: «أن النبي صلى الله عليه وسلّمأمر بحرقِ جُحْرِها عليها»، ولذا ذهب أحمد إلى أنَّ إحراق الأشياء المؤذية جائز، وبه أفتى بجواز إحراق الزنابير وغيرها من المؤذيات.
1831 - (قال أبو عبد الله)... إلخ، وفي الفقه أن المحرمَ إذا جنى في الحرم هل تعدَّدُ تلك الجناية أو لا؟ إلا أن البخاري انتقل من مسألة الإِحرام إلى الحرم، كما تُشعر به عبارتُه.
صحيح البخاري
باب لا يُعْضَدُ شَجَرُ الحَرَم
صحيح البخاري
باب لا يُنَفَّرُ صَيدُ الحَرَم
وراجع «البحر» لشرائطه.
1832 - قوله: (إن الحرم لا يعيذ)... إلخ، وقد مر أن قول أبي شُرَيح الصحابي حجة للحنفية. وقول عمرو بن سعيد الظالم حجةٌ للشافعية.
صحيح البخاري
باب لا يَحِلُّ القِتَالُ بِمَكَّة
قوله: (ولكن جهاد ونية) أي إن مكة صارت دارَ الإِسلام، فلا هجرة منها بعد اليوم، لكن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، فإِذا دُعيتم إليه فاخرجوا بالنية الحسنة.
صحيح البخاري
باب ُ الحِجَامَةِ لِلمُحْرِم
فإِن حَلَق الشعر تصدَّقَ، وإلا لا.
صحيح البخاري
باب ُ تَزْوِيجِ المُحْرِم
ذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم جوازِ نكاح المحرم. وذهب أبو حنيفة إلى جوازِهِ، غير أنه قال: إنه لا يدخل بها ما لم يَحل. وللجمهور حديث النبي صلى الله عليه وسلّممرفوعًا، أخرجه مسلم، وغيره: «لا يَنْكِح المحرم، ولا يُنكَح».
(4/283)
---(4/276)
قلنا: إن النكاحِ كالخِطبة، فإذا لم تكن الخِطبة عندكم على معنى البطلان، فكذلك النكاح، وإنما النهيُ عنه، لأنَّ الأليقَ بشأن المحرم، أن لا يشتغِلَ بمثل هذه الأمور، ولا يقصِدُ بسفره إلا الحج. وأنت تعلَم أن النكاح لم يُشرع إلا لمقاصِدِه من الجماع وغيره، فإذا نُهي عن الجماع نُهي عن النكاح، لا لمعنى النهي فيه، بل لأنه إذا تزوج ربما أمكن أن تطمعَ نفسُه فيما نَهى الله عنه أيضًا. والمقصودُ في هذا السفر أن ينقطعَ إلى الله بشراشره، ولا تتحدثَ نفسُه بشيءٍ سوى ذكرُه، فيكون له جِوار إلى الله، وصُراخ بالتلبية لا غير، وحداثَةُ عهده بالنكاح يخالِفُ هذا التبتل.
هذا هو معنى النهي عندنا، ألا ترى أنه نُهي أن يخطِب، وأنت لا تقوله: إنه حرام، بل تحمِلُه على معنَى ما حملنا عليه الجملَة الثانية، فالقولُ بصحة الخِطبة، وبطلان النكاح فكٌّ في النظام، ونقضٌ للاتساق.
ثم نقول: إن أصلَ النزاع في تزوجه صلى الله عليه وسلّمميمونة، واختلفت فيه الروايات، ففي بعضها: «أنه تزوجها وهو حلال»، كما يرويه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان هو الرسولُ بينهما، ويزيد بن الأصم، وهو ابن أخت ميمونة. وترويه هي أيضًا. مع أنَّها صاحبةُ الواقعة. وفي بعض الروايات: «أنه تزوجها وهو محرم»، كما يرويه ابن عباس، واحتج الخصوم بالأولى، والحنفية بالثانية.
(4/284)
---(4/277)
والجواب أنَّا نُسلِّمُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمأرسلَ أبا رافع للخِطبة، ولكنَّ ميمونةَ كانت وكَّلت بأمر نكاحها عباسًا، فكان هو العاقد، وأنت تعلمُ أنَّ الرسول سفيرٌ محضٌ، بخلاف الوكيل، فإنَّه يتولَّى أمر النكاح، وبلسانه يجري العقد والفسخ، فالعبرةُ به أولى. ومن ههنا تبين أن قولَ ميمونة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمتزوَّجَها وهو حلالٌ، لا يوازي قول ابن العاقد، فإنَّها إذا فوضت أمرها إلى غيرها، لم تعلم بأمر النكاح إلا عند البناء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّمإذ ذاك حلالا.
أما ابن عباس فكان ابن العاقد، فعنده زيادةُ خبرٍ، ووثاقةٌ على ما فعله أبوه. ويروى هو أنه تزوجها وهو محرمٌ، مع أنه خِلاف أمر الحج، فلا يقول إلا أن يكون عنده علمٌ كالعيان، ولذا رجح البخاري حديثَه، ولم يخرج حديثَ الخصوم، وإن أخرجه مسلم، فالبخاري وافَقَنَا في المسألة. وهذا من دأبه القديم، أنه إذا اختارَ جانبًا ذهب يهدِر الجانب الآخر، ويجعله كأنه لم يكنْ شيئًا مذكورًا، فلا يخرجُ له حديثًا، كأنه أمرٌ لم تَرِدْ به الشريعة.
صحيح البخاري
وكذا يزيد بن الأصم لا يعارضُ حديثه حديث ابن عباس، حتى قال عمرو بن دِينار حين روى ابن شهابٍ حديثَ يزيد: أتجعلُ أعرابيًا بوالا على عقبيه، إلى ابن عباس؟، وهي خالة ابن عباس أيضًا، كذا في «الدارقطني».
(4/285)
---(4/278)
وههنا دقيقةٌ أخرى قلّ من تنبه لها، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملم يباشر العقدَ بنفسه الشريفة، بل وكل به عباسًا، احترازًا عن صورة العقد بنفسه، وهو محرم، فأحبَّ أن يعقِدَ غيره، لئلا يكون ناكحًا صورةً، فاحترز عنها بقدر الإِمكان، فسبحان الله هذه مدارك الأنبياء عليهم السلام، ولا ينكشفُ الغِطاء عن وجه المقصود ما لم يتبين أنَّ تزوُّجه كان ذاهبًا إلى مكة أو آيبًا منها، فإن كان الأول، تعيَّن كونه في الإِحرام، وإن كان الثاني فلا يكون إلا وهو حلال. وقد ذكر الطحاوي في «مشكلة» في تحرير القِصة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمأرسل أبا رافع إلى ميمونة للخِطبة، وكانت بمكة، فوكلت أمرها إلى عباس، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن المدينة، وخرج عباس من مكة ليستقبلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فتلاقيا بسَرِفٍ، فنكحها إياه في سرف، كما هو عند أبي داود.
وإن كان يخالفه مع عند مالك في «موطئه»، ففيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعث أبا رافع مولاه، ورجلا من الأنصار، فزوَّجاه ميمونةَ بنت الحارث، ورسول الله صلى الله عليه وسلّمبالمدينة، قبل أنْ يخرج». اه- . أي إلى مكة لعمرة القضاء، إلا أن الأكثر والأشهر كما عند أبي داود.
(4/286)
---(4/279)
وسَرِف موضع بعشرة أميال من مكة. وكان ذلك في عمرة القضاء، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمقاضاهم في عمرة الحُدَيْبِيَة أنه يعتمرُ من قابل، ويقيمُ بها ثلاثًا، فما يدل على أنَّ أمر تزوُّجِها بسَرِفٍ إنما كان حين قدومِهِ إلى مكة، ما أخرجه الطحاوي عن ابن عباس: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمتزوج ميمونةَ بنت الحارث، وهو حرام، فأقام بمكة ثلاثًا»، فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال: «فما عليكم لو تركتموني فعرَّستُ بين أظهركم، فصنعنا لكم طعامًا، فحضرتموه»، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا، فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلّم وخرج بميمونة حتى عرس بسَرِف سرف. اه- .
ففيه دليل على أنَّه قد كان تزوجها من قبلُ حين دخل مكة، ولذا دَعاهم إلى الوليمة، ولما لم يتركوه إلا أن يخرج، نزل بسَرِف، وأولم بها، وكذا يدل عليه ما عند الترمذي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمتزوجها وهو حلالٌ، وبنى بها حلالا. وماتت بسَرِف، ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها» اه- .
صحيح البخاري
وتعجب الراوي على كون الأمور الثلاثة في موضع واحد. قال مولانا شيخ الهند: وإنَّما يصحُّ التعجب إذا كانت تلك الوقائعُ في أسفارٍ كذلك، فالمعنى أنه تزوجها وهو ذاهب إلى مكة، وبنى بها وهو راجع إلى المدينة، ثم ماتت بها في سَفْرةٍ أخرى، وهذا مما يتعجب منه لا محالة، فإِذا ثبت أنَّه تزوجها في سفره إلى مكة، ثبتَ أنه تزوجها وهو محرمٌ، لأنك قد علمت أن سَرِفَ قريبٌ من مكة، وميقاتُ أهل المدينة ذو الحليفة، فلا بد أن يكون محرمًا عند سَرِف، وإلا يلزمُ مجاوزةُ الميقات بدون إحرام.
(4/287)
---(4/280)
فإِن قلت: فكيف بأمر أبي قتادة؟ فإنه اصطاد حِمارًا وحشيًا، وقد كان دَخَلَ الميقاتَ، ولذا كان أصحابه محرمين؟ قلنا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمبعثه لحاجة، فذهب إلى طريقٍ غير طريقهم، ولم يتفق له المرور بميقاتهم، فلذا كان هو حلالا، وأصحابه محرمين.
وما قالوا: إن المواقيتَ لم تكن تعينت بعد، فلا يلزمُ مرورُه منها بدون إحرام، فذاك مردودٌ بحديث البخاري، فإِنه يدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملما خرج لعمرة الحُدَيْبِيَة السنة السادسة، أحرمَ من ذي الحُلَيْفة، فدل على تَعيُّنِ الميقات. وإذا ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمتزوجها وهو محرم، ثبت أنه لا بأس بتزوج المحرم، وهذا ما أردنا. وتأوَّل ابن حِبان حديثَ ابن عباس، فقال: إن المحرم بمعنى الداخل في الحَرَمِ، كقولهم: أعرق وأنجد، وكقول الشاعر:
*قتلوا ابنَ عفانَ الخليفةَ مُحرِمًا
** فدعا، فلم أرَ مِثْلَهُ مخْذَولا
ومعلوم أنه لم يكن إذ ذاك محرِمًا من الإِحرام، كيف وأنه كان بالمدينة، فمعناه أنه كان داخل الحرم. قلتُ: وردَّه الأَصمعي، وهو عند الرشيد، كما حكاه الخطيب في «تاريخه»، وقال: أين أنت من مرادِ الشاعر، ليس فيه المحرمُ على ما أردت، بل معناه ذي حُرمة، على حد قوله:
*قتلوا كِسْرى بليلٍ مُحْرِمًا،
** فتولَّى، ولم يمتع بالكَفَنِ
والأَصمعي هو عند الملك اللغوي، من رواة مسلم. ومما يدلك على أنَّ المحرمَ ليس بمعنى الداخل في الحرم ما عند مسلم، قال يزيد بن الأصم: «نكحها النبيُّ صلى الله عليه وسلّموهو حلال». وقال ابن عباس: «إنه نكحها وهو محرم»، فدل التقابل على أن المرادَ من الإِحرام ضد الحلال، كيف وقد صح عن عائشة أنَّه نكحها وهو محرم، ونحوه رُوي عن أبي هريرة، فكيف يمكنُ أنْ يتفقَ هؤلاء كلهم على اللغة العربية؟ نعم، للمجادِل مجال وسيعٌ.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُنْهى مِنَ الطِّيبِ لِلمُحْرِمِ وَالمُحْرِمَة
(4/288)
---
صحيح البخاري(4/281)
باب ُ الاِغْتِسَالِ لِلمُحْرِم
وقد علمت أنَّ الطيبَ قبل الإِحرام جائزٌ عندنا، وإن بقي ريحُه وجِرمُه، وكذا للتداوي بعد الإِحرام، فاستقام التبعيض على طريقتي أيضًا.
1838 - قوله: (ولا تنتقب المرأة)... إلخ، اختُلف في رفع هذه الجملة ووقْفِها، ولم يقض المصنفُ فيه بشيء. ويمكن أن يكون مال إلى الوقف. ولنا أن نقول: إن النِّقَاب إذا كان مجافيًا عن الوجه، فلا بأس به عندنا أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ لُبْسِ الخُفَّينِ لِلمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَين
وفي بعض الروايات: «وليقلعهما أسفل من الكعبين»، فهو عندنا على الوجوب، وعند أحمد على الاستحباب.
صحيح البخاري
باب إِذَا لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ فَليَلبَسِ السَّرَاوِيل
1843 - قوله: (ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل)... إلخ، قال الطحاوي: ويلبَسُه بعد الفتق، ولا جزاء، وإلا فعليه الجزاء.
صحيح البخاري
باب ُ لُبْسِ السِّلاحِ لِلمُحْرِم
ولم يذكر له حكمٌ في كتبنا، وجوزه المصنِّفُ مطلقًا. قلتُ: وينبغي فيه التفصيل بين ما غطَّى الرأس، وبين ما لم يغطه، كما في اللباس.
1844 - قوله: (حتى قاضاهم)، به استدل الشافعية على أنَّ عمرةَ القضاءِ بمعنى الصلح، لا بالمعنى المقابل للأداء.
قد علمت ما فيه من المذاهب، وكذا الجواب عن استدلال الخصوم. ولعل المصنفَ اختار مذهب الشافعية. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلّمفي فتح مكة: «ولا يحل لأحدٍ بعدي»... إلخ، فهو عندي في القتالِ والدخولِ بلا إحرام كليهما، فإنَّه دخلها، وعلى رأسه المغفر لأنه لم يكن محرمًا يومئذٍ، ولذا أعلن أنه من خصائصه في ذلك اليوم، ولا يحل لأحد بعده أن يقاتل بها. ويدخلُ فيه دخوله بدون إحرام عندي، فكان الأمران خاصةً له في ذلك اليوم.
صحيح البخاري
(4/289)
---
باب ُ دُخُولِ الحَرَمِ وَمَكَّةَ بغَيرِ إِحْرَام(4/282)
1845 - قوله: (من أراد الحج والعمرة)... إلخ، قلتُ: ولما كان الحجُّ والعمرةُ واجبين في العُمْر مرةً، ولم يكن لهما وقتٌ معينٌ في هذه السنة، أو هذه السنة، ناسبَ لفظ الإِرادة، فلا يدل على عدم وجوب الحج والعمرة، بل الإِرادةُ بحَسَب الانتشار في زمن أدائهما. فمن أراد أن يحج في هذا العام حجَّ، ومن أراد أن يحج من قابلٍ، فله في ذلك أيضًا سَعة. وحينئذ لَطُف فيه لفظ الإِرادة جدًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَحْرَمَ جاهلا وَعَلَيهِ قَمِيص
والمصنف أباح نَزْعَها ولو بالتغطية، واعتبرَ الجهلَ عُذرًا في مواضع عديدة. وعندنا يَنزِعُها بالشق. قلتُ: وإن اعتبرَ المصنِّفُ الجهلَ والنِسيان عذرًا في تلك المسألة، فما يقول في قتلِ الصيد؟ فإنَّ الجمهور اتفقوا فيه على وجوب الجزاء مطلقًا، والكلام فيه مر منا مبسوطًا في العلم، فراجعه.
صحيح البخاري
باب المُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ، وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الحَج
صحيح البخاري
باب ُ سُنَّةِ المُحْرِمِ إِذَا مات
وعندنا تفصيلٌ بالوصية وعدمها، فإنْ أوصى يجبُ على الورثة أنْ يحجُّوا عنه من ثُلُثِ ماله، وإلا لا.
صحيح البخاري
باب ُ الحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنِ المَيِّتِ، وَالرَّجُلِ يَحُجُّ عَنِ المَرْأَة
فيحج عنه الورثة فيما إذا أوصى وترك مالا. ومعنى النذر فيما إذا نذر به الميت في حياته، فلم يقدِر على أدائه حتى مات، فقضى عنه آخر.
قوله: (والرجل يحج عن المرأة)... إلخ، يعني أن الرجل يحج عن المرأة وبالعكس. ولا يُشترط أنْ يحجَّ عن الرجل الرجل، وعن المرأة المرأة، مع ثبوت الفرق بين محظورات إحراميه.
(4/290)
---(4/283)
1852 - قوله: (حجي عنها)... إلخ، واعلم أنَّ العبادات إما بدنيةٌ مَحضة، أو مالية صِرفة، أو ذو حظ من الطرفين: فالأول: كالصلاة والصوم، ولا تجري فيها النيابةُ مطلقًا، لأن المقصود منها إتعابُ النفس، وذا لا يحصل إلا بفعله. والثاني: كالزكاة، وتحري فيها النيابة مطلقًا، لحصول المقصودِ، وهو أداء الحق إلى مستحقِّه. والثالث: كالحج، وتجري فيها النيابة عند العذر فقط.
صحيح البخاري
باب ُ الحَجِّ عَمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَة
وهذه مسألة أخرى، ويُقال لها: مسألة المعضوب. قيل: إن المعضوب إذا لم يقدر على ركوبِ الراحلة، فمن أين جاء الوجوب؟ فقيل: ليس عليه نفس الوجوب. وقيل: بل وجوب الأداء ساقطٌ عنه. والمسألة دائرةٌ بين الإِمام وصاحبيه وتعرض إليه الشيخ ابن الهمام في «الفتح».
صحيح البخاري
باب ُ حَجِّ المَرْأَةِ عَنِ الرَّجُل
وإنما تعرَّض إليه البخاري بخصوصِهِ لمكان النقصان في حج المرأة من حيث عدم جهرها بالتلبية، وعدم الرَّمَل في الطواف، والسعي على هيئتها فهل تنوبُ عن الرجل مع هذا النقصان؟.
صحيح البخاري
باب ُ حَجِّ الصِّبْيَان
واعلم أنَّ عبادات الصبيان كلها معتبرةٌ عندنا، نعم تقع نفلا عنه وعليه حجَّةٌ ثانية بعد البلوغ، ولا ينوب حجُّه في صِباهُ عن حَجَّةِ الإِسلام. وسها فيه النووي حيث نسب إلينا بطلانَ حجه.
صحيح البخاري
باب ُ حَجِّ النِّسَاء
(4/291)
---(4/284)
ولم يأذن عمر لأمهات المؤمنين أن يحججنَ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويخرجن من البيوت، لكون حِجَابهنَّ حجابَ الشخص، مع أنهنَّ قد فرغن عنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم ثم لما أسنَّ وقعَ رأيُه أن يُجيزهنَّ بالحج، فأذِن لهنَّ، وبعث معهن عبد الرحمن، وعثمان ليكون أحدهما قُدَّامهن، والآخر خلفهن كرامة لهنَّ، وإظهارًا لشوكة حَرَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد استفدت من بعض الحكايات أنَّ الصحابة لم يكونوا يعملون بالاجتهاد في مقابلة خليفة الإِسلام، فهذه عائشة التي ردت على كثير من الصحابة رضي الله عنهم، لم تقل لعمر شيئًا. وفي النقول أنها كانت تأمرُ السائل أنْ يذهبَ إلى عثمان، فيستفسره عما جاء به إليها.
1862 - قوله: (لا تسافر المرأة)، وقد مر مني أنَّ الحديث ورد في الأسفار العامة، والمحدثون يخرجُونه في سفر الحج.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ نَذَرَ المَشْيَ إِلَى الكَعْبَة
قال الحنفية: إن من نذر المشي إلى الكعبة يلزمُه حجٌ أو عمرة، لاشتهاره في العرف لأحدهما، فإنَّ المشي ليس عبادةً مقصودةً، فإن ركبَ فيه يلزمه الجزاءُ لإِدخال النقيصَة في حجه. وذكر الطحاوي أنَّ عليه الهَدْي لتركِ المشي، والكفارة للحنثِ، واستدل عليه بالرواية، ولم يذكره غيره.
صحيح البخاري
كتاب فَضَائِلِ المَدِينَة
صحيح البخاري
باب ُ حَرَمِ المَدِينَة
(4/292)
---
وفي كتب الحنفية، كما في «الدر المختار»: أن لا حَرَمَ للمدينة، مع ثبوته في الحديث ثبوتًا لا مردَّ له. وعندي هو قصورٌ في التعبير فقط، والأولى أن يقال: إن لها حرمًا، ولكن لا كحرم مكة، فإنَّ له أحكامًا ليست لحرم المدينة. ومن ادّعى اتحاد الأحكام بين الحرمين يحتجُ عليه بالتعامل، فيا أسفي على تعبيراتهم تلك، ولو أصلحوها لم يرد عليهم ما أوردَ عليهم الخصوم، فإنَّ الحق قد يعتريه سُوءُ تعبير، فإنَّ التعاملَ لم يُجر إيجابَ الجزاء على من قطع أشجار الحرم.(4/285)
كيف وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبقطعِ الأشجار عند بناء مسجده المبارك بنفسه، وإنما نهى عن قطعِ الأشجار التي منها بهاء الحرم وخضرته وزهرته. وما عند مسلم: أن سعد بن أبي وقاص أخذ ثياب غلامٍ رآه يقطعُ شجر الحرم، وأبى أنْ يردَّها على مولاه، وقال: إنها طعمةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فليس من باب إيجاب قيمته أصلا، بل هو تعزيزٌ مالي فقط، ألا ترى أنه لم يذهب أحد في حرم مكة إلى أنَّ من قطعَ شجرةً تُسلب عنه ثيابه، فكيف بحرمِ المدينة؟ وإنما الواجبُ عليه قيمته لا غير، فهذا باب آخر.
ولعل المصنِّفَ أشار إلى الفرق بين الحرمين، كما قلنا، ولذا أخرج قطعَ النَّخْل بعد النهي عن قطع الشجر، ليدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمإنما أمر بقطعِ النخل لمكان الضرورة، فهو جائزٌ إذا دَعَته حاجةٌ ولا جزاء. وإذن لا يكون معنى النهي إلا أن يذهبَ القطعُ بزينة الحرم. ولو كان النهي لمعنى الحرمِ لاستوى الأمر في الحاجة وغيرها. ألا ترى أنه لا يجوزُ قطع شجر الحرم لأجل الضرورة أيضًا، ومن قطعه وجبَ عليه الجزاءُ، ولا كذلك حرمُ المدينة، فالنهي فيه لمعنى الزينة إن شاء الله تعالى.
1870 - قوله: (ما بين عائر إلى كذا)، وفي لفظ: «عير، وإلى كذا» أي إلى ثَوْر. قال صاحب «القاموس»: إن ثور جبلٌ بمكة، فكنت متحيرًا فيه، إذ دلني أعرابي أنه جبلٌ خلف أحد بالمدينة أيضًا.
(4/293)
---
1870 - قوله: (من أحدث فيها حدثًا)... إلخ، أي الجبايات التي تجبي إلى الإِمام، وهي المحاصيل، على نحو قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ}... الآية )، وفسر الإِلحاد بالظلم. وأما قوله تعالى:{إن الذين يلحدون في أسمائه لا يخفون علينا}، )، فالمراد من الإِلحاد في الأسماء، إبقاءُ الألفاظ بحالها مع التحريف في معانيها، وحقائقها، كما يفعله القادياني الشقي اللعين.
صحيح البخاري(4/286)
1870 - قوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) قيل في تفسيره: فريضةٌ ولا نافلةٌ. وقيل: نقدٌ ولا عَرَضٌ، والأول أشهر. وعندي هو محاورةٌ لا تنكشِفُ حقيقتُها ما لم يراجع إلى كلام الجاهلية.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ المَدِينَةِ، وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاس
صحيح البخاري
باب المَدِينَةُ طَابَة
صحيح البخاري
باب ُ لابَتَي المَدِينَة
فيه عموم غير مقصود، فلا يردُ أنَّ بعضَ الفُساق كانوا فيها إلى وفاتهم.
1871 - قوله: (يقولون: يثرب)، وقد مر الكلام فيه. وأما قوله تعالى: {يأَهْلَ .يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} فهو حكاية عن قولهم، لا إطلاقٌ من جهتِهِ.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ رَغِبَ عَنِ المَدِينَة
قوله: (العواف) هي الحيوانات التي تنزل إلى البلد تطلب الرزق.
1874 - قوله: (فيجد أنها وحوش)، وكنا نفهمُ أولا أن المرادَ منه خرابُ المدينة حتى تسكُنَ بها الوحوش، ثم بدا أنَّ المعنى أنَّ الغنم تصيرُ وحُوشًا، كوحوش الحيوانات، فلا تستأنِسُ بأهلها.
واعلم أني أجد كثيرًا من الصحابة انتشروا في الأرض، ولما حضر أجلهم رجعوا إلى المدينة وماتوا بها.
صحيح البخاري
باب الإِيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى المَدِينَة
صحيح البخاري
باب ُ إِثْمِ مَنْ كادَ أَهْلَ المَدِينَة
(4/294)
---
صحيح البخاري
باب ُ آطَامِ المَدِينَة
ولم أزل أتفكر ما وجْهُ الشَّبَه بين الدين والحية حتى شبه بها، فرأيت في «حياة الحيوان» أنَّ من خصائص الحيةِ الرجوعَ إلى جُحْرِها، ولو قطعت الصحاري والبراري، وهذا هو حال الدين، يأرز إلى المدينة، مع انتشاره بين خوافق السماء والأرض.
صحيح البخاري
باب لا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ المَدِينَة
صحيح البخاري
باب المَدِينَةُ تَنْفِي الخَبَث
صحيح البخاري
باب(4/287)
1879 - قوله: (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال)... إلخ. واعلم أنَّ في بعض الروايات: «ولا الطاعون إن شاء الله تعالى»، فكلمة الاستثناء تتعلق بالطاعون فقط، لا بالدجال، فإنَّ الشقي الدجال لم يدخلها، ولن يدخلَ حتى يلجَ الجملُ في سَمِّ الخِيَاط، فإن اطلعتَ في لفظ على كلمة الاستثناء مع عدم دخول الدَّجال أيضًا، فاعددْه من تقديم الرواة، وتأخيرهم، وهي بالحقيقة بالطاعون.
1879 - قوله: (لها يومئذ سبعة أبواب)، والمدينة لم يكن لها سورٌ في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمحتى بناه السلاطين، وهي يومئذٍ لها سبعة أبواب، كما أخبر بها الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلّم
1882 - قوله: (رجل هو خير الناس) قال المحدثون: إنه الخَضِرُ عليه السلام. وعندي هو رجل آخر من الصالحين، ولي عليه قرائن.
1884 - قوله: (فنزلت{فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَفِقِينَ فِئَتَيْنِ})... إلخ، واعلم أن قِصة نزول الآية قِصةٌ على حِدَة، ليس فيها قول النبي صلى الله عليه وسلّم «إنها تنفي الدجال»... إلخ؛ والراوي جَمَعَ بينهما، فأوهم نفي هؤلاء المنافقين عنها، مع أن كثيرًا منهم ماتوا بالمدينة.
(4/295)
---
والتفصيلُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملما خرج لغزوة أحدٍ رجعَ أناس ممن صاحبوه، وكانوا منافقين، فاختَلَف الصحابة فيهم، فقال بعضهم: نقتلهم، وقال آخرون: لا نقتلهم، فنزلت الآية: {فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَفِقِينَ}... إلخ، فالقِصة كانت هذه، ولم يقل النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفيها: «المدينة تنفي»... إلخ، مع أن الراوي ذكره فيها، فأوهم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأراد منه أنَّ المدينة لا تترك هؤلاء أن يسكنوا بالمدينة، بل تنفيهم، مع أن كثيرًا منهم ماتوا بها.
وحاصل الجواب: أن هذا القول لم يصدر منه في تلك القِصة، وفي هؤلاء المنافقين، وإنما جمع الراوي بينهما من تِلقَائه، فاعلمه.
صحيح البخاري(4/288)
باب ُ كَرَاهِيَةِ النبي صلى الله عليه وسلّمأَنْ تُعْرَى المَدِينَة
صحيح البخاري
باب
* كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِهِ ** وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
* أَلا لَيتَ شِعْرِي هَل أَبِيتَنَّ لَيلَةً ** بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
* وَهَل أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ** وَهَل يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
1889 - قوله: (يرفع عقيرته)... إلخ، وهي في الأصل صوت الجرح، ثم استعمل في صوت الجريح، ثم في الصوت مطلقًا.
1889 - قوله: (شامة، وطفيل)، وفي كتب «غريب الحديث» إنَّا كُنَّا نراهما جَبَلين، ثم تبين أنهما عينان، قاله الخَطَّابي.
1889 - قوله: (ماء آجنا) أي ماء متغيرًا متعفنًا، فدل على أنهم أيضًا كانوا عارفين بأصول الصحة.
1890 - قوله: (عن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلّم.
هذا آخر كتاب الحج،
والحمد لله على ما أنعم
صحيح البخاري
كتاب الصَّوْم
صحيح البخاري
باب ُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَان
(4/296)
---
ذهب عامةُ المفسِّرين إلى أن تلك الآيات نزلت في شهر رمضان، وعندي لا مِسَاسَ لها برمضان، وإنما هي في الأيام البِيض وعَاشُورَاء، وكانت فريضةً قبل رَمَضَان. ولذا قال: {أَيَّامًا مَّعْدُودتٍ} فتعبيرُه بالأيام أدَلُّ وأصْدَقُ على تلك الأيام من رمضان، كما يَشْهَدُ به الذَّوْقُ الصائبُ. {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) أي من لم يَصُمْ تلك الأيام لمرضٍ أو سَفَر، فعليه أن يَقْضِيها من غير تلك الأيام. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. (البقرة: 184)، وفي قراءة «يُطوّقُونَه» وهذا الحكم أيضًا يتعلَّق بالأيام البِيض، ولا تعلُّق له برمضان.(4/289)
يدُلُّ عليه ما أخرجه أبو داود في حديث أحوال الصلاة والصيام عن مُعَاذ، قال: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يَصُومُ ثلاثةَ أيامٍ من كل شهرٍ، ويَصُومُ يوم عَاشُورَاء، فَأنْزَل الله: {كُتِبَ عليكمُ الصِّيَامُ كما كُتِبَ على الذين من قَبْلِكُم لعلَّكم تَتَّقُون أيامًا مَعْدُودَات فَمَنْ كان منكم مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أيام أُخَرَ وعلى الذين يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، فكان من شَاءَ أن يَصُوم صام، ومن شاء أن يُفْطِرَ ويُطْعِمَ كل يومٍ مسكينًا أَجْزَأَهُ ذلك، فهذا حول، فأنزل الله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185) فَثَبَتَ الصيامُ على من ثَبَتَ الشهر، وعلى المسافر أن يقضي، وثَبَتَ الطعامُ للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يستطيعان الصوم». اه- .
(4/297)
---
فهذا نصٌّ في أن تلك الآيات في حقِّ الأيام البيض، وإنما افْتُرِضَ صيامُ رمضان من قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ}.. إلخ. ومن ههنا ظَهَرَ وجهُ قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} فإن ذلك الصيام كان في الأمم السالفة أيضًا. بخلاف رمضان. وحينئذٍ لا حاجةَ إلى التأويل في آية الفِدَا، كما قال قائلٌ، بحذف حرف النفي. أي معناه: لا يُطِيقُونَه.(4/290)
قلتُ: وهو سفسطةٌ، فإنه يُوجِبَ رفع الأمان عن الكلام، حيث يتعذَّر الفرق بين المُثْبَت والمنفي، أو يتعسَّر، فإنَّا لا ندري أَمُثْبَتٌ هو أم مَنْفي؟ فإذا حَكَمْنا بكونه مُثْبَتَا ربما أمكن أن يكون مَنْفِيَّا بتقدير «لا» فإذن لا يمكن الجزم بكونه مُثْبَتَا أو مَنْفِيَّا، وهو كما ترى. وحاشا النحاة أن يتكلَّموا بمثله، وإنما ذَكَرُوا تقدير حرف النفي فيما إذا كان جواب القَسَم فعلا مضارعًا مُثْبَتَا، ولا يكون هناك من طلائع القَسَم، كما في قوله تعالى: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (يوسف: 85) أي لا تَفْتَأُ، وليس ههنا شيءٌ منهما. ثم هذا أيضًا ليس بمرضيَ عندي، وإنما يُوخَذُ النفيُ في الصورة المذكورة من صورة الإِكفار، لا أنها محذوفةٌ، فيَذْكُرُون الفِعْلَ مُثْبَتًا، ويُؤْخَذُ منه النفيُ بصورة الإِكفار، فإن المرادَ منه النفيُ.
صحيح البخاري
(4/298)
---
ولو تنبَّه النحاةُ على محاورة اللُّغات الأخرى لتركوه على أصله، ولم يَذْهَبُوا إلى التقدير. فإن التقديرَ بمثله يَمْحَقُ بهاء الكلام ورَوَاءَه لا سِيَّما في قوله: {يُطِيقُونَهُ} فإنه مُسْتَبْشَعٌ جدًا. ثم إنهم تعلَّموا هذا الجواب من «الكشاف»، ولم يُدْرِكُوا مراده، فحرَّفوه إلى يا ترى. قال الزَّمَخْشَرِيُّ ما حاصله: إن فِعْلَ الإِطاقة بمادته لا يُسْتَعْمَلُ إلا فيما يُتَعَذَّرُ أو يُتَعَسَّرُ، فإنك تقول: إني أُطِيقُ أن أَحْمِلَ هذا الحجر الثقيل، أو أن أَسْرُدَ في الصيام، أو أن أُصَلِّي الليلة كلَّها مثلا. ولا تقول أبدًا إنك تُطِيقَ أن ترفعَ اللُّقمةَ إلى فِيكَ، أو هذا القلم إلى أُذُنِكَ، أو نحو ذلك مما لا عُسْرَ فيه.(4/291)
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن الله تعالى لمّا ذكر الذين يُطِيقُون الصيامَ، عَلِمْنَا أنهم هم المعذورون الذين تعذَّر عليهم الصيام، أو تعسَّر إلا بشِقِّ الأَنْفُس، وكأنهم سُلِبَتْ عنهم الطاقة. فنفي الطاقة مرادٌ بهذا الطريق، لا أنه ذهب إلى تقدير حرف النفي، فإنه لا يقوله عاقلٌ، فكيف بمن كان فردًا في البلاغة. وإذن، حاصل الآية: أن الفِدْية أيضًا كانت مشروعةً يومئذٍ، بشرط أن يَشُقَّ عليهم صيامها، فكانت الفِدْيةُ في تلك الأيام، فنقلُوها إلى رمضان، ثم تأوَّلُوا بكلِّ نحوٍ. نعم يُخَالِفُهُ ما عند البخاريِّ عن سَلَمَة بن الأكوع، فإنه يَدُلُّ على أن الفِدْيَة كانت في رمضان في أول الإِسلام، ثم نُسِخَت.
(4/299)
---(4/292)
قلتُ: إن وقع التعارُض بين مُعَاذ، وسَلَمَة، ولم يرتفع، فاتباعُ مُعَاذ أولى، فإنه كان أعلم بالحلال والحرام بنصِّ الحديث. ولا نُبَالي في كون حديثه في أبي داود بعد صحته، وكون حديث سَلَمَة عند البخاريِّ، وإنما يَنْحَصِرُ الترجيح باعتبار الأسانيد فقط عند من لا يُرَاعي الوجوه الأُخر. وقد نبَّهناك فيما أسلفنا أن الأسانيدَ طرقٌ لتمييز كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلّممن غيره فقط، ولولا ذلك لَمَا عَبِأْنَا بها، فالطريقُ أن لا يَعَضَّ بها حتى تُفْضِي إلى ترك كثيرٍ من الأحكام. فإذا صَحَّ الحديث، فَلْيَضَعْهُ على الرأس والعين، ولْيَعْمَلْ به على أنه يمكن تأويله أيضًا، بأن يُقَال: إنه كان ذلك حكم رمضان قبل الهجرة وبعدها بنحو سنة ونصف، فلمَّا فُرِضَ رمضان في الثانية، ونزل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ}... إلخ، نُسِخَ ذلك. لا يُقَال: ينبغي التناسُب بين العِلَّة والحكم، مع أن الفِدْيَة لا تَرْتَبِطُ بوصف الطاقة، لأنا نقولُ: معناه {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ولم يَصُومُوا {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وإنما حذف المعطوف لكونه غير مرضيَ عند الله، فإن المطلوبَ هو الصيام، فإذا كِرِهَهُ صَفَحَ عن ذكره أيضًا.
صحيح البخاري
(4/300)
---(4/293)
قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} (البقرة: 184)، أي فمن زَادَ في الطعام على قدر الواجب، فله في ذلك فضلٌ. إلا أن الفضلَ كلَّ الفضل في الصوم، وإن جازت الفِدْيَةُ أيضًا، ولذا قال: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ؛ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى قوله: {فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 184). ومن ههنا بُدِيء ذِكرُ رمضان وافتراضه، كما علمت {ومَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185) كرَّره لئلا يُتَوَهَّم نسخ الحكم بالقضاء بنسخ الأيام البِيضَ، فصرَّحَ بأن المريضَ والمسافرَ على رخصتهما كما كانا قبل افتراض رمضان. ولم يَذْكُر الافتداءَ في رمضانَ، لأنه كان حين كانت الفريضةُ الأيامَ البِيضِ، وبهذا اندفع التكرارُ المُسْتَبْشَعُ في نظامٍ واحدٍ.
واعلم أن النَّسْخَ عند السلف أكثرُ كثيرٍ، وذلك لأنهم أَطْلَقُوه على تقييد المُطْلَقِ، وتخصيص العامِّ أيضًا، فَكثر النسخُ عندهم لا مَحَالة. ثم جاء المتأخِّرون من الأصوليين فنقَّحُوه، وقالوا: إن النَّسْخَ عبارةٌ عن رفع المشروعية. فَقَلَّ عندهم بالنسبة إلى السلف، حتى إن السيوطي صرَّحَ في «الإِتقان» بنسخ إحدى وعشرين آية فقط، ثم جاء قدوة المُحَقِّقِينَ الشاه ولي الله، فحقَّقه في ستة أياتٍ فقط، وفسَّر سائر الآيات بحيث صارت مُحْكَمَة، ولم تَفْتَقِرْ إلى القول بالنسخ.
(4/301)
---(4/294)
ومن ههنا فَلْيُفْهَم معنى التفسير بالرأي. أَما رأيتَ أنهم كيف فسَّرُوها من آرائهم، حتى إن بعضَهم جَعَلُوها منسوخةً، وآخرون مُحْكَمَةً، ثم لا يكون هذا عندهم تفسيرًا بالرأي. فالذي يُمْكِنُ في بيان مراده - وإن لم يَكُنْ وافيًا - هو أن تحريفَ الكَلِم عن مواضعها. وبيانَ مرادها حتى يُوجِبَ تغييرًا لعقيدة السلف، هو الذي يُعَبَّر عنه بالتفسير بالرأي. وإلا فإن كُنْتَ عَارِفًا باللغة. وبالأدوات التي لا بُدَّ منها لبيان مراد القرآن، فَلَكَ أن تفسِّره بما رَأَيْتَ، ما لم يُؤَدِّ إلى تغييرٍ في عقيدةٍ، أو تبديلٍ في مسألةٍ مُسَلَّمةٍ.
هذا، فإذا رأيتَ أنهم سَلَكوا هذا المسلك أنكرتَ النَّسْخَ رأسًا. وادَّعَيْتَ أن النَّسْخَ لم يَرِدْ في القرآن رأسًا - أعني بالنسخ: كون الآيةُ منسوخةً في جميع ما حَوَتْهُ بحيث لا تَبْقَى معمولةً في جزئيَ من جزئياتها - فذلك عندي غير واقعٍ. وما من أيةٍ مَنْسُوخَة إلا وهي معمولةٌ بوجهٍ من الوجوه، وجهةٍ من الجهات، وإليه أشار مُعَاذ في آخر حديثه المارِّ بقوله: «وثَبَتَ الطعامُ في الشيخ الكبير... إلخ، أي إن حكم الفِدْيَة في حقِّ هؤلاء إنما هو تحت هذه الآية. قلتُ: والفِدْيَةُ عندنا باقيةٌ في ست مسائل، ذكرها الفقهاءُ.
صحيح البخاري
وبالجملة إن جنسَ الفِدْيَة لم يُنْسَخْ بالكُلِّية، فهي باقيةٌ إلى الآن في عِدَّة مسائل. وليس لها مَأْخَذٌ عندي غير تلك الآية، فدَلَّ على أنها لم تُنْسَخْ، بمعنى عدم بقاء حكمها في محلَ ونحوه.
(4/302)
---(4/295)
وقد فسَّرْنَا بقيةَ الآيات أيضًا: {وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ...إلخ،(البقرة: 185) إشارة إلى تكبيرات العيدين. ونقل الطحاويُّ عن السلف: أنهم كانوا يَجْهَرُون بالتكبير في عيد الفِطْرِ أيضًا، وإن لم يكن في كُتُب الفِقْه. فاحْتَوَتِ الآيةُ على ما فسَّرْنَاها: على الحكم في الأيام المعدودات، وبيان الرُّخْصَةِ فيها بالفِدْيَةِ، ومسألةِ المريض والمسافر، وافتراضِ رمضان، وبقاءِ الرُّخْصَةِ للمريض والمسافر، مع عدم بقاء الفِدْيَةِ للمُطِيقِ، وسُنَّةِ التكبير عند الذهاب إلى المُصلَّى، أو مطلقًا، فاحفظه. فإن المُفَسِّرين أطالوا الكلامَ فيها، فإنه أَشْكَلَ عليهم حكمُ الفِدَاء للمُطِيقِ، وتكرار الآية، فاضْطَرُّوا إلى التوجيهات. وفيما قرَّرنا لك غُنْيَةٌ عنها.
1891 - قوله: (فأَخْبَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّمشرائعَ الإِسْلامِ)، قد مرَّ الكلامُ فيه في «كتاب الإِيمان» مبسوطًا، فراجعه.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الصَّوْم
(4/303)
---(4/296)
1894 - قوله: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ)، ويتَّضِحُ مراده مما رواه ابن حِبَّان في «صحيحه»، وأحمد في «مسنده»: «أن الميتَ إذا أُقْبِرَ في حُفْرَته، تأتيه الصلاةُ عن يمينه، والصيامُ عن شماله، والقرآنُ من قِبَل رأسه، والصدقةُ من رِجْلَيْهِ...» إلخ - بالمعنى . وحينئذٍ تبيَّن أن كونه جُنَّةً ليس بمعنى المحافظ فقط، فإن الصلاة أيضًا تَحْفَظه، فلم تظهَرْ فيه خاصةً. بل بمعنى أنه يكون وِقايةً له من العذاب، ويكون في شماله، كما أن الجُنَّةَ تكون فيها، فكأنه يتمثَّل جُنَّةً له. وجعله عند مسلم: «ضياء»، فلم تَنْكَشِفْ منه تلك الحقيقة. والأَرْجَحُ عندي لفظُ الترمذيِّ، والبخاريّ: «إن الصومَ جُنَّةٌ»، وهذا الذي يُؤَدِّي خاصته وحقيقته، فعليه الاعتمادُ. وإذن تكون الصلاةُ كالبرهان على إيمانه، لأن البرهانَ يكون في اليمين، فهي كالشاهد للمدَّعي، وكالسيف للمُبارِز. أمَّا الصيامُ فهو كالحَلِف للمدَّعَى عليه. والجُنَّةِ للقرين يُفِيدُ الاتقاء، وبراءة الذمة.
وحينئذٍ تبيَّن أن كون الصلاة برهانًا، والصيامُ جُنَّةً ليس جِزافًا، ومجازًا بنوع تَخَيُّلٍ فقط، بل الصلاة أَوْلَى أن تُسَمَّى بالبرهان، والصيامُ بالجُنَّةِ للمعنى المختصِّ بهما. فَرَاعه، ولا تَعُدَّه تافهًا، فإن الحديث قد أدَّى فيه سرًا عظيمًا. وعند النَّسائي: «الصومُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْهَا». أمَّا قوله: «فإن امرؤٌ قَاتَلَهُ، أو شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إني صائمٌ» مرتين، فهو صورةٌ لحفظ صومه، لئلا يَخْرِقَ مِجَنَّهُ، وهذا القولُ إمَّا بالقلب، أو اللسان.
1894 - قوله: (ولا يَجْهَلْ) الجهلُ قد يكون مُقَابِلا للعِلْم، وقد يكون مُقَابِلا للحِلْم، ويَصِحُّ بالمعنيين.
(4/304)
---(4/297)
1894 - قوله: (لَخلُوفُ فَمِ الصَّائِم)، لا دليلَ فيه للشافعية على كراهة السِّوَاك بعد الزوال. كما أنه لا دليلَ في حديث وزن ماء الوضوء على كراهة استعمال المنديل، فإنه يُوزَن حيث كان، وهو مختار المصنِّفِ، كما يَتَّضِحُ من تراجمه. وإليه مال النَّسائي، ولعلَّه تعلَّمه من شيخه، فترجم بالرُّخْصَةِ في السِّوَاك بالعشي.
1894 - قوله: (الصِّيامُ لي وأنا أَجْزِي به)... إلخ، قد مرَّ تحقيقُ معناه مبسوطًا.
وحاصله: أن الحديثَ له عِدَّة سياقات. ففي لفظٍ: «كلُّ عمل ابن آدم يُضَاعَفُ: الحسنةُ بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضِعْفٍ. قال الله عزّ وجلَّ: إلا الصومَ فإنه لي، وأنا أجْزِي به». وعند البخاري في آخره: «لكلِّ عملٍ كفَّارةٌ، والصوم لي، وأنا أَجْزِي به» وفي لفظٍ: «كل عمل ابن آدم له إلا الصومَ، فإنه لي، وأنا أَجْزِي به».
صحيح البخاري
والجملة المذكورة: «الصوم لي...» إلخ، وقعت في كلِّها محلَ الاستثناء، فينبغي أن يُراعَى حال ما قبله أيضًا. والذي ظَهَرَ لي أن هذه القطعات كلَّها صحيحةٌ، وليست من باب الرواية بالمعنى. بل من باب حفظ كل ما لم يَحْفَظْهُ الآخر. والترتيبُ الصحيحُ ما في السياق الآخر. وقد نبَّهناك مفادَ جملة السياق، وما فيها من التَّغايُر، فيما مرَّ.
أما وجهُ اختصاص الصِّيام بكونه له دون سائر العبادات، فهو ما عند البخاريِّ في نفس الحديث، وهو: «أنه يَدَعُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي»، وهذا مما لا يتحقَّق بالذات إلا في الصوم. أما الصلاةُ، فإن مَنَعَتْ عنها أيضًا، لكنها لا تُوجِبُ فواتها، فإن لك أن تَأكُلَ وتَشْرَبَ شرابَك، وتُخَالِطَ حَلِيلَتَكَ بعدها. بخلاف الصِّيام، فإنه يَسْتَلْزِمُ الفوات نهارًا، فهذا معنىً في الصوم ليس في غيره.
صحيح البخاري
باب الصَّوْمُ كَفَّارَة
(4/305)
---(4/298)
وفي هذا الحديث تصريحٌ بأن الصومَ أيضًا يُؤْخَذُ في الكفَّارة، إلا أن الظاهرَ أن هذه حقوق العباد، فلعلَّه لا يُؤْخَذُ في حقوق الله تعالى.
صحيح البخاري
باب الرَّيَّانِ لِلصَّائمِين
واعلم أن في الجنَّة أبوابًا باعتبار الأعمال، فمن يَعْمَلْ في الدنيا عملا يَدْخُل الجنةَ من باب ذلك العمل. ومراد الحديث بيان قدر العمل الذي يَصْلُحُ به للدُّخُول في الجنة، فعيَّنه الشارعُ: أن العبدَ إذا أتى من جنس ذلك الفعل مرتين صَلَحَ للدُّخُول فيها، فكان ذلك ميزانًا للدُّخول. ومن ههنا ظَهَرَ وجهُ إنفاق الزَّوْجَيْن، كما سيجيء.
1897 - قوله: (من أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سبيل الله، نُودِيَ من أبواب الجَنَّة)، والمعنى في إنفاق الزَّوْجَيْن: الفرقُ بين العادة والعبادة، فإنه إذا أَنْفَقَ شيئًا مرَّةً، لم يَدُلَّ على أنه أَنْفَقَه عادةً، فإذا أَنْفَقَهُ ثانيًا عُلِمَ أن من عادته الإِنفاق، فاعْتُبِرَ به، وعُدَّت له عبادة. ثم إن الإِنفاقَ مَرَّتين وإن لم يَدُلَّ على كونه عادةً له في نفس الأمر، إلا أنه اكتفى به رحمةً على عباده، فكأنه إذا تكرَّر عنه الفعل، فقد دَخَلَ في حد العادة. والمرء إذا اعتاد الأنفاق في سبيل الله، تأكدت جهةُ عبادته. فإنه يدل على الاعتياد بها، فَيَحْصُلُ له الأجرُ تامًّا. ومن ههنا ظَهَرَ وجهُ كونه ميزانًا للدُّخول في الجنة.
1897 - قوله: (فَهَلْ يُدْعَى أحدٌ من تلك الأبْوَابِ)... إلخ، واعلم أن من كان فيه خُصُوصِيَّةٌ ظاهرةٌ في عملٍ، فهو اليوم أيضًا كثيرٌ. أمَّا من كان جامعًا للخصائص، ومُبَارِزًا في كل ميدان، فذلك قليلٌ أو أقلُّ قليلٍ. فهذا الذي أراده أبو بكر. والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
باب هَل يُقَالُ: رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا
صحيح البخاري
(4/306)
---
باب ُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّة
صحيح البخاري(4/299)
باب أَجْوَدُ ما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم يكُونُ في رَمَضَان
تَرْجَمَ ناظرًا إلى حديث ضعيفٍ وَرَدَ في النهي عنه: «لا تَقُولُوا: رمضان، فإنه من أسماء الله تعالى» - بالمعنى - فيُضَافُ إليه لفظ الشهر لدفع الالتباس. ووسَّعَ فيه المصنِّفُ لضَعْف الحديث، هكذا قالوا. وعندي تَرَكَهُ المصنِّفُ على اللغة. صَرَّح ابن الحاجب: أن الشهرَ لا يُضَافُ إلا إلى ما قبله راء، وهو رمضان، والربيعان، ولا يجوز في غيرها.
*لا تَضِيفُ لفظَ شهرٍ بشهرٍ
** إلا الذي في أوَّلِهِ راءٌ
1899 - قوله: (وسُلْسِلَتِ الشَّياطِينُ) وعند الترمذي: «مَرَدَةُ الجن»، فلا يَلْزَمُ تسلسل الجميع. على أن وقوعَ المعاصي لا يَنْحَصِرُ على الشَّيَاطِينِ، فإن نفسَ المرء أكبرُ أعدائه. على أنه لا رَيْبَ في أن كثرةَ الطاعات، وقِلَّة المعاصي مُشَاهَدٌ في هذا الشهر المبارك. وكان عثمان يُعْطِي وظيفة شهرين في هذا الشهر. وراجع له «الطَّحَاوي»، فلا إشكال.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ في الصَّوْم
صحيح البخاري
باب هَل يَقُولُ إِنِّي صَائمٌ إِذَا شُتِم
1903 - قوله: (مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَهُ وشَرَابَهُ)، وهو من باب الاختلاف في الوظائف، فلا صومَ له باعتبار وظيفة الحديث، ولا قَضَاءَ عليه باعتبار وظيفة الفقيه، لِمَا قامت عنده من الدلائل: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يأمره بالإِعادة. فلا تَنَاقُضَ بينهما، فاعلمه.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّوْمِ لِمَنْ خافَ عَلَى نَفسِهِ العُزُوبَة
(4/307)
---
1905 - قوله: (فإنَّه له وِجَاءٌ)، «الوجاء»: رَضُّ العروق و«الخِصَاء»: إخراج الخُصْيَتَيْنِ.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «إِذَا رَأَيتُمُ اْلهِلالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيتُمُوهُ فَأَفطِرُوا»(4/300)
1905 - قوله: (من صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ، فقد عَصَى أبا القاسم)... إلخ، والمشهورُ أنه مكروهٌ عند مالك، وأبي حنيفة، والشافعيِّ. ومُسْتَحَبٌّ عند أحمد. واستدلَّ أحمدُ بآثارٍ كثيرةٍ رُويَتْ عن الصحابة في هذا الباب: أنهم كانوا يَصُومُون يومَ الشَّكِّ. وتمسَّك الجمهورُ بما رُوي عن عمَّار، وسَلَكَ فيه مسلكًا آخر.
قلتُ: ينبغي أن يُعَدَّ أبو حنيفة مع أحمد، لا مع الجمهور، كما قرَّروا. وقد صرَّح صاحب «الهداية»: استحباب الصوم عنده للخواصِّ. وعن أبي يوسف: أنه أفتى الناسَ بالفِطْرِ، مع أنه كان صائمًا بنفسه، كما في «البحر». فإذا ثَبَتَ أن الصَّومَ مُسْتَحَبٌّ عندنا أيضًا، فلا علينا أن نقول: إن الحنفيةَ مع أحمد. وحينئذٍ لا تَرِدُ علينا الآثار التي تَدْلُّ على استحباب هذا الصوم، وتَنْقَلِبُ حُجَّةً لنا بعد ما كانت حُجَّةً علينا.
بقي حديث عمَّار، فهو محمولٌ على ما إذا شَكَّ النَّاسُ في الصَّحْوِ بلا وجهٍ وجيهٍ. قال ابن تَيمية: إن يوم الشَّكِّ ليس هو يومُ الغيم، فإنه يُسْتَحَبُّ فيه الصوم، وإنما هو يومٌ تردَّد فيه النَّاسُ بلا وجهٍ وجيهٍ.
(4/308)
---
فالحاصل: إني اقْتَدَيْتُ بالصحابة الكرام في استحباب صوم يوم الشِّكِّ في الغَيْم، فإن يوم الشَّكِّ عندنا يومُ غَيْمٍ، الْتَبَسَتْ فيه الغُرَّةُ فقلتُ: يُسْتَحَبُّ في الصوم، واقْتَدَيْتُ بالحديث فيما إذا كان الشَّكُّ بلا وجهٍ وجيهٍ، وبهذا الطريق حَصَلَ الائتساءُ بالصحابة، والعملُ بالحديث كلاهما. وبعبارةٍ أخرى: إن يومَ الشَّكِّ عندنا يومُ غَيْمٍ الْتَبَسَتْ فيه الغُرَّةُ، وصومُه مُسْتَحَبٌّ عندنا للخواصِّ، وهم الذين لهم تمييزٌ في النِّيَّة، وإن كان مكروهًا للعوامِّ. فجعل عامتُهم الكراهةَ أصلا ومذهبًا، واسْتَثْنَوا منه الخواصَّ، وجعلتُ هؤلاء أصلا، والعوامَّ مستثنىً عن حكمهم. فهذا تغييرٌ في التعبير لا غير، وحينئذٍ لا تَرِدُ علينا الآثارُ.(4/301)
وهذا كما غيَّرْتُ تعبيرَهم إلى أن للمدينة حَرَمًا. إلا أن أحكامَه ليست كأحكام حرم مكَّة، فلم تَرِدْ علينا الأحاديثُ التي فيها صَدْعٌ بكون الحرم للمدينة أيضا. فهكذا قلتُ في صوم يوم الشَّكِّ أيضًا، لأنه لما كان مُسْتَحَبَّا للخواصِّ على المذهب، فلا بِدْعَ في أن نُقَرِّرَ مذهبنا بالاستحباب، ثم نجعله مكروهًا للعوامِّ، لئلا تَرِدَ علينا تلك الآثار. بقي الحديثُ المرفوعُ، فلنا أن نَحْمِلَهُ فيما إذا شَكَّ الناسُ في يوم الصَّحْو، وهو يوم الشَّكِّ عند ابن تَيْمِيَة.
صحيح البخاري
1906 - قوله: (فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له) فالفطرُ والصومُ عندنا يَدُورُ بالرؤية حقيقةً، أو نقلها المعتبر شرعًا. ولا عِبْرَةَ عندنا بالتقويم، واعْتَبَرَهُ أحمد. وعلى هذا قُلْنَا: إن معنى قوله: «فَاقْدُرُوا له»، أي أَكْمِلُوا عِدَّته ثلاثين، كما في الرواية الأخرى. وقال أحمد: معناه اعْمَلُوا بالتقويم. قلتُ: وقال ابن وَهْبَان بعبرة التقويم أيضًا، إذا كان حسابُه صحيحًا لا يُخْطِىءُ عمَّا في الخارج.
(4/309)
---
1910،1911 - قوله: (آلَى من نِسَائِهِ)... إلخ، وهو إيلاءٌ لُغَوِيٌّ، وكفَّارةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّملم تكن لإِيلائه، فإنه برَّ فيه، ولم يَحْنَثْ. وإنما كان عن تحريم العسل، وهو يمينٌ عندنا. فإن قُلْتَ: كيف آلى النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن نسائه شهرًا مع النهي عن مُهَاجَرَة مسلمٍ فوق ثلاث؟ قلتُ: كانت أزواجه صلى الله عليه وسلّمتسعةً، والمَهَاجَرَة بكلَ منهنَّ ثلاثًا بالترتيب، كانت ركيلة، فَهَاجَرَ كلَّهنَّ بهذا الحساب معًا، فَحَصَلَ بضرب الثلاثة في التسعة شهرٌ.
1911 - قوله: (الشَّهْرَ يكون تِسْعًا وعِشْرِين)، أي قد يكون تِسْعًا وعشرين، ولهذا قدَّم الشَّهْرَ. وراجع «دلائل الإِعجاز» من فوائد تقديم المسند.
صحيح البخاري
باب شَهْرا عِيدٍ لا يَنْقُصَان
صحيح البخاري(4/302)
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ»
قال أحمد في «تفسيره»: أي لا يَنْقُصَان عددًا في سنةٍ واحدةٍ. فإن نَقَصَ هذا. وإن تَمَّ هذا تَمَّ هذا، نَقَصَ هذا. وردَّ عليه الطَّحَاوِيُّ، وقال: وهو خلافُ الواقع، فإنه وَقَع مرَّةً نحوه في عهده، فَنَقَصَ كلاهما معًا. قلتُ: وحينئذٍ يُحْمَلُ قول أحمد على الأكثر. وقال إسحاق: معناه لا يَنْقُصَان بحَسَب الأجر، فالشهرُ الناقصُ منهما كالتامِّ منهما. ويُرَدُّ عليه أن هذا معقولٌ في رمضان، لأن وظيفةَ الصِّيَامِ تَسْتَوْعِبُه، فيمكن أن يكونَ تسعٌ وعشرون منه كالثلاثين في الأجر. إلا أنه لا يُعْقَلُ في ذي الحِجَّة، فإنه لا عبادةَ في النصف منه. نعم يَصِحُّ عند مالك، لأن الأضْحِيَةَ عنده جائزةٌ إلى آخر الشهر في روايةٍ.
(4/310)
---
وقال السيوطي: إن الأشهرَ أوتارٌ وأشفاعَ. فالأوتارُ منها تكون تسعًا وعشرين، والأشفاعُ ثلاثين، هكذا عند علماء الحساب. وأمَّا ما يُوجَدُ خلافه، فهو من الخطأ في الرُّؤْية. فكأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم َخْبَرَ بما في الواقع، لا أنه ذكر حكمًا شرعيًا. فلا يمكن أن يَنْقُصَ شهر رمضان، وذي الحِجَّة كلاهما، فإن الأوَّلَ من الأَوْتَار، والثاني من الأَشْفَاع، فلا بد أن يَنْقُصَ الأوَّل، ويتِمَّ الثاني، فصَحَّ قوله: «شهرا عيدٍ لا يَنْقُصَان».
قلتُ: وراجعت له الزيج، فتبيَّن منه أن الأشفاعَ والأوتارَ من مصطلحاتهم باعتبار فنِّهم، فاعتبروها ناقصةً وتامةً بحَسَبِ موضوعهم، لا أنها كذلك عندهم في الخارج، والواقع. ثم إن ستة أشهرٍ تكون تسعًا وعشرين، وستةً منها ثلاثين عند علماء الحساب. ولا يُشْتَرَطُ عندهم التَّوَالي، ويمكن أن تتوالى ثلاثةُ أشهرٍ منها ناقصةً، وحينئذٍ جواب السيوطي، كما ترى.(4/303)
وقدأجاب عنه الطِيبيُّ أيضًا، وأجاد، وحاصله: أن العيدَ من ذي الحِجَّة، وإن كان في العاشرة خاصةً، إلا أنه اشتهر في العُرْفِ وصفُ هذا الشهر كلِّه بالعيد، وإن لم نُدْرِكْ وجهه. وهذا كما أن عيدَ الفِطْرِ في أول يومٍ من شوال، إلا أنه نُسِبَ إلى رمضانَ لمناسبةٍ، فَعَدَّ رمضانَ أحد شهري عيدٍ، فكما أن كون يومًا من شوال عيدًا تناول الشَّهْرَ كلَّه، كذلك صار ذو الحِجَّة كلُّه عيدًا بيومٍ واحدٍ.
(4/311)
---
قلتُ: إن أخذت تماميتهما باعتبار الأجر، فله وجهٌ أيضًا. أمَّا في رمضان، فظاهرٌ. وأمَّا في ذي الحِجَّة، فلأن العبادةَ في العشر منها منصوصٌ. وما عُلِمَ بعد السَّبْرِ أنها هي التكبيرُ، والصِّيَام. وأمَّا للحاجِّ فله ما وُظِّفَ له في تلك الأيام. فإذا عَلِمْتَ أن أفضلَ عبادتها الصيامُ، تَبَيَّنْتَ أن إطلاق العشرة لا يَصِحُّ عليها. فإن الصِّيَامَ وإن كان مُسْتَحَبَّا في تسعةٍ منها، لكنه في العاشرة حرامٌ، فما وجهُ إطلاق العشر؟ والذي ظَهَرَ لي: أن الإِمساكَ إلى الزوال - وهو وقتُ أكله من أضحيته - مستحبٌّ في العاشرة أيضًا. فهذا الصومُ الناقصُ اعتبره الشرعُ تامًا، فصَحَّ أن عاشرة ذي الحِجَّة أيضًا لا تَنْقُصُ عند الله تعالى، مع نقصانها في الحِسِّ، ويُعْطي له أجرَ الصومِ التامِّ.
صحيح البخاري
باب لا يَتَقَدَّمَنَّ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَين
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:
وههنا حديثٌ آخر. أخرجه الترمذيُّ: «إذا بقي نصفٌ من شعبان، فلا تَصُومُوا»، وقد حَمَلَ الترمذيُّ النهيَ في الحديثين على النهي لحال رمضان، ويَرِدُ عليه: أنه لا يَظْهَرُ على هذا التقدير لتخصيص يومٍ أو يومين وجهٌ.(4/304)
قلتُ: وإنما أَفْرَزَهُ من حديث نصف شعبان لكونه كثيرَ الوقوع، فإن أكثرَ ما يتقدَّمه الناسُ لحال رمضان يومٌ أو يومان، فكأنه خصَّصه لمزيد الاعتناء به. ولذا قال صاحبُ «الهداية»: إن تقدَّمه بثلاثة أيام لا يُكْرَهُ، فَقَصَرَ النهيَ على اليومين. ثم ذكر نَكْتَتَهُ الشيخ سعد الله في «حاشية العناية»: إن الالتباس في غُرَّة رمضان لا يزيد على يومٍ أو يومين، فلا يتقدَّمونه إلا بصوم يومٍ أو يومين، يَقْصِدُون به أن لا يَفُوتَ عنهم من رمضانَ شيء. ولمَّا كان هذا الاحتياط لغوًا، إلا أنهم أُمِرُوا أن يَصُومُوا لرؤيته ويُفْطِرُوا لرؤيته، نهاهم عنه.
(4/312)
---
قلتُ: والنهيُ عندي في الحديث الأوَّلِ لمعنىً شرعيَ، وفي الحديث الثاني إرشادًا وشفقةً فقط. فإن رمضانَ أمامه، فَلْيَتَأَهَّبْ له، ولْيَتْرُكْ الصِّيَامَ لئلا يَضْعُف قبل رمضان. بخلاف الأول، فإن الناسَ اعتادوا به. ويَصُومُوْنَهُ، وهذا يُوجِبُ هَدْرَ حدود الشرع والتخليط بينها. فأَحَبَّ أن يبقى الفرضُ متميِّزًا عن النفل، فنهى عن صوم يومٍ أو يومين قبله.
وحاصلهُ: أن النهيَ عن التقدُّم بيومٍ أو يومين مُؤَكَّدٌ، بخلاف النهي عن الصوم من نصف شعبان، فإنه بالنظر إلى أُهْبَتِهِ لرمضان. وذلك لأن ليلةَ القدر، وإن كانت في رمضانَ، إلا أنه يُعْلَمُ من بعض الروايات أنها في النصف من شَعْبَان. والوجهُ عندي أنها في رمضانَ. نعم بعض متعلقاتها وتمهيداتها من نصف شعبان، فيُمْكِنُ أن يَصُومَ أحدٌ من نصف شعبانَ لهذا، فنهاه شفقةً، ليستقبلَ شهر رمضان. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَصُومُ شعبانَ كلَّه، أو أكثره لتتمكن نساؤه بقضاء صيامهن، قبل أن يَهْجُمَ عليهنَّ رمضانُ، كما في الحديث.(4/305)
وههنا حديثٌ ثالثٌ في النهي عن صوم يوم الشَّكِّ، وهو أيضًا يُوجِبُ التقدُّم في بعض الصور، نحو أن يَظْهَرَ أن هذا اليوم كان من شعبانَ مثلا. إلا أنا قُلْنَا باستحبابه للخواصِّ، لأن هذا الصوم لمعنىً صحيحٍ، فإنهم في غيمٍ، ويُمْكِنُ أن يكونَ هذا اليوم من رمضان، كما أنه يُمْكِنُ أن يكونَ من شعبان، لكن صومَ يومٍ من شَعْبَانَ أَوْلَى من إفطار يوم رمضان. بخلاف الصوم لحال رمضان، فإن بناءه على الشكِّ من جهة الوساوس فقط وليس بوجهٍ وجيهٍ، فافترقا، فلذلك نهى عن التقدُّم، واستحبَّ له صوم يوم الشَّكِّ.
صحيح البخاري
1914 - قوله: (إلا أن يكونَ رجلٌ كان يَصُومُ صَوْمَهُ)... إلخ، ووسَّع له صاحب «الهداية» أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(4/313)
---
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ»
أخرج البخاريُّ في حديث سَهْل بن سَعْدِ: «أن رِجَالا كانوا إذا أرادوا الصَّوْمَ رَبَطَ أحدُهم في رِجْلِهِ الخيطَ الأبيضَ، والخيطَ الأسودَ، إلى قوله: فأنزل اللهاُ بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}.اه- . وهذا يَدُلُّ على أن ما فعله عَدِيُّ بن حاتمٍ لم يكن خطأً محضًا، بل كان عليه العملُ إلى زمانٍ، إلا أنه لم يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، فَعَمِلَ به بعده أيضًا، ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّمما قال، هكذا قرَّره الطحاويُّ. وسَهَا من زَعَمَ أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} نَزَلَ في واقعة عَدِي.
(حكم الأكل بعد الفجر في رمضان)(4/306)
ثم هل المراد من التبيُّن تبيُّنه كل التبيُّن، أو نفسه؟ فمن أراد الأول ذَهبِ إلى جواز الأكل بعد الفجر، كما في «قضيخان». إن الناسي لو أكل بعد الفجر، فصومه تامُّ. وعامَّتُهم إلى أن المرادَ هو الثاني، فَيَفْسُدُ صومه بأكله بعد الفجر. سواء تبيَّن أو لا أقولُ: ولا يُمْكِنُ الفصل فيه، لأنه من باب تعيين المراتب مع العمل باللفظ قلت: والذي ينبغي العملُ به هو نفس التبيّن. نعم إن أكل أحدٌ بعد الفجر، ولم يُسْفِرْ الفجرُ بَعْدُ، لا أقول: إنه يُكَفِّرُ، بل يقضي فقط.
صحيح البخاري
باب ُ تَأْخِيرِ السُّحُور
صحيح البخاري
باب ُ قَدْرِ كَمْ بَينَ السُّحُورِ وَصَلاةِ الفَجْرِ
ه
معنى التعجيل السرعة فيه، أي يَفْرُغُ عن سحوره بالعَجَلَةِ، ولا يطوِّل فيه، وليس مقابلا للتأخير. فلا يَرِدُ أن التأخيرَ مُسْتَحَبٌّ، فإن التعجيلَ ههنا باعتبار سرعة الأكل، والتأخيرَ هناك بحَسَبِ وقت السُّحُور، فاعلمه.
صحيح البخاري
باب ُ بَرَكَةِ السُّحُورِ مِنْ غَيرِ إِيجَاب
(4/314)
---
واعلم أن الحافظَ ابن تَيْمِيَة ذهب إلى استحباب الوِصَال من السَّحَر إلى السَّحَر، معناه أن لا يُفْطِر بعد الغروب، بل يُواصِلُ إلى السَّحَر. والوِصَال المنهي عنه أن لا يأكلَ السَّحُورَ أيضًا، ويُواصِلُ بين الصومين، أو أكثر. والمواصلةُ المذكورةُ ليست بشيءٍ عند الجمهور قلتُ: والأحاديثُ وَرَدَتْ بالنحوين. ثم إن التتابعَ في الصوم أن يُفْطِرَ بعد الغروب، ويَصُومَ متواليًا. وأخطأ في - «العالمَكِيرِيَّة» - حيث لم يُفَرِّق بين الوِصَال والتَّتَابُع، وجعلهما واحدًا. وكذا وقعت أخطاءٌ في المسائل من باب الحظر والإِباحة كثيرًا، نعم مسائلها في المعاملات مُعْتَمَدٌ عليها، فاعلمه.
صحيح البخاري
باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا(4/307)
وقد احتجَّ الطحاويُّ بحديث الباب على عدم اشتراط التبييت في صوم رمضان، والنَّذر المعيَّن، والنفل، لكون الأول معيَّنًا من جهة الشرع، والثاني من جهة العبد، فلا مُزاحمة. وإنما النيَّة لتعيين المُسَمَّى، وقطع المُزَاحمة. قال الطَّحَاويُّ: إن عَاشُورَاءَ كان فرضًا قبل رمضانَ، كما مرَّ. وفي أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمإياهم بصومه بعد ما أصبحوا، دليلٌ على أن من كان في يومٍ عليه صومه بعينه، ولم يَكُنْ نَوَىَ صومه من الليل، أن تجزئه نيَّةُ صومه بعد ما أصبح... إلخ. والعجبُ من الحافظ حيث قال: لو كان صومُه فرضًا لأَمَرَ من لم يصُمْه بالقضاء. قلتُ: نعم قد أَمَرَهُمْ به، كما عند أبي داود في باب فضل صومه، قال: «فأَتِمُّوا بقيةَ يومكم، واقْضُوُه». قال أبو داود: يعني يوم عَاشُورَاء. اه- .
صحيح البخاري
باب ُ الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
صحيح البخاري
باب ُ المُبَاشَرَةِ للصَّائِم
صحيح البخاري
باب ُ القُبْلَةِ لِلصَّائِم
(4/315)
---
قلتُ: وَرَدَ فيه النهيُ بإِسنادٍ قويَ «من أصبح جُنُبًا فلا صِيَام له»، مع أنه قد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنه أصبح صائمًا وهو جُنُب. وجوابه يقتضي تمهيدُ مقدمةٍ، وهي: أن الطهارةَ مطلوبةٌ عندي في العبادات كلِّها: أمَّا في الصلاة فهي من شرائطها عند الأئمة كلِّهم. وأمَّا في الحجِّ فهي من الواجبات، على ما مرَّ. بقي الصومُ، فأدَّعِي من قِبَلِ نفسي أنها مطلوبةٌ فيه أيضًا. فإن التَّلَبُّسَ بالنجاسات مكروهٌ عامّةً، فكيف في حال العبادة؟ فمن يُصْبِحُ جُنُبًا، فلعلَّه يَدْخُلُ نقيصةٌ في صيامه في النظر المعنوي، وإن تمَّ حِسًّا. أعني به: أن للصوم حكمًا وحقيقةً، كما إن للإِيمان حقيقةً وحكمًا. والتي جِيءَ بها عند شَقِّ صدره صلى الله عليه وسلّمفي طَسْتٍ مُلِئَتْ إيمانًا وحكمةً، كانت هي الحقيقة. وتلك الحقيقة تَنْقُصُ وتَزِيدُ، كما مرّ في باب الإِيمان.
(4/316)
---(4/308)
وهكذا للصوم حقيقةٌ، وهذه تَنْتَقِصُ عند التَّلَبّس بالنجاسات، فليست تلك النقيصة حكمًا من الشرع، بل بحَسَب حقيقته. وهذه النقيصة تَدْخُلُ من الحِجَامة أيضًا، ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ»، لأن الحِجامةَ أيضًا تُوجِبُ التلطُّخ بالدماء، والتلبُّس بالنجاسة. وهذا وإن لم يَقُلْهُ أحدٌ من الفقهاء، لكني أخذته من الأحاديث. وقد مرَّ التنبيهُ على أن التعارضَ بين الأَدِلَّة قد يُوجِبُ التخفيف في المقام. فإذا وَرَدَ النهيُ عنها في قوله: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ»، مع ثبوتها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أوْرَثَ التخفيف، ودَلَّ على ثبوت المراتب. وأن المرادَ من الإِفطار هو الإِفطارُ في النظر المعنويِّ، كما في الغِيبة، فإن الشَّرْعَ سمَّاها أكلا، قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} (الحجرات: 12). ثم لم يَحْكم الفقهاءُ أن صومَ من اغتاب فاسدٌ، فكذلك في الحِجَامة. ولو لم يَثْبُت عندنا خلافه لقُلْنَا بفساده من الحِجَامة، كما ذَهَبَ إليه أحمد.
وفي «حاشية ما لا بُدَّ منه» - رسالةٌ للقاضي ثناء الله المحدث الفاني فتى - عن «جامع الفتاوى»: أن الصَّوْمَ حال الجنابة مكروهٌ. ولم أره في غيرها، ولعلَّ المرادَ منها الكراهة بحَسَب الحقيقة، دون الكراهة عند الشرع. كيف وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنه أصبح جُنُبًا، وصام. وقد استدلَّ عليه محمد في «موطئه» من قوله تعالى: {فَالنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} ...إلخ،(البقرة: 187) حيث رخَّص فيه بالجِمَاع وغيره إلى طلوع الفجر، ومن لوازمه صومُه مع الجَنَابة، فإنه لا يَغْتَسِلُ إذن إلا بعد الفجر، والشرع لم يُكَلِّفْهُ بالغُسْل قبله.
صحيح البخاري
باب ُ اغْتِسَالِ الصَّائِم
(4/317)
---(4/309)
قوله: (وبَلَّ ابنُ عُمَرَ)... إلخ، ولا بأس به عندنا أيضًا.
قوله: (وقال ابنُ عبَّاسٍ: لا بَأْسَ أن يَتَطَعَّمَ القِدْرَ)... إلخ، وهو جائزٌ عندنا أيضًا إذا كان زوجها فظًّا غليظًا. وقال ابن سِيرِين: لا بأس بالسِّوَاكِ الرَّطْبِ. قيل: له طَعْمٌ، قال: والماءُ له طَعْمٌ. والعطفُ فيه كما في قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يرَبّ} (الزخرف: 88) وقد تحيَّر فيه المفسِّرُون. وترجمته (انى كيلنى بهى مزاهى)، وهو العطفُ في قوله تعالى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ}... إلخ،(آل عمران: 55). يعني: وفاة دونكا أور رفع بهى كرونكا. وأوضحته في رسالتي «عقيدة الإِسلام»، فراجعها.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّائمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
ذَهَبَ مالكٌ إلى الفرق بين النَّفل والفرض، فمن أكل ناسيًا في الصِّيامِ الفرضِ والواجبِ، وَجَبَ عليه القضاء. وإن كان صومًا نفلا، فلا قضاءَ عليه. وعندنا، وعند الشافعيِّ: ليس عليه قضاء مطلقًا، لا في الفريضة، ولا في النافلة، وصومُه تامٌّ بخلاف النسيان في الصلاة. فإن أكل أو شَرِبَ ناسيًا، وهو يُصَلِّي فَسَدَت صلاتُه، والفرق في الفِقْهِ.
صحيح البخاري
باب ُ السِّوَاكِ الرَّطْبِ واليَابِسِ لِلصَّائم
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «إِذَا تَوَضَّأَ فَليَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ المَاءَ»وَلَمْ يُمَيِّزْ بَينَ الصَّائِمِ وَغَيرِه
اختار المصنِّفُ مذهبَ الحنفية، ولم يفرِّق بين ما قبل الزَّوَالِ وبعده.
قوله: (قال عَطَاءٌ، وقَتَادَةُ: يَبْتَلِعُ رِيقَه). قال الشيخ ابن الهُمَام: إن جمع ريقَه في فمه، ثم ابتلعه كُرِهَ، وإلا لا.
صحيح البخاري
باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَان
(4/318)
---(4/310)
ذَهَبَ الجمهورُ إلى أن من جَامَعَ في رمضانَ، فعليه القضاءُ والكفَّارةُ. واختار البخاريُّ أن لا قضاءَ عليه، وعليه الكفَّارة. وأمَّا في غيره، فلا قضاءَ ولا كفَّارةَ عند المصنِّفِ. وأوجبهما أبو حنيفة، ومالك في الأكل والشُّربِ أيضًا. خلافًا للشافعيِّ، وأحمد. أمَّا انتفاءُ القضاء عنده، فلِمَا روى الترمذيُّ: «أن من أَفْطَرَ متعمِّدًا يومًا من رمضانَ من غير رُخْصَةٍ، ولا مرضٍ، لم يقضِ عنه صوم الدَّهْرِ كلِّه، وإن صامه». وأمَّا انتفاءُ الكفَّارةِ، فلكونها تعزيرًا. والأصلُ فيه الظِّهَار، فإن الشَّرْعَ أَوْجَبَ فيه صيامَ شهرين متتابعين تَعْزِيرًا، لمَّا قال مُنْكَرًا من القول وزُورًا. ولذا يجبُ عليه قضاؤه عند الجمهور، فإن القضاءَ للصَّوْمِ الذي أفسده. وأمَّا صيامُ شهرين متتابعين فتعزيرٌ لِمَا فعله، وليس بدلا عن صومه الذي أَفْسَدَهُ.
فإذا عَلِمْتَ أن الكفَّارة بالصِّيام تعزيرٌ، وليس بدلا عن الصوم، عَلِمْتَ أنها لا تنبغي أن تَجِبَ في الأكل والشرب، لأن التعزيرَ لا يجري فيه القياس، كما في الحدود، فتَقْتَصِرُ على موردها، لا سِيَّما إذا كان الأكلُ والشربُ أخفَّ من الجِمَاع أيضًا. هذا تقريرُ كلامه مع الجمهور. وحينئذٍ لا يَرِدُ عليه أن الصِّيامَ إذا صار كفَّارةً عن الجِمَاع - وهو أشدُّ - فليكن عن الأكل والشرب بالأَوْلى، فإنهما أخفُّ.
وتقريرُ الجواب أن الكفَّارةَ بالجماع ليست للتلافي، بل هي تعزيرٌ له. فكما أن الصِّيامَ ليست كفَّارةٌ له في الأكل والشربِ عندكم أيضًا، كذلك في الجِمَاع أيضًا، إلا أنا قلنا بها في الجِمَاع للنصِّ، تَعْزيرًا لا تكفيرًا، ولا قياسَ فيه.
قلتُ: وهذا يُؤَيِّدُ الحنفيةَ: أن الكفَّارات عند البخاريِّ زواجرُ لا سَوَاتِر، كما قاله الشافعيةُ، وقد مرَّ الكلامُ فيه في الإِيمان.
(4/319)
---(4/311)
ثم اختلف الجمهورُ فيما بينهم في إيجاب الكفَّارة بالأكل والشرب بعد اتفاقهم في إيجابها بالجِمَاع: فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى إيجابها فيهما. وذهب أحمد، والشافعيُّ إلى أنها بالجِمَاع خاصةً.
قلتُ: والأصلُ أن الأئمةَ اختلفوا في تنقيح مناطه: فذهب أحمد، والشافعيُّ إلى أن إيجابَ الكفَّارة فيه لأجل الجِمَاع من حيث كونه جِمَاعًا. وقال أبو حنيفة، ومالك: بل لكونه مُفْطِرًا. ولا فرقَ بين الأكلِ، والشربِ، والجِمَاع في حقِّ الإِفطار، فيستوي في حقِّ الكفَّارة أيضًا. ولا عِبْرَةَ بكون الجِمَاع أغلظَ من غير هذا الوجه. ولعلَّك عَلِمْتَ مما قُلْنَا، أن إيجابَ الكفَّارة بالأكل والشرب ليس من جهة القياس، بل لتنقيح المناط، وهو غير القياس، كما مهَّدْنَاه في المقدمة. وأمَّا حديثُ الترمذيِّ، فَمَحْمَلُه عند الجمهور الفضلُ دون الفِقْهِ، أي من أفطر يومًا من رمضان، فإنه لا يُدْرِكُ فضله، وإن صَامَ الدَّهرَ. وليس فيه: أنه لا يَسْقُطُ عنه قضاؤه أيضًا.
صحيح البخاري
والحاصلُ: أن لا كفَّارةَ عليه عند المصنِّف بالأكل والشرب، وعليه الكفَّارةُ بالجِمَاع تعزيرًا. ولا قضاءَ عنده في الفصلين، ولا تَحْسِبْ أنه تخفيفٌ وتهوينٌ منه، بل هو تشديدٌ في غايته. كما قال إمامُنا الأعظم: أن لا حدَّ على اللُّوطي، وذلك لأنه عَدَّه أشنعَ من الزاني، فأغلظَ له في العقوبة، فيفعل به الإِمامُ ما شاء من الحَرْقِ، وهَدْمِ البناء عليه، وغير ذلك. وكما قال ابن حَزْم: من ترك الصلاة متعمِّدًا فلا قضاءَ له، فهذا أيضًا تشديدٌ.
قوله: (وقال سعيدُ... إلى قوله: يقضي يومًا مَكَانَهُ)... إلخ، أخرج المصنِّفُ آثارًا متعارضةً. ففي الأول: أن لا قضاءَ عليه، وفي الثاني: أن عليه القضاء، وذلك لعدم جَزْمِهِ بالقضاء.
(4/320)
---(4/312)
فإن قُلْتَ: كيف وأنه قد جَزَمَ بعدم القضاء في صدر الصفحة قال أبو جعفر - وهو ورَّاق البخاري : سألتُ أبا عبد الله البخاري، إذا أفطر يُكَفِّرُ مثل المكورة؟ قال: لا، أَلا ترى الأحاديث: لم يَقْضِهِ، وإن صام الدهرَ اه- .
قلتُ: لا تنافي بين عدم الجَزْمِ باعتبار وجوب القضاء وعدمه، وبين الجَزْمِ بعدم إنابته مناب صوم رمضان باعتبار الثواب.
ومُحَصَّلُ الكلام: أن مرادَ البخاريِّ لا يتقرَّرُ إلا بعد الإِمعان في أمور: الأول: أن الكفَّارة عنده تعزيرٌ، وأنها ليست إلا بالجِمَاعِ، وأنه لم يَحْكُمْ بشيءٍ من إيجاب القضاء وعدمه.
صحيح البخاري
باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيءٌ، فَتُصُدِّقَ عَلَيهِ فَليُكَفِّر
(حكم الترتيب في الكفَّارة)
واعلم أن الترتيبَ في الكفَّارة بين الإِعتاق، والصوم، والإِطعامُ واجبٌ عند الجمهور، وهو نصُّ الحديث. إلا أن مالكًا تفرَّد فيه، وقال بالتخيير، والظاهرُ أنه مذهبٌ مرجوحٌ. ويمكن العُذْرُ لمالك أن يكونَ الترتيبُ المذكورُ عنده محمولا على الذكر فقط، فلا يَجِبُ في الحكم. مع أن الحديثَ وَرَدَ عند الطحاويِّ، وغيرِه بحرف التخيير أيضًا، عن أبي هُرَيْرَة: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأمره أن يكفِّرَ بعِتْقِ رقبةٍ، أو صيامِ شهرين متتابعين، أو إطعام سِتين مسكينًا». اه- .
(4/321)
---(4/313)
1936 - قوله: (فهل تَسْتَطِيعُ أن تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن)، وفي روايةٍ عند البزَّار - في جوابه : «هل لَقِيتَ ما لَقِيتَ إلا من الصيام». اه- ؛ فتجري فيه خِلافيَّةٌ أخرى، وهي أن شدَّةَ الشَّبَقِ عذرٌ، أو لا؟ فأَنْكَرَهُ الحنفيةُ، وقال به الشافعيةُ. فالحديثُ حُجَّةٌ علينا، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمعدَّه عذرًا للعدول عنه إلى الإِطعام. وهو عندي محمولٌ على خصوصيته، كما أن كفَّارتَه بالمقدارِ المخصوصِ مختصٌّ به عند آخرين أيضًا. فعند أبي داود، عن الزُّهْرِيِّ: «إنما كان هذا رخصةً له خاصةً»، وهكذا عند الدَّارَقُطْني. وأجاب عنه الطحاويُّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا عَلِمَ حاجةَ الرجل أعطاه ما أعطاه من التمر يَسْتَعِينُ به فيما وَجَبَ عليه، لا على أنه جميعُ ما وَجَبَ عليه. كالرجل يَشْكُو إلى الرجل ضَعْفَ حاله، وما عليه من الدَّيْن فيقول: خذ هذه العشرة دراهم، فَاقْضِ بها دَيْنَكَ. ليس على أنها تكون قضاءً عن جميع دَيْنِهِ، ولكن على أن يكونَ قضاءً بمقدارها من دَيْنِهِ اه.
ولك أن تقول: إنه كان أعرابيًا لم يكن له علمٌ بكثير من الحلال والحرام، وقد عَلِمْتَ أن الجهلَ كان عُذْرًا في بَدْء الشرع، فَتَسَامَحَ عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وجعل شِدَّةَ الشَّبَقِ عذرًا في حقِّه، واكتفى بذلك المِكْتَل كَفَّارةً في حقِّه. ومآلهُ إلى التخصيص مع بيان السبب له، وقد قرَّرناه في مواضعَ شتَّى. وإنما لم يَعُدَّ الحنفيةُ شِدَّة الشَّبق عذرًا، لأنه يُوجِبُ فتح باب الجنايات، فإن لكلِّ أحدٍ أن يتمسَّك به، ويَهْتِكَ حرمات الله تعالى، فَحَمَلُوه على الخصوصيّة.
صحيح البخاري
باب ُ المُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، هَل يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنَ الكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ؟
(4/322)
---(4/314)
ولم يَذْهَب إليه أحدٌ من الأئمة الأربعة، وإنما ترجم به البخاريُّ، تَبَعًا للحديث. ووضع حرف الاستفهام، كأنه لا يَحْمِلُهُ على نفسه، ويوجِّه الناظرَ إليه.
صحيح البخاري
باب ُ الحِجَامَةِ وَالقَيءِ لِلصَّائِم
صحيح البخاري
باب ُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالإِفطَار
(حكم الحجامة للصائم)
قوله: (ويُرْوَى عن الحسن)... إلخ، والمصنِّفُ مرَّضَه، مع أن الحديثَ صحيحٌ في الخارج.
لم يَذْهَب إلى الإِفطار من الحِجَامة أحدٌ من الأئمة غير أحمد، فقيل: معنى قوله: «أفطرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ»: أي كادا أن يُفْطِرَا. أمَّا الحاجمُ، فلخوف دخول الدم في جوفه. وأمَّا المحجوم، فلضَعْفِهِ. وأجاب عنه الطحاويُّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرأى رجلين يَغْتَابَان، فقال: «أفطر الحاجمُ والمحجومُ»، وذلك لأجل الغيبة، وهي أَكْلُ اللحم بالنصِّ. وإنما عبَّر عنهم بالحاجم، لكونهما يَفْعَلان الحِجَامة ساعتئذٍ، فكان وصفًا عنوانيًا لهما، لا أنها كانت عِلَّةً للحكم.
وهذا كما تقول: فَسَدَت صلاةُ هذا الفاسق، لا تُرِيدُ أنها فَسَدَت لفِسْقِهِ، بل الفِسْقُ عنوانٌ له، أمَّا فسادُ صلاته، فبأمرٍ ارتكبه في خلال صلاته. وكذلك فيما نحن فيه، أن الرجلين لمَّا كانا مَشْغُولَيْن في الحِجَامة، وكانا يَغْتَابَان، قال لهما النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «أفطر الحاجمُ والمحجومُ»، فلا يَدُلُّ على أن عِلَّةَ الحكم هو الحِجَامة. نعم لمَّا حَذَفَ السببَ المذكورَ من صدره تُوُهِّمَ أنه كُلِّيةٌ، مع أنه كان واقعةً جزئيةً، والمناط فيها ما قلنا، دون الحِجَامة.
قلتُ: الرواية التي تَدُلُّ على كونها واقعةً ضعيفةٌ جدًا. وفي البخاريِّ عن أنس أنه سُئِلَ: «أَكُنْنُم تَكْرَهُون الحِجَامةَ؟ قال: لا، إلا من أجل الضَّعْف»، وهذا يُمْكِنُ أن يكونَ إشارةً إلى التأويل المشهور، أو بيانًا للواقع.
(4/323)
---(4/315)
واعلم أن هناك حديثًا في «المسند» لأبي يَعْلَى، وهو في «المسند» لأبي حنيفة أيضًا: «أن الوضوءَ ممَّا خَرَجَ، والفِطْرَ ممَّا دَخَلَ»، ومقتضاه أن لا تكون الحِجَامةُ مُفَطِّرَةً، لأنها لم يَدْخُل منهاشيءٌ، فَيُحْتجُّ بها على خلاف ما اختاره أحمد.
قلتُ: ويمكن عندي أن يكونَ ممَّا خرج أيضًا شيءٌ من الفساد، كما في الاستقاء، فإنه يُوجِبُ الفسادَ مع عدم دخول شيءٍ فيه، فكذلك يمكن أن يكون خروجُ الدم أيضًا مُفْسِدًا، ولو في الجملة. وكما في الفِقْهِ أن من بَاشَرَ امرأته فأنزل، فَسَدَ صومُه، مع أنه ليس فيه دخول شيءٍ، ولكن لا يُدْرَى أن الحكمَ بالفساد فيه لأجل المُبَاشرة، أو خروج المنيِّ. فإن كان الثاني، فهو نظيرٌ ثالثٌ للفساد ممَّا خَرَجَ. على أن للملائكة مُنَافرةً تامةً من الدماء، ولذا قالوا: {وَيَسْفِكُ الدِّمَآء} (البقرة: 30) أَلا تَرَى أن الصومَ لا يَجُوز للطامث، مع عدم دخول شيءٍ فيه؟ فإذا عَلِمْنَا الفسادَ كلاًّ، أو بعضًا مما خَرَجَ أيضًا، وَسِعَ لنا أن نقولَ به، فيما نحن فيه، لا سيَّما إذا كانت الملائكةُ تتأذَّى منه. ورأينا أن الشريعةَ قد تَعْتَبِرُ بالأشياء التي تُؤْذِي الملاكةَ أيضًا.
صحيح البخاري
ولولا الأحاديث دَلَّت على عدم الفساد من جانبٍ آخر، لادَّعَيْتُ أن الحِجَامةَ مُفْسِدَةٌ في أحكام الدنيا أيضًا. إلا أن الدلائلَ لمَّا قامت على خلافه، اكتفيتُ بالفساد الأخرويِّ، وجعلتها كالغِيبة مُفْسِدةً في النظر المعنويِّ، مُحْبِطَةً للثواب فقط، وإن لم تكن مُفْسِدةً في الحكم.
(4/324)
---(4/316)
1939 - أمَّا قوله: (احتجم النبيُّ صلى الله عليه وسلّموهو صائمٌ)، فعلَّله الإِمامُ أحمد، وبَسَطَه ابن عبد الهادي. وملخَّصُهُ: أن الاحتجامَ المذكورَ كان في حال الإِحرام، ولم يَثْبُتْ إحرامه في رمضانَ، وإذن لا يكون صومه هذا إلا نفلا. مع أنه لا دليلَ فيه على عدم قضائه أيضًا، على أن قضاءَ الصومِ النفلِ مُجْتَهَدٌ فيه. وبعد اللَّتَيَّا والتي لمَّا صَحَّ الحديثُ فيه، وذهب إمامٌ ذو شأنٍ إلى ظاهره، بلا تأويلٍ فيه، التزمتُ أن في الحِجَامة إفطارًا في النظر المعنويِّ، وإن لم يكن في النظر الفقهيِّ. كيف لا وأنه تلطَّخ بالدماء، وتجنَّب من سِمَات الملائكة، وتزيَّ بغير زِيِّهم في شهر التقوى. وقد قرَّرْنَاه مِرَارًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَر
صحيح البخاري
باب
وههنا مسألتان: الأولى: أنه لا يَجُوز له الإِفطار في يوم خروجه. فإذا خرج من بيته مُرِيدًا مدَّة السفر، فله أن لا يَصُومَ من الغدِ إن شاء. والثانية: أن المسافرَ إذا لم يترخَّص برخصة الله، وعَمِلَ بالعزيمة وصام، ليس له الإِفطار قبل الغروب من ذلك اليوم إلا بعُذْرٍ، وعليه أن يتِمَّ صومَه ذلك. وقال الآخرون: إنه جائزٌ، كما جاز له أن لا يصومَ ابتداءً، فهكذا بقاءً. وحديثُ الباب واردٌ علينا. وأجاب عنه بعضُهم: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأمرهم بالفِطْرِ لما رأى بهم من المَشَقَّة. فقيل عليه: وهل كانت المشقَّةُ بلغت من كلِّهم مبلغ الإِفطار؟ فلم يُجِبْ عنه ابن الهُمَام.
(4/325)
---(4/317)
قلتُ: والإِفطارُ عندنا جائزٌ للغُزَاة، تحصيلا للقوة بدون تفصيلٍ، فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإلى مشقَّتهم، مع إشرافهم على القتال، فأمرهم بالفِطْر لذلك. فأخرج الترمذيُّ في الجهاد، عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ، قال: «لما بَلَغَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعام الفتح مرَّ الظَّهْرَان، فآذَنَنَا بلقاء العدو، فأمَرَنَا بالفِطْرِ، فأَفْطَرْنا أجمعين»، إلا أنه ينبغي أن يُمْعَنَ النظرُ في أن حديثَ أبي سعيدٍ هذا، وما رواه ابن عباس واقعةُ يومٍ واحدٍ، أو اثنين.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّملِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيهِ وَاشْتَدَّ الحَرُّ: «لَيسَ مِنَالبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»
ذهب داود الظاهريِّ إلى أن الصومَ في السفر باطلٌ لأجل هذا الحديث. وذهب الفقهاءُ الأربعةُ إلى أنه أفضلُ لمن استطاع، ولم يَشُقَّ عليه. وأجاب الجمهورُ عن الحديث المذكور بأنه محمولٌ على المَشَقَّة، كما أشار إليه البخاريُّ في الترجمة، ودَلَّ عليه مَوْرِدُ نطقه.
قلتُ: وقد أَصَابُوا في ذلك، إلا أنهم لم يَذْكُرُوا وِجْهَةَ التعميم في الحديث، أيَّ عمومٍ، فإنه يَدُلُّ على أن الصومَ في السفر ليس من البِرِّ في شيءٍ. وقد عضَّ به الظَاهريُّ بالنواجذ، وقضى بمقتضاه. قلتُ: وانكشف عندنا من غير واقعةٍ واحدةٍ أن الصومَ في السفر جائزٌ، وإذن فليس مَدَار المسألة على التعبير. نعم نَطْلُب له وجهًا، فإن انكشف فيها، وإلا فالمسألةُ بحالها، فإن التعاملَ أبينُ حُجَّةً.m
ولم أَرَ أحدًا منهم توجَّه إلى بيان وجه هذا التعبير، وها أنا ذا أُلْقي عليك ما سَنَحَ لي فيه، وقد وَعَدْنَاك في الإِيمان: أنا نَذْكُرُ لك في الصيام سرَّ نفي البِرِّ عمَّا يكون من أبرِّ البرِّ.
(4/326)
---(4/318)
فاعلم أن الحديثَ مُقْتَبَسٌ من قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}... إلخ،(البقرة: 177) وفي مثله ينبغي النظر في المُقْتَبَس عنه، لأن المُقْتَبَس يكون تابعًا له في التعبير. وإذن التعميمُ في قوله صلى الله عليه وسلّم ليس قَصْدِيًّا وابتدائيًّا، بل جاء لحال الاقتباس. نعم، يكون مقصودًا في المُقْتَبَس عنه.
فأقولُ: إن النصَّ وَرَدَ لإِصلاح الطبائع السافلة التي تكون لهم بالأمور الصغار عنايةٌ، ولا تكون لهم بالأمور المهمَّة عباية. كما ترى اليهودَ، فإن جُلَّ بحثهم كان مقصورًا على أمر التحويل، وأن القِبْلَةَ هي بيت الله، أو بيت المقدس، ولا يَدْرُونَ أن التوجُّهَ ليس لكون الله سبحانه في تلك الجهة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) فليس هذا بأمرٍ أهمّ. ولم يكن لهم بحثٌ عمّا هو مِلاك الأمر ومَدَارُ النجاة، وهو الإِيمان بالله، والإِيمان بالرسول، فينبغي لهم أن يَهْتَمُّوا بهذا البرِّ الذي لا برَّ فوقه، لا أن يَشْغَفُوا بما لا يُغْنِيهم، ويَلْهُوا عما يعنيهم.
(4/327)
---(4/319)
وهكذا فيما نحن فيه، شقَّ على بعضهم الفِطْرُ، وهم في شهر رمضان، فلم يُفْطِرُوا حتى غُشِيَ عليهم، ولم يَنْظُرُوا إلى أن الصومَ بهذه المشقَّة يوجبُ النقصانَ في كثيرٍ من الفرائض. فالذي ينبغي أن يُرَاعَى الأهمُّ فالأهمُّ، ويُعْمَلَ بالرُّخَصِ عند تعسُّر العمل بالعزيمة. وبعبارةٍ أخرى: إن قلَّة الفِقْه مع حُسْنِ النيَّة قد يُوجبُ الاهتمام في الأمور اليسيرة، والتغافُل عن الأمور العظيمة. وهذا الاهتمامُ والاحتياطُ قد يَعُودُ وَبَالا في حقِّه، فنبَّه عليه الشرعُ، أن يقدِّم الأقدمَّ فالأقدمَّ. وفي مثله يأتي هذا التعبير قال الجامع: وكان الشيخُ يترجمه في لغتنا الأُرْدِيّة (اسمين نيك بخت بيوقوف كى اصلاح هى) ولعلّك عَلِمْتَ منه أن نفيَ البرِّ في النصِّ مَقْصُودٌ ومرادٌ، وفي الحديث اقتباسٌ منه، والكلامُ في مثله إنما يجري في الأصل المُقْتَبَس عنه.
صحيح البخاري
باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النبي صلى الله عليه وسلّمبَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالإِفطَار
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَفطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاس
والعجبُ من الشيخ النووي أنه ذكر مع هذه القطعة قطعةَ إتمام الصلاة في السفر وقَصْرِها أيضًا، ثم عَزَاه إلى مسلم، مع أنه ليس فيه اسمُها ولا رَسْمُها. وهذا نصُّه في باب صلاة المسافرين وقصرها: واحتجَّ الشافعيُّ ومُوَافِقُوه بالأحاديث المشهورةِ في «صحيح مسلم»، وغيره: أن الصحابةَ رضي الله تعالى عنهم كانوا يُسَافِرُون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمنهم القاصرُ، ومنهم المُتِمُّ، ومنهم الصَّائِمُ، ومنهم المُفْطِرُ، لا يَعِيبُ بعضُهم على بعضٍ. اه- .
صحيح البخاري
باب {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (البقرة: 184)
(4/328)
---(4/320)
وقد مرَّ مِنَّا تحقيقُ الآية قريبًا. وحاصلُه: أنها ليست بمنسوخةٍ بالكليَّة، بل مُحْكَمَةٌ في بعض الجُزْئيَّات بعد. وأرى جزئيات الفِدْية في المذاهب الأربعة، وليست تلك إلا لهذه الآية. وهذا كما قرَّرت في آية الوضوء: أن الواو في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) للمعيَّة المَحْضَة، بمعنى أن لمسح الرأس مَعِيَّةً مع الأَرْجُلِ، سواء كانت المَعِيَّة بالغَسْل، أو المسح. والمَعِيَّة المطلقة تحتملهما، فهذا أيضًا إبقاء لأُنْمُوذَج المسح بالأَرْجُل، ولو في حال التخفيف. ولولاه لارْتَفَعَ حكمُ المسح بالأَرْجُل عن القرآن رأسًا، وإنما بقي فيه لمثل هذه الإِشارات. وأيضًا قد بيَّنا لك فيما قدَّمنا أن الفِدْيَةَ مُتَرَتِّبَةٌ على عدم الصوم، والمعنى {وعَلَى الذي يُطيقُونَه} ولم يَصُومُوا... إلخ، وإنما حَذَفَهُ من اللفظ، ولم يَذْكُرْهُ لكونه غير مرغوبٍ عنده.
وأجد صنيعَ القرآن أنه إذا كَرِهَ شيئًا تَرَكَ ذِكْرَهُ، وذلك لكونه في الذُّرْوَة العُلْيَا من الفَصَاحَةِ، فلا يَتْرُكُ مساغًا للطبائع المتكاسلة. وقد ذَهَبَ بعضُ الملاحدة إلى بقاء الفِدْيَةِ مطلقًا، تمسُّكًا بهذه الآية. وأجاز للمُطِيقِين أيضًا أن لا يَصُومُوا رمضانَ، ويُؤَدُّوا عنه الفِدْيَةَ. ما حمله عليه إلا الإِلحادُ، واللعبُ بالشريعة، واتباعُ الهوى، وإراحةُ النفس.
قلتُ: ولم يُذْكَرْ في هذه الآية الإِفطار أيضًا، فعليه أن يَلْتَزِمَ الصومَ والفِدْيةَ معًا. فإن الآية لم تَحْكُمْ بالفطر للمُطِيقِين، ولكنها أَوْجَبَتْ عليهم الفِدْيَةَ، والصومُ بحاله، فَلْيَقُلْ بهما.
(4/329)
---(4/321)
نعم حديث الباب يُخالِفُ ما قرَّرْتُ سابقًا، من أنها في الأيام البِيضِ، فإنه يَدُلُّ على أنها في رمضانَ. والمسألةُ إذا كانت مختلفةً بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلا بَأْسَ أن يُؤْخَذَ بأحد جوانبها. فلنا أن نَعْمَلَ بما اختاره مُعَاذ، مع كونه أعلمَ بالحلال والحرام، وقد مرَّ وجهُ الجمع أيضًا.
صحيح البخاري
باب مَتَى يُقْضى قَضَاءُ رَمَضَان
صحيح البخاري
باب ُ الحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاة
فإن أخَّر في الأداء حتى هَجَمَ عليه رمضانُ آخر، يَصُومُ ويَفْدِي عن كل يومٍ عند الشافعيِّ، وعندنا لا فِدْيةَ عليه، ويقضي فقط. نعم أَسَاءَ في التأخير، وبه قال المصنِّفُ. وفي «فتح الباري»: إن الطَّحَاوِيَّ أقرَّ في كتابه في اختلاف الفقهاء: أن بعضَ الصحابة كانوا يَفْدُون أيضًا. فدَلَّ على أنه جَنَحَ أيضًا إلى أداء الفِدْيَة، فلا بُدَّ أن يُقَالَ باستحبابها. والبخاريُّ وإن ذهب إلى عدم الاستحباب، كما هو المشهورُ من مذهبنا، لكنه أين يَقَعُ هذا من آثار الصحابة. وحديثُ الباب لا يَدُلُّ إلا على أدائه قبل دخول رمضان فقط.
قوله: (قال أبو الزِّنَاد: إن السُّنَنَ)... إلخ، في «الأشباه والنظائر»: من كَثُرَتْ عليه الفوائت، ولم يَجِدْ وقتًا لأدائها مع السُّنَنِ يترك السُّنن، ويأتي بالفوائت، وإنما يهتمُّ بالأقدمِّ فالأقدمِّ - بالمعنى .
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيهِ صَوْم
(4/330)
---(4/322)
ذَهَبَ أحمدُ إلى جواز النيابة في صيام النَّذْرِ، ولم يجوِّزها في رمضانَ. قال المحدِّثُون: ومذهبه أقربُ من الحديث، لما في «البخاري» وتصريحه بكونها صيامُ نذْرٍ. ولا نِيَابةَ عندنا مطلقًا، وهو القول الجديد للشافعي، وإن رجَّحَ النوويُّ القديمَ. وذلك لأنه من العبادة البدنيَّة، والمقصودُ منها إتعابُ النفس، فلا تجري فيها النِّيَابة، ولنا قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يَصُومُ أحدٌ عن أحدٍ»، أخرجه الزَّيْلَعيُّ، عن النَّسائي، وليس في «صغراه»، فيكون في «كبراه» وكثيرًا ما يَقَعُ مثله في حَوَالة النَّسائي، وأتردَّد في رفعه ووقفه.
1952 - قوله: (صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ)، وأوَّله الحنفيةُ بأن معناه: أَطْعَمَ عنه وَلِيُّهُ. قلتُ: ومن أوَّله بذلك، فله ما أخرجه الترمذيُّ في باب ما جاء في الكفَّارة، عن ابن عمر مرفوعًا، قال: «من ماتَ وعليه صيامُ شهرٍ، فَلْيُطْعِمْ عنه مكان كل يومٍ مسكينًا». اه- . إلا أن الترمذيَّ لم يُحَسِّنْهُ، وحسَّنه القرطبيُّ، كما نقله العيني.
قلتُ: والظاهرُ أن الحديثَ ليس قابلا للتحسين، لأن في إسناده محمدًا، وهو ابن أبي لَيْلَى، كما صرَّح به الترمذيُّ في «جامعه». ثم رأيتُ التصريحَ به في «السنن الكبرى» في مَوْضعَيْن. وابن أبي لَيْلَى اثنان: الأول: عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وهو ثقةٌ. والثاني محمد بن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، ويُقَالُ له أيضًا: ابن أبي لَيْلَى، وهذا الذي اختلفوا فيه، وقد حَسَّنَ البخاريُّ حديثَهُ في أبواب السفر، كما عند الترمذيِّ. وفي «تذكرة الحفاظ»: أنه من رواة الحِسَان. قلتُ: وقد جَرَّبْتُ منه التغيير في المتون والأسانيد، فهو ضعيفٌ عندي، كما ذَهَبَ إليه الجمهورُ.
(4/331)
---(4/323)
وبالجملة من حسَّن الحديثَ المذكورَ، ظنَّ أن محمدًا هو ابن سِيرِين. وإذن تحسينُ القرطبيِّ غير مقبولٍ عندي، إلا أن يكونَ عنده إسنادٌ غير هذا. أمَّا الجوابُ عندي، فلا أقولُ: إن المرادَ من الصَّوْمِ هو الإِطعام، وإنما عبَّر بالصوم مشاكلةً. بل أقولُ: إنه ينبغي أن يُصَامَ عنه إثابةً، ويُطْعَم مكان كل يومٍ مسكينًا أيضًا، قضاءً ممَّا عليه.
فالحاصل: أن الحديثَ محمولٌ على الإِثابة دون النِيَابة، والتعبيرُ المذكورُ يُصْلحُ لهما بدون تأويلٍ، لأنهما نِيَّتان. أي قد يكونُ الصومُ عن أحدٍ بنية الإِثابة، وقد يكون بنية النِيَابة، ولا يَتَلَفَّظُ بها أصلا، فَيُقَال في الإِثابة أيضًا: صَامَ عنه، كما يُقَال في النِيَابة بدون فرقٍ. أمَّا حديثُ: «لا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ»، فهو محمولٌ على النِيَابة، فلا تنافي بين الحديثين. وبعبارةٍ أخرى: إن الإِثابةَ والنِيَابةَ من أنظار الفقهاء، وليست مما يَدُلُّ عليه اللفظ بمدلوله اللُّغَوِيِّ، بل هي أمرٌ وراء الهيئة التركيبية تُفْهَمُ عنها، ولا تكون مدلولةً وضعًا. وإنما كرَّرْناه لئلا تظنُّه تأويلا، كيف ولا بحثَ للغويَ من أنظار الفقهاء، فلا يقولُ فيهما إلا أنه صَامَ عنه. ثم إنه انْعَقَدَ الإِجماعُ في باب الصلاة: أن لا نِيَابةَ فيها، وحينئذٍ فالأقربُ أن يكونَ في باب الصيام أيضًا.
صحيح البخاري
وفي «البحر» من باب الحجِّ عن الغير: أن كلَّ عبادةٍ بدنيةٍ تجري فيها الإِثابة، أي إيصال الثواب إلى الغير. ثم قِيلَ: إنها تَجُوزُ في الفرائض والنوافل مطلقًا. أمَّا في الفرائض، فيكون الثوابُ لغيره، وإن لم يَسْقُطْ عنه الفرض. وقيل: إنها في النفل فقط. ثم قيل: إن الإِثابة إنما تكون للميت فقط. وقيل: للميت والحيِّ كليهما.
وبالجملة الحديثُ المذكورُ محمولٌ عندي على الإِثابة، ولا يَأْبَاهُ لفظ «عن»، فإنه يُسْتَعْمَلُ في الإِثابة أيضًا.
(4/332)
---
صحيح البخاري(4/324)
باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِم
صحيح البخاري
باب يُفطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَيهِ، بِالمَاءِ وَغَيرِه
1954 - قوله: (إذا أَقْبَلَ الليلُ من ههنا إلى قوله: فقد أَفْطَرَ الصَّائِمُ)، وفي كُتُبِ الفِقْهِ: أن رجلين كان أحدهما عل رأس المَنَارة يرى الشمس، والآخر على سطح الأرض، وقد غَابَتْ عن نظره أنه يَصِحُّ الإِفطار للثاني، دون الأول. وظاهرُ اللفظ أنه أَفْطَرَ بعد غروب الشمس أكل شيئًا أو لا، فيكون حكمًا من قِبَل الشارع. فإن أَمْسَكَ بعده، لا شيءَ ولا أجرَ فيه. وقال ابن تَيْمِيَة: إن الوِصَالَ إلى السَّحَر مُسْتَحَبٌّ. وثَبَتَ عن أبي بكرٍ: أنه كان يُوَاصِلُ إلى ثلاثة أيام. وعن ابن الزُّبَيْرِ: أنه كان يُوَاصِلُ إلى تسعة أيام. ويُعْلَمُ من طريق الرُّوَاة أنه كان عادةً لهم. وحينئذٍ شرحه عنده: أنه جَازَ لك الإِفطار بعد الغروب. وأمَّا قولُه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} (البقرة: 187)، ففيه غايةُ التَّحَتُّم. وأمَّا من تحرَّى الفضلَ، فله أن يُمْسِكَ إلى السَّحَرِ.
صحيح البخاري
باب ُ تَعْجِيلِ الإِفطَار
صحيح البخاري
باب إِذَا أَفطَرَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْس
ومعنى الاستحباب فيه: مخالفةُ اليهود، ومحافظةُ الحدود، وأن لا تُفْسِدُوا شَرْعَكُم، كما أَفْسَدَ اليهودُ شَرْعَهُمْ.
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ الصِّبْيَان
وقد مرَّ التنبيهُ على أن النوويَّ سها في بيان مذهب الحنفية في حجِّ الصبيِّ، فقال: إن حَجَّه غيرُ مُعْتَبَرٍ عند الحنفية، وهذا خلافُ الواقع؛ فإن عبادات الصِّبْيَان كلَّها مُعْتَبَرَةٌ عندنا، إلا أن حجَّه لا يَقَعُ عن حجة الإِسلام فَيَحُجُّ ثانيًا بعد ما يَبْلُغ.
(4/333)
---
صحيح البخاري
باب ُ الوِصَالِ، وَمَنْ قَالَ: لَيسَ فِي اللَّيلِ صِيَام(4/325)
واعلم أن الوِصَالَ على نحوين: الأول الوِصَال إلى السَّحَر، ولم يَرِدْ عنه النهيُ في الحديث، ولم يتعرَّض إليه فقهاؤنا، وهو مستحبٌ عند الحافظ ابن تَيْمِية. وأمَّا وجه التفصِّي عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ} ... إلخ،(البقرة: 187) فقد مرَّ قريبًا، وثَبَتَ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضًا. وبَحَثَ الحافظُ في «الفتح» أنه مكروهٌ لغيره صلى الله عليه وسلّمأو لا. أمَّا البخاريُّ فلم يَقْدِرْ على الفصل، ونقل آثارًا مُتَعَارِضةً، فقوله: ومن قال: «ليس في الليل صيامٌ»، يُؤيِّدُ الحنفية: أن الوِصَال إلى السَّحَر ليس بشيءٍ وقوله: «نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعنه رحمةً»، يدُلُّ على جوازه.
والثاني: وِصَالُ يومٍ بيومٍ، وفيه أيضًا بحثٌ أنه معصيةٌ، أو النهيُ فيه شفقةٌ أيضًا، ورجَّح الأول. ولذا وَضَعَ فيه التنكيل في الترجمة الآتية، ثم بَوَّبَ بالوِصَالِ إلى السَّحَر، وأخرج تحته حديثَ الجواز.
صحيح البخاري
باب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الوِصَال
1966 - قوله: (إيَّاكم والوِصَالَ)، اعلم أن قولهم: إيَّاكَ والأسدَ، من باب التحذير عند النحاة. وعندي: الضميرُ المنفصلُ: مفعول به، والاسم المظهر: مفعول معه، والواو بينهما: للمفعول معه. والمقصودُ الاتقاءُ عن المجموع، وحينئذٍ لا حاجةَ إلى التأويل. هكذا اسْتَفَدْتُ من بعض إشارات سيبويه.
صحيح البخاري
باب ُ الوِصَالِ إِلَى السَّحَر
ويُسْتَفَادُ منه: جنوحُ المصنِّف إلى اعتباره.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفطِرَ فِي التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَرَ عَلَيهِقَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَه
(4/334)
---
ويُقَالُ له: يمين الاستعطاف، ويستحبُّ للمُخَاطَب أن يجعله بارًّا في يمينه.(4/326)
قوله: (ولم يَرَ عليه قضاءً) وعليه قضاءٌ عندنا، لِمَا في «البدائع» عن أبي بكر البياضي: أن الشروعَ في التطوع بمنزلة النَّذر القوليِّ، فَيجبُ عليه الإِتمامُ، أو القضاءُ عند عدمه.
1968 - قوله: (صَدَقَ سَلْمَان)... إلخ، وإنما حسَّنه صلى الله عليه وسلّمعلى فِطْرَتِهِ السليمة، ونقل في «الفتح» جزئياتٍ عديدةً، حسَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعليها، فدَلَّ على أن المدحَ للفِطْرَة السليمة دون المعلومات الكثيرة.
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ شَعْبَان
ومرَّ وجهُهُ أنه كان يَصُومُه لِيُمْهِلَ نساءَه لقضاء صيام رمضان قبل أن يَدْخُلَ عليهنَّ رمضانُ المُقْبِلُ.
صحيح البخاري
باب ُ مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النبي صلى الله عليه وسلّموَإِفطَارِه
1972 - قوله: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّميُفْطِرُ من الشهر حتَّى نَظُنَّ أن لا يَصُومَ منه، ويَصُومُ حتى نَظُنَّ أن لا يُفْطِرَ منه شيئًا، وكان لا تَشَاءُ تَرَاهُ من الليل مُصَلِّيًا إلا رأَيْتَهُ، ولا نَائِمًا إلا رَأَيْتَهُ)... إلخ، واعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم تكن له عادةٌ مستمرةٌ في صيام الشهر، فتارةً صام فَسَرَدَ، وأخرى أفْطَرَ فَتَوَالَى، ومن ههنا جاء التعبيرُ المذكورُ. ثم إن الراوي ذكر نحوه في صلاته أيضًا، وذلك لا يَسْتَقِيمُ في الثُّلُث الأخير، فإنه كان من عادته إحياؤه، والاستراحة في السُّدُس الأخير، نعم يُمْكِن صدقه في فروع الليل وأوساطه.
1973 - قوله: (خَزَّةً) (الخَزُّ): حيوان في بلاد رُوس، تتخذ الفَرْوُ من جلده، وليس بالحرير، نعم القَزُّ حريرٌ.
صحيح البخاري
باب ُ حَقِّ الضَّيفِ في الصَّوْم
وفي «المنتقى» أن الضِّيَافةَ عُذْرٌ مبيحٌ للفِطْرِ للضيف، والمُضِيفِ جميعًا.
(4/335)
---
صحيح البخاري
باب ُ حَقِّ الجِسْمِ في الصَّوْم(4/327)
1975 - قوله: (فإن لجسدكَ عليكَ حقًّا)... إلخ، يعني أن أداءَ حقوق الله مع مراعاة حقوق النفس من مَعَالي الهِمَمِ. أمَّا الاجتهادُ في العبادة حتى يُجْهِدَ نفسه، فليس بكمالٍ.
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ الدَّهْر
وقد مرَّ منا التنبيهُ على أن صومَ الدهر أن يَصُومَ السنةَ كلَّها غير الأيام المنهية، مع الفِطْرِ بعد الغروب. فهو غيرُ الوِصَال، فإنه وصالُ صومٍ بصومٍ، بدون الإِفطار. ولا خلافَ في كونه جائزًا وموجبًا للأجر، وإنما الخلافُ في أن الأفضلَ صومُ داود، أو صومُ الدهر؟ فالأفضلُ عندنا: صومُ داود، وعند الشافعيِّ: صومُ الدهر. وعامةُ الأحاديث حُجَّةٌ للحنفية، وأقلُّها حُجَّةٌ لهم. والحقُّ أن لا فَضْلَ في الأحاديث، لأن من يَرَى صَومَ الدهر مفضولا يحتجُّ بالنفي، وهو قوله: «لا صَامَ ولا أَفْطَرَ»، ومن يَرَاهُ أفضل يَحْمِلُهُ على الشَّفَقَةِ، فأي فصلٍ هذا؟.
(4/336)
---(4/328)
ووقع في بعض كُتُبِ الحنفية أنه مكروه، وكذا يوم عاشوراء منفردًا، مع كونه عبادةً عظيمةً، وكفَّارةً لسنةٍ واحدةٍ. قلتُ: كيف وقد صامه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعشر سنين، فهل يَجْتَرِىءُ أحدٌ أن يَحْكُمَ بالكراهة على أمرٍ فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وهل يُقْصَرُ النظر في مثله على قوله: «لأَصُومَنَّ التاسعة»، أو يُنْظَرُ إلى فعله في الغابر أيضًا. والذي ينبغي: أن لا يُقْطَعَ النظرُ عمَّا فَعَلَهُ في الغابر أيضًا. وكذلك صومُ الدَّهْرِ عِبادةٌ إجماعًا، إلا أنه مفضولٌ عندنا، مع الجواز بلا كراهةٍ. وهكذا فَعَلَهُ صاحبُ «الدر المختار» في غير واحدٍ من العبادات، فأطلق عليها الكراهة، مع كونها مفضولةً فقط. وهكذا فَعَلَهُ النوويُّ، فقال: إن التمتعَ والقِرَانَ مكروهان مع كونهما عبادتان بلا خِلافٍ. ولعلَّهم أَطْلَقُوا المكروهَ على معنى المفضول. وأجدُ في باب الصيام أنهم أَطْلَقُوا المكرورهَ على المفضول أيضًا. نعم ما أطلقوا عليه من المكروه في باب الصلاة، فهو كذلك في نفس الأمر.
1976 - ثم إن قوله: «ثلاثة من كلِّ شهرٍ، كصيام الدهر» - بالمعنى ، لا يقومُ حُجَّةً للحنفية، لأن قولَهُ: كصيام الدَّهْرِ، وَقَعَ مَعْرِضَ التشبيه، فهو لِحَاظٌ ذهنيٌّ. والذي ينبغي للمُشَبَّه به أن يكونَ أقوى، سواء كان بَحَسَبِ الخارج، أو بحَسَبِ الذِّهن. وقد مرَّ منَّا غير مرةٍ واحدةٍ أن أخذَ المسائل من التشبيهات تمسُّكٌ ضعيفٌ جدًا. أَلا تَرَى إلى قوله في باب الزكاة: «من كلِّ أربعين دِرْهَمًا دِرْهَمٌ»، بيانٌ للحساب، والنظر فقط. أي خمسة دراهم في مائتي دِرْهمٍ بهذا النظر، وبهذا الحساب. فلم يَذْهَبْ هناك أحدٌ إلى أنه يَجِبُ في أربعين دِرْهَمًا دِرْهمٌ.
صحيح البخاري
(4/337)
---(4/329)
وهذا الذي رُوعِيَ في باب الوتر، حيث جعل الواحدةَ وترًا، لكونها موترًا ووترًا في لِحَاظٍ ذهنيَ، فإن الوِتْرِيَّةَ في ثُلُث الوتر ليست إلا من قبلها، وذلك في لِحَاظِ الذهن، فلا يُوجِبُ قطعها عمَّا قبلها. ومَنْ قطعها عمَّا قبلها، أراد التنبيه على هذا اللِّحَاظ، فجعلوه مسألةً.
والحاصلُ: أن صيامَ الدَّهْرِ في حديث الباب وقع في مَعْرِض التشبيه، فهو على لِحَاظ ذهنيَ، كوجوب دِرْهمٍ في الأربعين في باب الزكاة، وكواحدة الوتر في بابه كلُّ ذلك لِحَاظٌ ذِهْنيٌّ. فإن سَمَحَتْ به قريحتُكَ، فَقِسْ عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «فإنه لا صلاةَ لمن لم يَقْرأْ بها»، فإنه أيضًا لِحَاطٌ ذهنيٌّ. أَلا تَرَى أنه نهى عن صيام الدهر، ثم نزَّل الثلاث من كل شهرٍ منزلة صيام الدهر، فهل تراهما يلتقيان على نقطةٍ واحدةٍ؟ كيف وإن حديثَ النهي يُوجِبُ الكفَّ عنه، وحديث التشبيه يقتضي فضله أيّ فضلٍ.
والوجه فيه: أن حديثَ النهي وَرَدَ على شاكلة بيان المسألة، وحديث التشبيه تنزيليٌّ، وكاشفٌ عن لِحَاظ ذهنيَ فقط. فهكذا في حديث عُبَادة: «نهاهم أولا عن القراءة خلف الإِمام، وقال: فلا تفعلوا - أي القراءة خلف الإِمام - ثم استثنى منه الفاتحة، وقال: إلا بأمِّ القرآن». فهي على الاباحة، بل الإباحةُ المرجوحةُ قطعًا، ولا رائحةَ فيه للوجوب. ثم علَّله، وقال: فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها»، فهل يناسب عندك تعليل الإباحة بما يفيد الوجوب وهل هذا إلا تناقضٌ؟ بل المعنى أنه حَكَمَ أولا بإِباحة الفاتحة، ثم ذَكَرَ لها لِحَاظًا ذهنيًّا، ووصفًا اعتباريًا، أوجب تحمُّلها للمقتدي، وقراءته إيَّاها في موضعٍ وَجَبَ له الإِنصات.
واللِّحَاظُ الذهنيُّ لا يَجِبُ أن يتحقَّقَ في ذلك الموضع بخصوصه. بل كون الفاتحة بهذا الوصف، وإن كان باعتبار المُنْفَرِدِ أو الإِمامِ، جوَّزَ لنا أن نُلاحِظَ فيها هذا المعنى، ونقول بجواز قراءتها للمقتدي، نظرًا إليه./
(4/338)(4/330)
---
وقد صرَّح أحمدُ عند الترمذيِّ، وسُفْيَان، عند أبي داود: أن قوله صلى الله عليه وسلّم «لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأْ بأمِّ القرآن»، في حقِّ المنفرد، فتحقَّق هذا الوصف في المُنْفَرِد، ولِحَاظُه في حقِّ المقتدي أيضًا. ولعلَّك فَهِمْتَ الآن أن اللِّحَاظَ الذهنيَّ غيرُ الحكم، فإن الحكمَ مسألةٌ، واللِّحَاظُ الذهنيُّ اعتبارٌ مَحْضٌ. ومن لا يفرِّق بين هذين يَخْبِط خَبْطَ عشواء، ويجعل اللِّحَاظَ حكمًا ومسألةً، ويَقَعُ في الأغلاط.
صحيح البخاري
وقد ذَكَرْتُ في رسالة «الفاتحة خلف الإمام»: أن في الأحاديث أشياء بقيت في اللِّحَاظ، ولم يَظْهَرْ بها العملُ كما سَمِعْتَ. ومن الحنفية من تمسَّك بقوله صلى الله عليه وسلّم «من صَامَ الدَّهر ضُيِّقَتْ عليه جهنم» هكذا ذكره الحافظُ في «الفتح» روايةً عن ابن خُزَيْمة. قلتُ: وهذا خطأٌ. فإن في الحديث وعيدًا عظيمًا على هذا التقدير، فكيف يكون في حقِّ صوم الدهر، فإنه جائزٌ عندنا أيضًا. ورَامَ الحافظُ التقصِّي عنه. وقال: معناه إن جهنَّمَ تَبْتَعِدُ عنه، ولا يَزَالُ كذلك حتَّى يتنحَّى هكذا. وطُولِبَ أنه ينبغي أن يكونَ لفظُ الحديث على هذا التقدير: ضُيِّقَتْ عنه، مكان عليه، وعَجَزَ الحافظُ عن جوابه.
قلتُ: والحلُّ أنه على حدِّ قوله: ضاقت الجُبَّة على فلانٍ، إذا قَصُرَتْ عن جسده، ولم تَصْلُحْ له. فالمعنى: أن جهنمَ تَضِيقُ دونه، فلا تَسَعُ له، كما أن الجُبَّةَ الصغيرة تَضِيقُ على الجسد، وهو مآلُ قوله: «الصومُ جُنَّةٌ». وحينئذٍ ففي الحديث وعدٌ عظيمٌ، وفضلٌ كبيرٌ لمن صام الدهر، حتى إن جهنَّمَ مع سَعَتِهَا ضيِّقةٌ لمثله، ولا تَصْلُح له، فكيف يَدْخُلُها، فإنه ذو جُنَّةٍ؟ وكيف تَقْرُب صاحب المِجَنَّة.
ثم اعلم أن صومَ الدهر في التنزيل جاء على أنحاءٍ شتَّى، وفي بعضه يَسْتَقِيمُ حساب الحسنات بعشرٍ أمثالها، كثلاثٍ من كلِّ شهرٍ، وفي بعضه لا، فتنبَّه.
(4/339)
---(4/331)
تنبيهٌ: واعلم أن كثيرًا من باب الفضائل يَرِدُ بها الأحاديثُ القوليةُ. ولا يَردُ بها الفعل، وليس يَلْزَمُ أن يَعْمَل بكلِّ فضيلةٍ كلُّ أحدٍ. ولكن فضيلةٌ وفضيلةٌ، ورجلٌ ورجلٌ. فالأذانُ ذكرٌ، وموجبٌ للفضل، إلا أن له رجالا، وكذلك الإِمامةُ أيضًا فضيلةٌ، ولها أيضًا رجالٌ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ؛ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَتٍ} (البقرة: 253).
1976 - قوله: (لا أَفْضَلَ من ذَلِكَ)، قاله في صيام داود، وذلك لتَجَاذُب الأطراف في صيام الدهر، فلا يُريدُ أن يرغِّب فيه، ولا يريد أن يَنْهى عنه صراحةً. فلذا لم يأمره به في جواب قوله: «إني أُطيقُ أكثَر من ذلك»، ولا نهى عنه صراحةً، ولكن قال: لا أفضلَ من صيام داود، وهو دَأْبُ البُلَغَاء في مثل هذه المواضع.
صحيح البخاري
باب ُ حَقِّ الأَهْلِ في الصَّوْم
1977 - قوله: (لا صَامَ من صَامَ الأَبَدَ): وذكروا له عِدَّةَ معانٍ، ويمكن أن يكونَ معناه: أن التَّعَهُّدَ به عسيرٌ، بل متعذرٌ، كما كان عبد الله بن عمرو يقول بعد ما كَبِرَ: «يا ليتني قَبِلْتُ رخصة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فما ضَعِفْتُ عنه في تلك الأيام أيضًا، وإن أحَبَّ الأعمال إلى الله أدْوَمُهَا».
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفطَارِ يَوْم
1978 - قوله: (حتى قال: في ثلاثٍ)، ولم يَرِدْ في الأحاديث أقلُّ منه، مع أن العلماءَ والصُّلَحَاء قد قرؤوا القرآن كلَّه في أقلَّ منها أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلام
صحيح البخاري
باب صِيَامِ أَيَّامِ البِيضِ: ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفطِرْ عِنْدَهُم
(4/340)
---(4/332)
1979 - قوله: (نَفِهَتْ له النَّفْسُ)، أي عَجَزَت. وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص هذه عند النَّسائي مُخْلَطَةٌ عظيمةٌ، فَلْيُتَنَبَّهْ، إلا أن ضيقَ الوقت لا يرخِّص لي أن أَذْكُرَهَا مُفَصَّلَةً.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْر
1983 - قوله: (من سَرَرِ شَعْبَان)، قيل: بمعنى أوائله. وقيل: بمعنى أوساطه، والأكثرون إلى أنه بمعنى أَوَاخِره. والحديث فيمن كان الصومُ في آخر الشهر عادةً له. وحينئذٍ لا يَرِدُ عليه حديث النهي عن التقدُّم على رمضان بيومٍ أو يومين.
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَة
صحيح البخاري
باب ُ هَل يَخُصُّ شَيئًا مِنَ الأَيَّام
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَة
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ يَوْمِ الفِطر
وفي «الدُّرِّ المختار»: أنه مكروهٌ. قلتُ: كلاّ، بل يُمْكِنُ أن يكونَ مفضولا. وذلك أيضًا بالنظر إلى الوجوه الطارئة والعوارض الخارجية، كفساد عقائد الناس. أمَّا النهيُ عن السبت، فلأجل التشبُّه باليهود.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّوْمِ يَوْمَ النَّحْر
واعلم أن يومَ الفِطْرِ والنَّحْرِ لمَّا كانا يومي عيدٍ، فكيف الصوم فيهما، وحينئذٍ معنى النهي فيهما أظهر.
1993 - قوله: (يُنْهَى عن صِيَامَيْنِ)... إلخ، وإنما ذكر النهيَ عن البَيْعَتَيْن، مع النهي عن صومين، لأنه أراد الجمعَ بين الثِّنْتَيْن.
1994 - قوله: (جَاءَ رجلٌ إلى ابن عمر)... إلخ، وصورة جوابه ذكرها المُحَشِّي.
صحيح البخاري
باب ُ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيق
(4/341)
---(4/333)
وهي أيضًا مكروهةٌ عندنا تحريمًا: القَارِنُ، والمُتَمَتِّعُ، وغيرهما سواء. ورُوِيَ عن عائشةَ رخصة في حقِّها، عند الطحاويِّ. ولنا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنَهَى عن صيام هذه الأيام من غير فصلٍ. ولعلَّ عائشةَ، وابن عمر أخذاه من قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ}... إلخ،(البقرة: 196) ولم يَبْلُغْهُمَا النهي. والله تعالى أعلم. وراجع الطحاويَّ.
ثم لا يخفى عليك أنه ما الفرقُ بين الصلاة والصيام، حيث حَمَلُوا النهيَ الواردَ في باب الصلاة على الكراهة في أكثر المواضع، بخلاف الصيام، فإنهم لم يَحْمِلُوه على الكراهة إلا في العيدين وأيام التشريق. فالوجهُ أن كلَّه من مراحل الاجتهاد. ولمَّا لم يَرَوْا النهيَ عن الصيام في تلك الأيام يَبْلُغُ مبلغ الكراهة، واستشعروا في باب الصلاة أن النهيَ عنها في جملة المواضع لمعنى الكراهة، حَمَلُوه في الصيام على معانٍ أخرى، وفي الصلاة على معنى الكراهة.
صحيح البخاري
باب ُ صَوْمِ يَوْمِ عاشُورَاء
وهو عاشرُ المحرَّم. وما نُسِبَ إلى ابن عباس أنه التاسعُ فليس بشيءٍ، لما رَوَى الترمذيُّ، قال: «أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمبصوم عاشوراء، يوم العاشر»، وإنما أراد أن السُّنة أن يَصُومَ التاسعَ معه، لا أنه عَاشُورَاء، فحسب.
(4/342)
---(4/334)
2004 - قوله في حديث ابن عباس: (قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالمدينةَ)... إلخ، وفيه إشكالٌ عويصٌ، وهو أنه يُسْتَفَادُ من التوراة أن موسى عليه السلام إنما نُجِّي في عاشر تشرين الأول، وهو غير عاشر المحرَّم. وأيضًا في «معجم الطبرانيِّ»، عن زيد بن ثابت: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا دَخَلَ المدينةَ، وجد اليهود قد صَامُوا عَاشُورَاء، فسأل عن ذلك اليوم، فقالوا: هذا يومٌ خلَّص الله فيه نبيَّه موسى عليه السلام، فنحن نَصُومُهُ شكرًا، قال: فنحن أحقُّ»، مع أن الشهرَ الذي دَخَلَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالمدينة كان ربيع الأول. فكيف أن يكونَ هذا اليوم يوم عاشوراء؟ وقد أَجَبْتُ عن الإِشكالين في مقالةٍ لي بمجلة «القاسم» مبسوطًا، فلتراجع.
تنبيهٌ: واعلم أن من يَقْسِمُون الطعام على المساكين بعد غروب الشمس من يوم عَاشُوراء، أو من الغد، فليسوا يُحْرِزُون من صواب التصدُّق في ذلك اليوم شيئًا، فينبغي أن يُقْسَمَ الطعام قبل الغروب، ليقع التصدُّق في العاشر، لا في الحادي عشر.
صحيح البخاري
كتاب صَلاةِ التَّرَاوِيح
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ مَنْ قامَ رَمَضَان
وقد مرَّ منا التحقيقُ في القيام في كتاب الإِيمان: أن المقصودَ منه القيام للصلاة، أو إحياء الليل فحسب.
2010 - قوله: (فقال عُمَرُ: إني أرى لو جَمَعْتُ هؤلاء على قارِىءٍ واحدٍ)... إلخ. قد مرَّ الكلامُ على جملة أجزاء هذا الحديث، فلا نُعِيدُه.
(4/343)
---(4/335)
واعلم أنه ذَهَبَ جماعةٌ من الحنفية إلى أن التراويحَ في البيت أفضل لمن كان حافظَ القرآن، ومن لا يكون كذلك، فالأفضل له أن يَحْضُرَ الجماعةَ يستمع الذكر. وذَهَبَ جماعةٌ إلى أن الفضلَ في حضور الجماعة مطلقًا. وجَنَحَ الطحاويُّ إلى الأول، وهو الأرجح، فإنه ثَبَتَ عن كِبَار الصحابة أنهم كانوا يُصَلُّونها في البيت. وهذا عمر لم يكن يُصَلِّيها بالجماعة، مع كونه أميرًا، فكان ينبغي له أن يَخْرُجَ إليهم، فإن الإِمامةَ إذ ذاك كانت مختصةً بالأمير. نعم ينبغي للعلماء أن لا يُفْتُوا به، فإن من لا يأتي الجماعةَ يُوشِكُ أن لا يصلِّيها رأسًا. وهذا هو الحال في السُّنن، فإن الأفضلَ فيها أن تُصَلَّى في البيوت، إلا أنه ينبغي الفَتْوَى بأدائها في المسجد، لئلا يَحْتَالَ المُتَكَاسِلُون في تركها. وثَبَتَ عن عليَ أنه أمَّ بالكوفة في التراويح.
وأمَّا عددُ ركعات التراويح، فقد جاء عن عمر على أنحاءٍ، واستقرَّ الأمر على العشرين مع ثلاث الوتر. ويُعْلَمُ من «موطأ مالك»: أنه خفَّف في القراءة، وزاد في الركعات بتنصيف القراءة، وتضعيف الركعات. وبعد ما تَلَقَّتْهُ الأمةُ بالقَبُول، لا بحثَ لنا أنه كان ذلك اجتهادًا منه، أو ماذا؟ ومَن ادَّعى العملَ بالحديث، فأَوْلَى له أن يُصَلِّيها حتى يخشى فوت الفلاح، فإن هذه صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي اليوم الآخر. وأمَّا من اكتفى بالركعات الثمانية، وشذَّ عن السواد الأعظم، وجعل يَرْمِيهم بالبدعة، فَلْيَرَ عاقبته، والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
كتاب فَضْلِ لَيلَةِ القَدْر
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ لَيلَةِ القَدْر
قوله: (خَيْرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ)، وهو بالحساب ثمانون سنةً وشيءٌ، وإنما رُفِعَ علمها ليَلْتَمِسَها الناسُ، فَيُحْرِزُوا مزيدَ الأجر، والله تعالى أعلم. وهذا نظير ما قاله الرازي في إبهام الصلاة الوسطى.
(4/344)
---
صحيح البخاري(4/336)
باب ُ التِماسِ لَيلَةِ القَدْرِ في السَّبْعِ الأَوَاخِر
وقد مرَّ مني التنبيه على أن تلك الليلة، وإن كانت في الأوتار، إلا أن المأمورَ بالقيام هو العشرة بتمامها، الأَشْفَاعُ والأَوْتَارُ، كلُّها سواء، وإليه يُشِيرُ قوله صلى الله عليه وسلّمفي حديث الباب: «فمن كان مُتَحَرِّيها فَلْيَتَحَرَّها في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ»، ويُخَالِفهُ ما أخرجه البخاريُّ في الباب الآتي: «تَحَرَّوْا ليلةَ القدر في الوِتْر من العَشْرِ الأَوَاخِر من رمضان»، فإنه يُشْعِرُ بابتغائها في الأوتار خاصةً. والوجه عندي: أنه قد تبيَّن عندنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّماعتكف في العشرة الأخيرة من رمضان، وأمر باعتكافها. أمَّا الأمرُ بالاجتهاد في الأوتار، فَيُبْنَى على الظن بالأغلب على كونها فيها، دون الاقتصار عليها. ويَدُلُّ على ما قلنا قولُه صلى الله عليه وسلّم «فابْتَغُوهَا في العَشْرِ الأَواخِرِ، وابْتَغُوها في كلِّ وِتْرٍ».
صحيح البخاري
باب ُ تَحَرِّي لَيلَةِ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِر
2021 - قوله: (في تاسعةٍ تَبْقَى)... إلخ. واعلم أن الأحاديثَ في الأمر بإِحياء العشر وَرَدَتْ بنحوين: إمَّا بالإِحياء بمجموعة، أو الإِحياء بأوتاره خاصةً، ولم تَرِدْ بإِحياء الأَشْفَاع خاصةً. ثم إن التاسعة، والسابعة، والخامسة أَشْفَاعٌ، إن كان الشهر ثلاثين، وإلا فهي أوتارٌ. والأسهلُ عندي أن يُقَال: إنه يُبْنَى على اختلاف تعديدها، فإن عَدَدْتَهَا من الأول إلى الآخر تكون هذه أشفاعًا، وإن عَدَدْتَهَا من الآخر إلى الأول تكون أوتارًا، وهذه صورتها:
21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 9 - 8 - 7 - 6 - 5 - 4 - 3 - 2 - 1
(4/345)
---(4/337)
فالثانيةُ والعشرون شفعٌ من وجهٍ، ووِتْرٌ من وجهٍ. فإن أَخَذْتَ الحساب من الأول، فهي شَفْعٌ، وإن أَخَذْتَهُ من الآخر، فهي وِتْرٌ، فإنها التاسعةُ، كما ترى فيما صوَّرْنَاهُ. وقِسْ عليها الباقيةَ، فإن ليلة الثلاثين شَفْعٌ على الحساب المعروف، ووِتْرٌ على غير المعروف. وهذا وإن لم يَقْرَعْ سمعَكَ، لكنه يُحْتَمِلُ أن يكونَ مرادًا. فإنه كما وَرَدَ الإِبهامُ في أيامها، كذلك يُمْكِنُ أن يكونَ وَرَدَ في حسابها أيضًا، فهو إبهامٌ في إبهامٍ. وعلى هذا تبيَّن الجوابُ عمّا ذَكَرَهُ البخاريُّ عن ابن عباس: «الْتَمسُوها في أربعٍ وعشرين» فإنها سابعةٌ، وهي وِتْرٌ إن أُخِذَتْ في الحساب من الآخر. وللحافظ ههنا كلامٌ غير واضحٍ، والأسهلُ ما قُلْنَا.
2022 - قوله: (في تِسْعٍ يَمْضِينَ، أو في سَبْعٍ يَبْقَيْنَ)... إلخ. وهذا وإن كان الشهرُ تسعًا وعشرين. فظاهرٌ. وإلا، فالوجهُ ما قُلْنَا، والتفصيلُ ما حرَّرنا.
صحيح البخاري
باب ُ رَفعِ مَعْرِفَةِ لَيلَةِ القَدْرِ لِتَلاحِي النَّاس
صحيح البخاري
باب ُ العَمَلِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان
وفي «الفتح» روايةٌ قويةٌ، تَدُلُّ على رفع أصلها. والمرادُ منه: الرفعُ من تلك السنة فقط. ولعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأُعْطِي علمها من تلك السنة، وهو الذي رُفِعَ عنه.
2023 - قوله: (تلاحَى رَجُلان)، قيل: هما: كعب بن حداد، ورجلٌ آخر قلت: ويمكن أن يكونَ غيرهما.
صحيح البخاري
كتاب كِتَابُ الاعْتِكَاف
صحيح البخاري
باب الاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالاعْتِكَافِ فِي المَسَاجِدِ كُلِّهَا
صحيح البخاري
باب الحَائِضِ تُرَجِّلُ رَأْسَ المُعْتَكِف
صحيح البخاري
باب لا يَدْخُلُ البَيتَ إِلا لِحَاجَة
(4/346)
---
صحيح البخاري
باب ُ غَسْلِ المُعْتَكِف(4/338)
وهو سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ على الكِفَايَةِ، وبالنَّذْرِ يكون واجبًا. والنَّذْرُ عندنا عملُ اللسان، لا نِيَّةُ الجنان فقط.
صحيح البخاري
باب ُ الاِعْتِكَافِ لَيلا
صحيح البخاري
باب ُ اعْتِكَافِ النِّسَاء
صحيح البخاري
باب ُ الأَخْبِيَةِ فِي المَسْجِد
واختار ابن الهُمَام أنه يُشْتَرَطُ الصوم للاعتكاف مطلقًا، وإن كان بساعةٍ. ولا يُشْتَرَط في النفل عند «البحر»، وكذا في «المبسوط»، وهو الأصوبُ عندي. ولا دليلَ في حديث الباب، فإن في اللفظ الآخر «أَعْتَكِف يومًا» مكان: «ليلةً».
2032 - قوله: (فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ)، ولنا أن نَحْمِلَهُ على الاستحباب إن كان نَذْرُهُ قبل الإِسلام.
صحيح البخاري
باب هَل يَخْرُجُ المُعْتَكِفُ لِحَوائِجِهِ إِلَى بَابِ المَسْجِد
صحيح البخاري
باب ُ الاعْتِكَافِ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم صَبِيحَةَ عِشْرِين
صحيح البخاري
باب ُ اعْتِكَافِ المُسْتَحَاضَة
صحيح البخاري
باب ُ زِيَارَةِ المَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي اعْتِكَافِه
صحيح البخاري
باب هَل يَدْرَأُ المُعْتَكِفُ عَنْ نَفسِه
2035 - قوله: (عند باب أُمِّ سَلَمَةَ)، وهذا الباب في الطريق. أمَّا بيتها، فكان في دار أُسَامَة، كما سيجيء.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْح
2040 - قوله: (فلمّا كان صَبِيحَةَ عِشْرِين نَقَلْنَا مَتَاعَنَا)... إلخ، أي أمرنا الناسَ أن يَنْقُلوا متاعنا، لأن الخروج لا يكون إلا بعد الغروب.
صحيح البخاري
(4/347)
---
باب ُ الاعْتِكَافِ فِي شَوَّال
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيهِ صَوْمًا إِذَا اعْتَكَف
صحيح البخاري
باب إِذَا نَذَرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ أَسْلَم
صحيح البخاري
باب ُ الاِعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَان
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُج
صحيح البخاري(4/339)
باب ُ المُعْتَكِف يُدْخِلُ رَأْسَهُ البَيتَ لِلغُسْل
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّماعْتَكَفَ فيه قضاءً عن اعتكافه.
صحيح البخاري
(4/348)
---
كتاب البُيُوع
قوله تعالى: ({وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَواْ}...) إلخ، هذا جوابٌ عن قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَواْ} (البقرة: 275)، وحاصلُ الجواب: أنكم كيف حَكَمْتُم بالتَّسْوِيَةِ بين البيع والرِّبَا، مع الفرق الجليِّ بينهما؟ فإن البيعَ حلالٌ، والرِّبا حرامٌ. قيل: والأوضحُ في مرادهم: إنما الرِّبَا مثل البيع، أي فَلْيَكُنْ أيضًا حلالا، كالبيع، وقال الشيخُ ناصر الدين بن المنير: إن كلا التَّرْكِيْبَدْ صحيحٌ. وحاصلُ كلامهم: أن البيعَ والرِّبا كالشيء الواحد، فإِمَّا أن يكونَ البيعُ أيضًا حرامًا كالربا، أو يكون الرِّبا أيضًا حلالا كالبيع. وذلك هو الفرقُ بين التركيبين، والمعنى فيهما واحدٌ، وهو عدم الفرق. وهدى القرآنُ إلى الفرق بينهما، وعدم صحة قياس أحدهما على الآخر، كما رَأَيْتَ.
قوله: (تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)... إلخ،(البقرة: 282) وترجمته (دست كردان)، والتجارةُ الحاضرةُ احترازٌ عن بَيْع السَّلَمِ.
صحيح البخاري
باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
ولمَّا كان الله سبحانه نهاهم عن البيع بعد نداء الجمعة، وأمرهم بالسعي إلى ذكر الله، عقَّبَهُ بانتهاء النهي بعد انقضاء الصلاة، وعَوْدِ الإِباحة الأصلية، فأَمَرَهُمْ بالانتشار في الأرض لِيَبْتَغُوا من فضل الله.
2047 - قوله: (على ملأ بَطْني)، ورَسْمُ الخط فيه: أن تُكْتَبَ الهمزة على الألف لا بعدها، وهكذا الرسمُ في همزة «امرأة».
(5/1)
---(4/340)
2047 - قوله: (فما نَسِيتُ من مَقَالَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّمتلك من شيءٍ)... إلخ، واعلم أن هذا اللفظ يُوهِمُ أن عدم نسيان أبي هريرة يَقْتَصِرُ على تلك المقالة فقط، مع أن الظاهرَ عمومُه لكل ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعد ذلك، ولذا كان أحفظَهم للأحاديث، وهو الذي يُلائِم شِكَايته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمودعائه له. فأخرج البخاري قُبَيْل باب فضائل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عن أبي هُرَيْرَة، قال: قلتُ: يا رسول الله، إني سَمِعْتُ منك حديثًا كثيرًا، فأنساه، قال: ابسط رداءك، فَبَسَطْتُه، فغرف بيده فيه، ثم قال: ضُمَّهُ، فَضَمَمْتُهُ، فما نَسِيتَ حديثًا بعدُ» اه- . فَدَلَّ على أن شَكْوَاه كانت في نسيان الأحاديث التي سَمِعَها منه، وأنه إذ دعا له النبيُّ صلى الله عليه وسلّملم يَنْسَ بعده حديثًا من أحاديثه. فإذن هو عامٌّ للأحاديث مطلقًا، وإنما جاء الإِيهام والإِبهام من تصرُّفات الرواة في التعبير، فَلْيَحْمِلْهُ على ما قُلْنَا، ولا ينبغي الجمود على الألفاظ بعد تبيُّن المراد.
2048 - قوله: (قال: زِنَةَ نَوَاةٍ من ذهبٍ، أو نَوَاةً من ذَهَبٍ)، واعلم أن نَوَاةً من ذهبٍ مَخْصُوصَةٌ في اصطلاحهم بخمسة دَرَاهِم. وأما زِنَةُ نَوَاةٍ من ذَهَبٍ فهي عامةٌ، بالغةً ما بلغت، فإنها يُمْكِنُ أن تزيدَ على عشرة دَرَاهِم أيضًا.
صحيح البخاري
باب الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَينَهُمَا مُشَبَّهَات
(5/2)
---(4/341)
وقد تكلَّمنا عليه في كتاب الإِيمان، ونبَّهناك على أن الحديثَ جليلٌ لاشتماله على ضابطةِ الحلال والحرام من قِبَلِ صاحب الشرع. ولاحَظَّ فيه للآخرين، فإنا لا ندري ماذا أُرِيدَ بكون الحلال والحرام بيِّنًا. فإنا كثيرًا ما نجدهما غير بيِّنين، تجري فيهما الأفكار، وتختلف فيهما الأنظار. وصنَّف فيه الشوكانيُّ رسالةً، وليس لها مُحَصِّل غير حلِّ الألفاظ، وذلك القدر هو المرجو من أمثاله لا غير.
صحيح البخاري
باب ُ تَفسِيرِ المُشَبَّهَات
ولعَمْرِي أن المصنِّفَ أَبْدَعَ في التراجم، فبوَّب أولا في تفسيره ليتعيَّن مِصْدَاقه في ذهنك، ثم بوَّب بما يُسْتَحَبُّ التجنُّب عنها، ثم بوَّب بالوساوس، لِيَدُلَّ على الفرق بين الشُبُهَات والوساوس. فإن الاحتراز عن الشبهات استبراء للدِّين، والاعتداد بالوساوس إفسادٌ له.
ثم إن ما ذكره المصنِّف من تفسيره عن حَسَّان ليس تفسيرًا له، فإن قوله: «دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ»، لم يُفِدْ له شيئًا، وإنما دَلَّ حسانٌ على صورة العمل فقط، لا أنه شَرَحَ الحديث. وراجع لتحقيقه «عقيدة الإِسلام»، وأَوْفَى منه من حاشيته «تحية الإِسلام». وأخرجه التمذيُّ أيضًا، وفيه: «وبين ذلك أمورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لا يدري كثيرٌ من الناس أَمِنَ الحلال أم من الحرام». اه- .
(5/3)
---(4/342)
وهذا يَدُلُّ على أن المرادَ من الاشتباه: الاشتباهُ في الأوصاف، والحكم. وفي «الفتح»: إن المُشَبَّهَاتِ هي المباحات. فقد اعتبرها بحسب الحقيقة دون الحكم. فإن حكمَ المباحات معلومٌ. والمعنى أن من أتى سائر المباحات حتى لم يَبْقَ بعدها إلا المحرَّمات، أَوْشَكَ أن يَقَعَ فيها، فلا بُدَّ لاستبراء الدِّين إن يَتْرُكَ حصةً من المباحات أيضًا. بخلاف ما عند الترمذيِّ، فإنه يَدُلُّ على أن المرادَ به الاشتباهُ في الحكم، فافهم. وقد مرَّ الكلامُ على لفظ المُتَشَابِه، والمُشَبَّه، والمُشْتَبِه في كتاب الإِيمان. فإن التَّشَابُهَ يقتضي عدم علم المراد كالمُتَشَابِهَات في القرآن. ومقتضى الثاني: الإِشارةُ إلى القياس الفِقْهِي. ومقتضى الثالث: عدم علم الحكم.
2052 - قوله: (كَيْفَ وقَدْ قِيلَ)، قد مرَّ في العلم: أنه محمولٌ عندنا على الدِّيانة، كما مرَّ عن الرَّمْلي.
(5/4)
---(4/343)
2053 - قوله: (كان عُتْبَةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أخِيه)... إلخ، واعلم أن العربَ كانوا يَزْنُون بامرأةٍ واحدةٍ، فإذا أَتَتْ بولدٍ وادَّعَاهُ واحدٌ منهم، ثَبَتَ عندهم نَسَبُهُ منه، وكان يُلْحَقُ به فإذا أشرف عُتْبَة على الموت - وهو الشقيُّ الذي أُصِيْبَ منه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمما أُصِيبَ يوم أحدٍ، ومات على الكُفْر - أَوْصَى أخاه سعد بن أبي وقَّاصٍ على عادتهم في الجاهلية: أنه زَنَى بوليدة زَمْعَة، وولدها منه، ليأخذه بعد وفاته، فإنه ابن أخيه. فلمَّا وَلَدَتْهُ، أراد سَعْدُ أن يأخذَ ابن أخيه. وأبى عبد بن زَمْعَة أن يُعْطِيه، فإنه كان أخوه وابن أبيه، فَتَخَاصَمَا في ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقصَّا عليه أمرهما، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّملعبد بن زَمْعَة: «هو لك»، ثم قال: «الولد للفِرَاش، وللعاهر الحجر». ولمَّا كانت تلك الوليدة فِراشًا، ومملوكةً لزَمْعَة، أَسْلَمَ وَلَدَها إلى أخيه، ولم يُلْحِقْهُ بعُتْبَة، وأمر لسَوْدَة بنت زَمْعَة أن تَحْتَجِبَ من هذا الولد الذي ادَّعاه عُتْبَة أنه منه. هذا مُلَخَّص ما في الحديث.
صحيح البخاري
(الخلاف في ثبوت النسب من السُّرِّيَّة)
فاختلفت فيه أنظار الأئمة، فقال الشافعيةُ: معنى قوله: «هو لك»، أي «هو أخوك» كما في رواية البخاريِّ في المغازي. وقال الحنفيةُ: معناه هو لك، أي مِلْكًا، لا أنه أخوك نَسَبًا، كما في «مسند أحمد»، والنَّسائي «ليس لك بأخٍ»، وصحَّحه الذهبيُّ في «الميزان» في ترجمة يوسف بن عدي. وذلك لأنهم اخْتَلَفُوا في ثبوت النَّسَبِ من السُّرِّيَّة، هل تُشْتَرَطُ له الدعوى أو لا.
(5/5)
---(4/344)
فذهب الحنفيةُ إلى أن فِرَاشَهَا ضعيفٌ، فلا يَثْبُتُ النَّسَبُ منها إلا إذا ادَّعاه المَوْلَى. فإذا فعله صارت له أم ولد، وحينئذٍ لا يَحْتَاجُ إلى دعوةٍ لكونها فِرَاشًا متوسِّطًا إذ ذاك. أمَّا إذا كانت قِنَّة، ولم تَصِرْ أم الولد، فلا يَثْبُتُ النَّسَبُ منه بدون الدعوة.
وذهب الشافعيُّ إلى أنه لا حاجة إلى الدعوة بعد التحصين، وهو عنده: أن يَحْبِسَها في البيت، ولا يَدَعَها تتبرَّج تبرُّج الجاهلية. وراجع تفسيره عندنا من «مبسوط السَّرَخْسِي»، فإنه لم يحقِّقه غيره وحينئذٍ يَثْبُتُ نَسَبُه من غير دعوةٍ، لكون الظاهر كونه منه دون غيره، فَيَثْبُتُ عندهم النسب في الصورة المذكورة، ويكون قوله: «هو أخوك»، محمولا على ظاهره. أمَّا قوله: «ليس لك بأخ»، فهو عندهم معلولٌ، أعلَّه البيهقيُّ. وأمرُ الاحتجاب عندهم محمولٌ على الاحتياط.
والحاصل: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّممشى في حق عبد على القضاء، فَيَتَوَارَثُ منه. وعلى الدِّيانة في حقِّ سَوْدَة، فأمرها بالحجاب، وأمر كلاًّ منهما ما كان أَصْلَح لهما. وقال الحنفيةُ: إنه لم يُرِدْ بقوله: «وهو لكَ أخٌ» أخوة النسب، كيف وأنه قال لسَوْدَةَ: «احْتَجِبي منه»، مع أنها كانت بنت زَمْعَةَ أيضًا، وهل يُمْكِنُ أن يكون هذا الولد أخًا لعبد بن زَمْعَةَ، ثم لا يكون أخًا لسَوْدَةَ بنت زَمْعَة؟ وهل يُنَاسِبُ الأمر بالحِجَاب، بعد كونه أخًا في حقِّه خاصةً، فَيُؤْخَذُ به. أمَّا تَعَلُّلهم بالإِعلال، فلا يُسْمَعُ بعد تصحيح الذهبيِّ، وتأييد لفظ البخاريِّ: «احْتَجِبي»، فإنه في معنى قوله: «ليس لك بأخٍ».
(5/6)
---(4/345)
والحاصلُ: أن نَسَبَهُ لم يَثْبُتْ عندنا من زَمْعَةَ، لكونها وَلِيدَةً له، ولا يَثْبُتُ النَّسَبُ منها بدون الدعوة، ولم تُوجَد. وكذا لم يَثْبُت من عُتْبَةَ، وإن ادَّعاه لكونه زانيًا، وللعاهر الحجر بنصِّ الحديث. وقال مولانا شيخ الهند: إن لفظَ الراوي أيضًا يَدُلُّ على أنه فَهِمَ عين ما فَهِمَهُ الحنفية، فإنه قال: ابن وَلِيدَة زَمْعَةَ، ولم يَقُلْ: ابن زَمْعَةَ، مع أن الظاهرَ ابن زَمْعَةَ، فنسبتهُ إلى أمِّهِ أوضحُ القرائن على أن نَسَبَهُ لم يَثْبُتْ من أبيه في ذهن الراوي أيضًا.
صحيح البخاري
والحاصلُ: أن اللفظَ الواحدَ يُؤَيِّدُ الحنفية. والآخر الشافعية. ومرَّ عليه الشيخُ ابن الهُمَام في «التحرير»، وقال: لِمَ لا يجُوزُ أن تكونَ تلك الوليدة أم ولده؟ كما يُشْعِرُ به لفظ «الوليدة»، وهي مشتقةٌ من الولد، فهي حقيقةٌ في أم الولد، وإطلاقها في القنة توسُّعٌ، وحينئذٍ لا بأس بثبوت النَّسَبِ منه عندنا أيضًا.
قلتُ: ولكن يُشْكِلُ عليه لفظ: «ليس لك بأخ» فإنه صريحٌ في عدم ثبوت النسب المُسْتَلْزِم لعدم كونها أمَّ الولد. ولذا ترجمته في «الهندية» (باندى)، لا بأم الولد. قلتُ: وتَتَبَّعْتُ له تفسيرَ ابن جرير، فوجدت فيه: أن تلك الوَلِيدة كانت من بغايا مكة، فأين الشافعية، وأين ثبوت النَّسَبِ؟ فإنه يُبْنَى عندهم على التحصين، وإذا انعدم التحصين، انْعَدَمَ ما يُبْنَى عليه. وتكلَّم الشيخ عمرو بن الصلاح من جانب الشافعية كلامًا جيدًا، نقله الحافظ في «الفتح»، فراجعه.
2053 - قوله: (عَهِدَ إليَّ)، أي على طريقهم في الجاهلية في ادِّعَاءِ النَّسَبِ، وإن لم يَثْبُت النَّسَبُ بذلك الطريق في الإِسلام.
2053 - قوله: (عبد بن زَمْعَةَ)، هكذا في عامة النسخ - بحذف همزة الإِبن - وعليه الاعتماد، وفي بعضها بإِثباتها، والظاهر أنه عطفُ بيانٍ لا خبر مبتدأ، أي هو ابن زَمْعَةَ.
(5/7)
---
(أنواع الفراش عند الحنفية)(4/346)
2053 - قوله: (الوَلَدُ للفِرَاشِ)، والفراشُ عند الحنفية على ثلاثة أنحاءٍ: قويٌّ، ومتوسِّطٌ، وضعيفٌ. فالقويُّ ما يَثْبُتُ فيه النَّسَبُ من غير دعوةٍ، ولا يَنْتَفي بالنفي إلا بعد اللِّعان. والمتوسِّطُ ما لا يحتاج لثبوت النَّسَبِ إلى دعوةٍ مع انتفائه بالنفي بدون اللِّعان. والضعيفُ ما لا يَثْبُتُ فيه النَّسَبُ بدون دعوةٍ، وينتفي بالنفي، ولكن يَجِبُ على المولى دِيَانةً أن يدَّعي نَسَبَهُ إذا عَلِمَ أنه منه. والأول: فراشُ المنكوحة، والثاني: فراش أم الولد، والثالث: فراش الأَمَةِ. وقالوا: إن نَفْسَ النكاح في المنكوحات فِرَاشٌ، فكأن الفِرَاشَ عندهم صار عَلَمًا للنكاح.
ويَلْزَمُ عليهم إثبات النَّسَبِ فيما إذا نَكَحَ المغربيُّ مشرقيةً، ولم يُفَارِق واحدٌ منهما مكانه، ثم أَتَتْ بولدٍ لستة أشهرٍ مع عدم إمكان العُلُوق منه، وهم يَلْتَزِمُونه. وذلك لأن ثبوتَ النَّسَبِ يُبْنَى على ثبوت الفِرَاشِ بالنصِّ، وهو النكاحُ. فإذا ثَبَتَ النكاحُ، وأتت بولدٍ في مدَّةٍ يَحْتَمِلُ أن يكونَ منه، يَلْزَمُهُ نَسَبُهُ لأجل الفِرَاشِ. واستبعد الشافعيةُ، مع أنهم أقرّوا بأن المنكوحة تَصِيرُ فِرَاشًا بمجرد عقد النِّكاح، ولكنهم شَرَطُوا إمكان الوَطْء، أيضًا بعد ثبوت الفِرَاش. فإن لم يُمْكِنْ، كما في الصورة المذكورة، لم يُلْحِقُوا نَسَبَهُ منه لعدم إمكان كونه منه.
صحيح البخاري
(5/8)
---(4/347)
والحديثُ حُجَّةٌ لنا، لأنه جَعَلَ النَّسَبَ تابعًا للفِرَاش، وهو مُقْتَضَى العقل والنقل. أمَّا النقلُ، فكما عَلِمْتَ. وأما العقلُ، فلأنه ليس على القاضي أن يُحَقِّقَ إمكان المخالطة بين الزوجين. أمَّا النكاح، فمبناه على الإِعلان، فلا عُسْرَ في تحقيقه، بخلاف المخالطة، فإن مبناه على السرِّ، وليس عليه تحقيق تلك الأشياء التي قد لا يَطَّلِعُ عليه خواصُّ أهل البيت أيضًا. ثم إنه ماذا يكون باشتراط الإِمكان، لاحتمال أن يكونا التقيا في محلَ، ثم لم يُجَامِعْهَا الزوجُ، وأَتَتْ بولدٍ في تلك المدَّة، أو جامعها ولم تَحْمِلْ منه، وزَنَتْ - والعياذ بالله - وعَلِقَت منه.
فهذه الاحتمالات لا تَنْقَطِعُ أبدًا، وإن تفاوتت قوَّةً وضعفًا. فالذي يَدُور عليه أمر النَّسبِ هو الفراشُ. وليس على القاضي أن يتجسَّسَ سرائر الناس. ثم إنهم غَفَلُوا عن بابٍ آخر. ولو نَظَرُوا إليه لَمَا كان لهم فيه محل استبعادٍ، وهو: أن الشرعَ أَوْجَبَ على الزوج أن يُلاعِنَ امرأته إذا عَلِمَ أن حملَها ليس منه، فَوَجَبَ عليه اللعان في الصورة المذكورة. وإذا شدَّد فيه على الزوج من جانبٍ، خفَّف في ثبوت النَّسَبِ - لأجل الفراش - من جانبٍ آخر.
وما أحكم وأحسن هذه الوتيرة، لو كانوا يفقهون. فإن الحنفية لمَّا رأوا أن الشرعَ قد راعى هذا الجانب في بابٍ آخرَ بنفسه، لم يَزِيدُوا قيدًا آخر من عند أنفسهم، لأنه يُوجِبُ هَدْرَ هذا الباب. وبعبارةٍ أخرى: إن النَّسَبَ في الصورة المذكورة لا يَثْبُتُ عندنا أيضًا، إلا أن نفْيه عند الشافعية لانتفاء شرط الإِمكان، وعندنا لوجوب اللِّعان، فينتفي منه بعد لِعَانِهِ. فإذا تَرَكَ الزوجُ ما أَوْجَبَ عليه الشرعُ بنفسه، فما للقاضي أن لا يُلْحِقَ نسبه منه، فإنه رَضِيَ بالضرر، فأَوْلَى أن يَقْطَع عنه النظر.
(5/9)
---(4/348)
وقد شَغَبَ الناسُ في تلك المسألة، ولم يَفْهَمُوا حقيقةَ الحال، وكيف يَجْلِبُون علينا مع أن إطلاقَ الحديث للحنفية؟ كما أقرَّ به النوويُّ. ولكنَّ الأسفَ أن الحنفيةَ إن أخذوا بظاهر الحديث، يُورَدُ عليهم بأنهم جَمَدُوا على الظاهر. وإن نَظَرُوا إلى المعنى، يُطْعَنُ عليهم بأنهم يَتْركُون ظاهرَ الحديث. والعجب من الشيخ محي الدين النوويّ رحمه الله تعالى حيث قال: إن مذهبَ الإِمام ضعيفٌ، ظاهرُ الفساد، ولا حُجَّةَ له في إطلاق الحديث، لأنه خرج على الغالب، وهو حصول الإِمكان عند العقد. اه- . وأقضى العجب من قوله، كيف قال: إنه ظاهرُ الفساد، مع إقراره بكون ظاهر الحديث شاهدًا لنا. وأمَّا جوابه عنه، فذلك أمرٌ لا يَعْجِزُ عنه الفحولُ.
صحيح البخاري
ومحصِّلُ الكلام: أن الولدَ لمَّا كان للفِرَاش، ولم تكن الوليدةُ ههنا فِرَاشًا لأحدٍ، لم يَثْبُتْ نَسَبُ ولدها من أحدٍ. وقال الشافعيةُ: إنها كانت فراشًا لزَمْعَةَ، فثبت نَسَبُهُ منه لقوله: «الولد للفراش».
(5/10)
---(4/349)
ثم ههنا بحثٌ، وهو أنه هل يَجُوزُ تخصيص المورد عن عموم اللفظ؟ والذي يَظْهَرُ أنه لا ضابطةَ له، بل قد يُخَصَّصُ، وقد لا يُخَصَّصُ، حسب ما لَصِقَ بالمقام. فلا يُقَالُ: إن قوله صلى الله عليه وسلّم «الولد للفراش»، وَرَدَ في هذا الولد، فالمورد هو هذا الولد، ثم أنتم لا تُثْبِتُون نَسَبَهُ من أحدٍ ولا تَجْعَلُون الوليدةَ فراشًا لأحدٍ، فذلك تخصيصُ المورد من عموم اللفظ، مع أن الظاهرَ أن العمومَ إذا وَرَدَ في قصة يَتَنَاوَلُه لا مَحَالَةَ. فإنا قد قُلْنَا لك: إنه لا كُلِّية فيه، وغرضُ البخاريِّ من ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأمر كلاًّ منهما ما كان بيِّنًا له، فإن الحلالَ بيِّنٌ والحرامَ بيِّنٌ، فجعله أخًا لعبد على إقراره، وأمر سَوْدَةَ بالاحتجاب لإِمكان عُلُوقه من عُتْبَة. فتنزَّه عنه، وذلك طريق استبراء الدين. وهل للقافة والشَبَهِ اعتبارًا أو لا؟ فاعتبره الشافعية شيئًا، وعندنا لا عِبْرَة بهما. والشَبَهُ وعدمه عندنا سواءٌ، وهكذا ينبغي.
2054 - قوله: (سَأَلْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمعن المِعْرَاض) واعلم أن صيدَ البندقية حلالٌ عند المالكية، خلافًا للآخرين، لأن رصاصَ البندقية لا تَجْرَحُ، ولكنه يَجْرَحُ من شِدَّة الضرب، فيكون كالوَقِيذِ.
وقد فصَّلته في صورة رسالةٍ مستقلةٍ حين سألني عنه بعضُ الناس في المدينة المنورة، زادها الله شرفًا.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُتَنَزَّهُ مِنَ الشُّبُهَات
ذكر المصنِّفُ في هذا الباب بعضَ الشُّبُهَات ليتوسَّلَ بها إلى نظائرها، ولم يُعْطِ ضابطةً كليةً. ولذا قلتُ: إن حديثَ «الحلالُ بيِّنٌ...» إلخ، جزيلُ المعنى، ولكن للمجتهدين كالشافعيِّ، وقد مرَّ عليه في «الأم» فليراجع، فإن تلخيصَ كلامه عسيرٌ.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَرَ الوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنَ المُشَبَّهَات
(5/11)
---(4/350)
أراد الفرق بين الوَسَاوِسِ والشُّبُهَات، لدفع ما كاد أن يَسْبِقَ إلى الأذهان: العمل بالوَسَاوِسِ أيضًا. فنبَّه على أنه يَعْمَلُ بالشُّبُهَات، فَيَحْتَرِزُ عنها دون الوَسَاوِس، فإِنها لا عِبْرَةَ بها.
2056 - قوله: (حتى يَسْمَعَ صَوْتًا)... إلخ، فهذا الحديث سيِقَ لهَدْرِ الوَسَاوِس، ومعناه: أن الرجلَ إذا تَوَسْوَسَتْ نفسه أنه أحدث أو لم يُحْدِثْ، فإنه لا يَعْمَلُ به، بل بالتيقُّن، وهو في سماع الصوت، أو وجدان الريح. فسماع الصوت مُكنَّى به، وتحقُّق الحدث، مُكَنَّى عنه.
الفرقُ بين الكِنَايَةِ والمَجَازِ، والتَّعْرِيضِ
واعلم أنه تعسَّر الفرق عليهم بين الكِنَايَة، والمَجَاز، لم يتنقَّح عند كثيرٍ منهم بعدُ، وقد تعرَّض إليه الزمخشريُّ تحت قوله تعالى: {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَآء}... إلخ،(البقرة: 235) وهو أحْذَقَ في هذا الباب، ولكن قلَّ من أدركه، فقال: الكِنَايَةُ: أن تَذْكُرَ الشيءَ بغير لفظه الموضوع له، والتعريضُ: أن تَذْكُرَ الشيءَ وتَقْصِد غيره.
وحاصله: أن اللفظَ في الكِنَاية لا يَخْرُجُ عن معناه الموضوع له، وإنما التصرُّف فيه أنك تَطْلُبُ له عنوانًا، فتحمله عليه مع عدم كونه موضوعًا له، نحو: كثيرُ الرماد، للسَّخِيِّ، فإنك ما أَخْرَجْتَ اللفظ عن معناه الموضوع له، ولكنك حملته على معنىً لم يكن وُضِعَ له، فإنك حملته على السَّخِيِّ، مع أنه لم يُوضَعْ له. بخلاف المجاز، فإنه إخراجٌ للفظ عن معناه الموضوع له بالكُلِّية، ثم استعمالٌ له في غير المعنى الموضوع له. ففي المَجَازِ تصرُّفان: الأول: إخراجه عن معناه، ثم استعماله في غير ما وُضِعَ له. وبعبارةٍ أخرى: أن اللفظَ في الكناية، وإن لم يُسْتَعْمَلْ في معناه الموضوع له، لكنه لا يَخْرُجُ عمَّا وُضِعَ له أيضًا، بخلاف المجاز.
(5/12)
---(4/351)
فقولك: كثيرُ الرماد في زيد كثير الرماد، لم يُسْتَعْمَلْ فيما وضِعَ له، لأنه لم يُسْتَعمَلْ لكثرة الرماد، بل السَّخَاء، ولم يُوضَع له، ولكنه لم يِنْسَلِخْ عن معناه أيضًا، بل جعلتَ كثرةَ الرماد عنوانًا للسخاء بنوع استلزامٍ، وإن لم يَكُنْ ذلك عنوانًا له بحسب الحقيقة. بخلاف المجاز، فإن اللفظَ يَخْرُجُ فيه عن معناه بالكلية.
أما التعريضُ فبمَعْزِلٍ عنهما، فإن اللفظَ لا يعخْرُجُ فيه عن معناه، كما أنه لا يكون عنوانًا لمعنى لم يُوضَعْ له، كما في «الكناية»، ولكنه يكون فيه انتقال إلى المعنى المراد من جهة المقام، والقرائن، نحو قولك: جِئْتُ لأُسَلِّمَ عليك، وتريد السؤال. وهذا الذي أراده الزَّمَخْشَريُّ من قوله: الكنايةُ أن تَذْكُرَ الشيءَ بغير لفظه الموضوع له، كما رأَيْتَ في المثال المذكور. فإنك أردت السخاءَ من كثرة الرماد، ولم يُوضَعْ له. فليس التصرُّف في الكناية إلا بهذا القدر فقط. وهذا الذي نعني من قولنا: إن اللفظَ في الكِنَايَةِ يكون عنوانًا لمعنى، مع عدم كون هذا العنوان موضوعًا لهذا المعنى، وإنما تَحْمِلُهُ عليه بنوع استلزام، وهذا لا يُوجِبُ خروج اللفظ عن معناه.
صحيح البخاري
وبعبارةٍ أخرى: إن في الكناية يتحقَّق المُكَنَّى به، والمُكَنَّى عنه كلاهما، فلا نُخْرِجُ اللفظ عن معناه. فإنك إذا كَنَّيْتَ السخاءَ بكثير الرماد، فكثير الرماد، وإن لم يكن موضوعًا له، لكنه متحقِّق أيضًا، كما أن السَّخَاءَ متحقِّقٌ. بخلاف المجاز، فإنه لا يتحقَّق فيه المعنى الموضوع له، ولا يَصْدُق اللفظ على المعنى إلا بالخروج عمَّا وُضِعَ له. فيتحقَّقُ في المجاز المعنى المجازي فقط، بخلاف الكناية، فإنه يتحقَّقُ فيه كلاهما.
الفرقُ في الكِنَايَةِ
عند علماء الأصول، وعند علماء البلاغة
(5/13)
---(4/352)
ثم اعلم أن علماءَ الأصول قسَّمُوا اللفظَ إلى: صريحٍ، وكنايةٍ، باعتبار استتار مراده ووضوحه. فيكون اللفظُ عندهم مستعملا في المعنى الموضوع له، وهو المعنى المراد عندهم. بخلاف الكناية عند علماء المعاني، فإن اللفظَ عندهم لا يكون مستعملا في المعنى المراد، بل يكون طريقُ عبورٍ إلى المعنى المراد. أَلا ترى أن كثيرَ الرماد لم يُقْصَدْ منه كثرة الرماد في نفسه، بل هو نحو طريق عبورٍ إلى المعنى المراد. ومن ههنا تبيَّن كون الكنايات بَوَائِن عندنا، ورَوَاجِع عند الشافعية. فإنهم جَعَلُوا الكنايات كناياتٍ على طريق علماء المعاني، فقالوا: نحو قولك: أنتِ بائنٌ كِنَايةً عن قولك: أنتِ طالقٌ، والطلاق منه ليس إلا رَجْعِيًّا، فكذا بأنتِ بائنٌ أيضًا.
وقُلْنَا: إنه كنايةٌ على اصطلاح علماء الأصول، فهو عاملٌ بلفظه، ومُسْتَعْمَلٌ في حقيقته، وحقيقةُ البينونة لا تتحقَّق في الرواجع، فلا تَقَعُ منها إلا بائنة، نعم تتنوَّعُ إلى بَيْنُونَةٍ حقيقةٍ، وغليظةٍ. وإنما سَمَّيناها كناياتٍ مع كونها عواملَ بموجباتها، لاستتار المراد لا غير. فلا تَفْهَمُ من لفظ: أنتِ بائنٌ، إنكِ أيّ البَيْنُونَتَيْن أَرَدْتِ؟ أَمِنْ أوليائها، أو من الزوج، أو غيرهما؟ فإذا لم يَنْكَشِفْ مراده سمَّيناها كنايات لذلك. فلا فرقَ بين الصريح، والكناية إلا بحَسَبِ وضوح المراد في الأول دون الثاني.
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن التوفِّي في الموت كناية أصولية، فهو حقيقةٌ بجتة، لأن معناه أخذ الشيء وافيًا وذلك يتحقق في الموت أيضًا. إلا أن العوامَّ لا يُراعون هذه الدقائق، فيفهمون أن لفظ التوفِّي إذا استُعمل في الموت، فكأنه خرج عن معناه الموضوع له، وليس كذلك. ولذا قال أبو البقاء في الكُلِّيات»: التوفِّي: الإماتة، وقبض الرُّوح، وعليه استعمال العامة. أو الاستيفاء، وأخذ الحق، وعليه استعمالُ البُلَغَاء.
صحيح البخاري
(5/14)
---(4/353)
واعلم أن ما يدّعيه هذ اللعين أن التوفِّي معناه الموت حقيقةً، فجهلٌ قطعًا، كيف ولا تتمكَّن العرب من أن تَسْتَعْمِلَهُ في الموت بحسب عقيدتهم، وإنّما علَّمه القرآن، فمن تعلَّمه منه. قال تعالى في سورة السجدة: {وقالوا أَإِذا ضَلَلْنا في الأَرْض أَإِنَّا لفي خَلْقٍ جديدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ؛ قُلْ يَتَوَفَّكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة: 10 - 11)، وقد تحيَّر المفسِّرون في وجه الردِّ عليهم، حيث أَنْكَرُوا البعثَ بالموتَ، فردَّ عليهم بالتوفِّي، فما تقريرُ هذا الردِّ؟ وقد تنبَّه له الشاه عبد القادر، وقرَّرَهُ حسنًا. والرازي أيضًا في «تفسيره».
وحاصلُ كلماتهما: أنهم فَهِمُوا بحسب عقائدهم السيئة، أن الإِنسانَ بعد الموت يَتَلاشَى في الأرض، ولا يَبْقَى من رَسْمِهِ واسْمِهِ شيءٌ، فاسْتَبْعَدُوا البعثَ، لأن المعدومَ لا يَعُودُ عندهم. فأخبرهم الله تعالى بحقيقة الموت، لِيَنْهَدِمَ مبناهم الفاسد من الأصل، فقال: إن الموتَ ليس إعدامًا كما فَهِمْتُم، بل هو عبارةٌ عن التوفِّي، فَيُؤْخَذُ شيءٌ دون شيءٍ، فالجسدُ يَتَلاشَى إلا عَجْبَ الذَّنَب، والروحُ تَبْقَى، فكان الجُزْءَان مَحْفُوظَيْن عند ربك، ففي الموت استيفاءٌ لا أنه إعدامٌ، فإذا كان الجسدُ والروحُ في حِفْظِهِ هان عليه التركيب ثانيًا، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (الأنبياء: 104).k
فتلك الحقيقة هدى إليها القرآن، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف: 43)، فأين كان لهم أن يَسْتعمِلُوه في الموت، وإنما اشتهر إطلاقه في الموت من الدورة الإِسلامية، تعلُّمًا من القرآن. فليس التوفِّي هو الموت، بل يَحْصُلُ الموت بالتوفِّي. ولمَّا كان معناه مفهومًا وحقيقةً، لا عينًا حِسِّيًا لِيُشَاهَدَ، لم يتميَّز معنى الموت من التوفِّي.
((4/354)
5/15)
---
وهذا كما قال قدماء النحاة: إن أسماءَ المعاني ليست أمرًا مُبْصَرًا، وكما قالوا: إن الأسماءَ إمَّا أسماءُ أشباحٍ، أو أسماءُ أفعالٍ، والقسم الثاني لا يُدْرَكُ بالبصر. فهكذا التوفِّي ليس أمرًا مُبْصَرًا، كالقبض في الفِقْهِ. فلذا لم يتعيَّن بَعْدُ، فقيل: بالقبض حقيقةً، وقيل: برفع علائق المالكية، وقيل: برفع المَوَانِع، كما سَتَعْلَمُ.
والحاصلُ: أن كم من ألفاظٍ وضعها أهلُ اللغة لدفع حوائجهم، فَيُطْلِقُون، ويُرِيدُون معانيها. وإن لم تتفتَّح حقائقها بعدُ عندهم، كلفظ التوفِّي، فإن تعيينَه حقّ التعيين عسيرٌ. وذلك لكونه أمرًا معنويًا لا حِسِّيًا. نعم اشتهر لفظ التوفِّي الآن في العُرْف في معنى الموت، كالمجاز المتعارف.
صحيح البخاري
والحاصلُ: أن التوفِّي إنما استعمله في معنى الموت القرآنُ لمعنىً راعاه ولحقيقةٍ أراد التنبيه عليها. ثم تَوَهَّمَ الآن أنه استعمالٌ عند أهل اللغة، مع أنه لم يَخْطُرْ ببالهم استعماله فيه، وإن كان صالحًا له، وإنما نَوَّره القرآن، فشَاعَ في الموت لهذا.
ثم لا بأس أن نَذْكُرَ حَلَّ إشكالٍ آخرَ في قوله تعالى: {وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} (النساء: 157). قال الجمهور: الضميرُ في المجهول نائبُ فاعله. وقيل: بل الجار والمجرور يَقُوم مقام النائب. وأنكره السُّهَيْلي، والجمهور.
(5/16)
---(4/355)
قلتُ: والضمير فيه عندي راجعٌ إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، على خلاف ما قاله المفسِّرُون، فإنهم قالوا: إن المرجع هو الرجل المُشَبَّه. قلت: وليس التشبيه ههنا على حدِّ تشبيه علماء البيان الذي يستدعي مُشَبَّهًا ومُشَبَّهًا به، بل بمعنى التصوير، والتمثيل كما يُقَالُ: تُصُوِّرَ زيدٌ في المرآة - على صيغة المجهول - فكما صَحَّ هذا القول مع عدم الطرفين ههنا كذلك، صَحَّ إرجاعُ الضمير في {شُبّهَ} إلى عيسى عليه الصلاة والسلام. وتفصيلُه: أن زيدًا وشَبَحَهُ، وإن تَغَايَرَا حقيقةً، لكن أهل العُرْف يعتبرونهما واحدًا. فنقول: صَوَّرْتُ زيدًا، مع أنك لا تُصَوِّرُ إلا شبحه، وصورتُه لا نفسه. وكذلك يُقَالُ: تُصُوِّرَ زيدٌ في المرآة، مع أنه لا يكون فيها إلا شَبَحُهُ، وصورته لا عينه.
وحينئذٍ حاصلُ معنى: {شُبّهَ لَهُمْ}، أي أُقِيمَ لهم شبح عيسى عليه الصلاة والسلام. ولكن لا يُقَالُ فيه في العبارة إلا شُبِّهَ عيسى عليه الصلاة والسلام، لِمَا عَلِمْتَ أنهما وإن كانا مُتَغَايِرَين حقيقةً، لكن تلك الإثنينية لا تَظْهَرُ في اللفظ فالمرجعُ على طريق النحاة هو عيسى إليه الصلاة والسلام نفسه، ومِصْدَاقُه هو الصورة، كما عَلِمْتَ في قولهم: تُصُوِّرَ زيدٌ في المرآة، فإن نائبَ الفاعل عند النحاة هو زيدٌ، ولكن مِصْدَاقُه ليس إلا شَبَحَهُ وصورته. وكما في قولهم صوَّرْتُ زيدًا، المفعول في اللفظ هو زيدٌ، وأمَّا في المِصْدَاق فليست إلا صورته. فكما أن المتحقِّقَ في المثالين هو اثنان، ثم لم تَظْهَرْ الإثنينية في اللفظ، كذلك فيما نحن فيه. وهو الذي أراده الراغبُ من عبارته: مُثِّلَ لهم، لمن حَسِبُوه عيسى عليه الصلاة والسلام. فأظهر فيها الإثنينية في اللفظ، مع كون مراده ما ذكرنا. فإنه اعْتَبَرَ التشبيهَ تمثيلا وتصويرًا، كما قُلْنا، ولا تكون فيه الإثنينية في العبارة.
صحيح البخاري
(5/17)
---(4/356)
فالحاصلُ: أنه من باب إقامة مثال الشيء مقام نفسه بإِيجاده، لا أنهما كانا موجودين من قبل، فَشَبَّه أحدهما بالآخر. فالتصويرُ بابٌ آخر، ومنه «المُصَوِّرُ» من أسماء الله تعالى، أي المُوجِدُ، لا أنه يُشَبِّهُ شيئًا بشيءٍ، وهو قولُ الشاعر:
*أُرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا، فكأنما
** تُمثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ مَكَانٍ؟
واعلم أن إبراز الفعل مجهولا للطيِّ إلى الداخل. وإخراجه معروفًا لنَشْرِه إلى الظاهر. فأبرزه الشاعرُ مجهولا لطيِّ طرفي التشبيه إلى الداخل.
ثم إن ههنا دقيقةً أخرى، وهي: أن شَرْعَنَا قد تحمَّل وجود الكتابيِّ. وأمَّا عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يتحمَّل اليهوديةَ والنصرانيةَ بعد نزوله، كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «أنه يَضَعُ الجِزْيَةَ، ولا يَقْبَلُ منه إلا السيف، أو الإِسلام». فأحاديثُ نزوله عليه الصلاة والسلام ليست في الحقيقة تفسيرًا لقوله تعالى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}... إلخ،(النساء: 159) فإن محصِّلَ تلك الأحاديث الإِخبارُ بأمورٍ عديدةٍ تَقَعُ في زمانه، وإن تحقَّق لهم المعرفةُ الحقَّةُ في ضمنها أيضًا. أمَّا القرآنُ، فهو بصدد إخبار إيمانهم قصدًا دون الإِخبار بإِيمانهم الذي يَحْصُلُ في ضمن هذه الأشياء.
فإِن قُلْتَ: إن القرآن قد أخبر بإيمانهم، مع إخبار الأحاديث أن اليهود لا يؤمنون به، ويُقتَلون مع الدّجّال.
(5/18)
---(4/357)
قلت: أمَّا الدَّجالُ فليس من أهل الكتاب قطعًا، ولم نجد في حديثٍ من الأحاديث أنه يدعو إلى التوراة والإِنجيل. وأمَّا من اتَّبَعُوه من اليهود، فأيضًا كذلك. أن اليهودَ اسمٌ للنَّسْلِ، دون المذهب، فالذين يُقْتَلُون معه لَيْسُوا من أهل الكتاب. ثم إيمان أهل الكتاب هذا ليس مما يكون لرجلٍ من الأمة بالنبيِّ، بل هو ما يَحْصُلُ في ضمن أفعاله، وليس ذلك إلا المعرفة. وحاصلُه: أن إيمانهم به ما كان بالغيب يَنْقَلِبُ إلى الشهادة. وحينئذٍ يَعْلَمُون أن الذي آمنوا به هو ذلك، وبعد الشهادة لا يَبْقَى أحدٌ منهم إلا يَحْصُلُ له الإِيمان بالشهادة.
ثم ما اشتهر على الأَلْسِنَةِ: أن دينَ الإِسلام يُبْسَطُ في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام على البسيطة كلِّها، ليس في الأحاديث، والذي فيها: أنه لا يَقْبَلُ اليهودية والنصرانية بعد نزوله من حيث المسألة، فَيُنْقِذُ نفسه من أسلم، ويُقْتَلُ من أبى، وهذا أيضًا حيث يَغْزُو نبيُّ الله عيسى عليه الصلاة والسلام. وملخَّص الأحاديث: أن اليومَ تجري الأديان الثلاثة، فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام لا يُقْبَلُ إلا الإِسلام، وحينئذٍ يكون الدينُ كلُّه لله. فهذا بيانٌ للمسألة، لا إخبارٌ بما يكون في الخارج. فيجوز أن يبقى الكفرُ والكُفَّارُ أيضًا، لكن إن يَبْلُغَ إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام لا يُقْبَلُ منهم إلا دين الإِسلام، لا الجزية، كما هو اليوم.
صحيح البخاري
ويُسْتفَادُ من الأحاديث: أن الغَلَبَةَ المعهودةَ إنما تكون في الشام ونواحيه حيث يَنْزِلُ عيسى عليه الصلاة والسلام، وفساد يَأْجُوج ومَأْجُوج أيضًا في هذه الأطراف، والجزيرة الطبرية أيضًا نحو الشام.
(5/19)
---
وبالجملة لم نَجِدْ في حديثٍ أن عيسى عليه الصلاة والسلام أيضًا يَدُورُ في الأرض، كدور الدَّجَّال، فلا تكون غلبةٌ موعودةٌ إلا في موضع نزوله. أمَّا سائر البلاد، فمسكوتٌ عنها، والله تعالى أعلم ما يكون فيها.(4/358)
فهذه عِدَّةُ تحقيقاتٍ أهديناها إليك لتُمْعِنَ فيها النظر، ولا تُسْرِعُ في الرَّدِّ والقَبُول، فإن الإِنسانَ فُطِرَ على أنه إذا عُرِضَ له أمرٌ لم تُسْمِعْهُ أذناه رَدَّه، والله تعالى الملهم للصواب، وإليه المرجع والمآب.
نَظْرَةٌ أخرى إلى معنى التَّوَفِّي
واعلم أن نسبةَ المفهوم إلى المِصْدَاق قد تكون كنسبة الإِنسان إلى زيد، فإن زيدًا عينٌ مُبْصِرٌ وُضِعَ بإِزائه هذا المفهوم، وهو ذاتيٌّ له. وقد تكون كنسبة الضاحك إلى زيدٍ، فإنه خارجٌ عن حقيقته، عَرَضيٌّ له، إلا أنه ذاتيٌّ للحصَّة التي عُرِضَتْ له من الضَّاحِكِيَّة. فمن قال: إن الضَّاحِكَ عَرَضِيٌّ له، نَظَرَ إلى زيد الكل، ومن جَعَلَهُ ذاتيًا له، نَظَرَ إلى حصة الضَّاحِكِيَّة. وهذا معنى ما قالوا: إن الكليَّ نوعٌ لحصصه، فإنه وإن كان عَرَضيًّا للكلِّ، ولكنه ذاتيٌّ للحصَّة في الكلِّ من هذا الكليِّ كما أن الضَّاحِكِيَّةَ متحقِّقةٌ في زيدٍ، ولا ريب أن هذا الكليَّ ذاتيٌّ لها.
فالحاصلُ: أن الإِنسانَ، والضاحك وإن كانا مُتَغَايِرَاين مفهومًا، لكنهما متَّحِدَان مِصْدَاقًا. وذلك لأن مِصْدَاقَهُمَا لمَّا كان عينًا مُبْصِرًا لم يَتَحَصَّل فيه التَّغَايُر، واتحدا في المِصْدَاقِ.
هذا في أسماء الأعيان، أمَّا في أسماء المعاني، فلا تَغَايُرَ بين مفاهيمها ومصادقيها، فما هو مفهومه؟ هو مِصْدَاقُه، والذي هو مِصْدَاقُه هو مفهومُه وحقيقتُه. بخلاف أسماء الأعيان، فإن المفهومَ والمِصْدَاقَ فيها مُتَغَايِرَان.
(5/20)
---(4/359)
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن التَّوَفِّي من أسماء المعاني، فمفهومُه ومِصْدَاقُه واحدٌ. فمن قال: إن مِصْدَاقَه الموتُ، أو الرفعُ، فقد حَادَ عن الصواب، لأن له حقيقةً ومفهومًا في الخارج، وهو مِصْدَاقُهُ، وهذا المفهوم زائدٌ على معنى الموت، والرفع. نعم أينما يتحقَّقُ الموت أو الرفع، يتحقَّق هناك التوفِّي أيضًا لا بمعنى أن الموتَ أو الرفعَ هو التوفِّي، بل بمعنى أنه حقيقةٌ جامعةٌ مع الموت والرفع. فهو متحقِّقٌ في هذين بحقيقته التي هي حقيقتُه، وهي زائدةٌ على الموت. وتوضيحُهُ: أن التوفِّي وُضِعَ للأخذ وافيًا، وهذا المعنى يتحقَّق ويجتمع مع الموت والرفع أيضًا، بمعنى أن الأخذَ يتحقَّقُ في الموت والرفع أيضًا. فالتوفِّي له مفهومٌ، وله مِصْدَاقٌ في الخارج، وكذا الموت والرفع، لهما مفهومان ومِصْدَاقان، ومفاهيمُ الكلِّ ومصاديقها مُتَغَايِرَةٌ. وليس كأسماء الأعيان، فإنها تَتَغَايَرُ مفهومًا، وتتحد مِصْدَاقًا. بخلاف أسماء المعاني، فإن مفاهيمها إذا كانت هي مصاديقها لَزِمَ التَّغَايُرُ بين مصاديقها لا مَحَالَةَ.
صحيح البخاري
فمن قال: إن مِصْدَاقَ التوفِّي والموت، أو التوفِّي والرفع واحدٌ، فقد أخطأ، لأن مِصْدَاقَ التوفِّي هو مفهومُه، وهو متحقِّقٌ في الخارج بحقيقته ومعناه، وهكذا الموت والرفع. نعم يُقَالُ: إن التوفِّي مجامعٌ للموت أو الرفع، متى تحقَّق الموتُ أو الرفعُ، تحقَّق معه التوفِّي أيضًا. فما قاله الرازي: إن التوفِّي نوعٌ، والموتَ والرفعَ من جزئياته، كلامٌ ظاهريٌّ. أو يكون أراد منه ما قُلْنَا. والتحقيقُ أن التوفِّي أمرٌ زائدٌ على معناهما، نعم قد يتحقَّقُ مع الموت، وقد يتحقَّقُ مع الرفع، فله مفهومٌ مُغَايِرٌ، ومِصْدَاقٌ مُغَايِرٌ، إلا أنه لمَّا كان من أسماء المعاني لم يتبيَّن التَّغَايرُ إلا بالاعتبار.
(5/21)
---(4/360)
ثم اعلم أن البليغَ إذ يختارُ عنوانًا، يختاره لمعنى يُرَاعِيهِ ويَقْصِدُهُ، ولا يكون ذلك عنده على طريق البَخْتِ والاتفاق، فتركُ ذلك العنوان إفسادٌ لمعناه المقصود. فإذا قال البليغُ: إن فلانًا أجاب ربَّا دعاه، أو لبَّى داعي الأجل، أو هلك، أو مات، أو توفِّي، إلى غير ذلك من العنوانات، يريدُ بتلك العنوانات معاني خاصة. والتركُ لعنوانه المختار، والنزول إلى الغرض، لا يكون إلا من الجاهل، فإنه إخلالٌ لمراده. أَلا ترى أن في قوله: أجاب ربًا دعاه من التشريف ما ليس في قوله: هَلَكَ. فترجمتُه بالهلاك إعدامٌ، وإفسادٌ للمعنى المراد، وهذا هو الفرق بين البليغ والسوقيِّ.
وهذا معنى ما قاله أبو البقاء في «كلياته»: التوفِّي الموتُ، وعليه استعمالُ العامة، وأخذُ الشيء وافيًا، وعليه استعمال الخاصة. أراد بذلك أن السوقيَّ لا يُبَالي بالفروق الدقيقة، ولا يُرَاعي المعاني المقصودة، بل يَنْزِلُ إلى الغرض، فَيُنْزِلُ الكلامَ من الأوج إلى الحضيض. أما البليغُ، فينظر في الفروق، ويَعْبُرُ العنوانات، ويُرَاعي المعاني المقصودة، ويَحْمِلُ الكلامَ على ما سُبِكَ له.
وهذا الأمرُ أهمُّ في القرآن، لبلوغه من البلاغة الذروة العليا، فإنه يُؤَدِّي الحقائقَ الغامضةَ في ضمن الألفاظِ المُوجَزَةِ، كما رَأَيْتَ أنه نبَّه على حقيقة الموت من لفظ التوفِّي. وكذلك في كل موضعٍ يكون فيه لفظٌ من القرآن، تكون فيه حقيقةٌ مقصودةٌ لا تتأدَّى إلا به، فإذا بُدِّل ووُضِعَ مكانه آخر، فَسَدَ المعنى، وهذا أحدُ وجوه الإِعجاز في القرآن عندي. والعلماء ذَكَرُوا إعجازه في الكلام المُرَكَّب، وادَّعَيْتُ إعجازه في المفردات أيضًا، ولقد أَدْرَكْتُهُ أو بعضَه، ولا أقول ذلك إلا بعد الذَّوْق والوجدان، لا بِحَسَبِ الاعتقاد والتقليد فقط.
صحيح البخاري
(5/22)
---(4/361)
ولذا أقول: إن ترجمة قوله: {مُتَوَفّيكَ} (آل عمران: 55) مميتك، لا يَلِيقُ بمرامي القرآن، فإنه تَرَكَ لفظ الموت قَصْدًا. ألا ترى أن اليهودَ كانوا بصدد قتله، وكانوا يُهَدِّدُونه به، فهل يُنَاسِبُه التبشير بالتوفِّي أو الإِنذار بالموت. ورَحِمَ اللهاُ الزمخشريَّ حيث كان أعلم الرجال بهذا الموضوع، ففسَّره بقوله: مُسْتَوْفي أجلك. ومعناه: إني عَاصِمُكَ من أن يَقْتُلَكَ الكفار، ومُؤَخِّرُك إلى أجلٍ كتبته لك، ومُمِيتُكَ حَتْفَ أنفك، لا قتلا بأيديهم. اه- .
فأخذه أولا بمعنى استيفاء، ثم فصَّل ما تضمَّنه لفظ التوفِّي، وجعل الموتَ حَتْفَ أنفه من مراميه. يعني به: أن التوفِّي تبشيرٌ من عصمته بالقتل، وإيذانٌ بأن الموتَ متى ما يأتي عليه يأتي من جهته تعالى، لا من أيدي هؤلاء الملاعنة. ثم قال الزمخشريُّ: وقيل: يُمِيتُكَ في وقتك بعد النزول. فانظر كيف جعل معنى الموت مقابلا لمعنى استيفاء الأجل، مع أنه قد دَرَجَ فيه الموتَ بنفسه من قبل، وذلك لأنه أبقى اللفظَ على مدلوله، وهو استيفاءُ الأجل. ثم لفُّ الموت والرفع، وغير ذلك في مرتبة الغرض.
فالحاصل: أنه سلَّم الموتَ في مرتبة الغرض، ومرضَه في مرتبة المدلول. ثم قوله: «معناه» على حدِّ قولنا: «وحاصل الكلام». ولفظ الغرض أيضًا ليس بجيدٍ، فاحفظه. وإن عَجِزْت أن تَفْهَمَهُ، فلك العذرُ فإن صيدَ الظباء ليس بهيِّنٍ.
2057 - قوله: (سَمُّوا الله عَلَيْهِ وكُلُوْه)، ومرادُه: أن احملُوا حالهم على ما يَلِيقُ بالمسلمين، وأَحْسِنُوا الظنَّ بهم، وأتُوا أنتم بما هو سُنَّةٌ لكم، وهو التسميةُ عند الأكل. لا أن التسميةَ عند الأكل تُجْزِيءُ عن التسمية عند الذبح، وهذا كمال البلاغة. ومن لا يدري مخاطبات البلغاء، يَقَعُ في الخبط.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا} (الجمعة: 11)
(5/23)
---
صحيح البخاري(4/362)
باب ُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيثُ كَسَبَ المَال
وقد مرّ منا بيانُ الوجه في انفضاضهم، وتركهم إياه قائمًا، فإنه مُسْتَبْعَدٌ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم جدًا. ثم إن زُرَارَة بن أبي أَوُفَى، أو مسلم بن يَسَار، - الشك من الجامع - فكان إذا سَمِعَ الأذان وضع المِطْرَقَةَ كما هو، ولم يكن يَضْرِبُها، وإن كان رفعها للضرب.
صحيح البخاري
باب ُ التِّجَارَةِ فِي البَرِّ وَغَيْرِه
وفي نسخة: بالراء المهملة وهي الأقربُ، لأنه بوَّب بُعَيْدَه بالتجارة في البحر.
2060،2061 - قوله: (إن كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلا بَأْسَ، وإن كَانَ نَسَاءً فلا يَصْلُحُ)... إلخ، واعلم أن المُوءَجَّلَ في الفِقْهِ لمَّا كان واجبًا في الذِّمة من الديون والحقوق، والمشارُ إليه لما كان موجودًا سواء كان في المجلس أو لا، ولم يُدْرِكْهُ الناسُ، فَفَهِمُوا أن المُؤَجَّلَ ما لا يكون موجودًا في المَجْلِسِ، وليس بصحيحٍ. فالذي لا بُدَّ منه في البيع هو التعيين، أي إيراد العقد على شيءٍ موجودٍ، وإن لم يكن عندهما في المَجْلِسِ إلا في الصَّرْفِ، فإنه يُشْتَرَطُ فيه القبض. أمَّا كونه في المجلس، فليس بضروريَ في عامة البيوع، فاعلمه.
وبعبارةٍ أخرى: إن المرادَ بالدَّيْنِ في الفِقْه: ما لا يكون موجودًا في مَجْلِسِ العقد، ولا في بيته، ومن العين: ما كان موجودًا، إمَّا في بيته أو في المَجْلِسِ. أمَّا القبضُ بالبراجم، فهو شرطٌ في بيع الصَّرْف خاصةً. وقد زَعَمَ بعضُهم أن الدَّيْنَ ما لا يكون موجودًا في مَجْلِسِ العقد، وإن كان موجودًا في بيته. وهو خلاف مرادهم، فافهم.
صحيح البخاري
باب ُ الخُرُوجِ فِي التِّجَارَة
(5/24)
---(4/363)
2062 - قوله: (فقال: كُنَّا نُؤمَرُ بذلك، فقال: تأْتِنِي على ذلك بالبَيِّنَة)... إلخ، قال البخاريُّ أراد عمر التثبُّت، لا أن يُخْبِرَ بخبر الواحد. وكذلك في «موطأ مالك» قال عمر لأبي موسى: «أمَّا إني لم أَتَّهِمْكَ، ولكني خَشِيتُ أن يتقوَّلَ الناسُ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم .اه- . فَدَلَّ على أنه ليس فيه مسألةُ العبرة بالخبر الواحد، وعدمها، بل أراد مزيد التثبُّت. كيف وقد رواه عمر بنفسه عند الترمذيِّ، ولكن لمَّا لم تكن عنده زيادةُ الاستئذان ثلاثًا، أراد أن يتثبَّتها. وأخرجها البخاريُّ مُفَصَّلا، وفيه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم «إذا استأذن أحدُكم ثلاثًا، فلم يُؤْذَنْ له»... الحديث.
حكاية:ذكر الطبرانيُّ حكايةً في زيادة الثقة: أن عالمًا ادَّعى أنها تُعْتَبَرُ على الإِطلاق، وأَنْكَرَهَا آخرُ، فقال من أعوان المُثْبِت واحدٌ، فَقَذَفَهُ بالأحجار حتى دفعه من المسجد. فكان المُثْبِتُ إذا لَقِيَ المُنْكِرَ يَسْأَلُه: أن الزيادةَ مقبولةٌ أو لا؟ فَيُجيبُه أمَّا بالحجر والآجُرِّ، فتفيد العلمَ والعملَ كليهما.
صحيح البخاري
باب ُ التِّجَارَةِ فِي البَحْر
صحيح البخاري
باب {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا} (الجمعة: 11)
وأكثرُ أئمة اللغة إلى أن البحرَ يختصُّ بالبحر المالح، وقد وَرَدَ الحديث: «بأن تحت البحر نارًا»، مع وجود حاجة السفر فيه. وفي مثله تَتَعَارَضُ الأدلة، وتتجاذب الأطراف، فَيَرِدُ النهيُ والإِباحةُ كلاهما. أما الذهيُ، فنظرًا إلى المخاوف والمهالك، وأمَّا الإِباحةُ، فبالنظر إلى الحاجات. ولذا بوَّب البخاريُّ بجواز التجارة فيه.
قوله: (ومَا ذَكَرَهُ الله في القُرْآن)... إلخ، أي لمَّا ذكرها القرآنُ في موضع الامتنان، فلا يكون إلاّ حقًّا وجائزًا.
(5/25)
---(4/364)
قوله: (وقال مُجَاهِدُ: تَمْخَرُ السُّفُنُ الريحَ، ولا تَمْخَرُ الريحَ من السُّفُنِ، إلا الفُلك العِظَامُ) اه- . قوله: «الريحَ»: مفعول به، و«السفُنُ»: فاعلٌ، وكذلك «الريح» في الجملة الثانية: مفعولٌ. وحاصل ماذكره مجاهد في تفسيره قوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (النحل: 14) أن شقَّ الريح إنما يَظْهَرُ في السُّفُن العِظَامِ، وإلا فالصِغَار منها أيضًا تَشُقُّهَا عند جريها وسيرها، وإن لم يَظْهَرْ كظهوره في السُّفُنِ العِظَامِ. فلا حاجةَ إلى التقييد بالعِظَامِ، فإنه لا ريب في شقِّ الصِغَارِ أيضًا، وإن لم يَظِهَر.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنفِقُواْ مِن طَيّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ} (البقرة: 267)
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَحَبَّ البَسْطَ فِي الرِّزْق
2065 - قوله: (لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا). قلتُ: وإنما نبَّه عليه، لأن الصدقةَ الواحدةَ عملٌ واحدٌ، فإذا اشترك فيه متعدِّدٌ، فلعلَّه يُوَزَّعُ أجرها عليهم، ويكون لكلَ منهم بقدر نصيبه من ذلك الأجر. فقال: إنه ليس كذلك، بل في الصدقة الواحدة أجورٌ بقدر عامليها. نعم فيها تفاوتٌ باعتبار أعمالهم، فمنهم من هو خازنٌ، ومنهم من هو مُنْفِقٌ، ومنهم من هو مالكٌ. ومن الخازن إلى المالك فرقٌ جليٌّ، فكذلك في أجورهم. ولكن يَحْصُلُ لكلَ منهم أجره، لا أنه يُعْطِي ذلك الأجر بنقصِ أجد أحدٍ منهم.
2066 - قوله: (عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ)، أي من غير أمره الصَّريح. فإنها إذا أَنْفَقَتْ مع منعه إيَّاها، لا يَحْصُلُ لها أجرٌ. إنما الأجرُ فيما إذا أَنْفَقَتْ من حَبِّها، مع أنه لم يأمرها زوجُها، وقد عَلِمْتَ أيضًا أنها إن تُنْفِقْ لم يمنعها زوجُها.
2066 - قوله: (نِصْفُ أَجْرهِ).
(5/26)
---
..(4/365)
إلخ، وهذا باعتبار أجر الرجل، فإن أجرَها الأصليَّ بالنسبة إلى أجر الرجل نِصْفٌ. أما المرأةُ، فلها تمام أجرها، والتنصيف بالنظر إلى أجر الزوج.
2067 - قوله: (من سَرَّهُ أن يُبْسَطَ له رِزْقُهُ، أو يُنْسَأَ له في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، ومعنى السببية بين الصدقة وزيادة العمر: أن لأقربائه وذوي رَحِمِهِ دَخْلٌ في وجوده، فإذا خَدَمَهُمْ وتصدَّق عليهم بُورِكَ في عمره.
والحاصل: أن لوجودهم دَخْلٌ في وجوده، فلمواساته أيضًا يكون تأثيرًا في زيادة عمره، بقيت مسألةُ طول العمر، فكلُّها في المواطن التحتانية. أمَّا في أم الكتاب، فالأمرُ واحدٌ بلا زيادةٍ ونقصانٍ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ} (الرعد: 39)، فالمحوُ والإِثباتُ في موضعٍ، والأجل المُسَمَّى في موضع آخر.
صحيح البخاري
باب ُ شِرَاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمبالنَّسيئَة
2068 - قوله: (الرَّهْنَ في السَّلَم)، والله تعالى يَعْلَمُ أنه كان هناك سَلَمًا أم لا، فإن الراوي قد يُطلِقُهُ على البيع المطلق بمجرد كون الثمن فيه نَسِيئةً.
صحيح البخاري
باب ُ كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِه
(5/27)
---
2070 - قوله: (لمَّا اسْتُخْلِفَ أبو بَكْرٍ)، واعلم أن أبا بكر، وإن أكل من بيت المال قدر قُوتهِ، لكني أقطع على أنه قضاه بنَقِيرِه وقِطْمِيرهِ. أمَّا عمرُ فقد كان أَوْصَى بأن يُقْضَى عنه كل ما أخذه من بيت المال. وأمَّا عثمانُ، فكان غنيًا لم يكن له حاجةٌ، إلى بيت المال. وأما عليُّ، فقد كان يَقُمُّ بيت المال حتى تَغْبَرَّ لحيته المباركة، وكانت كثيفةً جدًا. فمرّ به رجلٌ مرةً. وكان يَقُمُّ بيت المال. فقال: لو استأجرتَ له رجلا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أفعله حتى يبقى بي رمقٌ من الحياة. فسبحان الذي اصطفى لنبيه هؤلاء النُّجَبَاء، الذي ما أقلَّت مثلهم الغبراء، ولا أظلَّت الخضراء:
*من البِيضِ الوجوه، نجومُ هدىً(4/366)
** لو أنك تَسْتَضِىء بهم أَضَاؤُا
*
هُمُ حَلُّوا من الشرفِ المُعلَّى
** ومن حَسَبِ العَشِيرَةِ حيثُ شاؤُا
ثم رأيت في «تذكرة»: أن نبيَّ الله سليمان عليه السلام كان يَنْسِجُ المَكاتِل، ومن ذلك كان قُوتُه، وكان داود عليه الصلاة والسلام يَعْمَلُ بيديه الدُّرُوعَ، كما نصَّ عليه القرآن.
2071 - قوله: (أَرْوَاحٌ) أي: الرائحةُ الكريهةُ.
صحيح البخاري
باب ُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالبَيعِ، وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَليَطْلُبْهُ فِي عَفَاف
قوله: (السَّمَاحة) - دل مين وسعت هونى أورسخت كيرى نه كرنى.
قوله: (في عَفَافٍ) يعني (دوسرى كى آبروريزى نه كرنى) أي هو الاتقاء عن هَتْكِ عِرْض أحدٍ.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
(5/28)
---
ثم ترجم المصنِّفُ بعده: باب من أنظر معسرًا، وذلك لاختلاف لفظ الحديث عنده، ففي لفظٍ: «ويَتَجَاوَزُوا عن المُوسِر»، وفي لفظٍ: «فإذا رأى مُعْسِرًا، قال لفتيانه: تَجَاوَزُوا عنه». ففيه التَّجَاوُزُ عن المُعْسِر، وهذا دَأْب المصنِّف: أن الحديثَ إذا اخْتَلَفَتْ ألفاظه، ولم يترجَّح عنده واحدٌ منهما، يُتَرْجِمُ عليه باللفظين، والفصلُ عندي في نحو هذه المواضع: أن يُؤْخَذَ بما كان أقرب إلى الوجدان، ولا يُعْبَأُ بما سواه. كما أن الظاهرَ مع التَّجاوُزِ لفظ: «المعْسِرِ»، فَيُحْمَلُ ذكر المُوسِرِ على تصرُّف من أحد الرواة، لأن المُعْسِرَ هو الذي يَحْتَاجُ إلى التجاوز عنه دون المُوسِر.(4/367)
ولذا ترى في لفظ نُعَيْم بن أبي هِنْدٍ، عن رَبْعِي عنده: «فأَقْبَلُ من المُوسِر، وأَتَجَاوَزُ عن المُعْسِر»، فلا ينبغي في مثل هذه المواضع تراجم مختلفة. وإنما يَفْعَلُ مثله حيث لا يُمْكِنُ الترجيح فيه، كما في قوله: «إذا أمَّن الإِمامُ فأمِّنُوا»، وفي لفظٍ: «إذا امَّن القاريء»... إلخ. فالفصلُ فيه مُشْكِلٌ، فإن الإِمامَ مختصٌّ بالصلاة، والقاريء يكون في الخارج أيضًا، ولا يتبيَّن لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّممن غيره، فإن فيهما معنىً صحيح، بخلاف الاختلاف في المُعْسِرِ والمُوسِرِ.
صحيح البخاري
باب إِذَا بَيَّنَ البَيِّعَانِ، وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الخِلْطِ مِنَ التَّمْر
صحيح البخاري
باب ُ ما قِيلَ فِي اللَّحَّامِ وَالجَزَّار
صحيح البخاري
باب ُ مَا يَمْحَقُ الكَذِبُ وَالكِتْمَانُ فِي البَيع
صحيح البخاري
(5/29)
---
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 130)
وفيه تغليبٌ كما في القَمَرَيْنِ.
قوله: (هذا ما اشْتَرَى محمدٌ رسولُ الله من العَدَّاءِ بن خالِدٍ)... إلخ. وعند الترمذيِّ في باب ما جاء في كتابة الشروط: «ما اشترى العَدَّاءُ بن خالد بن هَوْذَة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم..» إلخ. والصواب عندي ما في الترمذيِّ، لأن المعروفَ في الكتابة أن تكونَ من جهة البائع دون المشتري، إلا أن يكون العِوَضَان عروضًا.
قوله: (النَّخَّاسِينَ) أي الدلال في الدَّوَاب.
صحيح البخاري
باب ُ آكِلِ الرِّبا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِه(4/368)
وفي رواية الترمذيِّ: اللعن على عشرة، منها المُوكِل. فقال بعضهم: إن المُوكِلَ: المُعْطِي، والآكل: الآخذ. قلتُ: لا حاجةَ إلى هذا التأويل، والألفاظ كلُّها على ظاهرها، فإن الآخذ قد يكون آكلا. والوعيدُ من تلقاء خُبْثِ المال، فمن أخذه، أو أكله، أو حمله، أو فعل فعلا أوجب نسبة التلبُّس به، فقد تحمَّل الوعيد الوارد فيه. وإذن يكون الوعيد على كلِّ من أكل بنفسه، أو أَطْعَمَ غيره أيضًا سواء. فالوعيد على نفس هذا الفعل، وما ذكره الشارحون في شرحه، فهو خِلافُ الواقع عندي.
وحاصلهُ: أنه يُلْعَنُ في ربًا واحدٍ عشرةُ نفرٍ، حسب أوزارهم خِفَةً وشدَّةً.
(5/30)
---
قوله: {كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسّ}... إلخ، واستدلَّ منه ابن حَزْم على أن الشياطين لا تَسْرِي في أجساد الإِنسان، وإنما لهم لَمَمٌ به. واختار الغزاليُّ: أن لها سِرَايةً أيضًا. أقولُ: وهما عندي وجهان: وأمَّا وجه الخبط فإن أكل الربا يَمْسَخُ الفطرة السليمة، ويُؤَثِّرُ فيها حتى يكاد يُعْمِيها، فإذا عَمِيَتْ تَخْبِطُ خَبْطَ العَشْوَاء لا مَحَالة. ثم إن الأرواحَ الخبيثةَ أيضًا قد تُؤْذِي الإِنسان، وفي ذلك حكاياتٌ.
صحيح البخاري
باب ُ مُوكِلِ الرِّبَا
2086 - قوله: (فأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ). واعلم أن اللهاَ تعالى بثَّ في العالم أعمالا خسيسةً ونفيسةً، وخَلَقَ على مثلها أرواحًا، فالطيبةُ منها تَمِيلُ إلى النفيسة. والخبيثةُ تَرْغَبُ في الخسيسة، وهذا من باب نظام العالم. أمَّا الشرعُ فإنه لا يُرَغِّبُ إلا فيما فيه فَضْلٌ، وهذا كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إن العُرَفَاء في النار»، مع أنه لا بدَّ من العِرَافةِ أيضًا، فإن نظامَ العالم لا يستوي بدونها.(4/369)
والحاصلُ: أن طبائعَ الناس تَتَفَاوَتُ على حسب تَفَاوُت الأعمال، خِسَّةً ودناءةً، كَرمًا وفضلا، فَيَرْغَبُ إليها كلٌّ منهم حسب فطرته، مع أن الشرعَ لا يحثُّهم إلا على الخير. ومن ههنا عَلِمْتَ أن الشرعَ ليس في نقاضة النظام، فالنظامُ يبقى على طريقه، كما أن الشرعَ يأْمُرُ وينهى على طريقه. ألا ترى أن اللهاَ يدعو إلى دار السلام، مع عِلْمِهِ أن كثيرًا منهم لا يُلْقُون لدعوته بالا، فَيُلْقَوْن في جهنَّم على وجوههم. فاللهاُ سبحانه لا يَزَالُ يدعو على ما يَليقُ بشأنه، مع أنه سَبَقَ القول منه: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 119)، فهذا بنظامٍ، وذلك تشريعٌ.
(5/31)
---
وبالجملة إن الأطراف تتجاذب في نحو هذه المواضيع، كما في الحِجَامة فإِنه نهى عنها، ومع ذلك قد أعْطى أجرتها بنفسه النفيسة أيضًا. فالدَأْبُ فيه: أن لا يزالَ النطقُ بالهجو، ويَخْرُجُ الجواز من الأطراف، كفعله تارةً وتارةً. وهذا هو طريقُ القرآن مُطَّردًا، فإِنه إذا كَرِهَ شيئًا اطَّرد بهجوه ولو كان جائزًا في الجملة. كما رأيت في باب الهجرة، فإنه إذا أحبَّ الهجرة وكرهَ إقامة المسلم بين أَظْهُر الكفَّار، استمرَّ على النهي، ومع ذلك خَرَجَ الجوازُ من الأطراف. أمَّا الأحاديثُ، فقلَّما تَسْلُكُ هذا المسلك.(4/370)
2086 - قوله: (نهي النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعن ثَمَنِ الكَلْبِ) واختلف أصحابُنا في بيع الكلب. ففي «المبسوط»: أنه يجوز بيع المعلَّم خاصةً. وفي «الهداية»: جوازه مطلقًا، نظرًا إلى أن الكلبَ صالحٌ للتعليم، فجاز بيعه كبيع المعلَّم بالفعل. فنظر السَّرَخْسِي إلى التعليم حالا، وصاحب «الهداية» إلى التعليم، ولو مآلا. والأول أوفق بالحديث، لِمَا ثبت عند النَّسائي استثناء المعلَّم. وقال النَّسائي: إنه مُنْكَرٌ. وراجع ما في هامشه من «عقود الجواهر». ومن اختار جواز البيع مطلقًا، حَمَل النهي على التنزيه. وحمله الطحاويُّ على زمان حَرُمَ فيه اقتناؤها، فإذا رُخِّص فيه جاز البيع والشراء أيضًا. فراجع كلامه من «معاني الآثار».
صحيح البخاري
(5/32)
---
وقال الخطَّابيُّ في «معالم السنن» في معنى النهي عن بيع الهرَّة: إنه كونها شيئًا خسيسًا، فليتركها على الإِباحة الأصلية من أَخَذَهَا، فهو أحقُّ بها. ولا يُنَاسِبُ أن تجري فيها البيوع، فإنها تُنَاسِبُ بكرائم الأموال، وشأنها أدون من أن تُقْصَدَ بالبيوع. وهكذا هو العملُ في بلادنا، فإنهم يَتَدَاولونها مجَّانًا، ولا يأخذون ثمنها. فهذا تعليمٌ للأخلاق الفاضلة، وما ينبغي أن يُعَامَلَ مع هذه الحيوانات. لا أنه نهى عن بيعه حقيقةً، فلو باعها صَحَّ لا مَحَالَةَ، ولك أن تَقِيسَ عليها الكلب أيضًا.
قوله: (ولَعَنَ المُصَوِّر)، وراجع «فتح القدير» لمسائل التصاوير. أمَّا إن الملائكة، هل تَدْخُلُ بيتًا فيه تصاوير، رَخَّصَ بها الشرعُ؟ فالظاهر أن لا، فأنت تفعل ما في عالمك، وهم يفعلون ما في عالمهم، ولطباعهم تَنَافُرٌ من الأَنْجَاس، والأَرْجَاسِ، والتصاوير، وأمثال ذلك. فما عليهم أن لا يَدْخُلُوا بيتًا تكون فيه تلك، وإن رَخَّصَ لك فيها بتفاصيل، ذُكِرَت في المبسوطات.
صحيح البخاري(4/371)
باب {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276)
قوله: {وَيُرْبِى الصَّدَقَتِ}: يعني إن الله يُعْطِي الربا من عنده في الصدقات. أمّا ما تعاملون من معاملات الربا، فإنه يَمْحَقُها. فمن أراد منكم أن يأخذَ الربا، فليأخذه من الله سبحانه إلى سبع مئة ضِعْفٍ، ويزيد على ذلك لمن يشاء. وقال المفسِّرُون: إن الله تعالى يُبَارِكُ في الصدقات. وليس بمرادٍ عندي، وقد تكلَّمنا عليه مرةً، فَتَذَكَّرْهُ.
(5/33)
---
قوله: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}ومرَّ على مثله التَّفْتَازَانِيُّ في «المطول»، وذَكَرَ له ضابطةً: أن النفي في مثله محمولٌ على رفع الإِيجاب الكليِّ، ولا يَصِحُّ ههنا، فإنه للسَّلْبِ الكليِّ. ولو أجاب عنه العَلامةُ، بأن معناه: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ}... ثم اسْكُتْ، كأنك تَسْأَلُ المُخَاطَبَ من هو؟ فقيل لك: {كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، لم يَرِدْ عليها نقضٌ. وحاصلهُ: أن قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ} جواب لفعلٍ محذوفٍ أي من {لاَ يُحِبُّ}.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنَ الحَلِفِ فِي البَيع
صحيح البخاري
باب ُ ما قِيلَ فِي الصَّوَّاغ
صحيح البخاري
باب ُ ذِكْرِ القَينِ وَالحَدَّاد
صحيح البخاري
باب ُ ذِكْرِ الخَيَّاط
صحيح البخاري
باب ُ ذِكْرِ النَّسَّاج
واعلم أن الشرعَ نهى عن إكثار الحَلِفِ، ولو كان فيه صادقًا. ورُوِيَ عن إمامنا: أن اليمينَ الفاجرةَ تَدَعُ الديارَ بَلاقِع.
صحيح البخاري
باب ُ النَّجَّار
لمَّا دَخَلَ المصنِّفُ في بيان الصنائع والحِرَف، ذكر النَّجَّار، والصَّوَّاغ، والنَّسَّاج (جولاها)، وأمثالهم. ثم قيل: إن القَيْن: من يَصْنَعُ السيفَ خاصةً، والحَدَّاد عام.
2095 - قوله: (فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ)، وهي الحنَّانَة عندي، على ما تبيَّن من الروايات.
صحيح البخاري(4/372)
باب ُ شِرَاءِ الإِمَامِ الحَوَائِجَ بِنَفسِه
يعني أن العظيمَ إذا باشر البيوعَ بنفسه. لم يُوجِب ذلك فيه نَقْصًا.
صحيح البخاري
باب ُ شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالحَمِيرِ، وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلا وَهُوَ عَلَيهِهَل يَكُونُ ذلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِل
(5/34)
---
صحيح البخاري
باب ُ الأسْوَاقِ الَّتِى كانَتْ في الجَاهِليَّة، فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ في الإِسْلام
واعلم أن المُصَنِّفَ سمَّى الدَّوَابَّ، والحمير، ولعلَّه أراد المنقولات مطلقًا. وإلا، فلا نَفْهَمُ فيه معنىً آخر. وسمَّى الجمل تَبَعًا للحديث. ثم انتقل إلى مسألةٍ أخرى، وهي أنه هل يُشْتَرط التَّخْلِيَة للقبض أو لا؟ وأشار إلى جوابه بما أخرج عن ابن عمر، ولم يَذْكُر صورة الجواب على عادته من ذِكْرِ مادته بدون الإِفصاح به. وحديث ابن عمر المُفَصَّل يَجِيءُ عنده في: «الصحيح»، وفيه: «فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم (فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم) هو لك يا عبد الله بن عمر، تَصْنَعُ به ما شِئْتَ». اه- .
فاعلم أولا أن القبضَ في المنقولات لا يتحقَّق عند الشافعية إلا بالنقل والتحويل، وعندنا بالتَّخْلِيَة بينه وبين المشتري. أمَّا إن التَّخْلِيَة ماذا هي؟ فهذا ممَّا لا يَكَادُ يَنْضَبِطُ إلا بعد النظر إلى الجزئيات شيئًا. ومعناها عندي: رفع علائق مِلْكِهِ، وتمكينه للمشتري على أن يَقْبِضَهُ، وذلك قد يكون بالفعل، وأخرى بالقول، وتارةً بالقرائن.(4/373)
وشُرِط في «أجناس الناطفي»، أن يقولَ باللسان: خَلَّيْتُ بينه وبينك، وغير ذلك مما يُؤَدِّي مؤدَّاه. وليس بضروريًّ عندي، وهذا الشرط لم أَرَهُ عند غيره. ولنَذْكُر لك جزئيات ليتبيَّن لك الحالُ على جَلِيَّتِهِ، قالوا: إنه لو باع فرسًا في الصحراء، فإن كان المشتري يستطيع أن يَقْبِضَهُ بدون إعانة غيره، تحقَّق القبض. فكأنهم نظروا فيه إلى المُكْنَة فقط، ورَأَوْهَا كالقبض. وقالوا: إنه لو باع دارًا أو صندوقًا، وسَلَّم مفاتيحه، فهو قَبْضٌ.
(5/35)
---
وبالجملة إن القبضَ في البيع والهِبَة والرَّهْن يتحقَّقُ عندنا بالتَّخْلِيَةِ، والمُكْنَةِ على القبض، ولا يحتاج إلى القبض الحِسِّيِّ والنقل. وأمَّا عند البخاري، فلا يُشْتَرَطُ عنده هذا ولا ذاك. بل القبض عنده أعمُّ منهما، بأن المشتري لو أراده لم يَمْنَعْ عنه البائع، وإن بقيَ المبيع مشغولا بقبضه في الحالة الراهنة. فكأنَّ القبضَ يَحْصُل عنده بمجرد الإِيجاب والقَبُول، ولا يحتاج بعد ذلك إلى أمرٍ آخر يُسَمَّى قبضًا. لا أقول: إنه عَيْنُهما، بل إنه قريبٌ منه. فأضيقُ المذاهب فيه: مذهبُ الشافعي، وأوسعُها: مذهبُ البخاريِّ، ونحن في الوسط. ثم إن التصرُّفَ قبل القبض لا يجوز عند الشيخين في المنقولات، وأمَّا عند محمد فمطلقًا.
صحيح البخاري
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أنه يُعْلَمُ من تراجم البخاريِّ أنَّ القبضَ عنده لا يحتاج إلى التَّخْلِيَةِ، ولا إلى النقل. وأن تصرَّف المشتري يَصِحُّ عنده، قبل قبض المبيع، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّماشترى بعيرًا من عمر، ولم يُوجَدْ منه القبض، بمعنى النقل، ولا بمعنى رفع العلائق والتمكين، فإنَّ ابن البائع كان راكبًا عليه، فأين التَّخْلِيَة؟ ثم النبيُّ صلى الله عليه وسلّملمَّا وَهَبَهُ إياه، وُجِدَ التصرُّف منه في المبيع قبل القبض وحُوسِبَت قبضته الأولى عن القبض من جهة الهبة، ولم يَفْتَقِرْ لتماميتها إلى قبضٍ جديد.(4/374)
فكلُّ ذلك توسعات محتملة عند المصنِّف، واستدلَّ له المصنِّف من قصّة جابر - في السنة الرابعة - الشهيرة بليلة البعير، ولا تمسُّكَ له فيها، لأنه كان ترك الجمل عند باب المسجد، فيُعَدُّ ذلك تَخْلِيَةً منه. والجواب: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يُرِدْ بذلك بيعًا، ولا شراءً، وإنما أراد أن يَمُنَّ عليه، فاختار صورة البيع فقط. وإذن لا حاجةَ إلى حَمْلِهِ على البيع حقيقةً، والنظرِ إلى استيفاء شرائطه.
(5/36)
---
2097 - قوله: (فَأَمَرَ بلالا أن يَزِنَ لي أُوقِيَّةً)، وفي بيان الثمن اختلافٌ كثيرٌ، وكذا في أن جابرًا هل اشترط ظَهْرَهُ إلى المدينة، أم لا؟ فإن قُلْنَا: إنه اشترط ظَهْرَهُ، فهذا شرطٌ مُفْسِدٌ للبيع، كيف وفيه منفعةٌ لأحد العَاقِدَيْنِ، وذا لا يَجُوزُ على أصلنا. والجواب أن الشَّرْطَ لم يَكُنْ في صُلْب العقد، ولكنه استعار منه بعد تمامية العقد، وفي مثل ذلك لا تُتَّبَعُ ألفاظ الرواة، فإنهم يُقَدِّمُون، ويُؤَخِّرُون. وإنما همُّهم في سَرْدِ القصة دون أنظار الفقهاء ليُرَاعُوها في تعبيراتهم، وإنما أرادوا أن يَذْكُرُوا بيان ما اشتملت عليه تلك الليلة على شاكلة القصة بدون مراعاة شرائط البيع. وغير ذلك. على أنك قد عَلِمْتَ أنه لم يكن هناك بَيْعٌ ولا شِرَاءٌ، ونحوه.
أقول في ليلة المِعْرَاج: إنه لم يكن هناك نَسْخٌ من الخمسين إلى الخمس، كما فَهِمُوه، بل كان طريقَ بيانٍ للمُرَادِ، وإلقائه بدفعات، ليكونَ أوقعَ في النفس، وأحظى للضيف. وقد قرَّرناه سابقًا، ويجيء الحديث في «الصحيح»، مع إيضاح بيانٍ.
صحيح البخاري
باب ُ شِرَاءِ الإِبِلِ الهِيمِ، أَوِ الأجْرَب
قوله: (المُخَالِفُ للقصد في كُلِّ شيءٍ) أي الذي يَخْبِطُ في مَشْيِهِ، فهذا عيبٌ. وغرضُ المصنِّف: أن المشتري إذا رَضِيَ بالعيب بعد ما اشتراه، ولم يكن رآه، فله ذلك، وإن بدا له أن يَرُدَّهُ على البائع، فله ذلك أيضًا.
صحيح البخاري(4/375)
باب ُ بَيعِ السِّلاحِ في الفِتْنَةِ وَغَيرِهَا
ولا بأسَ به إذا لم يَكُنْ حَرْبٌ، ولم يُوجِبْ إعانتهم، وإلا فلا يجوز.
صحيح البخاري
باب فِي العَطَّارِ وَبَيعِ المِسْك
(5/37)
---
وذكر المصنِّفُ فيه تمثيلا غريبًا من صاحب النبوة. وأَمْعِنْ النظر فيه، فإني لم أَرَ من البشر أحدًا أعجب تمثيلا من الأنبياء عليهم السلام، فإنه يكون أَوْفَى بالمعاني، وأَقُرَبَ إلى الواقع، وأدلَّ على المراد، وأحلى للعين والسمع، ومن لا يُرَاعِيه يَظُنُّهُ كسائر التمثيلات. وراجع «القاموس» للفرق بين السَّوْء والسُّوء. ثم «الكِير» (بهتى)، «والكور» (دهونكنى).
صحيح البخاري
باب ُ ذِكْرِ الحَجَّام
2102 - قوله: (يُخَفِّفُوا من خَرَاجِهِ) أي خَرَاج الرؤوس، وهو ما وظَّفَه عليه مولاه أن يَكْتَسِبَ، ويُؤَدِّي إليه من دراهم كذا، لا خَرَاج الأراضي.
صحيح البخاري
باب ُ التِّجَارَةِ فِيما يُكْرَهُ لُبْسُهُ للرِّجالِ وَالنِّسَاء
صحيح البخاري
باب صَاحِبُ السِّلعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْم
واعلم أن البيعَ عندنا يَسْتَدْعِي قيام المِلْك دون حِلّ الانتفاع، فمن باع ما لا يجوز لُبْسُهُ للرجال جاز له بيعه، وإن لم يَجُزْ له لُبْسُهُ، وإنما يَنْظُرُ فيه المشتري، أنه هل يجوز له أو لا.
2105 - قوله: (اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً) - (تكيه يا كدا)، وفي لفظٍ: «قِرام سِتْرٍ»، كما في كتاب اللباس. ثم اعلم أن التصاوير إذا كانت مقطوعة الرأس، فصارت كالشجرة، أو مُمْتَهَنَةً، أو صغيرةً جدًا بحيث لا تبدو للناظر، جازت أن تكونَ في البيوت. أمَّا إنها تَمْنَعُ دخول الملائكة، أو لا؟ فذلك بحثٌ آخر. ولعلَّهم لا يَدْخُلُونها مع جوازها، لأن لهم مُنَافَرَةً طبيعيةً منها، فجوازها لا يُوجبُ عليهم دخولها أيضًا، فهؤلاء على شرعهم، وهؤلاء على طَبْعِهِمْ.
(5/38)
---(4/376)
2105 - قوله: (أَحْيُوا ما خَلَفْتُمْ). كان الكلام في الثوب المُصَوَّر، إلا أنه انتقل منه إلى فِعْل التصوير، وذلك الفعل حرامٌ مطلقًا. وهذا هو الصنع في أحاديث الفاتحة، حيث كان الكلام في المقتدي، ثم انتقل منه إلى الجنس.g
وكذا في قوله: «لا صَامَ من صَامَ الدَّهْرَ»، ثم ذكر بعده فضيلته. وهكذا في حديث النهي عن البُصَاق في المسجد، وأن كفارتها دفنها. كان الحديث في أحكام المسجد، ثم انتقل إلى أحكام البُصاق في الصلاة، فاختلف في شرحه النووي، والقاضي عِيَاض، وراجع «شرح مسلم» للنووي، وقد قرَّرْنا كلَّ ذلك من قبل.
صحيح البخاري
باب كَمْ يَجُوزُ الخِيَار
وقد كان يَحْظُرُ بالبال أن في تراجمه سوءَ ترتيبٍ، فإنه قد تعرَّض إلى كيفيات الخِيَار قبل تقرُّر حقيقته. والذي يَتَبَادَرُ إلى الذهن أن يُتَرْجِمَ أولا على نفس الخيار ثم إلى سائر كيفياته. وتبيَّن آخِرًا أن المصنِّفَ جعل الخِيَارَ في البيع أصلا، وعدمه تَبَعًا على خلاف نظر الحنفية. فإذا كان الخِيَار عنده أصلا، لم يَرَ حاجة إلى تقديمه، لكونه مفروغًا منه عنده، ودخل في فروعه.
(5/39)
---(4/377)
21075 - قوله: (إن المُتَبَايِعَيْنِ بالخِيَار في بَيْعِهِمَا ما لم يتفرَّقا، أو يكون البيعُ خِيَارًا)، وفي لفظَ: (أو يقول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، وربما قال: أو يكونُ بيعَ خِيَارٍ)، اعلم أن الخِيَارَ عندنا: إمَّا خيار الشرط، أو الرؤية، أو العَيْب، أو خيار القَبُول. ولا عِدَةَ بخِيَار المَجْلِس، وهو مذهب مالك، واعتبر به الشَّافِعيَّة، وأحمد، وقالوا: إن للعَاقِدَيْن خِيَارًا بعد الإِيجاب والقَبُول أيضًا يُسَمَّى بخِيَار المَجْلِس. وذا يَقْتَصِرُ على المَجْلِس فقط، فكلٌّ منهما في مُكْنَةٍ بين فَسْخ البيع وإمضائه، ما داما في المَجْلِس، فإذا تفرَّقا عنه لم يَبْقَ لهما هذا الخِيَار، وتحتَّم البيع. وقال الحنفيةُ: إن البيعَ يَتِمُّ بالإِيجاب والقَبُول، فإذا فَرَغَا منه لم يَبْقَ لهما خيارٌ لزوميٌّ في الرَّدِّ والقَبُول، إلا أن يكونا شَرَطَا الخيار.
ثم قال الشافعيةُ: إن خِيَار المَجْلِسِ ينتهي بقول أحدهما للآخر: اخْتَرْ، فإذا قال أحدهما للآخر: اخْتَرْ، وقال له الآخر: اخْتَرْتُ، تمَّ العقدُ، وانتهى الخِيَار الذي كان لهما في المَجْلِسِ، عند القائل به، ولم يَبْقَ لهما بعد ذلك خِيَارٌ تفرَّقا عن المجلس، أو لا، إلا أن يكونا شَرَطَا خِيَارَ الشرط. فحينئذٍ يبقى الخِيَارُ بعد المَجْلِس أيضًا.
فالحاصل أن القول: «اخْتَرْ اخْتَرْ» لقصر الخيار الممتدّ إلى المَجْلِسِ، وشَرْطِ الخِيَار لامتداده إلى ما وراء المَجْلِسِ أيضًا. وبهذا تبيَّن شرح الحديث: فإن حملنا قوله: «أو يكون البيع خِيَارًا» على خِيَارِ الشرط يكون لامتداده إلى ما وراء المَجْلِسِ. وإن أردنا منه القول: «اختر»، فهو لقصره في المَجْلِسِ.
(5/40)
---(4/378)
قلتُ: والظاهر من قوله: «أو يكون البيع خِيَارًا»: هو خِيَار الشرط، كما في اللفظ الآخر: «أو يكون بيعَ خِيَارٍ» بالإِضافة، فإنه يَدُلُّ على التنويع، وحملُه على القول: «اخْتَرْ اخْتَرْ»، ركيكٌ. ولمَّا ورد هذا القول أيضًا في بعض الروايات، وَجَبَ علينا أن نتكلَّم عليه.
صحيح البخاري
فاعلم أنهم افْتَرَقُوا في شرح الحديث على فِرْقَتَيْنِ: فقال الشافعيةُ: إن المراد من التفرُّق هو التفرُّق بالأبدان، فهما على خِيَارهما قبل التفرُّق بالأبدان، وإن كانا فَرَغَا عن منطق الإِيجاب والقَبُول. ثم إن هذا الخِيَار إمَّا ينتهي ب- : «اخْتَرْ اخْتَرْ»، أو يمتدُّ إلى ما وراء المَجْلِسِ حسبما اقتضى كلامهما.
وقال محمد منَّا: هذا على الافتراق بالأقوال، فإذا قال البائعُ: قد بِعْتُ منك، وقال المشتري: قد قَبِلْتُ، فقد تفرَّقا، وانقطع خِيَارُهُما. لأن الذي كان لهما من الخِيَارِ: هو ما كان للبائع أن يُبْطِلَ قوله للمشتري: وقد بِعْتُكَ هذا العبد بألف درهمٍ، قبل قَبُول المشتري، فإذا قَبِلَ المشتري، فقد تفرَّق هو والبائع، وانقطع الخيارُ. فهذا كما ذكر الله عز وجل في الطلاق {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ} (النساء: 130)، فكأنّ الزوجَ إذا قال للمرأة: قد طَلَّقْتُكِ على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قَبِلْتُ، فقد بانت، وتفرَّقا بذلك القول، وإن لم يتفرَّقا بأبدانهما. فكذلك إذا قال الرجل للرجل: قد بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال المشتري قد قبلتُ، فقد تفرّقا بذلك القول، وإن لم يتفرّقا بأبدانهما، كذا ذكره الطَّحَاوِيُّ. ونظيره قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: 103) أي التفرُّق عن الكلمة، وفي الكُتُب: افترقوا عن كلمةٍ واحدةٍ.
(5/41)
---(4/379)
قلتُ: والأَوْلَى عندي أن يُقَال: إن المراد من التفرُّق هو التفرُّق بالأبدان، كما هو عندهم، لكنه كِنَايةٌ عن التفرُّق بالأول، والفراغ عن العقد، لأنهما بعد فراغهما عن العقد في مُكْنَةٍ من التفرُّق بالأبدان، فالتفرُّق بالأبدان مُكَنَّى به، والتفرُّق بالأقوال مُكَنَّى عنه. وقد مرَّ منا عن قريبٍ: أن اللفظ في الكناية لا يَخْرُجُ عن المعنى الموضوع له، وإن كان الغرضُ في لوازمه، وروادفه. وإن شِئْتَ قُلْتَ: إن التفرُّقَ بالأبدان عنوانٌ للتفرُّق بالأقوال، وصادق عليه صدق العنوان على المُعَنْوَن.
وبالجملة إذا كان التفرُّقُ كنايةً عن الفراغ، لم يَبْقَ فيه بُعْدُ لغةٍ أيضًا، ومن ههنا تبيَّن سرُّ تعبير الفراغ عن التفرُّق في القرآن أيضًا. ثم إن ما ذكره الطَّحَاويُّ في تقرير كلام محمد هو الصواب عندي، وإليه تُرْشِدُ عبارته في «موطئه». فما فَهِمَهُ ملا الهداد في «حاشية الهداية» صوابٌ، وأمَّا ما ذَكَرَهُ ابن الهُمَام في «شرحه»، فبعيدٌ عندي. فإنه حمل التفرُّق بالأقوال على تفريقهما في الصَّفْقَة، فيقول هذا شيئًا، وهذا شيئًا، نحو إن قال البائع: بِعْتُه بمئة، وادَّعَى المشتري أنه باعه بخمسين مثلا، فهذا هو التفرُّق المَعْنِي في الحديث عنده.
صحيح البخاري
وإنما حمل الشيخ ابن الهُمَام على المعنى المذكور، لِمَا اشتهر عن محمد: أن التفرُّقَ عنده على التفرُّق بالأقوال، فَحَمَلَهُ على الاختلاف في الأقوال، وليس بصوابٍ، فإن محمدًا لم يُرِدْ من التفرُّق بالأقوال ما فَهِمَهُ، فالصواب ما فَهِمَهُ ملا الهداد.
وبالجملة ليس مدلول العبارة عند محمد أيضًا إلا التفرُّق بالأبدان، إلا أن مناط الحكم عنده هو فراغهم عن الإِيجاب والقَبُول، وهذا هو الذي عَنَاه من التفرُّق بالأقوال، لا كما فَهِمَه ابن الهُمَام: أنه عبارةٌ عن عدم ارتباط الإِيجاب والقَبُول.
(5/42)
---(4/380)
وقال عيسى بن أَبَان: الفُرْقَةُ التي تَقْطَعُ الخِيَارَ المذكور في هذه الآثار هي الفُرْقَةُ بالأبدان، وذلك لأن الرجلَ إذا قال للرجلِ: قد بِعْتُكَ عبدي هذا بألف درهم، فللمُخَاطَبِ بذلك القول أن يَقْبَلَ ما لم يُفَارِقْ صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يَقْبَلَ. قال: ولولا أن هذا الحديث جاء، ما عَلِمْنَا ما يَقْطَعُ ما للمُخَاطَب من قَبُول المخاطبة التي خاطبه بها صاحبه، وأَوْجَبَ له بها البيع. فلمَّا جاء هذا الحديث، عَلِمْنَا أن افتراقَ أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يَقْطَعُ قَبُول تلك المخاطبة. وقد رُوِيَ هذا التفسير عن أبي يوسف، كذا في الطحاويِّ.
فالفُرْقَةُ على هذا التقدير هي الفُرْقَةُ بالأبدان، كما قال الشافعيةُ، إلا أنهم أرادوا من الخِيَار خِيَارَ المَجْلِسِ، وأراد منه أبو يوسف خِيَارَ القَبُول. وقد عَلِمْنَا من كلامه كلِّيَّةً، وهي: أن المَجْلِسَ جامعٌ للمتفرِّقات، فهما على خِيَارٍ بين القَبُول والرَّدِّ، وزيادة الثمن ونُقْصَانِهِ ما دام المَجْلِسُ باقيًا، فإذا تفرَّقا عن المَجْلِسِ انقطع الخيارُ، وتمَّ البيعُ. ولا يَرْتَبِطُ بعد المَجْلِسِ قَبُولُه من إيجابه، بل يحتاج إلى إيجابٍ مُسْتَأْنفٍ، بخلافه في المَجْلِسِ، فإن القَبُولَ يَرْتَبِطُ مع الإِيجاب، وما ذاك إلا لكون المَجْلِسَ جامعًا للمتفرِّقات. وحينئذٍ شرح قوله: أو «يَخْتَارَا» أي يَخْتَارَا البيعَ بالإِيجاب والقَبُول، فحينئذٍ يتمُّ العقدُ؛ ولا يبقى له خيارُ القَبُول في المَجْلِسِ أيضًا. ومعنى قوله: «إلا أن يكون بيعَ خِيَارٍ»، أي فحينئذٍ يمتدُّ خِيَارُه إلى ما وراء المَجْلِسِ، ولا ينتهي بالإِيجاب والقَبُول. ولولا هذا الشرط لانتهى بعد القَبُول، وتمَّ العقدُ بتًا.
(5/43)
---(4/381)
فتحصَّل من المجموع ثلاثة شروح: شرحٌ للحجازيين وشرحٌ لمحمد، وشرحٌ لأبي يوسف، وتبيَّن في ضِمْنِه الجواب عن الحديث أيضًا. ومحصَّل الخلاف بيننا وبين الشافعيِّ: أن الخِيَارَ عنده بعد اختتام الإِيجاب والقَبُول، يبقى إلى المَجْلِسِ، وهو عندنا في نفس الإِيجاب والقَبُول، لا بعدهما. وقال فاضلٌ من الحنفية في شرح الحديث بجميع ما قاله الشافعيةُ، إلا أنه حَمَل خِيَارَ المَجْلِسِ على الاستحباب، لا على الوجوب. فإذا كان المَجْلِسُ باقيًا، وأراد المشتري أن يَرُدَّ على البائع بَيْعَهُ، يُسْتَحَبُّ له أن يَرُدَّه، فإن الإِقالةَ مُسْتَحَبَّةٌ في الأحوال كلِّها، فلا مخالفة فيه للمذهب. وحينئذٍ لا خلافَ بيننا وبين الشافعية، إلا أنهم أخذوا هذا الخِيَار على الوجوب، وحَمَلْنَاهُ على الاستحباب.
صحيح البخاري
والحافظ نقله في «الفتح»، ولم يَرْضَ به، كما أنه لم يَرُدَّه أيضًا، وهو المختارُ عند شيخنا - شيخ الهند - محمود حسن رحمه الله، ويُؤَيِّدُهُ ما عند أبي داود: «حتى يتخايرا ثلاثًا»، فإن الكلَّ حملوه على الاستحباب دون الوجوب.
أمَّا قولُهم: إن ابن عمر راوي الحديث، ومذهبُه ما ذَهَبَ إليه الشافعيةُ: أن المرادَ من الفُرْقَةِ الفرقةُ بالأبدان. فقيل في جوابه: إنه من رَوَى لك هذا، ولا حُجَّةَ لك في افتراقه بعد العقد، لأنه يجوز أن تكون تلك الفُرْقَة عنده على الاستحباب، فيكون يُفَارِقُ صاحبَه استحبابًا. كيف ولو لم نَحْمِلْهُ على هذا المعنى، لَزِمَ أن يكون مرتكبًا لأمر حرامٍ عندكم، والعياذ بالله. أليس قد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «ولا يَحِلُّ له أن يُفَارِقَ صاحبَه، خَشْيَةَ أن يَسْتَقِيله»، وهذا الحق واجبٌ عندكم، ومُسْتَحَبٌّ عندنا، فَيَلْزَمُ عليكم ترك الحق الواجب، فلا حُجَّةَ لكم في فعل ابن عمر.
(5/44)
---(4/382)
قلتُ: أمَّا كون خيار المَجْلِسِ مُسْتَحَبًّا عندنا، فذاك أمرٌ أوجده المتأخِّرون من عندهم على طريق المعارضة، وليس منقولا عن الإِمام. كما أن ترك الفاتحة للمقتدي رُوِي عن الإِمام، أمَّا إن هذا الترك في أيِّ مرتبةٍ هو؟ فذلك أمرٌ أوجده المتأخِّرون، وليس مَرْوِيًّا عن الإِمام، فذهب ابن الهُمَام أنها مكروهةٌ تحريمًا. وزَعَمَ الناسُ أن تلك الكراهة مَرْويّةٌ عن الإِمام، مع أنا لا نجدها مَرْوِيَّةً عن إمامنا في موضعٍ. غير أن النهيَ عن القراءة إذا نُقِلَ عنه، ذهبت أذهانُ الناس تَبْحَثُ عن مراتبه، فحملها بعضُهم على الكراهة. فهكذا الأمرُ في استحباب خِيَار المَجْلِسِ، فإنه لم يُنْقَلْ عن إمامنا، وإنما قاله المتأخِّرون احتمالا وبحثًا، على طَوْرِ المعارضة لا على طريق المذهب.
بقي الجواب عن فعل ابن عمر، فأقولُ: إنه وإن كان راوي الحديث، لكنه فعله فقط، ولا يَدُلُّ على كونه تَعَامُلا فيما بين الصحابة أيضًا. حتى نُقِلَ عن مالك: أنه كان يَشْرَحُ هذا الحديث، إذ جاءه ابن أبي ذِئْب، وكلَّمه فيه، فقال له مالك: ليس العملُ عليه في بلدتنا، وأَمَرَ بإِخراجه عن المَجْلِسِ. فذلك وإن لم يَسْتَحْسِنْهُ العلماءُ، إلا أنه يَدُلّ على عدم تعامل الصحابة، وتوارثهم في البلدةِ المُطَهَّرَةِ، وكفانا بهم قُدْوَة.
صحيح البخاري
باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ في الخِيَارِ هَل يَجُوزُ البَيع
والخيارُ عندنا، وعند الشافعي مُؤَقَّتٌ بثلاثة أيام، ولم يُؤَقِّتْهُ صاحباه بشيءٍ، ولعلَّه مختار البخاريِّ.
(5/45)
---(4/383)
2109 - قوله: (ما لم يتفرَّقا، أو يقولُ أحدُهما لِصاحبه: اخْتَرْ، وربما قال: أو يكونُ بيعَ خِيَارٍ)، واعلم أنك قد عَلِمْتَ الفرق بين الخياريْن. فإن قوله: اخْتَرْ اخْتَرْ، لقطع الخيار في المجلس، وبيعُ الخيار، لِمَدِّهِ إلى ما وراء المجلس. فهما معنيان، والشَّكُّ بينهما غيرُ مناسبٍ، وإنما يُنَاسِبُ فيما يتَّحِدُ في المعنى، ويَخْتَلِفُ في اللفظ. أمَّا إذا اختلف المعنى، فلا يُنَاسِبُ الشَّكُّ فيه، لأنه لا معنى لقوله: «أو يقولُ أحدُهما لصاحبه: اخْتَرْ، أو يكونُ بيعَ خِيَارٍ»، بالعطف. إلا أن الرواةَ كثيرًا ما يَقْتَحِمُونَ مثله.
ومحصَّل الكلام: أن في الحديث ثلاثة أشياء: الأول: خيارُ المَجْلِسِ. والثاني: القول: اخْتَرْ اخْتَرْ. والثالث: خيار الشرط. وتفسيرُ خيار الشرط بقوله: اخْتَرْ اخْتَرْ، من أجل شكِّ الرواة في هذين في بعض المواضع، غيرُ مُلائِمٍ. وتغييرُ معاني الألفاظ من أجل اختلاط الرواة، غيرُ مُنَاسِبٍ. أَلا ترى أن قوله: «بيع الخيار» - بالإِضافة - يعيِّن إرادة النوعية، فهو نوعٌ مستقلٌ، فلا يكون المرادُ منه القول: اخْتَرْ اخْتَر. ولا نُنْكِرُ ثبوته في الحديث، إنما نقول: إنه معنى على حِدَة، وذلك على حِدَة، فلا يَتْبَعُ أحدهما الآخر في التفسير، فافهم.
صحيح البخاري
باب البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا
لعلَّ المصنِّف اختار مذهب الشافعية.
صحيح البخاري
باب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُما صَاحِبَهُ بَعْدَ البَيعِ فَقَدْ وَجَبَ البَيع
2112 - قوله: (إذا تَبَايَعَ الرجلان، فكلُّ واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا)... إلخ. نقول: معنى قوله: «إذا تَبَايَعَ»، أي في حال الإِيجاب والقَبُول، ويقول الشافعية: أي فَرَغَا عن الإِيجاب والقَبُول، وتَمَّ العقدُ.
(5/46)
---(4/384)
2112 - قوله: (وكانا جميعًا)، هذا اللفظ يَدُلُّ على أن المراد بالفُرْقَةِ، هو الفُرْقَةُ بالأبدان، إن قلنا: إن الجميعَ معناه معًا، فإن المُتَبَادَر من الفُرْقَةِ بعد كونهما معًا: الفُرْقَةُ بالأبدان. إلا أن الصِّيرَافي كتب أنه يُسْتَعْمَلُ بمعنى الكلِّ أيضًا، فلم يكن صريحًا فيما فَهِمُوه.
2112 - قوله: (أو يُخَيِّرُ أحدُهُمَا الآخرَ) هذا صريحٌ في القول: «اخْتَرْ».
صحيح البخاري
باب إِذَا كانَ البَائِعُ بِالخِيَارِ هَل يَجُوزُ البَيع
2114 - قوله: (قال هَمَّامٌ: وَجَدْتُ في كتابي: يختارُ ثلاث مِرَارٍ)، وهو محمولٌ على الاستحباب عندنا. ويقول الشافعيةُ: إنه في المرَّة الأولى محمولٌ على الوجوب، وبعدها على الاستحباب.
صحيح البخاري
باب إِذَا اشْتَرَى شَيئًا، فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يُنْكِرِالبَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي، أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَه
وهذا يَدُلُّ على أن المصنِّفَ سَلَك في باب الخيار مَسْلَكًا أوسع من الشافعية، كما مرَّ. فإن الخيار عندهم إنما يَنْقَطِعُ بأمرين: الأول: بالفُرْقَةِ بالأبدان. والثاني: بالاختيار، ولا ثالث لهما. والمصنِّفُ جعل تصرُّفَ المشتري بحضور البائع أيضًا مقام التفرُّق في قَطْعِ الخيار، فدل على أن الأمر لا يدور على هذين عنده، بل كُل ما يقوم مقامهما، فهو يعمل عملهما في قطع خيار المَجْلِسِ، فهذا توسُّعٌ منه. ثم فيه: إنه هل يُشْتَرَطُ التَّخْلِيَة في القبض، أم لا؟ وهل يجوز التصرُّف في المبيع قبل القبض، أو لا؟ وقد تكلَّمنا عليه عن قريبٍ.
(5/47)
---(4/385)
قوله: (فَوَهَبَ من سَاعَتِهِ)، هذا تصرُّفٌ منه قبل القبض عندنا، إلا أن البخاريَّ لمَّا وسَّع في القبض، فهو تصرُّفٌ بعد القبض عنده. فالقبضُ ضروريٌّ عنده أيضًا للتصرُّف، إلا أنه عمَّم القبض، وجعل أمارات الرضاء بعد الإِيجاب والقَبُول أيضًا من أنواع القبض، كما يَدُلُّ عليه قوله: «ولم يُنْكِرِ البائعُ على المشتري»، فكأنه أمارةٌ على رضائه بتصرُّفه، فصار قبضًا.
2116 - قوله: (وكانت السُّنَّةُ: أن المُتَبَايِعَيْنِ بالخيار)... إلخ، وقد مرَّ عن مالك أنه ليس عليه التعامُل، والسُّنَّةُ بمعنى الطريقة المسلوكة.
صحيح البخاري
باب ما يُكْرَهُ مِنَ الخِدَاعِ في البَيع
2117 - قوله: (قل: لا خِلابة). وكان الرجل لَكِنًا، كما عند مسلم، فكان يقول: لا خِيَابة، بدل خِلابة. وعند البيهقيِّ بسندٍ جيدٍ، وكذا عند الحاكم زيادة: «ولي الخيار ثلاثة أيام»، فَدَلَّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإنما عَلَّمه خيار الشرط. واختلف الناسُ في توجيهات ما علَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمللاحتراز عن التغابُن. ثم في تقريرها، وفيما نقلناه من الزيادة غُنْيَةٌ عن جميعها. قال الشيخُ ابن الهُمَام: إن الغَرَرَ إمَّا قوليٌّ، أو فِعْليٌّ، وتجب الإِقالةُ على العَاقِدَيْن في القوليِّ قضاءً، وفي الفِعْليِّ ديانةً، فاحفظه، فإنه يفيدك في مواضع.
صحيح البخاري
باب ُ ما ذُكِرَ فِي الأَسْوَاق
(5/48)
---(4/386)
2118 - قوله: (ثم يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِمْ). فإن قلتَ: من اتَّبَعَ الجيش الذي أراد أن يَغْزو الكعبة، فقد أعانهم، ولو في الجملة، فكيف يُبْعَثُ على نيِّته، وما العبرةُ بها بعد أن أعانهم؟ قلتُ: ولكنه فيما خَرَجَ الجيشُ لأن يَغْزُوَ غير مكَّة، ثم بدا له أن يَغْزُوَها أيضًا - والعياذ بالله - فلم يتمكَّن هؤلاء أن يتخلَّفُوا عنهم لمكان المصالح، فاتَّبَعُوه، وقلوبهم تَمَلْمَلُ، وأعينهم تَغْرَوْرِقُ بالدموع، فهؤلاء الذين يُبْعَثُون على نيَّاتهم. أمَّا مَن عَلِمَ من أول الأمر أن الجيشَ يريد الكعبةَ، ثم اتَّبَعَهُ فلا نِيَّة لهم، وهو معهم في الدنيا والآخرة. وإنما يُخْسَفُ بالأول والآخر، لأن ذلك من سُنَّة الله، إن من لم يَهْرُب من عذاب الله يَقَعُ فيه. ولذا أمر نوحًا عليه السلام أن يَرْكَبَ السفينة مع من آمن، وأمر لوطًا عليه السلام أن يَخْرُجَ من قومه، بل أمره أن لا يَلْتَفِتَ إليهم.
ولو كان العذاب يَقَعُ على بلدٍ، ويَنْجُو منه المؤمنون لتميَّز الحقُ عن الباطل قبل أوانه، ولم تَبْقَ هذه الدار دار الابتلاء. وإنما أراد الله سبحانه من التمحيص والتمييز في الدنيا بقدر ما لا يُوجِبُ رفع التكليف، والإِيمان بالغيب، فلم يَزَلْ التمحيصُ والتمييزُ، وهو من أهم مقاصد الغزوات، إلا أنه كان في ذيل الأسباب.
(5/49)
---(4/387)
ومن ههنا تبيَّن السِّرُّ في ابتلاء الصَّبِيِّ بالمرض، مع أنه لا ذنبَ له، وذلك لأنه أراد أن يبقى الأمر غيبًا. فالعصاةُ تُبْتَلى نقمةً، والمؤمنون والصبيان رحمةً وتسبيبًا، ولا ظلمَ في التسبيب، فإن الله تعالى قد نبَّه على خواصِّ الأشياء. فمن يأكل السَّمَّ يموت، فلا اعتراض على الله سبحانه، وإنما الذنبُ على من أكله. فابتلاء الصبيان من هذا القبيل، لا أنه انتقام منه تعالى، وإنما كان الظلمُ لو لم يُنَبِّه عليها، أو لو قَهَرَه على أكلها. وأمَّا بعد أن هداه النَّجْدَيْن، ومَنَحَه السمعَ والعينَ، فمن اقترفها، فعليه اللَّوْمُ والشيْنُ.
فائدةٌ جليلةٌ: واعلم أن الثقةَ في الرواة ليست باعتبار كونهم أولياء، بل باعتبار فنِّهم، فهي باعتبار الأعمال الظاهرة فحسب. فالثقات قد رَكِبُوا الأغلاط، وحَادُوا في بعض المواضع عن طريق الصواب أيضًا. وإنما نعني بالأغلاط: التغيير في الألفاظ، ومن حَيْدهم عن طريق الصواب: عدم إنصافهم في المسائل المُخْتَلَفِ فيها، إلا في مواضع. ومن جرَّب يُصَدَّقْ، ومن جَهِلَ يُكَذَّبْ.
صحيح البخاري
2120 - قوله: (سَمُّوا باسْمِي)... إلخ. والكلامُ فيه طويلٌ، ذكروه في الشروح. والذي يتبيَّنُ من عادة العرب أنهم إذا عَظَّمُوا أحدًا لم يدعوه باسمه، ولكن بكُنْيَتِهِ. فلم يكن في التسمية باسمه التباسٌ، لأنهم لم يكونوا يَدْعُونَهُ باسمه المبارك. بخلاف التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ، لأنه يُوجِبُ الالتباس، فنهاهم عنه. وذلك أيضًا يَقْتَصِرُ على عهده صلى الله عليه وسلّم وأمَّا بعد وفاته، فجائزٌ كلُّهُ.
2122 - قوله: (السِّخَاب): في الأصل عصارة الشجرة (آنوله) يُحِطُون فيه الطيب، ثم يَتَّخِذُون منها قِلادةً، وترجمة «اللُّكَع»: اجى.
(5/50)
---(4/388)
2123 - قوله: (حتى يَنْقُلُوه)... إلخ، تمسَّك به الشافعيةُ على اشتراط النقل في القبض. قلنا: كيف وقد وَرَدَ فيه ألفاظٌ متغايرةٌ: ففي لفظٍ: «حتى يَسْتَوْفِيه»، كما عند البخاري.h
وفي لفظٍ: «حتى يَقْبِضَه». فلم يتعيَّن لفظُ النقل، لنجعله مَدَارًا. والوجه عندي أن الكلَّ جائزٌ، كالواجب المخيَّر، والمناطُ فيها التَّخْلِيَة. وقد مرَّ: أن الأحوطَ عند اختلاف الألفاظ العملُ بالقدر المشترك، وهو التَّخْلِيَة، فالنقلُ نوعٌ منه، لأن القبضَ مُنْحصِرٌ فيه. على أنا نقول: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأمرهم بالنقل تعزيرًا لهم، لأنهم كانوا يتلقُّون الرُّكْبَان، قبل أن يَنْزِلُوا السوق، فنهاهم أن يتلقُّوا الجَلَبَ، وأَلْزَمَ عليهم النقل تعزيرًا، كما يَدُلُّ عليه ما عند البخاريِّ في باب ما يُذْكَرُ في بَيْعِ الطعام... إلخ، قال: «رأيت الذين يشترون الطعام مجازفةً يُضْرَبُون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن يَبِيعُوه، حتى يُؤْدُّوهُ إلى رِحَالهم»، ونحوه في باب من رَأَى إذا اشترى طعامًا جِزَافًا اه- .
والحاصلُ أنه إذا اختلفت الألفاظ، آل الأمرُ إلى الاجتهاد.
صحيح البخاري
باب ُ كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ في السُّوق
2125 - قوله: (لَقِيتُ عبد الله بن عمرو بن العَاصِ)، وكان عنده صحيفة الأحاديث، سمَّاها صادقةً، وكان من علماء التوراة.
(5/51)
---(4/389)
قوله: (إنه لموصوف في التوراة). واعلم أن التوراةَ كانت كتابًا كبيرًا، إلا أنها الآن اسمٌ للصُّحُف الخمسة التي نزلت على موسى عليه السلام، ومنها «الاستثناء»، وهذا غلطٌ في الاسم. وقد يُقَال له: «التثنية»، و«المثنَّى» أيضًا، وهذان صحيحان في الجملة. وإنما سُمِّيَ بهما لتكرار الأحكام فيه، فصحَّ عليه إطلاق «المثنَّى». أمَّا إطلاق «الاستثناء»، فلا معنى له ههنا. ثم إن التوراةَ في مصطلح أهل الكتاب اشتهرت في كل صَحِيفَةٍ نزلت بعد موسى عليه السلام إلى ملاكي عليه الصلاة والسلام، وهو المراد ههنا. لأن ما ذكره من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّمأصله في الإصحاح الاثنين والأربعين تقريبًا، من صَحِيفة شَعْيَاء عليه الصلاة والسلام، وليست في الأَسْفَار الخمسة، كذا عن وَهْبِ بن مُنَبِّه.
وهكذا وقع في إطلاق الإِنجيل، فإنه اسمٌ عند أهل الإِسلام لما أُعْطِي عيسى عليه السلام. وأمَّا عند النَّصَارى، فهم يُطْلِقُونَه على مجموعةٍ عندهم، فيها كلام الحَوَارِيِّين وغيرهم أيضًا. فإن الاثنين منهم ليسا من الحَوَارِيِّين، نعم، وآخران حَوَارِيَّان. أما بولوس فكان فلسفيًا، أراد إفساد الدين العِيسَوَي.
ثم ههنا إشكالٌ، وهو أن القرآن يُصَدِّقُ الكِتَابَيْنِ، مع أنهما لم يكونا في زمن نزوله إلا محرَّفَيْنِ. وقد أجاب عنه ابن حَزْم في «الملل والنحل»، والحافظ ابن تيمية، ومولانا رحمه الله في «الاستفسار»، ولي أيضًا جوابٌ، ذكرته في محلِّه.
صحيح البخاري
باب ُ الكَيلِ عَلَى البَائِعِ وَالمُعْطِي
(5/52)
---(4/390)
في «القُدُوري»: أن من اشترى مَكِيلا مُكَايَلَةً، أو مَوْزُونًا موازنةً، فاكْتَالَهُ، أو اتَّزَنَهُ، ثم باعه مُكَايَلَةً، أو مُوَازنةً لم يَجُزْ للمشتري منه أن يَبِيعَه، ولا أن يأكلَه حتى يُعِيدَ الكيلَ والوزنَ. اه- . وظاهره وجوبُ الكَيْلِ ثانيًا، ولو كَالَهُ البائعُ بحضور المشتري أيضًا. إلا أن في «الهداية»: إن الكَيْلَ إن كان بعد الإِيجاب والقَبُول بحضرة المشتري، أَغْنَى عن كَيْلِهِ لنفسه ثانيًا، وإن كان بغَيْبَةٍ لا بُدَّ له من إعادة الكَيْلِ. وعلَّله باحتمال أن يَزِيدَ على المشروط، وذلك للبائع، والتصرُّفُ في مال الغير حرامٌ، فيجب له الكَيْلُ، لِيَحْتَرِزَ عنه، بخلاف ما إذا كَالَهُ بحضرته، لأن به يَصِيرُ البيعُ معلومًا.
قلتُ: وهذا غير متجهٍ عندي، لأنَّا لو اعتبرنا مثل هذه الاحتمالات، لَزِمَ أن لا يَجُوزَ التصرُّفُ فيما إذا كان بحضرته أيضًا. فإن الاحتمالَ لا ينقطع إلا إذا كَالَهُ هو بنفسه، بل لا ينقطع إذ ذاك أيضًا، فلا مُعْتَبَرَ به. فالذي يتبيّن أن المشتري إن اعتمد على كَيْلِ البائع، جاز له أكله بدون إعادة الكَيْلِ، سواء كان بحضرته، أو بِغَيْبَتِهِ.
أما قوله صلى الله عليه وسلّم «نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصَّاعَان: صاعُ البائع، وصاعُ المشتري»، رواه ابن ماجه، فقد حمله صاحب «الهداية» على تعدُّد الصَّفْقَتَيْنِ، وإن كان المُتَبَادَرُ منه أن يكونَ الصاعان فيه في صفقةٍ واحدةٍ. وتقريرُه: أن رجلا إذا اشترى طعامًا مُكَايَلَةً، واكْتَالَهُ بحضرة رجلٍ يُشَاهِدُه، فأراد الرجلُ أن يشتري منه ذلك الطعام، عليه أن يُعِيدَ الكَيْلَ على الحديث، لأنه صفقةٌ مستقلةٌ، فلا مُعْتَبَرَ بكَيْلِهِ - أي كيل بائعه، وهو المشتري الأول - بل عليه أن يَكِيلَه ثانيًا.
(5/53)
---(4/391)
قلتُ: ولي فيه أيضًا نظرٌ، وهو: أنه إذا كان هناك ثالثٌ يُشَاهِدُ الكَيْلَ، فاشتراه، كفاه عن إعادة الكَيْلِ عندي، لأن المطلوبَ كون المبيع معلومًا، وقد حَصَل. نعم إن كَالَهُ يُسْتَحَبُّ له ذلك، فلا حاجةَ إلى تعدُّد الكيل في الصفقتين أيضًا.
ثم اعلم أن صاحبَ «الهداية» حمل حديث جَرَيَان الصَّاعَيْنِ على اجتماع الصفقتين، كما صوَّرْنا، وهو معنى قوله: إذا بِعْتَ فكِلْ، وإذا ابْتَعْتَ فاكْتَلْ. فالكيلان في صفقتين، كما في حديث ابن ماجه المارِّ آنفًا. وأمَّا إذا كانت الصَّفْقَةُ واحدةً، فلا حاجةَ إلى الكَيْلِ ثانيًا، بل كَفَاهُ كيل البائع إن كان بحضرته عند صاحب «الهداية»، وعندي مطلقًا إذا اعْتَمَدَ عليه. ومنهم من حمله على الصفقةِ الواحدةِ، فقال: إن المشتري إذا تصرَّف في الطعام الذي كَالَهُ البائعُ بحضرته، لم يَجُزْ لأجل هذا الحديث، وعليه أن يَكِيلَه ثانيًا، وهذا خطأٌ.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُسْتَحَبُّ مِنَ الكَيل
2128 - قوله: (كِيلُوا طَعَامَكُم)... إلخ. وهذا فيما يَأْخُذُ للأكل، أمَّا كيلُ جميع ما في الإِناء، فَمُمْحِقٌ للبركة.
صحيح البخاري
باب ُ بَرَكَةِ صَاعِ النبي صلى الله عليه وسلّموَمُدِّه
وقد مرَّ الكلامُ فيه، وأنه ثَبَتَ الصاعان في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمثبوتًا لا مردَّ له، وأن صاعَنا شَاعَتْ في زمن عمر، وأنه من ثمرات بركة دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو بالحَفْنَات: ستُ حَفْنَاتٍ، كما أن صاعَ الشافعية بقدر أربع حَفْناتٍ متوسطةٍ.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُذْكَرُ في بَيعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَة
قوله: (والحُكْرَة) وهي في الفِقْهِ اسمٌ لِحَبْسِ الأشياء التي تحتاج إليها العامةُ، وراجع التفصيل من الفِقْهِ.
(5/54)
---(4/392)
2131 - قوله: (قال: رَأَيْتُ الَّذِين يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قد عَلِمْتَ فيما سَبَقَ أنه قرينةٌ على أن اشتراطَ النقل كان تعزيرًا لهم، وإليه أشار البخاريُّ في الباب الآتي، حيث قال: باب من رأى إذا اشْتَرَى طعامًا جِزَافًا أن لا يَبِيعه حتى يِؤْدِيَهُ إلى رَحْلِهِ، والأَدبِ في ذلك. انتهى. والأدبُ هو التعزيرُ.
واعلم أن الطعامَ عند الشافعيِّ متميِّزٌ في الأحكام من سائر المكيلات، والمَوْزُوْنَات. وأما عند السادة الحنفية، فكلُّها من بابٍ واحدٍ.
2132 - قوله: (قلتُ لابن عبَّاسٍ: كَيْفَ ذَاكَ)، أي ما وجهُ النهي عنه.
2132 - قوله: (ذَاكَ دَرَاهِمُ بدَرَاهِمَ، والطَّعَامُ مُرْجَأٌ)، أي إذا اشترى من إنسانٍ طعامًا بدِرْهَمٍ إلى أجلٍ، ثم باعه، فهل له أن يَقْبِضَ بدِرْهَمَيْن؟ فذلك في التقدير بيع دِرْهَمٍ بدرهمين، والطعام مُرْجَأٌ، أي غائبٌ، فلا بُدَّ في البيع من استيفاء الطعام.
2134 - قوله: (مَنْ عِنْدَه صَرْفٌ)، أي ذهبٌ وفِضَّةٌ، ويريد الصَّرْفَ فيه.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَبَيعِ ما لَيسَ عِنْدَك
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ رَأى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لا يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ،وَالأَدَبِ في ذلِك
وهذا القدرُ مُجْمَعٌ عليه، وإن اختلفوا في صور القبض.
(5/55)
---(4/393)
2135 - قوله: (لا أَحْسِبُ كُلَّ شيءٍ إلا مِثْلَهُ) وظاهرُ عبارته تُوَافِقُ محمدًا في عدم جواز التصرُّف في المبيع قبل القبض مطلقًا. وأمَّا عند الشيخين، فيَصِحُّ في العَقَار دون المنقولات، لأن العَقَار لا يَسْرِي إليه الهلاك. قال المحشي: اختلفوا في بيع المبيع قبل القبض، فقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ سواء كان طعامًا أو عَقَارًا، وقال أبو حنيفة: يجوز في العَقَار، وقال مالك: لا يجوز في الطعام، ويجوز فيما سواه، كذا قاله الطِيبيُّ.
واعلم أن الاختلافَ المذكورَ إنما هو في البيع خاصةً، لا في سائر التصرُّفات، لأنهم جوَّزُوا الهِبَة والتصدُّقَ قبل القبض، كما في «النهاية» و«البحر» عن محمد. ولذا تَرَى أربابَ المتون لم يَضَعُوا المسألةَ إلا في البيع. ففي «الهداية»: من اشترى شيئًا مما يُنْقَلُ ويُحَوَّلُ، لم يَجُزْ له بيعه، حتى يَقْبِضَهُ. ويجوزُ بيع العَقَار قبل القبض عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وقال محمد: لا يَجُوزُ.
صحيح البخاري
باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ البَائِعِ، أَوْ ماتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَض
وفي نسخةٍ أخرى: «فضاع»، بدل: «فباع»، وهو الظاهرُ، لأن ترجمةَ البيع قبل القبض مرَّت آنفًا، وإنما أراد في تلك الترجمة التنبيه على حكم ضياع المبيع قبل القبض. وحاصلُ الترجمة على ما فَهِمَهُ الشارحون: أن المبيعَ إن هَلَكَ قبل القبض، هل يَهْلِكُ من مال البائع، أو المشتري؟ فالجمهور إلى أنه لو هَلَكَ قبل قبض المشتري، هَلَكَ من مال البائع، وبعده من مال المشتري.
(5/56)
---(4/394)
قوله: (أَوْ مَاتَ)، أي فإن مات المشتري قبل القبض، فعلى وَرَثَتِهِ أن يَقْبِضُوه. وإن مات البائعُ، فعلى أوليائه التسليمُ. قلتُ: وعندي: أن المصنِّفَ لم يتعرَّض إلى تلك المسألة، بل تعرَّض إلى مسألة أخرى، وهي: أن المشتري إذا اشترى المبيعَ، ثم وضعه عند البائع، فهل يَجُوزُ له أن يَبِيعَه وهو عند البائع؟ والذي يَظهَرُ من تراجمه أنه يَصِحُّ، لأن النقلَ ليس بشرطٍ عنده، كما مرَّ، فَصَحَّ لفظ: «فباع» على ما في أكثر النُّسَخ. أمَّا ما ذَهَبَ إليه أكثر الشارحين، فلا يَصِحُّ إلا على النسخة: «فضاع»، مع أنها ليست في أحدٍ من النسخ الموجودة.
ثم قوله «أو مات»، المراد منه موت أحد العَاقِدَيْن، دون المبيع، لأنه لا يُقَال فيه: مات، بل هَلَكَ، فتبيَّن أنه لا تعلُّق لترجمته بما ذَهَبَ إليه الشَّارِحُون. نعم لو كانت النُّسخة: «فضاع»، لكانت المسألةُ فيها ما ذَكَرُوها، ولكنها ليست في أحدٍ من النُّسَخِ المطبوعةِ. ثم اختلف الحنفية: أن الإِيجابَ، والقَبُول، هل يفيدان المِلْكَ، أو حقَّ المِلْكِ؟ وراجع له «حواشي الهداية»، فإن فيه بَسْطًا، وفي ذكرها كفايةٌ.
قوله: (وقال ابنُ عُمَرَ: ما أُدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مجمُوعًا، فهو من المُبْتَاع)، أي ما كان عند العقد غير ميِّتٍ، فلم يتغيَّر عن حالته، وكان في الخارج كما وَرَدَ عليه العقد، ووُصِفَ فيه، فهو للمشتري. والمرادُ من الصَّفْقَةِ الإِيجابُ والقَبُول، والمراد من إدراكها شيئًا خرج كما وصف في العقد، وورد العقد عليه. قال الطَّحَاوِيُّ: ذهب ابن عمر إلى أن الصَّفْقَةَ إذا أَدْرَكَتْ شيئًا حيًّا، فَهَلَكَ بعد ذلك عند البائع، فهو من ضمان المشتري، فدَلَّ على أن ابن عمر كان يرى البيعَ تامًّا بالأقوال قبل التَّفْرِقَةِ بالأبدان.
صحيح البخاري
(5/57)
---
باب لا يَبِيعُ عَلَى بَيعِ أَخِيهِ، وَلا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُك(4/395)
ففي الجملة الأولى إرشادٌ للبائع، وفي الثانية للمشتري، نحو: إن كان رجلان يُسَاوِمَان، فَدَخَلَ بينهما ثالثٌ، فقال: لا تشترِ منه، بل أنا أَبِيعُ منك، فهذا إضرارٌ لبائع. وإن قال الثالثُ للبائع: لا تَبِعْهُ منه، بل بِعْهُ مني، فهذا إضرارٌ للمشتري، فنهاهما أن يُضَارَّ أحدُهما الآخرَ.
2140 - قوله: (نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمأن يَبِيعَ حاضرٌ لِبَادٍ)... إلخ، وعند أبي داود عن أنس، قال: «كان يُقَال: لا يَبِيعَ حاضرٌ لبادٍ»، وهي كلمةٌ جامعةٌ: لا يَبِيعُ شيئًا، ولا يَبْتَاعُ شيئًا. وعنده في «تفسيره» عن ابن عباس، قال: لا يكون سِمْسَارًا، وهو عند النَّسائي أيضًا. وعند أبي داود، والترمذي: «دَعُوا الناسَ يَرْزُقُ اللهاُ بعضَهم من بعض». اه- .
وصورة هذا البيع: أن يقولَ الحاضرُ للبادي أن يَضَعَ طعامَه عنده، حتى إذا غَلا السعرُ، يَبِيعُه له لِيَرْبَحَ فيه، فنهى عن ذلك. فإن في بيع البادي، وإن كان ضررًا له، لكنَّ اللهاُ سبحانه كذلك يَرْزُقُ بعضَه من بعضٍ، فَيَخْسَرُ واحدٌ، ويَرْبَحُ آخرُ. فهو تكوينٌ منه، فلا يَدْخُلُ فيه، إلا أن يَرَى الحاضرُ أن في بيعه ضررًا فاحشًا له، فحينئذٍ ينبغي أن يَجُوزَ له أن يَبِيعَ لأخيه البدويِّ إعانةً له. أمَّا الشرعُ، فلا يَرِدُ إلا بالنهي، فإنه وإن كان ضررًا بالبائع البادي، لكنه يَعُودُ ربحًا للحاضر. فكما أن إعانته البدوي معقولٌ، كذلك إعانته الحاضر أيضًا، والله سبحانه يَأْخُذُ من بعضٍ، ويُعْطِي بعضًا رزقه، فلا يَجُوز له حسب موضوعه أن يتخلَّل فيه. وأما الفقهاءُ، فلهم موضوعٌ آخر، ومسائلهم حسب موضوعهم.
صحيح البخاري
باب بَيعِ المُزَايَدَة
(5/58)
---
أي (نيلام)، وهو في الشرع: الزيادةُ في الثمن، وذا جائزٌ. أمَّا ماأدخله الناسُ فيه من التفاصيل من جائزٍ وحرام، فهي عليهم.(4/396)
2141 - قوله: (من يَشْتَرِيه مِنِّي)... إلخ، تمسَّك به الشافعيُّ، ومن ذهب مذهبَهُ على جواز بيع المُدَبَّر. وأجاب عنه الحنفيهُ: أنه كان مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا. ويَرّدُّه ما عند مسلم، والنَّسائي، عن جابر قال: «أَعْتَقَ رجلٌ من بني عُذْرَة عبدًا له عن دُبُرٍ» اه- . وظاهرهُ أنه كان مُدَبَّرًا مطلقًا. فالجواب: أن بَيْعَهُ لم يكن على أن بيعَ المُدَبَّر جائزٌ في الشرع، بل لأن الرجل لم يكن له مالٌ غيره، فلما دبَّره عزَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبذلك، كما في النَّسائي: «فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمفقال: أَلَكَ مالٌ غَيْرُهُ؟ قال: لا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم من يَشْتَرِيه». اه- .
قال السِّنْدِي في «حاشيتهِ» فيه: إن السفيهَ يُحْجَرُ، ويُرَدُّ عليه تصرُّفه. ولعلَّ البخاريَّ أيضًا ذهب إليه، فترجم: باب من رَدَّ أمر السفيه والضعيف العقل... إلخ، ثم أخرج تحته حديث الباب. فعُلِمَ أنه جعله من باب الحَجْر، وإلغاء تصرُّف التدبير. لكن تراجمَه تَتَهَافَتُ على هذا التقدير، فلا يُدْرَى أنه حكم بالمجموع، أو أن هذا جائزٌ، وذلك أيضًا جائزٌ. لأن ولايةَ الشارع فوق ولاية سائر الولاة، فتصرُّفاتُه أيضًا تكون فوق تصرُّفاتهم، فيجوز له ما لا يجوز لغيره، فأمثالَ تلك التصرُّفات تختصُّ به صلى الله عليه وسلّم
(5/59)
---
ونظيرُه ما أخرجه أبو داود في باب من قتل عبده... إلخ، قال: «جاء رجلٌ مُسْتَصْرِخٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم فقال: جاريةٌ له يا رسول الله، فقال: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ فقال: شرٌ، أَبْصَرَ لسيده جاريةً له، فغار، فَجَبَّ مذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّ بالرَّجُلِ، فَطُلِبَ، فلم يُقْدَرْ عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنت حرٌّ، فقال: يا رسول الله على من نُصْرَتي؟ فقال: على كُلِّ مُسْلمٍ، أو قال: على كلِّ مُؤْمِنٍ». اه- .(4/397)
فإِعتاقُ عبد الغير ليس بأدون من إبطال تدبيره، فإذا جَازَ له أن يَعْتِقَ عبدًا لغيره، جَازَ له أن يَبِيعَ مُدَبَّرًا لغيره أيضًا، ولا يكون ذلك لأحدٍ بعده، لقوة ولايته وعموم تصرُّفاته على الإِطلاق. أَلا ترى أن أحدًا لو فَعَلَهُ اليومَ بعبده، لم يَجُزْ لأحدٍ أن يَعْتِقَ عبده؟ ولكن المسألةَ فيه: أن الجروحَ قِصَاصٌ، فإِذن هو من باب التَّعْزِيرِ، وحَجْر التصرُّف. وأجاب العيني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَبِعْهُ، ولكنه استأجره، البيعُ بمعنى الإِجارة في لغة المدينة. ويَشْهَدُ له ما عند الدَّارَقُطْنيِّ، عن الإِمام محمد الباقر مرسلا في قصة أخرى: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّماستأجر فيها»، ولي من عند نفسي جوابٌ آخر، ذكرته في موضعه.
صحيح البخاري
باب ُ النَّجْشِ، وَمَنْ قَالَ: لا يَجُوزُ ذلِكَ البَيع
(5/60)
---(4/398)
والنَّجْشُ في اللغة: إغراءُ الكلب. وهذا البيعُ لا يَجُوزُ عند المصنِّف أصلا، لورود النهي عنه. قلتُ: النهيُ لا يَسْتَلْزِمُ البُطْلان دائمًا. فإنا نرى من عهد الصحابة إلى زمن الأئمة: أن النهيَ إذا وَرَدَ في محلًّ، يَحْمِلُه بعضُهم على الكراهة، وبعضُهم على البُطْلان، فلا كُلِّية فيه، ففي محلًّ كذا، وفي محلًّ كذا. والإِمامُ البخاريُّ يَحْمِلُهُ على البُطْلان في أكثر المواضع، وقلَّ موضعٌ يكون النهيُ وَرَدَ فيه، ثم حمله المصنِّفُ على الجواز، بل يَعْتَرِضُ على الحنفية بحملهم النهي على الصحة. ثم إن الشيخَ ابن الهُمَام قال في «فتح القدير»: إن النهيَ في العبادات لا يُوجِبُ البُطْلان، ونَاقِضُهُ في «التحرير»، فقال: إنه يُوجِبُهُ. وكان لا بُدَّ للشارح أن يُنَبِّه عليه: أن ما في «التحرير» يُخَالِفُ ما اختاره في في «فتح القدير». وكيفما كان تعبيرُه في «فتح القدير» أَوْلَى مما قاله صاحب «الهداية»: أن النهيَ عن الأفعال الشرعيَّة يُقَرِّر المشروعية، فإنه بعيدٌ جدًا، والأقربُ ما قاله الشيخُ ابن الهُمَام.
قوله: (وهو خِدَاعٌ بَاطِلٌ)... إلخ، وأراد المصنِّفُ من نقل تلك الجزئيات: أن هذا البيع لا يَجُوز. قلنا: سلَّمنا عدم الحلِّ أيضًا، ولكن الكلامَ في نفاذه لو اقْتَحَمَهُ أحدٌ.
قوله: (الخَدِيعَة في النَّار)... إلخ. وعُلِمَ أنه قد تحقَّق عندي تجسُّد المعاني، وقوَّاه الشيخُ الأكبر في «الفتوحات»، والدَّوَّاني في «رسالته الزوراء» بقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَفِرِينَ} (التوبة: 49)، أي إنها محيطةٌ في الحالة الراهنة، ولكنها مستورةٌ، يَنْكِشُفُ عنها الغطاء في الحشر. فتلك المعاني الكُفْرِيَّة تَنْقَلِبُ نارًا، وتتجسَّد جهنم، بل هي هي في الحالة الراهنة، إلا أن الأبصارَ ضَعُفَتْ عن إدراكها.
(5/61)
---(4/399)
قوله: (من عَمِلَ عملا ليس عَلَيْهِ أمرُنا، فهو رَدٌّ). اسْتَشْهَدَ به البخاريُّ على البُطْلان، وحَمَلَهُ الناسُ لعى المعصية. فمعنى قوله: «فهو رَدٌّ» عند البخاري: أي باطلٌ، وعند آخرين: فهو غيرُ مقبولٍ، ومعصيةٌ. وجملةُ المقال: إن التقسيمَ عنده: ثُنَائي، فالشيءُ عنده، إمَّا صحيحٌ، أو باطلٌ. وعندنا ثُلاثي، والثالث ما هو صحيحٌ من وجهٍ، وباطلٌ من وجهٍ. وهذا نظيرُ الاختلاف في المُمْكِن أنه شيءٌ أو لا؟ فقيل: إنه ليس بشيءٍ، لأن الشيءَ إمَّا واجبٌ، أو مُمْتَنِعٌ. وقيل: بل التقسيمُ ثلاثي، فالممكن أيضًا شيءٌ.
صحيح البخاري
والبِدْعَةُ عندي: كلُّ شيءٍ حَدَثَ بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخير لشبهةٍ لا لعنادٍ، وكانت مُلْتَبِسَةً بالشريعة. فإذا أَحْدَثَها الخلفاء، أو خيرُ القرون، فليست ببدعةٍ. وكذا إذا حَدَثَتْ لعنادٍ أو لم تَلْتَبِسْ بالشريعة، فليست ببدعةٍ أيضًا، وإن كانت مردودةً عند الشرع.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الغَرَرِ وَحَبَلِ الحَبَلَة
الغرر مُتَعَدِّي، والغرور لازمي.
قوله: (حَبَل الحَبَلَة). قيل: إنه كان مَبِيعًا في الجاهلية، وقيل: بل كان أجلا.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ المُلامَسَة
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ المُنَابَذَة
قيل: إن المُلامَسَة نفسها كانت بيعًا، وقيل: إنها كانت قاطعةً للخِيَار.
صحيح البخاري
باب ُ النَّهْيِ لِلبَائِعِ أَنْ لا يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالبَقَرَ وَالغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَة
صحيح البخاري
باب إِنْ شَاءَ رَدَّ المُصَرَّاةَ وَفي حَلبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْر
(5/62)
---
قيل: أصل المُصَرَّاة مَصْرُورَة، كما أن أصل {دَسَّهَا} (الشمس: 10) دسَّسها، فصارت - دسَّاها. والمصنِّفُ أيضًا توجَّه إلى بيان الاشتقاق. كما هو دَأْبُهُ.(4/400)
واعلم أن التَّصْرِيَةَ عيبٌ عند الشافعيِّ، وأحمد، فجاز للمشتري أن يَرُدَّ به على البائع، إلا أنه يَرُدُّ معه صاعًا من تمرٍ، لحديث أبي هريرة. وقال أبو يوسف: يَرُدُّه، ويَرُدُّ معه قيمةَ اللبن، كائنةً ما كانت.h
وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا يَرُدُّه، لأن الحَلْب عَيْبٌ في الحيوان، والمبيعُ إذا كان مَعِيبًا، ثم حدث فيه عَيْبٌ آخر عند المشتري، امتنع رَدُّه، فليس له إلا الرُّجُوعَ بالنقصان. والحديثُ وَارِدٌ علينا، وأجاب عنه بعضُ الحنفية: إن الحديثَ إذا رَوَاه راوٍ غير فقيهٍ، وعَارَضَهِ القياسُ، يُتْرَكُ العملُ به، ويُعْمَلُ بالقياس. فلمَّا كان حديثُ أبي هُرَيْرَة مُخَالِفًا للقياس، ورواه من هو غير فقيهٍ، عَدَلْنا إلى القياس، وعَمِلْنا به.
قلتُ: وهذا الجواب باطلٌ لا يُلْتَفَتُ إليه، ولم يَزَلْ مَطْعَنًا للخصوم منذ زمنٍ قديم. ولمثل هذا اشْتَهَرَ أن الحنفيةَ يُقَدِّمُون الرأيَ على الحديث. وحَاشَاهُم أن يَقُولُوا بمثله، فإن هذه المسألة لم يَصِحَّ نقلها عن أبي حنيفة، ولا عن أحدٍ من أصحابه. نعم نُسِبَتْ إلى عيسى ابن أَبَان - المعاصر للشافعي - وهي أيضًا محلُّ تردُّدٍ عندي. كيف وقد قال المُزَني: إن أبا حنيفة أَتْبَعُ للأثر من محمد، وأبي يوسف. فلعلَّ تكون بين يديه جزئياتٌ، ومسائلُ تَدُلُّ على هذا المعنى.
وبالجملة هذا الجواب أَوْلَى أن لا يُذْكَرَ في الكُتُبِ، وإن ذكره بعضُهم، ومن يَجْتَرِيءُ على أبي هُرَيْرَة فيقول: إنه كان غيرُ فقيهٍ؟ ولو سلَّمنا، فقد يَرْويه أفقههم، أعني ابن مسعود أيضًا، فيعود المَحْذُورُ. وأجاب عنه الطحاويُّ بالمعارضة بحديث: «الخَرَاج بالضَّمَان».
(5/63)
---(4/401)
والجواب عندي: أن الحديثَ محمولٌ على الدِّيَانة دون القضاء، لِمَا في «فتح القدير»، في باب الإِقالة: أن الغَرَرَ، إمَّا قوليٌّ، أو فعليٌّ، فإن كان الغَرَرُ قوليًّا، فالإِقالةُ واجبةٌ بحكم القاضي. وإن كان الثاني تَجِبُ عليه الإِقالةُ دِيَانةً، ولا يَدْخُلُ في القضاء. كيف وأن الخِدَعَاتِ أشياءٌ مستورةٌ، ليس إلى علمها سبيلٌ، فلا يُمْكِنُ أن تَدْخُلَ تحت القضاء. فالتَّصْرِيةُ أيضًا خَدِيعةٌ، ويَجِبُ فيها على البائع أن يُقِيلَ المشتري ديانةً، وإن لم يَجِبْ قضاءً.
صحيح البخاري
وحينئذٍ فالحديثُ مُتَأَت على مسائلنا أيضًا، ولم أَرَ أحدًا منهم كَتَبَ أنه مُوَافِقٌ لنا. وادَّعَيْتُ من عند نفسي: أن الحديث لا يُخَالِفَ مسائلنا أصلا، لأن التَّصْرِيَة غَرَرٌ فِعْليٌّ، وفيه الرَّدُّ ديانةً على نصِّ «فتح القدير». وهكذا أقول فيما إذا اشترى سلعةً، فلم يُؤَدِّ ثمنها حتى أَفْلَسَ: إنه يكون فيه أسوة للغُرَمَاءِ عندنا قضاءً، ويَجِبُ عليه أن يَرُدَّ المبيعَ إلى البائع خِفْيَةً ديانةً، فإنه أحقُّ به، لكنه حكم الدِّيَانة دون القضاء. وأوَّله الطحاويُّ في هذا الحديث أيضًا، وحَمَلَهُ على العَوَارِي.
ونظيرُه ما في الفِقْهِ: أن فرسًا لأحدٍ لو هَرَبَ إلى دار الحرب، ثم حيِزَ في الغنيمة، فإن أخذه مالكه قبل التقسيم يأخذه مجَّانًا، وإلا فيأخذه بالقيمة. فَدَلَّ على بقاء حقِّه بعد التقسيم أيضًا في الجملة، وإن لم يَبْقَ مِلْكُه، فانكشف أن حقَّ المِلْكِ قد يبقى بعد زوال المِلْكِ أيضًا. وهكذا فيما إذا أَفْلَسَ المشتري، ينقطع مِلْكُ البائع عن المبيع، ويبقى حقُّ المِلْكِ، ولذا يَجِبُ عليه دِيَانةً أن يَرُدَّه عليه خِفْيَةً. أمَّا في القضاء، فهو أسوةٌ للغُرَمَاء، لانقطاع المِلْكِ.
(5/64)
---(4/402)
ثم اعلم أن الزيادةَ في المبيع إمَّا متَّصِلَةٌ، كصَبْغِ الثوب، أو مُنْفَصِلَةٌ. والمُنْفَصِلَةُ إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ، أو غير مُتَوَلِّدَةٍ، وكلٌّ منها قبل القَبْضِ أو بعده. ومِصْدَاقُ الحديث: «الخراج بالضمان» الزيادةُ الغيرُ المُتَوَلِّدة. وهي فيما نحن فيه: مُتَوَلِّدَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، ولا رَدَّ فيها عندنا في عامة كُتُبِنَا. وفي «الوجيز»، و«التهذيب»، و«الحاوي»: إنه يَرُدُّه عند التراضي. قلتُ: فما في عامة الكُتُبِ حكم القضاء، وفي تلك حكم الدِّيَانَةِ، وقد نَظَمْتُهُ في بيتين:
*بِزِيَادَةِ المُنْفَصِل المُتَوَلِّد
** أو عَكْسِهِ، مُتَعَيِّبٌ لم يَرْدُد،
*ثم في «التهذيب»، و«الوجيز» و«الح
** اوي» الجواز بالتراضي يُحْمَل
وراجع التفصيلَ من «البحر». ومن ههنا أقول: إني لا أرضى بجواب الطحاويِّ، لأنه عارضٌ بحديثٍ عامَ، يمكن أن يُخَرَّج له وجوهٌ، ومحاملٌ. وحديثُ المُصَرَّاة حديثٌ خاصٌّ، فلا يُعَارِضُهُ. وإنما الطريق أن يُؤْتَى بمعارضٍ من هذا الباب الخاصِّ.
ثم اعلم أن النهيَ عن التَّصَرِّي، والنهيَ عن تلقِّي الجَلَب وقع في حديثٍ واحدٍ، مع أن الفقهاءَ ذَهَبُوا إلى صحة البيع في صورة التلقِّي إذا لم يَضُرَّ أهل البلد. وههنا حرَّر ابن دقيق العيد: أن تخصيصَ العامِّ جائزٌ بالرأي ابتداءً إذا كان الوجهُ جَلِيًّا. وقال مولانا شيخُ الهند: إنه محمولٌ على الاستحباب.
صحيح البخاري
ونقل في «شرح الإِحياء» حكايةً عن الشافعية: أنه جرى ذكر حديث المُصَرَّاة بين حنفيًّ، وشافعيًّ، فقال الحنفيُّ: إن أبا هُرَيْرَة لم يكن فقيهًا، فلم يَفْرُغ من مقالته، حتى وَثَبَتْ عليه حيةٌ، ففرَّ منها، فقال له رجلٌ منهم: تُبْ إلى الله، فتاب، فَتَرَكَتْهُ. قلتُ: ولا أصلَ لها عندي، وإنما تَفُوحُ منها رائحةُ التعصُّب.
(5/65)
---(4/403)
2148 - قوله: (بالخِيَار ثلاثًا)، ويُسْتَفَادُ منه: أن خِيَارَ الشرط في ذهن الشارع هو بثلاثة أيام فقط، كما قُلْنَا.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ العَبْدِ الزَّانِي
وقال شُرَيْح: إن شاء ردَّ من الزنا. قال الحنفيةُ: إن الزنا عيبٌ في الجارية دون العبد، للمعنى المقصود بهما، فَيَخُلُّ فيها دون الغلام، وإن كان شرًا في الآخر.
2152 - قوله: (فَلْيَجْلِدْهَا)، أي يَبْلُغُ بها إلى الحاكم لِيَجْلِدَهَا، فإن الحدودَ إلى الحُكَّامِ.
2152 - قوله: (فَلْيَبِعْهَا)، لا يُقَال: إنه خِلافُ قوله صلى الله عليه وسلّم «يُحِبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه» لأنا نقول: إنه من باب: دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ الله بعضَهم من بعضٍ، والمضرَّةُ غير لازمةٍ، لجواز تركها الفاحشة عند البائع الآخر، وجواز بيعه على تقدير عدم تركها.
2153 - 2154 - قوله: (ولم تُحْصِنْ)، أي لم تَتَزَوَّج، وراجع لحقيقة الإِحصان «المبسوط»، فإنه لم يُؤَدِّ أحدٌ حقَّه غيره. وليس له ترجمة في لسان الهند، غير أنه من ألفاظ التوقير، كما يُقَال في الهندية: (بيوى ميان).
فإن قلتَ: إنه لا فرق في الإِماء بين المتزوِّجة وغيرها، فما وجهُ التقييد به؟ قلتُ: إنما ذكره تَبَعًا للقرآن، فأصلُ البحث في القرآن. وترجمة الشاه عبد القادر (قيد مدين آثين). وهذا وإن كان أقرب من حقيقته اللُّغوية لكونه من الحِصْن، لكنه لا يُوَافى بما هو المراد منه عند الفقهاء. وقد ذكروا له تَفْسِيرَيْن: أحدهما في باب حدِّ القذف، والآخر في باب حدِّ الزنا. وإحصانُ الزاني فوق إحصان حدِّ القذف، وليراجع التفصيل من الفِقْهِ، ولكن المراد منه ههنا هو التزوُّج.
صحيح البخاري
باب ُ البَيعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاء
رُوِيَ عن مالك: أن المرأةَ لا تَمْلِكُ أن تتصرَّفَ في نفسها أيضًا إلا بإِذن زوجها، فيمكن أن يكون إشارةً إليه.
(5/66)
---(4/404)
2155 - قوله: (اشترِي وأَعْتقِي)، وفي بعض الألفاظ: «واشْترِطِي»، ففيه إشكالٌ. والجوابُ: أن معناه دعيهم لَيَشْتَرِطُوا، كما هو في البخاري. وهذا أيضًا من معنى الأمر، وإن لم يَذْكُرْه أربابُ اللغة. وكان مهمًا، فإن الأمرَ قد يكون لإِبقاء الفِعْلِ أيضًا لا لإِنشائه، كما في قصة قراءة أسَيْد بن حُضَيْر - سورة الكهف : اقرأ يا ابن حُضَيْر، أي استمرَّ على قراءتها. وترجمته (رهتاره)، وأشار إليه ابن القيِّم في «بدائع الفوائد».
2156 - قوله: (حُرًّا كان زَوْجُها أَوْ عَبْدًا)، والرواياتُ فيه مُضْطَرِبةٌ، فإن ثَبَتَ أنه كان حرًّا حين عُتِقَتْ بَرِيرَة، يكون حُجَّةً لنا في خِيَار العِتْقِ. وإن لم يَثْبُت، فلا يَضُرُّنا أيضًا، كما أنه لا تبقى حُجَّةٌ. وعلَّله صاحب «الهداية»: أن العِتْقَ مُسْتَلْزِمٌ لزيادة ثبوت المِلْكِ عليها، لأنها تَصِيرُ الآن مُغَلَّظةً بالثلاث، بخلافها قبله، فإن تَغْلِيظَها كان بالاثنين. واعْتَرَضَ عليه ابن حَزْم أنه كلامٌ خَالٍ عن التحصيل، لأنه إذا صارت بطلاقه مغلَّظةً، فلا فرقَ في أنها بالاثنين، أو الثلاث.
وعلَّله الطَّحَاويُّ بوجهٍ آخرَ، فقال: فنظرنا في ذلك فرأينا الأَمَةَ في حال رِقِّها، لمولاها أن يَعْقِدَ النكاحَ عليها للحرِّ، والعبد. ورأيناها بعد ما تُعْتَقُ ليس له أن يَسْتَأْنِفَ عليها عقدَ النكاح لحرًّ، ولا لعبدٍ. فاستوى حكمُ ما إلى المَوْلَى في العبيد والأحرار، وما ليس إليه في العبيد، والأحرار في ذلك. فلمَّا كان ذلك كذلك، ورأيناها إذا أُعْتِقَتْ بعد عقده مولاها نكاح العبد عليها، يكون لها الخيار في حل النكاح عليها. كان كذلك في الحر، إذا اعتقت يكونُ لها حلُّ نكاحه عنها قِيَاسًا، ونظرًا على ما بيَّنا من ذلك. اه- .
(5/67)
---(4/405)
وحاصلهُ: أن للمَوْلَى ولايتَه على أَمَتِهِ قبل عِتْقِهَا في نكاحها، حرًّا، أو عبدًا. فإذا أَعْتَقَهَا، لا تبقى له تلك الولاية، فلا يَمْلِكُ أن يَعْقِدَ عليها بُحرًّ أو عبدٍ إلا برضاها. فظهر أن لا فرقَ بين العبد والحرِّ في باب الإِنكاح في الحالين. فإِذا جاز له الإِنكاح، جاز من حرًّ وعبدٍ. وإذا لم يَجُزْ، لم يجز من حرًّ ولا عبدٍ. واتَّفَقُوا أن المَوْلَى إذا زوَّجها من عبدٍ حال رقها أن لها الخيار بعد عتقها. فالقياس يقتضي أن يكون الحال كذلك فيما إذا زوجها من حرًّ، لأنا لم نعلم فرقًا في جواز النكاح عليها من العبد والحرِّ، وعدمه بين رِقِّها وعِتْقِها. فإذا خُيِّرَتْ فيما إذا زوَّجها مولاها من عبدٍ، ينبغي أن تُخَيَّرَ فيما إذا زُوِّجَتْ من حرًّ، من غير فرقٍ.
صحيح البخاري
باب هَل يَبِيعُ حاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيرِ أَجْرٍ، وَهَل يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُه
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْر
واعلم أن الحديثَ كان مطلقًا، ثم إن المصنِّفَ خصَّصه، وجعل مورد النهي فيما إذا باع له بأجرٍ. فلنا أيضًا أن نُخَصِّصَ حديثَ المُصَرَّاة أيضًا، لكونه قرينةً.
صحيح البخاري
باب لا يَبِيعُ حاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَة
(5/68)
---(4/406)
والحديثُ لم يَرِدْ فيه، إلا بلفظ البيع، وترجم عليه المصنِّفُ بالشراء، والبيع معًا، وادَّعى أنه مُشْتَرَكٌ بينهما. فلعلّه اختار عمومَ المُشْتَرَكِ، كما نُسِبَ إلى الشافعيِّ. وقال الشيخ ابن الهُمَام: إن العمومَ لفظًا لا يُوجَدُ في اللغة. وقال ابن تَيْمِيَة: إنه لا يَجُوزُ، وما نُسِبَ إلى الشافعيِّ، فليس بصحيحٍ، لأنه لم يُرْوَ عنه، وإنما اسْتَنْبَطَهُ الناسُ من بعض مسائله، نحو: من أَوْصَى لمواليه، وله مَوَالٍ من أعلى، ومَوَالٍ من أسفل: أن الوصيةَ تكون لهما، فَزَعَم أنه ذهب إلى جواز الجمع بين معاني المُشْتَرَك. وليس كذلك، ولكن الوَلاء ربطٌ إضافيٌّ يتحقَّق بين الأعلى والأسفل، فأُريدَ به كلاهما على طريق الاشتراك المعنويِّ، فإن اللفظيَّ لا وجودَ له في اللغة. أمَّا ظاهرُ عبارة المصنَّف فَمُشْعِرَةٌ بالجواز، ويمكن أن يكونَ المصنِّف أيضًا أراد من البيع رَبْطًا مطلقًا بين البائع والمشتري.
وحينئذٍ، فحاصلُ الحديث عنده: النهي عن معاملة البيع، أي هذا الربط، سواء كان بيعًا أن أضفته إلى البائع، أو شراءً إن نَسَبْتَهُ إلى المشتري، فَيَصِيرُ إذن مُشْتَرَكًا معنويًا. قلتُ: إن الاشتراكَ لفظًا يُوجَدُ عند الشعراء، وإن أنكره الجمهور، وهم عدُّوه من المحسِّنات، كما يقول الجامي تَعْمِيةً لاسم «علي»:
*(جشم بكشازلف بشكن جان من
** بهر تسكين دل بريان من)
وحلُّه: أن الجملةَ الأولى معناها في العربية: افتح العين، وفتح العين: إمَّا بفتح العين، أي آلة النظر، أو بفتح لفظ العين. والجملة الثانية: اكسر الشَّعْرَ الذي فيه تَثَنًّ كالَّلام، وهو أيضًا بنحوين: إمَّا بإِصلاحه، أو بتكسير اللام. وكذا التسكين معناه: الاطمئنان، أو تسكين الياء التي وقعت وسط لفظ «بريان»: محل القلب من الإِنسان. ويَحْصُلُ منه اسم «علي»، فإنه بفتح العين، وكسر اللام، وتسكين الياء، وقد أراد الشاعرُ معنى اللفظ، ومنه حَصَلَتِ التعمية.
(5/69)
---(4/407)
صحيح البخاري
باب ُ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَان
صرَّح أن هذا البيع باطلٌ، وقد مرَّ مختاره. وهو عندنا مكروهٌ، لأنه خِدَاعٌ. وهذا أيضًا فيما إذا أضرَّ التلقِّي بأهل البلد، وإن لم يَضُرَّهم جاز بلا كراهة، وراجع كلام الطَّحَاوِيِّ.
2165 - قوله: (حتى يُهْبَطَ بها إلى السُّوق)يعني (جهان مندى هي).
صحيح البخاري
باب ُ مُنْتَهى التَّلَقِّي
يعني إلى أين يَنْسَحِبُ النهي عن التلقِّي، فإنه لا بُدَّ للشراء من الخروج، وقد نُهِينَا عن التلقِّي، فكيف بأمر الشراء والتجارات.
2167 - قوله: (كانوا يَبْتَاعُون الطعامَ في أعلى السُّوقِ، فَيَبِيعُونُه في مكانهم، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمأن يَبِيعُوه في مكانه حتى يَنْقُلُوه)، اه- ، فدَلَّ على أن التلقِّي إلى أعلى السوق، وخارج البلد هو المنهيُّ عنه لا غير. ثم إن هذا صريحٌ في أن أمرَه بالنقل كان تَعْزِيرًا لهم، لأنهم كانوا يتلقُّون الرُّكْبَان لا على بيعهم بالمُجَازَفَةِ. وإذن لا يكون النقلُ في الحديث، لأنه شرطٌ لا يجوز البيعُ بدونه، بل لأنهم إذا تلقُّوا الرُّكْبَان عزَّرهم، بأن لا يَشْتَرُوا منهم شيئًا حتى يُهْبَطَ به إلى السوق. فافهم، وتشَكَّر، فإنه سهلٌ ممتنعٌ، قد خَفِي على الناس مع ظهوره.
صحيح البخاري
باب إِذَا اشْتَرَطَ شُرُوطًا في البَيعِ لا تَحِل
(5/70)
---(4/408)
واعلم أن البيوعَ تَفْسُدُ بالشروط الفاسدة، بخلاف النكاح، فإنه تَفْسُد فيه الشروطُ الفاسدة أنفسها، ويَصِحُّ النكاح. وذلك لأن مبنى البيوع على المُمَاكَسَة، ومبنى النكاح على المُسَامَحة. وذكر الفقهاء أن الشروطَ الفاسدةَ هي التي يكون فيها نَفْعٌ لأحد المُتَعاقِدَيْن، أو المبيع نفسه، ولا يَقْتَضِيهِ العقدُ، ويكون المبيعُ من أهل الاستحقاق. وقال أحمد بالفرق بين الشرط، والشرطين، فلم يَرَ الواحدَ منها مُفْسِدًا، وأما إذا كانت اثنين فَصَاعِدًا، فإنها تُفْسِدُ عنده. وتُفْسِدُ عندنامظلقًا من غير فرقٍ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّمنهى عن بيعٍ وشرط. ونظر أحمد إلى قوله صلى الله عليه وسلّمفي حديث: «الشَّرْطَان في بيعٍ»، فجعل العدد مُحِطًّا للفائدة.
حكى ابن حَزْم في «المحلى»: أن أبا حنيفة، وابن أبي لَيْلَى، وابن شُبْرُمة اجتمعوا مرْةً في مسجد بالكوفة. فسأل سائلٌ أبا حنيفة عمَّن باع، وشرط شرطًا، فأجابه أن البيعَ والشرطَ فاسدان، وتمسَّك بأنه صلى الله عليه وسلّمنهى عن بيعٍ وشرطٍ. ثم سُئِلَ ابن أبي لَيْلَى، فقال: إن البيعَ، والشرطَ كلاهما صحيحٌ، تمسُّكًا من قصة ليلة البعير، حيث باع جابر إبله، وشرط الظَّهْرَ إلى المدينة. وأجاب آخر: إن البيعَ صحيحٌ، والشرط باطلٌ لقصة بريرة وعائشة في أعتاقها قلت: والصواب ما أجاب به إما منا إن شار الله تعالى، لأن ما تمسَّكا به قصتان جزئيتان، فلا تَصْلُحَان لنقض ضابطةٍ وردت في الباب خاصةً، وهو قوله: «نهى عن بيعٍ وشرطٍ»، مع كونها صريحةً منكشفةَ الحالِ. بخلاف ما تمسَّكا به، فإن قصة جابر لم يكن فيه بيعٌ بعد التحقيق، بل أراد منه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإعانته لا غير. وأمَّا قصة شراء عائشة، فأيضًا سَيَرِدُ عليك حالها، وقد عَلِمْتَ فيه بعضَ شيءٍ.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ التَّمْرِ بِالتَّمْر
(5/71)
---(4/409)
وقد مرّ أنه يُشْتَرَطُ فيه كون المبيعُ موجودًا، سواء كان في بيته، أو في مَجْلِس العقد، دون القبض بالبَرَاجم، فإن ذلك في الصَّرْف. وفَهِمَ الناسُ أن معنى الدَّيْن عدم كونه موجودًا في مَجْلِسِ العقد، وإن كان موجودًا في الخارج.
والحاصلُ: أن الشرطَ في الأموال الرِّبَوِيَّة التعيينُ من الجانبين، وهو المراد من قوله: «هاءَ، وهَاءَ»، لِمَا عند مسلم في حديث عُبَادة: «عينًا بعين»، بدل: «هاء، وهَاءَ». وإنما يُشْتَرَطُ التَّقَابُض في بيع الصَّرْف، لأن الأثمان لا تتعيَّن بالتعيُّن، فلا بُدَّ له من القبض، بخلاف العروض. وقد ورقع ههنا سَهْوٌ من بعض مُحَشِّي «الهداية»، فاختلط عليه باب السَّلَم من باب الربا، فإنهم قالوا في السَّلَم: إنه لا يَصِحُّ إلا في أربعة أشياء: مَكِيلٍ، ومَوْزُونٍ، ومَذْرُوعٍ، وعدديًّ مُتَقَارِبٍ. ثم قالوا: إن الرِّبا يَحْرُم في كلِّ مكيلٍ، أو موزونٍ. فالْتَبَسَ عليه الأمر، فجعل السَّلَم في الأموال الرِّبَوِيَّة فقط، وهو غلطٌ فاحشٌ، فإن الرِّبا لا يجري في المَذْرُوعَات والعدديات، بخلاف السَّلَم. ثم المفهوم من كلام المتأخِّرين جواز السَّلَم في غير الأربعة المذكورة أيضًا، فإن الاستصناعَ أيضًا بيعُ معدومٌ. وإن لم يسمُّوه سَلَمًا، فاعلمه.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَام
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِير
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَب
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الفِضَّةِ بِالفِضَّة
قوله: (الطَّعَام بالطَّعَام)، وإنما زَادَه بعد ذِكْرِ الزَّبيب، لأن له أحكامًا على حِدَة عند الشافعية، بخلافه عند الحنفية. فإنهم وإن ذكروا للمَكِيل والمَوْزُون أحكامًا، لكن ليس عندهم لنوع الطعام بخصوصه أحكام.
(5/72)
---(4/410)
2171 - قوله: (نهى عن المُزَابَنَةِ)، وهي المُخَادعة لغةً. وفي العُرْف: بيعُ الثمر على النخيل بتمرٍ مَجْذُوذٍ. ولا بُدَّ في التمر أن يكون مَكِيلا، أمَّا ما على الشجرة، فيكون مَخْرُوصًا، لا مَحَالة، وهو معنى قوله: «أن يَبِيعَ التمر بكيلٍ»، أي بشرط كيلٍ، لا أنه ثمن.
قوله: (إن زاد فَلِي وإن نَقَصَ فَعَليَّ)، أي إن زاد فيكون مِلْكًا لي، وإن نَقَصَ فعليَّ إيفاؤه وإعطاؤه، ولم يَذْكُر فيه العِوَض ما هو.
2173 - قوله: (رخَّصَ في العَرَايا) يَخْرُصها. والأحاديثُ في العَرَايا على خمسة أنواع، والباء في قوله: «بِخَرْصِتها» للتصوير، دون العِوَض. فإن أخذناها للعِوَض، فالعِوَضُ مَكِيلٌ، وليس بمَخْرُوصٍ، فتعيَّن أن تكونَ للتصوير.
قوله: (فَتَراوَضْنا) أي (هم نى بات جيت كى).
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءًا
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَة
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الذَّهَبِ بِالوَرِقِ يَدًا بِيَد
(5/73)
---(4/411)
واعلم أن رِبَا الفَضْل كان جائزًا عند ابن عباس، تمسُّكًا بقوله صلى الله عليه وسلّم لا رِبَا إلا في النَّسِيئة»، فلما لَقِيَه أبو سعيد، وأخبره عن حُرْمتِهِ رَجَعَ عنه. وأمَّا شرحُ الحديث المرفوع: فأحدها ما ذكره الراوي، والثاني: أن نفيَه من غيره على معنى تنزيل الناقص منزلة المعدوم. فإن رِبَا الفضل وإن كان ربًا وحرامًا، لكنه يَقْتَصِرُ على تلك المعاملة، ثم ينتهي، فمضرَّته أهون. بخلاف رِبَا النَّسِيئة، فإنه يجري، ثم يُضَاعف أضعافًا مضاعفةً، فمضرَّته أشدُّ وأَلْزَمُ، وهو الذي يَذَرُ البلاد بلاقع، فكأنه الفرد الكامل منه. والأليقُ بأن يسمَّى ربا، على أنا لم نَرَ أحدًا يَبِيعُ الفضة بالفضة، والذهب بالذهب بزيادةٍ، فلا يتحقَّق فيه ربا الفضل، وإنما يُعْرَفُ فيه من ربا النَّسِيئَة. نحو: أن لا يكونَ عند رجلٍ فضةٌ، وهو يحتاج إلى شراء الفضة والذهب، فيذهب ويشتريه نَسِيئَةً، فهذا هو الربا الذي يجري فيما بين الناس، ولذا خصَّه بالذكر. وهذا التوجيه أَوْلَى مما ذكره الراوي.
والحاصلُ: أن في قوله: «لا ربا إلا في النسيئة»، وإن كان عمومًا، لكنه عموم غير مقصود، والمراد ما قلنا إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الغزالي تكلَّم في حُرْمة النَّسِيئَة في النقدين، ولعلَّ في باب الحلال والحرام؛ وقال: إن الأثمانَ كانت كالمعاني الحرفية، لا تُرَادُ لذواتها، فهي آلةٌ للغير، وليست كالاسم، والفعل. وفي ذيله شرح قول النحاة في تعريفها «معنى في نفسه» و«معنى في غيره». فليراجعه، فإنه أجاد فيه، وذكر ما لم يَذْكُرْ النحاة. وملخَّصُه: أن المرادَ من المعنى هو الغرضُ، والغرضُ يكون في نفس الاسم والفعل، بخلاف الحرف، فإنه آلةٌ فقط، ولا غرضَ منه غير الآلية.
(5/74)
---(4/412)
فالذي فيه الغرضُ هو الاسم والفعل، بخلاف الحرف، فإن الغرضَ منه أيضًا لا يَظْهَرُ إلا في الاسم. وهذا معنى قولهم: إن الحرف، يَدُلُّ على معنىً في غيره، بخلاف أَخَوَيْهِ، فإنهما يَدُلان على معنىً في أنفسهما، لا في غيرهما.
والحاصلُ: أن الأثمانَ كانت كالحروف، أعني الغرض منها يكون في الغير، وهو العروض، فإذا ربى فيها الناس، وأَرْبَى، فقد جعلوها عروضًا، مع كونها أثمانًا، فحرَّفوا طباعها.
فائدة: واعلم أن (الزيوف) معناه (كهتيا) أي الناقص قيمة، و(البنهرجية) معناه (كهوتا) أي المَغْشُوش، وقد الْتَبَسَ على بعضهم، فَيُتَرْجِمُون الزيوف بمعنى البنهرجية، مع أنه غلطٌ، فاعلمه.
صحيح البخاري
ثم اعلم أن لفظَ البيع صار عُرْفًا عامًّا في مُبَادَلَةِ المال بالمال مطلقًا، سواء تحقَّق بصورة البيع الشرعيِّ، أم لا. وعلى هذا، فليس النهيُ في قوله: «لا تَبِيعُوا الذهبَ بالذهب» عن البيع خاصةً، بل عن مطلق المُبَادلة، سواء تحقَّق بطريق الإِيجاب والقَبُول المعتبران في البيع أو غيره. فالحديثُ وَرَدَ على الحرف، والنهي عن مطلق المُبَادلة. فطاح ما شَغَبَ به عبد اللطيف في «رسالته»: إن المنهيَّ عنه في الحديث هو البيعُ، ولا بيعَ في الرِّبا المعروف في زماننا، فينبغي أن يكونَ جائزًا، وذلك لأنه لم يَقْدُم على فَهْم المراد. أَلا ترى أنه لا إيجابَ، ولا قَبُولَ في باب التعاطي، لكنه إذا كَتَبَ به يَكْتُبُ أن فلانًا باع بكذا، أو فلانًا اشترى منه بكذا، بصورة الإِيجاب والقَبُول، مع انتفائهما في الخارج. وهذا الذي مشى عليه الحديث، فإنه حَكَى عن المُبَادلة في الخارج بلفظ البيع، كالشراء والبيع في صورة التعاطي، فأهل العُرْف لا يعبِّرون عن المُبَادة إلا بالبيع. فالمذكورُ هو هذا، والمقصودُ ذلك، فاعلمه.
صحيح البخاري
(5/75)
---(4/413)
باب ُ بَيعِ المُزَابَنَةِ، وَهيَ بَيعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَبَيعُالزَّبِيبِ بِالكَرْمِ، وَبَيعُ العَرَايا
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الثَّمَرِ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّة
والمُحَاقلة في الحبوب كالمُزَابنة في التمر.
2183 - قوله: (لا تَبِيعُوا التمرَ حتى يَبْدُو صَلاحُهُ)... إلخ، وسيجيء الكلامُ فيه.
2184 - قوله: (رَخَّصَ بعد ذلك في بيع العَرِيَّة بالرُّطَبِ، أو بالتَّمْرِ)... إلخ. والظاهرَ أنه لا فائدةَ في بيع الرُّطَب بالرُّطَب، لأنه إذا كان عنده رُطَبٌ، فقد استغنى عن بيع العَرِيَّة، فإنه لأجل احتياجه إلى الرُّطَب، وهي عنده من قبل. نعم إذا كان بالتمر، ففيه تَحْصِيلٌ للمرغوب. فليسأل الشافعيةَ أنهم هل يجوِّزُون العَرِيَّة في الرُّطَب والأنواع كلِّها، فإن قالوا به، فذاك. وإلا فلفظُ الراوي بالرُّطَب، إمَّا لغوٌ، أو حَشْوٌ.
واعلم أن الأحاديثَ في باب العَرَايا على عدة أنحاء: الأول، كما مرَّ في باب بيع الزبيب بالزبيب قال: «أن يَبِيعَ التْمر بكَيْلٍ: إن زَادَ، فلي، وإن نَقَصَ فعليَّ». والظاهر أن قوله: «إن زاد فلي»... إلخ، فيه من مقولة البائع، دون المشتري. وهذا التفسير لا يَرِدُ علينا أصلا، لأنه لا ذِكْرَ فيه للعِوَض، هل هو من جنس النقدين أو غيره؟ فإن كان النقدين، فذا جائزٌ عندنا وعند غيرنا، فإنه لا بأس بشراء الرُّطَب، أو التمر بالنقدين، كَيْلا كان، أو جِزَافًا. نعم يحتاج هذا التفسير إلى تنقيرٍ في علَّة النهي ما هي.
(5/76)
---(4/414)
والثاني: ما عن ابن عمر من طريق سالم: «رخَّص بعد ذلك في بيع العَرِيَّة بالرُّطَب، أو بالتمر... إلخ، وهذا هو المشهور فيما بينهم. والثالث: ما في آخر الباب: «رخَّص لصاحب العَرِيَّة أن يَبِيعَها بِخَرْصها»، اه- . ولا ذِكْرَ فيه للعِوَض، فيجوز أن يكونَ العِوَضُ النقدين، فلا يُخَالِفُنَا أيضًا. والرابع: ما ذكره في الحديث الأول من الباب الآتي، ففيه استثناءٌ العَرَايا من البيوع المَنْهِيَّة، وليس فيه تفسيرٌ للعَرَايا، مع إبهام الحكم أيضًا.
ثم اعلم أنهم اخْتَلَفُوا في المُسْتَثْنَى، هل فيه حكمٌ، أو لا؟ والسِّرُّ فيه أن الحكم يكون فيه بينهما، فَذَهَبَ بعضٌ إلى الإِثبات، وبعضٌ آخر إلى النفي. قال الشيخُ ابن الهُمَام: إن الحُكْمَ فيه في مرتبة الإِشارة. وقال صدرُ الشريعة: بل يكون مَنْطُوقًا، وإن لم يكن مَسُوقًا له. أما إن الإِشارةَ هل تكون منطوقًا، أو لا؟ فذلك اختلافٌ آخرَ بين الشيخ، وصدر الشريعة. كيفما كان، لكن الشيخ أَثْبَتَ فيه الحكم في مرتبة الإِشارة.
صحيح البخاري
والخامس: ما في الحديث الثاني من الباب الآتي، وفيه: «رخَّص في بيع العَرَايا»، بدون حرف الاستثناء، وبدون ذكر العِوَض أيضًا، فهذه خمسةُ أنواعٍ، ولم يَخْرُجْ منها تفسيرٌ يُخَالِفُنَا، إلا ما في حديث سالم عن ابن عمر.
2191 - قوله: (ورخَّص في العَرِيَّة أن تُبَاع بِخَرْصِهَا، يأَكُلُها أهلها رُطَبًا)... إلخ، والباء فيه للتصوير عندنا. أمَّا قولُه: يأكلها فبيانٌ للغرض، ولا ذِكْرَ فيه للعِوَض أيضًا. ولكن الشافعيةَ يَحْمِلُون المواضعَ كلَّها على أن العِوَضَ فيها هو التمر.
2191 - قوله: (فَقُلْتُ لِيَحْيَى)... إلخ. وحاصلُه: الفرق بين رواية أهل مكة، وجابر من أهل المدينة في إفراد لفظ العَرِيَّة، وجمعه، فأهل مكة يَذْكُرُونها مفردًا، وأهل المدينة جمعًا.
صحيح البخاري
(5/77)
---
باب ُ تَفسِيرِ العَرَايا(4/415)
واعلم أن معاملات العرب بالعَرَايا كانت على عِدَّة أوجه، ذكرها الحافظُ في «الفتح»، وثلاثٌ منها مختاراتٌ للأئمة أيضًا. فعند الإِمام الأعظم العَرِيَّةُ: اسم لعطية ثمرة النخل على عادة العرب، فإن أهل النخل منهم كانوا يَتَطوَّعُون على من لا ثمرَ له في الموسم، ثم إذا كانوا يتأذُّون من دخول المُعْرَى له عليهم يَعْطُونَهم تمرًا آخر مكانه، ليُخَلِّي ثماره للمُعْرِي خاصةً.
وأما عند مالك، فعنه تفسيران: أحدهما: ما عن الإِمام الأعظم بعينه، إلا أنه خالفه في تخريجه، وجعل المُبَادلَة المذكورةَ بيعًا، واعتبره إمامُنا هِبَةً. ثم إن المُعَامَلَةَ المذكورةَ تَقْتَصِرُ عنده بين المُعْرِي والمُعْرَى له، ولا تجري بين غيرهما. وثانيهما: ما في «موطئه»، وهو أن تكون لرجلٍ عدَّةُ نخلٍ في حديقةِ رجلٍ، فتحرَّج صاحبُ البستان في دخوله في الموسم، واصطلح أن يبيع ثمرة نخيله منه بكذا من التمر، لتخلص له ثمرة البستان كلِّه. وحاصلُه: أن العَرِيَّةَ بيعٌ عنده على التفسيرين.
(5/78)
---(4/416)
وقال الشافعيُّ: إن الناس كانوا فقراء، ليست عندهم دَرَاهِمَ ولا دنانير، فإذا جاء الموسمُ شَكُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّممما رابهم. فلمَّا رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّماشتياقَهم إلى الرُّطَب، ولا ثمنَ عندهم لِيَشْتَروا به، أباح لهم أن يَشْتَرُوا الرُّطَبَ بالتمر، ولما كانت الحاجةُ تندفع بخمسة أَوْسُق خصَّصه بها. ولذا قال الشافعيةُ: إن العَرِيَّةَ لا تجوز إلا في هذا المقدار، أو أقل. ولا تجوز فيما زاد على ذلك، إلا أن تكونَ بصفقاتٍ. فإذا كانت بصفقاتٍ، فتَجُوزُ عندهم، ولو في ألوفٍ من الأَوْسَاقِ. ثم إنهم يَشْتَرِطُوا الكَيْلَ في التمر، والخَرْصَ في الثمر. وذلك لأن الكَيْلَ إذا فَاتَ عنهم في الثمر، لكونه على رؤوس الأشجار، عَدَلُوا إلى الخَرْصِ، ليَقْرُبَ إلى الواقع شيئًا، ولا يبقى جِزَافًا مَحْضًا. لأن التمرَ بالرُّطَب مُزَابنةٌ عندهم، وهي حرامٌ بالنصِّ. وإنما أَبَاحَها الشرعُ لهم في خمسة أَوْسُقٍ خاصةً، فضيَّقُوا فيه. ثم إن هذه المعاملة في هذا المقدار تجري بين كل رجلين، ولا اختصاصَ لها بالمُعْرِي والمُعْرَى له، كما هو عند مالك. هذا هو تفصيل المذاهب، وتفسير العَرَايا.
(5/79)
---(4/417)
أما الترجيحُ لمذهبنا، فمن أوجهٍ: الأول: أنه اتفق أهلُ اللغة كافةً، على أن العَرِيَّةَ من العَارِيَّةِ: اسم لهبة ثمار النخيل. وَوَافَقَنَا عليه صاحب: «القاموس» أيضًا، مع كونه شافعيًا متعصِّبًا، فإنه يُرَاعي مذهبه في بيان اللغة أيضًا. نعم هو مُعْتقِدٌ لأبي حنيفة أيضًا، وقد كان بعضُ أهل زمانه كَتَبَ رسالةً في مثالب أبي حنيفة، ونَسَبَها إليه. فلمَّا بلغ أمرها إليه، تبرَّأ منه، وقال: إنها افتراءٌ عليّ، وأنا أخضع دون جلالة قدره، وأمر بحرقها. والأسفُ كل الأسف على أن داهيةَ التعصُّب قد أَلَمَّت في باب الجرح والتعديل أيضًا، فَيُسَامِحُون عمَّن وافقهم في المذهب، ويُمَاكِسُون فيمن خالفهم. كالذهبيِّ، فإنه يُرَاعي الحنبلية، ولا يَغْفِرُ للأشعرية. وأمَّا الحافظُ، فإنه لا يُغْمِضُ عن الحنفية، وكأنها عنده ذنبٌ ليس فوقها ذنبٌ.
صحيح البخاري
وبعد، فإنهم لمعذورون، لأنه من يسمع يُخِلُّ، فإذا لم يَبْلُغْهُمْ من الحنفية إلا أنهم أصحاب بَدِعةٍ وقياسٍ، وأُشْرِبَ به قلوبهم، لم يتكلَّموا إلا ما ناسب بما أُخْبِرُوا به، ولم يتحمَّلوه إلا ما حمِّلَ إليهم. ولكن من جرَّب الحال منهم، وحقَّق الأمر، فحاشاه أن يُطِيلَ لسانه في شأنهم. وكفاك محمد، وأبو يوسف من تلامذته. فأمَّا محمد، فهو الذي تخرَّج عليه الشافعيُّ، وقال فيه: إنه كان يَمْلأُ العينَ والقلبَ. وكان إذا تكلَّم فكأنما نَزَلَ الوحيُ. وأمَّا أبو يوسف، فأمرُه معروفٌ، وقد قدَّمنا بعض الكلام في أوائل كتاب العلم.
وبالجملة: إن انتهى الأمرُ إلى اللغة، فهي للحنفية خاصةً، وليس لغيرهم فيها حَظٌّ. وراجع ما عندهم من أنواع الهِبَةُ، فإنهم سَمُّوا هِبَةَ الحيوان الحلوب: منحةً، وهِبَة الثمار: عَرِيَّةً، إلى غير ذلك. وقد نقل الطحاويُّ بيتًا عن شعرائهم يَمْدَحُ الأنصار، يَدُلُّ على كونها هِبَةً، وفي النسخة سقط من الكاتب، وأنقله بعد التصحيح:
(5/80)
---(4/418)
*وليست بسَنْهَاءَ ولا رَجَبِيَّةٍ
** ولكن عَرَايا في السنين الجوائح
يقول: إن أشجارَهم ليست بسنهاء التي تُثْمِرُ في سنةٍ مرةً، وليست مما تُلْقَى حولها الشِّيَاك أيضًا، ولكنها عَرَايا تُوهَبُ للمساكين عند حاجتهم، فكأنه عنى بها التصدُّق، والهِبة. ولو كانت العَرِيَّةُ بيعًا، لم يكن فيها مدحٌ لهم.
ولنا أيضًا أثرُ زيد بن ثابت، أخرجع الطحاويُّ، قال: «رخَّص في العَرَايا في النخلة، والنخلتين تُوهَبَان للرجل، فيبيعها يَخْرِصَها تمرًا»، فأَخْبَرَ بأن العَرِيَّة هِبَةٌ. وزيدُ بن ثابتٍ، وما زيد بن ثابت هو مدنيٌّ، ومن أصحاب النخيل، وهو أعلم بالعَرَايا، لأن صاحبَ البيت أَدْرَى بما فيه. أمَّا غيرُه ممن ليسوا بأصحاب النخيل، كابن عمر، فإنهم لا يُوَازُونَه في هذا الباب. ولا أُنْكِرُ تفاسيرهم، فإنها كلَّها مَرْوِيَّةٌ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
أمَّا المرفوعَ فلا مَزِيَّةَ فيه لأحدهما على الآخر، فقد عَلِمْتَ أن الباء في قوله صلى الله عليه وسلّم «بمثل خَرْصِها» للتصوير عندنا، وللعِوَض عندهم. فقالوا: معناه العَرَايا هي بيعُ التمر عوض الرُّطَب المَخْروصَةِ بمثلها. وقلنا: معناه هو البيعُ، بأن يَخْرُص الرُّطَب، فيبيعها خَرْصًا. أمَّا العِوَض، فلم يُذْكَر في الحديث، فإن كان نقدًا، فلا خلافَ فيه لأحدٍ. وعند الترمذيِّ في حديث العَرِيَّة: «ونهى عن بيع كل ثمرٍ بِخَرْصِها»، مع أنه لو كان بالدينار والدراهم، جاز إجماعًا. فالنهيُ فيه للشَّفعقَةِ بالاتفاق، فلم يَخْلُصْ الحديثُ لأحدٍ، وتُوزَنا فيه وزنَ المثقال.
صحيح البخاري
(5/81)
---(4/419)
ونقول أيضًا: إن التمرَ والرُّطَبَ من الأموال الزَّبَوِيَّة، ويُنَاسِبُ فيها الإِطلاق، فَقُلْنا بالحرمة مطلقًا، ولم نُجِرْ فيها التخصيص. وعلى هذا، فأحاديثُ النهي عن المُزَابنة على عمومها عندنا، بلا تخصيصٍ، والاستثناءُ فيها منقطعٌ، لعدم دخول العَرَايا في المُسْتَثْنَى منه. ويَلْزَمُ على الشافعية مخالفةُ اللغة، ومخالفةُ ما عند شعرائهم فيه، ومخالفةُ أعلم رجلٍ في هذا الموضوغ، وإجراءُ التخصيص في الأموال الرِّبوية.
فإن قلتَ: يَرِدُ عليكم استثناء العَرَايا من البيع، فإن ظاهرَه كونها بيعًا، وثانيًا الرجوع في الهِبَة، وثالثًا لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فإن هِبَةَ الخمسة والرجوعَ عنها، كهبة ألف أَوْسُقٍ، والرجوعِ عنها. قلتُ: أمَّا ما قُلْتَ من استثناء العَرَايَا من البيع، فقد سَمِعْتَ آنفًا أنه استثناءٌ منقطعٌ عندنا، ونزيدك إيضاحًا، فنقول: إن العَرِيَّةَ على مذهب الحنفية استردادٌ للهبة الأولى، واستئنافٌ في الِبَة الثانية. ولكنه تخريجٌ ونظرٌ، وليس في الظاهر إلا استبدال الرُّطَب بالتمر، ولا رَيْبَ أنه بيع حِسًّا، وإن عبَّرناه استردادًا، واستئنافًا على الأصل. وحينئذٍ لا بِدَعَ في كونها مستثناةً من البيع، ولا حَجْر في التغبيرات والعبارات، فإنها تأتي في مبنيةً على الحسِّ. وقد نبَّهناك مِرَارًا أنه ليس على الرُّواة إخراج العبارات كاشفةً عن تخريج المسائل أيضًا. وإنما هم بصدد النقل المجرَّد، فَيُخَرِّجُون عباراتهم على ما سَنَحَ لهم في ذلك الحال. وعلى هذا فالأشجار بعد العَرِيَّة إذا نُسِبَتْ إلى المَعْرَى له، كأنها مِلْكُهُ، ثم ردَّها المُعْرَى له إلى المالك، بعوضٍ من التمر، كأنه يبيعها منه، صارت صورتُها صورةَ البيع فطعًا، سواء سمَّيته استردادًا، أو هِبةً، أو ما بدا لك. فإن الراوي لا بحثَ له من أن تخاريجك فيه ماذا.
(5/82)
---(4/420)
ومن ههنا انحلت عُقْدةٌ أخرى في حديث جابر عند البخاري، قال جابر، في بيان صفة صلاته صلى الله عليه وسلّمفي الخوف: «كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمأربعٌ، وللقوم ركعتان». اه- . وهذا لا يَصِحُّ على مذهب الحنفية، وحَمْلُه على حال الإِقامة باطلٌ، كما ذكرناه في تقرير الترمذي. وجواب الطحاويِّ نافذٌ. والجواب على ما ظَهَرَ لي: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمصلاها في ذات الرِّقَاع على الصفة المختارة عند الشافعية، فصلَّى بطائفةٍ ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا حتى أَتَمُّوا لأنفسهم، وجاءت الأخرى، فصلَّى بهم كذلك، فاعتبر الراوي ركعته صلى الله عليه وسلّمركعةً، ومُكْثَةُ بقدر ما أَتَمُّوا لأنفسهم ركعةً أخرى، فعبَّر عنه بالركعتين. وكانت الركعتان في الحقيقة لمن خلفه صلى الله عليه وسلّم وإنما نَسَبَهُمَا إليه أيضًا لتأخيره بتلك المدَّة، ومُكْثِهِ فيها، فإذا تضمَّنت ركعته صلى الله عليه وسلّمركعتيهم، تضمَّنت ركعتاه لأربعهم لا مَحَالة. وهذا وإن كان يرى تأويلا في بادىء النظر، لكنه مُؤَيَّدٌ بما يُرْوَى عن جابر في عين تلك القصة.
صحيح البخاري
فقد أخرج البخاريُّ: عن صالح بن خَوَّات، عمن شَهِدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّميوم ذات الرِّقَاع صلاةَ الخوف: «أن طائفةً صفَّت معه، وطائفةً وِجَاه العدو، فصلَّى بالتي معه ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم. ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجَاه العدو. وجاءت الطائفةُ الأخرى، فصلَّى بهم الركعةَ التي بقيت من صلاته، ثم ثَبَتَ جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم». اه- .
(5/83)
---(4/421)
فهذا صريحٌ في أن القومَ فَرَغُوا بعد ركعتين ركعتين، وأمَّا النبيُ صلى الله عليه وسلّمفلم يَفْرُغ عن صلاته حتى فَرَغُوا جميعًا. فكانت لهم ركعتان ركعتان، وكانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمأيضًا ركعتان، كما ذكره الراوي ههنا، إلا أنه لمَّا مَكَثَ بعد ركعةٍ بقدر ركعةٍ، وانتظر القوم عبَّر عنه الراوي هناك بالركعة، وعَدَّ له أربع ركعات بهذا الطريق. ولا بُدَّ، فإن الواقعةَ واحدةٌ، فلعلَّك عَلِمْتَ الآن حال تعبير الرواة أنه لا يُبْنَى على مسألةٍ فقهيةٍ فقط، بل يأتي على عبارات وملاحظ تَسْنَخُ لهم عند الرواية.
وأمَّا الجوابُ عن الرجوع في الهِبَةِ. والدليلُ على أنه لا بُدَّ في قبض الثمار من الجِذَاذِ ما رواه الطحاويُّ: «أنه لمَّا احْتَضَرَ أبو بكر قال: إني قد كنتُ أَعْطَيْتُكَ ثمارًا في الغابة، فلو كنتَ جَذَذْتُها لكانت لك، إلا أنك ما جَذَذْتَهَا إلى الآن، فهي حينئذٍ ميراثٌ للورثة» بالمعنى . وبه أَفْتَى عمر. فَدَلَّ على أن الهِبَةَ لا تَتِمُّ إلا بالقبض، وأن الثمارَ لا قبضَ فيها إلا بالُجُجِذَاذِ.
أما قولك: إنه لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فنقول: أمَّا أولا فكما ذكره الطحاويُّ: أنه ليس فيه ما ينفي أن يكونَ حكمُ ما هو أكثر من ذلك، كحكمه في خمسة أَوْسُق. وإنما يكون ذلك لو قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم لا تكون العَرِيَّة إلا في خمسة أَوْسُق، أو فيما دون خمسة أَوْسُق. فإذا كان الحديثُ: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمرخَّص في بيع العَرَايا في خمسة أَوْسُقٍ، أو فيما دون خمسة أَوْسُقٍ»، فذلك يحتمل أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمرخَّص فيه لقومٍ في عَرِيَّةٍ لهم، هذا مقدارها. فنقل أبو هُرَيْرَة ذلك، وأخبر الرُّخْصَة فيما كانت. ولا ينفي ذلك أن تكونَ تلك الرخصة جاريةً فيما هو أكثر من ذلك. اه- .
(5/84)
---(4/422)
وأمَّا ثانيًا، فعلى ما أقول: إن المعاملةَ المذكورةَ لمَّا كانت بيعًا حِسًّا ناسب فيها التضييق، لئلا تقوم أصلا للمعاملات الرِّبَوِيَّة. فإن الشافعيةَ أيضًا قَصَرُوها على خمسة أَوْسُقٍ، غير أنهم جعلوها استثناءً من معاملة الرِّبا حقيقةً. ونحن قَصَرْنَاها على المقدارِ المذكور لمظنَّة جريان الربا فيما عَدَاها. ثم لو سَلَّمْنَا أن العَرِيَّةَ هي البيعُ دون الهِبَةِ، فقد أُخْرِجَتْ لها صورة الجواز على مسائلِ الحنفية أيضًا، وهي: أن بيع الععرِيَّة على نحوين: الأول: أن يقولَ: بِعْتُ ثمارَ هذه الشجرة التي أَخْرُصُهَا خمسة أَوْسُق، بدل كذا من التمر. والثاني: أن يقولَ: بِعْتُ خمسة أَوْسُقٍ من ثمار هذه الشجرة، بدل كذا من التمر. والأول لا يجوز، بخلاف الثاني، وهو المحمل عندي.
صحيح البخاري
والفرق أنه باع على الأول ثمارها خَرْصًا، فإن خرجت خمسة أَوْسُقٍ، ثم باعها منه. فليس الخَرْصُ في الخارج، وهو لحفظه في ذهنه فقط. فإذا أَسْلَمَ إليه يَكِيلُها لا مَحَالة، ليُسْلِمَ إليه خمسة أَوْسُق، فلا احتمال فيه للربا. وعلى هذا لم يَرِدْ العقدُ على المَخْرُوص، بل وَقَعَ على المعيَّن،، ولا بأسَ بكون هذا المعيَّن مَخْرُوصًا في أول الأمر في ذهنه، بل هو مفيدٌ. أمَّا في الخارج، فلا يسْلِمُ إليه إلا مكيلة. ثم الكيلُ وإن لم يكن معروفًا في الرُّطَب فيما بينهم لتعسُّره فيها، ولكنه إذا تحمَّله على نفسه والتزمه وَجَبَ عليه أن يَكِيلَها. حينئذٍ جَازَتْ العَرِيَّةُ بيعًا على مسائلنا أيضًا. وجملةُ الكلام: أن المبيعَ في العَرِيَّة عندهم مَخْرُوصٌ أولا وآخرًا، وعندنا مخروصٌ أولا، وفي الذهن فقط، ومعيَّنٌ آخِرًا، وعند التسليم. فإن ادَّعَيْتَ بجوازها، لم يُخَالِف مسائلنا بشيءٍ.
(5/85)
---(4/423)
ثم اعلم أن تلك عند أبي عُبَيْد هي التي اسْتُثْنِيَت في باب الزكاة في قوله صلى الله عليه وسلّم «ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صَدَقةٌ بعينها» فيكون عنده تفسيرًا لأربعًا.
هذا الذي أردنا إلقاءه عليك من تفسير العَرَايا، وما يتعلَّق بها، والآن نشرح ألفاظ الترجمة.
قوله: (وقال ابنُ إدْرِيس) المراد منه الشافعي.
قوله: (العَرِيَّةُ لا تكونُ إلا بالكَيْل من التمر، يَدًا بيدٍ، ولا تكُون بالجِزَاف)، يعني به أن التمر يُعْطَى للمُعْري، ويكون مَقْبُوضًا. أمَّا الثمارُ، فلا سبيلَ فيها إلا بالتَّخْلِيةَ.
قوله: (بالأَوْسُق المُوَسَّقَةِ)... إلخ، وهو كقوله: {وَالْقَنَطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} (آل عمران: 14)، ففيه معنى التأكيد. ومُقْتَضَى اللفظ كونه معاملةً من الطرفين، نحو كون الكَيْلِ من طرفٍ، والخَرْصُ من طرفٍ آخر، فحصلت التقوية، كما أراده المصنِّف.
قوله: (العَرَايا نخلٌ)... إلخ، والمراد به ثمار النخل.
2192 - قوله: (رخَّصَ في العَرَايا أن تُبَاع بِخَرْصِها كَيْلا)، والبائعَ عند الشافعيِّ: هو صاحبُ النخل المُعْرِي. وعند أبي حنيفة، ومالك: المُعْرَى له، غير أن بيعَه للمُعْرِي بيعٌ حقيقةً عند مالك، ومبادلةٌ، واستبدالٌ فقط عند أبي حنيفة. فيكون بيعًا صورةً لا غير، على ما عَلِمْتَ تفصيله. وقد مرَّ أيضًا: أن الباء في قوله: «بِخَرْصِها» للتصوير عندنا، والبدلُ غير مذكورٍ، فيمكن أن يكونَ الدراهمَ والدنانيرَ، كما يُؤَيِّدُه ما عند النَّسائي. وهي عند الشافعيِّ للبدل، فيكون المَخْرُوصُ عِوَضًا، وبَدَلا. وقد ذكرنا شيئًا يتعلَّق به في آخر كتاب المساقاة إيضًا، فراجعه.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الثِّمارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهَا
2193 - قوله: (فإِمَّا لا)، وهي: إن: شَرْطِيَّةٌ، وما: زائدةٌ للتأكيد، ولا: نافيةٌ، وصرَّح النحاةُ ههنا بالإِمالة في حرف النهي.v
(5/86)
---(4/424)
وحاصلُ معناه: أنكم لا تترُكُوا هذه الخصومات، فلا تَبْتَاعُوا... إلخ.
2193 - قوله: (كالمَشُورَةِ يُشِيرُ بها)، وهذا يُفِيدُنا، فإنه يَدُلُّ على أن النهيَ عن بيع الثمار قبل البُدُوِّ للإِرشاد. وحمله الطحاويُّ على السَّلَم. ولا يَجُوزُ السَّلَم عندنا أيضًا إلا إذا سَلِمَ من العاهات، وهو بعد البُدُوِّ لا غير.
2193 - قوله: (حتى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا)، ومن عادة العرب أنهم إذا ذَكَرُوا طلوعَ نجمٍ، أرادوا به طلوعه المقارن للفجر، وطلوع الثُّرَيَّا يكون في الشهر المشهور في الهندية (أساره). ثم إن الحافظَ ذكر ههنا روايةً عن عطاء: «إذا طَلَعَ النجم - أي الثُّرَيَّا - رُفِعَتْ العاهةُ عن الثمار...» إلخ، وهي من «مسند أبي حنيفة»، فَدَلَّ على اغذماده عليه، ولذا استعان به. فاحفظه، وراجع ما قاله المْحَشِّي بين السطور - أي في النسخة الهندية .
2195 - قوله: (حتَّى تَحْمَرَّ)، وفي روايةٍ: «تَحْمَارّ»؛ ومعنى الأول: أن تَظْهَرَ فيه الحُمْرَة. ومعنى الثاني: كادت أن تَحْمَرَّ. نبَّه أبو حَيَّان (سرخ كشته باشدو مائل بسرخى كشته باشد).
واعلم أن أرباب الصَّرْف لم يُحِيطُوا بخواصِّ الأبواب كلِّها، وإنما ذَكَرُوا شطرًا منه، وكان مهمًا. والكُتُبُ المصنَّفةُ فيها لم تُطْبَعْ. وأمَّا من أراد الآن أن يَتَتَبَّعَهَا، فطريقُه أن يُطَالِعَ «البحر المحيط» لأبي حَيَّان. ومن دَأْبه أنه إذا مرَّ على بابٍ من القرآن ذكر خواصَّه أيضًا، واستوعبها. فمن أراد ترتيب الخواصِّ، فهذه طريقته.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهَا
أي ثمار النخل.
قوله: (حدَّثنا مُعَلَّى) تلميذٌ لأبي يوسف.
(صور بيع الثمار)
(5/87)
---(4/425)
واعلم أن بيعَ الثمار إمَّا أن يكونَ قبل البُدُوِّ أو بعده، وكلٌّ منهما إمَّا يكون بشرط القطع، أو بشرط الترك، أو بشرط الإِطلاق، تلك ستُّ صُوَرٍ. فذهب الشافعيُّ إلى جوازه بعد البُدُوِّ في الصُوَر الثلاث مطلقًا، كما هو مقتضى مَفْهُومِ الحديث. وإلى عدم جوازه قبل البُدُوِّ، كما هو مقتضى مَنْطُوقِهِ، إلا إذا كان بشرط القطع، فإنه بعد القطع لا يبقى محلا للنزاع، فهو مستثنى عقلا.
والحاصلُ: أنه عَمِلَ بمجموع المَفْهُومِ والمَنْطُوقِ، وخصَّص من المنطوق صورةً واحدةً بدلالة العقل.
وأمَّا مذهبُ الحنفية على ما فصَّله صاحب «الهداية»، فهو: أن البيعَ بشرط القطع جائزٌ في الفصلين، كما أن البيعَ بشرط الترك فاسدٌ في الفصلين. أمَّا إذا كان بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ في الصورتين، إلا أن البائعَ إن أمر المشتري بقطع ثماره وَجَبَ عليه قطعه، وتفريغ مِلْكه على الفور. وحينئذٍ يَلْغُو قيد قبل البُدُوِّ في النصِّ، ولا تَظْهَرُ له فائدةٌ. فإن الحكمَ عند وجوده، وعدمه سواء عندنا من غير فرقٍ. فَوَرَدَ علينا الحديثَ مفهومًا ومنطوقًا. وما أَجَابَ به بعضُهم: أن المفهومَ ليس بحُجَّةٍ عندنا، ليس بشيءٍ، لما مرَّ منا تحقيقُ الكلام في المفهوم، فإنه يَحْتَاجُ إلى بيان نُكْتَةٍ لا مَحَالة، وإن لم يكن مَدَارًا للمسألة.
وقد أجاب عنه الطَّحَاويُّ بنحوين: أما الأول، فحاصله: أن الحديثَ لم يَرِدْ في تلك التفاصيل، فإنه وَرَدَ في النهي عن البيع قبل البُدُوِّ شفقةً، وإن جاز شرعًا في بعض الصْوَرِ، لأنه قد يُفْضِي إلى تلف مال المشتري، فيقوم بلا مالٍ ولا مبيعٍ. كما أنه لو باعه قبل البُدُوِّ وأصابته عاهةٌ، فاجْتَاحَتْ الثمار، بقي المشترى ولا مالَ له ولا ثمارَ، فنهى عنه لذلك. فليس هذا الحديث مُتَعَرِّضًا إلى الصُوَر المذكورة، فَلْيَكِلْها إلى الاجتهاد أو غيره.
(5/88)
---(4/426)
أما الثاني، فبيانه: أن الحديثَ ورد في السَّلَم، ذلك لأن أهلَ المدينة قبل مقدمه صلى الله عليه وسلّمكانوا يُسْلِفُون في الثمار لسنةٍ أو سنتين، فنهى عن ذلك، إلا أن يُسْلِفُوا في كَيْلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجل معلومٍ. ويُشْتَرَط في بيع السلم وِجْدَانُ المبيع من حين العقد إلى وقت التسليم عندنا أيضًا، فلا بُدَّ أن يكونَ بعد البُدُوِّ، والأمن عن العاهات. والحاصلُ: أن النهي عن البيع قبل البُدُوِّ ليس في البَيَاعَات العامة، بل في السَّلَم خاصةً. ولا نُنْكِرَ فيه بمَنْطُوقِ الحديث، ولا بمفهومه، فكأن الحديثَ من بابٍ، وحَمَلُوه على بابٍ، فَأَوْجَبَ فساد المعنى.
صحيح البخاري
هذا، والذي ظَهَرَ لي في جوابه على ما قرَّره صاحب «الهداية» من المذهب: أن البيعَ بشرط القطع خارجٌ عن مدلول الحديث، فإن البائِعَيْن إذا رَضِيَا بأمرٍ لم يَدْخُل فيه الشارعُ، ولا تعرَّض إليه. فبقيت فيه أربع صُوَرٍ: بشرط الإِطلاق، وبشرط الترك قبله، أو بعده. أمَّا البيعُ بشرط الإِطلاق، فهو راجعٌ إلى القسم الأول، أي البيع بشرط القطع، لأنه إطلاقٌ في اللفظ فقط. ولا يكون في الخارج إلا القطع أو الترك، فإن أَمَرَهُ البائعُ وَج عليه القطعُ، على ما مرَّ، فَيَرْجِعُ إلى القسم الأول، وإلا يَنْدَرِجُ في الثاني.
(5/89)
---(4/427)
أمَّا البيعُ بشرط الترك، فهو غير جائزٍ في الفصلين، وذلك لاشتماله على شرطٍ فيه نفعٌ لأحد المُتَعَاقِدَيْن، وكلُّ شرطٍ كذلك، فهو مُفْسِدٌ للبيع، فهذا أيضًا مُفْسِدٌ له، سواء كان قبل البُدُوِّ أو بعده. بقي قيد: «قبل البُدُوِّ» في الحديث، فنقول: إنه ليس بِمَنَاطٍ للحكم. ولكن المعروفَ عندهم في بيع الثمار كان قبل البُدُوِّ، فجاء تَبَعًا للواقع، لا لكونه مَدَارًا. وأما الجوابُ على ما ذهب إليه السَّرَخْسِيُّ، وغيره من الفصل في صورة الإِطلاق، فالجوابُ: أن البيعَ بشرط القطع، فهو مستثنىً عقلا، كما أقرَّ به الشافعيُّ أيضًا. وأمَّا البيعُ بشرط الترك، فغيرُ جائزٍ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم «نهى عن بيعٍ وشرطٍ». بقي البيعُ بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ بعد البُدُوِّ لا قبله، وهو محمل الحديث، فقد علَمْنا بمَنْطوقِهِ ومفهومه أيضًا.
وحاصلهُ: أن الصورةَ الواحدةَ، وهي صورة القطع، مستثناةٌ عقلا بلا نزاع بين الفريقين. أمَّا صورةُ الترك، فادَّعَيْنَا استثناءها من أجل الحديث: «نهى عن بيعٍ وشرطٍ»، فلم تَبْقَ تحته إلا صورةٌ واحدةٌ، واشتركنا فيها معهم في الحكم مَنْطُوقًا ومفهومًا. وهي التي تُنَاسِبُ أن تكونَ محملا للحديث، لأن المعروفَ في البيوع هو الإِطلاق، أما التركُ والقطعُ فمفروضان، وحَمْلُه على المعروف أَوْلَى من حمله على المفروض.
قال صاحبُ «الهداية»: إن باعه بشرط الإِطلاق، وأجاز بعده بالترك، طاب الفَضْل للمشتري. وقال الشاميُّ: إنما يَطِيبُ له ذلك إذا لم يكن التركُ مشروطًا في العقد، ولا معروفًا بين الناس، وإلا فالمعروف كالمشروط.
(5/90)
---(4/428)
قلتُ: وتفصيل الشاميِّ ليس بمختارٍ عندي، فيجوز له الفَضْلُ، وإن كان الترك معروفًا، ولا يكون كالمشروط. وإنما دعاني إلى ترك تفصيله ما حرَّره ابن الهُمَام في ذيل سؤالٍ وجوابٍ من هذا المقام. ويَظْهَرُ منه كونه طيبًا بدون فصلٍ، فراجعه من هذا الباب. وكذا نقل الحافظُ ابن تَيْمِيَة، عن أبي حنيفة في «فتاواه» ما حاصله ما في «الهداية»، فتفصيلُ الشاميِّ غيرُ مختارٍ عندي.
صحيح البخاري
والحاصلُ: أن الشرطَ إذا لم يكن في العقد، ولم يأْمُرْه البائعُ بالقطع طاب له تركه، سواء كان معروفًا أو لا. ولا ألتفتُ إلى ما قاله الشاميُّ: إن المعروفَ كالمشروط بعد ما وجدتُ روايةً عن الإِمام عند الحافظ ابن تيمية في «فتاواه». والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
باب إِذَا بَاعَ الثِّمارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهُ عاهَةٌ فَهُوَ مِنَ البَائِع
(الجوائع)
هو مذهبُ الشافعيِّ. ومن جوَّز من الحنفية بيعَ الثمار قبل البُدُوِّ، فقد فَصَلَ فيه، وقال: إن هَلَكَتْ بعد التَّخْلِية بين بين الثمار والمشتري، هَلَكَتْ من مال المشتري. وإن هَلَكَتْ قبلها، هلكت من مال البائع. وقال مالك في «موطئه»: والجائحةُ التي تُوضَعُ عن المشتري الثُّلُث فصاعدًا، ولا تكون فيما دون ذلك جائحةً. اه- . فجعل الثُّلث على المشتري، ودونه على البائع. وعند أبي داود: عن يحيى بن سعيد أنه قال: لا جائحةَ فيما أُصِيبَ دون ثُلُث رأس المال. قال يحيى: وذلك في سُنَّة المسلمين. اه- . فراجع الطحاويَّ.
صحيح البخاري
باب ُ شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَل
يعني اشترى طعامًا، ولم يُؤَدِّ ثمنه، فهو بيعٌ مطلقٌ، لا أنه سَلَمٌ، كما فُهِمَ.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَرَادَ بَيعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيرٍ مِنْه
(5/91)
---(4/429)
2201 - 2202 - قوله: (بِعِ الجَمْعَ)... إلخ، أي التمر المختلط. واعلم أنه لا عِبْرَةَ باختلاف الأصناف في الأموال الرِّبَوِيَّةِ، فجيدها ورديئها سواء. ثم في الحديث دليلٌ على جواز الحِيَل ونفاذها، مع أنه قد وَرَدَ عنها النهي أيضًا. والصواب: أن فيها تقسيمًا على الحالات، فَيَجُوزُ البعض دون البعض.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ باعَ نَخْلا قَدْ أُبِّرتْ، أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً، أَوْ بِإِجارَة
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيلا
أي باع الزرع والحقل.
2203 - قوله: (قد أُبِّرَتْ لم يُذْكَرِ الثمرُ)... إلخ، أي لم يُذْكَرْ لمن يكون له الثمر. ذهبَ الشافعيُّ إلى ظاهر الحديث، واختار مَنْطُوقَ الحديث ومفهومه، فجعل الثمار قبل التأبير للمشتري، وبعده للبائع. وجعلها أبو حنيفة للبائع في الحالين. وما أَجَابَ به المُحَشُّون من أنه لا عِبْرَةَ بمفهوم المُخَالِف ليس بشيءٍ. والصوابُ ما أجاب به الطِيبيُّ في «شرح المشكاة»، وهو شافٍ، فقال: إن التأبيرَ عند الإِمام كنايةٌ عن ظهور الثمار، فإنهم لم يكونوا يُؤَبِّرُونها إلا بعد ظهورها. وعلى هذا لا تكون لها قبل التأبير ثمارٌ، فإذا أُبِّرَتْ - ولا يكونُ ذلك إلا بعد ظهور الثمار - فهي للبائع بنصِّ الحديث.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ النَّخْلِ بِأَصْلِه
يعني باعَ الثمارَ، وباع معها النخلَ أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ المُخاضَرَة
أي بيع الزرع الأخضر، وهو منهيٌّ عنه، كالبيع قبل بُدُوِّ الثمار.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الجُمَّارِ وَأَكْلِه
والجُمَّارُ لبٌّ يَخْرُجُ في رأس النخل، يُؤْكَلُ، ولا يُثْمرُ الشجرُ بعده.
صحيح البخاري
(5/92)
---
باب ُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى ما يَتَعَارَفُونَ بَينَهُمْ في البُيُوعِ وَالإِجارَةِوَالمِكْيَالِ وَالوَزْنِ وَسُننِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِم المَشْهُورَة(4/430)
قوله: (ومَذَاهِبهم المَشْهُورَةِ)أي التعامل. وحاصلُه: أن ما تَعَارَفَ بينهم في المكيال والميزان وغيرهما يُعْتَبَرُ به، وإن لم يكن مُطَّرِدًا. ولكن هناك جزئيات اعْتَبَرَ فيها العُرْف، كما في «الهداية»: إذا اختلفت النقودُ تُحْمَلُ على غالب نقد البلد. فالمصنِّفُ ترجم على أصله: «لا بأس، العشرةُ بأَحَدَ عَشَرَ، يعني إذا تلفَّظ بالعشرة، وأراد منه أحد عشرة على العُرْفِ، جَازَ له. وراجع الهامش، فقد أوضحه.
قوله: (ويَأْخُذُ للنَّفَقَةِ)(لا كت) ربحًا، أي في البيع المُرَابحة.
قوله: (ولم يُشَارِطْهُ، فبَعَثَ إليه بنِصْفِ دِرْهَمٍ) والدانق: سُدُس الدِّرْهَم، فنِصْفُ دِرْهَمٍ: ثلاث دَوَانقٍ. وقد كان استأجره بدَنِقَيْن، فَزَادَهُ واحدًا مروءةً.
وحاصلُه: أن البيعَ، كما يَصِحُّ بالتعاطي، كذلك الإِجارة أيضًا، وهو المذهب عندنا.
2210 - قوله: (وأَمَرَ أَهْلَهُ أن يُخَفِّفُوا عنه من خَرَاجِهِ)، واعلم أن هذا باب لا يَدْخُلُ فيه القضاء. وقلَّ من توجَّه إلى هذا الباب أحدٌ، مع أنه يُوجَدُ في الأحاديث كثيرًا، فيكون أمرًا صحيحًا في الخارج، ثم لا يتأتَّى على قواعد الفِقْهِ، وذلك لأن الناسَ كثيرًا ما يتعاملون فيما بينهم، ويُسَامِحُون فيه، ولا يتنازعون بشيءٍ. وقد يجوز ذلك في نظر الشارع أيضًا، إلا أن الفقهاءَ لا يتعرَّضُون إليه لكونه من الديانات عندهم، وجلُّ أحكامهم من باب القضاء. ومن لا خِبْرَةَ له بذلك يظنُّها خلاف الفِقْهِ، ولا يدري أن ما ذُكِرَ في الفقه هو حكم القضاء، وذلك في الدِّيَانة، وقد أوضحنا الفرق بينهما.
(5/93)
---(4/431)
ثم إن بعضهم زَعَمَ أن الفرقَ بينهما إنما يَظْهَرُ في المعاملات دون العبادات، وليس كذلك. لما في باب القراءة من «الدر المختار»: أن فرضَ القراءة آيةٌ، وأقلُّها ستةُ أحرف. فإن كانت الآية كلمة فقط، كقوله تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) لا تُجْزِئُه عن فرضها، إلا أن يَحْكُمَ به الحاكمُ. مثلا: لو قال رجلٌ: إن قَرَأتُ قدر الفريضة، فعبدي حرٌّ، فقرأ {مُدْهَآمَّتَانِ}، فادَّعى العبدُ عِتْقَه، وأنكره المولى، فرافع العبدُ إلى القاضي، فإن قَضَى بجوازها عُتِقَ العبد، وتَصِحُّ صلاته تلك، وإن لم تَصِحَّ غيرها. وهذه تَدُلُّ على أن الفرقَ بين القضاء والديانة قد اعْتُبِرَ في باب العبادات أيضًا، فاعلمه.
صحيح البخاري
وبالجملة باب المُسَامَحَات والمروءات مفقودٌ من الفِقْهِ، مع كونه أهم. ومن هذا الباب واقعةُ ليلة البعير، فإنه وإن كان بيعًا أولا، لكنه هِبَةً آخرًا. فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأَضْمَرَ فيها أولا ما أَظْهَرَهُ آخرًا. وهو: رَدُّ بعيره عليه، مع إعطاء الثمن من عنده، لِيَخْلُصَ له بعيره وثمنه، فكأنه أراد به الإِعانةَ بهذه الشاكلة. ولعلَّ في مثل هذه البيوع لا تُرَاعَى شروط البيوع، ولذا أقول فيما أظنُّ - والله تعالى أعلم : إن من البيوع الفاسدة ما لو أتى بها أحدٌ جَازَتْ دِيَانةً، وإن كانت فاسدةً قضاءً. وذلك لأن الفسادَ قد يكون لحقِّ الشرع، بأن اشتمل العقدُ على مَأْثَم، فلا يجوز بحالٍ. وقد يكون الفسادُ لمخافة التنازع، ولا يكون فيه شيءٌ آخر يُوجِبُ الإِثم، فذلك إن لم يَقَعْ فيه التَّنَازُعُ جاز عندي دِيَانةً، وإن بقي فاسدًا قضاءً، لارتفاع عِلَّة الفساد، وهي المُنَازَعةُ. ويَدُلُّ عليه مسائلهم في باب المضاربة، والشركة، فإنها ربما تكون فاسدةً مع أن الرِّبْحَ يكون طيِّبًا، وراجع «الهداية».
(5/94)
---(4/432)
ونبَّه الحافظُ ابن تيمية في رسالته على أن من البيوع ما لا يَقَعُ فيها النِّزَاع، فتكون تلك جائزةً، فإذا أدخلتها في الفِقْهِ وجدتها محظورةً، لأن أكثرَ أحكام الفِقْهِ تكون من باب القضاء، والدياناتُ فيها قليلةٌ. وإنما يُصَارُ إلى القضاء بعد النزاع، فإذا لم يَقَعْ النِّزَاع، ولم يُرْفَعْ الأمرُ إلى القاضي، نزل حكم الديانة لا مَحَالة، فيبقى الجواز.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِه
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الأَرْضِ وَالدُّورِ وَالعُرُوضِ مُشَاعًا غَيرَ مَقْسُوم
وهذا البيعُ جائزٌ عندنا، ولا يَضُرُّه الشيوعُ، بخلاف هِبَة المُشَاع.
فائدة: وعبد الرحمن هذا مدنيٌّ من تعليقات البخاري، دون الواسطيّ، فإنه ضعيفٌ.
صحيح البخاري
باب إِذَا اشْتَرَى شَيئًا لِغَيرِهِ بغَيرِ إِذْنِهِ فَرَضِي
أشار إلى جواز بيع الفضوليِّ، ووافق فيه أبا حنيفة. وكذلك الحكمُ في شراء الفضوليِّ بعد لُحُوق الإِجازة عنده. وهذا الباب معدومٌ عند الشافعيِّ، فلا اعتداد لبيع الفضوليِّ عنده، ولا لشرائه، ولو لَحِقَتْهُ الإِجازةُ.
2215 - قوله: (والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عند رِجْلَيَّ)... إلخ. وهذا عملٌ غيرُ صالح في الظاهر، كيف وأنه ظَلَمَ على الصبيان الصغار المَعْصُومِين، فلم يُسْقِهِمْ لبنًا، وهو ساغبون. نعم نيتُه كانت صالحةً، فأُجِرَ عليها، ولا بُعْدَ أنه لو كان من أهل علمٍ لأُخِذَ عليه، وعُوقِبَ به، فإن صلاحَ النية مع فساد العمل إنما يعتدُّ من جاهلٍ، وقد نبَّهناك غير مرةٍ على أن هذا أيضًا باب في الشرع غَفَلَ عنه الناسُ، أي القَبُولِيَّةُ بحُسْنِ النية، مع الخطأ في العمل. وأسمِّيه صالحًا سفيهًا (نيك بخت بيوقوف)، فإن السفاهةَ قد تَدْعُو إلى مثل هذا الغلوِّ والمبالغة التي لم تُكْتَبْ عليه.
(5/95)
---(4/433)
2215 - قوله: (اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا). واخْتُلِفَ في أنه إن تصرَّف في مال غيره، ثم رَبِحَ فيه، هل يَطِيبُ الربح للمتصرِّف، أو يكون لصاحب المال؟ فذهب أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله إلى أن المالَ إن كان من جنس النقدين طاب للمتصرِّف، وإن كان من القروض فهو أيضًا يَمْلِكُهُ، لكن بِمِلْكٍ خبيثٍ، إلا أن خُبْثَه لحقِّ الغير، فلا يَظْهَرُ في حقِّه.
ونُقِلَ عن أبي يوسف: أن الربحَ يكون للمتصرِّف في الفصلين بلا خُبْثٍ. وحُكِيَ عنه أنه كان يتَّجِرُ في أموال اليتامى في زمن قضائه، فَيَرْبَحُ فيه، فيجعل الأصلَ محفوظًا على حاله، ويأخذ الربحَ لنفسه. واعْتَرَضَ عليه بعضُ من لا فِقْهَ له في الدين، ورَمَاه بأنه كان يَأْكُلُ أموال اليتامى، وحَاشَاهُ أنه يَهِمَّ به. ولكنه عَمِلَ بما عمل به أبو موسى من قبله.
(5/96)
---(4/434)
ففي «الموطأ» لمالك في باب ما جاء في القراض: مالك، عن زَيْد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: «خرج عبد الله، وعُبَيْد الله ابنا عمر ابن الخطاب في جيشٍ إلى العراق، فلمَّا قَفَلا مَرَّا على أبي موسى الأشعريَّ - وهو أميرُ البَصْرَة - فَرَحَّبَ بهما، وسَهَّلَ، ثم قال: لو أَقْدِرُ لكما على أمر أَنْفَعُكُمَا به لَفَعَلْتُ، ثم قال: بلى، ههنا مالٌ من مال الله أُرِيدُ أن أَبْعَثَ به إلى أمير المؤمنين فَأُسْلِفُكُمَاة، فتبتاعان به متاعًا من متاع العِرَاق، ثم تَبِيعَانِهِ بالمدينة. فَتُؤَدِّيَانِ رأسَ المال إلى أمير المؤمنين، فيكون لكما الربحُ. فقال: وَدِدْنَا، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطَّاب أن يأْخُذَ منهما المال. فلمَّا قَدِمَا باعا، فَربِحَا. فلما رَفَعَا ذلك إلى عمر ابن الخطَّاب، فقال: أَكُلُّ الجيش أَسْلَفَهُ مثل ما أَسْلَفَكُمَا؟ قالا: لا. فقال عمر بن الخطَّاب، ابنا أمير المؤمنين فأَسْلَفَكُمَا، أدِّيَا المالَ ورِبْحَه. فأمَّا عبد الله فَسَكَتَ، ورَاجَعَهُ عُبَيْد الله. فقال رجلٌ من جُلَسَاء عمر: ياأمير المؤمنين، لو جَعَلْتَهُ قِرَاضًا. فقال عمر: جَعَلْتُهُ قِرَاضًا - أي مُضَارَبةً - فأخذ عمر رأس المال ونِصْفَ رِبْحِهِ، وأخذ عبد الله، وعُبَيْد الله نِصْفَ رِبْحِ المال».
صحيح البخاري
ففيه دليلٌ على جواز الاكتساب من مال الله عند أبي موسى، وتقريرٌ من عمر، فإنه لم يَقْدَحْ في إسلافه، ولكنه خَشِيَ أن يكونَ ذلك رُشْوَةً، لأنهما كانا ابناه، فقال ما قال.
ونقل في «الدر المختار»: أن أبا يوسف كان يبكي حين احْتَضَرَ، وكان يذكر أن ذِميًّا ادَّعَى على الرشيد أمير المؤمنين، فَرَاعَيْتُ الذِمِّيُّ، وكان يقول: إنه لم يُخْطِىء في غير ذلك فيما يظنُّ.
(5/97)
---(4/435)
قلتُ: ولو كانت الدنيا دَعَتْهُ إلى هذه الرعاية، لرجَّح أميرَ المؤمنين، ولكنه رجَّح الذميَّ عليه. فَظَهَرَ أنها كانت لأمرٍ غير ذلك، فما ظنُّك برجلٍ هذا شأنه؟ ولكن من لا دينَ له يُرِيدُ أن يَصْرِفَ وجوه الناس إليه بكل حِيلةٍ.
صحيح البخاري
باب ُ الشِّرَاءِ وَالبَيعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الحَرْب
يعني به أن اتحاد الملة ليس بشرط في البيع.
2216 - قوله: (مُشْعَانٌّ) أي مُسْتَنِدًا.
صحيح البخاري
باب شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِه
وفيه مسألتان: الأولى: أن العبدَ هل يُمْكِنُ أن يكونَ تحت مُشْرِكٍ، فإن الظاهرَ يأباه، فإنه يكونُ بإِيجاف الخيل عليهم وأَسْرِهِمْ، وإحْرَازِهم إلى دار الإِسلام، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك فيهم. نعم يُمْكِنُ ذلك فيهم بطريق الغَصْب، ونحوه.
والثانيةُ أنه هل يَجُوزُ الشراء منه، وهل يَصْحُّ مْلْكُه عليه. واعلم أنه لا استرقاقَ في رجال العرب عند أبي حنيفة، وليس فيهم إلا السيف، أو الإِسلام. فإن ارتدَّ أحدٌ منهم، فهو واجبُ القتل. نعم يجوز استرقاق ذُرِّيَّتهم. ولا يَظْهَرُ ممَّا نَقَلَهُ البخاريُّ من القصة جواز الاسترقاق المُخْتَلَفِ فيه. فإن مسألة الإِمام الأعظم فيما بعد الدورة الإِسلامية، وتلك قصةٌ ممن سَبَقَ قبلها، فلا حُجَّةَ فيها علينا.
(5/98)
---(4/436)
قوله: (وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّملسَلْمَان: كَاتِبْ، وكان حُرًّا، فَظَلَمُوه وباعُوه) اه- . وعند البخاريِّ عن سلمان: «أنه تَدَاوَلُه بضعة عشرة من ربًّ إلى ربًّ، اه- . وأنه لقي وصيَّ عيسى عليه الصلاة والسلام أيضًا، وذلك لأن زمن الفترة بين النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبين عيسى عليه الصلاة والسلام خمس مئة وسبعون سنة - 570 - على حساب التوراة، فعاش ذلك الوصيِّ إلى زمنٍ طويلٍ بعده عليه الصلاة والسلام، وعمر سَلْمَان كان مائتان وخمسون سنة، فَحَصَل اللقاء لطول العمرين. وكان سلمان يَسِيحُ في الأرض لطلب دين الله حتى أُسِرَ، وجُعِلَ رقيقًا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم ثم كان من أمره، كما في «شمائل الترمذي»، فإنه جاءه أول يومٍ بصدقةٍ، فلم يَقْبَلْهَا، ثم جاء بعده بهديةٍ فَقَبِلَها، وكان وُصِفَ به في التوراة، فأَسْلَم سَلْمَان، ثم أمره أن يُكَاتِبَ سلمانُ مولاه، فَقَبَلَهُ على أن يَغْرِسَ له سَلْمَان نخيلا حتى تُؤكَلَ. فَغَرَسَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبيده الكريمة نخيلا غير نخلةٍ، فأَثْمَرَتْ كلُّها غير تلك. ففتش عنها، فعلم أنه غَرَسَهَا عمر. فَغَرَسَهَا ثانيًا بيده الكريمة، فأَثْمَرتْ أيضًا من تلك السنة، فعُتِقَ على ذلك.
وغرضُ البخاريِّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا أمره أن يُكَاتِبَ من اليهوديِّ عَلِمَ أنه قرَّر مِلْكَهُ عليه. وعند أبي داود ما يَدُلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يتعرَّض إلى معاملات الجاهلية، وقال: «ما كان من قسم الجاهلية فعلى ما كان، وأمَّا ما أوجده الإِسلامُ، فيكون كما حَكَمَ به».
صحيح البخاري
قوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآء} (النحل: 71)أي ليسوا بسواءٍ، وذكر الزَّجَّاج: أن الجملةَ الاسميةَ قد تَجِيء لمعنى الإِنكار أيضًا.
(5/99)
---(4/437)
2217 - قوله: (فَقامَتْ تَوَضَّأُ وتُصَلِّي)... إلخ، دَلَّ على أن الوضوءَ كان في الأمم السالفة أيضًا، وكذا الصلاة.
2217 - قوله: (وأَخْدَمَ وَلِيدَةً) وهي هَاجَرَ عليها السلام، أم بني إسماعيل.
واعلم أن التحقيق: أن هَاجَرَ عليها السلام لم تَكُنْ أَمَةً، بل كانت بنتًا للملك، وكان هذا الملك من ذُرِّيَّة سام بن نوح عليه الصلاة والسلام. وأمَّا أهلُ مصره فكانوا من ذُرِّيَّة حام، فكان يُحِبُّ أن يُزَوِّجَ ابنته رجلا من أسرته، حتى إذا مرَّ به إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام مع زوجته سارة، - وكان من سام - فأَسَرَهَا، وأراد بها ما أراد. فلمَّا رَدَّ اللهاُ كَيْدَه في نحره، تفطَّن أن زوجَها مقرَّبٌ من المقرَّبين، فأراد أن يُنْكِحَهُ ابنته. ومن دَأْبِ الناس أنهم إذا أرادوا أن يُنْكِحُوا بناتهم أحدًا يقولون مثل هذه الكلمات، هَضْمَا لأنفسهم، فيقولون: نُعْطِيكَ وليدةً. فهذا العُرْف قد جرى في الحرائر أيضًا، لا سِيَّما إذا ظنَّه مُقَرَّبًا، فَنَاسَبَ أن يقول: وليدةً.
هكذا حقَّقه عالمٌ من جريا كوت حين أمره بعضٌ من المتنوِّرين من بلادنا أن يُؤَلِّفَ رسالةً على هذا الموضوع. وإنما حَمَلَهُ على ذلك الظنّ بأن في التوراة أن أولادَ الإِماء يكون محرومَ الإِرث، لا يَرِثُ مالا ولا نُبُوَّةً.
قلتُ: أمَّا ما حقَّقه في هَاجَرَ عليها السلام، فهو صوابٌ. وأمَّا ما ذكره من قصة حرمان الإِرث، فليس بصحيحٍ. فإنه لا لُزُومَ بين حرمان الإِرث، والحرمان عن النُّبُوة. ولو سلَّمناه، فلا يَلْزَم أن تُحْرَمَ الذُّرِّيةُ بأسرها من النُّبُوة، على أن في التوراة وَصْفَ إسماعيل عليه الصلاة والسلام أزيدُ من وصف إسحاق عليه السلام، بل فيه: إني سأبعث من ذريته: (بارامير).
2219 - قوله: (ولكِنِّي سُرِقْتُ)... إلخ، كان صُهَيْب من العرب، واسْتُرِقَّ في صباه ظلمًا، فكان في العجم إلى زمنٍ، ولذا تغيَّر لسانهُ، ولذا اعتذر عنه.
(5/100)
---(4/438)
صحيح البخاري
باب جُلُودِ المَيتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغ
وهذا البيع لا يَجوزُ عندنا، كما في «الهداية».
صحيح البخاري
باب قَتْلِ الخِنْزِير
2222 - قوله: (حَكَمًا)، أي لا يكون نبيًّا، ثم إنه يكون حَكَمًا بين اليهود والنصارى. أمَّا اليهودُ فيقتلهم، وأمَّا النصارى فَيُؤمِنُونَ به.
2222 - قوله: (مُقْسِطًا)، أي من يزيل الجَوْر.
2222 - قوله: (فيَكْسِرَ الصَّلِيبَ)، لأنه رَاجَ الصليبُ باسمه.
2222 - قوله: (يَقْتُلَ الخِنْزِيرَ)، لأنه استحلَّه النصارى، مع أنه حرامٌ في شرعنا، وكذا في شرع عيسى عليه الصلاة والسلام أيضًا. وما في بعض كُتُبِنَا أنه كان حلالا فيهم، فليس بصحيحٍ. بل الأصلُ أنه حَرُمَ عليهم كل ذي ظُفُرٍ، كما في نصِّ القرآن. فاختلفوا في تأويله، فظنَّ النصارى أن الخنزيرَ ليس منه، فجعلوه حلالا من اجتهادهم الفاسد، لا أنه كان حلالا في شرعهم.
2222 - قوله: (يَضَعَ الجِزْيَةَ)، وهذا تشريعٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّملزمنه: أن لا يكونَ فيه إلا الإِسلام، أو السيف، فلا يَلْزَمُ النسخ. ثم الدنيا لمَّا كانت في زمنه على شرف الزوال، نَاسَبَ أن تَسْقُطَ الجِزْيَةُ، ولا يبقى إلا الإِسلام، أو السيف. ومن ههنا تبيَّن الحكمة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ووظائفه التي يَنْزِلُ لها.
وحاصلُه: أنه لا يَنْزِلُ بوظائف النبوة، ولا يَلْزَمُهُ سلب النبوة عنه، فإنه كان رسولا إلى بني إسرائيل بالنصِّ. ونزولُهُ فينا، كدخول يعقوب عليه الصلاة والسلام مصر في نبوة يوسف عليه السلام. وأمَّا لعين القاديان الشقي المتنبِّىء الكاذب، فلم يُوجَدْ فيه شيءٌ من ذلك، لم يَحْكُمْ بين اليهود والنصارى بشيءٍ، بل أَكْفَرَ المسلمين، وأَعَانَ الصليبَ، وجمع المالَ حتى ذاق طينة الخَبَال، فكيف يدَّعي أنه عيسى؟.
(5/101)
---(4/439)
ثم اعلم أن الحديثَ لم يُخْبِرْ بأن الإِسلامَ يُحِيطُ في زمنه على البسيطة كلِّها، كيف ولا يُدْرَى أنه يَمْزِلُ بكلِّ بلدٍ. ولكنه - والله تعالى أعلم - يَشِيعُ الإِسلامُ حيث يكون عليه الصلاة والسلام. فما أَخْبَرَ به الحديث إنما هو شيوع الإِسلام بموضع نزوله وتَطْوَافِهِ، وأمَّا في غير ذلك، فالله أعلم بحاله، ما يكون فيه. لا أقول: إن الإِسلامَ لا يكون في جميع الأرض، ولكن أقول: إن الأحاديثَ لم تَرِدْ به. فذا أمرٌ تحت أستار الغيب بعدُ، فجاز أن لا يبقى في الأرض كلِّها إلا الإِسلام، وجاز أن تَكونَ تلك الغلبة الموعودة بمكان نزوله وحَوَالَيْهِ فقط.
أمَّا مُكْثُهُ عليه الصلاة والسلام بعد النزول، فالصوابُ عندي فيه أربعون سنةً، كما عند أبي داود: «فيَمْكُثُ في الأرض أربعين سنةً، ثم يتوفَّى، فيصلِّي عليه المسلمون». اه- . وأمَّا ما تُوهِمُهُ رواية مسلم: «أنه يَمْكُثُ في الأرض سبع سنين»، فهو مدَّة مُكْثِهِ مع الإِمام المهدي، كما عند أبي داود: «وبعد تمام سبع سنين يتوفّى الإِمام، ويَبْقَى عيسى عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ثلاثًا وثلاثين سنةً».
صحيح البخاري
وأمَّا رَفْعُهُ، فكان على ثمانين سنة، وصحَّحه الحافظ في «الإِصابة»، وهو الذي رجع إليه السيوطي في «مرقاة الصعود».
وأمَّا مجموع عمره عليه الصلاة والسلام فمئةٌ وعشرون، نُبِّىءَ على أربعين منها، ورُفِعَ على ثمانين، ويَمْكُثُ في الأرض أربعين. وقد مَضَى منها ثمانون، فبَقَيَ أربعون. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «وإن عيسى عليه الصلاة والسلام عاش مئةً وعشرين، ولا أُرَاني ذاهبًا إلا على ستين» - بالمعنى ، يعني به نصف مجموع عمر عيسى عليه الصلاة والسلام. وإنما قال: «عاش» - بصيغة الماضي - لكون أكثره ماضيًا، ونزولُه معلومًا. وإنما لم يَفْصِلْ بين ثمانين وأربعين، لأن المقصودَ كان بيان التنصيف، والإِجمالُ في مثله شائعٌ.
(5/102)
---(4/440)
ثم إن التنصيفَ باعتبار أُولِي العَزْمِ من الأنبياء عليهم السلام الذين جَرَى بذكرهم التأريخ، أو بحسب المجموع، لا بِحَسَبِ الأشخاص والأفراد، فاعلمه. وهو الذي يُنَاسِبُ، فإن الحسابَ يكون باعتبار الوقائع المهمة، وبها يَنْضَبِطُ التاريخ.
صحيح البخاري
باب لا يُذَابُ شَحْمُ المَيتَةِ وَلا يُبَاعُ وَدَكُه
الشحمُ: ما كان مُنْفَصِلا عن اللحم، وما كان داخلا في اللحم، فهو وَدَكٌ.
2223 - قوله: (بلغ عُمَرَ أن فُلانًا بَاعَ خَمْرًا)، وقصته أن سَمُرَة كان عَاشِرًا من جانب عُمَرَ، فمرَّ عليه الذميُّ بالخمر، فأخذ منه العُشْرَ، فَبَلَغَ ذلك عُمَرَ، وقال كما في الحديث. وفيه زيادة ذكرها الحافظ في «الفتح»: أن عمر قال: «وَلُّوهم بيعَها». اه- . وهذا وإن كان في مسألة العُشْرِ، لكنه دَلَّ على أن مسلمًا لو وَكَّلَ ذميًا ببيع خمرٍ، طاب له ربحُهُ.
صحيح البخاري
باب بَيعِ التَّصَاوِيرِ التَّيِ لَيسَ فِيهَا رُوحٌ، وَما يُكْرَهُ مِنْ ذلِك
صحيح البخاري
باب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ في الخَمْر
واعلم أن مسألةَ فعل التصوير مسألةٌ أخرى. وأمَّا مسألةُ المصوَّرَات، ففصَّلها الشيخُ ابن الهُمَام في «الفتح» على أحسن وجهٍ، وضَبَطَهَا في عِدَّة سطورٍ، فراجعها.
صحيح البخاري
باب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا
2227 - قوله: (أَعْطَى بي)، ولعلَّه يَنْسَحِبُ على العهود العامة أيضًا.
صحيح البخاري
باب أمْرِ النبي صلى الله عليه وسلّماليَهُودَ بِبَيعِ أَرَضِيهِمْ ودِمَنِهِمْ حِينَ أجْلاهُم
(5/103)
---
واعلم أن بني النَّضِير لمَّا أُجْلُوا، قيل لهم: أن بيعُوا المنقولاتِ من أموالكم، وأمَّا الأراضي فهي لله ولرسوله، هكذا في كُتُبِ السِّيَرِ عامةً. ويمكن أن يكونَ أَمَرَ بعضَهم ببيع الأراضي أيضًا، كما في ترجمة البخاريِّ.
صحيح البخاري
باب بَيعِ العَبِيدِ وَالحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئة
صحيح البخاري
باب بَيعِ الرَّقِيق(4/441)
ويَجُوزُ بيعُ الحيوان بالمتعدِّد عندنا، لأنه ليس من الأموال الرِّبَوِيَّة، وهو قيميٌّ، وليس بمثليَ. أمَّا إذا كان نَسِيئةً، فلا يجوز عندنا، سواء كان من الطرفين، أو عن طرفٍ. وخَالَفَنَا الشافعيُّ في الثاني. قُلْنَا: إنه قيميٌّ، فلا يَصْلُحُ أن يكونَ واجبًا في الذِّمَّةِ، ولا بُدَّ من كونه مشارًا إليه، بخلاف المثليِّ، فإنه يَصْلُحُ أن يكونَ واجبًا في الذِّمَّة. ولنا ما أخرجه الترمذيُّ، وصحَّحه: «نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نَسِيئةً». قال الشافعيةَ: هذا إذا كان نسيئةً من الطرفين. قال مولانا شيخُ الهند: وهذا ليس بسديدٍ، لأن كون المناطُ نسيئةً من الطرفين لم يتعرَّض له في هذا الحديث، بل هو مدلولُ حديث النهي عن الكاليء بالكاليء. وإنما المناطُ في هذا الحديث كون الحيوانُ من الطرفين، مع كون واحدٌ منهما نسيئةً. وإرجاعُ هذا إلى ذلك إلغاءٌ لأحد الحديثين، وحملُ الحديثين على المعنيين أَوْلَى.
قوله: (واشترى ابنُ عُمَرَ راحلةً بأربعةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عليه، يُوفِيها صَاحِبَهَا بالرَّبَذَةِ)، قوله: «مَضْمُونَةٍ عليه» يعني (دَين دارهى أون أونتوكا). قلتُ: والظاهر أن الأَبْعُرَةَ كانت متعيِّنةً موجودةً. نعم القبضُ عليها كان بالرَّبَذَةِ، فهذا تَرَاخٍ في القبض، وليس البيعُ نسيئةً.
(5/104)
---
قوله: (وقال ابنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ، ودِرْهَمٌ بدرهم نَسِيئَةً). قلتُ: إن بيعَ الدِّرْهَم بالدِّرْهَمِ نسيئةً حرامٌ بالإِجماع، ولم يَشْرَحْ أحدٌ منهم ما أراد به ابن سِيرِين. والوجهُ عندي أن يُقَالَ: ءن قوله: «نسيئة» يتعلَّق بالبعير والبعيرين، دون بيع الصَّرْف، فهو مطلقٌ، ولا ريب في جواز بيع الدرهم بالدرهم. والذي صَرَفْنَا إليه قول ابن سِيرِين أَوْلَى من أن يُحْمَلَ على ما يُخَالِفُ الإِجماع.(4/442)
2228 - قوله: (كان في السَّبْي صَفِيَّةُ)... إلخ، واشتراها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبست رؤوسٍ، وفيه الترجمة.
صحيح البخاري
باب بَيعِ المُدَبَّر
قد مرّ منا التنبيه على أن المصنِّفَ ترجم على جواز بيع المُدَبَّرِ أيضًا، مع الإِشارة إلى أن بيعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكان من قَبِيلِ التعزير، وهذا يُوجِبُ أن لا يكونَ بيعُه جائزًا عنده، فتهافتت تراجمه. ويُمْكِنُ أن يُقَالَ: إن الأَصلَ عنده جوازُ البيع، وإنما التعزيرُ ببيعه بنفسه فقط، يعني بدون استفسارٍ منه. وقد مرَّ عن الدارقطنيِّ ما يَدُلُّ على أن البيعَ يمكن أن يكونَ محمولا على الإِجارة أيضًا.
صحيح البخاري
باب هَل يُسَافِرُ بِالجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَها
(5/105)
---
والسفرُ بها جائزٌ عندنا. أمَّا الاستمتاعُ بالوَطْءِ، أو دَوَاعِيهِ، فلا يجوز، كما ذَهَبَ إليه ابن عمر، وهو مذهبُ العلماء كافةً، إلا أنه لا اسْتِبْرَاءَ عنده في العَذْرَاءِ، وفيها عندنا ذلك. قال الشافعيةُ في أصول الفِقْهِ: إن الحكمَ الشرعيَّ لا ينبغي أن يَخْلُوَ عن الحكمة. ومرادُهم به عدم خلو ذلك النوع، لا أن تتحقَّقَ تلك الحكمة في جميع الجزئيات من ذلك النوع أيضًا. ثم جاء شارحُ «الوقاية» وأوضحه، وزاد من عنده قيدًا آخر، وقال: إن المرادَ من النوعِ النوعُ المنضبطُ، وهو الذي تُعْرَفُ جزئياته من وصفه العنواني، ولا يبقى فيها شبهةٌ.(4/443)
وإذن الأصلُ أن لا يَخْلُوَ النوعُ المنضبطُ عن الحكمة، أمَّا النوعُ المنتشرُ، فيمكن أن يَخْلُوَ عنها. والعذراء ههنا نوعٌ منضبطٌ يُعْرَفُ بهذا الوصف ما صدقاته بدون ارتيابٍ وشبهةٍ، مع خلوه عن الحكمة. فإنها لا تحتاجُ إلى استبراءٍ أصلا، لأنه لا احتمالَ فيها بشغل الرَّحْمِ، والاستبراءُ يكون له فقط. فحكمُ الاستبراء في العَذْرَاءِ حكمٌ خالٍ عن الحكمة. وكذا أوردوا علينا مسألَةَ نكاح المشرقية بالمغربي، حيث يَثْبُتُ النَّسَبُ عندنا مع عدم إمكان الوطء فيها، وقد فَرَغْنَا عن جوابها. أما مسألة الاستبراء، فقد أجاب عنها الشيخ ابن الهمام: بأنه لا يُشترط تحقق تلك الحكمة حقيقةً، بل يكفي تحقُّقها تقديرًا أيضًا. كما قالوا فِيَمَنْ أَسْلَمَ في آخر ساعة الظهر، أو طَهُرَتْ فيها الحائضة: إن الصلاةَ تَجِبُ عليها، مع عدم التمكُّن على الأداء. فإن القدرةَ وإن انْتَفَتْ ههنا حقيقةً، لكنها متحققةٌ باعتبار التوهُّم، فعُلِمَ أن تحقُّقَها باعتبار التوهُّم أيضًا كافٍ.
(5/106)
---
قلتُ: وهذا الجواب ليس بمرضيَ عندي، وما أشبهه بأجوبة المعقوليين، فالجواب عندي: بأن الحملَ يُمْكِنُ في العَذْرَاء حقيقةً، كما في «قضيخان»، ولعلَّه في باب الحظر والإِباحة: أن رجلا لو كان يُبَاشِرُ زوجتَه البِكْرَ، فدخل الماءُ في رحمها عَلِقَت، فالعُذْرَة تُزِيلُها القابلةُ بيدها. ولو كانت المسألة في ذهن الشيخ لَمَا احتاج إلى هذا التأويل البعيد الذي صار مطْعَنًا للقوم. وأمَّا مسألةُ وجوب الصلاة، فليس مبناها على تَوَهُّم القدرة، بل سببُ الوجوب عندهم هو جزءٌ من الوقت، وقد وُجِدَ، وليس تمامَ الوقت.(4/444)
2235 - قوله: (ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ)... إلخ، وقد كانت صَفِيَّةُ رَأَتْ قبله رُؤْيَا: أن القمر في حِجْرِهَا، فقصَّتْها على زوجها، فَنَهَرَهَا، وقال: أَتُرِيدُ أن تَنْكَحَ هذا الصَّابيء. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا دخل المدنيةَ جاء والدها وعمها لِيَرَوْهُ، فقصَّا عليَّ قصصهما مَحْزُونَيْن مَهْمُومَيْنِ، قالت صَفِيَّةُ: قال والدي: أهوهو؟ قال عمِّي: نعم. قال: فماذ نفعل؟ قال: نُخَالِفُهُ، ولا نُؤْمِنُ به. قال أبي: وذاك إرادتي. فصَفِيَّةُ كانت سَمِعَتْ تلك القصة. وهي صغيرةٌ. وعندي مذكرةٌ علَّقتها في أنَّ أَنْكِحَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكلَّها كانت من أسبابٍ سَمَاوِيَّةٍ، وقد عَلِمْتُ شيئًا منه في صَفِيَّةَ رضي الله تعالى عنها.
صحيح البخاري
باب بَيعِ المَيتَةِ وَالأَصْنَام
صحيح البخاري
باب ثَمَنِ الكَلب
(5/107)
---
2237 - قوله: (ومَهْرِ البَغِيَّ)، وترجمة المهر ههنا (خرجى). واعلم أنه وَقَعَ في «حاشية جَلَبي على شرح الوقاية»: أن أجرةَ الزانيةِ حلالٌ عند أبي حنيفة، وهو شنيعٌ جدًا، ومُخَالِفٌ للنصِّ أيضًا. فأَجاب عنه مولانا الكَنْكُوهِي: بأن ما كَتَبَه جَلَبي مسألةٌ من باب الإِجارة الفاسدة، كما يُعْلَمُ من صنيع أصحابنا، فإنهم لم يَذْكُرُوها إلا في هذا الباب، فدلَّ على ما قَصَدُوه، فلا يكون المعقودُ عليه هو الزنا. وصورةُ المسألة: إن استأجر امرأةً لِتَخْبِزَ مثلا، واشْتَرَطَ أن يَطَأَهَا أيضًا، فهذا الشرطُ فاسدٌ. والمسألةُ في الإِجارة الفاسدةِ عندنا: أن الأَجرَ فيها طيبٌ، لكونها مشروعةً بأصلها، وغير مشروعةٍ بوصفها، فلا تكون باطلةً من كل وجهٍ. فالأجرةُ ههنا على الخبز، ولا خَبْثَ فيه، وإنما الخبثُ، لمعنى خارجٍ، وليست الأجرةُ بدلا عنه، فتبقى طيبةً لا مَحَالَةَ.(4/445)
أقول: لكن يَرِدُ عليه أن المسألةَ عندنا أعمُّ من الإِجارة الفاسدة، كما في «الشامي»، نقلا عن «المحيط»: أن ما أخذته الزانيةُ، إن كان بعقد الإِجارة فحلالٌ، وإلا فحرامٌ اتفاقًا. فهذا يَدُلُّ على كون الزنا نفسه معقودًا عليه، مع التصريح بكون أجرتُه حلالا، فدَلَّ على أن المسألةَ لا تَقْتَصِرُ على الوجه المذكور.
(5/108)
---
ثم العجبُ أن أصحابَنا نَقَلُوا الإِجماعَ على حُرْمَةِ أجرة الزنا أيضًا، كما في «البحر». وهكذا نقله النوويُّ. وقد مرَّ الحافظُ ابن تَيْمِيَة على تقرير تلك المسألة في كتابه «الصراط المستقيم». ويُسْتَفَادُ منه أيضًا: أن المسألةَ عندنا أعمُّ من الإِجارةِ الفاسدةِ، وغيرها، وحينئذٍ يَعُودُ المحذورُ. ولم يتعرَّضْ ابن تَيْمِيَة إلى هذه المسألة، بل قال: إن الإِجارةَ على عملٍ خاصٍ، تَقَعُ على مطلق العمل. فمن اسْتَأْجَرَ رجلا لِيَحْمِلَ إليه الخمرَ، فهو جائزٌ، لأن الإِجارةَ، وإن كانت على خصوص حمل الخمر، لكنها تَقَعُ على مطلق العمل، فيجوز له أن يَأْمُرِهُ بحمل الماء مكان الخمر. فَخَرَجَ من تعليله هذا: أن المسألةَ عندنا لا تَقْتَصِرُ على الوضع الذي ذُكِرَ، وإن كان الفقهاءُ ذكروها في باب الإِجارة الفاسدة.
فالجوابُ عندي: أن أصلَ تلك المسألة في «المحيط» للبرهاني، ويُعْلَمُ منه: أن المسألةَ مفروضةٌ بين المولى وجاريته خاصةً، فإن آَجَرَهَا المولى للزنا، وجعل له أُجْرَةً طابت له الأُجْرَةُ، لكون المعقودُ عليه فيها تسليمَ النفس دون الزنا خاصةً. فإن زَنَتْ من غير أن يُؤْجِرَهَا المولى لا تَطِيبُ له الأجْرَةُ، لأنها لا تَمْلِكُ منافعَ بُضْعِهَا، فلا تَمْلِكُ إجارتها أيضًا. نعم يَجِبُ له العُقْرُ، ويَسْقُطُ الحدُّ. فإن وجوبَ المهر، أو العُقْرِ يَمْنَعُ وجوب الحدِّ عندنا.
صحيح البخاري
(5/109)
---(4/446)
وقد ذَكَرَ الحنفيةُ: أن الأجيرَ على قسمين: أجيرٌ مطلقٌ، وذلك يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ بتسليم النفس، ولو لم يَعْمَلْ شيئًا. والثاني: أجيرٌ مُشْتَرَكٌ، ويكون المعقودُ عليه فيها عملا خاصًا، فلا يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ إلا بعد عمله، كالقَصَّار، والخيَّاط، والصبَّاغ. فإن جَعَلَ تسليمَ النفس، والعملَ كليهما معقودًا عليه، فَسَدَتِ الإِجارة، كما في «ما لا بد منه» - رسالة بالفارسية - للشيخ العارف بالله ثناء الله الفاني فتى، من أَجِلَّة علماء الهند. وهناك قسمٌ ثالثٌ أيضًا، وفيه بحثٌ، وراجع له «الدرر والغرر».
وبالجملة كانت المسألةُ مختصةً بالمولى وجاريته، فأَجْرَاها الشاميُّ بين الحرائر أيضًا، مع أنه لا تعلُّق لها بالحرائر. ثم ذاك أيضًا بحسب زمانهم، فإنهم كانوا في زمانٍ لم تَكُنْ الإِجارة على الزنا شَاعَتْ فيه. وإنما كان الفُسَّاقُ يَحْتَالُون له، فيستأجرون الجواري على طريق الأجير المطلق، ثم كانوا يَزْنُونَ بهنَّ أيضًا، فساغ للفقهاء أن يَحْمِلُوها على تسليم النفس، تصحيحًا للعقد مهما أمكن، وحملا لحال المسلم على الأَصْلَح. وإن كان عَقَدَ على الزنا وسمَّاه، فإنه من مسخ فطرته، وسوء بِطَانَتِهِ، فلا يُلْتَفَتُ إليه، ولا يُصْغَى لقوله، كما مرَّ عن ابن تيمية: أن الإِجارةَ على حمل الخمر تَنْصِرفُ إلى مطلق الحمل.
أمَّا إذا شاعت الإِجارةُ، والاستئجارُ في الزنا، كما في زماننا، تعذَّرَ التأويلُ المذكورُ، وتعيَّن كون الزنا هو المعقودُ عليه، فَتَحْرُمُ الأجرة مطلقًا. أمَّا في الحرائر فظاهرٌ، وأمَّا في جاريته فلانقلاب الحال.w
(5/110)
---(4/447)
ومن ههنا ظَهَر سرُّ الفرق بين أجرة النائحة والمغنية، حيث جَزَمَ فقهاؤنا بحُرْمَةِ أجرة المغنية والنائحة، كما في «الكنز» مع جريان هذا التأويل فيهما أيضًا. وذلك لأنهم لمَّا نَظَرُوا في زمانهم، وجدوا الإِجارةَ قد فَشَتْ في باب الغناء والنَّوْح، فجعلوهما معقودًا عليه، ولم يَحْمِلُوها على تسليم النفس. بخلاف الزنا، فإنهم لم يَجِدُوا الإِجارةَ فيه شائعة، كما في زماننا. فإن الناسَ لقلَّة الدين والدِّيَانة، وضعف الإِيمان والأمانة، يستأجرون ولا يُبَالُون، يَزْنُونَ ولا يَسْتَحْيُون، فكيف يكون اليوم لهم التأويلُ. وإلا فلا أعرف فرقًا بين النوعين، حيث حَرُمَتْ الأجرة في الغناء، وطابت في الزنا، مع كون الزنا أشنعَ وأفحشَ، ويَلْحَقُ به ما عند البخاريِّ في كتاب الإِكراه، باب إذا اسْتُكْرِهَتْ المرأة على الزنا، فلا حدَّ عليها، وعن الزهريِّ: «أنه لو زنى أحدٌ من أَمَةٍ بِكْرٍ يَجِبُ عليه الحدُّ، وضَمِنَ النقصان».
صحيح البخاري
وفي «الهامش»، وهو قول مالك، وإسحاق، وأبي ثَوْر: فكما أن إيجابَ الضمان في الصورة المذكورة لا يُعَدُّ أجرةً لزناه، بل يُعَدُّ ضمانًا للنقصان، كذلك الأجرة فيما نحن فيه، لا تكون أجرةً للزنا، بل أجرةً للحبس، وتسليم النفس. ثم إن عبارة «المحيط» تقتضي أن تلك المسألة لعلَّها حَدَثَتْ من لفظ المهر، فإنه يقتضي تَمَادِي تلك المعاملة، وطول فيها، وذاك إذا كانت بطريق الاستئجار. بخلاف لفظ الأجرة، فإنه لا يقتضي ذلك، ويأتي في الزنا مرةً أيضًا. فلمَّا نَظَرُوا لفظَ المهر، وضعوا المسألةَ في الإِجارة لذلك. ولذا عَدَلْتُ عن ترجمته، إلى الترجمة ب- (خرجى)، فإنه يُسْتَعْمَلُ في معنى الأُجْرَةِ.
(5/111)
---(4/448)
ومحصِّلُ الكلام، وجملةُ المرام: أن أجرةً الزنا حرامٌ عندنا أيضًا، أمَّا في الحرائر فمطلقًا، وأمَّا في الإِماء فكذلك، إلا ما وقع بين المولى وجاريته، ثم ذلك أيضًا في الزمن القديم. أمَّا اليوم، فلا تَحِلُّ مطلقًا، لا في الحرائر، ولا في الإِماء، لا في حقِّ مَوَالِيهنَّ، ولا في حقِّ غيرهم. وكان الواجبُ على أصحابنا أن يَنْظُرُوا في عبارة «المحيط»، ولا يَهْدِرُوا القيودَ المذكورةَ فيها، لئلا يَرِدَ علينا ما أورده الخصوم. ولكن الله يَفْعَلُ ما يشاء؛ ويَحْكُمُ ما يريد، والله تعالى أعلم، وعلمُه أحكم.
فائدةٌ: واعلم أن «المحيط» اثنان: الأول للبرهاني، لجدّ شارح «الوقاية» وقد ذَكَرَ مولانا عبد الحيِّ أنه في أربعين مجلدًا، وقد رأيته في خمس مجلدات. والثاني للشيخ رضي الدين السَّرَخْسِيِّ، فاعلمه.
صحيح البخاري
كتاب السَّلَم
صحيح البخاري
باب ُ السَّلَمِ في كَيلٍ مَعْلُوم
صحيح البخاري
باب ُ السَّلَمِ في وَزْنٍ مَعْلُوم
واعلم أنه ليس في فِقْهِ الحنفية بيعٌ يكون المبيع فيه معدومًا غير السَّلَم، ولذا شَرَطُوا فيه: بيان القدر والجنس، ورأس المال، ومكان التسليم، وغيرها ليكونَ بعد التعيين كالموجود، ويَقْرُبَ إلى الانضباط، لئلا تجري فيه التنازعات، وقد نَظَمَهُ الجاميُّ في بيتٍ:
*قدر وجنس است وصف ونوع وأجل
** جاي تسليم است رأس مال سلم
ثم إن المُسْلَمَ فيه عندنا يكون من أربعة أنواع: المَكِيلات، والمَوْزُونَات، والمَذْرُوعَات، والمَعْدُودَات المتقاربة. والمتأخِّرون أَلْحَقُوا به الاسْتِصْنَاعَ أيضًا، وينبغي أن لا يكونَ صحيحًا على الأصل. واختلط باب الرِّبا من باب السَّلَم على مِيْرزَاجَان - المُحَشِّي للهداية ، فكَتَبَ: أن الرِّبا يجري في الأشياء الأربعة، مع أن الرِّبا لا يجري إلا في المكيلاتِ، والمَوْزُونَاتِ، فاحفظه.
(5/112)
---
صحيح البخاري
باب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيسَ عِنْدَهُ أَصْل(4/449)
واعلم أنه لا يُشْتَرَطُ أن يكونَ المُسْلَمُ فيه موجودًا في بيت المُسْلَم إليه، وإنما يُشْتَرَطُ أن يَقْدِرَ على تسليمه، ولو بعد الشراء من السوق. فالشرطُ كونه موجودًا في الجملة، لا كونه عنده.
2244، 2245 - قوله: (ولم نَسْأَلْهُمْ، أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لا)، يعني به: أنهم لم يَكُونُوا يَسْأَلُون المُسْلَمَ إليه بأن المُسْلَمَ فيه في بيته أم لا، وإنما كان الواجبُ عليه أن يُهَيِّئَهُ على المُدَّة.
2246 - قوله: (السَّلَمِ في النَّخْلِ)، أي في ثَمَرِهِ.
2246 - قوله: (حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ)، والمراد به بُدُوُّ الصلاح، وله تفسيران، وقد مرَّ مني: أنهما قريبان من السواء.
2246 - قوله: (فَقَالَ الرَّجُلُ: وأَيُّ شَيْءٍ يُوزَنَ؟ قال رَجُلٌ إلى جَنِبِهِ: حَتَّى يُحْرَزَ)، ولمَّا لم يَفْهَمْ الرجلُ الوزنَ في الثمار، لكون المعهودُ فيها الكيلَ دون الوزن، مع عدم إمكان الكيل أيضًا على الشجر، فسَّرَه بأن المرادَ بالوزن هو الإِحْرَازُ.
صحيح البخاري
باب ُ السَّلَمِ في النَّخْل
أي في ثمره.
2247، 2248 - قوله: (نُهِيَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ)، فإن قلتَ: إن السؤالَ كان عن السَّلَم، فكيف الجواب بمطلق البيع؟ قلتُ: وفي فقهنا مسألةٌ أخرى، يَظْهَرُ منها التَّنَاسُبُ بين السؤال والجواب، وهي: أن المُسْلَمَ فيه، وإن لم يَجِبْ كونها في مِلْكِ المُسْلَم إليه، لكن يُشْتَرَطُ أن يُوجَدَ في الأسواق من حين العقد إلى حلول الأجل. فدلَّت على أن ثِمَارَ النخل يَجِبُ أن تَصْلُحَ، وتَخْرُجَ عن العاهات عند عقد السَّلَمِ، فإنها قبله كالمعدوم، وبه ظَهَرَتْ المناسبة.
صحيح البخاري
باب ُ الكَفِيلِ في السَّلَم
صحيح البخاري
(5/113)
---
باب ُ الرَّهْنِ في السَّلَم(4/450)
قَاسَ الكَفَالَةَ على الرَّهْنِ، لأنه إذا صَحَّ الرَّهْنُ للاستيثاق، صَحَّت الكَفَالَةُ أيضًا. وتَصِحُّ الكَفَالةُ عندنا للمُسْلَمِ فيه دون الثمن، وراجع الفِقْهَ.
2252 - قوله: (وارْتَهَنَ)، الضميرُ إلى اليهوديِّ.
صحيح البخاري
باب ُ السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُوم
قوله: (مَا لَمْ يَكُ ذلك في زَرْعٍ)... إلخ، وقد مرَّ أنه لا يُشْتَرَطُ كون المُسْلَمُ فيه في مِلْكِ المُسْلَم إليه عندنا، وإنما يُشْتَرَطُ كونه مأمونًا عن العاهات، ولا يَجُوزُ قبل ذلك.
صحيح البخاري
باب ُ السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَة
وليس هذا بيع السَّلَمِ المعروف في الفِقْهِ، ولعلَّه أراد به الواجب في الذِّمة مطلقًا، والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
كتاب الشُّفعَة
صحيح البخاري
باب ُ الشُّفعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ فَلا شُفعَة
(من أحق بالشفعة)
وفي الحديث إشارةٌ إلى نفي الشُّفْعَةِ في المنقولات. ثم الشُّفْعَةُ عندنا: للشريك في نفس المبيع، وفي حقوقه، وللجار أيضًا. وهي عند الشافعية: للشريك فقط، فاحتجُّوا به على نفي الشُّفْعَةِ للجوار. ولنا في ذلك أحاديث، وقد تأثَّر منها الشافعية أيضًا، حتى إنهم قالوا: إن القاضي الحنفي لو حكم بالشُّفْعَةِ للجوار، ليس للشافعيِّ أن يَفْسَخَهُ. وهذا وإن كان داخلا تحت قاعدة: أن القضاءَ إذا لاقَى فصلا مُجْتَهَدًا فيه، صار مُجْمَعًا عليه. إلا أن فيه دليلا على تأثرهم من تلك الأحاديث أيضًا. وهي كقوله صلى الله عليه وسلّمعند الترمذيِّ: «جَارُ الدَّارِ أحقُّ بالدَّار»، وكقوله: «الجارُ أحقُّ بِسَقَبِهِ» عند البخاريِّ.
(5/114)
---(4/451)
وأوَّله الشافعية، فقالوا: إن المرادَ منه حقوقُ المجاورة، دون حقوق الشُّفْعَةِ. قلتُ: والحديثُ الأولُ يَرُدُّ هذا التأويل، فإنه يَدُلُّ على كون تلك الحقوق ما يتعلَّقُ بالدار، وهي حقوق الشُّفْعَةِ. وأجاب بعضُ الحنفية عن حديث الباب بجوابٍ غير صحيحٍ، فراجعه من الهامش. والجواب عندي: أنه لا ريب أن الحديثَ جعل للجارِ وللشريكِ حقوقًا، ولكنه سمَّى حقوقَ الشريكِ شُفْعَةً، وحقوق الجار حقًا مطلقًا فقط. أما الفقهاءُ فسمَّوْا كليهما شفعةً، فلم يَبْقَ نزاعٌ إلا في التسمية.
وحينئذٍ، فنفُي الشُّفْعَةِ في الحديث راجعٌ بالنظر إلى اصطلاحه، وإثباتُ الفقهاء بالنظر إلى مصطلحهم. فإن أراد الشافعيةُ أن يُنْكِرُوا حقَّ الجار رأسًا، فالحديثُ واردٌ عليهم لإِثباته ذلك الحقْ، مثل الشريك، وإن لم يكن سَمَّاه شفعةً. وإن أراد الحنفيةُ ثبوت ذلك الاسم، فلا سبيلَ لهم إليه من الحديث. والحاصلُ: أن المسألةَ في يد الحنفية، والتسمية والعنوان في يد الشافعية.
ومرَّ الشيخُ ناصر الدين بن المنير على هذا الحديث، ولعلَّه في تفسير سورة «مريم» فقال: إن قوله: «ما لم يُقْسَمْ»، يَدُلُّ على أن هذا المال كان قابلا للتقسيم، ثم لم يُقْسَمْ، لأن حرف «لم» إنما يُسْتَعْمَلُ في محلَ يكون من شأنه الإِثبات. فَيُقَالُ: لا يتكلَّم الحجر، ولا يُقَالُ: لم يتكلَّم الحجر، لأنه ليس من شأنه التكلُّم. ثم قال: ولا تقسيمَ مع الجار، فإنه فرعُ الاشتراك، ولا اشتراكَ معه ليقسم. فأَرَادَ منه أن يَنْفي الشُّفْعَةَ للجار.
قلتُ: والصوابُ عندي: أن أمثال تلك النكات البلاغية إنما تَلِيقُ بشأن القرآن للثقة بحفظ لفظه. أمَّا في الحديث، فالبابُ أوسعُ منه.
صحيح البخاري
باب ُ عَرْضِ الشُّفعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ البَيع
والمرادُ من الصاحب: الشفيعُ.
(5/115)
---(4/452)
قوله: (وقال الشَّعْبِيُّ)... إلخ. وحاصلُه: أنه إذا رأى شُفْعَتَهُ تُبَاع، ثم لم يتكلَّم بشيءٍ، فإن شُفْعَتَهُ تَسْقُطُ. وقد وَضَعَ لها الحنفيةُ ثلاث طَلَبَات، لأنها حقُّ ضعيفٌ يَسْقُطُ بالإِغماض.
2258 - قوله: (ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ في دَارِكَ)... إلخ، كان لأبي رَافِعٍ بيتان في دار سعد.
2258 - قوله: (فقال سعد)... إلخ، أني أعْطِيكَ من الثمن هذا القدر فقط، ولا أَزِيدُ عليه.
2258 - قوله: (مُنَجَّمَةً)، أي بالأَقْسَاطِ، وهو المرادُ من قوله: «مُقَطَّعَةً»، فكانت الشُّفْعَةُ في تلك القصة للجار. فالصحابيُّ أيضًا فَهِمَ من الحديث ما فَهِمْنَاهُ. ولعلَّ البخاريَّ أيضًا وافقنا في المسألة، فإنه أَخْرَجَ حُجَّةَ الحنفية: «الجار أحقُّ بِسَقَبِهِ».
صحيح البخاري
باب أَيُّ الجِوَارِ أَقْرَب
ولا يُدْرَى أنه هل أَرَادَ من الجَارِ الجَارَ المُلاصِقَ، وأَرَادَ به موافقةَ الحنفية، أو حَمَلَهُ على الحقوق الأخرى. غير أن الحديثَ الذي أَخْرَجَهُ ليس إلا في الحقوق العامة دون الشُّفْعَةِ، والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
كتاب الإِجَارة
قيل: الإِجارةُ: فِعَالةٌ، وليس من باب الإِفعال، كذا ذَكَرَهُ ابن الحَاجِبِ في «الشافية». ثم اعلم أن الأجرَ على نحوين: أجيرٌ مُشْتَرَكٌ، وهذا لا يستحقُّ الأجرَ حتى يَعْمَلَ. وأجيرٌ خاصٌّ، وهو يستحقُّ الأجرَ بتسليم نفسه في المدة، وإن لم يَعْمَلْ.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِح
صحيح البخاري
باب ُ رَعْيِ الغَنَمِ عَلَى قَرَارِيط
قوله: (ومَنْ لم يَسْتَعْمِلْ من أَرَادَهُ)، أي لم يستعمل من طلب العمل.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِئْجَارِ المُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلام
(5/116)
---
واعلم أن اتحادَ المِلَّة ليس بشرطٍ في عقد الإِجارة، وكذا قيدُ الضرورة أيضًا مُقْحَمٌ.(4/453)
واعلم أن مكاتبَ المعاملات الحكومية في عهد عمر في إيران كانت بالفراسية، وكان فيها مُحَاسِبٌ مجوسيٌّ، لأن العربَ لم يَكُونُوا يُحْسِنُون الحساب. فلمَّا أُخْبِرَ به عمر أَمَرَ بعزله، وأَمَرَ بإِسقاط الحساب الفارسيِّ، وأَمَرَ بكتابة الدفاتر بالعربية. قلتُ: هذا في الدفاتر والمَنَاصِب، أمَّا الإِجارةُ المطلقة، فَتَصِحُّ في الكافر أيضًا.
قوله: (عَامَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَهُودَ خَيْبَرَ)... إلخ، قال العينيُّ: إن المعاملةَ في عُرْفِ المدينة هي المُزَارَعةُ والمُسَاقاةُ، لأن أرضَ خَيْبَرَ كانت حقًّا للغانمين، وسيجيء تفصيله.
2263 - قوله: (قد غَمَسَ يمينَ حِلْفٍ)... إلخ، كان من عادات العرب: أنهم إذا حَلَفُوا يَضَعُون بين أيديهم ماءً، ويَجْعَلُون فيه لونًا، فإذا ظَهَرَ أثرُه فيه، غَمَسُوا فيه أيديهم وحَلَفُوا. ومن ههنا سُمِّي اليمينُ غَمُوسًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جازَ، وَهُما عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جاءَ الأَجَل
ويُقَالُ له في الفِقْهِ: الإِجارةُ المضافةُ، والعقدُ فيها يكون في الحال، والعملُ في المآل. ولتراجع «الهداية» للفرق بين الإِجارة المعلَّقةِ والمُضَافةِ. ولم يُدْرِكْهُ الشاميُّ في النكاح. ثم إن الفرقَ بينهما قد تسلسل في أبوابٍ شتَّى. كالهِبَةِ، فإنها إذا كانت مُقَيَّدَةً بالشرط تَصِحُّ، وإذا كانت مُعَلَّقةً لا تَصِحُّ. بخلاف البيع، فإنه لا يَصِحُّ، سواء كان مُعَلَّقًا بشرطٍ، أو مقيَّدًا به.
صحيح البخاري
باب ُ الأَجِيرِ في الغَزْو
(5/117)
---
يعني أن الغَزْوَ يكون خَالِصًا لله تعالى، فهل تَصِحُّ فيه الأُجْرَةُ؟ والجواب أنها تَصِحُّ، وإن حَبِطَ الأجرُ، فهو للأجير إلى آخر قطرة دمه.
2265 - قوله: (جَيْشَ العُسْرَةِ) يُقَالُ لغَزْوَةِ تَبُوك.(4/454)
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَلَولَمْ يُبَيِّنِ العَمَل
صحيح البخاري
باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقيمَ حائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جاز
صحيح البخاري
باب ُ الإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَار
صحيح البخاري
باب ُ الإِجارَةِ إِلَى صَلاةِ العصْر
صحيح البخاري
باب ُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أَجْرَ الأَجِير
صحيح البخاري
باب ُ الإِجارَةِ مِنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيل
وهذا ما قُلْتُ: أن المعقودَ عليه في باب الإِجارة قد يكون تسليمَ النفس، ولا يُشْتَرَطُ فيه العمل.
قوله: (آجَرَكَ اللهاُ) يُمْكِنُ أن يكونَ إشارةً إلى أن المُؤَاجَرَةَ تُسْتَعْمَلُ في الفواحش، فالمُؤَاجَرَةُ: المعاملةُ على الزنا، كما صرَّح به الزمخشريُّ.
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ أَجْرَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ المُسْتَأْجِرُ فَزَادَ،أَوْ مَنْ عَمِلَ في مالِ غَيرِهِ فَاسْتَفضَل
(5/118)
---
إذا تصرَّف في مال الغير، فهل يَكُونُ الربحُ للعامل، أو المالك؟ وقد مرَّ عن«الهداية»: أن الربحَ في البيع الفاسد يَطِيبُ للبائع، لأنه ربحٌ في ثمنه، ولا يَطِيبُ للمشتري، فإنه ربحٌ في المبيع. ووجهُ الفرق ذَكَرَهُ صاحبُ «الهداية»، واعْتُرِضَ عليه أنه لا فرقَ بينهما، فإن المبيعَ إذا بِيعَ صار نقدًا، فلم يَبْقَ بين الثمن والمبيع فرقٌ في ثاني الحال، وإن كان فرقًا في أول الحال. وحينئذٍ ينبغي أن يكونَ ربحُ الثمنِ أيضًا خبيثًا، أو ربحُ المبيعِ أيضًا طيبًا.
وأجاب عنه الشيخُ سعد الدين: أن هذه المسألة إنما هي في البيع الأول. أمَّا بعد ذلك، فَيَطِيبُ له الربح في ذلك الثمن أيضًا، وإن كان هذا الثمن حَصَلَ له ببيع المبيع في البيع الأول. فالربحُ الذي حَصَلَ للمشتري في أول بيعه يبقى خبيثًا، ثم إذا اشترى منه شيئًا يَطِيبُ له الربح أيضًا، كالربح للبائع الأصليِّ، وهو الأولُ.(4/455)
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ آجَرَ نَفسَهُ لِيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ، ثمَّ تَصَدَّقَ بِهِ، وَأُجْرَةِ الحَمَّال
أي من آجَرَ نفسه، فاكتسب شيئًا، فاستفضل منه شيءٌ، فتصدَّقَ به.
صحيح البخاري
باب ُ أَجْرِ السَّمْسَرَة
وأجرتُه حلالٌ عندنا، سواء كان من جهة البائع، أو المشتري.
قوله: (بِعْ هذا الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ على كَذَا وكَذَا فَهُوَ لَكَ)... إلخ، وهذه الإِجارةُ فاسدةٌ عندنا لجهالة الأُجْرَةِ، فيستحقُّ أجرةَ المِثْلِ، على ما هو المسألة في الإِجارةِ الفاسدةِ.
قوله: (المُسْلِمُون عند شُرُوطِهِمْ)... إلخ، يعني يَلْزَمُهُم كلُّ شرطٍ تتحمَّله قواعدُ الشرع، فعليهم الإِيفاءُ بها.
صحيح البخاري
باب هَل يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ في أَرْضِ الحَرْب
(5/119)
---
وقد مرَّ: أن المُؤاجَرَةَ شائعةٌ في الفحشاء، والزنا، ولعلَّ البخاريَّ غافلٌ عن هذا الاصطلاح، ولا يَبْعُدُ أن يكونَ العُرْفُ المذكورُ اشتهر بعد زمن البخاريِّ.
صحيح البخاري
باب ما يُعْطَى في الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ العَرَبِ بِفَاتِحَةِ الكِتَاب
والرُّقْيَةُ: (افسون)، وفي الهندية: (منتر). ولا يُقَالُ: إلا لِمَا اشتملت على كلماتٍ غير مشروعةٍ. وحينئذٍ كان المُنَاسِبُ أن لا تُسَمَّى العُوذَة، والكلمات المشروعة بالرُّقْيَة، مع أنهم يَسْتَعْمِلُونَها في تلك أيضًا.(4/456)
واعلم أن ههنا مسألتين: الأولى: أخذُ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن، والأذان، والإقامة. ولا يَجُوزُ فيها أخذُ الأُجْرَةِ على المذهب، وإن أَفْتَى المتأخِّرون بجوازها. وتعليلُ صاحب «الهداية» يُوجِبُ عدم الجواز مطلقًا، وحينئذٍ استثناء المتأخِّرين يصَادِمُ المذهبَ صراحةً. نم يُسْتَفَادُ من تعليل قاضيخان: أن استثناءَ الأشياءِ المذكورةِ يُتَحَمَّلُ على المذهب أيضًا، فقال: إن الوظائفَ في الزمان الماضي كانت على بيت المال. ولمَّا انْعَدَمَ، عادت الفريضة على رقاب الناس، وعليه الاعتمادُ عندي. لأن رتبةَ قاضيخان أعلى من «الهداية»، كما صرَّح به العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا.
والثانية: مسألةُ الأجرة على التعوُّذ، والرُّقْيَة، وهي حلالٌ لعدم كونها عبادةً.
قلتُ: ويتفرَّعُ على الأولى أن لا يَصِحَّ أخذُ الأُجْرَةِ على قراءة القرآن للميت، لأن الأجيرَ إذا لم يُحْرِزْ ثوابَ القراءة، فكيف يُعْطِيه للميت؟ نعم لو كان الخَتْمُ لمطالب دنيوية، طاب له الأُجْرَةُ، هكذا نَقَلَهُ الشاميُّ، وشيَّده بنقولٍ كثيرةٍ من أهل المذهب. وقد أَخْرَجْتُ الجواز من ثلاث كُتُبٍ للحنفية: منها «التفسير» للشاه عبد العزيز، فإنه ليَّنَ الكلامَ، وأجاز به.
(5/120)
---
ثم إن تلك الكُتُب، وإن كانت مرجوحةً من حيث الأصل، لكنه من دَأْبي القديم: أنه إذا ثَبَتَ التنوُّعُ في المسألة أُلَيِّنُ الكلامَ، وأَسْلُكُ مسلكَ الإِغماض، ولذا أُغْمِضُ عن تلك المسألة أيضًا. وما ظَنَّهُ بعضُ السفهاء من أن المنعَ فيما إذا أخذ الأُجْرَةَ أقل من أربعين دِرْهمًا، ونَسَبُوه إلى «المبسوط» فهو كذبٌ محضٌ، وافتراءٌ لا أصلَ له. ثم إذا عوَّذ كافرًا، ورأى أن عُوذَتَهُ تَشْتَمِلُ على كلماتٍ لا تَلِيقُ بشأن الكافر، ينبغي أن ينوي منها البركة فقط.(4/457)
قوله: (أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهاِ)، وتمسَّكَ به الشافعيُّ على جواز أخذ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن، وغيره. وهو عندنا محمولٌ على الرُّقْيَةِ، ونحوها. ووِزَانُه وِزَانُ قوله: «ليس مِنَ البرِّ الصيامُ في السَّفَرِ»، فجعل الصيامَ كأنه ليس فيه بِرٌّ. وعلى نَقِيضِه جعل أخذ الأُجْرَةِ ههنا، كأنه هو البرُّ كلُّه، فهذا نحو تعبيرٍ لا غير. لنا ما أخرجه أبو داود عن عُبَادَةَ بن الصَّامت: «أنه أهْدِيَ له قوسٌ ممَّن كان يُعَلِّمُهُ القرآن فسأل النبي صلى الله عليه وسلّمعنه، فقال له: إن أَرَدْتَ أن تُطَوَّقَ طوقًا من نار، فاقبلها». وراجع الهامش.
صحيح البخاري
قوله: (وقال الشَّعْبِيُّ: لا يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ، إلا أَنْ يُعْطَى شيئًا فَلْيَقْبَلْهُ)، والحافظُ ابن تَيْمِيَة يَسْتَشِيطُ غيظًا في مثل هذه المواضع ممَّا فصَّلَهُ الحنفيةُ: أَنَّ الأُجْرَةَ إن كانت مشروطةً لم تَجُزْ، وإلا جَازَتْ. فقال: لم نَعْلَمْ لهذا القيد ثمرةً في الخارج بعدما أخذ الأُجْرَةَ، فإن الحديثَ قد نَهَى عنها، وهذا قد نَاقَضَهُ، وأَخَذَ الأجرةَ سواء اشْتَرَطَ، أو لم يَشْتَرِطُ. حتى أنه قد أَفْرَدَ لذلك جزءً مستقلاًّ في «فتاواه»، وسمَّاه باسمٍ على حِدَةٍ، وأراد منه الرَّدَّ على محمد.
(5/121)
---
قلتُ: أمَّا غَيْظُهُ فَلْيَكْظِمْهُ، وشأنه في ذلك فَلْيَخْفِضْهُ.n(4/458)
فإن لنا أيضًا حديثًا عند الترمذيِّ، عن ابن عمر وصحَّحه، «نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعن عَسْبِ الفحل»، اه- . وأجرتُهُ حرامٌ عندنا أيضًا، كما في الحديث. ثم أخرج عن أنس، وفيه: و«نُكْرَمُ»، فرخَّص له في الكرامة. فإذا ثَبَتَ أصلُه وجنسُه، فالنكيرُ على الحزئيات عَسِيرٌ غير يسيرٍ. وهذا إلى المجتهد، أدخل تحتها أيَّ الجزئيات أراد. وقد مرَّ منا مِرَارًا: أن الجزئياتِ تَصْدُقُ عليها ألوفٌ من الكلِّيات، والنظر في أنها بأيَ من الكليات أقرب من مَدَارِكِ الاجتهادِ، ولا دَخْلَ لنا فيه.
والحاصلُ: أنه وقعت في كُتُب الحنفية جزئياتٌ جرى بها التَّعَامُل، والتوارُث، ونقول بجوازها. ثم الناسُ يأخذون علينا، ويختارون خُطَّةَ عَسْفٍ وخَسْفٍ، ورَحِمَ اللهاُ من أَنْصَفَ.
قوله: (القَسَّام)، كان بيتُ المال يَنْصِبُ رجلا للتقسيم، ويُقَالُ له: القَسَّام، ويُقَالُ له في بلادنا: الأمين. وفي الفِقْهِ: أن أُجْرَتَهُ تكون على بيت المال، وأن لا تُؤخَذَ منهم.
قوله: (الرِّشْوَةُ في الحُكْمِ)، ورَاجِعْ تفصيله من كُتُبِ الفِقْهِ من كتاب القضاء.
قوله: (وكَانُوا يُعْطَوْنَ على الخَرْصِ)، والمرادُ من الخَرْصِ: ما كان يفعله العُمَّالُ في ثمار الناس قبل أخذ العُشْرِ. ويُمْكِنُ أن يكونَ المرادُ منه: ما هو شائعٌ بين البائع والمشتري في البِيَاعَات، فَدَلَّ على كونه مطلوبًا أيضًا. ثم الفرقُ بين الجِزَافِ والخَرْصِ: أنه لا تقديرَ في الجِزَافِ أصلا، بخلاف الخَرْصِ. فإن فيه تقديرًا في الجملة، وإن لم يُعْلَمْ كالكيل، والوزن.
(5/122)
---
2276 - قوله: (حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلا)، وقد مرَّ مني: أن أخذَ الأَجْرِ على قراءة القرآن للحوائج الدنيوية جائزٌ. بَقَيَ التعليمُ، ففيه أيضًا توسيعٌ على ما علَّل به قاضيخان. أما أخذُ الأُجْرَةِ على إيصال الثواب للميت، فلي فيه تردُّد شديدٌ، وأكُفُّ عنه لساني.
صحيح البخاري(4/459)
2276 - قوله: (واضْرِبُوا لي مَعَكُمْ سَهْمًا)، وهو الذي فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلّمفي قصة صيد أبي قُتَادَة، وهكذا فَعَلَهُ في قصة العنبر، فكلُّ موضعٍ تردَّد فيه الصحابةُ رضي الله تعالى عنهم، أَزَالَهُ صلى الله عليه وسلّمبضرب سَهْمٍ منه لنفسه الكريمة أيضًا.
صحيح البخاري
باب ضَرِيبَةِ العَبْدِ، وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الإِماء
(قوله: (ضَرِيبَةَ العبد)) أي خَرَاجه.
صحيح البخاري
باب ُ خَرَاجِ الحَجَّام
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ العَبْدِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِه
صحيح البخاري
باب ُ كَسْبِ البَغِيِّ وَالإِماء
صحيح البخاري
باب ُ عَسْبِ الفَحْل
(5/123)
---
قوله: (وكَرِهَ إبراهيمُ أجرَ النَّائِحَةِ والمغنِّية، وقول الله: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 33)، قال مجاهدٌ: {فَتَيَتِكُمُ} إمائكم). والبَغِيُّ كالحامل، والمُرْضِعِ، فذوات التاء منها لمن تكون مُتَّصِفَةً بتلك الأوصاف في حالتها الراهنة، وبدونها لمن تكون من شأنها أن تُرْضِعَ، وتَحْمِلَ، وإن لم تكن مُتَّصِفَةً بها بالفعل. وهذا كالفرقِ بين السَّامِعِ والسميع، فالأوَّلُ لمن يَسْمَعُ شيئًا، والثاني لمن كان من شأنه أن يَسْمَعَ، وإن لم يكن سَامِعًا لشيءٍ بالفعل. فلا يَصِحُّ قولك: أنا سامعٌ كلامك، إذا لم تَكُنْ تَسْمَعُهُ بالفعل.(4/460)
وهذا الذي قُلْتُ في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «فإنه لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأْ بها»: إنه شأنٌ للفاتحة، لا حكم به. فالشأنُ يكفي له تحقُّقه في الجنس، ولا يَجِبُ تحقُّقه في هذا الموضع بخصوصه. فالفاتحةُ إنما اتَّصَفَتْ بهذه الصفة في مادة المُنْفَرِد، والإِمام. أمَّا في حقِّ المقتدي، فاتِّصَافُهَا على طريق اتِّصَاف الشيء بحاله في الجنس. ومن ههنا انْدَفَعَتْ شبهةٌ أخرى، وهي أن قوله تعالى: {إنّ ااَ يَغْفِرُ الدُّنُوبَ جَميعًا} (النور: 53) بظاهره يُؤَيِّدُ المُرْجِئَةَ إن حَمَلْنَاهُ على الإِخبار، فإنه يَدُلُّ على أنه لا تَضُرُّ مع الإِيمان معصيةٌ، إذ الله سبحانه يَغْفِرُ الذنوبَ جميعًا. وقد ذَكَرُوا له أجوبةً، وأَضَافُوا عليه قيودًا.
(5/124)
---
وما ذَكَرَهُ ابنُ مسعودٍ في جوابه، وإن كان صادقًا في نفسه، ولكنه لا يكفي للخروج عن عُهْدَةِ البلاغة. فالجوابُ أنه بيانٌ لشأنه تعالى، لا أنه حَكَمَ به. فالمعنى: أن الله تعلى شأنه أن يَغْفِرَ الذنوب جميعًا إن شاء، ولا يَجِبُ عليه أن يَفْعَلَ ذلك أيضًا. أَلا تَرَى أنه يَصِحُّ قولك: فلانٌ سميعٌ، وإن لم يكن يَسْمَعُ شيئًا. وذلك لأنه ليس فيه ما يَدُلُّ على السماع بالفعل، بل فيه شأن السماع، وهذا لا يُوجب أن يكون سابعًا لشيء بالفعل. فهكذا مغفرة الذنوب جميعًا، ليس على طريق الحكم منه، بل هو شأنٌ تعالى.(4/461)
2283 - قوله: (نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعن كَسْبِ الإِمَاءِ) ليس فيه لفظ المَهْرِ، ولا لفظ البَغِيِّ. بل فيه لفظ الكسب بدل المهر، والإِماء بدل البَغِيِّ. وهذا شاهدٌ لِمَا نبَّهْتُكَ من قبل: أن المسألةَ في الإِماءِ دون الحرائر. وينبغي أن لا يُفْتَى اليومَ إلا بالحُرْمَةِ مطلقًا، سواء كان المعقودُ عليه تسليمَ النَّفْسِ، أو الزنا، سدًا للذرائع. فإن أئمة الفُسْقِ قد بَغَوْا وعَتَوْا في زماننا، ولا يَسْتَأْجِرُون البغايا إلا على تسليم النفس. فلو فصَّلنا في المسألة، يُفْتَحُ عليهم باب الزنا.
صحيح البخاري
ولا أدري ممَّن وَقَعَ هذا القصور، فإن حُرْمَةَ أُجْرَةِ المغنِّية والنائحة موجودةٌ في المتون. ونقل في «البحر» إجماعَ الأمة على حرمة أجرة الزنا، ثم لا تَزَالُ تُنْقَلُ مسألة أجرة الزنا في الكُتُبِ أيضًا. فإن حَمَلْتَ الإِجماعَ المذكورَ على غير هذا الجزئي لكون المعقودُ عليه فيه تسليمَ النفس، لَزِمَ عليَّ فتح باب الزنا على الفُسَّاق، فإنهم لا يَزْنُونَ اليومَ إلا بطريق الأجير الخاصِّ. وإن قُلْتَ بالإِطلاق، فماذا أَصْنَعُ للمذهب. والأحكمُ أن يُحْكَمَ بالحرمة مطلقًا. وقد مرَّ تقريرُه في آخر باب السَّلَمِ.
صحيح البخاري
(5/125)
---
باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُما
ولا يُسْتَأْصَلُ الزرعُ عندنا، بل يَمْكُثُ حتى يَخْرُجَ عن الخسارة. وقال الحسنُ خلافًا للحنفية: فإن الإِجارةَ تَنْفَسِخُ عندنا بموت أحد المُتَعَاقِدَيْنِ.(4/462)
قوله: (ولم يُذْكَرْ أنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ جَدَّدا الإِجارةَ)، والعَجَبُ من البخاريِّ أنه يَجْعَلُ معاملةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّممع أهل خَيْبَرَ إجارةً، ثم يَحْكُمُ بإمضائها بعد وفاة أحد المُتَعَاقِدَيْن، وهي عند الحنفية خَرَاجٌ مُقَاسَمَةً. قلتُ: كيف يكون خَرَاجًا مقامسةً، مع أن الأرضَ فيه تكون للزراعين، وأرض خَيْبَرَ كانت للغانمين، كما في «الهداية» من السِّيَر: أن خَيْبَرَ فُتِحَتْ عَنْوةً، فتكون أراضيها لأهل الإِسلام، ولو كانت خَرَاجًا مقاسمةً لكانت لليهود.
وأجاب عنه مولانا شيخ الهند: أن الخَرَاجَ، وإن كان في الأصل كما قلتَ، لكن المرادَ منه ههنا هو مقاسمةُ الخارج فقط، سواء كانت الأرض للزراعين، أو لا.
قلتُ: وفيه إشكالٌ آخر، وهو أن عمر أَجْلاهُم من خَيْبَرَ، كما في البخاريِّ. فَلْيُمْعَنْ النظر في هذا الإِجلاء، فإنهم كانوا مالكين فما معنى الإِجلاء. إلا أن في الروايات: أن عمر كان أعطاهم بها شيئًا، فَلْيُحَرِّره.
فالحاصلُ: أنها مزارعةٌ عند البخاريِّ، وخَرَاجٌ مقاسمةً عند الحنفية. وحينئذٍ فَلْيَسْأَلِ البخاريُّ: أن المزارعةَ هل تبقى بعد موت أحد المتعاقدين أيضًا. أمَّا خَرَاج المقاسمة، فيبقى ما بَقِيَت السلطنة. والظنُّ أن البخاريَّ لم تتنقَّح عنده معاملتهم، فقد يَجْعَلُها إجارةً أخرى مزارعةً. وراجع لتحقيقه «مبسوط السَّرَخْسِيِّ»، فقد حقَّقه بما لا مزيدَ عليه.
صحيح البخاري
كتاب الحَوَالات
صحيح البخاري
باب في الحَوَالَةِ، وَهَل يَرْجِعُ في الحَوَالَةِ؟
(5/126)
---
قوله: (وهَلْ يَرْجِعُ في الحَوَالَةِ) والمصنِّفُ أَبْهَمَ في الكلام، ورَاجِعْ له «الهداية»، فقد يجوز رجوعُ المُحْتَالَ على المُحِيلِ في جزئيات، فمن جملة تلك الجزئيات هذه.
قوله: (يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ) يعني أنه كان غنيًّا يوم الحَوَالَةِ.(4/463)
قوله: (يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَان) والتَّخَارُجُ بابٌ في السِّرَاجي، وهذا بابٌ في الورثة. والمصنِّفُ وَضَعَهُ بين الشركاء أيضًا، وله وجهٌ أيضًا.
قوله: (هذا عينًا وهذا ديْنًا)، يعني: أَخَذَ واحدٌ منهما الموجودَ، والآخرُ المعدومَ، ويَلْزَمُ فيه الربا في بعض الصور في فِقْهِنَا.
2287 - قوله: (مَطْلُ) (تال متول).
حكايةٌ: لَقِي الصعلوكُ المجنونُ أبا حنيفة في بعض طريقه مرَّةً، وكان في يده خبزٌ يأكله. فأدَّبه أبو حنيفة، وقال له: أَمَا كنتَ تَجِدُ مكانًا فَتَقْعُدُ فيه، وتأكل طعامك؟ فما أقل صبرك أيها الصعلوك. فأجابه، وأسند في الحال هذا الحديث، وقال: مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، يعني به: أن النفسَ جائعةٌ، فإذا ظَفِرْتُ بالخبز وصِرْتُ غنيًا، فحينئذٍ التأخيرُ في الأكل مَطْلٌ وظلمٌ، فتبسَّم منه أبو حنيفة. وكان الصعلوكُ كالبهلول في زمن الرشيد، وهو عندي مَجْذُوبٌ.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَحالَ عَلَى مَلِيّ فَلَيسَ لَهُ رَد
2288 - قوله: (ومن أُتْبِعَ عَلَى مَلِيء فَلْيَتَّبِعْ)، معناه: إذا كان لأحدٍ عليكَ شيءٌ، فأَحَلْتَهُ على رجلٍ مليء، فَضَمِنَ ذلك منكَ، فإن أَفْلَسْتَ بعد ذلك، فله أن يَتَّبِعَ صاحب الحَوَالةِ، فَيَأْخُذُ منه.
واعلم أن قيد المصنِّف: فإن أفلست... إلخ، وقع في غير موضعه، فإن إفلاسَ المُحِيل غير مُؤَثِّرٍ، ولا دَخْلَ له ههنا. نعم لو ذكر إفلاس المُحْتَال عليه لكان أحسن، فإن له جزئيات في الفقه.
صحيح البخاري
باب إِنْ أَحالَ دَينَ المَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَاز
(5/127)
---
صحيح البخاري
باب إِذا أَحالَ دين الميت على رجلٍ جاز(4/464)
في «الهداية»: أن دينَ الميِّت لا يَقْبَلُ الحَوَالَةَ، وليس في الحديث ما يَرِدُ علينا، لأنه من باب الوُثُوق بوعد رجلٍ صَدُوقٍ، لا من باب الكَفَالَةِ، أو الحَوَالَةِ. فهو بابٌ آخر، وإدخالُه في باب الحَوَالَةِ ليس بذاك. وإرجاعُ الأبواب كلِّها إلى أبواب الفِقْهِ ليس بشيءٍ. فإنا نَجِدُ أبوابًا، كالمروءة، وغيرها، لا نجد لها أثرًا في الفقه. كيف وأنها لا تَلِيقُ بموضوع الفقهاء، فهذه تكون جائزةٌ في نفسها، فإذا جَرَتْ إلى الفقه عادت إلى عدم الجواز، فليتنبَّهْ في تلك المواضع.
صحيح البخاري
كتاب الكَفَالَة
صحيح البخاري
باب الكفَالَةِ في القَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيرِهَا
واعلم أن الكَفَالَةَ على نحوين: كفالةٌ بالنفس، ويكون فيها كَفِيلٌ، ومَكْفُولٌ له، وبه. وكَفَالَةٌ بالمال، وفيها مَكْفُولٌ عنه أيضًا مع سائر الألقاب.
ثم القرضُ والدينُ يفترقان. فالقرضُ ما يأخذه الرجل لحوائجه، ويُعَدُّ إعانةً في الحال. والدينُ ما يَلْزَمُ في المُعَاوَضَات والمعاملات. ثم التأجيلُ لا يَلْزَمُ في باب القرض، فَلِلْمُقْرِضِ أن يُطَالِبَهُ قبل حلول الأجل، بخلاف الدين، فإنه يَقْبَلُ التأجيل، وليس لصاحب الدين أن يُطَالَبَ من عليه الدين قبل حلول الأجل. ولفظه في الفِقْهِ: أن تأجيلَ القرض ليس بصحيحٍ. ولم يَفْهَمْهُ بعضُهم، فَحَمَلَهُ على الإِثم، أي إن التأجيلَ في القرض معصيةٌ، وليس بصحيحٍ. بل معناه: أنه ليس بلازمٍ، لا أنه معصيةٌ. وكذا لا تَصِحُّ الكَفَالَةُ في القرض، لأنه من باب الاعتماد، فإن لم يكن له اعتماد عليه ينبغي أن لا يُقْرِضَهُ. بخلاف الدين، فإنه مضمونٌ بنفسه، على ما فُصِّلَ في الفِقْهِ.
(5/128)
---(4/465)
2290 - قوله: (جَارِيَةِ امْرَأتِهِ) أي كانت مملوكةً لزوجته، ولم تَكُنْ مملوكةً للزوج. وحاصلُ تلك القصة: أن رجلا وَطِىء جاريةَ امرأته، فأراد السَّاعي أن يُقِيمَ عليه الحدَّ. فقال له آخرون: إن هذه قصةٌ قد رُفِعَتْ مرَّةً إلى عمر، وسَبَقَ فيه قضاؤه، فَأَخَذَ عليه الساعي كفيلا منه للاعتماد، ليتحقَّقَه حين يَرْجِعَ إلى عمر. فلمَّا رَجَعَ إليه صدَّقهم عمر، وعَذَرَ الرجلَ على اعتذاره بعدم العلم بالمسألة، فإنه ظنَّ أن جاريةَ الزوجة كجاريته، فَيَحِلُّ له وطؤها. كالوطء من جاريته. واعتبره الحنفيةُ أيضًا شبهةً دَارِئَةً للحدِّ، إلا أن الرجمَ إذا سَقَطَ عنه، سَقَطَ رأسًا. وليس عليه الجلدُ، وإنما جلده عمر تعزيرًا، وراجع الهامش. وكيفما كان، خَرَجَ منه أصلٌ لاعتبار الشُّبُهَات. أمَّا إنها متى تُعْتَبَرُ، ومتى لا تُعْتَبَرُ، فأمرٌ مَوْكُولٌ إلى المجتهدين.
وكذا فيه ما يَدُلُّ على صحة الكَفَالَةِ في الحدود. ولكن يُخَالِفُهُ ما في «الكنز»: وبطلت الكَفَالَةُ بحدٍ وقَوَدٍ. قلتُ: معناه: لا يُجِيرُ بالكَفَالَةِ في هذا الباب. فإن سَمَحَ بها أحدٌ قُبِلَتْ في الديانة، ولا تكون له أحكامٌ في الفِقْهِ، لأن الكَفَالَةَ الفقهيةَ في الكَفَالَةِ بالنفس لا تكون ههنا إلا باستيفاء الحدود والقصاص منه. وذا لا يُتَصَوَّرُ فيها، فلا يكونُ لها حكمٌ في القضاء. وإنما هي من الأمور البيِّنة التي يَفْعَلُهَا الناسُ على الاعتماد فيما بينهم، على نظير الخَرْصِ، فإن كلامَ الطحاويِّ يُوهِمُ نفيه. قلتُ: لا رَيْبَ في كونه مفيدًا، إلا أنه ليس بحُجَّةٍ في القضاء، فهو من هذا الباب. ولذا قُلْتُ: إن الأبوابَ الكثيرةَ تُوجَدُ فيما بينهم على المُسَامَحَةِ، ولا تَجِدُ لها أثرًا في الفِقْهِ، وكان هذا مهمًا لو تعرَّض إليه أحدٌ.
صحيح البخاري
(5/129)
---
2290 - قوله: (فَأَخَذَ حَمْزَةُ من الرَّجُلِ كُفَلاءَ)، أي كفلاء بالنفس.(4/466)
2290 - قوله: (قد جَلَدَهُ)، أي قَبْلَ ذلك.
2290 - قوله: (وقال جريرٌ والأَشْعَثُ)... إلخ، وقصَّتُه: أن عبد الله بن مسعود كان بالكُوفَة، فأخبره رجلٌ أنه رأى جماعةً من الناس منهم عبد الله ابن النوَّاحة في مكان كذا، كانوا يَذْكُرُون مُسَيْلَمَةَ الكذَّاب. فأرسل إليهم ابن مسعود، وأمرهم بأسرهم... إلخ، فَقَتَلَ عبد الله ابن النوَّاحة، ولم يَسْتَتِبْهُ.
2290 - قوله: (وقال حمَّادٌ)... إلخ، وحمَّادٌ هذا أستاذُ أبي حنيفة. ولا أَكَادُ أَفْهَمُ ماذا حمل البخاريَّ على أنه يأْخُذُ عن حمَّاد، وإبراهيم النَّخَعي، ولا يأْخُذُ عن أبي حنيفة. ولا أَعْرِفُ فيه شيئًا غير أنه بَسَطَ الفِقْهَ أمَّا رميُه بالإرْجَاء، فقد رُمِيَ به حمَّاد أيضًا، وليس إلا من إرجاف المُرْجِفِينَ. وإنما الإِرجاءُ الباطلُ: أن يقولَ بعدم الاحتياج إلى العمل. وأمَّا من يقولُ بعدم جزئية الأعمال، فمن يستطيعُ أن يَحْكْمَ عليه بالإِرْجَاء وهذا الذي قال به الإِمام الأعظم. وأمَّا النحوُ الأولُ، فحاشاه أن يقولَ به.
2290 - قوله: (إذا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فمات، فلا شيْءَ عليه)، أي لأنه كان كفيلا بالنفس، وهي تَبْطُلُ بالموت. أمَّا الحَكَمُ بن عُيَيْنَة، فقال: إن عليه الضَّمَان.
2291 - قوله: (فَأْتِنِي بالكَفِيلِ، قال: كَفَى باللهاِ كفيلا) قلتُ: وهل رأيتَ أحدًا منهم يَجُرُّه إلى باب الفِقْهِ، ويَبْحَثُ أنه هل تَصِحُّ الكفالة بالله أم لا؟ فكان ينبغي لهم أن يُرَاعوه في مواضعَ أخرى أيضًا.
2291 - قوله: (زَجَّجَ): (دات لكادى).
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيمَانُكُمْ فَآتُوهمْ نَصِيبَهُمْ} (النساء: 33)
صحيح البخاري
(5/130)
---
باب ُ مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيَّتٍ دَينًا، فَلَيسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع
صحيح البخاري
باب جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّموَعَقْدِه
صحيح البخاري(4/467)
باب ُ الدَّين
واعلم أن في لفظ الحديث اختلالا من بعض الرواة، فتعسَّر منه تحصيل المراد. وقد تعرَّض إليه الحافظُ، فلم يَصْنَعْ شيئًا. والحلُّ: أن الراوي تَلا أولا آيتين: الأولى {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} (النساء: 33)... إلخ. والثانية: {والذين عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 33)... إلخ. كأنه أراد به أن تفسيرَهُمَا سيأتي، ثم ذكر القصة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا قَدِمَ المدينةَ، وقَدِمَ معه المهاجرون، آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان إذا مات المهاجرُ يَرِثُهُ الأنصاريُّ. فلمَّا هاجر ورثتهم أيضًا نُسِخَتْ المؤاخاة، وكان يَرِثُ المهاجر وارثه دون الأنصاريِّ.
ومن ههنا تبيَّن أن الإِعراب في قوله: «يَرِثُ المُهَاجِرَ الأنصاريُّ»، بنصب المهاجر على المفعولية، ورفع الأنصاريّ على الفاعلية، فما أَعْرَبَهُ صاحبُ النسخة خلاف الأَوْلَى.
2292 - قوله: (فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} نَسَخَتْ)، أي: فلمَّا نزلت الآية الأولى، وهي {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} أي ورثته، نُسِخَتْ المؤاخاة، هذا على البناء مجهولا. وإن قَرَأَ معروفًا، فمعناه نَسَخَتْ الآيةُ الأولى المُؤَاخَاةَ المتقدِّمةَ، وصار يَرهثُ كلاًّ وَارِثه. ثم تعرَّض إلى تفسير الآية الثانية التي فيها ذِكْرُ وَلاء المُوَالاة، أو تلك المُؤَاخَاة العارضة، فقال: إن تلك المُعَاقدةَ منسوخةٌ إلا في ثلاثة مواضع، وهي: النَّصْرُ، والرِّفَادَةُ، والنَّصِيحَةُ.
(5/131)
---(4/468)
2292 - قوله: (وقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ)، أي الميراث بين العاقدين. فالمعنى: أن تلك الآيةَ منسوخةٌ في بعض جزئياتها، وهي: الميراثُ، فلا ميراثَ بين العَاقِدَيْن. ومُحْكَمَةٌ في بعضها، وهو: النَّصْرُ، والرِّفَادةُ، والنصيحةُ، فهي واجبةٌ بين العاقدين، وغيرهما في كلِّ حال. وهذا الذي كُنْتُ أقولُ: إنه ثَبَتَ عندي بالاستقراء أنه مَا مِنْ آيةٍ إلا وهي مُحْكَمَةٌ في بعض الجزئيات، كما مرَّ تقريره في الصيام. لا أريد به بقاء ترجمته بعينها في الحكم، بل أُرِيدُ به بقاء جنس الحكم في جزئي من الجزئيات. فلا أَعْرِفُ آيةً من الآياتِ المنسوخةِ التي لا يكون لها نفعٌ أصلا، ولا أقل من أنها تبقى تِذْكَارًا لذلك الجنس. ثم إنهم ذَكَرُوا معنى الموالي نحو عشرين، وليس بشيءٍ، فإن معناه: القدر المُشْتَرَك بينها، فلمَّا لم يُدْرِكُوه، جعلوا كلا منها معنىً على حدة. وراجع سياقه من باب الفرائض، فإنه أوضح.
صحيح البخاري
كتاب الوَكَالَة
صحيح البخاري
باب في وَكالَةِ الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ في القِسْمَةِ وَغَيرِهَا
2300 - قوله: (ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) وفي روايةٍ: «ليس لأحدٍ بعدك»، فإن قُلْتَ: وقد وَرَدَ نحوَه لصحابيَ آخرَ أيضًا. وظاهُره مُتَنَاقِضٌ، فإنه إذا قال للأول: ليس لأحد غيرك، وَجَبَ أن لا يكون هناك أحدٌ غيره يجوز له ذبح ذلك السن، مع أنه قد أَجَازَ له أيضًا.
قلتُ: والجوابُ ظاهرٌ، فإنه إذا قال للأول، لم يكن الثاني مَخْطُورًا بالبال. وإذا قال للثاني ههنا، كأن الأولَ لم يَكُنْ مخطورًا بالبال، وتلك اعتباراتٌ يَعْرِفُها اللبيبُ.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبِيًّا في دَارِ الحَرْبِ أَوْ في دَارِ الإِسْلامِ جاز
صحيح البخاري
باب ُ الوَكالَةِ في الصَّرْفِ وَالمِيزَان
(5/132)
---
يعني أن اتحادَ المِلَّةِ ليس بشرطٍ في الوَكَالَةِ، وليس فيه إلا وكالةٌ لغويةٌ.
2301 - قوله: (صَاغِيَتِي) أي أولادي.(4/469)
2301 - قوله: (عَبْدُ عَمْرو)، قال مولانا الجَنْجُوهِي: إن إضافةَ العبد إذا كان إلى غير الله، فلا يَخْلُو إمَّا أن يكونَ ذلك الغير مَعْبُودًا من دون الله أو لا، وعلى الثاني: إمَّا أن يكون موهمًا لها، أو لا. فالأولُ حرامٌ، والثاني إن كان مُوهمًا كُرِهَ، كعبد النبيِّ، وإلا لا.
فعبد العُزَّى حَرَامٌ، وعبدُ النبيِّ مكروهٌ، وعبدُ المطَّلِب جائزٌ. وإنما سُمِّيَ به، لأن المطَّلبَ عمَّه كان جاء بابن أخيه يَحْمِلُهُ على ظهره، فقال له الناس: أن مُطَّلِبًا جاء بعبدٍ، فَسُمِّيَ عبد المطَّلِب. وأمَّا التسميةُ بعبد مَنَاف، فأيضًا حرامٌ، لأن المَنَاف كان صنمًا في الجاهلية، كما في «القاموس». وقد مرَّ: أن الأمرَ في نحو عبد النبيِّ يَدُورُ بالمغالطة، فإن خاف المغالطةُ مُنِعَ، وإلا لا. فهو كقولهم: {رعِنَا} (البقرة: 104) في القرآن، وقد مرَّ تفصيله.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَو الوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ، أَوْ شَيئْا يَفسُدُ،ذَبَحَ وَأَصْلَحَ ما يَخَافُ عَلَيهِ الفَسَاد
يعني إذا رأى الراعي شاةً تموت، ولم يكن المالك حَاضِرًا، ولا وَجَدَ فرصةً للإِجازة منه، هل له أن يَذْبَحَ؟ وفي «جامع الفصولين»، وهو من معتبرات فقهنا: إن ذَبَحَ الشاة يَضْمَنُ، وفي قولٍ: لا يَضْمَنُ. قلتُ: بل يُقْسِمُ على الحالات، فإن تحقَّق أنه ذَبَحَها بعذرٍ صحيحٍ لم يَضْمَن، وإن ثَبَتَ أنه جعله حِيلَةً، وأراد اللحمَ فقط ضَمِنَ.
(5/133)
---(4/470)
مسألة: في «البحر»: أن رجلا لو رَأَى أحدًا يَزْنِي بامرأته يَقْتُلُهُ، فإن بَلَغَ الأمرُ إلى القاضي، ولم يُثْبِتْ زِنَاه بالشهادة يَقْتَصُّ منه. ورأيتُ في «كنز العمال» حديثًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «كَفَى بالسيف شا...»، قال الراوي: واكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبالشا، ولم يتلفظ بتمام اللفظ - أي شاهدًا - وقال: لو قلت: شاهدًا لتظالم السكران، والغيران، فهذا أَمْرٌ يَعْرِضُ للأنبياء عليهم السلام، فإنه أَبَاحَ له قتلَ رجلٍ يَرَاه على امرأته، ثم لم يُفْصِحْ به، لئلا يَتَجَاوَزَ فيه الناس عن الحدِّ.
2304 - قوله: (قال عُبَيْدُ الله: فَيُعْجِبُني أَنَّها أَمَةٌ، وأنها ذَبَحَتْ)، والراوي يتعجَّبُ منه، وفي الفِقْهِ: أنه لا بأسَ بِذَبِيحَةِ المرأة.
صحيح البخاري
باب وَكالَةُ الشَّاهِدِ وَالغَائِبِ جائِزَة
صحيح البخاري
باب ُ الوَكالَةِ في قَضَاءِ الدُّيُون
أي الوَكَالَةُ صحيحةٌ، سواء كان الوكيلُ شَاهِدًا أو غَائِبًا.
(5/134)
---
2305 - قوله: (فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فلم يَجِدُوا له إلا سِنًّا فَوْقَهَا، فقال: أَعْطُوه)... إلخ، واعلم أن استقراضَ الحيوانِ بالحيوانِ جائزٌ عند الشافعية. وأَنْكَرَهُ الحنفيةُ، وقالوا: إن الاستقراضَ لا يَصِحُّ إلا في المِثْلِيَّات، فلا تكون ثابتةً في الذمة، ويَجِبُ كونها مشارًا إليه عند العقد، فلا تَصْلُحُ لوجوبها في الذمة. وأَجَابُوا عن حديث الباب: أنه لم يكن فيه استقراضٌ، بل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّماشترى منه بثمنٍ مُؤَجَّلٍ، فلمَّا حَلَّ الأجلُ، وأراد أن يُؤَدِّيَ إليه ثمنه، اشترى له بعيرًا آخر من ثمنه، وردَّه إليه. فعادت صورتُه صورةَ استقراضِ الحيوانِ بالحيوانِ، فهو استقراضٌ صورةً، وبيعٌ مُؤَجَّلٌ معنىً. ولمَّا لم يَكُنْ في الحِسِّ إلا مُبَادلة البعير بالبعير، حَذَفَ الراوي البيعَ المتوسِّطَ، وعبَّر عنه بما كان عنده في الحِسِّ.(4/471)
وذلك من ديدن الرواة، أنهم لا يُرَاعُون تخاريجَ الفقهاء، وأنظارَ العلماء، وإنما هم بصدد نقل القصة على ما وقعت في الخارج، ولا يكون لهم عن أبحاثهم غرضٌ. وهو مَلْحَظُهم في صلاة الكسوف: أنها كانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمأربعًا، وللقوم ركعتين ركعتين. وقد مرَّ جوابُهُ في العَرَايا.
وإنما حَمَلْنَاهُ على هذا التأويل، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم «نهى عن بيع الحيوانِ بالحيوانِ نَسِيئَةً. وهذا وإن كان في البيع، لكن الاستقراضَ مثلُه لا تحاد العِلَّةِ. فإن في الاستقراض أيضًا وجوبًا في الذِّمَّةِ، كما في البيع نسيئةً. وأقولُ من عند نفسي: إن الحيواناتِ، وإن لم تَثْبُتْ في الذِّمَّةِ في القضاء، لكنه يَصِحُّ الاستقراضُ به فيما بينهم عند عدم المُنَازَعَةِ، والمناقشة.
(5/135)
---
وهذا الذي قلتُ: إن الناسَ يتعاملون في أشياءَ تكون جائزةً فيما بينهم على طريق المروءة والإِغماض، فإذا رُفِعَتْ إلى القضاء يُحْكَمُ عليها بعدم الجواز. فالاستقراضُ المذكورُ عند عدم المُنَازَعَةِ جائزٌ عندي. وذلك لأن العقودَ على نحوين: نحوٍ يكونُ معصيةً في نفسه، وذا لا يَجُوزُ مطلقًا. ونحوٍ آخرَ لا يكون معصيةً، وإنما يُحْكَمُ عليه بعدم الجواز لإِفضائه إلى المُنَازَعَةِ، فإذا لم تَقَعْ فيه منازعةٌ جَازَ. واستقراضُ البعير من النحو الثاني، لأنه ليس بمعصيةٍ في نفسه. وإنما يُنْهَى عنه، لأن ذواتَ القيم لا تتعيَّنُ إلا بالتعيين، والتعيينُ فيها لا يَحْصُلُ إلا بالإبشارة، فلا تَصْلُحُ للوجوب في الذمة. فإذا لم تتعيَّن، أفضى إلى المنازعة عند القضاء لا مَحَالَةَ. فإذا كان النهيُ فيه لعِلَّةِ المنازعةِ، جاز عند انتفاء العِلَّة.
صحيح البخاري(4/472)
والحاصلُ أن كثيرًا من التصرُّفات لا تكونُ جائزةً في القضاء، وتَجُوزُ فيما بينهم. ثم هذا فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ من الشارع بالنهي عنه صراحةً، وكذا لم يَحْكُمْ به قياسٌ جَلِيٌّ، وإلا فلا سبيلَ فيه إلى الجواز بحالٍ. وقد تبيَّن مما قلنا: أن عِلَّةَ النهي فيما نحن فيه هي المُنَازَعَةُ، ولا نصَّ فيه عن الشارع، فإذا انتفت العِلَّةُ عاد إلى الجواز. ويُؤَيِّدُ ما قُلْنَا: إن الحنفيةَ صرَّحُوا في الإِجازةِ الفاسدةِ، والمُضَارَبَةِ الفاسدةِ: أن الأُجْرَةَ فيهما طيبةٌ مع فساد العقد، فَدَلَّ على أنه لا يَلْزَمَ من كون الشيءِ باطلا، أو فاسدًا كونه معصيةً أيضًا. فإِذا لم يكن معصيةً في نفسه، يُحْكَمُ عليه بالجواز. وإذن لا بأسَ لو حَكَمْنَا بالجواز في الصورةِ المذكورة. نعم لو وقعت فيه المُنَازَعَةُ ورُفِعَ الأمرُ إلى القاضي، فالحكمُ فيه كما في المتون، وهو عدمُ الجواز.
(5/136)
---
ومن ههنا تبيَّن أن من زَعَمَ بين كون الشيء باطلا، ومعصيةً تلازمًا، فقد حَادَ عن الصواب. وهناك مسألةٌ أخرى تُؤَيِّدُ ما قُلْنَا، ففي «الهداية»: إن بيعَ الخشب في السقف فاسدٌ، فإِن سلَّمه إلى المشتري عاد إلى الجواز. وكذا البيعُ إلى النَّيْرُوز والمِهْرَجَان لا يَجُوزُ، فإِن نقد الثمن جاز. وذلك لأن عِلَّةَ الفساد في الصورة الأولى: كون المبيعِ غيرَ مَقْدُورِ التسليمِ، وفي الثانية: جهالةُ الأجل. فإذا انتفت بالتسليم ونقد الثمن، انتفى الفساد لانتفاء عِلَّتِهِ لا مَحَالَةَ. فهذا أصلٌ عظيمٌ ينبغي أن تَحْفَظَه، يَنْفَعُكَ في مواضع.(4/473)
ثم إذا بَطَلَ العقدُ في شيءٍ، وتَدَاوَلَتْهُ الأيدي، وترتَّب عليه الأخذُ والإِعطاءُ، ماذا يكون حاله؟ فاختلف فيه العلماء: فذهب عامتُهم إلى أن كلَّ ما ترتَّب عليه العقدُ الباطلُ، فهو باطلٌ لبطلان الأصل. وقال الحَلَوَانيُّ: إن الأولَ، وإن كان باطلا في نفسه، لكنه إذا تَدَاوَلَتْهُ الأيدي انقلب صحيحًا من جهة هذا التعاطي. فإِن الناسَ يَتَغَافَلُونَ ويُغْمِضُون فيه بعد التعاطي، ولا يُنَازِعُون فيه.
قلتُ: وهذا أيضًا من باب المروءة، والحَلَوَانيُّ، وإن كان متفرِّدًا فيه، لكني أُفْتِي بقوله أيضًا. فإنَّ الناس إن يعملوا بقول واحد خيرٌ لهم من أن لا يعملوا بقول أحد، فلذا أفتي بقول الحَلَوَانيِّ تصحيحًا لعملهم، وإخراجه عن عدم الجواز.
وبالجملة: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأعطاه سِنًّا أحسن من سِنِّه، إذ لم تَقَعْ فيه منازعةٌ، ولو وقعت فيه لأدَّاه قيمته على ما هو السنَّة في ذوات القِيَمِ، فاحفظه.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَهَبَ شَيئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شفَيعِ قَوْمٍ جاز
ويجُوزُ في إعراب الوكيل أوجهٌ إمَّا التنوينُ، أو الإِضافةُ على حدِّ قولهم:
*يَا مَنْ رأى عَارِضًا أَسَرَّ به
** ذِرَاعي وجَبْهَةَ الأَسَدِ
(5/137)
---
أصله ذراعين سقطت النون للإِضافة. أو يكون من باب(4/474)
فعلى الأول، الوكيلُ أيضًا مضافٌ إلى قومٍ. وعلى الثاني، المضافُ إليه محذوفٌ من المعطوف عليه، يعني به أن الوكيلَ واحدٌ، وإن كان الموهوبُ له جماعةً، فذا جائزٌ. قلتُ: إن كان غرضُ المصنِّف منه إثباتَ جواز هبة المُشَاع، ففيه نظرٌ، لأنه احتجَّ بردِّ سبي هَوَازن، وحمله على كونه هبةً، وذلك غيرُ معلومٍ، لأن النظرَ فيه دائرٌ يُمْكِنُ أن يكونَ إعتاقًا، أو ردًّا، أو هِبَةً. فما لم ينفصل الأمرُ فيه، لا يَصِحُّ الاحتجاج به. وفصلُها من ألفاظ الرواة ظلمٌ، فإن هذه أنظارٌ وتخاريجُ. وقد صرَّحُوا أن الرواةَ قد كانوا لا يعلمون الفِقْهَ، فربَّما يَحْمِلُون الروايات على التناقُض، فيجرَّحُون، مع أن التناُقضَ كان يَحْدُث من جهة عدم تفقُّههم.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلا أَنْ يُعْطِيَ شَيئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِيفَأَعْطَى عَلَى ما يَتَعَارَفُهُ النَّاس
يعني أنه إذا وَكَّلَ وكيلا بالإِعطاء، ولم يعيِّن مقدارَه، فَعَمِلَ فيه برأيه، هل يجوز أم لا؟ وأمثال ذلك عندي محمولةٌ على باب المروءة. فالأمرُ فيه عند عدم التنازُع على ما تعَارَفَهُ الناسُ. فما في الفقه: أن رجلا لو أسْلَم بنت مَخَاض إلى رجلٍ ليربِّيها على أن يكونَ له نِصْفُهَا، ففعل، تكون بنت المَخَاض للمُعْطِي بتمامها، ويَجِبُ عليه أجرةُ المِثْلِ للمربِّي، محمولٌ على ما وَقَعَ فيه التنازُعُ، ورُفِعَ الأمرُ إلى القاضي. أمَّا إذا اصطلحا، ولم يَتَنَازَعَا، فهمَا على معاملتهما.
(5/138)
---(4/475)
2309 - قوله: (عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ وغَيْرِهِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ، ولَمْ يُبَلِّغْهُ كُلُّهُم، رَجُلٌ وَاحِدٌ منهم، عن جابر)... إلخ، قال الشَّارِحُون: فيه تقدير حرف: «بل» أي لم يُبَلِّغْهُ كلَّهم - بل - رَجُلٌ واحدٌ منهم. قلتُ: وتقدير حرف العطف لا يوجد في كُتُبِ النحو أصلا. فطريقُه أن يُوقَفَ على كلِّهم، ثم يُبْدَأَ من رجلٍ واحدٍ، فَيُفْهَمُ منه معنى بل. فهو مقدَّرٌ بهذا الطريق، أي لا نفهام معناه من الوقف.
2309 - قوله: (ولك ظَهْرُهُ إلى المَدِينَةِ)، وهذا الذي أقولُ: إن الظَّهْرَ في ليلة البعير لم تكن على طريق الاشتراط، بل كان عارِيَّةَ له من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقد تمسَّك به البخاريُّ على جواز الاشتراط في البيع، لِمَا في بعض ألفاظه ما يُومِيءُ إليه. وإذا تبيَّنْتَ أنه كان عَاريَّةً لا شرطًا في صلب العقد، سَقَطَ الاحتجاج به. وقد مرَّ منا مِرَارًا: أن الراوي لا يُرَاعي في التعبير تخاريج المشايخ، وإنما يبني كلامَهُ على ما هو عنده في الحِسِّ والمشاهدة، وهو المُلْحَظُ عندنا في قوله: «وَّجْتُكَهَا بما مَعَكَ من القرآن»، وسيجيء تقريره في موضعه.
(5/139)
---(4/476)
2309 - قوله: (إن أبي قد تُوُفِّيَ)، فيه إطلاقُ التَّوَفِّي على الشهادة، ولا حَرَجَ، لأنه إذا اسْتُعْمِلَ عديلا للقتل يُسْتَعْمَلُ بمعنىً آخرَ، وإذا اسْتُعْمِلَ وحده يكون بمعنىً آخرَ. ولك أن تقولَ: إن المُكَنَّى به، والمُكَنَّى عنه يجتمعان في الكناية مِصْدَاقًا، لا مدلولا، فيكون مدلولاهما مجامعًا في الصدق، بخلاف المجاز، فإنه لا يكون فيه إلا معنىً واحدٌ. كما إذا أردت المطر من لفظ السماء، لا يتحقَّق فيه إلا معنى المطر. وإذا قلتَ: رأيتُ رجلا طويلَ النِّجَاد، على طريق الكناية، يتحقَّق فيه المُكَنَّى به، وهو طول النجاد، والمُكَنَّى عنه، أي طول القامة كلاهما، وإن اختلفا في مدلول لفظيهما. وإنما ذَكَرْنَا لك الفرق بين المجاز والكناية في عدَّة مواضع مع شيء من الإِيضاح في كل موضعٍ لتُحِيطَ به علمًا، فإن الفرقَ قد أَعْوَزَ على الفحول، ولم يتنقَّح عندهم بعد.
صحيح البخاري
2309 - قوله: (وزَادَهُ قِيرَاطًا)، وفيه تصريحٌ أنه قد أعطى الثمن على حِدَة، والزيادة على حِدَة، ثم إنه ليس المراد من القِيرَاط سِكَّةً مخصوصةً، بل قدرَها من الوَرِق، فلا شيوعَ فيها.
صحيح البخاري
باب ُ وَكالَةِ الامْرَأَةِ الإِمامَ في النِّكاح
2310 - قوله: (إني قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي)... إلخ، قلتُ: وأين فيه توكيلُ المرأة. والدلالةُ فيه لا تكفي، فلا يُقَالُ: إنه وإن لم يتحقَّق حقيقةً، لكنه متحقِّقٌ حكمًا، لأنه لا بُدَّ للتوكيل إمَّا من لفظه، أو تحقُّقه بولايةٍ شرعيةٍ.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلا، فَتَرَكَ الوَكِيلُ شَيئًا فَأَجازَهُ المُوَكِّلُ فَهُوَ جائِزٌ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جاز
صحيح البخاري
باب إِذَا بَاعَ الوَكِيلُ شَيئًا فاسِدًا، فَبَيعُهُ مَرْدُود
(5/140)
---
يعني به الإِجازةَ اللاحقةَ.(4/477)
قوله: (وإن أَقْرَضَهُ إلى أجلٍ مُسَمّىً جَازَ)... إلخ، وقد مرَّ: أن الأجل لا يَلْزَمُ في القرض.
2311 - قوله: (ذَاكَ شَيْطَانٌ)، والشيطانُ يُطْلَقُ على الجِنِّ أيضًا، كما يُعْلَمُ من القرآن، وفي بعض الروايات: «أنه كان ذا شعرٍ كثيرٍ، فأخذه أبو هُرَيْرَة، وسأله عمَّن هو؟ فقال: أنا جِنِّيٌّ». وراجع له «آكام المرجان في أحكام الجان»، وكان هذا الجنيُّ من جنِّ نَصِيبين، كما في بعض الروايات. ثم إن هذا المالَ كان صدقةَ الفِطْرِ، فهل تَسْقُطُ الصدقةُ بأخذ الجنِّ؟.
قلتُ: ولمَّا كانت هذه الواقعةُ في عهد النبوَّة على طريق خَرْقِ العادة، فلا ينبغي أن تُبْنَى عليها المسائل، مع أن أبا هريرة لم يَطَّلِعْ عليه إلا بعد ما أخبره النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأنه جِنٌّ. وقد أَخْفَاهُ هو أيضًا إلى يومين، حتَّى ظنَّه أبو هريرة ذا حاجةٍ من الناس، مَصْرِفًا للصدقة، فكان يُغْمِضُ عنه على علمٍ منه أنه فقيرٌ، أو مسكينٌ. وحينئذٍ فقصرها على موردها أَوْلَى.
نصِبِين: وهي عند حرَّان، والموصل في شرق الشام، معدن السِّحْر. ومن ههنا تعلَّم الفارابي الفلسفة. وأظنُّ أنه تكون فيها جماعةٌ من الجِنِّ، وقد ذكر هذا الجِنُّ: أن الناسَ كانوا يَضْرِبُون لنا سهمًا أيضًا، وقد تَرَكُوا ذلك منذ بُعِثَ هذا الرجلُ - يريد به النبيَّ صلى الله عليه وسلّم- فإِذن ليس لنا من السرقة بُدٌ.
صحيح البخاري
باب ُ الوَكالَةِ في الوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ، وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالمَعْرُوف
أراد المصنِّفُ من الوكيل: ناظره ومتوليه.
(5/141)
---
2313 - قوله: (وكان ابن عمر)... إلخ، يجوز التصدُّق على الأصدقاء من مال الواقف، عند إذن الواقف. ثم إن المسألةَ في قَبُول المتولِّي هدايا الناس: أنه إن ظَنَّها رِشْوةً لم تَجُزْ، وإلا جازت. فلا إشكالَ في قَبُول ابن عمر هدايا أهل مكة، مع كونه متولِّيًا للوقف.
صحيح البخاري(4/478)
باب ُ الوَكالَةِ في الحُدُود
صحيح البخاري
باب ُ الوَكالَةِ في البُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا
صحيح البخاري
باب إِذَا قالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِه: ضَعْهُ حَيثُ أَرَاكَ اللَّهُ وَقالَ الوَكِيلُ:قَدْ سَمِعْتُ ما قُلت
صحيح البخاري
باب ُ وَكالَةِ الأَمِينِ في الخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا
2314، 2315 - قوله: (أغْدُ يا أُنَيْسُ)، ولمَّا تضمَّن قوله قذفًا للمرأة، وهو حقُّ العبد، أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يَغْدُوَ إليها، ويَسْأَلُ عنه. وإلا فالحدود معناها على الستر دون التجسُّسِ، والتَّسَاؤل، والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
كتاب الحَرْثِ والمُزَارَعَة
صحيح البخاري
باب فَضْلِ الزَّرْعِ وَالغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْه
صحيح البخاري
باب ُ ما يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ أَوْ مُجَاوَزَةِ الحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِه
(5/142)
---
واعلم أن الحَرْثَ والمُزَارَعَةَ مِلاك العالم، لا يتمُّ نظامُهُ إلا به، ومع ذلك تَرِدُ الأحاديث في كراهته، فيتحيَّر منه الناظر. وما ذَكَرْنَاه في الحِجَامَةِ لا يَنْفَعُ ههنا، فإن الحجَّامَ الواحدَ يكفي لجماعاتٍ، بخلاف الحَرْثِ. وأُجِيبَ أن الأهمَّ في عهده صلى الله عليه وسلّمكان الجهادَ، والاشتغالُ بالحَرْثِ يُوجِبُ الاشتغال عنه، فذمَّه لهذا. ثم إن مخالب السلطنة تَنْشَبُ بالمزارع، أكثر ممَّا تَنْشَبُ بالتاجر. وكذا المُزَارعُ يُحْرَمُ من الخير كثيرًا، فلا يَجِدُ فرصةً لاستماع الوَعْظِ، وصُحْبَةِ الصُّلَحَاء.
والحاصلُ: أن الشيءَ إذا دار بين خيرٍ وشرَ، لا يُحْكَمُ عليه بالخيرية مُطْلَقًا، أو الكراهةِ كذلك. ولِتَجَاذُب الأطراف، فَتَرِدُ الأحاديثُ فيه بالنحوين لذلك، فافهم.
2321 - قوله: (رَأَى سِكَّةَ). (هال).
صحيح البخاري
باب ُ اقْتِنَاءِ الكَلبِ لِلحَرْث(4/479)
ولا يَنْقُصُ هذا القيراطُ إذا اقْتَنَاهُ، فيما أَذِنَه الشارعُ كالحَرْثِ أو الماشية. أمَّا الملائكةُ، فلعلَّهم لا يَدْخُلُون بيتَهُ بعده أيضًا، كما مرَّ، والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِعْمَالِ البَقَرِ لِلحِرَاثَة
صحيح البخاري
باب ُ إِذَا قالَ: اكْفِنِي مَؤُونَةَ النَّخْلِ أَوْ غَيرِهِ، وَتُشْرِكُنِي في الثَّمَر
صحيح البخاري
باب ُ قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخْل
* وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَني لُؤَيَ ** حَرِيقٌ بِالبُوَيرَةِ مُسْتَطِيرُ
صحيح البخاري
باب
2324 - قوله: (آمَنْتُ)، إنما قاله حين تعجَّب الناسُ، وقالوا: سُبْحَانَ الله.
(5/143)
---
2324 - قوله: (يَوْمَ السَّبُعِ)، وذلك في إبَّان الساعة، حين تَخْرَبُ البلاد، ويَهْلِكُ الناس، فَتَسْكُنُ فيها الذئاب. قال العلماءُ: إن البقرَ يُسْتَعْمَلُ بِمَنْكِبِهِ، والفرسَ بظهره. وحينئذٍ لا يُنَاسِبُ العربة، لأنه يُوجِبُ استعمال مَنْكِب الفرس، ولم يُخْلَقْ له، وإنما خُلِقَ للركوب على ظهره.
صحيح البخاري
باب ُ المُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِه
(أنواع المزارعة)
واعلم أن المزارعةَ على ثلاثة أنحاءٍ: كِرَاءُ الأرض بالنقد، وهذا جائزٌ بالاتفاق. والثاني: المزارعةُ على ما خَرَجَ من الأرض، فإن عيَّن لنفسه حصةً معيَّنةً من الأرض لم يَجُزْ بالاتفاق. وكذا إذا اشْتَرَطَ حصةً معيَّنةً من الخارج، كخمسة أَوْسُق أو نحوها، لِمَا فيه من المخاطرة، فجاز أن لا تُنْبِتَ هذه، وتُنْبِت تلك.(4/480)
أما إذا زَارَعَهُ على المُشَاع، وهو الثالث، كالنصف، والثُّلُث، فهذا هو مورد الخلاف. نَهَى عنها أبو حنيفة، وأَجَازَهَا صاحباه، ولم أَكُنْ أفهم دهرًا ما في «الهداية»، في أول باب المزارعة: لا تَجُوزُ المزارعةُ والمساقاةُ، عند أبي حنيفة، ثم أراه يَنْقُلُ الخلاف في المسائل بينه وبين صاحبيه أيضًا. وكنت أتعجَّبُ أن المزارعةَ إذا لم تَجُزْ عنده، فمن أين تلك التفريعات والمسائل. ولم يَكُن يَعْلَقُ بقلبي ما أجابوا عنه من أن الإِمامَ كان يَعْلَمُ أن الناسَ ليسوا بعاملين على مسألتي، ففرَّع المسائلَ على أنهم إن زارعوها، فماذا تكون أحكامها؟
(5/144)
---
ثم رأيتُ في - «حاوي القدسي»: كَرِهَهَا أبو حنيفة، ولم يَنْهَ عنها أشدَّ النهي. وحينئذٍ نَشُطْتُ من العِقَال، وَثِلَجَ الصدر، وظَهَرَ وجهُ التفريعات مع القول بالبطلان. فإنه قد نبَّهناك فيما مرَّ أن الشيءَ قد يكون باطلا، ولا يكون معصيةً، فلا بُدَّ أن يكونَ له أحكامٌ على تقدير فرض وقوعه، فإنه وإن كان باطلا في نفسه، لكنه لا يَلْزَمُ من فرض وقوعه مَحَالٌ في الشرع. فلو فرضناه واقعًا، يكون له حكمٌ لا مَحَالة. فلذا تعرَّض إليه.
ثم إنه وَرَدَ النهيُ عن المُزَارَعَةِ بالنقد أيضًا، كما في كتاب البخاري، وهو محمولٌ على الشفقة بالاتفاق، ومعناه: أن الأرضَ مما لا ينبغي أن يُؤْخَذَ عليها الأجر، فمن كان عنده فَضْلُ أرضٍ فارغةٍ عن حاجته، فَلْيَمْنَحْ بها أخاه. وهو أيضًا حكمٌ على طريق المروءة، وبسط الخُلُق. فإن المُمَاكسةَ بما لا يَضُرُّه أبعدُ عن معالى الأخلاق، فحرَّضَهُ على ما هو الأحرى بشأنه.(4/481)
والحاصلُ: أن حقَّه على الأرض كأنه ضعيفٌ بالنسبة إلى المنقولات، وكأن الله تعالى خلقها للزراعةِ، أو المِنْحَةِ، ومن أراد غيرَ ذلك، فقد سَلَكَ مَسْلَكَ الشُّحِّ والبُخْل. وأمَّا المنقولات، فإن الشرعَ أباح له أن يَنْتَفِعَ بها كيف شاء، بيعًا وهِبةً، فإنها خُلِقَتْ للتحوِّل والنقل من مِلْكٍ إلى مِلْك. بخلاف الأرض، فإنها تَبْقَى على مكانها، وانتفاع أخيه الملهوف لا يُنْقِصُ منها شيئًا.h
صحيح البخاري
نعم يُجْبِرُ الكَسِيرَ، ويُكْسِبُ المُعْدَم.
ثم إن مادةَ جوازها، والنهي عنها موجودةٌ في الأحاديث. وراجع له الطحاويَّ، وقد قرَّرنا لك مذهبَ الإِمام من «الحاوي»، فلا تَلْتفِتُ إلى ما اشتهر على الألسنة. وبعد ذلك تَسْتَرِيحُ عن الأجوبة، والأسئلة.
(5/145)
---
قوله: (وعامَلَ عُمَرُ) وقد مرَّ مني التردُّدَ فيه أنه كانت مُزَارَعَةً، أو خَرَاجًا مقاسمةً. والمصنِّفُ لا يفرِّق بينهما، ويَجْعَلُ معاملةَ السلطان مع رعيَّته مُزَارَعةً، مع أن السلطان أيضًا ليس بمالكٍ للأرض ههنا.
قوله: (وقال الحُسَنُ)... إلخ، وهذه شَرِكةٌ.
قوله: (لا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بالثُّلُثِ)... إلخ، وتسمَّى عندنا بقَفِيز الطَّحَّان، وهي إعطاءُ الأجير أُجْرَتَهُ مما حَصَلَ له من عمله. وأجازه مشايخ بَلْخ، فلذا لا أتشدَّد فيه، وللقول المشهور قوله: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمعن قَفِيزِ الطَّحَّان».
قوله: (وقال مَعْمَرٌ: لا بَأْسَ أن تُكْرَى المَاشِيَةُ على الثُّلُثِ)... إلخ، أي أنه يُعْطِيه الثُّلُث أو الرُّبعُ من نسلها. وفي «شرح الكنز» - للعيني - في باب الشركة: أن المعاملةَ المذكورةَ لا تَجُوزُ عندنا، ويكون فيها أُجْرَةُ المِثْلِ فقط. قلت: وهذا فيما إذا وَقَعَ التَّنَازُع، أمَّا إذا لم يَقَعْ التنازعُ، فهما على ما اصطلحا عليه فيما بينهما.(4/482)
2328 - قوله: (وقَسَمَ عُمَرُ): أي خيَّرهنَّ بين أن يُعْطِيَهُنَّ أرضًا من خَيْبرَ، أو يَأْخُذْنَ من الثمار.
صحيح البخاري
باب إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنِينَ في المُزَارَعَة
ويُشْتَرَطُ تعيين الأجل في المُزَارَعَةِ. والمصنِّفُ يُطْلِقُ فيه، ولا يميِّزُ بين المُزَارَعَةِ، وخَرَاج المقاسمة، ويتمسَّك بمعاملة أهل خَيْبَرَ، وكلُّ ذلك لعدم بلوغه في الفِقْهِ مَبْلَغه في الحديث.
صحيح البخاري
باب
صحيح البخاري
باب ُ المُزَارَعَةِ مَعَ اليَهُود
قوله: (لم يَنْهَ عَنْهُ)... إلخ، ولذا حملتُ النهيَ على الإِرشاد.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ في المُزَارَعَة
وما في الحديث لا يَجُوزُ بالاتفاق.
(5/146)
---
صحيح البخاري
باب إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيرِ إِذْنِهِمْ، وَكانَ في ذلِكَ صَلاحٌ لهُم
من غَصَبَ أرضًا وزَرَعَهَا، فالزرعُ تابعٌ للبَذْرِ. ولمَّا كانت الصورةُ المذكورةُ صورةَ الغصب، لا يستحقُّ الغاصبُ أجرَ العمل أيضًا، إلا أن تكونَ الأرضُ معروفةً بالاستغلال، وأن تُوفَّى الشروط. ثم المسألةُ في المُزَارَعَةِ الصحيحة: أن تُوَفَّى الشروط ما كانت، وفي الفاسدة: أن الزرع يَتْبَعُ البَذْر، فيكون مِلْكًا لصاحبه.
صحيح البخاري
باب ُ أَوْقافِ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلّم وَأَرْضِ الخَرَاجِ، وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِم
واعلم أن الوقفَ عندنا لا يجري إلا في العَقَار، إلا أن يكون تابعًا. وأمَّا عند محمد، فيَصِحُّ بكلِّ منقولٍ جَرَى فيه التعاملُ بوقفه. ثم قالوا: إن الوقفَ عندنا تصدُّقٌ بالمنفعة مع حَبْس الأصل على مِلْكِ الواقف، وعند صاحبيه: هو حَبْسُ الأصل على مِلْكِ الله، لا يُمَلَّكُ، ولا يُوَرَّثُ.(4/483)
ثم أُورِدَ على الحنفية: أن الوقفَ على طوركم، لم تَبْقَ له حقيقةٌ، لأن الشيءَ قد بقي على مِلْكِه الآن كما كان، والتصدُّق بالمنفعة جائزٌ بدون الوقف أيضًا، فلم يَظْهَرْ للوقف ثمرةٌ، حتى صرَّح السَّرَخْسِيُّ أن الوقفَ باطلٌ عند الإِمام، بمعنى أنه ليس له حكمٌ جديدٌ. وهكذا قرَّره ابن الهُمَام. نعم استثنوا منه الوقف للمسجد، والوقف من الوصية، والثالث الوقف الذي قضى القاضي بخروجه عن مِلْك الواقف، كذا في «الكنز».
قلتُ: أمَّا الوقفُ للمسجد، فخروجُهُ عن مِلْكِ الواقف ظاهرٌ. وأمَّا القسمُ الثاني، فالدَّخْلُ فيه للوصية دون الوقف. وكذا الثالث لا دَخْلَ فيه للوقف، بل هي مسألةٌ عامَّةٌ في كلِّ ما قَضَى به القاضي في الفصول المختلفة فيها.
(5/147)
---
ثم إن أبا يوسف قد ذَاكَرَ مع الإِمام مالك في أربعة مسائل: في تحديد الصاع، والأذان قبل الفجر، والوقف، والرابعة لا أذكرها، وهي مذكورةٌ في شرح «الجامع الصغير». فلمَّا رَجَعَ من المدينة أَعْلَنَ في أول مَجْلِسٍ جَلَسَ: أني أَرْجِعُ في هذه المسائل الأربعة عن قول الإِمام الهُمَام.
واعلم أن صاحب «البدائع والمبسوط» مُعَاصِرَان. وظنِّي أن «البدائع» أُخِذَ من السَّرَخْسِيِّ، كما قالوا في «الهداية»: إنه مأخوذٌ من «المبسوط». وهذا عندي خلافُ التحقيق، لأن متانةَ عبارته، وعذوبتَها، وفخامةَ كلماتها، وجزالةَ ألفاظها تأْبَى ذلك، ولِمَا رأيتُ بالمدينة أن وقفًا من أوقاف الصحابة لم يُعَدْ إليهم ثانيًا، فدَلَّ على خروجها من أملاكهم. وأخْتَارُ أن الوقفَ لا يَقْبَلُ النقلَ والتحويلَ من مِلْكٍ إلى مِلْكٍ. أمَّا عند الإِمام، فإنه يَصِيرُ إرثًا بعد الوفاة. ثم أن الوقفَ عُدَّ من خصائص هذه الأمة، وليس بصحيحٍ، لأنه ثَبَتَ وقف إبراهيم عليه السلام، فدعوى التخصيص غير مسموعٍ، إلا أن يكونَ باعتبار قيدٍ.(4/484)
وبالجملة هذا الباب مهمٌّ جدًا، وقد مهَّدْتُ ونبَّهْتُ على أنه ليس وجوده وعدمه عندنا سواء، وليس الأمرُ كما صرَّح به السَّرَخْسِيُّ، ثم بسطه الشيخ ابن الهُمَام. بل الأمرُ كما ذكره في «الحاوي»: أن الوقفَ عند الإِمام حبسٌ للشيء على مِلْكِ الواقف، ونَذْرٌ بتصدُّق المنفعة. ومنه تبيَّن أن ما حرَّره الشيخ من مذهب الإِمام غير محرَّرٍ، بل هو نَذْرٌ، كما في عبارة «الحاوي». وحينئذٍ ظَهَرَ أن الوقفَ ليس بباطلٍ، بل يَعْمَلُ ما يَعْمَلُ النَّذْرُ، فله حقيقةٌ مستقلةٌ عندنا أيضًا، وإن كان فيه ضعفٌ بالنسبة إلى الأئمة الأُخَر. فالرجوعُ عنه مكروهٌ تحريمًا ديانةً، وإن جاز قضاءً.
صحيح البخاري
(5/148)
---
وأما قوله صلى الله عليه وسلّملعمر: «تصدَّق بأصله لا يُبَاعُ»، فلفظُهُ عند الترمذيِّ في الوقف: «إن شِئْتَ حَبَسْتَ أصلها، وتصدَّقت بها» أي بما خَرَجَ منها. وهذا عينُ ما ذَهَبَ إليه الحنفيةُ. وإنما عبَّر عنه في البخاريِّ بالتصدُّق بالأصل، لأنه إذا نَهَى عن بيعه، فصار كأنه تصدَّق بالأصل.
بقي أنه يكون مُؤَبَّدًا، أم لا؟ فعند الطحاويِّ: «أن عمر وَقَفَ حظَّهُ من خيبر في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم وكان أول وقف في الإسلام»، ثم نقل عنه الطحاويُّ بإِسنادٍ قويَ: «لولا أني ذَكَرْتُ صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو نحو هذا لرددتها». اه- . وهو صريحٌ في نَفَاذِ الرجوعِ في الوقف، وراجع الطحاويَّ.
فائدة: ثم اعلم أن - «الحاوي» - ثلاثة: «الحاوي» للحَصِيْري، والزَّاهِدِي، والقُدْسي، وما ذكرناه، فهو في «الحاوي» للقدسي.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا
وراجع شرائط الإِحياء من الفِقْهِ.
قوله: (في أَرْضِ الخَرَابِ) (غير آبادزمين).
قوله: (فهي له)، وعندنا يُشْتَرَطُ فيه إذنُ الإِمام خلافًا للآخرين. أمَّا قوله: «فهي له»، فمحمولٌ على الإِذن، لا على بيان المسألة فقط، فإذا أَذَنَهُ الأميرُ فهي له.(4/485)
قوله: (وليس لِعِرْقٍظَالِمٍ)... إلخ، فَلَوْ غَرَسَ أحدٌ في أرض الغير يَجِبُ قلعه عندنا، ولا يكون له حقٌّ.
2335 - قوله: (من أَعْمَرَ)... إلخ؛ وههنا من الإِعْمَار دون العُمْرَى، وراجع شرح «الوقاية» لمعنى العُمْرَى.
صحيح البخاري
باب
وغَرَضُ البخاريِّ منه: أن المسألةَ في إحياء المَوَات أنها تكون لمن أَحْيَاها. كما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنزل بذي الحُلَيْفَة عن بطن الوادي، ولم تَكُنْ أرضًا مملوكةً لأحدٍ، فصار له مُعَرَّسًا ومُنَاخًا. فهكذا من أَحْيَا أرضًا غيرَ مملوكةٍ، تكونُ له.
صحيح البخاري
(5/149)
---
باب إِذَا قالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ ما أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلا مَعْلُومًا،فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا
وهذه أيضًا من التراجم التي لا تَسْقُطُ على مَحَطَ، ولا تَرْجعُ إلى أصلٍ. فإن حقيقةَ المعاملة مع أهل خَيْبَرَ لم تتنقَّحْ عنده بعد، فقد يجعلها إجارةً، وأخرى مزارعةً، ولا تَصِحَّان، إلا أن تكونَ مِلْكًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم والمسلمين. وأمَّا إذا كانت مِلْكًا لأنفسهم، فلا تَصْحُّ لا هذه، ولا تلك، فلا تكون إلا خَرَاجًا مقاسمةً. ثم فرَّع عليها تفريعات لا تَسْتَقِيمُ بحالٍ أيضًا، فذكر إبهامِ الأجل، وذا لا يَصِحُّ على تقدير كونها إجارةً، أو مزارعةً باتفاق الفقهاء، لأن الطبائعَ قد جُبِلَتْ على المُمَاكَسَةِ في هذا الباب. فالإِبهام فيها يُفْضِي إلى المُنَازَعَةِ لا مَحَالَة. أمَّا الخَرَاجُ مقاسمةً، فيَصِحُّ مع جهالة الأجل، لكونه بين الإِمام والرَّعِيَّةِ، والأمنِ من إفضائه إلى المُنَازَعةِ، فللإِمام أن يُقِرَّ من شاء إلى ما شاء من غير مُدَافعٍ، ولا مُنَازِعٍ.(4/486)
2338 - قوله: (حتَّى أَجْلاهُمْ عُمَرُ إلى تَيْمَاءَ وأَرِيحَاءَ). وقصتُه: أن ابن عمر كان ذَهَبَ إليهم لحاجةٍ، فأَسْقَطُوهُ من السَّقْفِ، فخرجت رِجْلاه، فأجلاهم عمر من جزيرة العرب على ما كانت حدودها في ذهنه. وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأَخْبَرهُمْ بهذا الإِجلاء في أول أمرهم أيضًا. ثم إن أَرِيحَاءَ بلدةٌ في أطراف الشام، فَلْيُمْعِنُ النظرَ أصحابُ الجغرافية في أنها كانت داخلة في حدود جزيرة العرب في الدورة الإِسلامية أم لا؟ وهذا يُفِيدُ في شرح قوله صلى الله عليه وسلّم «أَخْرِجُوا اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب».
صحيح البخاري
باب ُ ما كانَ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلّميُوَاسِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا في الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَرَة
(5/150)
---
2339 - قوله: (قلت نؤاجِرُهَا على الرُّبُع)... إلخ، أي (كول) وهذه الصورُ كلُّها لا تَجُوزُ بالاتفاق. وإنما الخلافُ فيما يأتي في حديث جابر. وتلك الأحاديث تَدُلُّ على أن النهيَ عنها ليس لمعنىً في المُزَارَعَةِ، بل لأن أخذَ شيءٍ على أرضٍ فاضلةٍ عن حاجته بعيدٌ عن المروءة، فَلَهُ أن يَمْنَحَ أخاه مجَّانًا لِيَنْتَفِعَ منها، وقد مرَّ الكلامُ فيه.
2341 - قوله: (قال الرَّبِيعُ بن نَافِعٍ)... إلخ، وهو شيخٌ للبخاريِّ، وأبي داود، والطحاويِّ. وإنما حَصَلَ السماع منه للطحاوِيِّ، لأنه طال عُمْره، وبقي مُدَّةً طويلةً.
2345 - قوله: (فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ)... إلخ، أي احتياطًا، وإلا فإِنه قد وَفَّقَ هو بين الحديثين بنفسه، كما في الحديث الماضي.
صحيح البخاري
باب كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّة
صحيح البخاري
باب
والنهيُ فيه محمولٌ على الإِرشاد بالاتفاق عندهم جميعًا.(4/487)
2346، 2347 - قوله: (وكَانَ الذي نُهِيَ عن ذلك ما لو نَظَرَ فيه)... إلخ، يعني أن الصُّورَ التي نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن تعيين الخارج، أو قطعةٍ من الأرض، كلَّها على مخاطرةٍ لا تُدْرَى عاقبتها. ولو لم يَنْهَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعنها لَمَا جوَّزها عاقلٌ أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ ما جاءَ في الغَرْس
(5/151)
---
2349 - قوله: (كُنَّا نَغْرِسُهُ في أَرْبِعَائِنَا)... إلخ، وهذه الأَرْبَعاء كانت تُسْقَى من بئر بُضَاعة، كما يجيء التصريحُ به في البخاريِّ. وهذا هو مراد الطحاويِّ من كونها جاريةً، أي أنها كانت تُسْتَقَى منها الزروع كل وقتٍ، فلم تكن النجاسةُ تَسْتَقِرُّ فيها. فإن كان أبو داود زَرَعَها، وذلك أيضًا بعد مُدَّة مديدةٍ، ثم لم يَجِدْها عشرًا في عشرٍ، فلا بَأْسَ به، فإنه كان في عهد النبوة بحيث تُسْتَقَى منه المَحَاقل (كهيتيان)، والمزارع. ويكفي هذا القدرُ لإِثبات الجريان، فهو الجريانُ حقيقةً، لا بمعنى كونه عشرًا في عشرٍ. ومن لم يتنبَّهْ على مراد الطحاويِّ، طَعَنَ عليه، وقد بيَّنا لك حقيقةَ الحال.
2350 - قوله: (فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شيئًا أَبَدًا)... إلخ، ولَيُحْفَظْ هذا اللفظُ، فإنه صريحٌ في أن بركةَ دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّملم تَكُنْ مختصةً بحفظ مقالةٍ دون مقالةٍ، بل كانت عامَّةً لكلِّ ما يسمع أبو هريرة من مقالته، وهذا الذي يَلِيقُ بالإِعجاز، والبركة. وأمَّا قَصْرُهَا على المقالة التي في ذلك المَجْلِسِ فقط، فلا يَعْلَقُ بالقلب، كما يُوهِمُه بعض الألفاظ، فهو قصورٌ من الرواة(31).
صحيح البخاري
كتاب المُسَاقَاة
والكلام فيه كالكلام في المزارعة، والنقض النقض، والجواب الجواب، ولعل تفريعاتِ الإِمام الأعظم في «باب المساقاة» مع القول بالبطلان، لعدم كونها معصيةً في نفسها. وقد عَلِمت أن الشيء مع كونِه باطلا قد تكون له أحكامٌ.
صحيح البخاري
باب في الشِّرْب(4/488)
صحيح البخاري
باب في الشُّرْبِ وَمَنْ رَأَى صَدَقَةَ المَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جائزَةً، مَقْسُومًا كانَ أَوْ غَيرَ مَقْسُوم
أي حظّ الماء. والماءُ عندنا على ثلاثةِ أقسام، وراجع له «الهداية».
(5/152)
---
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآء كُلَّ شَىْء حَىّ} (الأنبياء: 30)...الخ. وعن ابن عباس أنَّ الله تعالى خَلَق الماءَ أولا، ثُمَّ خلق السمواتِ والأَرَضِين بتلطِيفه وتكثيفه، فظهر معنى {كُلّ شَىْء} بلا تأويل.
وادَّعَى علماءُ أوروبا أن أول المادة «السَّديم» كهر، ويا أَسَفَي على الناس إنهم إذا بَلَغهم أمرٌ مِن جِهتهم يُغْرِي بِقُلوبِهم، وإن كان من التُّرَّهات. وإذا سمعوا نبأً مِن وحي السماء إذا هم يَنْكُصُون. أوَ لا يرون حالَ تحقيقاتِهم أنهم يغزِلُون أمرًا في سنين، ثم يَنْقُصُونَه في ساعةٍ، كما حقَّقْوا بعد مُضِي الدهور؛ أنَّ نوعَ الإنسان كان من أصله قِرَدَةٌ، فتدرَّج، وتدرَّج حتى رقى إلى هذه النشأة، وسموه ارتقاءً، ثُم تبينَ لهم الآن أنه غَلَطٌ فاحش. فهذا حالُهم يؤمنون بأمرٍ وَجْه النَّهار، ويكفرون آخِرَهُ. وهكذا قد أنكروا وجودَ الرُّوح دَهْرًا طويلا، ثم آمنوا به.(4/489)
حتى ذكر «وجدي» في «دائرة المعارف»: إن مئتين وخمسينَ صحيفةً تشاعُ اليوم في إثبات وجود الروح، والجن. فيا حسرَتا على الذين تركوا وحي نبيِّهم لهولاءِ السفهاءِ، وآمنوا بما قالوه، وماتوا وهُم يَزْعُمون أن الروح والجنَّ أوهامًا. ولو كانوا اليومَ أحياءً لتحسَّروا على ما فرَّطوا فيه، وهم بعدُ في قبورهم يتحسرون، فهدانا الله، وثبتنا على سواء الصراط. فَتَرْك الإِيمان من ظُنونِهم الفاسدة، ليس من الكِياسة في شيءٍ، وإن زعموه كِياسةً، وعلمًا، وتحقيقًا، وَتَنَوُّرًا. فإنّه سَفَهٌ، وجهْلٌ، وحمق، وغباوة، وبعد ذلك عارٌ للإِنسانية إلى يوم التناد، أيتركون النورَ بالظلمة، والعلمَ بالجهل، والمشاهدةَ بالإِخبار، واليقينَ بالشكِّ، والصواب بالأغلاط، فأنَّى يذهبون، وبأي حديث بعده يؤمنون؟.
قوله: (ومَنْ رأى صَدَقةَ الماءِ وهِبَتَهُ ووصِيَّتَه جائزةً) ...الخ. ويجوزُ بَيْعُه أيضًا، كما في «الهداية».
(5/153)
---
قوله: (مَنْ يَشْتَرِي بئر رُومةَ)...الخ. وكانت ليهوديَ، وكان يمنعُ النَّاسَ عن مَائِهِ.
2351 - قوله: (غُلامٌ أَصْغَرُ) وهو ابن عباس، واعلم أن التيامُنَ في غَسْل أيدي الناس على الطعام يُعتبر من الصف. فالذي هو في يمين الصفِّ يَغْسِل يداه أولا. وأما في تقسيم الهدية، فيعتبرُ فيه يمينُ المُهدَى إليه، لأنها تُوضَع بين يَدَيْه، فالتيامُنُ فيما يكونُ باعتبار يمينِه، ولا عبرةَ فيه بالصفِّ.
صحيح البخاري
2351 - قوله: (فأَعطاهُ إيَّاه) وفي الرواية: أنه حرَّك يَدهُ، كما تُعْطَى الأُمُّ ولدَها سخطة وعنفًا، وتُحرِّكُ يدَها.
2352 - قوله: (أعْطِ أبا بَكْر)...الخ. وهذه واقعةٌ أُخْرَى.
صحيح البخاري
باب مَنْ قالَ: إِنَّ صَاحِبَ المَاءِ أَحَقُّ بِالمَاءِ حَتَّى يَرْوَى،لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ»(4/490)
تأويلُه أنَّ رجلا إذا حَفَر بِئرًا في أَرضٍ موات فيملكها بالإِحياءِ. فإذا نَزَل قومٌ في ذلك المكانِ - الموات - يرعون نباتَه، وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوزُ له أن يمنعَ أولئك القومَ مِن شُرْب ذلِك الماءِ، لأنه لو مَنَعهم منه لا يمكنهم الرَّعي، فكان مَنْعُهم عنه عِنادًا، وذا لا يجوزُ، فالمعنى لا تَمْنَعوا ما فَضَل من الماءِ ليصيرَ به كالمانع عن الخلاء. لأنَّ الوارِدَ حول ما أُعِد للرَّعي إذا مَنَعهُ عن عَمَلِ الورود اضطر إلى تَرْك رَعْي الكلأ أيضًا فيصير كَمَنْ صنعَ عن الماءِ المباحِ. ونحوه ذكره الخَطَّابي.
صحيح البخاري
باب مَنْ حَفَرَ بِئْرًا في مِلكِهِ لَمْ يَضْمَن
وهي جُبارَ
ع12) إذا كانت في مِلْكه.
صحيح البخاري
باب الخُصُومَةِ في البِئْرِ وَالقَضَاءِ فِيهَا
صحيح البخاري
(5/154)
---
باب ُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيل مِنَ المَاء
2356، 2357 - قوله: (مَنْ حَلَف على يَمين) قال الشَّارحون: إذا اجتمع لَفْظُ الحَلِف واليمين، فالمرادُ من اليمين المَحْلوفُ عليه.
قوله: (يَقْتَطِعُ) (مارنا جاهتاهي).
صحيح البخاري
باب ُ سَكْرِ الأَنْهَار
صحيح البخاري
باب ُ شُرْبِ الأَعْلَى قَبْلَ الأَسْفَل
صحيح البخاري
باب ُ شُرْبِ الأَعْلَى إِلَى الكَعْبَين
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ سَقْيِ المَاء
- قوله: (فَغَضِبَ الأَنْصَاريُّ فقال: أَنْ كان ابن عَمَّتك)، وفيه إشكالٌ، فإنَّ تلك الكلمةَ تُوجِب نِسبةَ الجَوْر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو كُفْرٌ بواحٌ، أو نِفاقٌ صُراح. وقد عَلِمت أنَّ الرَّجُلَ كان أَنْصاريًّا، والجوابُ عندي أنه أرادَ مِن قوله: «أَنْ كان ابن عمَّتك»، تَرْجيحَ أحَدِ الجائزاتِ بهذه الرعايةِ، دونَ الترجيح جانبَ الحرام. والمعنى أَنَّ استقاءَ الزُّبير، واستقائي كانا جائزين، ولكنَّك راعيتَ ابن الزُّبير، فَحَكَمْتَ له، لكونِه ابنَ عَمَّتك.
(5/155)
---(4/491)
قلت: لا ريبَ أنه قد أتى بعظيمٍ، ولكنَّ الغضبَ، قد يحمل المرءَ على نحو ذلك، فلا يُحْكَم عليه بالنِّفاق كما في «الهامش» كيف وقد ورد في «الصحيح» أنه بَدْري. والحلُّ أنَّ المولةَ الواحدةَ تختلِفٌ إيمانًا وكُفَرًا، بحَسَب اختلافِ النِّيات. ولا رَيْب أنها لو كانت على طريقِ الاعتراض فهو كُفْر. وعلى وِزَانه ما قلت، في مقولة فِرْعون: {ءامَنتُ أَنَّهُ لآ إِلِهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرءيلَ} (يونس: 90) ، فإِنَّها لو كانت على طريق التحقيق كانت إيمانًا إن صَدَرت في وقتها، أما إذا كانت على طَوْر التخليط، كما يقول المنافق في القبر: «لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون قولا فقلته». فليس من الإِيمان في شيء، وهذا يفيدك في جواب مَن ادَّعى إيمانَ فِرْعونَ.
2359، 2360 - قوله: (حتى يَرْجِعَ إِلى الجَدْر) ترجمته دول، وقدَّرها الفقهاء بالكعبين، ثم إنَّهم لا يذكرونَ تفصيلَ الأعلى، أو الأسفل في كُتُبنا. فتتبعته حتى وجدتُ مسألةً عن محمد في «غاية البيان» - للإِتقاني، وهو أقدمُ من ابن الهُمام - يمكنُ حَمْل الحديثِ عليها، نقل عن محمد أن ذلك يُبْنى على العُرْف، فإِن جرى العُرْف بِسْقي الأَعلى، كما في الحديث فكذلك، وأن جَرى على التقسيم، فعلى ما جرى به العُرْف.
صحيح البخاري
باب مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الحَوْضِ أَوِ القِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِه
أي إذا أَحْرز الماء في الإِناء، فليس لأَحَدٍ أَنْ ياخُذَ منه إلا بإجازَتِه.
2367 - قوله: (لأَذودَنَّ رجالا عن حَوْضى)...الخ. وهذه أيضًا قرينةٌ على كَوْن الحَوْض بعد الصِّراط، فإِنَّ تلك الحِصَصَ تكون في فِنَاءِ الجنةِ. دون المَحْشَرِ.
صحيح البخاري
باب لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِه ِصلى الله عليه وسلّم
ولا ذِكْر لِلحِمَى في فِقْه الحنفيةِ.
صحيح البخاري
(5/156)
---
باب ُ شُرْبِ النَّاسِ وَسَقْي الدَّوَابِّ مِنَ الأَنْهَار(4/492)
2371 - قوله: (ورَجُلٌ رَبَطَها تَغَنِّيًا) وهو من الأفعالِ التي يختلفُ معناها باختلاف مصادِرها. فالمصدرُ إن كان غِنى، فهو بمعنى صار ذا مال، وَغنى - بالفتح - بمعنى أقام، وغِناء بمعنى ترنُّم.
ولذا بحثوا في لفظ التغنِّي في حديث: «مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن». الخ. أنه بمعنى حُسْن الصوت، أو الإِثراء.
2371 - قوله: (لم يَنْس حَقَّ اللهاِ في رِقابها ولا ظُهُورِها)...الخ. فيه حُجةٌ للحنفية لوجوبِ الزكاةِ في الخيول، لأنه ليس في رِقابها حقُّ سوى الزكاةِ. فإِنَّ العارِيّة، وغيرها كُلُّها حقوقٌ تتعلَّق بالظَّهر. فهذا اللفظُ يُشْعِرُ بكون الزكاة في الخيلِ، كما هو مذهب الحنفية، وتأويلُ النوويِّ بعيدٌ، وإنَّما خَفي أمْرُ الزكاةِ فيها لكونها في عهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقليلةً جدًا، وقد أخرج الزَّيلعي ثلاثَ وقائعَ لأَخْذ الزكاة منها في زمن عُمرَ.
2371 - قوله: (ما أُنْزلَ الله عليَّ فيه شيءٌ، إلا هذه الآية الجامِعةُ الفاذَّةُ)...الخ، وأَخَذْتُ منه فائدتين: الأُولى أنَّ الخاصَّ والعامَّ إذا تعارضا فالترجيحُ للخاصِّ، والثانية: أنَّ الأَخْذَ بالعمومِ إنَّما يكونُ بعد انعدامِ الخصوص في الباب، ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إنه ليس عندي» خاصّ يكونُ وَردَ في هذا الباب غير العموم، ولو كان لأَتى به.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الحَطَبِ وَالكَلإ
وهما مِن المباح الأَصْل، وأما إذا أَحْرزَهُما حَزْمًا أو جزرًا، فيجوزُ بَيْعُهما، كالماء. ولهما باب في «الهداية» عَقَده عند باب الشُّرب، فراجع التفاصيل فيه، وأما في الحديث فهو جائزٌ عندنا أيضًا، كما علمت.
صحيح البخاري
باب ُ القَطَائِع
صحيح البخاري
باب ُ كِتَابَةِ القَطَائِع
(5/157)
---(4/493)
ولا يوجدُ تفسيرُه في الفِقْه بما يَكْفي ويَشفي، وقد ورد لَفْظُ: «الإِقطاعات السلطانية» في موضع من «الدرّ المختار»، ولكنه لم يفسره. وقد ورد لفظ الإِقطاع في كتاب «الخراج» لأَبي يُوسف كثيرًا، ويُستفادُ منه أنه استعمله لإِجازَة إحياء الموات، ويُستفاد من كُتْب المتأخرين أنه إعطاءُ السلطان رقبةِ الأَرض. ويقال له في اللسان الهندية: جاكير، وفي التركية سيرغال، وفي سكندرنامه:
*توملك من اقطاع من مي دهى
** برات سهيل ازيمن مى دهى
وبالجملة الإِقطاع في عُرْف المتقدمين: إعطاءُ الأَرض للإِحياء، سواء وجب فيها العُشر أو الخَرِاج، وفي عُرْف المتأخرين هو تمليكُ الأرض مرفوعةً عن المؤن، فلا يكونُ فيها العُشْر، ولا الخَراج، وترجمته (معاني دوام)، والأحاديث تحمل على عُرف المتقدمين.
2376 - قوله: (أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يُقْطع من البحرين)...الخ، ومعناه ما مهدت من أنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأجازَه أَنْ يحيَ أرضًا من البحرين.
صحيح البخاري
باب ُ حَلَبِ الإِبِلِ عَلَى المَاء
وهذا هو الحقوق المنتَشرةِ، وقد مرّ التنبيهُ عليها في أبواب الزكاة. إنَّ في المالِ لحقًّا سوى الزكاة، أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ في حَائِطٍ أَوْ نَخْل
والممرُّ من الحقوق. فإن كانت الأرضُ مملوكةً له، فحقُّ الممرّ ظاهرٌ، وإن لم تكن فقد أثبته الفقهاءُ أيضًا. وذلك لأنه لا يختصُّ بالمِلكية عندهم، ويجري فيه الوصيةُ، والهِبة، والتوارثُ دونَ البيع.
قوله: (حتى يَرْفَعَ) أي يكون حقُّ الممر للبائع في هذه السَّنة، حتى يجد ثمارَه، فإِنَّ الشَّارع لما جَعَل ثمارَها له، ثبت له حقُّ الممرّ لا محالةَ؛ نعم لاحقَّ له بَعْد تلك السَّنة.
(5/158)
---(4/494)
قوله: (أن تُباع العَرَايا بِخَرْصِهَا) وقد مرَّ الكلامُ في تفسير العرايا في «البيوع» وادَّعِيت أَنا مِن قِبل نفسي - وإن لم يذكره فقهاؤنا - أنَّ تفسير الشافعيةِ أيضًا يأتي على مسائل الحنفية: بأَنْ يُقال: إن الرُّطَبَ، وإنْ كانت مَخروصةً أولا، لكنَّها تتعيَّنُ بعد الكَيْل، فإِنه إذ يسلِّمها إليه لا يسلِّمُها إلا بالكيل، فيكونُ بيعُ التمر بالرُّطَبِ كيلا بكَيْلٍ آخِرًا. وهذا عندنا جائزٌ. ولقائل أن يدَّعى بأنَّ كَيْلَ الرُّطب أيضًا عندهم كان معروفًا، لما روى: «نهى النبي صلى الله عليه وسلّمعن بَيْع الرُّطب بالتمر. ثم سألهم أينْقُصُ الرُّطَبُ إذا جفَّ؟ وهذا السؤال لا يستقيم، إلا إذا كان الكيلُ فيه معروفًا. وإذا ثبت الكَيْل في الرُّطب، ثبت أنها لو كالها البائعُ بعد الجذِّ عند التسليم جاز البيع المذكورُ على مسائلنا أيضًا، فإِنَّه يصيرُ البيعُ كَيْلا بكيْل، غيرَ أن كَيْلَ التمرِ كان في أوَّل الحالِ، وفي الرُّطَبِ في آخره.
ثُم إنّ تفسير الشافعية: رُوي عن سَهَل بن أبي حَثمة - وهو صحابيُّ صغيرُ السِّنّ - ورُوي عن زيدُ بن ثابت، - وهو أزيدُ منه عِلمًا، وأكبر منه سِنَا - نحو مذهب الحنفية، عند الطحاوي، ففيه قال زيدُ بن ثابت: «رخُّص في العَرَايا في النخلةٍ، والنخلتين تُوهبانِ للرجل، فيبيعهما بِخْرصِهما تمرًا»، قال الطحاوي فهذا زيد بن ثابت، وهو أحد من رَوى عن النبي صلى الله عليه وسلّمالرُّخصة في العَريَّةِ، فقد أخبر أنها الهبة، اه. ثم إنَّ راويًا قد جعل البيع بشرط: - إن زاد فلي، وإن نقص فعلي - مُزابنةً من جهة هذا الإِبهامِ فقط. لأن تعيينَ المبيع مطلوبٌ، ولما كان في الصورة المذكورة إبهامًا أدخلها تحت المزابنةِ، وإلا فلا وجْهَ لعدمِ جوازها فِقهًا.
2380 - قوله: (أَن تُباع العَرايا بِخرصِها تمرًا) ولا ذكِر فيه للعِوض، فيجوزُ أن نَحْمِله على النّقْدين، ولا يجب أن يكون رُطبًا.
(5/159)
---(4/495)
صحيح البخاري
2381 - قوله: (وأنْ لا تُباع إلاّ بالدِّينارِ والدَّرَاهم إلاّ العَرَايا) ويتبادَرُ من هذه الرواية أنَّ العوض في العَرِيَّة يكون غير النقدين، كما هو ظاهر لاستثناءِ العَرايا عن البيع بالنَّقدين.
قلت: وهذه الرواية قد أخرجها البخاريُّ في: «باب بَيْع الثَّمر على رءُوس النَّخْل بالذهب والفضة، وهي عن جابر أيضًا؛ وسياقُها مغايرٌ له، ففيه نهى النبي صلى الله عليه وسلّمعن بَيْع الثمر حتى يَطيب، ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدِّرْهم، إلا العرايا» اه. فهذا الترتيب يغايرُ ما في الباب. والحاصل أن الرواة يقدّمُون ويؤخِّرون، فبناء المسائل على تعبيراتِهم ليس بجيِّد، ما لم يتعيِّن اللفظ على وجهِه، والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
كتاب ٌ فِي الاِسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالحَجْرِ وَالتَّفلِيس
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اشْتَرَى بِالدَّينِ وَلَيسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ لَيسَ بِحَضْرَتِه
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلافَهَا
إعلم أن عندنا يكون بثلاثةِ أشياء: إما الصِّبَى، أو الجُنون، أو الرِّق، وأما عند صاحبيه: فبالإِفلاس، والسَّفَاهة أيضًا. وقد شَنَّعِ ابنُ حزم على أبي حنيفة في إنكاره الحَجّر بالسَّفاهة، وزَعَم أن قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآء أَمْولَكُمُ} (النساء:) صريحٌ في إثباتِ الحَجْرِ على السَّفيه.
(5/160)
---
قلت: ولو كان فيه مارامه لكانت الآيةُ هكذا: لا تؤتوا السفهاءَ أموالَهم، فإِنَّ الحَجّر يكون في مال نفسه، لا في أموال النَّاس، فافهم فإِنَّ العجلة تعملُ العجائِبَ. ولا عبرةَ بالتفليس عندنا في القضاء. وهو الإِعلانُ بإِفلاسِ رَجُل، وذلك لأنَّ المال غادٍ ورائحٌ، فيمكن أن يَحْصُل له مالٌ عقيب الحكم بالإِفلاس، ثُمّ الحَجْر اسمٌ لإِبطال التصرُّفاتِ القَوْلية، أما الفِعْلية فلا سبيلَ إلى إبطالِها.(4/496)
صحيح البخاري
باب ُ أَدَاءِ الدُّيُون
إلا مَنْ قال: هكذا، وهكذا، يعني به سُبُلَ الخَير.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِقْرَاضِ الإِبِل
وقد مر وجه الحديث عن قريب.
صحيح البخاري
باب ُ حُسْنِ التَّقَاضِي
صحيح البخاري
باب هَل يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ؟
صحيح البخاري
باب ُ حُسْنِ القَضَاء
والتقاضي من جانب الدائن، والقضاءُ من جانب المَدْيون، ولذا بوَّب بعده «باب حُسْن القضاء».
أي إِذَا قضى المديونُ أَقلَّ مِن حَقِّ الدائن، ورضي بهِ الدائن، أو لم يؤدِّ المديونُ إليه شيئًا، ولكنَّه حَلَّله عن الدائن، فَأَحَلَّ له، فهو جائزٌ.
واعلم أَنَّهُ اختُلِفَ في أَنَّهُ هَلْ يَكْفِي للتحلُّلِ الاستعفاءُ المُبْهَم، أَم لا بدَّ مِن التفصيل فيما أضاع من حقوقِهِ فَرْدَا فَرْدَا؟
صحيح البخاري
باب إِذَا قَضى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِز
والمسألة عندنا إذا صار الدائن، فأَحَلَّ له، فهو جائزٌ.
واعلم أنَّه اختُلِف في أنّه هل يَكْفي للتحلُّلِ الاستعفاءُ المُبْهَم، أَم لا بدَّ مِن التفصيل فيما أضاع من حقوقِهِ فَرْدًا فَرْدًا؟
صحيح البخاري
باب إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّينِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيرِه
(5/161)
---
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّين
صحيح البخاري
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَينًا
صحيح البخاري
باب مَطْلُ الغنِيِّ ظُلم
صحيح البخاري
باب لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَال
والمسألة عندنا فيما إذا صار الدائنُ مَدْيونًا لمديونه، بِوَجْهِ من الوُجوُهِ، أن المقاصَّة لا تقعُ بينهما، إلا أنْ يقولا باللسان: إنا تقاصينا العشرةَ هذه، بَدَلَ هذه العشرةِ، أما المصنِّف فهو مختارٌ في مسائله، وليس مُتَّبعًا للحنفية ليكون حُجَّةً عليهم.(4/497)
قوله: (أو جَازَفَهُ)، وقد ذَكَرْنا الفَرْقَ بين الخَرْص والمجازَفةِ. أما قولِه: فهو جائز، تمرًا بتِمر، أو غيرِه، ففي الهامش أن هذه الترجمةَ خِلافُ الإِجماع، وخلاف النُّصوص للتصريح بِكَوْنِ المساواةِ والتقابض شرطَيْنِ في الأموال الربوية.
قلت: وهذا الاعتراضُ ساقِطٌ، لأن هذا من باب المسامحات، والإِغماض، دون المماكسة، والتنازع. وليس في الفِقْه إلا بابُ التنازع، والسرُّ فيه أن باب المسامحات، لا يأتي فيه التكلِيفُ، ولا يُجبر عليه أحدٌ، إنما هو معاملةُ الرجل مع الرجل على رضاء نفسه، فلم يذكروا في الفِقْه إلا أحكامَ القضاءِ، وهي التي مما يُجْبرُ عليها الناسُ، وقليلا ما ذكروا أبواب الديانات. والنَّاسُ إذا لم يَرَوا مسألةً في الفِقْه يزعمونَها منفيةً عندهم، مع أنَّ الفقهاءَ إنَّما تكلموا فيما في دائرةِ التكليف. والتي ليست كذلك لم يتعرضوا لها، وإن كانت جائزةً فيما بينهم.
(5/162)
---(4/498)
فما ذكره البخاريُّ ليس من باب البيوع، بعد الإِمعان، بل مِن باب التعاطي، فإِذا أغمض الناسُ في التجازف في التمرِ والأموالِ الرِّبويَّة في التعاطي، جاز عند البُخاري، فإِنْ أَخذ رجلٌ عشرةَ أَوْسُق من التمر دينًا عليه، فإِذا حلَّ الأجلُ أدَّاها مجازفةً، على طريقِ التسامح، ولم ينازِعْهُ الدائنُ، وقَبِله، وأغمض عنه يكونُ جائزًا عنده. كيف لا وقد يَفْعَلُه الناسُ فيما بينهم إلى اليوم. ولا ينبغي قَطْع النَّظَر عَمَّا يتعارفُ النَّاسُ فيما بينهم من العمل. فينبغي أن يكون جائزًا، ولا دَخْل فيه لخلاف الإِجماع، نعم يُحْمِل على الدياناتِ دون القضاء، ألا ترى أنَّ الرُّفقاء في السَّفرِ يأكلون طعامهم على مائدةٍ واحدةٍ، وسُفرةٍ واحدةٍ، ولا يأتي فيه قائل يقول، مع أنه ينبغي أن لا يكون جائزًا فِقْهًا، فإِنَّه شرِكةً أولا، ثم تقسيمٌ بالمجازَفَةِ آخِرًا، مع كونِها من الأموالِ الربوية. وكذا جرى العُرْف في استقراض الخُبْز، ولم يَحْكُم فيه أحدٌ بالحُرْمَةِ، فهذه أبوابٌ لا ينبغي أن يُقْطَع عنها النَّظَرُ، ونَظيرُها ما ترجَم به البخاريُّ في أوَّل باب الشركة. باب الشَّرِكة في الطعام، والنَّهدِ، والعُروض، وكيفية قسمة ما يكال ويوزنُ مُجازفةً - الخ.
صحيح البخاري
2396 - قوله: (وفَضَلَتْ له سَبْعةَ عَشَرَ وِسْقًا) ...الخ. وفي ألفاظِ تلك القصةِ مغايراتٌ كثيرةٌ في بيانِ مقدار الفَضْل وغيرِه، وحَمَلها الحافِظ على تعدُّد القصة. قلت: كلا، بل هي من أوهام الرواةِ البتة. ولا حاجَةَ لنا إلى التزامِ التعدُّد عند تبيُّنِ الأوهام.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفلِسٍ فِي البَيعِ وَالقَرْضِ وَالوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِه
(5/163)
---(4/499)
واعلم أنه إذا اشترَى شيئًا وقَبَضَه، ولم يؤدِّ ثَمَنَهُ حتى أَفْلَس. فإِن كان المبيعُ قائمًا في يَدِه اختلف فيه الفقهاء: فقال الشافعي: إنَّ البائعَ أحقُّ به، للحديث. وقال أبو حنيفة وصاحِباه: إنَّ البائعَ فيه أسوةُ الغرماء، أما إذا لم يقبضه فالمسألةُ عندنا أيضًا كالمسألةِ فيما بعد القبض عنده. أما البُخَاري فالحديث عندَه عامٌ في الأمانات، والمعاوضات سواء. وأجاب عنه الطحاويُّ بِحَمْل حديثهم على العَوارِي والأمانات والغصوب. وأما غيرُ تلك الصور، كالمعاوضَاتِ والدُّيونِ. فلم يَرد الحديثُ فيه، وإنما ورد فيما وَجَدَ مالَه بعينه، والمبيع ليس من مالِه، بل هو من مالِ المشتري، لأن تبدُّلَ المِلك يوجب تبدُّلَ العين، فوجب أن يُحْمل على العواري والودائع مما يصدُقُ فيه على الشيءُ أنه من ماله.
قلت: وهذا الجوابُ لا يشفي، للتصريح بِكَوْنِ الحديثِ في البيوع أيضًا. فعند «مسلم»: «الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرقه أنه لصاحب الذي باعه». اه. وكذا عند أبي داود: «أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحقُّ به» اه. وكأنَّ الطحاوي قَطَع نظرَه عن هذه الألفاظ، فالجواب عندي أن ما في الحديث مسألة الديانة دون القضاء. ويجب على المشتري ديانةً أن يبادِرَ بسلعته فيردّها إلى البائعِ قَبل أن يرفَعَ أَمرَه إلى القضاء، فَيُحْكَم بالأُسوة.
(5/164)
---(4/500)
بقي أن حقَّ البائعِ بسلعته هل يبقى بعد قبضِ المشتري، أم لا؟ فقد مرّ معنا نظيرُه، فيما إذا فَرَسٌ لأحدٍ إلى دار الحرب، فاستولي عليها المسلمون: أنّ مالكها أحق بها قبل القِسمة، وبعدها بالثمن، فدلَّ على بقاءِ حَقَّه شيئًا. فهكذا فيما نحن فيه يكون البائعُ أحقَّ به ديانة لبقاء حَقَّه في الجملة، وإن انقطع عنه في الحُكْم. وأما إذا لم يَقْبِضُه المشتري فالبائعُ أحقُّ به عندنا أيضًا، كما علمت. وبحث في «الهداية» أنَّ المبيع قبل القَبْضِ هل يَثْبُت عليه مِلكُ المشتري أو يثبت حَقُّه فقط؟
قوله: (وقال الحَسَن) ...الخ. ولا يجري هذا إلا على مذهب الصاحبين، فإِنَّ للتفليس أحكامًا عندهما، وأما عند الإِمام الأعظم فلا حُكْم له، كما عَلِمت. وراجع المسألة في «كتاب الحَجْر».
قوله: (وقال سَعِيد بن المسيَّب) ...الخ، وهذا يأتي على فِقْهنا أيضًا.
صحيح البخاري
2402 - قوله: (في إسنادِ الحديث الآتي: (أخبرني أبو بَكْر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم) ...الخ. هذا هو الذي ورد في إسناد حديث الحنفية في نصاب الزكاة.
صحيح البخاري
باب ُ مَن أَخَّرَ الغَرِيمَ إِلى الغَدِ أَوْ نَحْوِهِ، وَلَمْ يَرَ ذلِكَ مَطْلا
الغرضُ منه التنبيهِ على أن على أن المُطْلَ أَمْرٌ عُرْفي، فليس التأخير بيوم، أو يومين مُطْلا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ بَاعَ مَالَ المُفلِسِ أَوِ المُعْدِمِ، فَقَسَمَهُ بَينَ الغُرَمَاءِ،أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفسِه
دخل في مسائل الحَجْر.
(5/165)
---(5/1)
قوله: (من يشتريه مني) ...الخ، واعلم أنا قد نِبِّهْناك فيما مرَّ أن تراجِم المصنِّف على قِصة بَيْع المُدبَّر مُختلِفةً متهافتة، فبعضُها يدلُّ على جواز بَيْعه حالَ التدبير، وبعضُها على بَيْعه بعد إلغاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمتدبيرَهُ ورده إلى الرقية، ففيه إثبات الحجر. وبَعْضُها يدلُّ على أن البيعَ كان تعزِيزًا له. وهكذا فعل المصنِّفُ في معاملة خَيْبر، فقد جعلها إجارةً، وأخرى مزارعةً، وقد مرّ.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ أَجَّلَهُ فِي البَيع
صحيح البخاري
باب ُ الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّين
وقد مرّ أن الأَجَلَ لا يلزم في القَرْض قضاءً، وإن لزِمه ديانةً، فإِنه وعْدٌ، ومَنْ يُخْلِفُ فيه يَلْق أَثامًا: أما في القضاءِ فله أن يطالِبه قَبل حلولِ الأَجل. وما يُتوهم من بعضِ العبارات أنَّ الأجلَ في القَرْض معصيةٌ، فليس بشيءٍ، وقد مرَّ عن قريب.
قوله: (أو أَجَّلَه في البَيْع) وهذا لازِمٌ بالاتفاق، فإِنّه من المعاوضات، بخلاف الأَوَّل، فإِنه كان من باب المرُوءات.
قوله: وقال ابن عمرَ في القَرْض إلى أَجل: لا بَأسَ به، وإنْ أُعْطي أَفْضَلَ مِن دراهِمه ما لم يشترط) ...الخ. يعنِي إذا لم يشترطِ الفَضْل عند الاستقراض، وأعطاء ذلك عند الأداء، طاب له ذلك. وهذا الذي قلت: إنَّ باب المروءات غيرُ باب القضاء. فما حَكَم ابنُ بطَّال بكون بعض تراجِمِه خلافَ الإِجماع ليس بشيءٍ، فإِنَّها محمولةٌ على الديانات، كما مر. وإنما اضطر بكونها خلافَ الإِجماع، لأنه حَمَله على القضاء، وكذلك من يُجرُّ مسائلَ الديانات إلى الفِقْه يتقوَّل نحو هذا.
قوله: (قال عطاءً وعَمْرُو بن دينار: هو إلى أَجَلِهِ في القَرْض) ...الخ. ويُعلم من كلامه أن الأجَل لازمٌ في القَرْضِ قضاءً أيضًا، وعندنا ديانةً فقط.
(5/166)
---
صحيح البخاري
باب ُ مَا يُنْهى عَنْ إِضَاعَةِ المَال
صحيح البخاري(5/2)
باب العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَلا يَعْمَلُ إِلا بِإِذْنِه
- قوله: ({أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا})(هود: 87) ...الخ. وإنَّما أَتى البخاريُّ بمقولةِ الكُفَّار باعتبارِ كونهم من العقلاء.
قوله: ({وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآء أَمْولَكُمُ}) (النِّساء: 5) ...الخ وهكذا عندنا، وإن لم يكن حَجْرًا في الاصطلاح، لأنه يكون في مالِ نفسه.
قوله: (وإضَاعَةَ المالِ) وهذا نحو الإِسراف مما لا يكادُ ينضبطُ، وقد يَحْكم الذِّهْنُ على شيءٍ بكونه إضاعةً وإسرافًا، وأخرى لا يَحْكم بذلك، فليُفَوِّض إلى رأي المُبْتَلى به.
تتمة مهمة: (في حُكم بيع الرُّطب بالتمر)
اعلم أنه اختُلف في بيع الرُّطب بالتمر، فجوَّزه الحنفيةُ، وأنكره الآخرُون، واستدلو بحديث النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «نَهى عن بَيْع الرُّطب بالتمر»، وأجاب عنه الطحاويُّ بإِخراج زيادةٍ فيه، وهي: «نَهى عن بَيْع الرُّطَب بالتمرِ نسيئةً». فالنهيُ راجعٌ إلى القيد دونَ نفّس البيع، قلت: وفي الحديث إشْكالٌ آخرَ، وهو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمسألهم عن الرُّطب، أنه هل يَنْقُضُ إذا يَبِس أَم لا، وحينئذٍ لو كان مَنَاطُ النَّهي كونَه نسيئةً لم يكن لهذا السؤًّل فائدةٌ، فإِنَّه يدلُّ على كونِ الزيادةِ والنقصانِ مَنَاطًا، لا كَوْنِ البيعِ نسيئةً، ولم يتوجهوا إلى جوابه.
(5/167)
---(5/3)
قلت: وشَرْح الحديثِ عندي أن معنى النسيئةِ ليس على ما تعارفوه، بما بمعنى رعايتِه ثاني الحال: فالحاصل أَنَّنه نهى عن بيع الرُّطب بالتمر برعايةِ الرّطب بعد اليَبْسِ يصيرُ مساويًا لهذا التمر. فالرعايةُ في الرُّطَب بكونه مساويًا للتَّمرِ بعد اليبْس، هي التي عَنَيْناها بقولنا: ثاني الحال، وإن كان العِوضان ههنا معجلين، فليس معنى النَّسيئةِ كونَ أحد العِوَضين موجودًا، والآخر واجِبًا في الذِّمَّة، وهذا نحو ما في العَرِّيَّة، فإنَّ بيعَ التَّمْرِ بالرُّطَبِ فيه يكونُبِخَرْصِها تَمْرًا، وخَرْصَهَا أن يُقَدِّر أنها كم تَبْقى بعد يَبْسها وصيرورتِها تَمْرًا، فكما أنَّ الخَرص في الرُّطَب إنما كان باعتبار ثاني الحال، كذلك النَّسِيئة ههنا.
والمعنى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنهى عن بَيْعِ الرُّطب بالتمر نظرًا إلى ثاني الحال، لإفضائه إلى المنازعة، فبقاءُ بَيْعِها في الحالة الراهنة جائزةٌ، خارجةٌ عن قضيةِ الحديث. ومِن ههنا تبيَّن وجه سؤال النبي صلى الله عليه وسلّمأَيَنْقُضُ الرَّطَبُ... الخ أيضًا. لأنَّ بُيوعَهم، في الرُّطب إذا كانت بهذه الرعايةِ ناسَب سؤاله قطعًا. فإنَّه إذا اتضح الرُّطب التفاضُل بين الرُّطَب. والتَّمر في ثاني الحال، تَبيَّن أن رعايتَه تُقْضي إلى المنازعة لا محالة: «فلا تَبِيعوه نسيئةً»، أي بهذه الرعايةِ، بل بيعوه باعتبار الحالةِ الراهنةِ، وهو معنى قوله: «فلا إذن»، أي إذا عَلِمتم النُقْصان في ثاني الحال، فَبيْعُكم بهذه الرعاية ليس بجائز. وجملةُ الكلام أن البيعَ المذكور جائزٌ عندنا باعتبار الحالة الراهنة، وغيرُ جائزٌ برعايةٍ إنْ تساوي التَّمر بعد اليَبْس، وهذا إذا حَمْلت النسيئةَ على المعنى المذكور.n
صحيح البخاري
(5/168)
---(5/4)
أما إذا حَمَلْته على معناه المعروف فلك أن تقول: إنَّ السؤالَ لِتعليم أَمْرٍ مُفِيدٍ فقط، وإن كان محطُّ الفائدةِ هو قَيْدَ النَّسيئة فقط. وقد قَرَّره المَرْجاني في «حاشية التلويح»، ولعله من باب التعارُض.
صحيح البخاري
كتاب الخُصُومَات
صحيح البخاري
باب ُ مَا يُذْكَرُ فِي الإِشْخَاصِ وَالمُلازَمَةِ وَالخُصُومَةِ بَينَ المُسْلِمِ وَاليَهُود
والإِشخاص هو إحضارُ المُدَّعي عليه في محكمة القضاء.
قوله: (والخُصومةِ بين المُسْلِم واليهودي) يعني أن اتحاد المِلَّتين ليس بِشَرْط في الدَعَاوى، وهكذا ينبغي.
2410 - قوله: (فأَخَذْتُ بِيَده، فأَتيْتُ به رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم.واعلم أَنَّ الإِشخاصَ إحضارُ الرَّجلِ بِحُكْم القاضي جَبْرًا، وليس في الحديث ذلك. فإِنه طاوعه، وأتى بِطَوْعٍ وَرغبةٍ، ولكن لما شابهت صورتُه صورةَ الإِشخاص تمسك به المصنِّفُ.
2411 - قوله: (فَلَطَمَ وَجْهَ اليَهُودِيِّ). وفي الشروح أَنَّه أبو بكر.
(5/169)
---(5/5)
2412 - قوله: (لا تَخبرُوني)...الخ. والتَّخْيير على نحوين، والممنوع منهما يا يُوهِم تنقيضَ الآخر. وقيل في الجواب: إن قوله «لا تُخبِّروني» من باب التواضع. وما في الروايات مِن الفصل بيانُ العقيدةِ، فلا تناقض، ولا يلزم أن لا يتواضعَ الكامل أبدًا، فإِنَّه لا يزيدُه إلا فَضْلا على فَضْله، فَمَن حَمَل تواضُعه مخالِفًا لكماله. فكأن لم يقم بالفَرْق بين الموضِعين، والأحوطُ في هذا الباب عندي أن يُتَجاسر في باب التفاضل، ولا ينهمك فيه، لئلا يتجاوز عن الحدِّ، فيقع في حفرةٍ من النار. وذلك لأنَّ سائرَ الأنبياء سواسيةٌ في باب الإِيمان بهم، واحترامهم، وتبجيلهم، وإن كانوا مختلفين في الفضل، فالمقصودُ من الأحاديثِ الواردةِ في باب الفَضْل تقريرُ العِلْم والعقيدة، دون الممارسة في العمل كما شاع اليوم في زماننا، ألا ترى ماذا وقع فيه بين اليهوديِّ والمسلم حتى قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فإِنَّ الناس يصْعَقُون»...الخ.
(5/170)
---(5/6)
2411 - قوله: (فإِنَّ النَّاس يَصْعَقُون يومَ القيامة، فأصعق معهم، فأكون أَوَّل مَنْ يفيق، فإِذا موسى باطِشٌ، جانب العرش، فلا أدري كان فيمن صَعِق، فأفاق قبلي، أو كان مِمَّن استثنى الله) وههنا إشكال، وهو أنَّ الحديثَ مُقْتَبسٌ من قوله تعالى: {فَصَعِقَ من في السموات ومَن في والأرض إلا مَنْ شاء ااُ، ثُم نُفِخ فيه أُخرى، فإذا هم قيامٌ يَنْظُرون (الزمر: 68) ذَكَر القرآنُ فيه نَفْختين: نفخة للصَّعقة والإِماتة، وَنفْخة للبَعْث والنُّشور، واستثنى مِن النَّفْخةِ الألألى، وهي نَفْخَةُ الصَّعْقةِ أشياءَ أبهمهما، قال المفسرون: وهي الجنةُ والنَّارُ وأمثالُهما، مما لا يأتي عليه الفَناء. فلو قلنا: إنَّ موسى عليه الصلاة والسلام أيضًا كان مِمَّن استثناه ااُ، كما في هذا الحديث، يلزم أن لا يكونَ دَخَل تحت الموتِ أيضًا، فإِنَّ المُستثْنَى في الآية هو ما لم يدخل تحت الفَناء، فلزم أن يكون موسى عليه الصلاة السلام أيضًا كذلك، ولعله سلمه الكَرِماني:
صحيح البخاري
قلت: كيف وموتُه مذكورٌ في صحيح البخاري. فأَوَّلُ مَن أجاب عنه القُرطبي في شَرْح مسلم فقال: إنَّ نفخةَ الصَّعْقةِ تكونُ لإِماتة الأحياء ساعتئذ. وأما الذين قد ماتوا، فيُغْشَى على أرواحِهم، فيصيرونَ كالموتى.
وحاصله أنه لا يبقى شيء إلا ويتأَثَّر منها، فإِنْ صَلَح للَفناء يَفْنَى، وإن لم يصلح له، كالأرواح، فإِنها حياة مَحْضَةٌ، يُغْشى عليهم ثُم يستمرُّون على هذا الحالِ إلى أربعينَ سنةً، ثُم تُنْفخ فيه أخرى. فإِذا الأمواتُ يصيرونَ أحياءً، والأرواحُ مُفِيقاتٌ، وظَهَر منه أنًّ الصَّعْقةَ في القرآنِ اشتملت على الأمْرَين: الموت للأحياء، والغُشيء للأَرْواح. وحينئذٍ لا يلزمُ مِن دخول موسى عليه الصلاة والسلام في الاستثناء عَدَمُ وفاته، بل عدم غُشْية فقط.
(5/171)
---(5/7)
ومعنى الحديث أنَّ الناسَ يَحْصُل لهم الموتُ أو الغُشي، فَيُغْشَى عليَّ أيضًا، وإن كان بين الغُشي والغُشي تفاوتٌ، فأكون أوَّلُ مَنْ يفِيقُ، وأنظر موسى عليه السلام أَنَّه باطشٌ بجانب العرش. فلا أَدْري أَنه كان فيمن غُشِي، فأفاقَ قبلي، أو كان مِمَّن استَثْنى ااُ، فلم يُغْشِ عليه. والشِّقُّ الثالث ههنا محذوفٌ، وهو أَنَّهُ حُوسِب بصَعْقَة على الطُّور. وكنت أردد فيه، لأنَّ ادِّعاء غُشْي الأرواح إلى مدةٍ مديدة لا بدَّ له من روايةٍ، أو قولٍ من السَّلف. وتَسْليمُه بَقوْل القُرْطبي عسيرٌ، لكونه إخبارًا عن الحقائق الغائبة. ثُم اطَّلعت على رواية فيها غُشْي الأَرواح أربعينَ سنةً. ولعل إسنادَه ضعيفٌ، مع هذا يكون لجوابه نفاذ. ومن ههنا تبيَّن وَجْه قوله تعالى: مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ؛ هَذَا} (يللهس: 52)، وقد تكلَّمنا عليه مرةً، وفيه أيضًا إشكالٌ، فإِنه يدلُّ على رُقودِهم في القبور، والأحاديثُ وَرَدَتْ بعذابهم، ودعائهم بالوَيْل والثُّبور.
وحاصل الجواب أنه حكايةٌ عن مُدَّة غُشيهم تلك، أي لو بقينا كذلك مَغْشيًّا علينا. ولم تحصل لنا الإِفاقةُ لكان أَحْسن. ثم إنَّ الآية تَرِد على القائلين بنَفْي السماع لدلالته على الرُّقاد، ونفي العذاب أيضًا، فماذا يصنعون بها؟ فلا بدَّ لهم مِن أن يذكروا لها وجهًا، فينبغي لهم أن يَطْلُبوا وجها لآية نفي السَّماع أيضًا. فإِنَّ العذابَ كما أنه متحقِّق، كذلك السماع أيضًا متحققٌ، فلا يُغُترُّ بأمثال هذه النصوصِ، فإِنَّ لها وجوهًا ومعاني.
(5/172)
---(5/8)
والجواب الثاني ما ذكره الشَّاه عبد القادر في «فوائد القرآن»: وحاصله أنَّ الحديث غيرُ مُقْتبسٍ من القرآن. فما ذُكِر في الحديث نَفُخةٌ أخرى، وما في القرآن نفخةُ أخرى، فالنفخةُ (الأولى) للإِماتةِ، والثانية للإحياء، والثالث للفَزَع، والرابع للغُشي، والخامس للإِفاقة، والثلاثةُ الأخيرة تكون في المَحْشر، وعنده نَفَخاتٌ أُخرى غيرُنا لمعانٍ أخرى، كالدعوة وغيرها، كما ترى اليوم في الجيوش، فإِنَّ كرّهم وفرهم، وحربهم وضربهم، كلُّها تكون بالبُوق - (بكل) ؛
صحيح البخاري
وحاصل هذا الجواب أن الاستثناءَ في النَّصِّ إنما هو مِن الصَّعْقة التي تكون عند النَّفْخة الثانية للإِماتة، وأما في الحديث، فالاستثناء فيه مِن الصَّعْقةِ التي هي مِن آثار النفخة الرابعة في المَحْشر، وهو بمعنى الغُشْي فقط، واستثناءُ موسى عليه الصلاة والسلام إنما هو من تلكَ الصَّعْقَةِ التي تكون في الحشر، فهو استثناءُ من الغُشْي لا مِمَّا هو في القران، بمعنى الموت، ليلزم عليه ما لزم.
قلت: وهذا إنما يتمُّ في سياقٍ لم يُذْكر فيه الآيةُ والذي فيه ذُكرتِ الآيةُ أيضًا، فالمتبادرُ منه أنه مُقْتبسٌ من القرآن، والصَّعْقةُ هي الصعقة، والاستثناءُ هو الاستثناء.
واعلم أنهم اختلفوا في عدد النفخات، فقيل: ثنتان: نفخةٌ للصَّعْقَة، وهي التي يَفْزَع لها النَّاسُ، ثم يُصْعَقون، فابتداؤها يكون من الفزع، وانتهاؤها على الصعقة، ونَفْخَةٌ للبعث. وقيل: ثلاثٌ: نَفْخةً للفزع، وأخرى للصعقة، وأخرى للبعث. وقد عَلِمت خَمْس نفخاتٍ من «فوائد الشاة» عبد القادر. وراجع «الجمل على الجَلالين». ثُم لا يَخْفى عليك أن بعضَ الفقهاء قد أنكروا الاستفاضة عن القبور مطلقًا، وذلك لفقدان تفاصيلِه في الشَّرع، فينبغي أن يُرجَع في أمثالِه إلى كلام العرفاء، فإِنَّهم أعلمُ بهذا الموضوعِ، ولكل فَنَ رجالٌ.
(5/173)
---(5/9)
2411 - قوله: (فلا أَدْري)...الخ، فيه رَدُّ على مَن ادَّعى الغَيْب كليًا وجزئيًا لِنَفْسه صلى الله عليه وسلّم والعجب مِن هؤلاء السُّفهاءِ أنهم كيف يَعْزون إليه أمرًا لا يدَّعيه هو لنفسه، بل ينفيه. فالله المستعان على ما يصفون.
2413 - قوله: (فَرُضَّ رَأسُهُ بَيْن حَجَرَيْن) واحتج به الشافعيةُ على المماثلة في القِصَاص، ولنا حديثٌ أخرجه ابنُ ماجة، وحسَّنه المارديني «في الجَوْهر النفي»: «لا قَوَد إلا بالسيف»، والجواب عن الرَّضِّ أنَّه كان تعزيزًا، وسياسة، وليُمْعَن النَّطَرُ في أن ما فَعَله اليهوديُّ بالجاريةِ هل يُعد قَطْعَ طريق أم لا؟ فإِنَّه كان أَخَذَ وشاحها وقتلها. وقد أشار إليه الطحاوي وراجع لمسائل الباب السياسة «لسان الحُكَّام» لابن السِّحنةِ، وهو ابن عبد البر بن الشِّحْنة، تلميذُ ابن الهِمام، وقد بَسَطه جِدًّا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ العَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيهِ الإِمَام
صحيح البخاري
باب مَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ، فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيهِ، وَأَمَرَهُ بِالإِصْلاحِ وَالقِيَامِ بِشَأْنِهِ، فَإِن أَفسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ، لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمنَهى عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ، وَقَالَ لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي البَيعِ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُل لا خِلابَةَ»، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم مَالَه
أي إذا لم يكن الإِمامُ أَعْلن بالحَجْر عليه بعدُ، فهل يُعتبر تصرُّفٌ فعله، أم لا؟ أو يجري الحجْرُ بعد الإِعلانِ؟ والظاهر أن حُكْم الحَجْر عليه قبل إعلانِ الإِمام غيرُ سديدٍ عنده قلت: ولكنه ثبت في أول جزئي أيضًا: واختار الخباري أن السَّفاهةَ أيضًا من أسباب الحَجْر، كما هو مذهب الصاحبين ويمكن أن يكون مَذْهبُه أوْسَعَ منهما أيضًا.
(5/174)
---
قوله: (لم يَجُزِ عِتْقُه) ، وبه قال مالك، خلافًا للحنفية.(5/10)
2451 - قوله: (أَعتق عبدًا له، ولَيْس له مالٌ غَيْرُهُ)...الخ وقد أخرج المُصنِّفُ هذه الرواية مِرارًا، إلا أنه لم يُخِّرج هذا اللفظ إلا في الموضع، لأنه يُناسِب باب الحَجْر، وهذا من شؤون المُصنَّف أيضا أنَّ في الحديث يكونُ ألفاظًا، فيحصيها كلَّها في ذِهْنه، ثم يُخرِّجها في محالِّها لفظًا لفظًا، فالحديث قد مرّ مرارًا، إلا أنه خبَّأَ هذا اللفظَ لهذا الموضع خاصَّةً. وقد يَفْعلُ عَكْسه أيضًا، فيترجم على لفظٍ ناظرًا إليه في طريق، ثم لا يخرِّجُه في الباب تشحيذًا للأذهان.
صحيح البخاري
باب ُ كَلامِ الخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْض
صحيح البخاري
باب ُ إِخْرَاجِ أَهْلِ المَعَاصِي وَالخُصُومِ مِنَ البُيُوتِ بَعْدَ المَعْرِفَة
يعني إذا عاب أحَدُ الخصمين على الآخر بحضرة القاضي، فهل فيه تعزيز؟
2491 - قوله: (إن القرآن أُنزل على سَبْعة أَحْرُفٍ) واختلف النَّاسُ في شَرْحه على خمسٍ وأربعين قولا، وكلّها مُهْملٌ غيرَ ثلاثةٍ، أو أربعةٍ، ولواحدٍ منها روايةٌ عن ابن مسعود، لا أدري، مرفوعةٌ هي أم موقوفةٌ؟ والثاني قولٌ لعامَّة النُّجاة.
واعلم أنهم اتَّفقوا على أنه ليس المراد من «سبعة أحرف» القراءات السبعة المشهورة، بأن يكون كلُّ حَرْف منها قراءةً من تلك القراءات. أعني أنه لا انطباق بين القراءاتِ السَّبع، والأَحْرفِ السبعةِ، كما يذهبُ إليه الوَهْمُ بالنَّظر إلى لُفْظ السبعة في الموضعين، بل بين تلك الأَحْرِف والقراءةِ عمومٌ، وخصوصٌ وَجْهي، كيف وأنَّ القراءات لا تنحصِرُ في السَّبعة، كما صرَّح ابن الجزري في رسالته «النَّشْر في القراءات العَشْر». وإنَّما اشتهرتِ السَّبعةُ على الألسنةِ، لأنَّها التي جمعها الشَّاطِبي.
(5/175)
---(5/11)
ثُمَّ اعلم أنَّ بعضهم فَهِم أَنَّ بين تلك الأحرِف تغايرًا مِن كلِّ وَجْه، بحيث لا رَبْط بينها، وليس كذلك، بل قد يكون الفَرْقَ بالمجرد والمزيد، وأخرى بالأبواب، ومرةً باعتبار الصِّيَغ من الغائب والحاضر، وطورًا بتحقيق الهمزةِ وتسهيلها، فكلُّ هذه التغييرات - بسيرةً كانت أو كثيرةً - حرفٌ برأسه. وغَلِط مَنْ فَهِم أن هذه الأَحْرف متغايرةٌ كلُّها، بحيث يتعذَّرُ اجتماعُها.
أما إنُّه كيف عَدَدُ السَّبعة؟ فتوجَّه اليه ابنُ الجَزري، وحقَّق أن التصرُّفاتِ كلَّها ترجِعُ إلى السبعةِ، وراجع القَسْطلاني. والزُّرقاني. بقي الكلامُ في أن تلك الأَحْرفَ كلّها موجودة، أو رُفِعَ بَعْضُها وبقي البعضُ؛ فاعلم أنَّ ما قرأه جبريلُ عليه السلام في العَرْضَة الأخيرة على النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكلّه ثابتٌ في مُصْحَف عثمان. ولما يتعيَّن معنى الأَحْرفِ عند ابن جرير ذهب إلى رَفْع الأحْرف السِّتِّ منها، وبقي واحدٌ فقط.
يا عبدَ بن زَمْعة، ويَصِح عبد بنُ زَمْعة أيضًا، وأما عَبْدَ بن زَمعة فلا يصح.
صحيح البخاري
باب ُ التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشى مَعَرَّتُه
يعني تحصيل الوَثاقة من شَرِّ الدّاعي.
صحيح البخاري
باب ُ الرَّبْطِ وَالحَبْسِ فِي الحَرَم
وهذا جائزٌ عندنا أيضًا، وإنَّما الخلافُ في أَخْذ القِصاص في النِّفس والأطراف.
قوله: (واشترى نافعٌ بن عبد الحارِث)...الخ وكان واليًا من جانب عمرَ، فاشترى دارًا للسِّجْن، ثم إنَّ نافعًا هذا هو الذي عند الطحاوي في مسألة الخَمْر في إسناد أَثر عُمرَ، فهو قويٌّ جدًا، ولكن الاستدلال به يتوقَّف على صورةِ الترتيب فقط.
(5/176)
---(5/12)
قوله: (على أَنَّ عَمَر إِنْ رَضِي بالبيع) أي بالشراء واعلم أنّ فيه بَيْعًا وشَرْطًا، وقد نهى عنه. قلت: وقد عَلِمت أنَّ الفسادَ إذا كان لأجل مخافةِ النِّزاع، لا يَسْري إلى العقد إذا لم يُرْفع أَمْرُه إلى القضاء. أما إذا كان لكونِه معصيةً، فيلزم حينئذٍ. والمذكورُ في الحديث من النحو الأول، فبقي جائزًا على الأصْل المذكور ألا ترى أنهم يكتبون في صَدْر أبواب البيوع: أن البيع والقَبول فيه، بل القبض أيضًا، والأَرجحُ أن التعاطي جائزٌ مطلقًا، في النفيسِ والخسيسِ سواء، وحينئذٍ لو شَدَّد أَحدٌ في شرائط البيع لَزِمه أن يُحْرَم كثيرًا من البيوع الجائزة بين السَّلف فإِنَّ التَّعاطِي كان معروفًا عندهم أيضًا، فالصواب كما في «التحرير» والله تعالى أعلم.
والحاصل أنَّهم كتبوا في صَدْر الباب ما كان الأصل عندهم في باب البيع، ثُم ذكروا التوسيعاتِ التي جرى بها العُرْف، كالتعاطي، ولذا قلت: إنَّ كلَّ بيعٍ كان النَّهيُ عنه لمخافةِ النِّزاع بنبغي أن يكون جائزًا عند عَدِم النِّزاع، وجريان العرف، ولا بنبغي فيه الجمودُ على القواعدِ، هذا هو الصراط المستقيم، فاتبعوه.
2423 - قوله: (فَرَبطُوه بسارِيةٍ من سَوَارِي المَسْجد). قلت: وليس هذا ربطًا في الحَرَم. فإِنَّ المصنِّف على ما أظُنُه لم يَرَ للمدينةِ حَرَمًا أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ المُلازَمَة
صحيح البخاري
باب ُ التَّقَاضِي
يعني به ملازمةَ الدائن للمَدْيُون.
2424 - قوله: (يا كَعْبُ، وأَشارَ بِيَدِيه، كأنَّه يقول: النِّصْفُ)...الخ، هذا أيضًا من باب المسامحات، والمروءات، وإلا فلا يلزمُ على الدائن أن يُسْقِطَ نِصْفَ دَيْنِه.
صحيح البخاري
كتاب ٌ فِي اللُّقَطَة
(5/177)
---(5/13)
واللُّقَطَةُ بضم اللام، وفتح القاف أَفْصَحُ وهو مبالغة اسم الفاعل، كالهمزة، كأنَّ هذا الشيء يَتَطلَّبُ مَنْ يلتقِطه. وأما اللُّقطة بسكون القاف فغيرُ فصيح، وحينئذٍ يكون بمعنى اسم المفعول، كاللُّقمة، والثاني هو الظاهر باعتبار المعنى. لكن اللغويين صرحوا بكون الأول أفصح، وإن كان تخريجُهُ مُشْكِلا.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالعَلامَةِ دَفَعَ إِلَيه
صحيح البخاري
باب ُ ضَالَّةِ الإِبِل
وهذا على الدِّيانة عندنا، فإِنَّ وثِق به وغَلَب على ظَنَّه صِدْقُه دفع اليه، ولا يجب عليه قضاءً، نعم يجِب الاداءُ عند البيِّنة.
2426 - قوله: (عَرِّفها حَوْلا) وفي تحديد مدِة التعريف خلافٌ في «الجامع الصغير»، و«المبسوط» فلعلّ التوقيتَ في الأوّلِ بِحَوْل، ولا تحديدَ في «المبسوط» فيُعرِّفها بقَدْر ما يرى، وهو المختار عندي. وكذلك إن كانتِ اللُّقطة أقلَّ من عشرةِ دراهمِ، ففيه أيضًا خلافٌ بين الكتابين، وأما ما في الحديثِ فمحمولٌ على الاحتياط، وليس حُكْمًا لازِمًا.
2426 - قوله: (وإلا فاسَتْمتِع بها) والاستمتاع عند الشافعية تَمَلُّكًا، وعندنا يُشْترط له إذنْ الإِمام، وتفصيلُ مذهبنا أن المُلتقِط إن كان فقيرًا يَسْتمتِع بها بعد التعريف، وإلا فيتصدَّق بها، وله الاستمتاعُ به أيضًا إذا أَذِن له الإِمام، كما في «الهداية»، وسيجيء تحقِيقُه، واتفق الكُلُّ على التَّضْمين إن طالبه المالِكُ بعد رجوعه، وتمسَّك الشافعيةُ باستمتاع أُّبي، فإِنَّه كان من أغنياء الصحابةِ، وأجاب عنه صاحب الهداية أَنَّه كان بعد إذن الإِمام، وهو جائزٌ عندنا أيضًا، ولم يَفْهَمْه صاحبُ «العناية» وزعم أن صاحب «الهداية» أجازَه تحت مسألةٍ عامَّة من باب القضاء، أنَّ القضاءَ إذا لَحِق فَصْلا مُجْتهِدًا فيه صار مجمعًا عليه.
(5/178)
---(5/14)
وحاصله أن استمتاع الغني، وإن لم يكن جائزًا عندنا، لكنه إذا لحِق به قضاءُ النبي صلى الله عليه وسلّمصار جائزًا عندنا أيضًا. فبقي المَذْهب عدم الجواز. وإنَّما نزلنا إلى الجواز لمسألةٍ أخرى. قلت: والصوابُ أن صاحب «الهداية» أجازه على المذهب، فللغَنيِّ أن يستمتع بها أيضًا عند إذن الإِمام، أما ما ذكره صاحب «العناية» فلا اختصاص له ببابٍ دون باب، بل يجري في كلِّ باب، كيف وإن هذا الباب إنما حدث بعد زمن الأئمة، والكلام في زمن النبيَ صلى الله عليه وسلّم
ثم اعلم أنهم اختفلوا في تعريف المُجتهد فيه على ثلاثة آراء: ففي «فتح القدير»: أن المجتهد فيه ما دار فيه الخلافُ في القرون الأولى. ويستفادُ من كتاب - «القُدُوري» - أنه ما لا يكون مخالفًا للكتاب والسنة والاجماع، فإِنْ خالفَ واحدًا منها لا يُسمى مجتهدًا فيه، والثالث ما في عبارة صاحب «الهداية» فراجعه.
فائدة (في قضاء القاضي في المسألة المختلف فيها)
واعلم أنَّ الأئمة إذا اختلفوا في مسألةٍ فلا سبيل لِرَفْعه إلا قضاءُ القاضي. فهذا باب في الشريعة لرَفْع الخلاف من البَيْن، وكان لا بدَّ منه. فإِذا قَضَى به قاضٍ من أيِّ مذهبٍ كان، لَزِم على الآخرين، وارتفع الخلافُ في ذلك الجزئي، وصار مجمعًا عليه.
صحيح البخاري
باب ُ ضَالَّةِ الغَنَم
2428 - قوله: (وكانت وَدِيعةً عِنْدَه) أي عند المُلتقِط، فيه دليلٌ على أنَّه يجب عليه الأداءُ عند مجيء صاحبه. ثم الوَدِيعةُ أخصُّ من الأمانة؛ فالوديعة ما أودعه الرَّجُل بِنَفْسه، بخلاف الأمانة. وحينئذٍ عَلِمت أن في إطلاق الوَدِيعة مسامحةً من الرَّاوي.
صحيح البخاري
باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهيَ لِمَنْ وَجَدَهَا
(5/179)
---(5/15)
قال الشَّارِحون: مرادُه أنَّ اللُّقطة بعد التعريف سنةً تكونُ مملوكةً للواجد، ولا يجب عليه ضمانٌ وإن جاء صاحبُها وطالب بالضَّمان، وهذا خلافُ الجمهور. ثُم تتبعوا أنه هل ذَهب إليه ذاهبٌ أم لا؟ لئلا يبقى المصنِّفُ متفردًا فيه، فقالوا: إنه مَذْهبُ الكراَبيسي أيضًا. ثُم إنَّ هذه الترجمةَ تُناقِضُ تَرْجَمتَه: الثانية «باب إذا جاء صاحِبُ اللُّقَطة بعد سنة ردَّها عليه، لأنها وديعةٌ عنده» اه. فإِنها تَدُلُّ على أَنَّه لا يَمْلِكُها، ولكن يجب عليه الردُّ.
قلت: ولا تنافي بينَ التَّرْجَمتيْن، فإِنَّ الأولى فيما إذا صَرَفها على نَفْسه بعد سنة، ولم يجيء المالك. والثانية فيما إذا جاء المالِكُ والشيءُ قائمٌ في يده، فيكون في يده وديعةً لا نحالةَ: والحاصل أن الأولى فيما صَرَفه على نَفْسه. والثانية فيما كان موجودًا عنده. والشارِحون يحملون تراجمة على مسائلهم التي في فِقْههم، مع أن المصنِّف ليس يتابع لهم، فيختار من المسائل ما شاء، ويترك ما شاء؛ والحاصل أنه لا دليلَ في تلك الترجمة على كَوْنِ اللُّقطةِ مملوكةً عنده، ولكن أباح له بعد سَنةٍ أن يصرفها إلى نفسه، سواء كان غنيًا، أو فقيرًا؛ فإِنَّ لم يجيء مالِكُها فلا ضمانَ عليه، وإما إن جاء صاحِبُها، واللقطةُ في يده، فهي له لكونها وديعةً عنده، ولا أدري كيف حملوها على التملك مع أنَّه صرَّح في ترجمةٍ أخرى أنها وَدِيعةٌ عنده، وأنه يردُّها إليه.
فائدة: الكلام في الكرابيسي
هذا هو حُسينُ بن علي الكرابيسي، وهو رجلٌ عظيمُ الشَّأنِ، من تلامِذة الشَّافعي، معاصرٌ لأحمدَ، وشيخُ للبخاري، ومنه تَعلَّم البخاريُّ قوله: «لَفْظي بالقرآن مخلوق».k
(5/180)
---(5/16)
ثمُ إنَّ اختلفوا فيه، ولا أعرف فيه شيئًا، إلا أنَّ أحمد لم يكن راضيًا عنه، لأنه وَرَّى في مسألة خَلْق القرآن، ولم يختر في التعبير ما اختاره الإِمام أحمدُ، وتِلك سُنَّة قد جرت من قبل، أَنْ مَن يقاسي المصائب، ويتحمل المشاقّ للذِّين، تُجلب قلوبُ الناس إليه، وَينْزلُ له القبولُ في الأرضِ، ويصيرُ ذا وجاهةٍ ومكانةٍ بين الناس، فَمَدْحُه مَدْح، وقَدْحُه قدح، كما ترى اليوم أيضًا؛ فلما تكلَّم أحمدُ في تلك المسألةِ، وصُبَّت عليه من المصائب التي عَلِمها العوامُّ والخواصُّ، فصبر عليها، وُضِع له القبولُ في الأرض؛ فكلُّ مَنْ جرَّحه أحمدُ صار مجروحًا عندهم، ومَنْ وَثَّقه صار عندهم ثقةٌ. وهذا هو السرُّ في خُموله، وإلا فلا رَيْب في كونه رجلا عظيم القَدْر، نبيه الشأن. وفي كتاب «التاريخ» أنَّ عقائد البخاريِّ أكثرُها مأخوذةٌ من الكرابيسي، ومنها: «لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فلو كان سببًا للجرح، فالبخاريُّ أيضًا قائل به، فيلزم أن يكونَ أيضًا مجروحًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي البَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَه
والتعريفُ في مِثْل هذه الأشياء اليسيرةِ يكونُ بِقَدْر ما يرى، فيعرِّفها أيامًا معدودةً.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيق
وهذا من الأشياءِ التافهة، التي عُلِم أن صاحِبَها لا يَطْلُبها، فلا تعريفَ فيها. وأما النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فإنَّما امتنع عن أَكْلِها مخافةَ أن تكون من الصدقة. وفي الكتب؛ أنَّ عمر مرَّ على أعرابي يعرِّفُ تمرًا، فَخَفَقَةُ بالدِّرَّة، وقال: «كُل يا باردَ الزُّهد».
صحيح البخاري
باب كَيفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّة
(5/181)
---(5/17)
ولا فَرْق بين التعريفِ في لُقطة مكةَ وغيرها عندنا؛ وإنما خَصَّصها بالذِّكْر لمِظنة عدم التعريف فيها، فإِنَّ البُقعةَ يَرِدُها الصادرُ والوارد، ويَقْدِها الناس من كلِّ فجِّ عميقٍ، فلعلّه يُشْكِل فيهاالتعريفُ، ويتعذَّرُ وجدانُ مالكها، فلا يفيدُ فيها التعريف، فأكّده في لُقطة الحرَم أيضًا، وقال الحجازيونَ: حُكمُها التعريفُ دائمًا ولا سبيلَ إلى إنفاقها.
صحيح البخاري
باب لا تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيرِ إِذْن
قوله: (مَشْرَبَتُه) في الأصل هي العُلْبةُ التي يُوضَع فيهاالماء ليردَ، ثم استعملت في العُلبة مُطلقًا.
2435 - قوله (لا يَحْلِبنَّ أَحَدٌ ماشيةَ امرهيءٍ)... إلخ واستُشكل بِشُرْبِ أبي بكر في سُفر الهِجرة، وسيجيءُ الجوابُ عنه.
صحيح البخاري
باب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيهِ، لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَه
صحيح البخاري
باب هَل يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلا يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لا يَأْخُذَهَا مَنْ لا يَسْتَحِقُّ؟
واعلم أن بين تَرْجمة المصنِّف، والحديثِ تخالفًا؛ فإِنَّ ترجمته تدلُّ على كونِها وديعةً عنده، والحديثَ يدلُّ على إنفاقه، ثُم التضمينُ بعد رجوع صاحبها، وللبخاري أن يقول معنى قوله: «فإِن جاء صاحِبُها» أي جاء ووجدها، وحينئذٍ تَحْصُلُ المطابقةُ.
صحيح البخاري
باب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلطَان
أي لم يدفعها إلى السلطان، بل عَرَّفها بنفسه.
صحيح البخاري
باب
(5/182)
---(5/18)
2439 - قوله: (فاعْتَقَل شاةً مِن غَنَمه)والاعتقَال أَنْ تأخذ بِرْجليها المُؤخَرَتَيْن في فَخذيك للحَلب. ولما كانت مواشِيهم في البادية، ولا يكون هناك أَحَدٌ يشرب لَبَنَها، فكان عُرفهم قد جرى بإِجازة الشُّرْب للمارًّة، فإِنَّه خيرُ من التَّلَف. فإِنْ قيل: إنًّ الشِّياه كانت لرجلٍ كافر، ولو اطًّلع على أنَّ لبن ماشيته يَشْرَبُه النبيُّ صلى الله عليه وسلّملم يرض به قَطْعًا. وأجيب أنَّ العُرف إذا جرى بالإِذْن للمارَّة، فلا حاجةَ إذًا إلى الإِذن الخُصوصي، وكفى الإِذنُ العام.
صحيح البخاري
كتاب المَظَالِم
قوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنعي رُءُوسِهِم} (إبراهيم: 43) آنكهين تيرهى رهجائينكي سراتهى ره جائينكى.
قوله: {وأفئَتُهم هواءٌ} (إبراهيم: 43) أي خالية. واعلم أنه لا اسم للرِّيح الساكنةِ عند العرب، فالهواء هو الخلاء، فاذا تحركت يقال لها: الرِّيح؛ نعم للسَّاكِنة اسمٌ في الفارسية باد.
صحيح البخاري
باب ُ قِصَاصِ المَظَالِم
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ} (هود: 18)
2440 - قوله: (حُبِسُوا بِقَنْطَرَة)..الخ قال العَيْني: كما في «الهامش»، وسماها القُرْطبيُّ: الصِّراط الثاني. والأوَّل لأهلِ المُحْشر كلِّهم، إلا مَنْ دخل الجنةَ بغير حِساب، أو يلتقطه عُنُقُ من النار، فإِذا خلص مَنْ الصِّراط الأَكبر ولا يَخْلُص منه إلا المؤمنون، حُبِسوا على صراطٍ خاصَ بهم، ولا يرجعُ إلى النارِ من هذأَحَدٌ؛ وهو معنى قوله: «إذا خَلَص المؤمنون من النَّارِ»، أي الصِّراط المضروبِ على النَّار، فإِذا هُذِّبوا، قال لهم رضوانٌ: {سَلَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ؛ فَادْخُلُوهَا خَلِدِينَ} (الزمر: 72).
(5/183)
---(5/19)
2440 - قوله: (بينَ الجنَّة والنَّار) أي بقَنْطرةٍ كائنةٍ بين الجنَّةِ والصَّراط الذي على متن النار؛ ولهذا سُمي بالصِّراط الثاني. اه. فتبين منه أن القَنْطرةَ قِطعةٌ من الصِّراط.
2440 - قوله: (حتى إذا ما نُقُوا)...الخ، وعُلِم منه أنَّ تلك الجراثم كانت صغائر، فلذا فُوِّضت تزكيتُها إليهم؛ وأما الكبائرُ فلا يُزكَّيها إلا حَرُّ النار، أو بَرْدُ النَّدم، إلا أن يتغمَّدَهُ اللهاُ بغفرانه.
فائدة: (في أن للحساب في المَحْشر صورة)
واعلم أن للحسابِ تكونُ صورةٌ في المحشر، ولتعيين تلك الصورةِ يقومُ الميزانُ، فإِذا بُعِثُوا إلى الصِّراط، بُعِثت تلك الصورةُ معهم، فيعاملون عليه باعتبار تلك الصورةِ. أما خُروجُ العُنُق من النَّار إلى المَحْشر، ونحوه، فكُلُّها صُوَرٌ مخصوصةٌ، والضابطة ما قلنا؛ وعلى البصير المتبصِّر أن يجمع أحاديثَ الباب كلَّها، ثُم يحكم بشيء.
صحيح البخاري
باب لا يَظْلِمُ المُسْلِمُ المُسْلِمَ وَلا يُسْلِمُه
صحيح البخاري
باب أَعِنْ أَخاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا
«أي ولا يَتْرُك نُصْرَته، ولا يُسْلِمُه» إلى الهلاك.
2442 - قوله: (ومَنْ كان في حاجَةِ أخِيه كان اللهاُ في حاجَتِه) الخ؛ قلت: ولتمعن النَّطَر فيه، فإِنه يفيدك في شَرْح ما أخرجه مُسْلم في الحديث القدسي: «مرِضْتُ فلم تَعُدْني»...الخ؛ وما ذكره النوويُّ في شَرْحه غَيْر مرضيُّ عندي؛ والصوابُ أن الحديثَ عندي على ظاهره، وليُستعن في شَرْحه بهذا الحديث، فإِنَّه نظيرُه في كون الله عزّ وجل عنده.
صحيح البخاري
باب ُ نَصْرِ المَظْلُوم
(5/184)
---
2446 - قوله: (المُؤمِنُ لِلمؤمِن كالبُنيان)... الخ، قال الشيخُ الأكبر: وذلك لأنَّ الشيطانَ يدخل في كل فرجةٍ يجدُها بين رجلين، حتى يفعل ذلك في صفِّ الصلاةِ أيضًا، فإِذا صاروا كالبُنيان، وترصُّوا في الصفوف، لم يَبْقَ له مَوْضِعُ دخولٍ.
صحيح البخاري
باب ُ الانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِم(5/20)
صحيح البخاري
باب ُ عَفوِ المَظْلُوم
صحيح البخاري
باب الظُّلمُ ظُلمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَة
صحيح البخاري
باب ُ الاتِّقَاءِ وَالحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ المَظْلُوم
أي الانتِقاَم
قوله: (قال إبراهيمُ: كانوا يَكْرَهُونَ أن يُسْتَذلُّوا)... الخ. أي كانوا يَسْعَون أن يَقْدروا على الانتقام، فاذا قَدِروا عليه عَفَوْا، وتَرْكُ سعي التمكَّنِ على الانتصار هو الذي عَنَوْه بالذِّلَّة، والعَفُو بعد القدرةِ هو عمل أصحابِ العزائم.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ كانَتْ لَهُ مَظْلمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ، هَل يُبَيِّنُ مَظْلمَتَهُ؟
وقد مرَّ فيه قولان، ثُم إذا حَلَّله، فليس له رجوعٌ، ليس بمالٍ يُمْكِنَ الرجوعُ عنه.
2449 - قوله: (قال أَبُو عَبْد الله: قال إسماعيل بنُ أَبي أُوَيْس)...الخ وإسماعيلُ بنُ أبي أُوَيْس هذا شيخُ البخاري، وابنُ أُخت الإِمام مالِك، وقيل: إنه كان يزورُ حكاياتٍ كاذبةً في تأييد خالِه، ولذلك لم يأخذ عنه النسائي، ثم البُخاري أَخَذَ عنه.
فائدة مهمة
(5/185)
---(5/21)
واعلم أَنَّه قد يذهب إلى بعض الأَوهام أن المُحدِّثين إذا أخذوا الأحاديثَ عمَّن رُمُوا بالكَذِب أيضًا ارتفع الأمانُ عن الأحاديثِ، ولماذا بقي الاعتماد عليها؟ قلت: وذلك باطلٌ قطعًا، فإِنَّ الحديثَ إذا صار فنًا مستقلا، ولم يبق للأساتذةِ والشيوخ مدخلٌ فيه، كيف يُورِثُ ذلك خَلْطًا أو خبطًا نعم كان ذلك لو كان الحديثُ يُكتب شيئًا فشيئًا، لأدَّى ذلك إلى تخليط، ولكن الذين دَوَّنوا الحديثَ لم يكتفوا بطريقٍ واحدٍ، حتى مارسُوه بطرقٍ متعدِّدة، وتتبعوه عن مشايخَ متفرقةٍ، حتى تبينَ لهم صِدْقُه من كذبه، كَفَلَق الصُّبح؛ فهؤلاء كانوا يعرفون محاله ومظانَّه، فإِذا جمعوا الطُّرُقَ والأسانيدَ انكشفت لهم العِلَلُ، وأسبابُ الجَرْح كلُّها، فلم يدونوه إلا بعد ما حَقَّقُوه ومارسوه. وبَعْد هذا البحثِ والفَحْص لو اشتمل حديثٌ على أَمْرٍ قادح لم يقتص ذلك قَدْحًا في نَفْس الأحاديث أصلا؛ فإِنَّه مَخْرَجَه معلومٌ، ورواتِه معروفون، وأَمْرَه مكشوفٌ، والجَرْحَ فيه مذكورٌ، فأي تخليط هذا؟ ولذا قال سُفْيان الثَّوري: لا تأخذوا الأحاديثَ عن جابر الجُعْفي؛ ثُم روى عنه بنفسه، ولما سُئل عنه قال: إني أَعْرِفُ صِدْقَه من كَذبه. فَدلَّ على أنه لا تخليطَ على الممارِس، لأن الحديثَ عنده يكون معلومًا بمخارِجه ورواتِه وعلِله.
ثم إنَّهم اختلفوا في جابر الجُعْفي، والقول الفَصْل فيه: أنه مُتَّهم في الرأي - أي الاعتقاد - كان يقولُ: إن عليًا في الغَمام، وينزل، ثم ينتقم من أعدائه؛ ولكنه مُعْتمدٌ في حقِّ الرواية، لأنه لم يَثْبُت كَذِبُه في باب الحديثِ أَصْلا.
(5/186)
---(5/22)
وبالجملة السَّلَفُ إنما أخذوا الحديثَ عَمَّن يُوثَقْ بهم، ويُعْتمد على حِفْطهم ودِينهم؛ فلما انتقل الحديثُ من الصُّدور إلى الِّزبْر والأَسْفَار، فحينذٍ لو أخذ عَمَّن رُمي بالكذب لم يَقْدح بشيء، لأن عندك عِلمًا بالاختلاط، والتمييز معًا. فسفيانُ الثوريّ كان يَعْرِف الأحاديثَ، فإِذا أخذها عن جابر مَيِّزَ جَيِّدها عن رديئها، صحِيحَها من سَقِيمها؛ فهذه مرحلة بعد التدوين وبعده.
صحيح البخاري
باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلمِهِ فَلا رُجُوعَ فِيه
وهذه حقوقٌ، وهي أوصافٌ، ولا رجوعَ بعد السُّقوط. ومِن ثمة قالوا: إنَّ امرأةً لو وهبت نَوْبَتَها لضَرَّتها يَصِحُّ لها الرجوعُ عنها؛ وذلك لأنها لا تملِك أيامَ نَوْبةِ وَهْبها دفعةً، بل شيئًا فشيئًا. فهِبةُ جميع نوَبِها التي لم تأت بَعدُ هبةٌ بما لا تستحِقُّه هي أيضًا، فيصِحُّ الرجوع عنها لا محالة، وكأنه هِبةٌ ورجوعٌ صورةً فقط، وإلا فلا هبةَ ولا رجوعَ. هذا في الحقوقِ. أما في الأعيانِ فقد حققت فيما مرَّ أن الرجوعَ عند انعدامِ الموانعِ السَّبعةِ جائزٌ، لكن بشرط القضاء أو الرضاء، وكُرِه تحريمًا أو تنزيهًا؛ والمُفْتُون يُفتون عند انعدامِ الموانع بالجواز مطلقًا، ولا يفرقون بين حُكْم القضاءِ والدِّيانة، مع أنه لا بد منه، كما حققه في العلم.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُو
2451 - قوله: (أتأذَنُ لي أن أُعطي هؤلاء)... الخ. ولو أعطاهم لكان هِبة المُشاعِ، لكنك عَلِمت أن مِثْل هذا لا يَدْخُل في الحُكم.
2451 - قوله: (فَتَلَّهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أي دَفَعه بقوةٍ وعُنْف، كالكاره له؛ وهذا الذي قُلْتُه فيما مرَّ.
صحيح البخاري
باب ُ إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيئًا مِنَ الأَرْض
صحيح البخاري
(5/187)
---
باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ شَيئًا جاز
صحيح البخاري(5/23)
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (البقرة: 204)
قوله: (طُوَقَه مِنْ سَبْعِ أَرَضِين) فيطوّق بِقَدْر ما غصبه من ذلك الأَرض، ويطوّق من الستَّةِ الباقية مِثْل ذلك أيضًا. وفيه دليلٌ على أن الأَصْل هو هذه الأَرْضُ، والباقيةَ تابعةٌ لها.
تحقيق في طبقات الأرض
واعلم أَنَّ السموات سَبْعٌ كما قد صَدَع به القرآنُ في غير واحدةٍ من الآيات؛ أما كون الأرض أيضًا سبعًا، فلم يُومِ إليه القرآن إلا في سروة الطلاق. فقال {ومِن الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}(الطلاق: 12)وفيه أيضًا إبهامٌ شديد؛ فإِنَّ المِثْلية مبهمةٌ لا ندري ماذا أُريد منها؟ فيمكنُ أن يكون المرادُ المِثْلية في العدد، ويمكنُ أن تكونَ الأرضُ واحدةً، ثم تكون لها طبقاتٌ تُسمَّى كلُّ طبقةٍ منها أرضًا؛ ألا ترى أنَّه لم يَقُل: ومَنْ الأَرضين مِثْلهن، بل قال: {وَمِنَ الاْرْضِ} فأَبْهم غايةَ الإِبهام؛ نعم ما في البخاري: طوِّقَه من سَبْع أَرْضين، صريح فيه؛ وأَصْرحُ منه ما عند الحاكم في «مستدرَكه»، والبيهقي في كتاب «الأسماء والصفات»، وصحَّحه عن ابن عباس، وفيه أنَّ الله تعالى خَلَق سَبْعَ أَرَضين، في كلِّ أرضٍ آدمُ كآدمنا، ونوحٌ كنوحِنا، إلى أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم أي محمدٌ كمحمدنا، اه- بالمعنى.
قلت: وهذا الأَثَرُ شاذٌ بالمرّة، والذي يجب علينا الايمانُ به هو ما ثبت عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلّم فإِن ثبت قَطْعًا أَكْفرنا مِنْكرَه، وإلا نَحْكُم عليه بالابتداع؛ وأما غيرُ ذلك مما لم يَثْبت عنه صلى الله عليه وسلّمفلا يلزمُنا تَسْلِيمُه والإِيمانُ به، والذي أَظُنُه أنَّ هذا الأَثَرَ مُركَّب من إبهام القرآن وتَصْريحِ الحديث، فقال القرآن: {مِثْلَهُنَّ} وصرَّح الحديثُ بكونها سبعًا، فتركَّب منه التفصيلُ المذكورُ في الحديث.
(5/188)
---(5/24)
والظاهر أنه ليس بمرفوعٍ، وإذا ظَهَر عندنا مَنْشَؤه، فلا ينبغي للإِنسان أن يُعَجِّز نَفْسَه في شَرْحه، مع كونه شاذًّا بالمرَّة. وقد ألَّف مولانا النانوتَويُّ رسالة مستقلة في شَرْح الأَثَر المذكور، سماها «تحذير الناس عن إنكار أَثَرِ ابن عباس» وحقق فيها أَنَّ خاتميتَهُصلى الله عليه وسلّملا يخالف أن يكون خاتَمٌ آخرُ في أَرْضٍ أُخْرى، كما هو مذكورٌ في أَثَرِ ابن عباس. ويلوح من كلامِ مولانا النَّانُوتُويّ أن يكون لكلِّ أَرْض سماءٌ أيضًا، كما هو لأَرْضِنا، والذي يَظْهُر مِن القرآن كونُ السمواتِ السَّبْعِ كلِّها لتلك الأَرِيضَة، لأَن السَّبع موزعةٌ على الأَرضِين كذلك.
صحيح البخاري
والحاصل أنا إذا وجدنا الأثَر المذكور شاذًّا، لا يتعلُق به أمرٌ من صلاتنا وصيامنا، ولا يتوقف عليه شيءٌ من إيماننا، رأينا أن نترك شَرْحَه؛ وإن كان لا بدَّ لك أن تَقْتحم فيما ليس لك به علم، فقلْ على طريق أرباب الحقائق: إنَّ سَبْعَ أَرْضين لعلها عبارةٌ عن سَبْعةِ عوالم؛ وقد صحَّ منها ثلاثةٌ؛ عالم الأجسام؛ وعالم المثال؛ وعالم الأرواح، أما عالم الذِّر، وعالم النَّسمة، فقد ورد به الحديثُ أيضًا، لكنا لا ندري هل هو عالمٌ برأسه أم لا؟ فهذه خمسةُ عوالم، وأخرج نحوها اثنين أيضًا. فالشيءُ الواحِد لا يمرّ من هذه العالم إلا ويأخذ أحكامه؛ وقد ثبت عند الشَّرْع وجوداتٌ للشيء قبل وجوده في هذا العالم؛ وحينئذٍ يمكن لك أن تَلْتزم كونَ النبيِّ الواحد في عوالم مختلفةٍ بدون محذور. وسنعود إلى تفصيلِ النَّسمة أيضًا، وقد ذكرناه من قبل أيضًا.
(5/189)
---(5/25)
والتُّوربِشْتي الحنفي لما مرَّ على أحاديثِ النَّسمة لم يفسره بالروح، بل وَضَع هذا اللفظَ بعينه، ففهمت منه أنه شيءٌ يُغاير الروح عنده، ولذا لا يضعُ لعفْظ الروحَ مكانه، ولا يترك هذا اللفظ، فكأَنَّه حقيقةٌ أخرى؛ فيُخْشى أن لا تتبدل تلك الحقيقةُ بِتَرْك لفظه. وقد مرَّ عليه الشاه وليُّ الله في «الطاف القُدْس»، وقال: إنَّ النَّسمة جِسمٌ هوائي سارٍ في بدن الإِنسان، محفوظٌ من التلاشي، وقال: إنه يبقى كذلك بعد الموتِ أيضًا، والله تعالى أعلم.
أما شَرْحُ حديث البخاري، فيمكنُ أن تكونَ الأَرَضُون فيه سَبْعًا، كالسَّموات، ويمكن أن تكون سَبْع طبقاتٍ، كلّ طبقة منها سُميت أرضًا، وقد ثبت اليوم عند ماهِري عِلْم الطبقات أن لها طبقاتٍ. فذكروا أنَّ هذه الأَريضة إلى ستةٍ وثلاثينَ ميلا فقط، وبعدها غاز. ونعوذُ بالله أَنْ نَفْقُوا ما ليس لنا به عِلْم. وأما مَنْ أراد به الأقاليمَ السَّبْعةَ فباطِلٌ قَطْعًا. وأجاب عنه بَعْضُهم أنه يمكنُ أن يكون المرادُ منه السَّبْعَ السياراتِ، وقد شاهدوا اليوم فيها جبالا، وبحارًا، وقناطر، وأُناسًا، وهم بصدد المكالمة معهم، وقالوا: إنَّ هذه الأرضَ في نظر سُكانِ القمر، كالقمر في نظر سُكَّان الأَرْض؛ وحينئذٍ يستقيمُ عددُ السَّبع، بل يزيدُ عليه على تحقيقهم، ولا بأس فإِنَّ الشَّرْع لم يَنْف ما فوقه.
صحيح البخاري
باب ُ إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُه
صحيح البخاري
باب إِذَا خاصَمَ فَجَر
2458 - قوله: (فَمَن قَضَيْتُ له بِحَقِّ مُسْلِمٍ فانَّما هي قِطعةٌ من النَّارِ)قال الحنفيةُ: إنّ قضاءَ القاضي إذا كان العقود والفسوخ، لا في الأملاك المرْسلة، والمحلّ يكونُ قابلا للإِنشاءِ، يَنْقُذُ ظاهرًا وباطنًا، وأَورِد عليهم حديثُ الباب، فإِنَّه لو نَفَذَ باطنًا أيضًا لما وَصَفه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبالنار.
(5/190)
---(5/26)
قلت: وهذا وَصْفٌ لا حُكْم، ويمكن أن يكون شيءٌ يوصَفْ بالنارية، ثم لا يدخل صاحِبُه في النار، كالسؤال، فإِنَّه شيءٌ يترتَّب عليه النار، ثم لا يلزمُ أن يكون كلُّ سؤال كذلك، بل قد يتخلَّف عن لعارض. فإِنه يَصحُّ وَصْفُ الشيء بحال الجِنْس أيضًا، وإذن لا يلزمُ تحقُّقه في الأفراد كلِّها، وتحقُّقه في البعض يصح وَصْفُه به باعتبار الجنس. وهو المَلْحظُ في قوله صلى الله عليه وسلّم «فإِنَّه لا صلاةَ لِمنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب»، فهذا وَصْفٌ في الفاتحة لا حُكْم بالوجوب على المفتدي في الحالة الراهنة. وسيجيء تفصيلُه في موضعه إن شاء الله تعالى.
صحيح البخاري
باب ُ قِصَاصِ المَظْلُوم إِذَا وَجَدَ مالَ ظَالِمِه
صحيح البخاري
باب ُ ما جاءَ في السَّقَائِف
وهذه المسألةُ تسمَّى في الفِقْه بمسألة الظَّفَر؛ وحاصِلُها أنه إذا كانَ له حقُّ على آخرَ فما طله، ولم يُؤَدِّ إليه، فلصاحِب الحقِّ أن يأخُذَ عينَ ماله إن طُفِر به، أو جِنْسه، وليس له أن يأخذَ من أيِّ أمواله شاء، وهذا عندنا، وعمَّمه الشافعية. وأفتى المتأخرون منا بمذهب الشافعية، لظهور سوء الديانة، والتواني في أحكم الإِسلام، فعسى أن لا يجد جِنْسَ مالِه، فينوى حَقَّه.
2460 - قوله: (لا حَرَجَ عَلَيْكِ أن تُطْعِمِيهم)..الخ. وهذا الحديث خفيٌّ في الترجمة، فإِنَّها آخِذةٌ من عينِ حَقِّها، لا أنها قِصاصٌ، والترجمة فيما إذا تَلِف حَقُّه، فله أن يقتصَّ من مالِ المظلوم، أما الأَخْذَ بحقوقِ نفسه، كنفَقةِ الزوجة على الزوج، فليس من القِصاص في شيءٍ. وتكلم عليه النوويُّ في «شرح مسلم» أنه قضاءً، أو ديانةً، فإِن كان الأَوَّل اقتصر على القاضي، وإن كان الثاني صحَّ لكلِّ مفتي أن يُفْتى به. وهذا ما قلنا: إنَّ الفَرْق بين القضاء والديانة دائرٌ بين المذاهب الآخر أيضًا.
(5/191)
---(5/27)
2461 - قوله: (فإِنْ لم يَفْعَلُوا فَخُذوا مِنْهم حَقَّ الصِّيْف)... الخ. نعم، وهذا أَوْضَحُ في ترجمة المصنِّف، واختلف الناسُ في تخريج هذا الحُكم، فقيل: إنَّه محمولٌ على حال المخْمَصَة؛ كانت الضِّيافةُ فيهم عُرْفًا عامًّا يومئذ، وقيل: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعاهَدهم على ذلك أن يَمُرَّ عليهم عَسْكَرٌ من المسلمين، إلا أن يُضيِّفُوه، كما يُعْلم من كُتُب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أخرجها الزَّيلَعي في آخر المجلد الرابع، ولكن كونُ كلِّ مَنْ يمرُّ عليهم من أهل الذِّمَّة بعيدٌ. فالظاهرُ أَنْ يُجاب بالعُرْف.
2462 - قوله: (سَقِيفَة) جويال، ولا حاجةَ فيها إلى الإِجازة، لكونها أُعِدَّت لمصالح العامَّةِ عُرْفًا.
صحيح البخاري
باب لا يَمْنَعُ جارٌ جارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في جِدَارِهِ
ا
وهذه ديانةً لا قضاءً.
2463 - قوله: (واللهاِ لأَرمِيَّنَّ بها بين أَكْتَافِكْم) أي الخَشَبة، وقد بالغ فيه أبو هريرة أشدَّ المُبالغة، ومِثْلُ هذه المبالغات قد تجري في المُسْتحِبات في بعض الأحوال. وراجعٌ «الخَيْرات الحسان» أنَّ رَجُلا أرادَ أن يَنْقُبَ في جدارِه كَوَّةً، فمنعه جارُه، فذهب إلى ابن أبي ليلى، فلم يُفتي بما كان يريدُه، ثُمَّ رَجَع السائلُ إلى أبي حنيفة، فأفتاه على ما كان عنده، إلى آخِرِ القِصَّة.
صحيح البخاري
باب ُ صَبِّ الخَمْرِ في الطَّرِيق
يعني أنَّ الطريقَ ليس بملْكِ أَحَدٍ، فله أن يَصُبَّ فيه الخَمرَ. قوله: (الفَضِيخَ) شرابٌ يتَّخَذ من عصير البُسْر حتى يَشْتدَّ، بدون أن تَمَسَّه النَّارُ والاشتدَادُ في الهندية: اته- جانا جيسى كهتى هين اجار اته- كيا.
صحيح البخاري
باب ُ أَفنِيَةِ الدُّورِ وَالجُلُوسِ فِيهَا وَالجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَات
وفي الهندية: آنكن.
(5/192)
---(5/28)
قوله: (والصَّعَدات) أي الطُّرُقات، يقول: إنَّ هذه الأشياءَ أيضًا مِن حقوقه العامَّة، وله أن يَفْعل فيه ما ذكره، ما لم تتضرر به العامَّة.
صحيح البخاري
باب ُ الآبارِ عَلَى الطُّرقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا
صحيح البخاري
باب ُ إِماطَةِ الأَذَى
والمرادُ من الطريق أَرْضٌ ليس لها مالكٌ، وكانت مباحةَ الأَصْل.
2466 - قوله: (في كُلِّ ذات كِبدٍ رَطْبةٍ أَجُرٌ) دلَّ على أنَّ في الإِنفاقِ على الكافرِ أيضًا أجرًا.
صحيح البخاري
باب ُ الغُرْفَةِ وَالعُلِّيَّةِ المُشْرِفَةِ وَغَيرِ المُشْرِفَةِ في السُّطُوحِ وَغَيرِهَا
ولعله كان بينهما فَرْقٌ عندهم، ولم ندرِكْه كما هو، لكونه يتعلَّق بالمشاهدةِ، وهذه الفروقُ يتعذَّرُ إدراكها بدون المشاهدةِ، فلا تُتعِب فيها نفسك.
قوله: (المُشْرِفَة) حس سى نكاه برسكى اورون بر، وهي الغُرْفة التي يمكنُ الاطلاعُ منها على النَّاسِ.
قوله: (في السُّطُوح)، والسطح السَّقف، فهذه أوصافٌ متغايرةٌ، وإن اجتمعت في مَوْصوفٍ.
2467 - قوله: (أُطُم)وترجمته: كوث.
2467 - قوله: (هل تَرَوْنَ ما أَرَى؟)... الخ، وهذا الذي قلت: إن للشيءِ وجودًا قَبْل ظُهورِه في هذا العالم أيضًا. فالفِتنُ التي رآها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمتقطر خلالَ بيوتِهم لم تكن في زَمَنِه، ولكنَّه صلى الله عليه وسلّمرآها بِنَحْوِ وُجُودِها قبل ظهورها.
2468 - قوله: (فَعَدَل وعَدَلْتُ معه)... الخ، وكان يذهبُ إلى المدينةِ.
2468 - قوله: (افتأمَنُ أنْ يَغُضَبَ اللهاُ لِغَضَبِ رَسُوله) فيه أنَّ غضبَ الله غيرُ غَضَبِ الرَّسول صلى الله عليه وسلّم.
2468 - قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: 4) أي مالت عن الحقِّ.
2468 - قوله: (فَيَنْزِلُ يومًا وأَنزِلُ)، تفسير للتناوب، وهذا مفيدٌ للحنفيةِ في باب الجمعة، وقد عَلِمته فيما مرّ.
(5/193)
---(5/29)
2468 - قوله: (فَصَلَّيْتُ صلاةَ الفَجْرِ مَع رسول الله صلى الله عليه وسلّم...، وهذا يَرُدَّ ما اختارَه الحافِظُ أن قِصَّةَ السقوط عن الفَرَس، وقِصَّة السقوط عن الفرس فكانت في الخامسة، وإنما جمع الرَّاوي بينهما لكونِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمجلس فيهما على المَشْرُبة، لا لكونهما في سنةٍ واحدة، كما زعمه الحافظ. وذلك لأنَّه صلى الله عليه وسلّمالفَجْرَ مع الصحابةِ في قِصَّة الإِيلاء، بخلاف قِصَّة السُّقوط، فإِنَّه كان شاكٍ لم يكن يَقْدِر أن ينزل من المَشْرُبة، فَضْلا أن يصلِّي بهم. فدلَّ على التغايُرِ قَطْعًا، كيف وأن قوله: «فإِذا قرأ فأنصتوا»، ليس في الأحاديثِ الائتمام التي وردت في قصة السقوط، لأنَّ الدعامة فيها تعليمُ اتحادٍ شاكلةِ الإِمام والمقتدي دون مسألة القراءة، فلم يتعرَّض لها؛ وإنَّما هو في الأحاديث التي صدرت عنه في السَّنةِ السابعة، وهي لتعليم صِفةِ الصلاة؛ وما على المأمومِ مِن جهةِ إمامه.
ومَنْ لم يتنبَّه لتغايُرِ السِّياقَيْن، ثُم لم ينظر قِطعة الإِنصاتِ في أحاديث السقوط، ظَنَّ أنَّها وَهْم في أحاديث الائتمام مطلقًا، وليس كذلك. بل هما نوعان وردا في وقتين، وإن اشتركا في بعض الألفاظ، هذا هو الرأي فيه إن شاء الله تعالى، وقذ ذكرناه من قبل مُفصَّلا. وراجع لتفصيله رسالتي «فصل الخطاب»، فإِنَّه مهم سها فيه مِثل الحفاظ.
صحيح البخاري
(5/194)
---(5/30)
ثم اختفلت الرواياتُ في سَببِ الإِيلاء، ففي بعضِها قِصَّةُ العسل، وفي بعضها قصَّةُ قُربان مارَّيه؛ وفي بعضِها مراجعةُ نسائه صلى الله عليه وسلّمفي أمر النَّفقة، فقال العلماءُ: إنِّها كلَّها متقاربةٌ، ونزل الإِيلاء بعدها كلها، ثم إن هذا الإِيلاء لغويٌّ، فهل تجوزُ المهاجرةُ مِثْلُه؟ فصرَّح ابن الهُمام في «الفتح» أنه جائزٌ، والكلام على جملةِ هذه الأجزاء مرَّ مفصَّلا؛ وإنما المقصودُ الآن التنبيهُ على أنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمقد صلَّى الفَجْر في تلك القصة، ومع ذلك زعم الحافِظُ أنَّ قِصَّة السقوط والإِيلاء واحدةٌ.
2469 - قوله: (الرِّمال)حتائى كانانا ابهرا هو تاهى أي وإنما أثَّرت فيه لُحْمة الحَصِير لكونها مرتفِعةً.
2469 - قوله: (فأَنزلَت آيةُ التَّخيير)...الخ وفهمت منها أنَّ الغرض منه الإِيذانُ بالتهيؤ للفَقْر والفَاقة، إن أَرَدْنَ الآخرة، وإن أَرَدْن الدنيا فاللهاُ يتكفَّلُ بهن. ويُوسُع عليهن، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ تحريمَ النِّكاح بعد النبي صلى الله عليه وسلّماندرج في مفهوم التخيير، فإِنهنَّ إذا اخترن الآخرةُ مرةً، لم يَبْق لهنَّ اختيارٌ بَعْدَه في ترجيح الدنيا، وإنما فَهِمْت هذا من الشيخ عبد الرؤوف المُنَاوي في «شرح الجامع الصغير» وهو تلميذُ للسُّيوطي، وفي «التوراة» أنَّ المرأة تكونُ زوجةً لآخِر الزوجين في الجنة، فناسب التحريم. وفي «بستان أبي جعفر» أنَّها تكونُ للأفضل منهما، وقيل: للأخير، فاعله.
(5/195)
---(5/31)
2469 - قوله: (فأَنزلَت آيةُ التَّخيير)...الخ وفهمت منها أنَّ الغرض منه الإِيذانُ بالتهيؤ للفَقْر والفَاقة، إن أَرَدْنَ الآخرة، وإن أَرَدْن الدنيا فاللهاُ يتكفَّلُ بهن. ويُوسُع عليهن، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ تحريمَ النِّكاح بعد النبي صلى الله عليه وسلّماندرج في مفهوم التخيير، فإِنهنَّ إذا اخترن الآخرةُ مرةً، لم يَبْق لهنَّ اختيارٌ بَعْدَه في ترجيح الدنيا، وإنما فَهِمْت هذا من الشيخ عبد الرؤوف المُنَاوي في «شرح الجامع الصغير» وهو تلميذُ للسُّيوطي، وفي «التوراة» أنَّ المرأة تكونُ زوجةً لآخِر الزوجين في الجنة، فناسب التحريم. وفي «بستان أبي جعفر» أنَّها تكونُ للأفضل منهما، وقيل: للأخير، فاعله.
2469- قوله: (لا تَعْجَلي حتَّى تَسْتأمِري أَبَوَيْكِ) ... الخ، وفيه أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّملو أَضْمر في نَفْسِه الترجيح لأحد الجانبين مع تبليغ ما أنزل إليه من التخيوفي «بستان أبي جعفر» أنَّها تكونُ للأفضل منهما، وقيل: للأخير، فاعله.
صحيح البخاري
2469- قوله: (لا تَعْجَلي حتَّى تَسْتأمِري أَبَوَيْكِ) ... الخ، وفيه أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّملو أَضْمر في نَفْسِه الترجيح لأحد الجانبين مع تبليغ ما أنزل إليه من التخيةُ أن لا يخبرَ به سائرَ نسائه.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى البَلاطِ أَوْ بَابِ المَسْجِد
صحيح البخاري
باب ُ الوُقُوفِ وَالبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْم
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَخَذَ الغُصْنَ وَما يُؤْذِي النَّاسَ في الطَّرِيقِ، فَرَمى بِه
كانت حجارةً مفروشةً من المسجدِ إلى السوق، تُسمَّى بالبلاط، وكان العَقْل فيه انتفاغًا بأرضٍ غير مملوكةٍ.
(5/196)
---
2470 - قوله: (وعَقَلْتُ البعير في ناحيةِ البَلاطِ) وهذا صريحٌ في أن عَقْل البعيرِ كان خارجَ المسجد، وقد أدَّاه الراوي مرةً بما يُوهِم عَقْله في المسجد.
صحيح البخاري(5/32)
باب إِذَا اخْتَلَفُوا في الطَّرِيق المِيتَاءِ، وَهيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَينَ الطَّرِيقِ، ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا البُنْيانَ، فَتُرِكَ مِنْهَا للطَّرِيقِ سَبْعَةُ أَذْرُع
والمِيتاءِ مفْعال من الإِتيان لا مِن الموت، والمعنى أن يَكْثُر فيه الإِتيان.
قوله: (إذا اختَلَفُوا) أي اختلف الشركاءُ في الطريق الذي يَكْثُر فيه الإِيابُ والذَّهابُ.
قوله: (الرَّحْبَةُ)... الخ، وهي الأرضُ الخاليةُ من العُمْران، وكانت عند الطريق حسب الاتفاق، فأراد المالكون أن يَبْنُوا فيها شيئًا.
قوله: (فَتُرِك منها الطريق سَبْعَة أذْرُع)، واعلم أَني ما كنت أَفْقَه سِرَّ قضاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبسبعةِ أذْرُع عند تشاجرهم في الطريق، فإِنَّ الطريقَ قد يكون بذِراعٍ وذِراعين أيضًا، فما معنى التخصِيص بالسبعةً؟ ثم فَهِمت مراده من «مُشْكِل الآثار» للطحاوي؛ فحقَّق أن الحديثَ في الطريق الجديد الذي هم بصدد تحديده، أما القديم فهو على ما كان من ذراعٍ أو ذِرَاعَيْن، فمعنى قول البخاري: «وهي الرَّحْبَة تكون بين الطريق».. الخ، يعني اب اس مين سى راسته نكالنا برا.
والبخاريُّ أيضًا يريدُ الطريقَ المُحْدث، دون القديم، قال الحنفية: إن طولَ الطريق غير محصورٍ، وعَرْضَه بِقدْر عَرْض الباب، وارتفاعَه قَدْر ارتفاعه؛ ولا يَرِدُ علينا الحديثُ في العَرْض، فإِنَّ ذلك عند المصالحة.
صحيح البخاري
باب ُ النُّهْبَى بِغَيرِ إِذْنِ صَاحِبِه
2475 - قوله: (تَفْسِرُهُ أَنْ يُنْزَعَ منه، يريد الايمان)، واعلم أنَّه قد وَرَد فيه عن ابن عاس تَشْبِيهان:
(5/197)
---(5/33)
الأول: تشبيهُ الإِيمانِ بالظلة، وفي رواية أخرى: أنه شبك بين أصابعه، ثم فَصَلَها، فَهُمًا حُكمان مستقلان، لا ينبغي الخَلْطُ بينهما، فإِنَّهُ يُفْضي إلى الغَلط. وفي الترمذي: أنَّ «البخاريُ سِئل عن جَدِّ عَدِيّ بن ثابت، فلم يعرفه، قلت: وهو عبد «الله» بن يزيد الأنصاري، كما ثرى في هذا الإسناد؛ حدثنا عَدِيُّ بنُ ثابت: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري، وهو جَدُّه أبو أُمَه، الخ.
صحيح البخاري
باب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الخِنْزِير
قلت: لا غَزْو أن يكونَ كَسْرَه الصليبَ بعد النزول، كَكْسر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالأصنامَ في فَتْح مكة، وكذا يمكنُ أن يكون وَضْعُ الجزيةِ ناظرًا إلى مَنْصِب التشريع، أي ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلّمهذا الجزءَ أُنموذجًا له. وفَوَّضَه إليه بأَمْرِه، ليتولاه هو بنفسه.
صحيح البخاري
باب هَل تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الخَمْرُ، أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقاقُ؟فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا، أَوْ صَلِيبًا، أَوْ طُنْبُورًا، أَوْ ما لا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِه
قوله: فلم يَقْضِ فيه بشيء) وفي فِقْهنا أنه لو فَعَله بإِذن المُحْتَسِب لم يَضْمَن، وإلا يَضْمن الماليةَ دون الصَّنْعة، والمُحْتسِب مَنْ كان يراقِبُ أحوالَ النَّاس بخلاف القاضي.
2477 - قوله: (قال أبو عبد الله: كان ابن أبي أُوَيْس ...الخ. وقد مرَّ أنه كان يَكْذِب، ولذا لم يأخذ عنه النِّسائي، فيوَجّه للبخاريِّ أنه لعلَّه لم يثبت عنده كَذِبُهُ، والكلام فيه مرَّ مبسوطًا مِن قبل. البنائية بالنَّصيب، وإلا فتعبيرُها عند البَصْريين بالفَتْح.
2477 - قوله: ألا نُهْرِيقها)...الخ. أنظر كيف كانوا أُمِرُوا بالكسر، ثُمَّ سألوا عن الاراقةِ، وغَسْل الأَواني. فدلَّ على أن مِثْلَه لا يُسمَّى مخالفةً، وتأخُّرًا عن الامتثالِ بعد وُضُوحِ المُرَاد.
(5/198)
---
قوله: (كُوَّة) هي طاقٌ في الجِدَار.
صحيح البخاري(5/34)
باب ُ مَنْ قاتَلَ دُونَ مالِه
أي في حفاظه مالِه، فدلَّ على أن مَنْ جاهد دون مالِهِ وعَرْضه، فهو شهيدٌ أيضًا، وكان يُتوهَّم أن لا يكون شهيدًا، لأنه قاتَلَ دون العِرْض والمال، فاغتنمه، وفيه دليلٌ على أن مَنْ مات في تَخْليص مِلْكه، كما في يومِنا هذا، فهو شهيدٌ، وأخطأ مولانا عبدُ الحقِّ حيث أفتى في زمانِه أن القتالَ لتخلِيصِ المِلْك، ليس بغزو، والمقتولَ فيه ليس بشهيدٍ.
صحيح البخاري
باب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيئًا لِغَيرِه
صحيح البخاري
باب إِذَا هَدَمَ حائِطًا فَليَبْنِ مِثْلَه
(5/199)
---
2481 - قوله: (فَدَفَعَ القَصْعَةَ) قيل: إنَّها قيميةٌ، فينبغي أن تجِب فيها القيمةُ دون المِثْل. قلت: ولك أن تَدَّعِي أنها مِثْليةُ؛ ألا ترى إلى ما نُقِل في «الهداية» عن العَتَّابي أن الكِرْباس (كارها) مِثْلي. وفي هامشها: قال الزاهد العتَّابي في «شرح الجامع الصغير»: إنه قال مشايخنا هذا - أي كونِ الذراعِ وَ أن تجِب فيها القيمةُ دون المِثْل. قلت: ولك أن تَدَّعِي أنها مِثْليةُ؛ ألا ترى إلى ما نُقِل في «الهداية» عن العَتَّابي أن الكِرْباس (كارها) مِثْلي. وفي هامشها: قال الزاهد العتَّابي في «شرح الجامع الصغير»: إنه قال مشايخنا هذا - أي كونِ الذراعِ وَكِيل. اه. أي فلا يكونُ الذِّراع وَصْفًا فيه. فانظر كيف جَعَل الثَّوب مِثْليًا إذا لم يَضُرُّه التَّشْقِيص، فلعلَّ أكثرَ الثيابِ في زمانهم كانت قيمةً للتفاوتِ الظاهر، أما اليوم فأكثَرُها مِثْلِيَّةٌ، لفُقدان التفاوت، وغيره. وحينئذٍ لو ادَّعينا أنَّ القَصْعة كانت مِثْلِيَّةً، لم يكن فيه بأسٌ أيضًا، ولئن سَلَّمنا أنها كانت قِيمةً، فلنا أن نقول: إنَّ إيجابَ المِثْل لم يكن من باب الضَّمان، بل كان من باب المُسامحاتِ على ما عَلِمته مرارًا.
صحيح البخاري
كتاب الشَّركَة
صحيح البخاري
باب ُ الشَّرِكَةِ في الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالعُرُوض
صحيح البخاري(5/35)
باب ُ ما كانَ مِنْ خَلِيطَينِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَينَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ في الصَّدَقَة
(5/200)
---
ذهب البخاريُّ إلى جوازِ قِسمة المَكِيلات والمَوْزُونات في الَّنْهِدِ مُجازفةً. والنِّهِدُ أن يَنْثُرَ الرُّفقةُ زادَهم على سُفْرةٍ واحدةٍ ليأكلوا جميعًا، بدون تقسيم، ففيه شَرِكةٌ أوَّلا، وتقسيمٌ آخِرًا، ولا ريبَ أنه تقسيمٌ على المجازفةِ لا غير، مع التَّفاوُتِ في الأَكلِ وهذه الترجمةُ إحْدَى التَّرْجمتين اللَّتين حَكُم عليهما ابنُ بَطَّال أنهما خِلافُ الإِجماع؛ فإِنَّ المَكِيلات والمَوْزُونات من الأموال الرِّبوية، والمجازفة فيها تُؤدِّي إلى الرِّبا، وقد مر معنا الجواب، أنها ليست من باب المعاوضات التي تجري فيها المماكسةُ، أو تدخلُ تحت الحُكْم، وإنما هي من باب التسامح، والتعامل؛ وكيف تكونُ ضَيَّق على نفسه، فأدخل مسأَلة الدِّياناتِ في الحُكْم، فأشكل عليه الأَمْر.
قوله: (كذلك مُجازَفَةُ الذَّهَبِ والفِضَّة)... الخ، تدرَّج من الطعام إلى الأموال الربوية؛ ولا بأس بالمجازَفَةِ فيها أيضًا ما لم تكن من باب المعاوضات، والبِياعات، وكانت على التسامح كالأمور البَيْنَّة.
2483 - قوله: (فإِذا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرْب)... الخ، فيه تصريحٌ بِكَوْن «العَنْبر» حُوتًا، فلا دليلَ فيه على جوازِ أكل حيواناتِ البحر غيرِ الحوتِ، فاحفظه.
قوله: (فَتَنْحَرُ جَزُوا. فَتُقْسَم عَشْر قِسَم، فتأكُلُ لحَمًا نَضِيحًا)... الخ قد يُسْتدلَ به على تعجيل العَصْر، ولا دليلَ فيه أصلا، فإِنَّه يمكنُ مِثَلُه بعد المِثْلَين أيضًا. وقد نُقِلَ عن بعض السلاطين ما هو أعجبُ منه؛ حُكِي عن بعض سلاطين دِلْهي يُصلِّي صلاةَ العيد، ثُم يَنْحرُ أُضْحيته، فإِذا فَرَغ من الخْطبة، فإِذا اللَّحم قد نضج، فكان يأكلُ.
(5/201)
---(5/36)
واعلم أن ما في فِقْه الحنفية من أن رجالا إذا اشتركوا في أُضحيةٍ، ينبغي أن يحذروا من المجازفةِ في القِسْمة، وعليهم أن يَقْسِموا اللَّحْمَ وَزْنًا. أقول من عند نفسي: وذلك عند مخافةِ النِّزاع، وإلا جازت المجازفةُ أيضًا، فإِني جرَّبت أن المجازفة قد سِرْت في غير واحدٍ من المواضع عند المسامحة، وإنما القواعدُ عند ظهور النِّزاع.
صحيح البخاري
باب ُ قِسْمَةِ الغَنَم
صحيح البخاري
باب ُ القِرَانِ في التَّمْرِ بَينَ الشُّرَكاءِ حَتَّى يَسْتأْذِنَ أَصْحَابَه
2488 - قوله: (بذِي الحُلَيْفَ ن تِهايَةَ، لا ما هو ميقاتُ أهل المدينة، كما في البخار، في «باب من عدل عشرةِ من الغنم»... الخ.
2488 - قوله: (فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبالقُدوُرِ فأكْفِئَت)...الخ. أي أُكْفِئت القُدُورُ، وأُخْرِجِ منها اللَّحْمِّ، لِيقسم بينهم، فلم يلزم إضاعةُ المال. ويمكن أن يكونَ من باب التعزيز بالمال، كَكَسْر الدِّنان، وَخَرْق الزِّقاق، وحينئذٍ لا حاجةَ إلى التأويلِ المذكور، والتَّعزِير به جائزٌ عند أبي يوسف. والمسألة عندنا أنَّ المالَ يوضَع في بيت المال، وحينئذٍ يُحْمل على ما قلنا، ويرد عليه ما في «الفتح»: فأَكفِئت القُدُور، وتَرِبَ اللَّحْم.
قلت: ولعلَّه أراد المبالغة في التقسيم، أي بادروا إلى التقسيم: فأكفئت القُدُور، حتى تَرِب اللحم، كما يقع مِثْلُه اليوم أيضًا عد تقسيم شيءٍ، فليس التتريبُ فيه قَصْديًا، والله تعالى أعلم. وفيه أَصْلٌ عظيم، وهو أن قَبْض المُشَاع ضعيفٌ جدًا، وسيجيء في موضعه.
(5/202)
---
2488 - قوله: (فَعَدَل عَشَرَةً مِن الغَنَم ببَعيرٍ)...الخ. وهو ظاهرُ مذهب إسحاقَ في الأُضحية، كما عند الترمذيّ أنَّ الإِبلَ في الأضْحيةِ تُجزيءُ عنده عن عَشَرة. قلتُ: والظاهرُ إن إقامةَ الإِبل مُقامَ عشرةٍ من الغنم، إنما كان في «باب تقسيم الغنائم»، فنقلهم بَعْضُهم في الأضحية أيضًا، وهو وَهم.
صحيح البخاري(5/37)
باب ُ تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَينَ الشُّرَكاءِ بِقِيمَةِ عَدْل
أخرج فيه حديثَ العِتْق، وفيه تفصيلٌ وسيجيء في بابه إن شاء اللهاُ تعالى.
صحيح البخاري
باب هَل يُقْرَعُ في القِسْمَةِ؟ وَالاسْتِهَامِ فِيه
واعلم أنَّ القُرْعة ليست بِحُجَّةٍ عندنا في موضع من المواضع، فهي للتطيب لا غير، وجعلها الآخرون حُجَّةً مع بعض تفصيل عندهم؛ وتكلم عليها ابنُ القيِّم أيضًا، واستدلَّ بالأحاديث التي كُلُّها من باب الدِّيانات؛ ولم يستِطع أن يخرِّج له شيئًا من باب الحُكْم، ولا نجد في الأحاديث لفصل القضاء إلا البينة للمدعي، واليمين على المدعي عليه»، فهما طريقا الفصل عند المخاصمة؛ أما القُرعة، أو الشاهد مع اليمين، فلم نَرَهُ من هذا الباب، وسيجيء.
(5/203)
---(5/38)
2493 - قوله: (فإِن يَتْرُكوُهم، وما أرَادُوا هَلَكوا جميعًا)... الخ قلت: إنَّ الدنيا بأَسرها كالسفينةِ الواحدة، جَلَس فيها كلٌّ: مُسْلمٌ وكافِرٌ، مطيعٌ وعاصٍ، فإِذا فشت فيهم المصيةُ، فلم يأْخُذ أَحَدٌ يَدَ أَحدٍ هلكوا جميعًا لا محالة؛ وذلك لأنها دارُ تلبيس وتخليط، وليست بدارِ تمييز، فلا يزال الحقُّ والباطلُ فيها مختلطين كذلك. فلو هلك العَاصُون دون المُطِيعين، لوقع التمحيصُ في تلك الدار، دارُ الإِيمان بالغيب، ويناسبه السِّتر والإِبهام؛ ولو انكشفت الغِطاء، وارتفعت الحُجُبْ، وانجلى الامْرُ ووقع التمييزُ فلماذا يقومُ الحَشْر والميزان؟ وإنما أراد اللهاُ سبحانه أنَ يَبْقى الأَمْر في تلك الدَّار كذلك، مُلتويًا يجري الحقُّ مع الباطل، والحرب سجال، إما إذا قامت الساعةُ، وظهرت الحقائقُ على ما هي، فالنِّعْمَةُ للمُطِيع، والنِّقْمة للعاصي، فريق في الجنة، وفريق السعير؛ فهذا هو التمييزُ الذي تذهب إليه الدنيا، فلا يقع فبل أوانه؛ ونعم ما ذكره الملا عبد الرؤوف المُنَاوي، وهو تلميذ السُّيوطي: إنَّ إبقاءَ المُطِيعين مع العصاةِ للتخفيف في حَقِّ العُصَاة، ولولا المطيعونَ معهم لاستحقوا التدمير، والاستئصال.
صحيح البخاري
باب ُ شَرِكَةِ اليَتِيمِ وَأَهْلِ المِيرَاث
2494 - قوله: (هي رَغْبَةُ أَحَدِكُم لِيتِيمَتِهِ)...الخ وفي الحاشية عن يتيمة، وهو الأصوب ههنا، وكذلك قوله تعالى: {وَتَرْغَبُون أن تَنْكِحُوهُنَّ)(النساء: 27) تَنْكِحُوهنَّ، وتقديرُ حَرْف الجرِّ شائعٌ عندهم، مع خلافٍ يسير بينهم في جواز تقديرِ الحروف التي يتغَّيرُ بحذفها المعنى، ثم إنَّ تفسيرَه لا ينحصر فيما ذكروا، وليراجع له تفسيرُ الزمخشري.
8 بابُ الشَّرِكَةِ فِي الأَرَضِينَ وَغَيرِهَا
وأخرج فيه حديثَ الشُّفْعة، وثبت جوازُ الشَّرِكة في الأرض.
(5/204)
---(5/39)
9 بابٌ إِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكاءُ الدُّورَ أَوْ غَيرَهَا، فَلَيسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلا شُفعَةٌ
وليست تلك المسألةُ في الحديث له؛ نعم في فِقْه الحنفية أنه لو لو ظهر الغُبْن الفاحِش بعد التقسيم، له أن يرجع عنه، وإلا فلا رُجوعَ له.
10 بابُ الاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ
2497، 2498}قوله: (ماكانَ يدًا بيدٍ فَخُذُوه)...الخ، وهذه الضَّابِطةُ مُجْمَلةٌ ههنا، وليراجع تفاصيلها في الفقه.
صحيح البخاري
باب ُ مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ وَالمُشْرِكِينَ في المُزَارَعَة
جعل المصنِّفُ معاملة خبيرَ مشاركةً ههنا، مع أنه حملها مرَّ على معاملات أُخْرى.
صحيح البخاري
باب ُ قِسْمَةِ الغَنَمِ وَالعَدْلِ فِيهَا
2500 - قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأعطاهُ غَنَمًا يَقْسِمُها على صَحَابتِه ضَحَايا)...الخ. ليس هذا من شَرِكة الفِقْه في شيءٍ، فإِنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمأتى له غَنَمٌ فقسمها، ولم يكن هناك شركاءُ من قبل، والمراد منها في الفِقْه ما تكون بين الشركاء.
صحيح البخاري
باب الشَّرِكَةِ فِيِ الطَّعَامِ وَغَيرِه
- قوله: (فَغَمَزَهُ آخرُ، فرأى عُمَرُ أنَّ له شَرِكَةً)...الخ، ولا تَثْبُت الشَّرِكة عندما بالغَمْز في الحُكْم، أما في الدِيانة، فالأمرُ موكولٌ إلى رضائهم.
2501،2502 - قوله: (فَمَسَح رَأْسَهُ)وقد كان السَّلَف يهتمُّون بإتيان الصغارِ بحضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثُم تسلسل به العملُ إلى يومِنا هذا، فيأتون بهم عند الصَّالحين.
قوله: (قال أبو عبد الله: إذا قال الرجل للرجل: أشركني. فاذا سكت فيكونُ شريكَة بالنِّصف)قلت: وهذا في الديانةِ ولا يمشيء في الحُكْم، أي القضاء أصلا.
(5/205)
---
ثُم في فِقْهنا أنه لا يُنْسب إلى السَّاكِت شيءٌ، واستثنوا منه أربعًا وثلاثين صورةً، ولَعلَّه لا حصر فيها أيضًا؛ وراجع له «الأشباه والنظائر».
صحيح البخاري(5/40)
باب ُ الشَّرِكَةِ في الرَّقِيق
- قوله: (وَجَب عليه أن يَعْتِقَ كُلَّه) وهذا اللفظ مفيدٌ للحنفية؛ فإِنَّه يدل أنه لا سبيل لبقاءِ العبد على تلك الصفةِ، بل يصيرُ حرًا، إما بالتضمين أو الاستسعاء، ودلَّ أيضًا على أنه ليس بِمُعْتَق في الحالة الراهنة، بل يحتاج أن يُعْتَق، ويخلِّص نفسخ بحيلةٍ، وسيجيءُ التفصيل.
صحيح البخاري
باب الاشْتِرَاكِ فِي الهَدْيِ وَالبُدْنِ، وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ الرَّجُل
في هَدْيِهِ بَعْدَما أَهْدَى
هذا أيضًا ليس مِن الشَّركة في شيء؛ فإِنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمجاء بِبَدَنةٍ علي حدة، وجاء بها عليٌّ على حِدَة؛ ثُم لا يُدْري أن تلك البُدْنَ لمن كانت؛ على أن الشَّرِكة في العين لا يُتصور عند الحنفية، إلا أن يبيع أحدُهم نِصْف ماله من الآخر، فتكون شَرِكة مِلْك، كما في «الكنز».
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي القَسْم
2371 - قوله: (أرِنُ)، واختُلِف في هذا اللفظ، فقيل: ينبغي أن يكون «إيرنَ» بمعنى عجل، وراجع «الهامش».
صحيح البخاري
كتاب الرَّهْن
صحيح البخاري
باب فِي الرَّهْنِ في الحَضَر
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ رَهَنَ دِرْعَه
صحيح البخاري
باب ُ رَهْنِ السِّلاح
هذا القيد ناظِرٌ إلى قَيْد السَّفَر في القرآن، وإنما أخذه القرآنُ في النَّظْم لكونِ الحاجة إليه في السَّفر، ولكونِ شأن نزوله في السَّفر لا لكونه مَناطًا، فنبه على أنه جائزٌ في الحَضَر أيضًا.
(5/206)
---
قوله: ({فَرِهانٌ مَقْبوضَة}) دلَّ على اشتراطِ القَبْض.
صحيح البخاري
باب الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوب
صحيح البخاري
باب ُ الرَّهْنِ عِنْدَ اليَهُودِ وَغَيرِهِم
صحيح البخاري
باب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ،
فَالبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعى عَلَيهِ(5/41)
ثم أعلن الراهِنَ إن أجاز للمرتَهِن أَن ينتفع بالمرْهُون، فإِن لم يكن مَشْروطًا في العَقْد، ولا معروفًا في العُرْف جاز، ويَحِل له الانتفاعُ به. ثم قالوا: إنَّ مَؤُنة الحِفْظ على لمرتَهِن، ومَؤنةَ ما يتوقف عليه بِقاءُ المرهون على الراهن، فلا يجوزُ للمرتَهِن أن يَشْرب اللبنَ على مسائلنا، وإنما يبِيعُه، ويَصَنُع ثَمَنَهُ عنده أمانةً للراهن؛ فإِن لم يجد مَنْ يشتريه، ورآه على شَرَفِ الفسادِ والضيَّاعِ، يَحِلِ له شُرْبُه عندي، وإن لم يذكره في الفِقْه، ويحاسب عما يجب على الراهن مِن ثمن العَلَف، فإِنَّ شَرف التَّلف.
وهكذا أقول في الفرس، فإِنَّه من الدوابِّ التي أُعِدت للركوب؛ ولو لم نُرَخِّص له بالرُّكوب، يلزم تَعَطُّلُها عن منافعها؛ فقلنا: إنه جائزٌ للمرتَهِن، ويُحاسب عما يجِب عليه مِن ثمن عَلَفِه، ومن ههنا ظهر وَجْه تخصيص المركوب والمحلوب في الحديث؛ فإِن اللبن مما يَفْسُد، والفرسَ إذا تعطل عن الركوب ضَاع، فلم يناسِب أن يضيعَ اللَّبن، وتتعطَّلَ الدابةُ، فأباحهما له من هذه الحاجةِ. فثبت أن المرادَ من الحديث هو ما فهِمه أحمدُ؛ نعم أخرجا لأَنْفُسِنا مَخْلَصًا منه.
(5/207)
---
ثُم إنَّ الحافظ ابنَ تيميةَ فَرَّع عليه تفريعات، وادَّعى أن الحديث يدلُّ على جوازِ الاستمتاع من المرهونِ مُطْلقًا سواء كان مَرْكوبًا، أو غيرَ ذلك. قلت: أما الحُكْم في الفرس، والحَلوب، فكما في الحديث، لمكان الحاجةِ فيهما، على ما عَلِمت؛ وأما ادعاؤه الإِطلاق، فذاك أمرٌ يَحْمِلُه هو، لأنه لا حاجةَ في غيرهما.
والحاصل في وجه التَّفضِّي عن الحديث أن المرتَهِن ليس عليه أن يتتبع الراهِن لأَخْذِ أُجرةِ العَلَف، فله أن يَشْرب من لبنِه، ويركب ظهرَه، ويكون عليه ثمنُ العَلَف، ويقتص هذا بهذا، فعملت بِقَدْر ما نطق به الحديث، وتركت تفاريعَ ابن تيميةَ في التعميم، وذكرت وجهًا للمذهب هذا.
صحيح البخاري
كتاب العِتْق
صحيح البخاري(5/42)
باب في العِتْقِ وَفَضْلِه
صحيح البخاري
باب أَيُّ الرِّقابِ أَفضَل
صحيح البخاري
باب ُ ما يُسْتَحَبُّ مِنَ العَتَاقَةِ في الكُسُوفِ وَالآيات
صحيح البخاري
باب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَينَ اثْنَينِ، أَوْ أَمَةً بَينَ الشُّرَكَاء
2521 - قوله: (فإِنَّ كان مُوسِرًا قُوِّم عليه، ثُمَّ يُعْتَق)...الخ، وفيه إيماءٌ إلى مذهب الحنفية، لأنه قال «ثم يعتق»، فأتى بحرف التراخي، ليدَّل على أن في عِتْقِه بتمامه تأخيرًا، وتراخٍ، ولم يعتق كله بالفعل؛ ويؤيده ما في الروايةِ الآتية: منُ أعتق شِرْكا له في مملوك، فَعَلَيْهِ عِتْقُه كُلِّه إن كان له مالٌ يَبْلُعُ ثَمَنَه»، اه، فإِنَّه أيضًا يدلُّ على أنه مُعْتَق البعض في الحال، ثم سيعتق عليه إنْ كان له مالٌ.
(5/208)
---
2323 - قوله: (فإِنْ لم يكن له مالٌ يُقَوَّمم عليه قيمةَ عَدْلٍ على المُعْتقِ، فأُعْتِقَ منه ما عتق). اه. واعلم أن قوله: «يُقَوَّم عليه»... الخ، صَفْةُ لمال؛ وجزاء الشَّرْط: فأُعْتِقَ منه ما عتق، والمعنى أنه إن لم يكن له مالٌ كذلك، فلا يكون له التَّضْمين، بل يَعْتِق منه ما عتق، وعليه خلاصُه في الباقي، كما هو مذهب الحنفية، أو عَتَقَ منه (ما) عتق فَحْسب، كما هو مذهب الشافعي؛ ولو جعلت قوله: «يُقوَّم عليه» جزاءً للشرط يتقلبُ المرادُ، ويَدلُّ على التقويم والتضمين عند عدم المال، وليس بمرادٍ، فاعلمه، وراجع «الهامش».
صحيح البخاري
باب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا في عَبْدٍ، وَلَيسَ لَهُ مالٌ،اسْتُسْعِيَ العَبْدُ غَيرَ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ، عَلَى نَحْوِ الكِتَابَة(5/43)
قال مولانا شيخُ الهند: إن هذه الترجمة دليلٌ على أن البخاريَّ وافق الإِمامَ الأعظم، وضع لفظ: «على نحو الكتابة»؛ وهذا هو دعامةُ مذهب الحنفية، لأنهم اختلفوا في صِفة العبد حال الاستسعاء، فقال إمامُنا: إنه في حُكْم المكاتب؛ فركَّب المصنِّف هذه الترجمة من جملةِ الحديث، وتَفَقَّه الإِمام، والمسألةُ وإنْ مَرَّتِ من قَبْل، لكنَّ الظاهر أنه لم يُرِد التقويةَ إلا ههنا، فوضع لفظ «على نحو الكتابة» مع جملةِ الحديث، وهذا اللفظ قاله الإِمام أبو حنيفة، وإبراهيم النَّخَعي، فيتبادر منه أنه اختار مَذْهَبَنا أيضًا؛ فالعجب أن البخاريَّ وافق الإِمام في تلك المسألة، وخالفه صاحِباه.
صحيح البخاري
باب ُ الخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ في العَتَاقَةِ وَالطَّلاقِ وَنَحْوِهِ، وَلا عَتَاقَةَ إِلا لِوَجْهِ اللَّه
(5/209)
---
الخطأ أن يَسْبق على لسانه شيءٌ مِن غير قَصْدٍ منه، نحو أراد أن يقول: سبحان الله، فجرى على لسانه: أَنْت حُرٌّ؛ وصورة النِّسيان نحو إنْ قال: والله لا أُطلِّقُ امرأتي، ثُم نسي أنه حلف به، فقال: امرأتي طالقِ، كذا ذكره في «البحر»؛ وإلا فتصويرُ النِّسيان مُشْكِل ههنا. ثُم إنَّك قد عَلِمت فيما مرَّ مرارًا؛ أَنَّ الجهل، والنِّسيان، والخطأ عُذْرُ في فِقْه الأئمة في كثيرٍ من المسائل؛ واعتبره البخاريُّ أَزْيَدَ منهم، ولم يعتبِرْها الحنفيةُ إلا أقَلَّ قليل، ولو وَسَّع فيها الحنفيةُ أيضًا لكان أحسنَ، وهو الذي يُستفاد مِن نسق الشَّرْع، فإِنَّ سَطحه أَوْسع، وفِقْه الحنفيةِ أَضْيق، نعم ما وَسَّع به الإِمام البخاريُّ ليس بجيد أيضًا.(5/44)
قوله: (ولا عَتَاقَة إلا لِوَجْه الله) لعلّه تعريضٌ إلى الحنفية، فإِنَّهم قالوا: إن قال: أَنت حُرُّ للشيطان، عَتَقَ عَبْدُه، قلت: إن أراد به أن العَبدَ لا يَعْتِق إلا أن يعتقه لوَجه الله، فليس بصحيحٍ، وإنْ أراد أنه أعتقه لغير الله، فإِنَّه لم يفعل فِعْل الإِسلام، فنحن لا نُنْكره أيضًا، بل نقول: إنه إن نوى بذلك العبادة، كَفَر أيضًا، فأَيُّ وِزْر يريدُ فوقه؟ ولم يُحْسن الشيخُ محي الدين النووي في نَقْل مذهب الحنيفة، حيث يتبادر منه أَن الحنفية لا يبالون به، وَيَروْنه كعامَّة صِيغ العِتْق، مع أنك علمت أنه كُفْرٌ عندنا، أما تَمَسُّكُه بقوله صلى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالنيات»، ولا نية للناسي، والمُخْطىء، فينبغي أن لا تُعتبر تصرفاتُه، فهو كما ترى. وقد مرَّ عليه البحثُ معنا مبسوطًا: إن الحديثَ لم يَردِ في صِحَّة الاعمال، وفسادِها أَصْلا، وإنما ورد في بركة الأعمال، ونمائها؛ فكونُ النية شَرْطًا للصِّحة خارجٌ عن مفهوم الحديث، وإذن التمسك به غيرُ تامّ.
(5/210)
---
2528 - قوله: (إنَّ الله تجاوَزَ (لي) عن أمتي ما وسْوَسَت به صدُورُها ما لم تَعْمل أو تتكلّم) وقد مرَّ عليه الطحاوي في «مُشْكلة» على نظيره، واختار فيه النَّصْبَ، ولم يجعل النفس فاعِلا، فيكون ههنا أيضًا النصب؛ وترجمته: جوانى سينون مين وسوسه دالين.(5/45)
واعلم أنه قد سَبَق إلى بَعْض الأَذهان أَنَّ العَزْم على المعصية أيضًا عَفْوٌ، كسائر مراتب الوَسْاوس، نظرًا إلى ظاهر هذا الحديث، لأنه وَرَد في صَدْره ذِكْرُ الوَسْاوس، ثُمَّ بلغ إلى عَمْل الجوارح بالطفرة، وتَرَك العَزْم من البَيْن، فتردد فيه النظر؛ أنَّه داخِلٌ تحت حُكْم الغاية، أو المُغَيَّا؟ فذهب بَعْضُهم إلى أنه عَفْوٌ، وتَوهَّم أنه داخِلُ في حُكْم المُغَيا؛ وهذا باطل قطعًا، كيف وإنه إذا لم يُذكر له حُكْمٌ في الحديث نصًا، فما الدليلُ على أنه داخِلٌ تحت حُكْم المَغيَّا؟ لِمَ لا يجوز أن يكون داخِلا في حُكْم الغاية، ويكون المعنى ما لم يَعْمل أو يتكلَّم أو يَعْزِم.
صحيح البخاري
وإنما يَحْدُث الإِشكالُ في مِثْل هذه المواضع، لأن الحديث قد لا يكون حاويًا على جميع الشقوق، فيأتي واحدٌ منهم، وتعتريه به عجلةٌ، فيزعمه حاويًا على جمعيها، ثم يستنبط منه حُكْمًا للشِّقَّ المسكوتِ عنه أيضًا حسب زَعْمه، فيقع في مناقضةٍ من التواتر من فِعْله. وهذا ظُلْمٌ وتعسُّف، فإِنَّ مَنْشأه ليس إلا ظِنُّه الفاسد، أو العجلةُ التي أخذته؛ كما رأيت في الحديث المذكور، أنه لم يتعرَّض إلى العَزْم، وإنما بيّن حُكم سائر الوساوس، فكبُر على بَعْضِهم أن لا يكون له في الحديث حُكْم، فجعله حاويًا على جميع الشُّقوق، ثُم أخذ منه حُكْم العَزِم أيضًا، لكونه من متناوَلاتِ الحديثِ على ظَنِّه، فحكم عليه بكونِه عَفْوًا، مع أن المعروف عند الشَّرْع خِلافُه، وجماهير العلماء قد ذهبوا إلى المؤاخذةِ عليه أيضًا.
(5/211)
---
ثم المشهور في شَرْح الحديث؛ أنَّ الوَساوسَ لا تخلو إمَّا أن تقع فيما يكون مِن جنس الأقوال، أو الأفعال؛ فإِنْ كانت من النَّحْو الأَوَّل، فإِنَّها لا تُؤخذُ بها حتى تتكلَّم؛ وإن كانت من الثاني فأيضًا كذلك، إلا إذا عَمِل بها؛ وحينئذٍ لا تُكْتب لكُلِّ نوع منهما إلا معصيةٌ واحدةٌ.(5/46)
وقد كان خَطَر ببالي شَرْحٌ آخر، فَعَرَضْتُه على مولانا شيخ الهند، وهو أنَّ ما كان من قبيل الوساوس إذا بلغ إلى حَدِّ العمل فَعَمِل به، ثُم تكلَّم، فإِنَّه اقترف مَعْصِيتين: معصيةً للعمل؛ ومعصيةً أُخْرى للتكلُّم بها، وهذه مغايرةٌ للأُولى، وذلك لأن الله تعالى قد أَمَرَه بِسِتْرها، فإِنَّ الله تعالى لا يُحِبُّ الجَهْر بالسواء، إلا مَنْ ظلم، فلما افْتَات عليه، وجَهِر بها، استحق أَن تُكْتب له معصيتان، وحينئذٍ مرادُ الحديث أَنَّ الوَساوِس مَعْفوُّ عنها، إلا إذا عَمِل بها، فإِنها تُكتب له معصية، فإِنَّ تكلَّم بها تُكْتب له معصية أُخرى، لكونها أَحْرَى بالتستُّر. فهذا تَجَاسُرٌ منه، ووقاحةٌ بَيِّنةٌ، فما أليقَ بأن تُكتب له معصيتان: معصيةٌ للعمل، ومعصيةٌ للتكلُّم؛ وعلى هذا التقرير تتعلق معصيتان على ارتكاب أَمْرٍ واحد، الأُولى لاقترافِه سيئةً، ومعصيةٌ أخرى للتكلم. ولعلك عَلِمت الآن الفَرْق بين الشَّرْحين، وأن الحديث ساكتٌ عن حُكْم العَزْم، لا أنه مَعْفُوُّ عنه، كما زعم.
صحيح البخاري
(5/212)
---(5/47)
هذا ما سمعت في العزم الذي هو من مبادىء أفعال الجوارح؛ وأما العَزْم الذي لا يتعلَّق بأفعال الجوارح، بل هي من معاصي القلب، كالعَزم على الأخلاق الفاسدة نحو: الحِقْد، والكِبْر، فتؤاخذ عليها أيضًا، إلا أنها ليست مذكورةً في هذا السياق، ولم يتعرَّض إليها الحديث أَصْلا؛ وإنما الحديثُ في الوَساوس التي تَقعُ مبادىءَ لأفعال الجوارِح، كالزِّنا، والسَّرقة، فإِنَّهما من أفعال الجوارح قطعًا؛ وهذه الوساوس من مبادئها، ألا ترى أنَّ الإِنسانَ إذا تمنى فاحشةً تتحدَّثُ بها نفسه أولا، وقد تَخْطُر بباله، وأُخْرى تَهْجِس في نفسه هَجْسًا، وقد يَعْزِم عليها، ثُم إن غلبت عليه الشِّقْوة، وسبق القَدَر، فَقَد يَقْتَرِفها أيضًا، والعياذ بالله، فهذه الوَساوسُ هي التي وَرَدَ فيها الحديثُ، أما العَزْم على معاصي القَلْب نحو الأحقاد والضغائن، والشُّكوك في أَصْل الدِّين، فهذه الأفعالُ كلُّها ليست من الجوارح، بل أفعالُ القلب، فلم يَردِ فيها الحديثُ رأسًا؛ نعم، ومِن الأشياءِ ما تكون من أفعال الجوارح أولا، ثُم تصيرُ آخِرًا من أفعال القلب، كالانتقام لمظلمة. فإِنَّ الإِنسانَ يجتهد فيه مهما أمكن، فإِذا عَجَزَ عنه القلب حِقْدًا، فهي أيضًا داخلة في الأفعال القَلْبية آخِرًا. ومن ههنا عَلِمت السَّرَّ في عدم تَعَرُّض الحديث لهذا النحو من العَزْم، وهو أن الحديث إنما ورد في مبادىء أفعالِ الجوارح فقط، أما العَزْمُ على الأفعال القَلْبية، كالأخلاقِ الفاسدة، فليست من مبادىء أفعال الجوارح، كما علمت، بمعنى أنها لا تقع في مبادئها، فإِنَّها تقتصر على الباطن فقط؛ بخلاف النحو الأول، فإِنها تَنْبعث من الباطن، وتتقوَّى شيئًا فشيئًا حتى تُسخِّر الظاهِرَ أيضًا، فيتابعها تارة، ويركب تلك المعصية.
(5/213)
---(5/48)
والحاصل أنَّ الحديث ورد في الوَساوِس التي تكون مبادىءَ لأفعالِ الجوارح، وسكت عن حُكم العَزْم عليها؛ وأما حُكْم سائر العزْم، ممَّا لا تعلُّق لها بتلك الأفعالِ، فهي خارجةٌ عن سياق الحديث.
ثم نُلقي عليك شيئًا لتفصيل المسألة، وهو أن مَرائِبَ القَصْد خَمْسٌ، ضَبَطَها بعضُهم في هَذين البيتين:
*مراتِب القَصْد خَمْسٌ: هاجسٌ ذكروا
** فخاطِرُ، فحديث النَّفس، فاستمعا
*يليه هَمَّ، فَعَزْمٌ، كلُّها رفعت
** سوى الأخير، ففيه الأَخْذُ قد وقعا
فالخاطِر اسمٌ لما يَحُطُر ببالك، ولا يكون له استقرارٌ في الباطن؛ فان استقرَّ شيئًا يقال له: الهاجِس، وإن استقرَّ ولم يخرج، ولكن لم يترجح أحدُ جانبي الفِعْل، أو الترك عندك، يقال له: حديثُ النَّفس، فإِنَّ ترجَّح، وتَرَدَّدت فيه النَّفْسُ، فَهُمٌّ؛ وإن أَجْمَعَتْ عليه، فعزمٌ. ثُم إنَّ الثلاثةَ الأُوَل عَفْوٌ في طَرَفي الطاعة والمعصية، فلا ثوابَ عليها، ولا عقاب، أما الهُّم فهو عَفْوٌ في جانب المعصية، ومُعتبرٌ في جهة الطاعة.
صحيح البخاري
(5/214)
---(5/49)
بقِي العَزْم، فإِنَّه مُعتبر في الجهتين؛ ومَنْ ظنَّ أَنه عَفْوٌ لهذا الحديث فقد غَلِط. لا أقولُ: إنَّ العَزْم على المعصيةِ، كالعمل بها يعينه، بل هو دونه؛ فثوابُ العَزْم على الطَّاعة أَدْونُ من ثواب العمل بالطاعة، وكذا عِقاب العَزْم على المعصية، أَخفُّ من العمل بالمعصية. ثُم العَزْم إنْ بلغ إلى حَدِّ العمل حتى عُمِل بموجَبِه، فإِنْ كان على الطاعة تُكْتب له عَشْرُ حسنات، وإن كان على المعصيةِ لا تُكْتب له إلا سيئةٌ، وإنْ لم يبلغ إلى حَدِّ العمل، فإِنْ كان على الطاعة تُكْتب له طاعةٌ واحدةٌ، وإن كان على المعصيةِ تُكتب له معصيةُ العَزْم لا غير، فإِنْ كَفَّ عنها خَوْفًا من رَبِّه تُمحى عنه مَعْصيةُ العَزْم، وتُكْتب حسنةٌ مكانها، كما يُعلم مما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: {إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً فأنا أَكْتُبها له حسنةً ما لم يعمل فإِذا عَمِلها فأنا أَكْتُبِها بِعَشْرةِ أمثالها إلى أن قال في السيئة وإنْ تركها فاكتبوها له حسنةً إنما تركها مِن جَرَّائي} اه، أي من أجْلي، والمرادُ من التَّرْك تَرْكُه باختياره.
(5/215)
---(5/50)
وحاصلُه أنه إذا مَنَعَتْهُ عن ارتكاب السيئةِ عظمةُ رَبِّه، وخشيتُه، تُمْحى عنه معصيةُ العَزْم، وتُكتب له حسنةٌ أُخرى، ويُعد ذلك توبةً، وأما إذا تركها لموانعَ سماويةٍ، فلم يُذْكر أَمْرُه في الحديث، ويُستفادُ مما عند مسْلم أنه لا تُمحى عنه سيئةُ العَزْم، وتبقى مكتوبةً عليه، كما كانت؛ فإِنَّ الوَعْد إنَّما هو على تقدير تَرْكه من أجل عظمة الربِّ؛ أما تَرْكِه لعجزه، فلا يُوجِب أجرًا، ولا مغفرة، فيبقى عليه إثْمُ العَزْم على المعصيةِ. ثُم لا يخفي عَليْك أنَّ المرادَ بحديث النَّفْس - في حديث مُسْلم - هو مَرْتبة الهَمِّ، لما علمت أَنَّ مرَتبةَ حديث النفس غيرُ معتبرة في جانبي الطاعة والمعصية، وإطلاق إحدى المراتب على الأخرى معروفٌ، والتوسُّع في اللغة معلومٌ، والله تعالى أعلم.
2529 - قوله: (فَمَنْ كانت هِجْرَتُه إلى الله وَرَسُولِه)...الخ، قد سبق الكلامُ في مزايا الحديث في اوَّل الكتاب، وقد نبهت هناك أني لا أدري ما السرُّ في حَذْف المصنِّف هذه القطعةَ من الحديث.
(5/216)
---(5/51)
واعلم أن في إسنادِه عَلْقمةَ بن وقَّاص، كما ترى، وقد سها فيه الشيخُ علاء الدين، حيث قال: إنَّه عَلْقمةُ ابنُ قَيْس؛ وهذا كما وقع السَّهو من الحفاظ في قَصَّه رَجْم اليهوديِّ، أنها في السنة التاسعة، والصواب أنها في الرابعة، كما عند القَسْطلاني، وكذا الصحابيُّ فيها عبدُ الله بن أبي أوْفَى، وجعله عبد الله بن عباس، وهذا أيضًا ليس بصحيح، ويقضي العجب من مِثْل الحافظ أنه كيف رَكِبَ الأغلاطَ التي في فَنِّ الحديث، مع كونه أَحْفَظَ أهلِ عَصْره في الحديث والرِّجال، والرَّجُل إذا أتى بالأغْلاط في فَنِّه عيِّر عليه، أما إذا لم تكن من فنِّه فلا عارَ عليه؛ كما في «تدريب الراوي» في حقِّ أبي بكر بن أبي شَيْبة، وعثمان بن أبي شَيْبة، أنهما لم تكن لهما مزاولة كثيرةُ بالقرآن، فقرأ (عثمان) مرةً في المجلس سورة الفيل فتلفظ بحرف الاستهام؛ وحرف الجَحْد، كالمُقطعات، هكذا: ألف، لام ميم ترَ كيف، فَقِيل له، فأجابه: إني لا أقرأ قراءةً عاصم وهكذا ابنُ شاهين، فإِنَّه لم يكن يَعْلَم الفِقْه أصلا.
صحيح البخاري
باب إِذَا قالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ: هُوَ لِلَّهِ، وَنَوَى العِتْقَ، وَالإِشْهَادِ في العِتْقِ
خ
* يَا لَيلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ** عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفرِ نَجَّتِ
* يَا لَيلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ** عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفرِ نَجَّتِ
2530 - قوله: (عن أبي هريرةَ، أنه لما أَقْبل يريدُ الإِسلام)...الخ، واعلم أنَّ أبا هريرة. قَدِم السَّنة السابعة، وكان شريكًا في غزوة خَيْبر، كما هو عند الطحاوي. وعندي روايةٌ أُخرى، تدلُّ على أنه جاء مرةً مِنْ قَبْلُ أيضًا، وقد ثبت مجيئه إلى المدينة مرَّةً أُخرى، ولو ثبت تلك الروايةُ لنَفَعَتْنا في التَّفَضِّي عن قوله: «بينا أنا أُصلي في حديث ذي اليدين، كما مرَّ.
(5/217)
---(5/52)
2530 - قوله: (على أَنَّها مِن داَرِه الكُفْر نَجِّت)، «على» ههنا بمعنى مع؛ بحث فيه ابنُ هشام في «المُغني». ولم يجد لها شاهدًا، ولو كان هذا البيتُ في نظره، لكفاه شاهدًا.
صحيح البخاري
باب ُ أُمِّ الوَلَد
- قوله: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا)، واستدل منه بَعْضَهم على جوازِ بَيْع أُمِّ الولد، والآخرون على عَدَمِه، كما فَصَّله النوويُّ في «شرح مسلم»؛ والكلّ في غيرِ موضعه، فإِنَّ الحديثَ مسوقٌ لبيانِ انقلاب الأُمور في إبَّان الساعةِ، ولا مِسَاس له بهذه المسائل. ونَقل الحافِظْ ههنا كلامًا مِن نُسخة الصَّغاني، مع عبارة الكِرْماني، وما فهمت مراده، ولعلَّه لم يتحصَّل مرادُه عند الحافظ أيضًا؛ ولذا اكتَفَى بِنَقْل عبارةِ الكِرماني، وسكت عليه؛ والذي يترشَّحُ منه انَّ بَيْع أُمِّ الولد جائز عند المصنِّف، كبيعَ المُدبَّر عند الشافعي.
قلت: أما بَيْع امِّ الولد، فلم يذهب إليه أَحَدُ من الفقهاء الأربعة، واختاره الصاهيريُّ، وفي «طبقات الشافعية»: أنه جَرَت محاورةٌ بين الِنْدَواني، والظاهري في مسألة بَيْع أُمِّ الولد، فحج الهِنْدوانيُّ الظاهريِّ، وهذه المسألةُ ليست من المسائل المُجْتَهِد فيها عندنا، حتى لو قضى بها القاضي أيضًا لم تَنْفِذ، بخلاف المُدَّبر، ولنا ما عند محمد في «موطنه» عن عمرَ: «أيما وليدةٍ ولدت من سيِّدها، فإِنه لا يبيعها، ولا يهبها، ولا يورثها، وهو يستمتع منها، فإِذا مات فهي «حُرَّة»، ثمَّ إنَّ الصَّغاني هذا هو الحافظ شمي الدين الصَّغاني، من علماء المئة السابعة، سافر من صَنعان - قرية - ونَزل بلا هوُر، ثُم رحل إلى اليمن، وهو إمامُ اللُّغة، حنفيُّ المذهب، وصنَّف «المحكم» «العُبَاب». و«القاموس» مأخوذٌ من هذين الكِتابَيْن.
(5/218)
---(5/53)
2533 - قوله: (هُو لك يا عبدُ بْنَ زَمْعَةَ)..الخ. وقد مرَّ الكلامُ فيه - في أوَّ البيوع - مُسْتوفىً؛ ولعلَّ البخاريِّ تمسك به على جوازِ البَيْع، بأن تلك الوليدةَ كانت أُمَّ ولد، ولما بقيت في بيت مَوْلاها بعد وفاتها أيضًا، دَلَّ على عدم عِتْقِها، وبقائها على الرِّقِّية، كما كانت، فيجوز بَيْعُها لا محالة؛ قلت: وقد مرَّ مني أنها كانت زانيةً، فلا تكون أُمَّ ولدٍ قَطْعًا، لتوقِفُّه على التحصين عندهم، ولم يوجد، وحنيئذٍ لا يتم ما رامه المصنِّف.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ المُدَبَّر
قد مرَّ الكلامُ فيه، وأَنَّ تراجِمَ المصنِّف في هذا البابُ متهافتةٌ، والذي يَلُوح منها أنه اختارَ مذهب الشافعي.
2534 - قوله: (عامَ أَوَّل)،من إضافةِ الموصوف إلى الصِّفة؛ وأصلُه العامُ الأَوِّل.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ الوَلاءِ وَهِبَتِه
وهذه من الحقوق اللازمة، الغيره القابلة للانتقال، وصرَّح محمدٌ في «موطئه» بعدَم جواز بعيعها؛ وفيه حديثُ نقله في «شَرْح السِّراجي» وفيه كلامُ قال مُغُلْطاي: إنَّ الحديثَ المذكور مُسَلْسَلٌ بالأئمة، فرواه أحمدُ عن الشافعيِّ عن محمد عن أبي حنيفة؛ وكذا رواه الشافعيُّ عن مالك أيضًا، فاحفظه.
صحيح البخاري
باب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ، أَوْ عَمُّهُ، هَل يُفَادَى إِذَا كانَ مُشْرِكًا
ولعلَّ ترجمتَهُ ناظِرةٌ إلى ما قاله الحنفيةُ: إنَّ الرَّجُل إذا مَلَك ذا رَحِم منه عَتَق عليه؛ ولم يَخُصُّوه بقرابةِ الوَلاء. وغَرضُه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّممَلك عَبَّاسًا، ثُم لم يَعْتِق عليه؛ قلت: وأين المِلْكُ فيه قَبْل التقسيم، وليس هناك إلا حَقُّ المِلْك، والحريةُ تَعْقُبُ المِلْك نَفْسه، دون حَقِّه. أما المُفَاداتُ كما في الحديث، فجائزةٌ عندنا أيضًا، كما في «الدُّر المختار».
(5/219)
---
صحيح البخاري
باب ُ عِتْقِ المُشْرِك
مِن باب إضافةِ المَصْدر إلى فَاعِله.
صحيح البخاري(5/54)
باب ُ مَنْ مَلكَ مِنَ العَرَبِ رَقِيقًا، فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّة
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا
ولا استرقاقَ عِنْدنا في بَالغِيهم، غيرِ النِّسوان، والذُّرِّية، وهي المسألةُ في المرتدِّ؛ والاختياراتُ المذكورةُ في الفِقْه في غيرِ مُشْرِكي العرب.
قوله: ({وَنْ رَزْقناه مِنّا رِزْقًا حَسَنًا}...الخ، أي جعلناه مولىً أعلى؛ قلت: ولا تَمسُّك له في الآية، إلا أن ينتفع من اطلاق قوله تعالى: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا}(النَّحل: 75) فيدلُّ على أنه لا فرق بين العجم، والعرب في الاسترقاق، وهو مذهب الشافعيِّ، وغيره. وهو الذي نسبه المُحشِّي إلى الكُوفيين، ولَعَلَّه سَهْوٌ من الكاتب، فإِنَّ مَذْهبهم عَدَمُ الاسترقاق في العرب، ولنا ما عن عمرَ، كما في «الهامش»، فراجعه، وأَبْسط منه عند الدارمي، فراجع لفظه، فإِنَّه أَنْفع، وقد تَتَبْعت لذلك غزواتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّملينكشِفَ الحالُ، أنه ماذا عامل مع بالغي العرب؟ فلم أجد فيها شيئًا فاصِلا، نعم وَجَدْت في الصحابة أنهم كان لهم عبيدٌ بالغون من العرب، ولكنه ليس بفاصِلٍ أيضًا، لأنه لا يُدْرى أنهم استرقُّوهم صِبيانًا، أو كانوا بالغين حين استُرِقُوا، ولا نِزاع في الأَوَّل، والثاني غيرُ متعيَّن، فبقي الأَمْر في الإِبهام. أما إطلاقُ السِّبي على غنيمة هَوازن، فليس فيه أيضًا ما يَنْفِصلُ به المَرام، لأنها كانت مِنْ جِنْس الأموال والنِّسوان، وأما رِجالُهم، فلم يُسْتَرَقُّوا، كما في «شَرْح المواهب»؛ وبالجملة لم أجد غزوةً من الغزوات يَيْبت فيها استرقاقُ رجال العرب، ولو ثبت لكان فاصِلا في الباب.
(5/220)
---
2539،2540 - قوله: (قال عبَّاسٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم قلت: وفيه ذِكْر الأَسْر والقيد؛ والكلامُ في الاسترقاق دون الأَسْر.(5/55)
2541 - قوله: (فَقَتَل مقاتِلَتْهُم، وَسَى ذَرَارِيَّهُم)...الخ: قلت وفيه ما يدل على خلافِ ما رامه المصنِّف، فإِنَّ فيه قَتْلَ المقاتلين مكان الاسترقاق، نعم فيه استرقاقُ الذرية، ولا خلاف فيه.
2543 - قوله: (وكانت سَبِيةٌ منهم - بني تميم - عند عائشةَ، فقال: أَعْتِقيها، فإِنَّها من ولدِ اسماعيلَ) فيه دليلٌ على كون بني تميم من ولدِ اسماعيلَ، وجملة الكلامِ أنَّ البخاريَّ إن ادعى استرقاقَ العربِ في الجملة، أي بعد وُوقوع السَّبي عليهم، فهذا مُسَلَّم، فإِنه يجوزُ في صبيانهم، ونِسوانهم، وإن ادعى الإِطلاق والكُلية، فلا نُسَلِّمه.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «العَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ»
صحيح البخاري
باب ُ العَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَه
وهذه ديانةً لا قضًا.
2545 - قوله: (وعَلَيْه حُلَّةٌ)...الخ وَغِلط فيه الراوي، فإِنه لم تكن حُلَّةٌ على واحد منهما، إنما قيل له، أن يجعلها حُلَّة، باستبدال الرداء، أو الإزار.
2548 - قوله: (والذي نَفْسي بِيَده)...الخ، هذا مِن قول أبي هريرة.
صحيح البخاري
باب ُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَوْلِهِ: عَبْدِي أَوْ أَمَتِي
صحيح البخاري
باب إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ بِطَعَامِه
قوله: ({وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ})(النور: 32)..الخ.
(5/221)
---
واعلم أن الحديثَ ينهي أن يقول أَحَدُكم: عبدي، وأمتي، وسيدي، وسيدتي؛ والقرآن يُطْلِقُه، حيث قال: {وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} فكيف التوفيق؟ قلت: وقد مرَّ أنه من باب تهذيب الآداب والألفاظِ، كالنَّهي أن يقول: {رعِنَا} (البقرة: 104) وفي مثله تراعى الأحوالُ، فإِذا أوهم خلافَ المراد حُجرِ عنه، وإلا لا.(5/56)
ثم أقول: إنَّ مثار النَّهي في إطلاق لفظٌ «عبدي، وأمتي» أمران: كونُ هذه الألفاظِ مما يُشْعِر بتكبُّر المتكلِّم في نفسه؛ الثاني: انتقالُ الذِّهن إلى الله تعالى، فإِذا كان إطلاقُه من ثالثٍ انتفى الأمران، ويجوز إطلاقُه، كما يقال: عَبْد زيدٍ، وعَبْدُ عَمْرو؛ فإِنَّ التكبُّرِ في إضافة المتكلِّم إلى نَفْسه، بأَن يقول: عبدي؛ أما إذا قاله ثالثٌ، فلا شائبةَ فيه للتكبر، وكذا لا ينتقل فيه الذِّهنُ إلى الله تعالى؛ وحينئذٍ لا إشكال في قوله تعالى: {وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} فإِنَّه إطلاقٌ مِن الله سبحانه، وكذا في قوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (يونس: 25).
وأما قوله تعالى: {اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ}(يوسف: 42) وإنما يُوهِمُ التْكبُّر إذا كان مِصْدَاقه موجودًا، ولذَا نهى في الحديث الآتي أن يقول: «أَطْعِم رَبَّك، ووضيء رَبَّك، واسقِ رَبَّك». لأنه إطلاقُ المولى بحضُور مَمْلُوكِه، فَيُوهِم التكبُّر، قلت: هو على حَدِّ قولهم: أمير المؤمنين يأمرك بكذا، مشيرًا إلى نفسه، وفيه استكبارٌ أَشدَّ الاستكبار. فإِذا استعمله ثالثٌ، فلا بأس به، لانتفاء العِلَّة، فتلخص مما قلنا: أَنَّ مثار النهي إمَّا التكبُّر - وهو في الحضور دون الغيْبة - أو إطلالة بنفسه، لا مِن ثالثٍ، أو تَوَّهم انتقالِ الذِّهْن إلى الله تعالى، فحيث لا يوجد واحدٌ منهما، يَحِلُّ الإِطلاقُ لا محالة.
(5/222)
---(5/57)
2555، 2556 - قوله: (إذا زَنَتِ الأَمَةُ فاجلِدوها) وهذا موكولٌ إلى الإِمام، ومعنى الأَمْر، أن لا يمتنع عن إقامةِ الحدِّ عليها؛ وقد نبهناك فيما مرَّ أن الشيء قد يكون داخِلا تحت وِلايتين: ولاية عامة وهي ولاية الإِمام، ولاية خاصَّة، ثُم تُحذف الوِلاية العامة من البين، مع كونِها منويةً، ويبقى ذلك الشيء منسوبًا إلى الوِلايةِ الخاصَّة، فيتوهم كونُها مدارًا؛ فهكذا في هذا الحديث. أَمَر المَوْلى أنْ يَجْلِدَ أمته، مع كونِه تحت وِلاية الإِمام فيجلِدُها كما هو المعهودُ، عند الشَّرْع، وهو بإِحضارها عند الإِمام، ثم يأمر الإِمام به، فهذا هو طريقُ الوِلاية الخاصَّة مع العامة. فاعلمه، وقد قررناه سابقًا.
صحيح البخاري
2555، 2556 - قوله: (فبيعُوها ولو بِضَفِير) وهذا نحو التغريب في حقِّ الإِماء، وأما الحرائر فليس فيهن إلا الرّجْم، أو الجَلْد.
صحيح البخاري
باب ُ العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِه
2558 - قوله: (فَسَمِعْتُ هؤلاء من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال النُّحاةُ: إنَّ «هؤلاء» لا تُستعمل إلا في ذوي العُقول: واستعملت ههنا في الكلمات؛ والحديثُ وإن لم يكن حجَّةً في باب القواعد، إلا أن الأوْلى عندي أن يُقال بجوازِ استعمالِها مُطْلقًا، كما في الحديث.
صحيح البخاري
باب إِذَا ضَرَبَ العَبْدَ فَليَجْتَنِبِ الوَجْه
والأَمْرُ بالاتقاء عن الوَجْه ليس مخصوصًا بالإِنسان، بل ينبغي أن لا يُضْرب وَجْهُ الفَرَس أيضًا، كما في «فصول - الفتوح - من باب الحظر والإِباحة».
(5/223)
---(5/58)
2559 - قوله: (وهو ابنُ سمعان)وهذا الراوي ضَعيفٌ، ولذا دكره في السَّند بابن فلان، ولم يذكره باسمه؛ وقد وقع نحوُه في - كتاب البخاري - في مَوْضِعَين، أو ثلاثٍ، ولا يقدح ذلك في الحديث، لأنه ليس بمدارٍ في هذا الموضع، بل وقع مُقْترِنًا مع الغير، كما ترى ههنا، أنَّ المَدار على مالك؛ أما ابنُ سمعان، فذكره بِحَرْف العَطْفِ تَبعًا؛ وحينئذٍ لو حذفه أيضًا لما كان بأسٌ، فكذا إذا ذكره مقترِنًا بالغير. ثم هذا أيضًا خلافُ الاحتياط.
صحيح البخاري
كتاب المُكَاتَب
صحيح البخاري
باب ُ إِثمِ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَه
صحيح البخاري
باب ُ المُكَاتَبِ، وَنُجُومِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْم
صحيح البخاري
باب ُ مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ المُكَاتَبِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيسَ فِي كِتَابِ اللَّه
- قوله: ({مِنْ مالِ ااِ الذي اتاكم}) (النُّور: 33) ويجوزُ عندنا أداءُ الزكاة إلى المكاتب. قوله: (قال رَوْحٌ: عن ابن جُرَيج: قلت لعطاءِ: أواجِبٌ عليَّ إذا عَلِمت له مالا أَنْ أُكاتبه)...الخ. والعبدُ لا يملِك مالا، إلا أن يكون عبدًا لأصحاب المروءة، فتركوا ما اكتسبه في يدِه. ولعلَّ الُبخاريَّ ذهب إلى وجوبِ الكِتابةِ إن سأله العَبْدُ.
قوله: (تَأْثُرُه عن أَحَدٍ)...الخ، أي هل عندك نَقْلٌ على ما تقول؟ فقال: لا، ثُم تذكر بعده، فأخبره، كما في الكتاب.
(5/224)
---(5/59)
قوله: (ابن سيرين)ذكر عصام في «في حواشي شمائل التِّرمذي» أنه غيرُ مُنْصرف للِعَلَمية والتأنيث. فظنَّ أنه اسمُ امرأةٍ، وهو كما ترى، وصَدَق الحافظ ابن تيميةَ انَّ الرَّجُلَ إذا تكلَّم في غير فَنِّه أتى بالعجائب، وهكذا جَرَّبناه في رجالٍ لا تكون لهم ممارسةٌ في فنَ، ثم إذا تكلَّموا فيه، أتوا فيه بما يقضي منه العجب؛ منهم المولوي أحمد حسن السنبهلي - المحشيِّ «للهداية»، و«مسند» أبي حنيفة - مَرَّ على حديث عند الترمذي، ونقل عنه عبد الكريم بن مالك الجزري، فهو ثقةٌ، فقال: لم لا يجوزُ أن يكون هو ذلك الثَّقة دون ابن أبي المُخارِق؟
قلت: ومِثْل هذه المناقشةِ دليلٌ على عدم ممارستهِ لذلك العِلْم: فانَّ المُحَدِّين يعلمونَ سلسلةَ الأساتذةِ والتلامذةِ، كرأي عَيْن، فإِذا حكموا على رجلٍ بأنه فلانٌ، نظروا أولا إلى أساتذته، وتلامذته، وطُرْقه، فلا يحكمون بالإِبهام، والأَوهام، فما حكم به الترمذيُّ، إنَّما حكم بعد عِلْم منه أنه ابنُ أبي المُخارق، كالعيان، لا أنه ظنُّ منه، كالاحتمالات العقلية، فتنبه؛ بالجملة إن اخترت عدمَ انصراف سِيرين، فلا وَجْه له إلا على مَذْهب الأَخْفَش، لأن «الياء والنون» أيضًا من أسباب مَنْع الصَّرْف عنده، فيزيد عددُ أسبابِ مَنْع الصَّرف عنده.
2560 - قوله: (مَن اشترط شَرْطًا ليس في كتابِ الله فهو باطلٌ)...الخ، وظاهرُه أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ ليس له ذِكْر في القرآن، فهو رَدُّ باطل، مع أنه لم يذهب إليه أحد. وأجاب عنه الإِمام الشافعيُّ، فراجعه، وتلخيصُ كلام الكبارُ عسيرٌ، ولك أن تقول: معنى كونه ليس في كتاب الله، أي يخالف كتابَ الله، فلا يجِب كونُه مذكورًا فيه، بل يجب كونُه غير مخالفٍ لقواعد الشَّرْع.
(5/225)
---(5/60)
2563 - قوله: (تِسَ أَواقٍ) وقَدَّم آنِفًا أنه كان خَمْسَ أواَقٍ، ويوجدُ مِثل هذه الاختلافات بين الرواة كثيرًا، ولا تتصدى إلى التطبيق بينها، وإنم نهتم بهاإذا كانت مدارًا لمسألةٍ، أما إذا كانت في ذيل القِصَّة، فلا تتعرَّصُ لها.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِعَانَةِ المُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاس
ذهب الشافعيةُ إلى جوازِ بَيْع المكاتَب، وبَيْع المُدَبَّر. مع أن التدبير من التصرُّفات اللازمة، ولا يجوزُ عندنا بيع المكاتَب إلا بعد التَّعْجيزِ، فإِنَّ عجز عن أداءِ بدلِ الكتابة جاز بَيْعُه لَصيرُورته قِنًا، وكذا يجوزُ إذا قال لمولاه: بِعْني، ورَضِي به المَوْلى لتضمُّنِه التعجيزَ، فلا يَرِد الحديثُ علينا، فَهُم حَمَلُوه على بَيْع المكاتِبَ، ونحن حملنان على مسألةِ التعجيز، وهذان نَظَران، ولكلِّ واحدٍ نَظَرٌ، وهو راعيه، فلا حُجَّةَ فيه لأَحَدٍ.
قوله: (وهو عَبْدٌ ما بقي عَلَيْه دِرْهِمٌ)وهو المسألةُ عندنا. وقد ذهب جماعةٌ إلى تَجزُّىء العِتْق في المكاتَب بِقَدْر أداء بَدل الكِتابة. فقال: إنه يعتق بِقَدْر ما أَدَّى، وله حديثٌ مرفوعٌ عند الترمذي عن ابن عاس - وحَسَّنه أيضًا - قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «يؤدِّي المكاتَبُ بِحصَّة ما أدَّى دَيةَ حُرِّ، وما بقي دِيةُ عبد». قال الترمذيُّ: والعملُ على هذا عند بَعْض أهل العلم من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأكثَرُ أهل العِلْم من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وغيرِم أن المكاتَب عَبْدُ ما بقي عليه دِرْهم، اه، ولم يعبأ به البخاريُّ، وأَسْقَطَه، ووضع المسألةَ ما هي عند الجمهور؛ قلت: ولم أَرَ أحدًا منهم أجاب عنه؛ وما ذكره الشيخُ عبدُ الحقِّ، فلا يُسْمِن ولا يُغني من جوعٍ.
صحيح البخاري
باب ُ بَيعِ المُكَاتَبِ إِذَا رَضِي
صحيح البخاري
(5/226)
---
باب إِذَا قَالَ المُكَاتَبُ: اشْتَرِني وَأَعْتِقْنِي، فَاشْتَرَاهُ لِذلِك(5/61)
واعلم أن الشِّراء بِشَرْط العِتْق مُفْسِدٌ للعقد عندنا. قلت: هذا في الحُكْم والقضاء؛ أما إذا كان من باب المروءةِ، فلا.
2565 - قوله: (دَعِيهم يَشْتَرِطُوا ما شاءوا)، وهذا ما الذي كنّا ننتظره، فإِنَّه صريحٌ في أن الأَمْر في قوله: «اشترطي»، لم يكن للاشتراط، بل للإلغاء، كما في الرواية، أي اشتراطُهم لَغْوٌ، فاشتريها أنت، ويكون الوَلاءُ لك.
صحيح البخاري
كتاب الهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيهَا
صحيح البخاري
باب
2566 - قوله: (يا نساء المسلمين)..الخ. واعلم أنَّ إضافةَ الموصوفِ إلى الصِّفة جائزةٌ عند الكوُفيين؛ وخالفهم البَصرِيُّون، وأوَّلوا في مِثْل هذه المواضيع؛ وليس بشيءٍ فإِنَّ كثرة الاستعمال دليلُ الجواز؛ فمذهب الكوفيين أرجِح.
2566 - قوله: (لا تَحْقِرَنَّ)...الخ، وحاصِلُه أنه ينبغي لها أن تنفق من كثيرِها وقَلِيلها، ولا تمتنع عن المواساةِ بالقليلِ أيضًا.
2567 - قوله: (ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْن)...الخ وصُورَتُه أن يُعَدَّ الهِلالانِ من أطراف الشَّهْر، والواحد من الوسط.
صحيح البخاري
باب ُ القَلِيلِ مِنَ الهِبَة
2568 - قوله: (ولَوْ دُعِيتُ إلى ذِرَاع، أو كُرَاعٍ لأَحَبْتُ)، واعلم أن إجابتَه الدَّعْوةَ سُنَّةٌ، وفي «الهداية»؛ إنَّ إجابتَه دعوةَ الوليمةِ واجبةٌ، ولعلّ التخصيصَ بدعوةِ الوليمة، لأن من دَأْب الناسِ أنهم يَطْبُخُون في الولائم طِعامًا كثيرًا، ويتكلَّفون فيه، فلو لم يُجَب إليها الأَدى إلى إضاعةِ أموالهم؛ وبالجمة إنَّ الأَمْرَ فيها مُحتلِفٌ باختلاف الأحوال، والأزمان، والأشخاص.
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيئًا
(5/227)
---(5/62)
يعني أنه جائزٌ إذا عَلِمَ طيبَ خاطِرِهم؛ والأصل فيه: أَنَّ كلَّ ما لا يُعَد سؤالُه ذُلاًّ ودناءةً في العُرْف، فهو جائزٌ، كالسؤال من السلطان؛ ذكره الغزَّالي؛ وكذك كُلّ مِنْ كان في يده نظم شيء، وقسمته، أما إذا كان خلاف ذلك، فهو مَوْرَدُ الوعيد؛ فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأَمَر أُمَّته بمكارِم الأَخلاِ البهيَّةِ، ونهاهم من الخِلال الدنيَّة.
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَسْقَى
صحيح البخاري
باب ُ قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيد
2571 - قوله: (الأَيْمنُونَ)...الخ: وقد عَلِمت أن سُنَّة الهِديَّة أنها توضع ين يدي المُهدى إليه، فيراعي في القسمة يمينه، بخلاف غسل الأيدي، فإِنَّه يُراعي فيه الصْف.
2573 - قوله: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلّمحمارًا وحشيًا)وعند مسلم عجز حمار وَحْشيء، يَقْطُر دمًا، وفي لفظ: شق حمارِ وحشيِ، ولم يعبأ البخاريُّ. فلم يخرجه في «كتاب الحج»، وذلك لأنه وافق الحنفية في المسألة.
صحيح البخاري
باب ُ قَبُولِ الهَدِيَّة
صحيح البخاري
باب ُ قَبُولِ الهَدِيَّة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْض
صحيح البخاري
باب ُ ما لا يُرَدُّ مِنَ الهَدِيَّة
ولا بد الفرق بين الهدية والصدقة للفرق بين أحكامهما، حِلاًّ وحُرْمةً، فقالوا: إن المقصودَ أولا في الهَدِية المُهْدى إليه، وإن حَصَل الثَّوابُ آخِرًا؛ والمقصودَ من الصدقةِ هو التقرُّبُ إلى اللهاِ أَوْلا، وإن رضي المُهْدَى إليه آخِرًا أيضًا.o
(5/228)
---(5/63)
2575 - قوله: (وَترَك الضَّبَّ تقدُّرًا) - والضَّبْ بالفارسية سوسمار وفي الهندية كوه؛ وهو مكروهٌ تحريمًا عند فقهائنا، وتنزيهًا عند المحدثين، ولعل ذلك لاختلاف الروايات في أَكْلِه وترْكه، والمختارُ عندي قولُ الفقهاء، لأنه من أَخْبثِ الحيواناتِ، مع أنه ذُو سُمَّ؛ وسياقُ الأَحاديث عند مُسْلِم يَدُلُّ على أن الأَمْرَ انتهى فيه إلى التَّرْك، فراجعه، عن أبي سعيدٍ، أن أعرابيًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إن في غائط مضبة، وأنه عامةُ طعامِ أهلي، قال: فلم يُجِبه، قلنا: عاوِدْه، فلم يُجِبه ثلاثًا، ثم ناداه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمفي الثالثةِ، فقال: «يا أعرابيُّ، إنَّ الله عزّ وجل لَعَنَ وغَضِب على سِبْط من بني إِسْرائيل، فمسخَهم دوابًّا، يدبون في الأرض؛ فلا أدري لعل هذا منها، فَلَسْتُ آكُلها، ولا أنهى عنها»، اه؛ وفيه دليلٌ على الكراهةِ، وإن لم يكن نَهى صراحةً، لعدم النص فيه.
وكذا عند أبي داود، والنَّسائي، قال: فشويتُ منها ضَبًّا، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلّمفوضعته بين يديه، قال: «فأخذ عودًا فَعَدَّ به أصابِعَه، ثُم قال: إنَّ أُمّةً من بني إسرائيلَ»...الخ، وأخرج الزَّبْلِعيّ نحوه عن «مسند» أحمد، واحتج محمدٌ على الكراهةِ بحديث عاشةَ، وأخرج الطحاوي أيضًا في «معاني الآثار» أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأُهِدي له ضَبَّ، فلم يأكله؛ فقام عليه سائلٌ، فأرادت عاشةُ أن تُعْطِيه، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «أتعطيَنُ مالا تأكلين؟ قال محمد: فقد دلَّ ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكَرِه لنفسه، ولغيره أَكَلَ الضَّبّ.
(5/229)
---(5/64)
2575 - قوله: (ما أُكِل على مائدةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم...الخ، وتسامح فيه الراوي، فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يأكل على مائدةٍ، والصوابُ في ترجمتهكات كى سبنى أي التبسي من الخشب، وليست ميز وتبائى كما قالوا، نعم تُطْلُقُ عليه مجازًا.
ولا تُشْترط المساواةُ بين الازواجِ، فيما يُهدَى إليه، هكذا كنت أَجَبْتُ عند الاستفتاء.
صحيح البخاري
مسألة (في كفّار الهند)
إعلم أن كُفَّارَ الهندي لا يُورثون النباتِ، فما في أيديه لا يكون إلا عَصْبًا، فهل يجوزُ بناهُ المسجد على أرضٍ أخذناها منهم؟ قلت: وهو جائزٌ، والخلاف فيه يُبنى على كَوْنِهم مُخاطِبين بالفُرو أم لا.
2581 - قوله: (إنَّ نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكنّ حِزْبين): فعائشةُ، وحَفْصةُ كانتا في حِزْب؛ وزينب، وغيرها في حزب) وقد سها الراوي ههنا في تفسير الحِزبين؛ فإِنَّ اختلج في صدْرِك أنه كيف هذا في أمهات المؤمنين قلت: ألم يكن بَشَرًا؟ فثبت منهن النزاعُ، والاغتباطٌ والسورة في الكلام، وغيرها. فتلك أمورٌ تعتري الإِنسان مِن تلقاء ضَعْفِه، معم الفَضْل بالتقوى، ومخالفة الهوى، وصحبة خَيْرِ الورى، وإيثار الدنيا على العُقْبى، لا بِخَلْع النشأةِ الإِنسانة، وتلبس النشأة الأخرى، ومَنْ لا يُفَرِّق بين هذه فقد غوى، على أن الله تعالى يبتلى بها خواصَّ عبادِه، وأنبيائه، فتجري تلك الأمورُ في بيوتهم أيضًا عَزْمُهم وصَبْرهم، وعَدْلُهم وتَقْواهم، وليعلمَ النَّاسُ أن علانِيَتَهم خيرٌ، وسريرَتهم خيرٌ من علانيتهم؛ وليكونوا أسوةً لأممهم، فيه حِكَمٌ لا تَخْفَى والله تعالى أعلم.
(5/230)
---(5/65)
2581 - قوله: (إنَّ نِساءَك يَنْشُدْنك العدلَ)...الخ، وهذه الكلمةُ تُشْبِه التي تكلَّم بها رأسُ الخوارج فاستأذن له بعض الصحابةِ أن يَضْربوه بالسيف، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم دَعْه لعلَّ اللهاَ يُخْرج من ضئضي، هذا قومًا يَخْرُجون من الدِّين»...الخ، وقد أجبت عنه في رسالتي «إكفار المُلْحِدين»، وقد مرّ في هذه الوريقاتِ أيضًا أنَّ الكلمةَ الواحدة، تَخْتَلِف إسلامًا وكُفْرًا باختلاف النِّيات، واللَّهْجة، وصورِ الأداء فتذكره.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ رَأَى الهِبَةَ الغَائِبَةَ جائِزَة
ولعل المصنِّف أراد من الهبةِ الشيءَ المَوْهوبَ، والمعنى أنَّ هبةَ الشيء جائزةٌ، وإنْ كان غائبًا عن المجلس، أو كان الموهوبُ له أيضًا غائبًا؛ وحاصله أنه لا يُشْترطُ لصحةِ الهبةِ حضورُ الموهوبِ له، أو الشيء المَوْهوب؛ وتمسك له بِقصَّة سَبْي هوازن، فإِنَّ الواهِب فيها كان النبيَّ صلى الله عليه وسلّم والأشياءَ الموهبةَ لم تكن حاضِرةً في المجلس، فثبت الترجمةُ، ثم التحقيقُ على تخريج تلك القِصَّة، فسنعود إليه، ونحققه أنها كانت إعتاقًا لا هبةً.
صحيح البخاري
باب ُ المُكافَأَةِ في الهِبَة
يعني أنَّ الهِبةَ بِشَرْط العِوَض جائزةٌ، وفي «الهداية» أَنهاهِبةُ ابتداءً، وَبيْعٌ انتهاءً.
صحيح البخاري
باب ُ الهِبَةِ لِلوَلَدِ، وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَينَهُمْ وَيُعْطِيَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ، وَلا يُشْهَدُ عَلَيه
صحيح البخاري
باب ُ الإِشْهَادِ في الهِبَة
صحيح البخاري
باب ُ هِبَةِ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ وَالمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
(5/231)
---(5/66)
جزم المصنِّفُ ببطلان الترجيح في الهِبة؛ وعندنا في تفصيلٌ، فإِنَّ رَجَّح بَعْضُهم على بَعْضٍ لمعنى صحيحٍ جاز، نحو إنْ كان بَعْضُهم معتملا، والآخَرُ غيرُ معتمل، أو كان له عِيالٌ كثيرة، وليست تسعهم نَفَقَتُه، فلا بأس أن يفضل بعضهم بعضًا في المِنْحة والصِّلة، كذا ذكره على القارِي، وهكذا ينبغي.
ويجوز للفقيه أن يُخصِّص الحديث عند انجلاء الوَجْه، ولا يجب عليه أنَّ يَعَضُّ بعموم المنطوق، وفي عامَّةِ كُتُب المذاهب الأربعة أن تَخصِيص خَيْرِ الواحد جائزٌ بالقياس. قال الشيخُ ابنُ الهام: يِشَرْط أن يكون هذا القياسُ مُستَنْبطًا، ومُنْتهيًا إلى نَصِّ، فقال ابنُ القاسم: إنَّ هذا الشَرْطَ لا يُعْلَم من كلام العلماء. وصَرَّح الشيخُ تقيُّ الدين بنُ الدقيق العيد في حديث النَّهي عن تَلَقِّي الجَلَب أَنَّ التخصيصَ بالرأي جائزٌ عِنْد ظُهور الوَجْه؛ ولذا قال الحنفيةُ: إنَّ النَّهي المذكورَ إنما هو إذا كان التَّلَقِّي يَضُر بأهل البلد، وإلا فهو جائزٌ.
قوله: (لا أشهد على الجور) وههنا قرينةٌ على كونِه جَوْرًا، لأنه كانت له زَوْجتان، وكان له أولادٌ من كلِّ منهما، ولا رَيْب أن في الترجيح بين أولادِ إحدى الزوجتين مظنة الجَوْر، فأنكر عليه لهذا. أما إذا كان الترجيحُ لداعيةٍ نحو كَوْن أحدِهما مؤمنًا تقيًا، والآخر فاسِقًا شقيًا، فلا جَوْر في التفضيل.
(5/232)
---(5/67)
ونظيرُ التفصيل في جواز التفضيل بين الأولاد ما رُوي: أنَّ عمَر كان يُحِب أن يطلِّق ابنهُ زوجَتَه، فلم يُطلِّقها. فبلغ خبرُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفأَمَرَه أن يُطلِّقها، مع أنه ليس بكلية، وفيه أيضًا تفصيل؛ ففي بعض الأحوال، يجب على الولدِ أن يُطلِّق امرأتَه عند أمر أبيه، ولا يجِبُ في بعض آخر؛ والسرُّ في ذلك أنه قد يكون في ذِهْن صاحِب الشَّرع تَفْصِيلٌ في المقام، ثُم لا يُفْصح به مخافةً أن يتهاونَ فيه الناس، ويستظهروا بتفصيله، كما في تلك القِصَّة؛ فلو فَصَّل المسألةَ لأمكن أن يتمسَّك به ابنُ عمرَ، ولم يطلَّق امرأَتَه، فأَمره أن يطلِّقها، وسكت عن التفصيل.
قوله: (وهل للوَالِدِ أن يَرْجِع في عَطِيَّتِه) ليس للوَلِدِ أَنْ يرجِع في هِبته لِوَلِده، وهو الحُكْم عِنْدنا في كل ذي رَحِم مُحر، وجَوَّزَه الشافعيُّ في هِبة الوَالِدِ لَولَدِه خاصَّةً، وله في ذلك حديثٌ عند التَّرمذي، أخرجه في «البيوع» عن ابن عمرَ مرفوعًا، قال: «لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يعطي عَطِيَّةً، فيرجع إلا الوَالِدُ فيما يُعْطِي وَلَدَه». اه. فالحديثُ حُجّةٌ علينا في الجزءين: فإِنَّ المشهورَ أَنَّ الرُّجوع عن الهِبة جائزٌ عندنا، عِنْد فُقْدَان المَوانِع السَّبْعة، وجمعها النَّسفيُّ في منظومته:
صحيح البخاري
*قد يَمْنَع الرُّجُوعَ عن الهِبة
** يا صاحبي حُروفْ: دمع خزقة
ولا يجوزُ للوَالِدِ أن يَرْجِع عن هِبته لولده؛
(5/233)
---(5/68)
قلت: أما مسألةُ جوازِ الرجوع في الهبة عند فُقْدان الموانع السبعة، فهو حُكْم القضاء دون الدِّيانة؛ فيُكرَه الرجوعُ ديانةً عند عَدَم الموانع السَّبْعَة أيضًا، إما كراهة تحريم، كما في قول، أو كراهة تَنْزِيه، كما في قَوْلٍ آخر. والحديثُ محمولٌ عندنا على حُكم الدِّيانة دون القضاء. ثم جوازُ الرُّجُوع مَشْروطٌ، إما القضاء، أو الرضاء؛ فلا يجوزُ بدون أَحَدِما. والمُفْتون في زماننا يُفْتون بجوازٍ الرُّجوع عند عدم الموانع السبعة مطلقًا؛ وليس بصحيح، فإِنَّ قيد الرضاء، أو القضاء مذكورٌ في متن «الكنز»، فاعلمه، ولنا حديثُ ابن ماجه: «الواهِبُ أَحَقُّ بالهبة ما لم يَثب منها، اه.
بقي الجواب عن الاستثناء، فأقول: إنَّ ما يَصْرِفُه الوَالِدُ من مالِ وَلَدِه ليس رُجوعًا، بل من باب؛ «أنت ومالُك لأبيك» فَيَدُهُ بسوطةٌ في مالِ وَلدِه، فإِنَّه يجوزُ له أن يأكلَ مِن مال وَلَدِه، سواء كان مِمَّا وهبه له، أو غيره؛ لكن لما كان استعمالُ المالِ الذي وهبه له رُجوعًا صورةً، نَزِّله مَنْزِلة الرُّجوع، وَوَضَعه مَوْضِعَ الاستثناء من الرجوع، وإلا فهو ليس برجوعٍ، ولكنه تملك مستأنفٌ بِحُكم الحديث: «أنت، ومالك لأبيك»، وقد نبهناك مرارًا أن الحديث لا يأخذُ إلا صورةَ الواقع، وأما التخاريج فهي من أفعال الفقهاء والمجتهدين؛ وليس في الظاهر إلا الرجوعُ، فهو رجوعٌ في وظيفةِ الحديث، وتملُّك مُستأنَف في وظيفة الفقهاء.
قوله: (واشترى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّممِن عُمَرَ بعِيرًا)...الخ، وليست منه مسألةُ رجوعِ الوالد في الهِبة، لأنَّ المُعطي في تلك القِصَّة هو النبيُّ صلى الله عليه وسلّم دون عمرَ.
2586 - قوله: (فأرْجِعْهُ أمره بالرُّجوعِ لِدَفْع الكراهة.
صحيح البخاري
(5/234)
---(5/69)
باب ُ هِبَةِ المَرْأَةِ لِغَيرِ زَوْجِهَا وعِتْقِها إِذَا كانَ لَهَا زَوْجٌ فَهُوَ جائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُز
لعله تعريضٌ إلى مذهب مالك، فإِنه قال: لا يجوزُ للزوجةِ أن تتصرَّف في مالِ نَفْسِها إلا بإِن زَوّها، واختار المصنِّف مذه الجمهور، وأباح لها أن تهَبِ من مالها ما شاءت، ولم يشترط لها إذنًا من الزَّوْج.
قوله تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآء أَمْولَكُمُ} وتفسيرُه عندنا عدمُ إعطاء الأموال في أيديهم، كما مر، وما شنَّع به ابنُ حَزْم، فقد أجاب عنه الأَلوسي في «روح المعاني» فراجعه.
2590 - قوله: (تَصَدَّقي)...الخ وقد مَرَّ فيه بحثُ الشافعية أنه قضاءً، أو ديانةً، فإِن كان قضاءً لم يَجُز لغير القاضي أن يَحْكم به، وإلا جاز لكلِّ مفتٍ أن يُفْتي به.
قد مرَّ الإِمام محمدٌ على حديث: «لا يمنع أَحَدُكم جارَه، أن يَعْزِز في جِدَارِه»...الخ في «موطنه»، وعبر هناك بلفظ «الحكم»، فدل على الفَرْق بين الدِّيانة والقَضاء في ذِهْن هذا الإِمام الذي هو مُدوِّن الفِقْه.
صحيح البخاري
باب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالهَدِيَّة
2595 - قوله: في الإسناد (عن طَلْحَة بنِ عَبْدِ اللهاِ رَجُلٍ من بني تَيْم بن مُرَّةُّ) يريد أنه ليس مِن العشرةِ المبشَّرةِ، بل رجلٌ آخر.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الهَدِيَّةَ لِعِلَّة
أي هل يجوزُ رَدُّها، مع أن الشَّرْع رَغَّب في قَبول الهدايا، فإِنَّها أَنْفَسُ مالٍ لرجل مُسْلم يُعْطي حَلالا مِن غير مشقَّة؟ فأجازه، وقسم على الحالات.
(5/235)
---
بقي البحث في أنه هل يجب عليه أن يفتش في أنها كيف بَلَغت إلى المُهْدِي، أَمِن سبيل الحلال، أم مِن الحرام؟ فسمعت عن بعض مشايخي أنه لا يجب عليه؛ تَمسُّكًا بقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً ؛ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}(النساء: 4).(5/70)
2597 - قوله: (فَهَلا جَلَس في بيتِ أُمِّه) فيه دليلٌ على أنَّ الهدِيةِ مِن جهةِ الحُكومة والمَنْصب، كلها مِن باب الرّشوة.
2597 - قوله: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغُتُ)...الخ، إشهادٌ على تَبْلِيغُ وَظِيفَته.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ، ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيه
وحاصِلُه أن المَداَر على الفَصْل. وقلنا: إن المدارَ على القَبْض، دون التقسيم، وقال الحسنُ: أيهما مات قبل، قهي لورثةِ المُهْدَى له إذا قبضها الرسولُ: وحاصل مذهبِه أنه جعلها للمُهْدَى له مطلقًا، واعتبر بالوَعْد، ولكنه اعتبر القبض أيضًا، فصار مذهبُهُ أقرب إلى الحنفيةِ.
قوله: (مَنْ كان له عند النبي صلى الله عليه وسلّمعِدَةٌ، أو دَيْنٌ فليأتِنا) أقول: وهذا من باب الدِّيانةِ، وترجمةُ المصنِّف من باب القضاء، فلا حُجَّة له فيه، ومِثْلُه غيرُ قليلٍ عند البخاريِّ.
صحيح البخاري
باب كَيفَ يُقْبَضُ العَبْدُ وَالمَتَاع
عاد المصنِّف إلى المسألةِ البيوع، وكيف القبض في المنقولات؛ وقد ترجم عليه ثلاثَ تراجِمَ مِن قَبْل أيضًا؛ وحاصلها أنَّ مَذْهب الشافعيةِ فيه أضيقُ، لأنهم شرطوا النَّقْل؛ ومذهبُ المصنِّف أَوْسَع، ومَذْهِبُنا بين المذهبين، وخيرُ الأمور أوساطها، وقد فصلناه في «البيوع».
2599 - قوله: (خَبَأنا هذا لك)، وكان في مَخْرَمَة شِدَّة، فأرادَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأَنْ يرضِيَه، حتى قال: رَضى مَخُرَمَةُ.
2019 - بابٌ إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلتُ
(5/236)
---
ولا يلزم القَبُول باللفظ عندنا، وهو مذهب البُخاري، وَنَقل المُحشِّي عن «فتح الباري» أن القَبول شَرْطٌ عند الشافعي.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَهَبَ دَينًا عَلَى رَجُل
وهذا في الحقيقةِ إبراءٌ، وإسقاطٌ للدَّيْن، وهل يشترط له القَبولِ ممَّن عليه الدَّين هل أو لا؟ ففيه قولان في كُتُبِنا: فقيل: يُشْترط؛ وقيل: لا.(5/71)
صحيح البخاري
باب ُ هِبَةِ الوَاحِدِ لِلجَمَاعَة
واعلم أنه يُشْتَرطَ لصحةِ الهبة عندنا أن لا يكون مُشَاعًا، وذلك لأن القبض من تمام الهبةِ، وهو ضعيفٌ في المشاع. يُم إن كان الواهِب واحدًا، والموهوبُ له جماعةً، فهو مشاع عند الإمام الأعظم. وقال صاحباه: أنه ليس بِمُشاعٍ. وإنْ كان الواهِبُ جماعةً، والموهوبُ له واحدًا، فلا شيوعَ هند الإِمام. وأما البخاريُّ فذهب إلى هَدْر الشُّيوع. ولم يره شيئًا، فتصح عنده هِبةُ المُشَاع أيضًا.
(5/237)
---
قلت: والذي تبيَّن لي أنَّ توسيعَ البخاري، وتضييق الحنفية، كلاهما ليس بمرضِيَ للشارع، فإِنَّ رَفْع الشيوع الإِبهام مطلوبٌ عنده البتة، أما إنه في أي مَرْتَبة، فلينظر فيه، فليس نَسَقُه إلى هَدْره، كما زعمه البخاري، ولا العضّ به، كما قاله الحنفية، والذي أراه أنًّ النَّهي عنه لكونِه مُفْضِيًا إلى النَزاع، وكلّ أَمْرٍ يكونُ النهيُّ عنه كذلك، لا يُشدِّد فيه الشارِعُ بنفسه، بل ربما يغمض عنه أيضًا، فلا بنبغي التشدُّدُ فيه؛ ويدلُّ عليه ما أخرجه البخاريُّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّميتبايعنون الثِّمار، فإِذا جذَ الناسُ، وحضر تفاضِيهم: قال المُتاع: إنه أصاب الثَّمْرَ الدُّمانُ، أصابه مُرِاضُ، أصابه قُشام، عاهاتٌ يحتجُّون بها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّملما كَثُرَت عنده الخصومةُ في ذلك: فإِما لا، فلا تتباعوا حتى يبدو صلاح الثَّمر - كالمشورة يشيرُها، لكثرة - «خُصُومتهم. اه. فقد فَهِم الراوي في تلك القِصَّةِ ما قد فهمناه، ولذا حَمَل النَّهي على الشمورةِ، لأنه كان لمعنى النزاع.(5/72)
ونحوه في الفِقْه أيضًا، كالبيع إلى النَّيْروز، والمِهْرَجان، والجِذْع في السَّقْف، كلّها فاسِدٌ، ولكنه لو سَلَّم قبل حُلولِ الأجل في الأَوَّل، ونَزْع الجِذْع في الثاني، انقلب صحيحًا، لأن الفسادَ كان لمعنى النزاع، وقد ارتفع بالتسليم؛ ومقتضاه أن لا يكون الشُّيوعُ في الهِبةُ مُفْسِدًا لها، إلا أنَّ فُقهاءنا وَسَّعوا في البيوع، وَضَيَّقُوا في الهِبة، لأنَّ في البيع قوةً، فيثبت الاستحقاقُ بنفس العقد، فلا يَضُرُّه ضَعُفُ الشُّيوع، بخلاف الهِبة، فإِنه تبرُّعُ مُحْض، يحتاجُ إلى قُوَّة القبضِ، ولا يتمِ القَبْضُ مع الشُّيوع.
(5/238)
---
وكذا عند التِّرمذي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنهى عن الثُّنيا، إلا أنْ تُعْلم، ومَرَّ عليه محمدٌ، وفسره بالجزء الشَّائِع، ولا بُعْد أن يكون هذا هو المرادَ. وفَسَّره الناسُ باستثناء أَرْطالٍ معلومةٍ، وتَرَكَهُ محمدٌ، وههنا صورتان: الأولى بعتُ مئة وَسْق إلا عشرة أَوْسُق، وهي جائزةٌ، ويكون ضامِنًا لقضاء الباقي بعد الاستثناء؛ والثانية بِعْتُ ثمارَ هذه النَّخيلِ إلا عشرةَ أَوْسق، وينبغي أن تكون تلك أيضًا جائزةً ولا أَرَى مَطْلُوبٌ للشَّارِع؛ ولهذا المعنى شُرِع الخَرْص في العَرَايا، أي ليحصُل نوعٌ من التعيينِ، ويخرج الأَمْرُ عن الجهالةِ المُطْلقةِ إلى التعيين في الجُملةِ، ومن هذا الباب الأَمْرُ بِرَفْع الجهالات في البيوع، فالنَّهي عنه ليس بأكيد، وقد أغمض عنه أيضًا في بَعْض المواضع.
صحيح البخاري
(5/239)
---(5/73)
ثم القَبْضُ في البيع يَتِم بالتخلية؛ أما في الهبة، فلا يَتِم إلا بالجِذاذُ، فعند مالك في «موضئه» في باب ما لا يجوزُ من النَّخْل من كتاب الاقضية وقد أَخرجه الطحاويّ أيضًا. مالك عن ابن شِهاب عَن عروة بن الزُّبير، عن عائشة زَوْج النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنها قالت: إنَّ أبا بكرٍ الصديقَ، كان نَحَلها جُذاذَ عشرينَ وَسْقًا من ماله بغايةٍ، فما حضرته الوفاةُ، قال: واللهاِ يا بنيةُ ما مِن الناسِ من أَحَدٍ أَحبُّ إليَّ عندي مِنْك، وإني كُنْتُ نَخَلْتُكِ، فلو كنتُ جَذَذْتُه وأَحرَزْتُه كان ذلك، وإنما هو اليوم مال وارِث، وإنَّما هو أخواكِ، وأُختاك. اهح. فدلَّ أنَّ الهِبةَ لا تتَمِ إلا بالجُذاذِ، أما امْرُ النبي صلى الله عليه وسلّمبإِكفاء القُدُور حين طَبَخُوا اللَّحْم قبل القِسْمة، فقد مرَّ وَجْهُه، فلا يخالِفُ ما ذكرنا ههنا، وكذلك الفَرْق بينه وبين النهد، فإِنَّ الحقَّ في الغنيمةِ يكونُ الثالث، وهو غائبٌ، بخلاف النهد، فإِنَّ الخَلْط والشُّيوعَ جاء من قبل الشريكين بِطَوْعهما ورَغْبتهما، وبأَعْيُنِهما، وقد علما أن الفاضُلَ في الأَكْل لا بدَّ منه، فَتُحْمَل فيه لذلك، فافترقا.
ثم إنَّ المصنِّف ترجم في «الذبائح» أنَّ مَنْ ذبح الشيءَ المُشْتَرَكَ لا يجوزُ أَكْلُه. وكذا عند أبي داود أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمدُعي إلى طعامٍ، فأخذ لُقْمةً منه، وقال: إني أرى لحمًا ذُبح بغيرِ إذْن أَهْله، وأَمَر أن يُتَصَدَّق به عن الأُسَارَى؛ وهو عند الدارقطني أيضًا من آخِره، ومن هذا الحديث استنبط الإِمام الأعظم أنَّ سبيلَ المالِ الحرامِ هو التصدُّقُ، وفي القرآن {فَرِهَنٌ مَّقْبُوضَةٌ} (البقرة: 283) فذكَر القَبْض، أما إنه في أَيَّ مَرْتبةِ، فلينظره الفقهاء، وثبت من هذه الجزئياتِ ما رامه الحنفيةُ من ضرورةِ القبْض، وأن الشُّيوعَ يَضُرُّه.
(5/240)
---(5/74)
ثم المشهورُ عند الفقهاء أنَّ الشهاةَ إنْ ذُبحت بغيرِ إذْن أَصْلها صارت ميتةً، وعندي هي مُذكْاةٌ، لأنَّ الحُرْمة لمعنىَّ في غيرها، ونحوه ما في «الدار المختار»: مَنْ وَجَد شاةً مذبوحةً في الصَّحْراء، ولم يَدْر مَن ذبحها، ومالِكَها، ولا يَحِل له أَكْلُها، ونقله عن ثِقةٍ لم يذكر اسمه، وعندي أنها ذكيةٌ لا بأسَ يأكْلِها.
ثم اعلم أَنَّ في الفِقْه بابًا يُسمى بالتبرُّع، ولا يوجدُ مُتميِّزًا عن باب الهبة، إلا أنه يُذْكر في ضِمْن المسائل، فليُنَقَّح الفَرْقُ بين البابين، لاختلاف أحكامِهما، ففي «القنية»: المُتبرِّع لا يَرْجِعُ فيما تَبَرَّع به، فبابُ الرُّجوع لا يمشي في التبرُّعات، بخلاف الهِبة.
صحيح البخاري
2602 - قوله: (إن أَذِنت أعطيتُ هؤلاء) واستنبط مِنْه المُصَنِّف أنه كان هِبةَ المُشَاع؛ قلت: بل هو مِنْ باب الإِباحة دون الهِبة، وبينهما فرقٌ، أوضحه شارح «الوِقاية» في كتاب العارِيَّة والتيمم.
2602 - قوله: (ما كُنْتُ لأُوثِر)...الخ؛ حُكي أنَّ الرشيدَ أَهْدَي إلى أبي يوسف، وكان في مجلِس، فقيل له: إنَّ الهدايا مُشْتركة؛ فقال له أبو يوسف: هذا فيما هُيِّأَ للأكل، وأما في غيره فلا، قلت: وفي المهيأ للأكل أيضًا تفصيل، فإِنه يُنظر في قَدْره، وعُرْف الناس فيه، ثُم ذكر الغزاليُّ قصة وليَ أهدى إليه في مِثْله، فقيل له، كما قِيل لأبي يوسف، فأعطاه كلَّها، وقال: لا نحبُ الاشتراكَ؛ واستحسنه الغزاليُّ؛ قلت: بل ما فعله أبو يوسف هو الأحسن، فإِنه قد علمنا به مسألةً من مسائل الدين، وأما الأولياء فيختارون جانِبًا يرونه أوْلى لأنْفُسهم، ويهدِرُون جوانبًا، أما الفقهاءُ فيُراعون جميعَ الجوانب، فلا يُفْرِطون ولا يُفرِّطون، ونظرُهم على خُلْق الله أَقْدَمُ من نَظَرِهم إلى أنفسهم، فَطُوبى لهم، وحُسْن مآب.
صحيح البخاري
(5/241)
---(5/75)
باب ُ الهِبَةِ المَقْبُوضَةِ وَغَيرِ المقْبُوضَةِ، وَالمَقْسُومَةِ وَغَيرِ المَقْسُومَة
وَسَّع بالقَبْض أيضًا، كما كان وَسَّع بالشُّيوع وعدَمِه، وتمسَّك له بِقصَّة سَبْي هوازن، وسنبين إن شاء اللهاُ تعالى أنه كان إعْتاقًا لاهبةً، كما فَهِمه المصنَّفُ، فينهدِمُ أساسُ التفريعاتِ كلِّها من جوازِ هبة المُشاع، وعدمِ اشتراط القَبْض.
2603 - قوله: (فَقَضَاني وزَادني)ولما كانت تلك الزيادةُ غيرَ مُنْفَصلةٍ صاَرَتُ من هبة المُشْاع، وقد مرَّ معنا التنبيه في كتاب البخاري على أن تلك الزيادة كانت مُنْفَصِلةً مُتميِّزةً، وكان جابرُ يَضَعُها في جِرابه، ويقول: واللهاِ لا أفارِقُ زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى فَقَدها في أَيَّام الحرَّة، كما يأتي في البخاري، ثم في «باب الهِبة من الدر المختار» أنَّ الموهوب لو كان يَضُرُّه القَبْضُ تَفْسُد الهِبة، وإلا لا؛ وفي «باب المرابحة» ما يخالفه شيئًا، فراجعه عند الشامي، ولا بد، نعم يجري البَحْثُ في أن تلك الزيادةُ هل تدخل في قوله: «كلُّ قَرْضٍ جَرَّ بِنَفْع فهو رِبا» - بالمعنى - أم لا؟ وقد ضَيَّق فيه الحنفيةُ عامةً، لما فهموا أنَّ هدايا المديونِ إلى الدائن لا تكون إلا منفعةً لِدَيْنه، فتدخل فيه لا محالة؛ نعم وَسَّع فيه محمدٌ كُلَّ التوسيع، حيث قال في «باب الرجل يكونُ عليه الدَّين» الخ، قال محمد: لا بأسَ بذلك إذا كان من غير شرْطٍ اشترِط عليه، اه.
ولكنه يُحْملُ عندي على زمانه، إذ الناسُ ناسٌ، والزَّمانُ زمانُ، فالهدايا في زمانه لم تكن رشوةً، وأما في زماننا فُكلُّها رَشوةٌ، إلا ما شاء الله تعالى، فَيُحْكم في هذا الزمان بالمَنْع، كما قاله العلماءُ، وإنَّ كان المَذْهب، كما قال به محمدٌ.
(5/242)
---(5/76)
ثُم اعلم أَنَّ هِبة المُشاع لا تَتِم في أصل المذهب، وإن تحقق القبضُ أيضًا؛ وأفتى المتأخرون بجوازها، وبه أفتى، وذلك لأني أتردد في نفس مسألة الشُّيوع، فَلَسْتُ أَشَدِّد فيها، كالحنفية، ولا أُوسع فيها، كالبخاري، بل هي أَمْرٌ بين الأمرين، كما عَلِمت، فإِنَّ مرضى الشَّرْع، هو رَفْع الإِبهام والتمييز، والشيوع يخل به، فلا يكون هَدْرًا، كما أهدره البخاري، ولا ضروريًا، كما فهمه الحنفية، بحيث قالوا ببطُلان الهِبة؛ وبالجملة إذا كان حالُ الشيوع عندي ما سمعت، فلم أُشَدِّد في الحُكْم، وَوَافَقْت المتأخرين في جواز هِبة المُشاع عند القَبْض.
3606 - قوله: (لا نَجِدُ سِنَّا إلا (يسنَّا) هي أَفْضَلُ مِن سنِّه) ولا شكَّ أنّ هبة الزيادة تكونُ هِبة المُشاع، قلت: نعم، ولكن لا ريبَ أنه مِن باب المُروءات لا غير، حُجَّة فيه.
صحيح البخاري
فبوّب بجوازِ الشُّيوع بِكِلا نَحْويه، وتَمسك له بَسْبي هوازن، وغَرَضُه أن يُسوَّع فيه الأمران، فان شِئت قلت: إنَّ الواهِبَ ههنا واحدٌ، والموهوبَ له متعدِّد، وإنْ شِئت قلت بالعكس، فتحقَّق فيه الشُّيوع بالنَّحوين، وقد وعدناك غيرَ مرةِ أنه كان إعتاقًا منهم، لا هبة، فتسقط تفريعاتُ المصنِّف بِأسرها.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْم
(5/243)
---(5/77)
واستدل على ذلك بَرِدِّ السَّبْي على وَفْد هَوازِن، وقال قَبْله: وقد وَهَب النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه لهوازِن ما غَنِموا منهم، وهو غيرُ مَقْسومٍ لهوازِن، اه. أي وإنْ كان قُسِم بني الغانمين، وفي استدلالة نَظَر، فإِنَّهم كانوا رسلا عن هوازن، يَسألُ كلٌ عن سَبْيه: فليس هناك شُيوعٌ، ثُم ما الوجه في أنه صلى الله عليه وسلّماعتذر إلى الوَفْد بوُقوع المقاسم: فقال، على ما في «الفتح» عن مغازي موسى بن عُقبة: ما طلب لكم، وقد وقعت المقاسِم، فأَيَّ الأَمْرين أَحبُّ إليكم؛ السَّبي أم المال؟ اه- وقال - في وزعم - يلي؛ والذي نفسي بيده إنَّ الشملة التي أصابها يوم خبيرُ من المغانم لم تُصِبها المقاسِمُ، لتشغِلُ عليه نارًا، اه. أخرجه هو ابتغاءَ العَدْل في القسمة، أو لئلا يقعَ تَصَرُّفْ فيما ليس خالصًا له، وأن الشِّرْك في المُشاع لا يكفي للانتفاع الذي جنح إليه البخاريُّ هو الثاني، ويترجم عليه في «أواخر الذبائح» لا «الأضاحي» فقال: «باب إذا أصاب قومٌ غنيمةً فذب بعضُهم غَنَمًا، أو إبلا بغير أَمْر أصحابِه لم تؤكل، الحديث رافع»، اه. وعارضة في «الفتح» بديث الشاةِ التي ذَبَحَتْها المرأةُ بغيرِ إذْنِ صاحبها. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «اطْعِمُوها الأُسَارى» والظاهر أنَّه لِمعنى النهبة، كما عند أبي داود في حديثٍ آخَر، فراجع «الفتح» وإذا كان كذلك دَلَّ على أن المُشاع لا يخلص، وإليه ذهب أبو حنيفة، ثُم راجع هل كانت القسمةُ في غنيمة هوازن، وقعت تَفصِيلا أم لا؟ ويملائمه السؤال عن الغُرماء، وإلا لتبيَّن طيب كلًّ بإِرساله السَّبي، والله أعلم.
(5/244)
---
((5/78)
كخبير) فيما يَظْهر، ويحتمل أن يكونَ القَسْمُ الثابِتخ في الرواياتِ قَسْم أموالٍ، وأم في السَّبي فقليلٌ، على شاكلة التنفيل، وراجع ما عند البخاري من باب ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميُعطي المؤلفةَ قلوبُهم وغيرهم من الخمس، ونحوه أن جاريتي كانتا من الخمس، فراجع «الفتح» «كنز».
ثُم طرد الحنفيةُ حُكْم المُشاع فيما إذا دفع الشيء إلى رجل واحد بجهتين، كأداء دَيْنٍ في بعض، والهِبة في بعض؛ وكان الزَّعيم أن يكون كهِبة نَخْلٍ كهِبة نَخْلٍ في أرضٍ لَمْن الأَرْضُ له «راجع» الأم و«فتاوى» ابن تيمية: «باب مَن رأى الهِبة الغائبة جائزة» يريدُ به - والله أعلم - أنَّ الهبةَ في قصة هَوازِن وقعت غائبةً عن الموهوبِ لهم، وهم كُلُّ مَنْ أرسل الوفد، وإنْ وقع الخطاب مع الوفد؛ ولا يريدُ في هذه الترجمة مسألةَ المُشاع، كما قرره الشارحون:
صحيح البخاري
*مضاربةٌ، مزارعةٌ، وأَجْر
** يَطِيب الأكلُ فيها، مع فساد
*وفي التأجيل من بيعٍ من بيعٍ إذا ما
** أزال الشَّرْط، يرجع للسراد
*وأما البيع، و.... فما لم
** يَصِحَّا لا يَطيب، فبالرشاد
*وفي المَكْرُوه أوجب فَسْح بَيْع
** على حُكْم الدِّيانةِ في العباد
وراجع «الدر المختار» في المهر للتصرفات الفاسدة؛ وراجع ما عند أبي داود و«المراسيل». وأخذ شتى من «الدر» رواية في معنى قَفِيز الطحان، فيما أرى - والله أعلم - في «الكنز»، وفي - ضمان الأَجِير المشترك.
(5/245)
---(5/79)
وما ذكره البخاريُّ من جواز الهِبة الغَيْرِ المقسومةِ، لم يأتِ فيه بدليلٍ، فوجه حديث هوازن - قد مرَّ - وأنه غيرُ مُشاع، نَعم يُشْكِل تخريجُهُ على الأصول، فإِنَّ ظاهِرَه تَرْكُ السَّبي بعد ثبوت المِلْك، والمَنّ عليهم لا إعتاقهم، كما عند البخاري من الخُمْس من رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى السَّبي، ثُم وجدت عنده: في عِتْق سَبْي هوارن، فراجع «الفتح»، اللهم إلا أن يكون التقسيمُ على العِرافةِ، والرايات لا تفصيلا، وأما حديثُ جابر، فكانت الزيادةُ مُنفصلةً لا تفارق قرابه. وراجع ما ذكره الحافظ عن المُحِبُّ الطبري مِنْ وَزْن الدَّراهم لا عدِّها؛ وما أخرجه البخاري في «باب إذا وَكَّل رجِلٌ لاجُلا أن يَعْطي شيئًا، ولم يُبَيِّن كم يُعطي، فأعطى على ما يتعارَفُه الناس». وجعل في «الجوهر النقي» هذا زيادة في الثمن لاهِبة: أخرجه هو، الخ.
وقال صلى الله عليه وسلّملرعية الجهني: أما ما أدْرَكْت من مالِك يِعَيْنه قَبْل أن يُقْسم، فأَنْت أَحْقُّ به، - حم عب - «كنز»؛ وعن جماعةٍ من السَّلف فيما غَنِم المسلمون ما كان الكفارُ غَنِموه منهم، وقُسِم بين المسلمين يأخذُه المالِكُ الأَصْلُّى بالثمن، راجع التخريج، وفي «الموطأ» في غير فرس لابن عَمْرو، أو خالد عليه، وذلك قبل أن يصيبهما المقاسم، اه. وراجع «الفتح».
(5/246)
---(5/80)
ثمُ إنَّ الذي يَظْهر أن أَحْكَامَ الحنفيةِ في المُشاع إنما هي «المنازعة - كما في ضابطة لفظه: كل من «رد المحتار» - أوائل البيع ، ومسألة تسبيب الدابة من الحج، وإلقاء شيء من اللُّقطة - لا عند السماحةِ، وهو التوفيق في إفادة قبض المِلْك في المُشاع، على خلاف فيه، وإنم يَظْهَرُ عند الخصومة؛ وراجع ما ذكروا في الفَرْق بين التمليك والإِباحة، وحرر في «رد المحتار» وفي آخِر الشَّركة: أن المُنْفِق على دارٍ يمكَنُ قسْمَتُها مُتبرِّعٌ؛ وكذا في «الدر المختار» من شتى الوصايا، ومِثْلُه ما ذكره في البيع، بِشَرْطٍ جَرى العُرْف به، ولعلَّه الوَجْه فيما ذكره في «رد المحتار» في الشَّرْط الفاسد، إذا ذُكِر بعد العقد، وراجع «السَّعاية» في التيمم للإِباحة، والتمليك، لكن هناك أن الهِبة للجميع لا تتضمَّن إباحةً الماء كلَّه لواحدٍ، ولا يضرنا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ، فَهُوَ أَحَق
وقد مرَّت فيه قصةُ أبي يوسف: وحاصله أن الهدية مِلْك للمُهْدى له، ولكنه يشرك جُلساه مروءةً، كما في الحديث الآتي، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقال لعبد الله: هو لك يا عبدَ الله، فكان هدية له» ولم يشرك فيها عبدُ الله بِن عمَر أحدًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جائِز
عاد المصنِّفُ ثانيًا إلى أن قَبْضَ الأمانة، هل يُغْني عن قَبْض الهِبة أم لا؟ فراجع تفصيله في الفقه.
صحيح البخاري
باب ُ هَدِيَّةِ ما يُكْرَهُ لُبْسُهَا
واعلم أن التمليكَ والتَّملُّك يَعْتمد على كَوْن الشيء مُتقومًا، لا على جواز الاستعمال وعدمه، وإنما يراعيه مَنْ يقبله.
(5/247)
---
2613 - قوله: (تُرْسِل به إلى فُلانٍ، أَهُل بيتٍ بهم حاجةٌ)...الخ، أي لِيفعلُوا فيه ماشاءوا، فيخرجوا له طريق استعماله، حَسَب ما يليقُ بهم من البيع أو غيره.
صحيح البخاري(5/81)
باب ُ قَبُولِ الهَدِيَّةِ مِنَ المُشْرِكِين
2617 - قوله: (لَهِواتِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلّم...الخ. وهو من باب قوله:
*وكنت أرى زيدًا - كما قال سيدًا
** إذا أنه عبد القفا والهازم
وقد ذكر الشاه عبد القادر في سرِّ الشهادتين أنَّ الشهادةُ الظاهرة لما لمُ تَقدَّر له، المصالحَ يعَلَمُها اللهخ، قُدِّرت له الشهادةُ المعويةُ.
صحيح البخاري
باب ُ الهَدِيَّةِ لِلمُشْرِكِين
صحيح البخاري
باب لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ وَصَدَقَتِه
صحيح البخاري
باب
وهي جائزةٌ، كما في «السَّير الكبير»، إلا ما عدَّ للحَرْب في أوانِ الحَرْب.
صحيح البخاري
باب ُ ما قِيلَ في العُمْرَى وَالرُّقْبَى
واعلم أنهم اختلفوا في قوله: دَارِي لك عُمري، هل يُفيدُ تمليك المنفعة. أم تمليكَ العَيْن؟ والمشهورُ عندنا أن الغُمْري هِبةٌ، أما الرُّقْي، فينتظِرُ أحدُهما موتَ الآخر، ولا تكون هبة بالفعل، وهذا الذي يُستفاد من الأحاديث أن العُمْري قويةٌ، والرُّقي ضعيفةٌ، والسِّرُّ في انتشارِ الروايات من هذا الباب، أنَّ النَّاوي إنْ نوى به الارتقابَ فهو عارِيَّة. ثم هي أيضًا على خَطَر؛ وإنْ نوى به الرَّقبةَ بمعنى المِلْك، فهو هبةٌ، وراج اختلافَ الروياتِ فيه في «كتاب النسائي» وتفاصيل الفقهاء في «شرح الوِقاية». والجوابُ عن أحاديثُ الخُصُوم عندي أنه كان ذلك في العَرْفَ في عهد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ولعله تَغَيَّر في عهد أبي حنيفة، والشيء إذا كان مبنيًا على العُرْف يتبدَّل حُكْمه بتبدُّلِ العُرْف لا محالة.
(5/248)
---
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الفَرَس
لما فَرَغَ المصنِّفُ من باب الهِبة وملحقاتِه، دخل في باب العارِيَّة لكونها تمليكًا للمنافع. كما أن الهِبةَ تمليكُ للعين؛ وإنما أدخله في تضاعيف أبواب الهبة، لأنه أرادَ من الهبةِ اللغوية، سواء كانت للمنافع أو الأعيان.
صحيح البخاري(5/82)
باب ُ الاسْتِعَارَةِ لِلعَرُوسِ عِنْدَ البِنَاء
وهذا مِن مراسمِ النَّاس، أَنَّ المُفْلِسين منهم يستعيرُونَ الأشياء للعَرُوس، إذ لا يَقْدرون على أن يَشْتَرَوْها من أموالهم.
2628 - قوله: (تُقَيَّنُ)دولهن ينائي جاتى تهى).
2628 - قوله: (تُزْهى)اتراتى هى.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ المَنِيحَة
وقد مرَّ أن للهبة أسماء عند أصحاب اللغة، فهبة الحيوان الحلوب ليشرب من لبنه، تسمى منحة، كما أن هبة الأشجار تسمى عرية.
2929 - قوله: (نِعَم المَنِيحةً اللِّقْحة الصَّفِيُّ مِنْحَةً)...الخ. «فنِعْم» من أفعال المَدْح، «والمنيحة» فاعِلُه، و«اللِّقْحة» مخصوصٌ بالمدح، ومنحةً تمييزُ له، واللام على المِنْحة للجنس دون الاستغراق، كما اختاره الأُشْمُوني، ثُم إنَّ النّحاةَ تحيِّروا في مفاد قوله: نِعْم الرجلُ زيدٌ، فإِنَّه لا يظهَرُ للتخصيص بَعْ6 التعميم ههنام معنىً، ويُتوهَّم أنه إطْنابُ، قلت: ومحَصَّلة عندي أن زيدًا رجلٌ حَسَنُ من جِنْس الرجال، فاللام فيه للجِنْس، ومَنْ جعلها للاستغراق فقد غَلِط.
2631 - قوله: (فما اسَتَطَعْنا أَنْ نَبْلُعَ خَمْسَ عشرة خَصْلَةً) أي كانت تلك الخصالُ أَربعينَ، فَجَعلْنا، نُعدِّدها فلم نستطيع أن تعدِّدها إلا بهذا القَدْر، وقد ذكرها أربابُ الشُّروح بتمامِها.
2632 - قوله: (فُضُوُلُ أَرَضِين) بجى هوئى زمينين.
صحيح البخاري
(5/249)
---
باب إِذَا قالَ: أَخْدَمْتُكَ هذهِ الجَارِيَةَ، عَلَى ما يَتَعَارَفُ النَّاسُ، فَهُوَ جَائِز
والظاهر أَنَّ المصنِّف لم يَحْكُم في لفظ الإِخدام بشيء، وتركه على العُرْف، فإِنَّ كان عُرْفُهم أنه الهِبةُ، فهو هبةٌ، وإن كان أنه العارِيَّةُ فعلى ما تعارفوه.(5/83)
قوله (وقال بعضُ الناس: هذه عاريَّةٌ، وإنْ قال: كَسَوْتُك هذا الثَّوْبَ، فهو هِبَةٌ) والمُرادُ به ههنا أبو حنيفة؛ وقد مرَّ أن المصنِّف لا يريدُ به الرَّد دائمًا، والأقربُ أنه اختارَ تفصيلَ الإِمام الأعظم، لأنه أيضًا فَوِّضَه إلى العُرْف، ولما كان في لفظ الخِدمة. أنه للعاريَّة بخلاف الكُسوة، ظهر وَجْهُ الفَرْق بينهما، ولعلَّ أهلَ العُرْف حملوا الكِسوة على الهبة. لأن الثَّوْب يَبْلَى ويخلق، فلا يكونُ المرادُ من كِسوته إلا الإِعطاءَ، والهِبةَ، وإنما قلنا: إنّه وافقنا في المسألة. لأنه لو أرَادَ الخِلافَ لأَخُرَجَ حديثًا يؤيد مَرَامَه، كما هو دَأبُه، وإنُ سلمناه، فَردُّ ضعيفٌ جدًا. لِوُضُوح الفَرْق بين اللَّفين، كما عرفت آنِفًا.
2635 - قوله: (أَخْدَمَ وَلِيدَةً ولعلّ لَفظ الخِدمة في أَصْل الوَضْع للعارِيَّة، واستُعُمِل في الحديث للهِبة توسُّعًا، وقد ذكرَه الفقهاءُ أيضًا من الفاظ العاريَّة والهِبة معًا، وذلك لأَجل اختلافِ العُرْف فيه؛ على أَنَّ كَوْنَ تلك الوليدةِ هبةً لم يُفْهم مِن لَفْظ الإِخدام، بل مِن قوله: «فأَعْطَوها أَجْرًا، كما ذكره ابنُ بَطَّال، وراجع الحاشية.
صحيح البخاري
باب إِذَا حَمَلَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ، فَهُوَ كالعُمْرَى وَالصَّدَقَة
ولا يعتيَّنُ أنه أراد به خلافَ الإِمام الأعظم، بل يمكنُ أن يكونُ على طريقِ نَقْل إحدى الجائزات، ولذا لم يشددِ في الكلام، وكأنه رآه مُحتمِلا أيضًا، والله تعلى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
كتاب الشَّهَادَات
(5/250)
---
قال الفقهاء: إنَّ إثباتَ الحقِّ على الغير يُسمَّى دَعْوى، وإثباتَ حقِّ الغيرِ على نَفْسه يُسمَّى إقرارًا، وإثباتَ حقِّ الغير على الغير يُسمَّى شهادةً.
صحيح البخاري
باب ُ ما جَاءَ في البَيِّنَةِ عَلَى المُدَّعِي(5/84)
قد مرَّ أن المصَنِّف وافق فيه أبا حنيفة، فلم يجعل اليمينَ على المُدَّعِي في صورةٍ، ولكن عليه البينةُ فقط، وأَصْرَح منه ما قاله في المجلد الثاني، كما سيجيء في مَوْضعه، وهو ظاهِرُ القرآنُ، فإِنَّ الله تعالى قال: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (البقرة: 282) ولم يذكر للشهادةِ صورةً غيرَهما، وقولُه: «قضى بشاهد، ويمين»، حكايةُ حالٍ لا عمومَ لها؛ وهو عندي من باب المقاضاةِ، لا مِن باب القضاء، وفَصْل الخُصومات، ونظيرُه عند أبي داود، وسنقرره فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
صحيح البخاري
باب إِذَا عَدَّلَ رَجلٌ أَحَدًا فَقَالَ: لا نَعْلَمُ إِلا خَيرًا، أَوْ قالَ: ما عَلِمْتُ إِلا خَيرًا
أي هل يكفي التعديلُ بهذا القَدْرِ؟ فقال: يُعتبر به، ثم التزكيةُ في الفِقه على نَحوْين: التَّزْكيةُ سِرًا، وهذه تكون خفيةً، والتَّزْكيةُ جَهْرًا، وهذه تكونُ في مَجُلِس القضاء.
صحيح البخاري
باب ُ شَهَادَةِ المُخْتَبِي
يعني إذا أختبأ الرجلُ، وَنَظر إلى المشهودِ عليه، وهو لا يَشْعُر به، فهل يُعْتدُّ بشهادته؟
(5/251)
---
قوله: (السَّمْعُ شَهادةٌ) يعني إنْ سَمِع كلامَ أحدٍ يجوزُ له أن يَشْهد به، ولا يجب له الإِشهاد أيضًا، كما في الشَّهادةِ، أما الشهادة بالتسامع فهي شيءٌ آخرٌ، ومعناها أنه لم يَسْمع كلامًا، ولم يرَ شيئًا، ولكنه سَمِع النَّاس يقولون شيئًا أفواهًا، فَشَهِد به، ولم يعتِبره الحنفيةُ إلا في ستةِ مواضَع، ذُكِرت في «الكنز»؛ وأضاف عليها أصحابُ الشُّروح أَمورًا إلى تسعةٍ، والشهادةُ بالسَّمع غيرُ الشهادةِ بالتسامع، والأولى جائزةٌ مُطْلقًا.(5/85)
فإِن قلت: إنَّ الصوتَ يُشْبِه الصوت؟ قلت: نعم، ولكنهم اعتبروا القرائنَ، فإِذا تبيَّن بالقرائِن أنه صوتُ فلان، جاز له أَن يَشْهد به، وقد مر معنا أن قولهم: الخَطُّ يُشْبِه الخَطَّ، إنما يجري في باب الدَعاوَى، إما في غيرها فقد اعتبروا بالخطِّ إذا حصل اليقينُ بكونِه خَطَّ فلان.
(وكان الحسن يقول):..الخ، وهذه شهادةٌ بالتسامع، وهي غيرُ معتبرةٍ عندنا.
2639 - قوله: (فقال: يا أبا بَكْرٍ، أَلا تَسْمَعُ إلى هذه ما تَجْهِرُ به عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّم) ، فاعتمد على الصوتِ، لأن الصحابيَّ كان على الباب، قلت: إنَّ البُخاري تمسَّك بقصةِ ابن صَيَّاد، وهذه القِصةُ مع كونِها من الأمور البَيْنيَّةِ، وكثيرًا ما يحتجُّ بها المصنِّف على مسائلِ القضاء والحُكْم، ولا يَفَرَّق بينهما.
صحيح البخاري
باب إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيءٍ، فَقَالَ آخَرُونَ: ما عَلِمْنَا ذلِكَ،يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِد
وهي مسألةٌ عندنا إنْ بلغت الشهادةُ نِصَابها.
(5/252)
---
قوله: إنْ شَهِد شاهِدَان: أن لِفُلانٍ على فلانٍ دِرْهم، وشَهِد آخَرانِ بألفٍ وخَمْس مئة، يُقْضى بالزِّيادة)،وإذا اختلفت الشهادتانِ، بأْنْ شَهِد اثنانِ على كذا، وانثانِ آخَرَان على كذا، يُقْضَى بالقَدْر المُشْتَرَك، وما ذكره صاحِب «الهداية» من التفصيل، فهو عند اختلافِ الشاهدين فيما بينهما، فَتُرَدُّ في بعض الصُّوَر؛ وراجع تفصيله منه.
صحيح البخاري
باب ُ الشُّهَدَاءِ العُدُول
والعبرةُ في العدالة أَنْ يكون ذا خِصال شريفةٍ، ومروءةٍ فَحَسْب، فإِنه لو شُدِّد فيها لأنسَدَّ على النَّاس طريقُ فَصْلِ خصوماتهم، فإِنه يَعِزُّ وجودُ الجامعِ بين أَوصاف العدالة.(5/86)
2641 - قوله: (وإنَّ الوَحْي قد انقطع، وإنَّما نأخُذُكم الآنَ بما ظَهر لنا مِن أعمالِكُم) دلَّ على أن القَطْع هو الوَحْي فقط. وما قال بعضُ العلماءِ: إنَّ الكَثْفَ أيضًا قَطْعِيُّ، فليس بصحيح. وأما ما يُظَنَّ من التخليط في بعض أخبار الوحي. فباطلٌ، لأنه لا تخليط فيه أصلا. وهي صِدْقٌ كُلّها، وإنما يَحْدُثُ التخليطُ في النَّقل، والطريق، فيحدُث ما يحدث من جهته، ولم يُوَفِّق لهذا الفَرْقِ مسيلمة الفنجاب فَحَمَلها على صاحب الوَحْي - ما أَكْفَرَه - فَجوَّز الغَلَط في وحي الأنبياء عليهم السلام أيضًا، وجعل يتمسَّك بالاغلاطِ التي وقَعت من تلقاء الرُّواةِ.
*هم نقلوا عني الذي لم اَخُهْ بهٍ
** وما آفةُ الأخبار إلا رُواتُها
(5/253)
---
ولم ينظر أنَّ النَّاسَ مع عِلْمهم وشَرَفِهم قد يَغْلَطُون اليوم أيضًا في نَقْل الأشياء كثيرًا؛ فما الاستبعادُ إنْ وقعت الأغلاطُ في نقل الرواياتِ عن النَّقلةِ الأَثْبات، ثم الجاهلُ قد يتضرَّرُ به من طَرَفٍ آخر، فَيَزْعمُ أن الأغلاط إذا وقَعت عن الرُّواةِ ارتفع الآمانُ عن الدِّين، ولم يَدْر أنَّ الله تعالى خلق له رجالا يُميِّزون المُخيضَ عن الرغوة، فيجمعون الطُّرُقَ، وينظرونَ في الأسانيد، ويبحثون عن العِلل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآء ؛ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاْرْضِ} (الرعد: 17) ونعوذ بالله من الزَّايْغ والإِلحادِ، وسوء الفَهْم، وفَرْط الوَهم.s
صحيح البخاري
باب ُ تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوز
يعني أَنَّه يُشْتَرطُ العددُ في المُزَكَّى، أم لا؟ فقال الحنفيةُ: يُشترط العدد في المُزَّكى أم لا؟ فقال الحنفيةُ: يُشترط له أَحَدُ شَطْري الشهادة: إما العددُ، أو العدالة.(5/87)
2642 - قوله: (المؤمنونَ شُهَداءُ اللهاِ في الأَرْض) وقد مرَّ الكلامُ فيه في كتاب «الجنائز»؛ وذكر الشيخُ الأكبرُ أنَّ الرزق إنما نيط بالأسباب، ليُعلم حالُ الشقاوة والسعادة بالمقايسة؛ فإِنها أيضًا من تلقاءِ الأسباب؛ وعادةُ الله قد جرَت في هذا العالم بتعليقِ الأسباب بالمُسَيِّبات، فكلُّ مُسيَّبٍ مَنُوطٌ بِسَبَه، إلى أن ينتهي الأَمْرُ إلى ربِّ الأرباب: (وإنَّ إلى رَبَّك المُنْتَهى) (النجم: 42) فلا تأثيرَ في الحقيقةِ في هذا العالم إلا الله تعالى، فهو مُسَيِّبُ الأسباب، إلا أنَّ القدرةَ الأزلية مستورةٌ تحت حُجُب الأسباب، فيرى في الظاهر أن التأثيرَ لها، مع أنه لا تأثير إلا لله، وفي المثل السائر؛ قالت الجدارُ للوَقدِ: لم تَشُقُّني؟ قالت: سَلْ مَنْ يدُقُّني، فزِمامُ الأسباب كلَّها إلى اللهاِ سبحانه، لا إليه إلا الله.
صحيح البخاري
(5/254)
---
باب ُ الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ، وَالرَّضَاعِ المُسْتَفِيضِ، وَالمَوْتِ القَدِيم
وهي من الجزئيات التي اعتُبِرت فيها الشهادةُ بالتسامح عندنا، وكذلك الموت القديم، إما الرَّضاعُ المستفيضُ فليس منها.
2644 - قوله: (فَلم أذّن لَهُ) وكانت تقول: إنما أرضعتني المرأةُ دون الرَّجل، فالحُرْمةُ أيضًا ينبغي أن تكونَ من قِبَلها، لا مِن قِبَلة: ويقال لتلك المسألةِ: لين الفَحْل، والجمهور على أن الرجل الذي من إحبالِه ذلك اللَّبن أَبٌ للرَّضيع، والمرأةَ أُمٌ له، وإذن تَسْري الحُرْمةُ إلى الرَّجلِ، والمرأةِ سواء، فإِنَّ اللَّبن من إحْبَالِه.(5/88)
2645 - قوله: (يَحْرُمُ من الرَّضاع ما يحرُمُ من النَّسَب)...الخ، وقد وقع ههنا سَهْوٌ من الشيخ ابنِ الهُمام حيث قال: إنَّ امرأةَ ابنه من الرَّضاع حرامٌ على الأب، وعلى قضيةِ يَلْزمُ أن لا يتكونَ حرامًا، لأن حُرْمة ابنه من جهة المصاهرة لا من جهة النَّسبِ، ودلَّ الحديثُ على أنَّ المحرمات مِن الرضاعة هي المحرماتُ من النَّسب فقط؛ وهذه ليست محرمة النَّسَبِ، فينبغي أن تكون حلالا.
قلت: وقد سها فيه الشيخ؛ ومنشؤه أنهم ذكروا الصورةَ المذكورة في باب المصاهرة، فظنَّ أن الحرمةَ فيها من قِبَل الصَّهْر فقط، مع أن النَّسب أيضًا دخلٌ فيها، كماتدل في باب المصاهرة، فظنَّ أن الحرمةَ فيها من قِبلَ الصِّهْر فقط، مع أن النَّسب أيضًا دخيلٌ فيها، كما تدل عليه إضافة المرأة إلى الابن، فحرمةُ زوجةِ الأبِ على الابن، لكونِها امرأةً لأبيه أيضًا، ففي إضافةِ المرأةِ إلى الابن والأَب إشعارٌ بأن النَّسب أيضًا مراعيِّ في هاتين الحُرْمتين، فانحل الإِشكالُ بلا قيلٍ وقال.
(5/255)
---
2647 - قوله: (فإِنَّما الرِّضاعةُ من المَجاعةِ)، واعلم أنهم اختلفوا في مُدة الرَّضاعة، فذهب الجمهور إلى أنها حَوْلانِ، مع تفصيل قليلٍ فيما بينهم؛ وعندنا هي ثلاثونَ شَهْرًا. وأصلُ الكلام في القرآن، فإِنَّه تعرَّض إلى مدة الرَّضاعة نصًا، أما الحديثُ فلم يتعرَّض له إلى حَدَ، كما ترى في قوله: «إنَّما الرَّضاعةُ من الجماعة»، ولعلَّك عَلِمت منه أن مدَة الرَّضاعة لو كانت هي الحَوْلين في نظر صاحب الشرع لَنوَّر بها الحديث، واستعملها، وذكر تفاصيلها، وبني عليها في كلامه، وإذا لم نرفيه عباءةً بها، عَلِمنا أن القرآن اعتبر فيها اعتبارًا، لا أنها تمامُ المدة التي لا وكس فيها، ولا شَطَط. وسيأتي الكلام فيها في موضعه إنْ شاء الله تعالى.
صحيح البخاري(5/89)
2646 - قوله: (لو كان فلانٌ حَثًّا، لعمِّها من الرَّضاعة - دخَل عليَّ) قلت: لا تناقُضَ بين حديثِ الباب، وبين مامرَّ آنِفًا، أنه استأذنها وهو حيٌّ، لتعدُّدِ الواقعتين.
صحيح البخاري
باب ُ شَهَادَةِ القَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي
وهي جائزةٌ عند الشافعية بعد التوبةِ، وحُسْن الحالِ؛ وردَّها الحنفيةُ مُطْلقًا، وعَدُّوه من تمام الحَدِّ، وأصلُ النزاع في القرآن؛ فَمَنْ ذهب إلى أن قوله: {إلا الدين تابوا من بعدِ ذلك وءَصْلَحوا} (النور: 4) ، استثناءُ من قوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} (النور: 3) قَبِلها بعد التوبةِ، ومنْ جعله استثناءً مِن الفسْق لم يَقْبَلْها وإنْ باب، فالأبدُ عندنا على معناه بخلافة عند الشافعية، وقد بُحث في الأصول أَنَّ الاستثناء إذا وقع بعد عدةِ أمور، هل يرجع الأقرب، أم إلى الجميع؟ فليراجع.
(5/256)
---
قوله: (وَجَلَدَ عُمرُ أبا بَكْرةَ، وشِبْلَ بَنَ مَعْبد)....الخ، وقِصَّتُه أن المغيرةَ بن شُعْبة كان واليًا بالعراق، وأبا بكرة بالكوفةِ؛ وكان لمغيرةُ من دُهاةِ العرب، حتى قال الحسنُ البصري: أَفْسد الناس اثنان: المغيرةُ وعَمْرو بنُ العاص، وإنما كان عمرُ، وَلاة على العراق، لأن أمورَ الولاية لا تَنْتَظِم، إلا مِن القَطِن الذكي، المقذف في الأمور، فكان زُهادُّ الصحابةِ عن سخطه منه: منهم أبو بكرة؛ فاتفق يومًا أن المغيرةَ خرج من بيته بِغَلَسَ، فدخل بين امرأة، فلم يستطع أبو بكرة أن يَصبرَ عليه، فذهب وجاء بثلاثةِ شهداء، فشاهدوه يُجامعها، فلما بلغ أمْرُه إلى عمر، دعا: اللهم أَنْقذ المغيرةَ من الحدِّ، فَشَهِد منهم ثلاثةُّ بلفظٍ صريح، أما الرابع فقال: انَّه رأى حركةَ رِجْليه لا غير، فدرأ عنه الحدَّ، وشكر الله تعالى، وجلد هؤلاء حَدَّ الفِرْية؛(5/90)
قلت: أما وَجْهُ دخولِ المغيرةَ في بيت امرأةٍ، فما علمت بعد تَفَحُّص بالغٍ أنه كان نَكحها نِكَاح السرِّ، فكان يذهبُ إليها ويجامِعُها، وإنما لم يعتذر به عند عُمَر، لأنه كان نهى عنه، وأعلنَ أنه لا يَسْمَع بعد ذلك أحدًا يفعله إلا تَحُلُّ به العقوبةُ، فخاف أن يبوءَ به.
قوله: (مَنْ تابَ قَبِلْتُ شَهادَتَه)، وهذا بِمَحْضَرٍ من الصحابةِ، فلا ريبَ في كونه قويًا، وهو مَذْهبُ أكثرِ الصحابة، ولعلَّ مَلَحَظ الإِمامِ الأعظم أنه لا معنى للتوبةِ عنه، إلا أن يُكذِّب نَفْسَه، وذا لا يمكنُ من رَجُلٍ صادقٍ، فإِنه كيف يُكَذِّب نَفْسه، وقد رآه بعينيه، أما الحدُّ على ظهره، فذلك لِقُصُورٍ في الشهادة، وهو أَمْرٌ أَخَر، ألا ترى أن أبا بكرة لم يرجع عن قوله حتى مات.
(5/257)
---
وحينئذٍ يُشْكِل قولُ عمرَ: مَنْ تاب قَبِلْت شهادته، ماذا معناه؟ هل يريدُ بذلك أن يَحْمِلَهم على أن يُكذِّبوا أنفسهم، فإِنه لا معنى لِتوْبَتِم إلا ذلك، فيه ترغيبٌ لهم على الكذب، قلت: ولعلَّه أراد به الإِغماضَ عما رآه بقولٍ مُبْهم، والتوبةُ مجملةٌ، دون الرُّجوع عما رآه بعينه بصريح اللفظ. وبالجملة لما تعذرت منهم التوبةُ، لأنها تكذيبُ للنفس والعين، بقي حُكْم ردِّ الشهادةِ إلى الأبد والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
قوله: (وقال الثَّوْري: إذا جُلِدَ العَبْدُ، ثُم أُعْتِقَ جَازَت شهادَتُهِ)؛ قلت: وهي مسألةٌ أُخرى ليست من باب قبول شهادةِ القاذفع، لأن العبد ليست له وِلايةٌ، فإِذا عَتق حَصَلت له الوِلايةُ على نفسه، وإذن لا بأس بعبرةِ شهادتِهِ.(5/91)
قوله: (وقال بعضُ الناس) وحاصلُه أن الإِمام أبا حنيفة رَدَّ أَوّلا شهادةَ المحدود، ثُم ناقَضَه واعتبرها في النكاح: قلت: ليس الأَمرُ كما فَهِم المصنِّف، فإِنَّ الإِمام رَدَّها للثُّبوتِ، وقَبِلها للانعقاد، وبينهما فَرْقُ لا يخفي، ثمُ إنه ليس مِن عقدٍ يحتاجُ إلى الاستشهادِ غير النِّكاح للانعقاد أيضًا، وإنَّما يكفي حضورُ الشاهدَين المحدودَين للانعقاد، لأن الشهادة للانعقاد تعتمدُ الوِلايةَ، ولا قُصور فيهما لوجودِ الولاية فيهما؛ نعم لا تَقْبل شهادَتُهما عند القاضي للقُصور في الأداء، فالردُّ في باب، والقَبول في باب آخر، فأين التناقضُ، وماذا التهافُتُ؟
(5/258)
---
قوله: (لرؤيةِ هِلالِ رمضان)...الخ، ولا مناقَضَةَ فيه أيضًا، فإِنَّ الحنفية لا يُسمُّونه، شهادةً، بل هو إُخبارٌ مجرَّدُ عندهم، ولذا لا يُشترط فيه لَفُظُ الشهادة؛ نعم يُشْترطُ في هلال الفِطر، وذلك أيضًا لكونه مُتضمَّنًا لمعنى الحَلِف، فإِنَّ الفقهاء ذكروا لَفْظ: أَشْهد، في ألفاظ اليمين أيضًا، وزعم البَعْضُ أنه لا بُدَّ فيه لفظ: «أَشْهد بِعَينه؛ ولا تكفي تَرْجمتُه، وليس بصحيح، بل يكفيه لَفْظٌ يؤدي مُؤاده من أَيِّ لغةٍ كان، كما في «الدر المختار» - في باب الأذان فاعلمه، فإِنَّ المسألة إذا كانت في غير بابها أعوزت على الناس، فأحفظها.
قوله: (وَكَيْفَ تُعْرَفُ توبتُه؟) قلت: تُعرف بالنَّطر إلى حالاته، ولعلَّه إشارةٌ إلى ماذكرنا أنها لا تحصُل إلا بتكذيب نفسه، فكيف تُعْرف، فإِنَّ التكذيب لا يتحملُّه عامي، فكيف برج صادق
قوله:(وقد نَفَى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالزاني سنةً)، فله الرجوعُ بعدها.
قوله: (ونهى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعن كلام كَعْب)...الخ، ثم قَبِل توبتَه بعد خمسين يومًا، فدلَّت تلك الآيةُ، والتي قبلها على قبول التوبة؛ واعلم أن التغريبَ بعامٍ ليس من أجزاءِ الحدِّ عندنا، وراجع له «فتح القدير» فإِنّه قرر مؤثرًا.(5/92)
صحيح البخاري
باب لا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِد
والجَوْر في لغةِ العَرب الانحراف عن الحقِّ، واستعملوه في الفارسية بمعنى الظُّلم، كالجَفَاء معناه البداوةُ كنوارين؛ ثُم استعملوه في معنى الظُّلْم.
2651 - قوله: (خَيْرُكم قَرْني)..الخ هل المرادُ منه الخَيْريةُ في القرونِ الثلاثةِ فقط، أو خَيْرية الأُولى، فالأخرى كذلك إلى الأبد فليُنْظر فيه.
(5/259)
---
2651 - قوله: (يَشْهدُون ولا يُسْتَشْهدُون) يعني بي قابو، وهذا اللفظُ ورد ههنا في مَعْرِض الذَّمِّ، وقد ورد في موضع المَدْح أيضًا، والوَجْه أن الشهادةَ بدون الاستشهاد، إذا كانت لإِحياِ حقِّ المسلم، فهي خيرُ لا محالة، وإن كانت المبالاة بها، فهي من أَمارات الساعة.
2652 - قوله: (كانوا يَضْربُوننا على الشَّهادة) أي كان كبراؤنا يُؤدِّبوننا على تَكَلُّم لَفْظ الشهادة، لئلا نعتادَ عليه، فنستعمله في مُحَلِّ، وغير مُحلّ.
صحيح البخاري
باب ُ مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّور
قال الحنفيةُ: إنَّ الرُّجوع عن الشهادة لا يكونُ إلا في مَجْلِس القاضي، فلو رجعا عنه بعد ما خرجا عن مَجْلِسه، وقد شَهِدا شهادةُ زُور لا يكون ذلك رجوعًا ما لم يَحْضُرا في مَجْلِسه، ويَرْجِعا فيه، وحينئذ يُعزِّزُهما القاضي، ويُنادي عليهم أَنَّ هؤلاء شهِدوا شهادةَ الزُّور فاجتنبُوهم.
قوله: ({فإِنَّه آيِمٌ قَلبُه}) أي إنَّ ذَنْبه ليس على اللسان فقط، بل سَرَى إلى القلب أيضًا، وإن تكلَّم به اللسانُ فقط، وبذلك يُعلم قَدْرُ عِظَمِه عند الله العظيم.
باب «شهادة الأعمى»
والمرادُ منه مَنْ كان أعمى عند تَحمُّل الشهادة، أما مَنْ كان بصيرًا عند التحمل، ثمَّ عَمى عند الأداء، فلا كلام فيه؛ ويُعْلم مِن فِقْهنا أن شهادةَ الأعمى لا تُقْبل في أكثر الجزئيات، وتُعتبر في بعضها، أما الجزئيات التي ذَكرها المصنِّفُ فلا ترد علينا لكونِ الشهادة فيهما مقبولةً عندنا أيضًا.(5/93)
قوله: (وقَبُولِهِ في التَّأذِين) وهو من الدياناتِ، فلا بأس بقَبولهما.
قوله: (وما يُعْرَفُ بالأصواتِ) وقد مرَّ الكلام في الشهادة بالسماع، والتسامع.
قوله: (الشَّعْبْيُّ)...الخ، أي تُقُبل شهادتُه إذا كان ذكيًا يَأمن الأغلاطَ.
(وقال الحَكَم: رُبَّ شيء تَجُوزُ فيه) دلَّ على أَنَّ فيه تفصيلا عنده.
(5/260)
---
قوله: (وقال الزُّهْريُّ: أرأيتَ ابنَ عَبَّاسٍ لو شَهِدَ على شهادةٍ أكُنْتَ تَرُدُّهُ؟)...الخ، وكان ابنُ عباس قد عَمِي بآخِره، وقِصَّتُه أنه حَضَر هو وأبوه مرةً مَجْلِسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فرأى ابنُ عباس عنده رَجُلا، فسأله عنه أباه مَنْ هو؟ فأَجابه أنه لا يرى ثَمَّةَ أحدًا، فَعَمّن تسألني، ولم يكن العباسُ رآه، فقال: بلى، كان هناك رجلٌ، فرجع العباسُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقصَّ عليه الخبرَ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم«ذاك جبرائيل، ثُم طلب ابنُ عباس، وقال له: هل رأيتَه؟ قال: نعم، قال: إذن لا تَسْلَم لك عيناك، وسوف تصيرُ أعمى» فكان كما أخبره.
قلت: ولعلَّه رآه بكيفيةٍ أُخرى، وإلا فقد رآه غيرُ واحدٍ منهم في صورة دحْية، ولا غزْوَ أن يكون بين رُؤيةٍ ورُؤيةٍ فَرْقٌ، ألا ترى أنه كان يحضرُه بصورةِ دِحْية، قيرونه كلُّهم، ولم يَرَه في تلك المرةِ إلا ابنُ عباس، فتلك رؤيةٌ أُخرى، لا ندري كُنْهَها، ثُم إنَّ لِعَماه سببًا ظاهرًا أيضًا، وهو أنه كان يَدْخُل الماءَ في عَيْنَية عند الوضوء، أما الجوابُ عن المسألة فأقول: إنَّ ابن عباس، وإن كان أَمْرُه معروفًا، إلا أن قواعدَ الشريعة على مكانها، إلا ترى أنَّ شُرَيحًا رَدَّ شهادةَ الحسن بن علي، ولم يُنْكر عليه عليُّ، وكان أميرَ المؤمنين.
صحيح البخاري(5/94)
قوله: (أدْخُل، فإِنَّك مملوكٌ) ولا حِجابَ عن الممالك عند عائشة، وتمسَّكَتْ بقوِله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ} (النِّساء). وقال الحنفيةُ بالحجابِ منهم أيضًا، ونقلُوا عن بعضِ السَّلف أنهم قالوا: لا تعزَّكم سورة النُّور، فإِنَّها في الإِناث دون الذكور.
صحيح البخاري
باب ُ شَهَادَةِ الأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيرِهِ، وَمَا يُعْرَفُ بِالأَصْوَات
(5/261)
---
قوله: (وهي مُنْتقَيِة) وهي جائزةٌ عندنا أيضًا؛ سواء أكانت شاهدةً أو مشهودةً عليها.
قوله: (سمِعَ صَوْت عَبَّاد) وليس ذلك من باب الحُكْم.
صحيح البخاري
باب ُ شَهَادَةِ النِّسَاء
صحيح البخاري
باب ُ شَهَادَةِ الإِمَاءِ وَالعَبِيد
وهي جائزةٌ عند البخاري مُطْلقًا.
صحيح البخاري
باب ُ شَهَادَةِ المُرْضِعَة
وهي مرَّ الكلامُ فيه في كتاب «العلم».
2660 - قوله: (كَيْفَ وَقد قِيل)...الخ، وفيه إشعارٌ بنه لم يَحْكُم من باب القضاء، بل حَكَم بالدِّيانةِ.
صحيح البخاري
باب ُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهنَّ بَعْضًا
أخرج فيه حديثَ الإِفك لاشتمالة على تعديلِ بَرِيرةَ عائشةَ، وستأتي الحِكْمة في هذا الابتلاء.
صحيح البخاري
باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلا كَفَاه
صحيح البخاري
باب ُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الإِطْنَابِ فِي المَدْحِ، وَليَقُل مَا يَعْلَم(5/95)
- قوله: (عسى الغُوَيْرُ أَبُؤسًا) هذا مَثَلُ يُضْربُ لما تكونُ ظاهِرُه سلامةً، وباطنُهِ هَلاكًا، وأصُله أَنَّ رِجالا مِن أهل الجاهليةِ كانوا يُسافِرُون، فَمعطَر عليهم السَّحابُ، فَفَقُّروا إلى كَهْفٍ يَحْفَظُهم عن المَطَر، فَتَدَهْدَه حَجَرُ، فانطبق عليهم، فتسلط عليهم فلا بلاءٌ، فأَهْلَكَهُم، ومِن ههنا جرى بهم المَثَلُ، وترجمتهشايدرغار هلا كلات كابلاعاعث نهو. قال النحاة: إنَّ خَبَرَ عسى يكونُ منصوبًا حُكْمًا: قلت: ولا دليل عليه عندهم إلا هذا المَثَلُ، فإِنَّ خَبَره يكونُ مضارِعًا، ولا يظهَرُ فيه الإِعرابُ.
صحيح البخاري
باب ُ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِم
صحيح البخاري
(5/262)
---
باب ُ سُؤَالِ الحَاكِمِ المُدَّعِيَ: هَل لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَبْلَ اليَمِين
وسِنُّ البلوغِ عندنا من اثني عشَر إلى خمسةَ عشرَ عامًا، وبَعْدَه يُعَدُّ بالغًا حُكْمًا، ويُمكِنُ بعد العشرةِ أيضًا؛ فإِنَّ البلوغِ يختلِف باختلاف الأزمان، والبلدان، والصبيان. وسِنُّ بلوغِها من تسعةٍ إلى خمسة عشرَ، وبعدها بالغة حُكْمًا، وفيما دونها لا يُحْكم عليهما بالبلوغِ إِلا بالاحتلام، أو بأماة البُلوغِ سواه.(5/96)
قوله: {والللائي يَئسِنْ من المَحيض} (الطلاق: 4)...الخ، قيل في تفسيرِها: إنَّها الآيسةُ. وقال المالكيةُ: لا ارتيابَ مَعَ كِبَر السِّنِّ، فهي تمتدة الطُّهْر، فتمضي عِدَّتُها في ثلاثة أشهر؛ واحتجوا بقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} (الطلاق: 4) وقالوا: معناه إنِ ارْبَتْتُم في العِدَّة لامتدادُ طُهْرهااكر شبهة أو رحيراني هو امتداد طهر كيوجه سى فَعِدَّتُها ثلاثةُ أشهر. وتكلَّم عليه القاضي أبو بكر بن العربي مُفَصِّلا، والمسألةُ مُشْكِلَةٌ جدًا، فإِنَّه لا سبيلَ لها عندنا إلى مُضِي عِدَّتها، إلا أن ترى ثلاثَ حيض، وفيه عُسْرٌ ظاهِرٌ، فلا بدَّ من الإِفثاء بمذهب مالك، وأجاب عنه الحنفيةُ أن النَّاسَ سألوا النبي صلى الله عليه وسلّمعن عِدَّةِ الآيسةِ، فكان الارتيابُ منهم، فقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} (الطلاق: 4) نَاطِرٌ إلى سؤالهم، لا إلى تَحيرُّهم في أمر عدَّتِهن.
صحيح البخاري
باب اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ فِي الأَمْوَالِ وَالحُدُود
يشير إلى أَنَّ القضاء إما بالبيِّنةِ، أو اليمين، وليس فيه شِقٌ ثالِثٌ.
قوله: (عن ابن شُبْرُمَة: كلَّمني أبو الزِّناد)...الخ، فابنُ شَبْرُمة قاضي الكوفة؛ وأبوالزِّناد قاضي المدينةِ، فتكلَّما في مسألة الشهادةِ مع اليمين، فحجَّ قاضي الكوفة على قاض المدينةِ.
قوله: ({أَن تَضِلَّ}(البقرة: 282) أي مخافةَ تضل.
(5/263)
---(5/97)
قوله: ({فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى}) (البقرة: 282) وراجع نكتةَ هذا الطويلِ من «عروس الأفراح». وأما قوله: «قُضي رسول الله صلى الله عليه وسلّمبشاهدٍ يمين» فقد أَجَبْنا عنه، على أنه عَلَّه يحيى بنُ مَعين بجميع طُرُقه، كما ذَكره العلامة القاسم في «شَرْحِ التحرير»: قلت: أخرِجه مسلم؛ وأئمةُ الحديثِ إذا اختلفوا في التصحيحِ والإِعْلال، فالاحتياطُ عندي في الأعمال. والأَوْجه عندي أن قضاءه هذا كان على طريقِ الصُّلْح، ويشهدُ له ما أخرجه أبو داود في باب القضاء باليمين والشاهد، قال: سمعتُ جدي الزبيب بقول: بَعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمجَيْشًا إلى بني العَنْبر، فإخذوهم بركبة من ناحيةِ الطائف، فاستاقوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فَرَكِبْتُ، فسبقْهُم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقلت: «السلامُ عليك يا نبيِّ الله، ورحمةُ الله، وبركانه، أتانا جُنْدُك، فأخذونا، وقد كُنَّا أسلمنا، وخضر منا - أي أعلمنا - آذان النعم، فلما قدم بالعنبر، قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلّم هل لكمن بينةٌ على أنَّكم أَسْلَمتم قَبْل أن تؤخذوا في هذه الأيام، قلت: نعم، قال: مَنْ بينتك؟ قال: سَمُرَةُ، رجلٌ من بني العنبر، ورجلٌ آخرُ سماه له، فشهد الرجل، وأَبى سَمُرَةُ أن يشهدَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم قد أَبى أن يشهدَ لك، فتحلف مع شاهدك الآخر؟ فقلت: نعم، فاستحلفني، فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا، وكذا، ثُم خضر منا آذالن النعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم اذهبوا فقاسموهم أنضاف الأموال، ولا تمسوا ذراريهم، لولا أن الله تعالى لا يحب ضلالة العمل - أي بطلانه وضياعه - مارزيناكم - ما نقصناكم - عِقالا. قال الزبيب: فدعتني أمي، فقالت: هذا لرَّجُلُ أخذ زريبتي - البساط - وفي الهندية: قالين، فانصرفت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يعني فأخبرته، فقال لي احبِسْه، فأخذت بتلبيته، وقمت معه مكانَنَا، ثم نظر
((5/98)
5/264)
---
إلينا النبيُّ صلى الله عليه وسلّمقائمين، فقال: ما تريدُ بأسيرِك فأرسلته من يدي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفقال للرجل: رُدَّ على هذا زريته أَمُّه التي أَخَذْت منها. قال: يا بنيَّ الله إنَّها خرجت من يدي. قال: فاختلع نبيُّ اللهاِ صلى الله عليه وسلّمسيفَ الرجل. فأعطانيه، فقال للرجل: اذهب فَزِدْه آصُعًا من طعام. قال: فزادني آصُعًا من شعير». اه. فهذا ما ترى حُكمٌ على طريق المراضاة، والمهادنة، كما يفعله كبراءُ القوم، مطلقًا، ولكن أَمَر أَنْ يقاسموا أنصافَ الأموال. فهذا من باب التحكيم، وكثيرًا ما يجري بين الناس، فلا حاجةَ إلى إسقاطِ الحديث: ثُمَّ إنَّ الفقهاء، وإن فَوَّضُوا الصُّلح إلى رأى المتصالحين، لكن لا يكون في الخارح إلا مِن ثالث، فيصطلحان على ما يُحْكَم به.
صحيح البخاري
2669، 2670 - قوله: (مَنْ حَلَف علي يمين) قالوا: المرادُ من المينِ المحلوفُ عليه.
(5/265)
---(5/99)
2669، 2670 - قوله: (شاهِدَاك، أو يَمِينُه) وقد مرَّ معنا أنَّ النُّجاةَ ذكروا أن نحو: «إما»، و«أو» لِنَعْ الجَمْع، ولم يتوجهوا إلى مَنْع الخلو؛ قلت: لا بد أن يكونَ هو أيضًا من مدلولِها، لأنه لا يُراد من التقسيم إلا الحَصْرُ، فيدخل فيه مَنْعَ الخُلُوِّ عَقْلا، والحاصل أَنَّها للانفصال مُطْلقًا، سواء كان مَنْعًا، أو جَمْعًا، هذا هو التحقيقُ وإن لم يذكروه في كُتُبهم. فإِن قُلت: إنَّ قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَدَتِهِمَا} دليلٌ على أن الشهادةَ توجَّهت إلى المُدَّعى عليهم أيضًا، فكيف يستقيمُ الحَصْرُ على مذهبكم؟ قلت: المُدَّعي عليهم صاروا هناك مُدَّعِين مِن وَجْه، وقد أَبْدَع فيه الشاه عبدُ القادر، وترجمة بالبينان الخلفي، ولم يكتبه فقهاؤنا؛ فإِنَّهم لا يُسمّون الشهادةَ إلا ما كانت في مَجْلِس القضاء. أما أهلُ العَرْف فيقولون عند نَقْل الأخبار: شْهدُ بكذا مُطْلقًا، وإن لم يكونوافي مَجْلِس القضاء. فالشهادةُ عندهم أَعمُّ مما في الفِقْه، فاسترحنا عن الإِشكال. والجواب؛ وقلنا: إنَّ تلك الشهادةَ ليست ما تكون في مَجْلِس القضاء، ليخالِفَ الحَصْرَ المستفادَ من «إما»، و«أو»، بل هي ما تكون فيما بينهم. فإِذن تسمتُهما شهادة ليست على اصطلاح الفقهاء، بل جَرْبًا على العُرْف، فلا سؤال، ولا جواب.
صحيح البخاري
باب إِذَا ادَّعى أَوْ قَذَفَ، فَلَهُ أَنْ يَلتَمِسَ البَيِّنَةَ، وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ البَيِّنَة
يعني أن الفاذِفَ إذا قَذَف لا يُقام عليه الحَدُّ ولكن يُمْهَلُ ريثما يلْتَمِس البينةَ، ولا يَرْهَقُ مِن أَمْره عُسْرًا.
(5/266)
---(5/100)
2671 - قوله: (البيِّنةُ، أو حَدُّ في ظَهْرِك). وإنما كَرَّرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمتأكيدًا، ولم يَعْبَأ بما اعتذره؛ ورَدَّ عليه بأنك نَظَرْت إلى جانبٍ، ولم تنظر إلى أنا حَكَمْنا الرَّجْم بمجرِد دَعَاوَى النَّاسِ، لفسدت الدنيا، فليراعَ الطرطانِ،وليوفّر الحظان.
صحيح البخاري
باب ُ اليَمِينِ بَعْدَ العَصْر
صحيح البخاري
باب يَحْلِفُ المُدَّعَى عَلَيهِ حَيثُما وَجَبَتْ عَلَيهِ اليَمِينُ، وَلا يُصْرَفُمِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيرِه
وفيه تغليظٌ بالزَّمان. واعتبر الشافعيةُ بالزَّمان والمكان، ولا تغليظَ عندنا إلا بالأسماءِ الإِلهية، نحن أن يقول: بالله العزيزِ، المحي المميت..الخ. كما في «شرج الوقاية». قلت: قد اعتبره أهلُ العَرْف؛ وإذن مرادُ الإِمام أنه لا يُجْبرُ. وقد أشار البخاريُّ إلى عدم التغليظِ بحسب المكان، حيث قال ولا يُصْرفُ من مَوْضِع إلى غيرِه.
قوله: (قضى مروانُ باليَمين)...الخ، واعلم أنَّ البخاريَّ قد يأخذُ أشياءَ قضى بها مروان، وهو رجلٌ عَرَفَ الناسُ أَمْرَه. وَنَّبه الحافظ العينيُّ على أن الحافظ ابنَ حجر يتعصَّبُ للبخاري، حيث يؤوِّلُ لمروانَ أيضًا، لأن البخاريَّ أَخَذَ عنه في كتابه، وكذا يؤول لأوهام رُواتِه أيضًا، قلت: وَصَدق الحافظ العَيْني، وهو كذلك.
صحيح البخاري
باب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ في اليَمِين
2526 - بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا} (آل عمران: 77)
وفي المذاهب الأربعة جزئياتٌ يظهَرُ فيها النَّفع لمن تسارعَ إلى اليمينِ، وحَلف أَوَّلا.
(5/267)
---(5/101)
توجَّه أن الحَلِف ينبغي أن يكون بأسماءِ الله تعالى وصفاتِهِ. واشترط الحنفيةُ كَوْنَ تلك متعارَفةً. وأفتى العينيُّ بأن مَنْ أخذ القرآنَ بِيده، ثم قال شيئًا، فهو حَلِفٌ أيضًا؛ وهذا ليس بِحَلِفٍ في أصل المذهب. وحنيئذٍ صار حاصِلُه أَنَّ أَخْذَ القرآن باليد يقومُ مقامَ الحَلِف بالمُصْحف. بقي الحَلِفُ بِلَفْظ القرآنِ، وكلامِ الله، فيصحُّ به اليمينُ، وراجع له الفِقْه.
صحيح البخاري
باب كَيفَ يُسْتَحْلَف
قوله: (ولا يُحْلَفّ بغير الله) ورأيتُ في «شرح الجامع الكبير» عن علي بن بَلْبَان الفارسي: أن الحَلِف لغةً يُطْلق على الحَلِف بالطلاق أيضًا. وإذن لم يبق اصطلاحًا مجردًا. وعندنا لا يَحْلِف المُدَّعي عليه بالطلاق في أصل المذهب، وأفتى به المتأخرون لفساد الزمان. فإِنَّهم لا يبالون بأسماء الله تعالى؛ ومع هذا لو نكل المُدَّعي عليه أن يَحْلِف به لا يُجْبر عليه، ولا يثبت به دَعْوى المُدَّعي.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَقامَ البَيِّنَةَ بَعْدَ اليَمِين
واعتبرها الفقهاءُ إذا يُوجِب تَناقُضًا، وإنما اعتُبِرت بينةُ المُدَّعي ههنا لإِمكان التوفيق، وعدم التناقض.
قوله:(ولَعَلَّ بَعْضَكُم أَلْخنُ من بَعْض)...الخ، وفيه مسألةُ قضاءِ القاضي بشهادةِ الزُّور. ومرَّ عليها الشيخُ ابنُ الهِمام، ولم يأت بشيء شافٍ. وبحث عليها السَّرَخْسي في «المبسوط» فكفى وشَفَى.
(5/268)
---(5/102)
أقول: والحديثُ لا يَرِد علينا أَصلا، فإِنه ليس من باب القضاء بشهادةِ الزُّور، وإنما هو في القضاء بِلحْن الحُجَّة، وطلاقةِ اللَّسان، وفصاحة البيانِ، والقضاء بمثله أيضًا يجري فيما بين الناس، فإِنَّ للحُكْم أبوابًا، فقد يكون من القاضي في مَجْلِس القضاء، وقد يكون بطريق التحكم، وقد يكون من باب المروءة، فلا يلزم أن يكون ذلك قضاءً بالشهادةِ، وإنما هو إذا بَلَغَ الأَمْرُ إلى مجلس القضاء، فَمَنْ أَخذ مالَ أخيه بمجرد طلاقته، وفصاحَتهِ، لم يَنْقُذ القضاءُ فيه قاطنًا عندنا أيضًا، وسيجيء الاكلام في الحِبَل.
فائدة: (في بيان رتبة ابن الهُمام في المذهب)
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الوَعْد
وإنجازُ الوعدِ لا يدخلُ تحت القضاء عند الجمهور، إلا عند مالك. ولعلَّ المصنِّفَ ذهب إلى مذهب مالك، لأنه نَقَل بعده أنَّ الحسنَ البَصْري قَضَى بالوَعْد، ولا يسمع دعواه عند الجُمهور.
قوله: (وَقَضى به ابنُ الأَشوع)...الخ، قلت: ولا يتعيَّن أن يكون هذا من ابنِ أَشْوع قضاءَ، بل يجوز أن يكون حُكْمًا بطريق الفتوى، ولكنَّ المصنِّف لا يُفرِّقُ في كتابه بين القضاء والإِفتاء، فيطلق أحدَهما مكانِ الآخر، فيجوزُ أن يكونَ ابنُ أَشْوَعٍ أَفْتى بالوَعْد، كما يُفْتى بسائر الدِّيانات، والمصنِّف عَبَّر عنه بالقضاء.
2684 - قوله: (أيَّ الأَجَلَيْن قَضَى موسى)...الخ، وحاصل الجواب أنه وَفَّى بأكثرِ الأَجَلَين، على دَأْب المراسلين، فإِنَّهم إذا وعدوا بأَمْرٍ مُتردِّدٍ بين الأقل والأكثر، أوفوا بأَكْثْرِهما، ليكونوا أحسنَ أداءً، وأَتمَّ قضاءً.
واعلم أنَّ المُصنِّفَ لم يأت في هذا الباب بما يقومُ حُجَّةً على الْجُهور، وإنما أَخْرج أشياءَ من باب المُروءات.
صحيح البخاري
باب لا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغيرِهَا
(5/269)
---(5/103)
قد اعتبرَ المُنِّفُ فيما مرَّ شهادةَ العبيد؛ وترجم الآن على هَدْرِ شهادةِ الكافر مُطْلقًا، وقال الحنفيةُ: إنَّ شهادةُ الكافرِ على الكافر جائزةٌ، وكذا للمُسْلم، ولا تجوزُ عليه، لقوله تعالى {لن يَجْعلَ ااُ للكافرين على المؤمنين سببيلا}(النساء: 141).
قوله: (وقال الشعبي: لا تجوزُ شهادةُ أهلِ المِلَلَ بَعْضِهم على بعض لقوله تعالى: {فأَغْرَيْنا بينهم العداوةَ) الآية: (المائدة: 14) قلت: باب الحِقْد والغمر عيرُ باب الشهادة، ولا اختصاص له بالكافرِ والمسلم، فإِنها لا تُقْبل في الوجهين.
قوله: (وقال ابن عباس)...الخ، واعلم أنَّ في التحريف ثلاثةُ مذاهبَ: ذهب جماعةٌ إلى أن التحريفَ في الكتب السماوية قد وقع بكُلِّ نحو في اللفظ والمعنى جميعًا، وهو الذي مال إليه ابنُ حَزْم؛ وذهب جماعةٌ إلى أن التحريف قليلٌ، ولعلَّ الحافِظَ ابنَ تيميةَ جنح إليه؛ وذهب جماعةٌ إلى إنكارِ التحريف اللفظي رأسًا، فالتحريفُ عندهم كلُّه معنوي. قلت: يَلْزَمُ على هذا المذهب أن يكونَ القرآنُ أيضًا مُحرَّفًا، فإِنَّ التحريفَ المعنويِّ غيرُ قليل فيه أيضًا، والذي تحقَق عندي أن التحريفَ فيه لفظيُّ أيضًا، أما إنه عن عمد منهم، لمغلطة. فا تعالى أعلم به.
وهي عندنا لتطبيبِ الخاطر لا غير، ولا تقومُ حُجَّةً على أَحَد، ولم يأت فيه المصنِّفُ بما يكون من باب الحُكْم، وما أتى به فكُلُّه من باب الدِّيانات.
30 بابُ القُرْعَةِ في المُشْكِلاتِ
قوله: (عالَ قَلمُ زكريا الجِرْية) يعنى دهاركى أوبر جرهيكا قلم زكريا عليه الصلاة والسلام كا) قوله: (المَسْهوُمِين) أي مغلوبمين في السَّهْم.
قوله: (المُدْحَضِين) الزام كهايا هوا.
صحيح البخاري
كتاب ُ الصُّلح
صحيح البخاري
باب ما جَاءَ في الإِصْلاحِ بَينَ النَّاس
(5/270)
---(5/104)
والصُّلْح على ثلاثةِ أنحاء: الصُّلْح مع إقرار، والصُّلح مع سُكوت؛ والصُّلْح مع إنكار، وكلُّه جائزٌ عندنا. وقال الشافعي: لا جوز إلا الأَوَّلُ، ثُم إنَّ الحنفية اختلفوا في حقيقة الصُّلح أَنَّها بَذْل، أو ماذا؟ وارجع تفصيله في الهداية.
2690}قوله: (يا أبا بَكْر ما مَنَعَك)...الخ، وفي «المسند» لِمَ رفَعَت «يَدَيْك»، فقد دخل الأمرانِ تحت الإِنكار، وغايةُ ما في الباب أنه لم يشدّد عليه بعد الإِنكار، وقد فَصَّلناه مِن قبل.
2690 - قوله: (ما كانَ لابن أَبي قُحافة)، يُشْعر بأَنَّ غير النبيِّ لا تليقُ به الإِمامةُ بين حضرةِ النبيِّ، ولذا لم ثبتت إمامةُ غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي محضره صلى الله عليه وسلّمإلا مرَّةً، أو مرتين.
2691 - قوله: (لو أَتَيْتَ عبدَ الله بن أَبيَ)...الخ، وهذا غلط من الراوي؛ والصواب أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان ذهب إلى سَعْدِ بن عبْادة.
قوله: (قبل أن يجلس ويحدث)...الخ، أي قبل أن يَجْلس في حلقة دَرْسه.
قوله: (أُنزِلت) {وَإِن طَآئِفَتَانِ} الآية(الحجرات: 9)، وهذا يُشْعِر بأن شأنَ نزولها السبُّ والشتم، دون القَتْل، فلينظر فيه، أن السبَّ والشتم والضَّرْب الخفيف، هل يَبْلغ مَبْلَغ الكبيرة، أم هو صغيرة؟ فإِن كان صغيرةً لا يتم منه استدلالُ المصنِّف في الإِيمان على أم مُرتَكِب الكبيرة مؤمنٌ؛ نعم لو نزلت في الكبيرة لتم التقريب.
صحيح البخاري
باب لَيسَ الكاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَينَ النَّاس
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ الإِمامِ لأَصْحَابِهِ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِح
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ يَصَّالَحَا بَينَهُمَا صُلحًاوَالصُّلحُ خَيرٌ} (النساء: 128)
(5/271)
---(5/105)
واعلم أنَّ الكذِب جائزٌ بعض الأحوال عند الشافعية، أما الحنفيةُ فلا أراهم يُجوِّزُونه صراحةً في موضع، نعم وسَّعوا بالكِنايات، والمعاريض وأمثالِهما؛ وراجع له كلام الغزالي رحمه الله تعالى.
صحيح البخاري
باب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلحِ جَوْرٍ فَالصُّلحُ مَرْدُود
إشارةٌ إلى ما أخرجه الحاكم أنَّ كلَّ صُلْح جائزٌ إلا ما حَلَّ حرامًا، أو حَرَّم حلالا، يعني به أن الصُّلْح إذا تضمن الجَوْر، فهل يعتد به أم لا؟ أما مسألة الصُّلح مع الإِنكار فلم يتعرض لها بَعْدُ؛ وراجع لها «الهداية» فإِنه أجاب عن إيرادِ الشافعية.
2695، 2696 - قوله: (لأقضِيَنَّ بينكما بكتَابِ الله)...الخ، فيه أصلٌ عظيم بأن القضاءَ إذا تضمَّن أمرًا باطلا يُنْقَض. ثم ما يعْلم من كُتُب الأصول هو أَنَّ وظيفة المجتهد القياس؛ قلت: بل وظيفتُه توزيعُ الجزئياتِ على الكليات؛ فإِنَّ الكُليات قد بَسَطها الشارعُ. فربما يندرِجُ جزءٌ تحت عِدَّة كلياتٍ، ويتحير هناك الناظِرُ، فالمجتهدُ يُبَيِّنهُ، أنه داخِلٌ تحت هذا دون ذلك.
صحيح البخاري
باب كَيفَ يُكْتَبُ: هذا ما صَالَحَ فُلانُابْنُ فُلانٍ، وَفُلانُابْنُ فُلانٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِه
صحيح البخاري
باب ُ الصُّلحِ مَعَ المُشْرِكِين
واعلم أَنَّ القرآن لم يَرْغَب في الصُّلْح معهم، فقال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} الآية: (التوبة: 7)، مع أنه لم يُحرِّمه أيضًا، وذلك دَأبُه في مثل هذه المواضع، فإِنَّه يُفْصِحُ أولا بما هو أولى عنده، وأرضى له، ثُم يتوجه إلى بيانِ الجواز أيضًا.
قوله: (وفيه سَهْل)...الخ، وفي نسخة عن سُهَيل؛ ثُم غَلِط الكاتِبُ ههنا، فأعربَ ما في الصلبِ برعايةِ النُّسخة الأخرى، والصوابُ باعتبار نُسْخَة الصلب أن تكونَ المعطوفاتُ كلُّها مرفوعةً.
(5/272)
---(5/106)
2702 - قوله: (انطَلَق عبدُ الله بنُ سَهْل، ومُحيِّصَةُ بنُ مَسْعُود بن زَيُدٍ إِلى خَيْبَر، وهي يومئذٍ صُلْحٌ) وستأتي عليك تلك القصةُ مُفَصَّلةً مرارًا، إلا أن قوله: «وَهِي يومئذٍ صُلْحٌ» ليس إلا في هذا المَوْضِع، فاحفظه.
صحيح البخاري
باب ُ الصُّلحِ في الدِّيَة
- قوله: : (كَسَرَت ثَنِيَّةَ جَارِيةٍ) وهذه الروايةُ أخرَجها المصنِّفُ ثلاثة مرات، وفي كلّها أنَّ التي كسرت سنها كانت جاريةً، ويأتي بعدها أنها كسرت ثَنِيَّة رَجُلٍ. وهذا يخالف الحنفية. وحملَه الحافظُ على تَعدُّد الواقعة، وهو عندي وَهْمٌ قُطَعًا، وغَلَظٌ وهذا يخالفُ الحنفية، وحملَه الحافظُ على تَعدُّد الواقعة، وهو عندي وَهْمٌ قَطْعًا، وغَلَطٌ من الراوي.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّملِلحَسَنِبْنِ عَلِيَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «ابْنِي هذا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ»
ولذا، صالح معاويةَ لما أرسل إليه بالصُّلْح، فقال له الناسُ: «إنك سَوَّدَتَ وجوهَنا، فقال لهم: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقال فيَّ: «لعل الله أَنْ يُصْلِح بي»، الخ، فأنا فاعِلٌ ذلك».
2704 - قوله: (وله خير الرجلين)، وإنما قال الحَسَنُ البَصْري لمعاويةَ: خير الرجلين، لأن هَمَّه كان في حِفظ الصِّبيان والنسوان، ولم يكن همُّ عمرو بن العاص إلا في الفتح والهزيمة.
صحيح البخاري
باب هَل يُشِيرُ الإمَامُ بِالصُّلح؟
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الإِصْلاحِ بَينَ النَّاسِ وَالعَدْلِ بَينَهُم
ففي «الدر المختار»أنه يُستجب للقاضي أن يشيرَ إلى المتخاصِمَين أولا بالصُّلُح، ثم يَحْكُم بما حَكَم اللهاُ به.
صحيح البخاري
(5/273)
---
باب إِذَا أَشَارَ الإِمَامُ بِالصُّلحِ فَأَبى، حَكَمَ عَلَيهِ بِالحُكْمِ البَيِّن(5/107)
2708 - قوله: (إنه خَاصَمَ رَجُلا من الأنصارِ قَدْ شَهِد بَدْرًا) وهذا الذي قلت: إنَّ هذا الأنصاري كان بَدْريًا، فكيف يُظنِ بِهِ النفاقُ، فيؤول في ألفاظه، ومَنْ قال: إنه يُحْتَمل إن يكون منافقًا نظرًا إلى ظاهرِ ألفاظه، فقد غَفَل عما في نَصِّ البخاري؛ والجواب عنه، والتوجِيهُ له ذكرناه مِن قَبْل.
2708 - قوله: (استَوْعَى للزُّبَير حَقَّه في صَرِيح الحُكْم) ، دليلٌ على أن حُكْمه أَوَّلا كان مروءةً وسماحةً، فاذا رآه مغضبًا حَكع عليه بالقضاء، وفيه دليلٌ على أن الفَرْقَ بين باب المروءة، والحُكْم قد دَار بين الصحابةِ الكرام أيضًا، وهذا اللفظُ قد استعمله محمدٌ في «موطئه».
صحيح البخاري
باب ُ الصُّلحِ بَينَ الغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ المِيرَاثِ وَالمُجَازَفَةِ فِي ذلِك
وهذه الترجمةُ نظيرُ ما ترجم في الشَّرِكة.
ونحوها في كتاب «الإستقراض».
باب إذا قاض أو جازفه في الدين، فهو جائز تمرًا بتمر، أو غيره
وقد حكم ابنُ بَطَّال على مِثْل هذه التراجم بكونها خلافًا للإِجماع، وقد مرَّ معنا أنها صحيحةٌ على مرادِها، فإِنَّها ليست في باب المعاوضاتِ والخصومات، بل كُلّها من بابِ التسامح والمُرُوءات.
قوله: (وقال ابن عباس: لا بأس أن يتخارجا الشريكان)...الخ، ويُشْتَرط عندنا يومُ الزيادةِ والنُّقصان عند التجانس، وهذا في الحُكْم، وأما في الديانة فكلها واسع.
قوله: (فإِنَّ توى لأحدهما، لم يرجع على صاحبه)، يعني فان لم يستوف أحدُهما نصيبَه مِن الديون، وتوى ماله بعد التخارج، فهل يَبْطُل هذا التخارج؟ فهل يَبْطُل هذا التخارج؟ فالجواب أنه لا يَبْطُل، ولا يكونُ له شيءُ، أما التوى فهو أَمْرُ قدر له.
صحيح البخاري
باب ُ الصُّلحِ بِالدَّينِ وَالعَين
(5/274)
---(5/108)
- وتُشترطُ عندنا المساواةِ عند النجانسة، ولا بأس بالزيادةِ والنقصانِ أيضًا في الدِّيانة، لما مرَّ، ثُم أخرجه المنِّف ليس في الصُّلح بالدِّين والعين، بل فيه إسقاطُ الحقِّ والإِبراء، وهذا غيرُ ذلك.
صحيح البخاري
كتاب الشُّرُوط
صحيح البخاري
باب ُ ما يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ في الإِسْلامِ وَالأَحْكَامِ وَالمُبَايَعَة
صحيح البخاري
باب إِذَا بَاعَ نَخْلا قَدْ أُبِّرَت
واعلم أن الشَّرْط كان يُطْلق في زمانٍ على القَبَالة، سواء تَضَمَّن ذِكْرَ شَرْط أو لا، ومنه يقال للطحاوي: شرطيًا، أي كاتب القَبَالة، يعني رجرار، ثُمَّ سُمِّيت الحاضِرُ والسجلاتُ شُروطًا، ففي «العَالْمَكِيريَّة» بابٌ طويل في المحاضر والسجلات، جَمَع فيه جملةً المكاتب من هذا النوع، ومرادُ المصنِّف ههنا ما هو مصطلحُ الفقهاء والنُّحاة، وهو المراد في قول النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بَبْع وشَرْط. ولعل الاصطلاحَ الأوَّل جرى بعد زمان البُخاري.
فائدة
واعلم أن الشيخَ نجم الدين عُمر النِّسفي قد أَلَّفَ كتابًا في الوَقْف، فلما رأيته تحيَّرتُ من كمال فصاحته وبلاغته؛ وهكذا يتعجب المرءُ مما نِقل في «العَالَمِكيرية» من عباراتِ الفقهاء، فإِنَّها بلغت في الفصاحةِ وحُسْن البيان الذروةَ العُلْيا. وهذا «النَّسفي» مقدَّم على صاحب «الكنز» ومُحَدِّثٌ ففيه، ومؤرِّخٌ كبير، صنَّف «تاريخ سمرقند» في اثنين وعشرين مجلدًا.
2711،2712 - قوله: (وامتَعَضُوا)، وترجمته في الهندية أور كرهى.
أراد المصنِّفُ إثباتَ هذا النوعِ من الشَّرْع؛ أما تفصيلُه، فليراجع له الفقه.
باب «إذا اشترط البائع ظهر الدابة»الخ
(5/275)
---(5/109)
وترجمتُه هذه على حديثِ ليلةِ البَعير. واختلف الرواةُ في ثمن البعير على ستةِ، أو سبعةِ أَوْجه؛ ولا حاجةَ عندي إلى طَلَبَ التوفيق بينهما، وإنْ تَصدَّى له الحافظ. والمِهم عندي أن يُنْظر في الشَّرْط كان في نَفْس العقد، أو كان خارجًا عنه، فإِنَّ ثبت الأَوَّلُ يثبت جوازُ الاشتراط في نَفْس العقد، ويَرِد الحديثُ علين، ولا يمشي فيه الجوابُ المذكور سابقًا، أَنه من باب المروءات والمسامحات؛ وإنَّ كان الثاني فلا إيرادُ علينا، وقد مرّ.
وإنما نهى الحنفيةُ عن هذه الشروطِ، لأن فيها معنى الرِّبا، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنهى عن بَيْع وَشَرْط؛ وقد مَرَّت فيه حكايةُ ابن حَزْم عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة في «البيوع؛ والمصنِّفُ توجَّه إلى تنقيح تلك الواقعية: أنها كانت تَبَرُّعًا، أو بيعًا؛ ثم إنْ كان بيعًا فماذا كان الثمن فيها؟
قلت: وقدنقل البخاريُّ في كَوْن الشرط خارِجِ العَقْد، أو داخِلَه خَمْسة ألفاظ: «فاستثنيت حُمْلانَه»، «أَفْقَرنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمظَهْرَه»، «على أَنَّ لي فَقَارَ ظهرِه»، «ولك ظَهْرُهُ»، «شَرَط ظِهْرَه إلى المدينةِ». وأنت تعلم أَنَّ الفاظَ الحديثِ إذا اختلفت إلى خمسةٍ، كما رأيت، ولم يتعيَّن أحدُهما من الآخر بَعْدُ، فَهَدْمُ القواعد المقررة المعهودةِ في الدِّين لأجل لَفْظٍ من الألفاظ بعيدٌ، فإِنَّه قوله: «نهى عن بَيْع وشَرْط»، وقاعدةٌ كُلِّية، وسُنَّةٌ عامَّةٌ، فلا تُترك لأَجْل واقعةٍ لم تتعين الفاظُها بعدُ، ولو تَعَيَّنَت وتخلَّصت على نظر الشافعية لم تزد على كونها واقعةً، فكيف بما لم تتعين بعد أنَّ الظَّهْر كان شَرْطًا في العقد، أو عاريَّة أو تبرُّعًا منه.
صحيح البخاري
(5/276)
---(5/110)
ثُم ههنا بَحْثٌ آخَرُ يُعْلم من «جامع الفُصُولَين» لابن قاضي سماوة: أنَّ في عبرة الوَعْد شرطًا أقوال؛ فقيل: كُلُّ وَعْد كان في المجلس فهو في حُكْم الشَّرْط؛ وقيل: إن كان ألفاظُهُ مُشعِرةً بالإِلحاق، فهو كالشَّرْط ولو كان بعد المَجْلِس، وإلا لا، وهو الأقربُ عندي.o
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ في البَيع
صحيح البخاري
باب إِذَا اشْتَرَطَ البَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكانٍ مُسَمًّى جاز
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ في المُعَامَلَة
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ في المَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاح
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ في المُزَارَعَة
صحيح البخاري
باب ُ ما لا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ في النِّكاح
صحيح البخاري
باب ُ الشُّروطِ الَّتي لا تَحِلُّ في الحُدُود
2721 - قوله: (أَحَقُّ الشُّروطِ أن تُوفُوا به ما استحلَلْتُم به الفُرُوجَ)، والحديثُ سلك فيه مَسْلَك الإِجمال، وفَصَّله الفقهاء.
مسألة: من أنفق على المرأةٍ نفقةً طَمَعًا في نكاحها، فأبت، ولم تَفْعل، ففيه ثلاثةُ أقوال ذكرها الشامي؛ وقد رأيت أَزْيَد منها أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ ما يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ المُكاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالبَيعِ عَلَى أَنْ يُعْتَق
(5/277)
---
2726 - قوله: (وليَشْتَرِطُوا ما شاؤوا) وقد مرَّ فيه لَفْظ «دعيهم يشترطوا»، وفي الصفحة الآتية في خطبته صلى الله عليه وسلّم ما بالُ قومٍ يَشْتَرطون شُروطًا ليست في كتاب الله»، فهذه الالفاظُ كلُّها قرينةٌ على أن لفظ: «اشترِطي لهم الولاءَ، وليس من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وكيف يأمرُها بالاشتراط، مع أنه نَفْسه يقول: «ما بال أقوام»،...الخ، فإِذا كان غَضِب عليه آخِرًا، فهل يناسِب له أَنْ يأمر به أَوَّلا، إلا أن يكون بمعنى قوله: «دَعِيهم يَشْتَرِطوا» أي اشتراطهم مُهْمَل، فلا يُعبأ به.
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ في الطَّلاق(5/111)
2371 - قوله: (قوله: (إنَّ بَدَأَ بالطلاقِ أو أَخَّر، فهو أحقُّ بِشرْطِه) أي الحُكْم في التقديم والتأخير، سواء.
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالقَوْل
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ فِي الوَلاء
وقد وردت فيه الكِتابةُ أيضًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا اشْتَرَطَ فِي المُزَارَعَةِ: إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُك
2730 - قوله: (لما فَدَع أَهْلُ خيبرَ عبدَ الله بنَ عمر)...الخ، وكان ابنُ عمرَ ذهب إلى خيبرَ للتجارةِ، فأسقطه اليهودُ من علية، فانفكت يَدَاه ورِجْلاه.
2730 - قوله: (كَيْفَ أنت إذا أخرجت من قومك)...الخ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمقال له ذلك عند فتح خيبرَ.
(5/278)
---
2730 - قوله: (وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمرِ مالا، وإبلا، وعُرْوضًا مِن أَقْتَاب، وجِبالٍ، وغيرِ ذلك)...الخ، وعند مالك في «موطئه»؛ قال: وقد أَجْلى عمرُ بن الخطاب يهود نجران، وفَدَك، فأما يهودُ خيبرَ فخرجوا منها ليس من الثمر، ولا مِن الأرض شيءٌ؛ وأما يهودُ فَدَك، فكان لهم نِصْفُ الثملر، ونصفُ الأرض، لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمكان صالَحَهم على نِصْف الثمر، وعلى نصف الأرض، فأقام لهم عمرُ نِصْف الثمر، ونصفَ الارض قيمةً مِن ذهب وَوَرِقٍ، وإبل، وأحبال، وأقتاب، ثم أعطاهم القيمةَ، وإجلاهم منهما. اه. وهذا كما ترى يُخالِف ما في «الصحيح» فإِنه يدلُّ عن أنَّ يهودَ خيبر لم يُعْطوا شيئًا، وإنما أعطى يهودَ فَدَك ما أعطى، وهو الصوابُ عندي. والظاهر أنه وقع سَقْطٌ في البخاري من الأَوَّل، فألحق الراوي ما كان في آخِر القِصة بالأوَّل، أَوْرَث خَبْطًا، فإِنَّ مالِكا ساكَنَ المدينةَ، وهو أعلمُ بهذا الموضوع؛ أما الحافظ فقد مشى على ظاهرِ البخاري.
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ فِي الجِهَادِ، وَالمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الحَرْبِ، وَكِتَابَةِ الشُّرُوط
(5/279)
---(5/112)
عَبْدُ اللَّهِبْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُبْنُ الزُّبَيرِ، عَنِ المِسْوَرِبْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالا: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمزَمَنَ الحُدَيبِيَةِ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «إِنَّ خَالِدَبْنَ الوَلِيدِ بِالغَمِيمِ، فِي خَيلٍ لِقُرَيشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ». فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الجَيشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لقُرَيشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيهِمْ مِنْهَا، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا خَلأَتِ القَصْوَاءُ، خَلأَتِ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «مَا خَلأَتِ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ». ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا». ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصى الحُدَيبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّمالعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَينَمَا هُمْ كَذلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيلُبْنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ
((5/113)
5/280)
---
قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيبَةَ نُصْحِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّممِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَبْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَبْنَ لُؤَيّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيبِيَةِ، وَمَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عنِ البَيتِ،
صحيح البخاري
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «إِنَّا لَمْ نَجِىءْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِن شَاؤُوا مادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَينِي وَبَينَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هذا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ». فَقَالَ بُدَيلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هذا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُول قَوْلا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيكُمْ فَعَلنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم فَقَامَ عُرْوَةُبْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَي قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَل تَتَّهِمُوني؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي
(5/281)
---(5/114)
وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هذا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلّم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذلِكَ: أَي مُحَمَّدُ، أَرَأَيتَ إِن اسْتَأْصَلتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَل سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لأَرَى أَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَوْلا
صحيح البخاري
(5/282)
---(5/115)
يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلّم فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُبْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النبي صلى الله عليه وسلّم وَمَعَهُ السَّيفُ وَعَلَيهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النبي صلى الله عليه وسلّمضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هذا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُبْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَي غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعى فِي غَدْرَتِكَ، وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «أَمَّا الإِسْلامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيءٍ». ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النبي صلى الله عليه وسلّمبِعَينَيهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمنُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْواتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَي قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍصلى الله عليه وسلّممُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ
((5/116)
5/283)
---
مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النبي
صحيح البخاري
(5/284)
---(5/117)
صلى الله عليه وسلّموَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «هذا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ». فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُبْنُ حَفصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «هذا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ». فَجَعَلَ يُكَلَّمُ النبي صلى الله عليه وسلّم فَبَينَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيلُبْنُ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيلُبْنُ عَمْرٍو: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ». قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيلُبْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَينَنَا وَبَينَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيلٌ: أَمَّا الرَّحْمنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ». ثُمَّ قَالَ: «هذا مَا قَاضى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ». فَقَالَ سُهَيلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ
((5/118)
5/285)
---
اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيتِ وَلا قَاتَلنَاكَ، وَلكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُبْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُبْنُ عَبْدِ اللَّهِ». قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذلِكَ لِقَوْلِهِ: «لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا». فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله
صحيح البخاري
(5/286)
---(5/119)
عليه وسلّم «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَينَنَا وَبَينَ البَيتِ فَنَطُوفَ بِهِ». فَقَالَ سُهَيلٌ: وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلكِنْ ذلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَينَا. قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَينَمَا هُمْ كَذلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِبْنُ سُهَيلِبْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّة حَتَّى رَمى بِنَفسِهِ بَينَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيلٌ: هذا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ». قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلى شَيءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «فَأَجِزْهُ لِي». قَالَ: مَا أَنا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافعَل». قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَل قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَي مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُبْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيتُ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلّمفَقُلتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: «بَلَى». قُلتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى» قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي». قُلتُ: أَوَلَيسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيتَ
((5/120)
5/287)
---
فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟» قَالَ: قُلتُ: لا، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ» قَالَ: فَأَتَيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيسَ هذا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ
صحيح البخاري
(5/288)
---(5/121)
لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم وَلَيسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهْوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَواللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلتُ: أَلَيسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلتُ لِذلِكَ أَعْمَالا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّملإِصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا». قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَها مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَآءكُمُ الْمُؤْمِنَتُ مُهَجِرتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حَتَّى بَلَغَ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10). فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَينِ، كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُبْنُ أَبِي سُفيَانَ، وَالأُخْرَى صَفوَانُبْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم إِلَى المَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ، رَجُلٌ
((5/122)
5/289)
---
مِنْ ثَقِيفٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَينِ، فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَينِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَينِ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى سَيفَكَ هذا يَا فُلانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَل، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى المَدِينَةِ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمحِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هذا ذُعْرًا». فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النبي صلى الله عليه وسلّمقَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «وَيلُ أُمِّهِ، مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ».(5/123)
فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِبْنُ سُهَيلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيشٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلّمتُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ
(5/290)
---
فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم إِلَيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حَتَّى بَلَغَ: {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَهِلِيَّةِ} (الفتح: 24 - 26)، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَينَهُمْ وَبَينَ البَيتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: {مَّعَرَّةٌ} (الفتح: 25): العُرُّ: الجَرَبُ. {تَزَيَّلُواْ} (الفتح: 25): انْمَازُوا. وَحَمَيتُ القَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً، وَأَحْمَيتُ الحِمَى: جَعَلتُهُ حِمًى لا يُدْخَلُ.
صحيح البخاري
وَأَحْمَيتُ الحَدِيدَ، وَأَحْمَيتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَغْضَبْتَهُ إحْمَاءً.
ترجم أَولا على الشروط بالقول ثم ترجم على الكتابة.
2731، 2732 - قوله: (إنَّ خاِلدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيم)...الخ، ولم يكن أَسْلَم بعد، وكان جاء ليخبرَ قريشًا من أَمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
2731،2732 - قوله: (والطليعة) ترجمته: لين دوري.(5/124)
2731،2732 - قوله: (فخذُوا ذاتَ اليمين) أي لئلا يَطَّلِع عليكم خالِدٌ.
2731،2732 - قوله: (بَرَكت به راحِلَتُه)، ومن ههنا كان مبدأ أءَرْضِ الحَرَم.
2731،2732 - قوله: (والتبرض) ترجمته جوسنا؛ وحاصله أن الماء كان قليلا، بحيث كان الناس يتبرضه بترضًا، ولم يكن قابلا للنزح.
2731،2732 - قوله: (كانوا غَيْبةَ نُصْح) أو نتنيون جامه دان خير خواهى، لأنهم كانوا يحاربون قريشًا، دون الله ورسوله.
2371، 2732 - قوله: (العُوذُ المَطَافِيلِشيردار كي بجى، قد نَهَكَتْهم الحَرْبُ، أي أَعْجزتْهُم.
(5/291)
---
2731،2732 - قوله: (ألستُم تعملونَ أَني استَنْفَرتُ أَهْلَ عُكَاظٍ)...الخ. أي طلبت النَّفِير من أهل عُكَاظ لِقتاله، أي محمد صلى الله عليه وسلّم
2731،2732 - قوله: (أشوابًا مِن النَّاس) ترجمته ايرى غيرى ادهر ادهركي.
قوله: (وجوهًا) أي قبائل مختلفة.
2731،2732 - قوله: (أَخَذَ بِلِحْيَتِه) وكانت تلك سُنَّةً بينهم، عند التكلُّم مع كبرائهم.
2731،2732 - قوله: (نَعْل السَّيف) أي قبيعته.
2731،2732 - قوله: (ألستُ أَسعى في عَذْرَتِك) كيااب تك تيرى كرتوتو نكونهين بهكت رها هون. واعلم أن لقب قريش بدأ من ذُريَّة مُضَر، فلا يُقال لأخواته: قريش.
2731،2732 - قوله: (فابْعَثُوها) وكانت هدايا النبي صلى الله عليه وسلّمستين، وذلك كان عمره صلى الله عليه وسلّم
2731،2732 - قوله: (قد سَهُلَ لكم) تفاؤل باسم سُهَيل.
2731،2732 - قوله: (ما أَدْري ما هو) وما ذلك إلا أنَّ المشهورَ من أسماء الله تعالى في بني إسماعيل كان هو «الله»، وأما «الرحمن» فكان مشهورًا في بني إسرائيل؛ ولذا كانوا يقولون: إنه يريدُ إن يزلنا عن المِلَّة المحنفية، إلى الدين المُوسَوي.
2731،2732 - قوله: (هذا ما قاضى) وهذا اللفظ أقربُ إلى الشافعية، فإِنه لاقضاءَ عندهم للعُمرةِ، فجعلوا عمرةَ القضاء من المقاضاة، بمعنى الصُّلح، وقال الحنفية: القضاءُ ضدَّ الأداء.(5/125)
قوله: (يرسف) أي خطوة قصيرًا جهوتي جهوتي قدم اتهار هاتها.
صحيح البخاري
2731،2732 - قوله: (أَخِذْنا ضُغْطةً) أيهم بحة كئى أور مغلوب هو كىء.
2731،2732 - قوله: (فأَجِزه لي) أي أحسن لأجلي.
قوله: (أو ليس كنت تحدثنا)...الخ.
تحقيقٌ في قِصَّة رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبالحُدَيْبِية
(5/292)
---
واعلم أن الشقيِّ لَعِن القاديان المتنبيء الكاذب، زعم أن أخبارَ الأنبياءَ عليه السلام أيضًا قد لا تطابِقُ الواقع؛ وذلك من دأبه في سائر المواضع، أنه إذا أُوْرِد عليه شيءٌ، صلى الله عليه وسلّمم يلهِمْه شيطانُه الجوابَ عنه، جعل يَعْزُوه إلى الأنبياء الحقِّ، ويقول: إنَّ أخبارَهم أيضًا قد تخالِفُ الواقع، كما أن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمرأي رؤيا أنه يَعْتمِر من تلك السنة، فارتحل لذلك، فإِذا أنه قَدْ أُحْصِر، ولم يَتَيَسَّر له ما كان قَصَد إليه.(5/126)
قلت: كَذَب عَدُو اللهاِ، والله العظيم، لم تكذب أخبارُ الأنبياء عليهم السلام قط، ولا كان لها أن تكذب، وأين هو من أخبارهم؟ وإنما يَقِيس ما تَحْتَطِفُه الشياطين، ثُم تقرقرِه إليه بما ينزل محفوظًا عن جوانبه، محفوظًا عن أطرافه بالملائكة، قال تعالى: {فإِنه يَسْلك من بين يَدَيْه ومِن خَلْفه رَصَدًا} (الجنَّ: 27) أما تمسّكه بِقصَّة الحديبية، فَمَبني على غاية شقاوته، ونهايةِ سفاهته، وقِلَّة عِلْمه، وفَرْط جهله. ومَنْ أخبره على النبيِّ صلى الله عليه وسلّمرأى تلك الرؤيا في المدينة، بل ما في النُّقول الصحيحةِ عن مجاهد، وغيره، كما في «الدُّر المنثور»: أت النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرأى رؤيا بعد ما بلغ الخُدَيبية، وهو الذي يَشهد به الوجدانُ، لأنه لما سافر من المدينة عازِمًا بالعمرةِ، ثم أحْصِر، وبلغ أصحابُه من الهمِّ والكَرْب ما بلغهم، حتى أنهم ما كادوا ليحلُّون من إحرامهم، مع أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يأمرُهم بذلك، فلما حلَق النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبين أظهرهم، وشاهدوهم بأعينهم، فتسارعوا إلى الحلق، حتى كاد يَقْتل بعضُهم بعضًا، مِن سرعة الحَلْق، وحينئذ رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمرؤياه ليسكن جأشهم، وتطمئنَّ قُلُوبهم، فهذا هو الذي كان مِن أَمْر رؤياه.
(5/293)
---(5/127)
أما ما رواه الواقدي، فلا يُعْلم إلا مِن جهتِه، وهو غيرُ ناقدٍ في النَّقْل، ويَجْمَعُ بين كل رَطْب ويابس، كحاطِبِ ليلٍ، ومع ذلك ليس بكاذبٍ في نفسه، ولو سَلَّمناه فليس فيما نقله أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمارتحل لتلك الرؤيا، بل هذا ما نحو ما يقومُ الأنبياءُ عليهم السلام لقضاءِ أَمْر، ثُم قد تَحُولُ المشيئةُ بينهم، وبين مُتَمنَّاهم؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلّمخرج إلى أحد يرجو الغَلَبةَ عليهم، فلم يُقَدَّر له، وظَهَرَ أَمْرُ الله، فالذي يَقْدَح في باب النبوة أن يُخْبِرَ النبيُّ بأَمْرٍد، ثم لا يقع كما أخبر به؛ أما تَخَلُّفُ المرادِ عن إرادتِهم فليس بقادِحٍ أصلا، بل وقع مما لا يُحْصى؛ وذلك لأن الرجاءَ والقصد يعتمدانِ على الأسباب الظاهرة، بخلاف الإِخْبار بالغيب، فإِنها تَنْبَعُ من عِلْم الله العليم، فلو ظهرَ فيها الخلافُ لا نهدم الأساس.
صحيح البخاري
(5/294)
---(5/128)
ثُم الذي يحصُل به ثَلْجُ الصَّدْر لو كان فيه قَلْب لحم، أن هذه الواقعة من باب المسارعةِ إلى أَمْر خير، كَفِعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في رؤياه، حيث لم يصبر بعدها، إلا أن دعاه وَلده، وتلَّة للجبينِ، ولا يقول هناك أَحَدٌ: إنه لم تَصْدُق رؤياه، لأنه ذبح الكَبْش، وقد كان رأى في المنام أنه ذَبَح ابنه، وذلك لأنه بَعْد رؤياه لم ينتظر لشيء، غيرَ أنه بادَر إلى إجرائها على ظاهِرها، فأظهره الله تعالى أن الابتلاءَ قد تمَّ بهذا القَدْر، وحَسْب إمرارُ المُدْية عن ذَبْحه فَحَسْب، فلو فَرضنا أن تلك الرؤيا كانت بالمدينة، وفرضنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمبعث للعُمرة لأَجْل تلك الرؤيا، فلا دليلَ فيه، على نه كان في ذِهْنه أَنه يَعْتَمر في تلك السَّنةِ، تأويلا لرؤياه، بل كان من باب التَّسارع إلى الخير، مهما أمكن، ثم حُسِبت عُمْرته الناقصة عن العُمْرة من تلك السَّنة؛ وهذه المسارعةُ ليست من الإِخبار بالغيب في شيءٍ. فالحاصل أنَّ كَشْف الأَمْر المُبههم عند الحاجةِ ليس من الكذب في شيء.
(5/295)
---(5/129)
ثمَّ إنَّ قولَه: «أليس كان يحدِّثُنا»، دليلٌ على تَقادُم عَهْدِهم بذلك القول، لا أنهم أخيروا بذلك عن قريبٍ، ثم سافورا الأَجْل الإِخبار به؛ بل فيه أن الله تعالى يَرْزُق لكم العُمْرة حِينًا ما، والذي تبين آخِرًا أنَّ هذا اللفظ في «الصحيح» يُشْعِر بنفي الرؤيا عندهم، فإِنَّه يدلُّ على أَن ذِكْر الاعتمار عندهم كان بطريقِ المحادثة فيما بينهم، وذلك أيضًا في قديم من الزمان، لا في عَهْد قريب، لا أنه كانت عندهم في ذلك رؤيا بَنُوا عليها سَفَرَهم، ولو كان سفرُهم هذا من أَجْل رؤياه لكان الإِحالةُ عليها أَوْلى من الإِحالة على التحديث، لكونها أدخَل فيه، ولكننَّا لم نجد أحدًا منهم يَذْكُر فيه رؤيا، غير أنهم يذكرون التحديث، وذلك أيضًا كان في القديم منهم. ولذا قُلْت: إنَّ بناءه على نفي كون أن اليبيَّ صلى الله عليه وسلّمرأها بالحديبيةِ. والحاصل أنَّ أخبارَ الغيب التي تأتي إلينا خارقةً للعادة يستحيلُ أن تتخلف عن الواقع، أما في تلك القصة فليس فيها غيرُ الرجاء والإِرادة، وذلك أَمْرٌ آخَرُ، كما علمته.
2731،2732 - قوله: (قال عمر) أي ثُم نَدِمت مما تجاسَرْتُ بين يَدَي رسولِ الله صلى الله عليه وسلّموعَمِلت لكفَّارَتِه ما قدر لي.
(5/296)
---(5/130)
2733 - قوله: (وقال عُقَيلٌ عن الزُّهري)...الخ، نقل تلك القطعةَ من صُلْح الحديبية عن الزُّهري على حِدَة؛ وحاصل المقام أن نكاحَ الكافرةِ كان جائزًا قبل السَّنة السادسة، ثُم حَرَّمة اللهاُ تعالى بعدها، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمصالَحهم على رَدِّه مَنْ جاء منهم مُسْلمًا إلينا، أما ردُّ المؤمناتِ المهاجرات إليهم أيضًا، فقيل: إنَّه كان داخلا في الصُّلح؛ وقيل: لا، وعلى الأوَّل لم يعمل بذلك الشَّرْط، ونَسَخَه القرآنُ قبل العمل، فكانت المسألةُ في تلك الأيام في المرأة التي هاجرت إلينا إنَّ مَهْرَها يُرَدُّ إلى زَوْجها في دار الحرب، إمَّا مِن قِبل زَوْجها في الإِسلام، أو من بيت المال.
صحيح البخاري
وكذلك كان الواجِبُ عليهم أن يَرُدُّوا إلينا مِثْل ما أنفقنا عليها لو ارتدَّت منا امرأةٌ، والعياذ بالله، ولحقتهم، ولكنهم أَبَوا أنْ يفعلوه، وقَبِله أَهْلُ الإِسلام، ثُم حَكَم اللهاُ تعالى بأن لا يُرَدَّ إليهم مَهْرَهم أيضًا، ولكنه يُوضَع في بيت المال، ويُعْطى لمن ارتدَّت امرأتُه، ثُم لَحِقت بدارِ الحرب، عِوَضًا عَمَّا انفق عليها، ولكنه بحمد الله تعالى وعَوْنه لم ارتدت أَن ترتد منَّا امرأةٌ، فَلحِقت بهم، وكان القرآنُ قد دعاهم اوَّلا إلى خِطة معروفةٍ، إلا أنهم لما أبَوها نسخها، وهو معنى قوله: «فلما أَبَوا»، أي لم يُسَلِّموا هذا الشَّرْطُ.
(5/297)
---(5/131)
2731،2732 - قوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}(الممتحنة: 10) واعلم أن عِصْمة الزوجةِ إنَّما تُسْتَمْسك من جهة الزوج، فهوالحافظ لِعِصْمتها. فلما كان الله سبحانه أَمَرَهم أن يفارِقوا أزواجَهم التي كانوا نَكَحُوهُنَّ وهنَّ كوافِرُ، ولم يهاجِرْن معهم، عَبَّر عن مفارَقَتهِنَّ بعد إمساك العصمة، أي إذا كُنَّ دار الحرب، وأنتم في دار الإِسلام، فإِبقاء نكاحِهن إمساكٌ لِعصْمَتِنَّ في دا رالحرب، وذ إنما يناسِبُ بالمؤمنات، أما الكوافِرُ فلا تُناسب لكم أن تُمْسِكوا عصمتَهنَّ بإِبقاء الزوجية، ففارقوهن؛ وحاصله أَنَّ الزوجةَ الكافرة لا تَصْلُح لكم، وأنتم لا تصلحون لهنَّ، فلا يتزوج بعد ذلك مُسلمٌ كافرةًمت تهاى ركهو عصمتين كافر عورتون كى شوهر عصمت تهامى وهتاهى بيوى كى مطلب هيه واكه اب سى مسلم كى تحت مين كافره ببوى نهين ره سكتى.
2733 - قوله: ({فَعَقَبْتُمْ}) ان العُقْبة، وهي أن يَرْكب اثنان على بعيرٍ، واحدًا بعد واحد، ونوبةً بعد نوبة، والمعنى إنْ جاءت نَوْبَتُكم، فذهبت مِن أزواجكم إليهم، فالواجِبُ عليهم أن يَرُدُّوا إليكم ما أَنْفَقتُم عليهنَّ، والتفسيرُ الآخر أنه مأخوذُ مِن العقوبة؛ فالمعنى إذا جاهَدُتُم فأصبتم العقوبة إياهم، فاحفظوا شيئًا مما حصل لما لينفعَكُم عند أداء المَهْر إلى أزواجِهنَّ، وهذا مرجوجٌ عندي.
2733 - قوله: (من الصداق) يتعلق «بيعطى» لا «بما أنفق»، وراجع «الهامش».
2733 - قوله: (ونكح معاويةُّ فيه أنَّ إسلامه لم يكن إلى صُلْح الحديبية، وكان في فَتْح مكَّة.
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ فِي القَرْض
صحيح البخاري
باب ُ المُكَاتَبِ، وَمَا لا يَحِلُّ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّه
وقد مرَّ عن الفقهاء أنَّ الأجَل لازِمُ في الدَّين، دون القَرْض فله أن يطالِبه قبل حلُول الأجل.
(5/298)
---
صحيح البخاري(5/132)
باب ُ مَا يَجُوزُ مِنَ الاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِقْرَارِ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَينَهُمْ، وَإِذَا قَالَ مِائَةً إِلا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَين
دخل المصنِّف في حُكْم الاستثناء، قبل: إن الكلامَ الاستثنائي يعز وجودُه في سار اللغات، غير العرب، وقد استعمله المتأخرون من أهل فارس، كخواجه حافظ، حيث قال:
*ازسر كوثى تورفتن نتوانم كامى ورنه
** اندر دل بيدل سفرى نيست كه نيست
وذلك لأنَّ ظاهِرَة غيرُ معقول، فإِنَّ النَّفْي أَوْلا، ثُم نَقْضُه بِحَرْف الاستثناء، ليس له معنى، ولذا تكلم فيه الرَّضِي في «شرح الكافية»، وحَقَّق معناه. وحاصِله أن المُسْتَثْنى يؤخَذُ بمعنى المُسْتَثْنى منه في الذهن أولا، ثُمَّ يُعتبر الحُكْم على المجموع، فيعتبر أولا، القوم إلا زيد، ثُمَ يَدْخُل على هذا المجموع جاءني، فلا يلزم نَقْض النفي، وطَوَّل في العبارة بلا طائل؛ وهذا تخريجٌ باعتبارِ الذِّهن فقط. وقال في «الدر المختار»: إن الاستثناءَ عندنا تكلم بالباقي بعد الثنيا، فأخذ الحكم في المجموع دون الأجزاء، كما قاله الرَّضِي، وقال الشافعية: إنَّ في المُسْتَثْنى أيضًا حُكْمًا على خلافِ ما في المُسْتَثْنى منه. قلت: والراجِحُ عندي أن فيه حُكْمًا أيضًا، لكن في مَرْتبة الإِشارة دون العبارة، كما جعله الشافعية؛ وهو الذي ذهب إليه ابنُ الهُمام، فراجع البحث من «التحرير» لابن الهُمام.
قوله: (كَرِيِّه) كرايه دار.
قوله: (فقال شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَط على نَفْسِه طائعًا غَيْرَ مُكْره، فهو عليه) وقد مرَّ من قبل أن الأجير الخاص يستحِقُّ الأجرة بمجرد تسليمِ النَّفس عندنا، وإنْ لم يَبْرَح قاعدًا.
قوله: (فقَضى عليه) وهذه المسألةُ تدخل عندنا في خِيار النَّقْد، والخيارُ في «الهداية» ثلاثةُ أنواع فقط: خيارُ شَرْط، ورُؤية، وعَيْب، وهي في الفِقه تبلغ إلى تسعةِ أقسام.
(5/299)
---(5/133)
2636 - قوله: (مئة إلا واحدًا) غَرَضُ المصنِّف ثبوتُ الكلام الاستثنائي من الأحاديث؛ ويمكن أن يكون إشارة إلى الاستثناء من العَدَد، فإِنَّ أكثرَ النُّحاة إلى نَفْيه، حتى إنهم ذكروا النِّكاتِ لقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} (العنكبوت: 14) ، فانه استثناءٌ من العددِ، وذا لا يجوزِ على طَوْرِهم.
2736 - قوله: (مَنْ أَحْصَاها)...الخ، أي مَنْ حَفِظها، وهو المرادُ عند المُدِّثين، وقال الصوفيةُ: التخلُّق.
صحيح البخاري
باب ُ الشُّرُوطِ فِي الوَقْف
ولا ريب أنه يخالف مذهبَ الحنفية على ما في «المبسوط» وأما على ما قررناه من «الحلوى» فلا يخالف.
2737 - قوله: (تَصَدَّق بها) أي بَغْلَته.
2737 - قوله: (غير مَتَأَثَّلٍ مالا) أي لا يريد به التمول، بل قضاءَ حاجته فقط.
صحيح البخاري
كتاب الوَصَايَا
صحيح البخاري
باب الوَصَايَا، وَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
صحيح البخاري
باب أَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاس
2738 - قوله: (ما حقُّ امرىءٍ مُسْلِم شَيءٌ يُوصِي فيه، يَبيتُ لَيْلَتين، إلا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدِهِ)قال بعضهمّ إنَّ ما حقُّ امرىءٍ «مبتدأ، ويَبيتُ ليلتين» خبره، فتدخل الليلةُ الواحدة تحت المسامحة فلا يجوز له أن يبيتَ ليلتين، ولا تكونُ وصيتُه مكتوبةً عنده. وقال بعضُهم: إنَّ خبَرها «إلا ووَصِيَّته مكتوبةٌ عنده». وحينئذ لا يبقى له في الليلةِ أيضًا حقُّ، وخيرُ «ما» الحجازية، يأتي بحرف الاستثناء أيضًا. البحث عند - الطِّيبي.
2739 - قوله: (خَعَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم، والخَتَنُ ههنا بمعنى أَخ الزوجة، وقد رأيتُ إطلاقه في كلِّ ذي قرابةٍ للزوجة.
(5/300)
---(5/134)
2740 - قوله: (أَوْصى بكِتَابِ الله)، يُحتمل أن تكونَ الباء للاستعانة، أو صلةً دخلت عل المفعول به، قال سِيبَويةٍ، لا معنى لها إلا الإِلْصَاق، وما ذكروه من المعاني فكلها مَوراردُ لتحقُّقِه.
قوله: (ثقلين) أي وقرين عظيمين، ينبغي الاعتناءُ بهما، وهما القرآنُ والعِتْرة، كما سيجيء في «باب» يترك وَرَثَتْهُ أغيناءُ»..الخ.
2742 - قوله: (عَسى اللهاُ أَنْ يَرْفَعَك)- أي مِن مرضِك هذا - وفيه بشارةٌ لِصِحَّته، وقد تكلمنا على حديثه مفصَّلا فيما مرّ.
صحيح البخاري
باب الوَصِيَّةِ بِالثُّلُث
صحيح البخاري
باب قَوْلِ المُوصِي لِوَصِيِّهِ: تَعَاهَدْ وَلَدِي، وَما يَجُوزُ لِلوَصِيِّ مِنَ الدَّعْوَى
قوله: (وقال الحسنُ: لا يجوزُ للذِّي وصيةٌ إلا الثُّلث) أي فهو أيضًا كالمسلمين في هذا الباب.
2743 - قوله: (لو غصَّ النَّاسُ إلى الرُّبْعِ) أي لو نَقَصَ.
فائدة: (التقريرات التي تؤيد الحنفية في تعيين المسح بالربع)
(5/301)
---(5/135)
واعلم أن تقرير الحنفيةفي تعيين رُبُع الرأس في باب المَسْح عديدة. والذي نحا إليه صاحبُ «الهداية» هو أن الآيةُ مُجْمَلةٌ، فالتُحِق الحديثُ بيانًا لها، وردَّه الشيخُ ابن الهمام، وذكر من عند نفسه توجيهًا. وكذلك تَعَقَّب عليه في«باب الحج»، فذكَر أنَّ حَلْقَ الرُّبْع يجزىءُ عند إمَامِنا، كما في المسحِ. وقال: إنه قياسِ شبه، وهو غيرُ مُعتبَر، فإِنَّا لا نعرفُ فيما معنَىً يقتضِي الرُّبعية. فَتَرَك مسألةَ الحنفية. قلت: وليس الأمرُ كما زعم الشيخ، وليس حَلَقُ الرُّبع في الحج من باب القياس على المسح، بل هو بابٍ آخَر قد ذكرناه في مواضع؛ وهو أن أَصْل البَحْث في أن الأَمحر إذا وَرَدَ بإِيقاع فِعْل على محل، هل يقتضي ذلك استيعابَه أم لا؟ فذهب نَظْر الإِمام الأعظم إلى أنه لا يقتضِيه، بل الرُّبُع منه يقومُ مقامَ الكُّلِّ، فاعتبره في «باب المسح»، والحَلْق في الحج»، و«كشف العورة»، و«نجاسة الثوب»، و«الأضحية» وغيرها». وذهب نَظَرُ الشافعية إلى أَنَّ أَدنى ما يُطلق عليه الاسمُ يُحْكِي عن الكُّلِّ، ونَظر مالك إلى أنه يقتضي استيعابَ ذلك المَحِّل. ومن ههنا اختلفت تفاريعُهم في تلك المسائل. وحينئذٍ لا يرد عليه ما أورده الشيخُ ابنُ الهمام.
(5/302)
---(5/136)
ثم إنه لا رَيْب أن الشَّيْخَ ابن الهُمام أَصُولي حاذق، فانظر كيف آخذ على صاحب «الهداية»، وكيف فَرَّقَ بين المِقَيس، والمقيس عليه. بخلاف الحافظِ ابن حجر، فإِنَّه مع كونِه حافظ بلا مِرية، ومُحَدِّثًا بلا فِرية، ليس له شأنٌ في الأُصول، كالشيخ ابن الهمام. ولذا احتجَّ للقيام في مولد النِّبي صلى الله عليه وسلّممن قوله صلى الله عليه وسلّم «قوموا لسَيِّدكم»، مع الفارِق البيِّنِ بين الوضعين، فإِنَّ القيام في المِقَيس عليه للإِعانة، لأنه كان مَجْروحًا، وهو في المَقِيس للتعظيم، وكذا الحُكْم في المِقيس عليه من عالم الأجسام، وفي المِقيس من عالم الأرواح. وكذا عِلَّة القيام فيالمِقيس عليه مُتحقِّقة، وفي المقيس موهومة؛ وبالجملة قياسُه فاسِدُ من وجوه؛ لكونِهِ قياسَ عالم الأرواح على عالم الأجسام، والموهوم على المتَحققِ، فكم من فَرْق بين مَدَارِك الشَّيخ، ومدارِك الحافظ في هذا الباب، ولا تحزن، فإِنَّ الله تعالى خَلَقَ للفُنون رِجالا، فالرجلُ وفَنَّه، والرَّجل وصَنْعُه.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَوْمَأَ المَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جازَت
أخرج المُصنِّفُ تَحْته قِصَّةَ رَضِّ اليهودي رأسَ جارية، وأَخْذ القِصاص منه بإِيماء؛ قلت: ولا يدلُّ الحديثُ إلا على أَنَه فَتَّش الأَمْرَ بإِيمائها.
أما رَرضَّ رأسه، فلم يكن إلا بعد ما أعترف به هو. ثُم العِبرة بالإِيماء، حيث كان ليس إلا ديانةً، أما في القضاءِ فلا اعتبارَ له.
صحيح البخاري
باب لا وَصِيَّةَ لِوَارِث
(5/303)
---(5/137)
وهذا الحديثُ ضعيفٌ باتفاق، مع ثبوت حُكْمه بالإِجماع، ولذا أخرجه المصنِّف في ترجمته، وإلا فإِنْه لا يأتي بالأحاديث الضَّعاف مِثْله، ثم لم يعبِّر عنه بالحديث، على ما عرفت من دَأبه، فيما مرّ، وبَحَث فيه ابنُ القَطَّان أن الحديثَ الضعيف إذا انعقد عليه الإِجماع هل ينقلب صحيحًا أَم لا؟ والمشهور الآن عند المحدِّثين أنه يبقى على حاله، والعُمْدة عنده في هذا الباب هو حال الإِسناد فقط، فلا يَحْكُمون بالصِّحة على حديثٍ راوٍ ضعيفٌ، وذهب بعضُهم إلى أن الحديثَ إذا تأيَّد بالعملِ ارتقى من حال الضَّعْف إلى مرتبة القبول.g
قلت: وهو الأَوْجَهُ عندي، وإن كَبُر على المشغوفِين بالإِسناد. فإِني قد بلوت حالَهم في تَجَازُفِهم، وتسامحهم، وتماكُسِهم بهذا الباب أيضًا. واعتبارُ الواقع عندي أولى مِن المَشْي على القواعد. وإنَّما القواعدُ للفَصْل فيما لم يَنْكشِف أمرُه من الخارج على وَجْهِه، فاتِّباع الواقِع أَوْلى، والتمسُّك به أَحْرَى.
صحيح البخاري
باب الصَّدَقَةِ عِنْدَ المَوْت
2748 - قوله: (قُلت: لفُلانٍ كذا، ولفُلان كذا، وقد كانَ لِفُلان) يعني أنك تُوصِي المال لواحدٍ، والشَّرْع يعطِيه لآخر، أو معناه أنه صار لفُلانٍ قبل إيصائك له. وهذا الاختلافُ يُبني على أن النَّكِره إذا أُعِيدت نكرةً، فهل تكونُ غيَر الأُلى أَم عَيْنَها؟.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ}
فالدَّيْن يقدَّمُ في الأَداء، وإنْ تأخَّر ذِكْرًا.
قوله: (ويُذْكَرُ أن شُرَيحًا...) أجازوا إقرار المريض بدَيْن، وإقراره إنَّما يُعتبر عندنا إذا كان سَبَبُهُ معروفًا، وإلا لا. وراجع مسائله في «الهداية».
(5/304)
---
قوله: وقال الحسنُ: أَحَقُّ ما يقصد به الرجل آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة) يعني إذا لم يُعتبر إقراره، وقد بلغت الروحُ فمتى يُعتبر به.(5/138)
قوله: (وقال إبراهيم والحَكَمُ: إذا أَبْرأَ الوَارِثَ من الدَّيْنِ بَرِيءَ) وفيه تصيلٌ في قِقْهنا.
وعلم أن أصحابنا اختلفوا في الإِقرار أنه إِخْبَار، إو إنشاء؟ وثمرةُ الخِلاف تظهَرُ فيما (إِذا) عَلِم المُقَرُّ له، أَنَّ المِقرَّ لم يُقِرُّ له بشيءِ في الخارج، فإِنَّ كان إِخْبارًا لا يحِلُ له أَخْذُ المال المُقَرِّ به ديانةً وإنْ حَك2 القاضي، وإنْ كان إنشاءً جاز له أَخْذُه. وقال في «الدر المختار»: إنه إنشاءٌ مِن وَجْه، وإخبارٌ من وَجْه. وهذا التقسيمُ اعتبره الفقهاءُ ولا يعرِفه النُّحاةُ، إلا أَنَّ عبد القاهر، والزُّمخّشَرِي اختلفا في أن المتكلم إذا تكلم بالحمد لله، وأراد به إنشاء الحمد، فهل يخرج هذا الكلام من نوعه أم لا؟.
قوله: (أَنْ لا تُكْشَفَ)، أي لا تفتش.
قوله: (كُنت أَعْتَقْقُك)..الخ فهذا إِخْبار، ويصدق به؛
وقوله: (قال بعضُ الناس: لا يجوزُ إقْرَارُهُ لسوءِ الظَّن به)...الخ. فنقل أولا القطعيات التي تدلُّ على عبرة إقرار المريض، ثُم توجَّه إلى الإِيراد على الحنفية، فقال: إنَّ بَعْضَ الناس يُسيءُ الظنَّ برجل على شرف الرحيل، ولا يظن بأَحدٍ أنه يكذِب في مِثْل هذا الموطن.
(5/305)
---
قوله: (ثم استحسن، فقال: يجوزُ إقرارُه بالودِيعة)...الخ. يعني نفي أولا إقراره، ثُم جعل يَسْتثني منه، لما لاح له دلائلُ خاصَّةٌ، وموانع جزئية. وحاصلُ إيرادَه أمران: الأوَّل أن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمنهى عن سوءِ الظنِّ، ولم يعمل به أبو حنيفة، فلم يَنْفُذ إقراره لسوءِ الظنِّ به؛ والثاني أَنَّ الله تعالى أمر أن تُؤدَّى الأماناتُ إلى أهلها، فوجب أن تردّ أمانةُ المقرِّ له إليه. ولو لم تعتبر إقرارَه، يلزم مَنْعُ الأمانة عن صاحبها، وركوبُ حقوقِ المسلمين على رقبته من أجل إقراره، ومِنْعاها عنهم، ولا يحِلّ له ذلك.(5/139)
قلنا: إنَّك قد عَلِمت أن الإِقَرار إذا كان سبَبُه معلومًا، فهو مُعتَبرٌ عندنات أيضًا، ولا مناقضةَ بعبرةِ الوَدِيعة وغيرِها، فإِنَّ الويعةَ ليست من الإِقرار في شيء. فإِنها ليست تمليكًا جديدًا. بَقيت المضارَبةُ، فليست من الإِقرار المعروف. أما الجوابُ عن الأَمْر الأَوَّل. فنقول: إنَّ الحديثَ مَحَلُّه فيما إذا كانَ إساءةُ الظنِّ بلا وَجْه، أما إذا كان مَوْضِعَ رَيْبٍ وريبةٍ، ففيه قوله: «اتفقوا مواضِعَ التُّهَم». وأما الجوابِ عن الأَمْر الثاني فنقول: إنَّا نلاحِظُ حقَّ الوَرَثة أيضًا؛ فأنتم نظرتُم إلى حَقِّ المُقرِّ له، ونحنُ نَظَرْنا إلى حقِّ الوَرَثة، فلزم عليكم تَرْكُ النَّظَرِ حقَّ الوَرَثة كما ألزمتُم علينا تَرْكَ النَّطَر إلى حقِّ المُقرِّ له؛ وأما الجوابُ عن الآيةِ فبأنَّها خارجةُ عن مَوْرِد النِّزاع، لأنه لا كلامَ في ردِّ الأمانات، وإنم الكلام في إقرارِه.
صحيح البخاري
(5/306)
---
ولنا أن نقولَ أيضًا: إن حقَّ الورَثةِ لِما تعلَّق أن الإِمامَ الهُمام نَظَر إلى أَنَّ الأماناتِ والودائعَ إخبارٌ بأَمْرٍ ماضٍ، فإِذا أَخْبر به سلمنا قوله، ولم نكذبه، بخلافِ الإِقرار، فإِنَّه إنشاءٌ من وَجْه، فَوَسِع لنا أن لا تُنْفِذه بظهورِ حقِّ الوَرَثة؛ فنظرنا إلى أَنَّ حفاظةَ حقِّ الورثة أَقْدَمُ من حفاظةِ حقِّ الغير، ونظر المصنِّف بالعكس.
فائدة:(تعريف الاستحسان)
واعلم أنَّ المشهورَ في تعريف الاستحسان أنه قِياسُ خفيُّ، وحقَّقَ الشيخُ ابنُ الهُمام أنه ما خالِف القِياسَ الجليِّ، سواء كان قياسًا خفيًا، أو نَصًّا، أو غير ذلك؛ ولا ينبغي القَصْر على القِياس الخفي، فإِنَّ الاستحسان قد يكون بالنصِّ أيضًا.
فائدة أخرى(5/140)
واعلم أن المُجتَهِدين لم يكونوا برآءَ من الغَلَظ، فاحتوى عِلْمُهِم على الصوابِ والخطأ من الأَصْل؛ نعم كانت علومُ الأنبياء عليهم السلام صِدْقًا مَحْضًا، لا تشوبُها رائحةٌ من الكِذب، لكنَّ الرِّزِيَّة، حيثُ لم تِنْقل إلينا على طرفتها، واختَلَط فيها الرواةُ، كما قيل.
*هم نقلوا عني الذي لم أفه به
** وما آفةُ الأَخْبارِ إلا رُوَاتُها
ولكنَّ اللهاَ تعالى خَلَق أقوامًا بيَّنُوا أغلاطَهم، ونبهوا على أوهامهم. فيمزوا المخيض عن الرغوة، فجزاهم الله تعالى خيرًا، ولولاهم لبقينا في ظُلْمةٍ وحَيْرَة.
صحيح البخاري
باب تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ}(النساء: 12)
وهي المسألةُ عندنا.
2750 - قوله: (بِسَخَاوَةِ نَفْس) وقد مرَّ أن السَّخَاوة كما تكونُ في الإِعطاء، كذلك تكون في الأَخْذ أيضًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصى لأَقارِبِهِ، وَمَنِ الأَقَارِب
صحيح البخاري
باب هَل يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالوَلَدُ فِي الأَقارِب
(5/307)
---
شَرَع المصنِّف في مسائل بالوَقْف، ووافقِ في أكثرِ مسائله صاحِبي أبي حنيفة، وذلك لأنَّه جَعَل الاساسَ «كتاب» محمد بن عبد اللهاِ الأَنْصاري الذي صَنَّفه في مسائل الوَقْف، والأَنْصاري هذا من أرشدِ تلامِذةِ زُفَر، لازمه إلى أَنْ تُوفيّ، وإنما يُقال له: الأنصاري لكونِه في السِّبْط السادس من أَنس بن مالك.
قوله: (أَوْصَى لأَقارِبه) أي أوصى بهذا اللفظ. ثُم جرى النزاع في تعيين ما صَدُقِ الأقارب مَنْ هم؟ قلت: وهذا مما لا يمكن تَعْيينه، لأنه مُخْتَلِفٌ باختلاف العَصْر، وكان العُرْف في عَصْر أبي حنيفة بإِطلاقه على كلِّ ذي رَحِم مَحْر2. وراجِع «الهامش»، فإِنَّه أَنْفعُ جِدًا.(5/141)
قوله: (وقال أَنْصاريُّ)..الخ والأنصاريُّ هذا هو محمدُ بن عبد الله الأنصاري. وكان يقولُ بجواز وَقْف الروبية أيضًا، بأن يُحْبَس أَصْلها، وتُنْفَق بِمَنْفَعَتِها، فَوَقْفُ النَّقْد صحِيحٌ عنده، وكان عليه العملُ في القسطنطينية. هكذا في «العَالْمِكِيرية» عن الأنصاريِّ، ولم يُدْرِكه بَعْضُهم مَن هو، قلت: هو هذا ثُمَّ إنَّ المصنِّف ذَكعر بَعْضعه نسب حسان، وأبي طلحة لتظهِرَ قرابتُهما.
قوله: (وهُو الأَبُ الثَّالِثُ) أي حَرَام بن عَمْرو.
قوله: وحَرَام بن عَمْرو. إلى قوله: النَّجَّار) هذه العبارةُ زائدةٌ في بعض النُّسَخ ولا طائل تحتها، كما في الهامش.
قوله: وقال بَعْضُهم)...الخ، وهو أبو يوسف، والظاهر أَنَّه وَافَقَه. فليس المرادُ من «بعض الناس» أبا حنيفةَ دائمًا، ولا أنه للردِّ دائمًا، كما عَلِمته مِن قبل.
صحيح البخاري
باب هَل يَنْتَفِعُ الوَاقِفُ بِوَقْفِه
ويجوزُ الانتفاعُ به عندنا أيضًا. وأخرج المصنِّفُ تحت حديثَ رُكوب الهَدْي، ومعلومٌ أن الهدى غير الوقف، ولكنَّ المصنِّف لا يُبالي بهذه الفروقِ، ويستشهِدُ من أحدِ البابين على الآخر.
صحيح البخاري
(5/308)
---
باب إِذَا وَقَفَ شَيئًا فَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى غَيرِهِ فَهُوَ جائِز
ومحطُّه أنَّ الوَقْف هل يَتِم بدون تسلِيمِه إلى مُتَوَلِّي أم لا؟(5/142)
ففيه خلاف بين أبي يوسِف، ومحمد: فقال أبو يُوسف: إن يَتِم وإن لم يُسلِّمه إلى متوليِّ، لأنه كالإِعتاق عنده، بجامع أَنَّ المِلْك فيهما يزول لا إلى مالك. وقال محمد: لا يَتِم بدونه، لأنه تَصَدُّقٌ، فلا بد مِن القبض. وتفصيله أَنَّ أَصْل الخلافِ في معنى الوَقْف، ففهِم أبو يوسف. أنه اسمٌ لِرَفْع علائق المالكية، ونظيرُه موجودٌ في الشَّرْع، وهو الإِعتاق، وذِهَب محمدٌ إلى أَنَّ رَفْع المِلْك لا إلى مالك مما لا نظيلرَ له في الشَّرْع، نعم فيه تحويلُ شيء مِنْ مِلك إلى مِلْك، كالصدقة، والهبة، فيكون أقرب إليه، فجعله في حُكْم التصدُّق، واختلف في الفَتْوى، وكذا في تصحِيحه، واخترنا مذهبَ أبي يوسفِ، واختبار المصنف أيضًا مذهب أبي يوسف.
وإنَّما لم يُعَرِّج ههنا إلى مسائل الشافعي، لما عَلِمت أَنَّه أَخذ مسائلَ هذا البابِ من كتاب الأنصاريِّ، أما مسائلُ أبي حنيفةَ، فَقلَّت في هذا الباب، لكون حقيقةِ الوَقْف يسيرةَ عنده، على ما علمته. ويُستفاد من عبارةِ المصنِّف الآتية أنَّه تَوَجَّه فيه إلى مسألةٍ أَخْرى، وهي أنه هل يتولى الوَقْفَ بنفسِه، أَم يُولِّي عليه غيَره؟ والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
باب إِذَا قالَ: دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلفُقَرَاءِ أَوْ غَيرِهِمْ، فَهُوَ جائِزٌ وَيَضَعُهَا في الأَقْرَبِينَ أَوْ حَيثُ أَرَاد
صحيح البخاري
باب إِذَا قالَ: أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ عَنْ أُمِّي فَهُوَ جائِزٌ،وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذلِك
يعني أنه لا يُشترط لتماميةِ الوَقْف بيانُ المصارِف. وهو مذهب أبي يوسف، واختاره المصنِّف أيضًا خلافًا لمحمد.
(5/309)
---
قوله: (قال بَعْضُهم)...الخ، أرادَ به مُحَمَّدًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا تَصَدَّقَ، أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مالِهِ، أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ، أَوْ دَوَابِّهِ، فَهُوَ جائِز(5/143)
عَطْفُ على وَقْف المُشاع، وقد وسع. قيل: ذلك في هِبةِ المشاع أيضًا. والمسألةُ فيه عندنا أَنَّ الواقف إنْ كان حَيًّا يُستفسر عنه. أما قوله: «إنَّ مِن توبتي أن أنخلِعَ من مالي صدقةً إلى اللهاِ ورسولِه»، فإنَّما يَصْلُح حُجَّةً للمصنِّف، لو كان قاله على طريقِ الوَقف، وإن كان على طريقِ الاستشارةِ، فلا حُجَّةَ له فيه.
صحيح البخاري
باب مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ، ثُمَّ رَدَّ الوَكِيلُ إِلَيه
2758 - قوله: (قد قِبَلْناه مِنِك، وَرَدَدْناه عليك، فاجْعَلْه في أَقْربين) وفيه الترجمةُ.
2758 - قوله: (وباع حَسَّانُ حِصَّتَه) أي بَعْدَهِ بِزَمنً.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: {وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبى وَاليَتَامى وَالمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِنْهُ} (النساء: 8)
والحُكْم فيه استجبابيُّ.
صحيح البخاري
باب ما يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُتَوَفَّى فَجْأَةً أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنِ المَيِّت
يعني أنَّ أداءَ الدُّيونِ والتصدُّقِ وغيرِها، كلّها مُعْتبرٌ عنِ الميتِ.
صحيح البخاري
باب الإِشْهَادِ في الوَقْفِ وَالصَّدَقَة
لا ريبَ في كونه مفيدًا، وإن صحَّ بدونه أيضًا. أما النكاح، فإِنَّ الإِشهادَ يُشْترطُ لانعقادِه أيضًا، يخلاف سائرِ العُقود.
صحيح البخاري
(5/310)
---
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَءاتُواْ الْيَتَمَى أَمْولَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَهُمْ إِلَى أَمْولِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا في اليَتَامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ},وَإِنْ خِفتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا في اليَتَامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (النساء: 2، 3)(5/144)
واعلم أَنهم اختلفوا في التَّبدّل، والتَّبديل، والإِبدال، والاستبدال، ما يكونُ فيه المتروكُ، وما يكونُ المأخوذ؟ والمتروكُ في قوله تعالى: {ولا تَتَبدَّلُوا الخَبِيثَ بالضيِّب} (النِّساء: 2) الخَبِيثُ، والمأخوذُ الطيِّب. وراجع الفَرْق فيه في «شَرْح الإِحياء» من التنبيه في الظاءَ، والضاد، وهو مهم، لأنه يُحتاج إليه في مواضع من تفسير القرآن.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
صحيح البخاري
باب وَما لِلوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ في مالِ اليَتِيمِ، وَما يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِه
قوله: (ما للوِصيِّ انْ يعْملَ في مالِ اليَتِيم، وما يَأْكُلُ منه بِقَدْر عُمَالَتِهِ) أي بطريقِ التجارة. وهذا أصلً، لِما كان أبو يوسف يَفْعَلُه في أموال اليتامى، وقد بلغ ثبوتُه من الحديثِ إلى القرآنِ وقد قَرَّرناه سابقًا، فمن اعترض عليه، فمِن سوءِ ديانتِه، وقِلَّة عِلْمه.
(5/311)
---
2764 - قوله: (تَصَدَّق بأَصْلِهِ لا يُباعُ، ولا يُوهَبُ، ولا يُورَثُ)...الخ، ولعلَ الراوي قَدَّم فيه وأَخَّر، فورد الحديثُ على الحنفيةِ لدلالتِه على أن الوَقف يَخْرج عن مِلك الواقف. والترتيبُ الصحيحُ ما عند الترمذي، قال: فإِنْ شِئت حَبَسْت أَصْلَها، وتَصَدَّقت بها. فتصدَّق بها عُمُر: أنها لا يُباعُ أَصْلُها، ولا يُوهَب، ولا يُورَثُ..الخ. وهذا عينُ مذهبِ الحنفية، أي حَبْسُ الأَصْل والتصدُّق بالمَنْفعةِ، فكانت هذه الألفاظُ من كلام عمَر، ونقله الراوي في كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْولَ الْيَتَمَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
2766 - قوله: (الشِّرْكُ بالله) وهو مِن الكبائرِ.
تعريف الكبيرة(5/145)
واعلم أنهم اختلفوا في تعديد الكبائر، وتحديدها، والظاهر أن ما جاء الوعيد عليها في القاطع، أو ما ثَبَت بقياسِ المجتهد على القاطع، فكلُّها كبائرُ.
فائدة (حول تعريف الفرض)
(5/312)
---
واعلم أنه سبق إلى بَعْض الأوهام أن الفَرْض لا يَثْبُت إلا بالقطعيِّ، وليس بصحيح فإِنَّ الفَرْض كما يَثْبُت بالقطعي، كذلك يَثْبت بالظنِّي، حتى بِالقياس أيضًا؛ فيجوزُ للمجتهد أن يقول: إن هذا الجزءَ مِثْلُ هذا الجزءِ المنصوص عندي، فيكون فرْضًا مِثْلَه، إلا أَنَّ الفَرْق بين الفَرْضَيْن: أَنَّ الفَرْضَ الثابِتَ بالقاطع يكونُ قَطْعيًا، والثابِتَ بالقياس، أو بظنِّي آخر يكون ظنيًا. وذلك لأنَّهم قَسَموا ما ثبت بالكتابِ إلى أقسام، وهو قطعيٌّ قَطْعًا، ثُم قالوا: إنَّ كلَّ ما ثبتِ بالكتاب يثبت بسائر الأدلة أيضًا، فاكتفوا بالإِجمال عن التفصي، فاشتَبه الأَمْرُ على بعضهم، وزعم أَنَّ الفَرْض لا يَثْبُت إلا بالقاطع، حتى أَنَّه عَرَّف الفَرْض بما يكون ثابتًا بالقاطع، مع أنه تعريفٌ للقطعيِّ منه، لا مطلقًا، فإِنَّه قد يكونُ ظنيًا أيضًا، وذا يَثْبُت من الظبيِّ.
2767 - قوله: (وكان ابنُ سِيرين)...الخ، وفي «الكنز» أنه يجعل الوصيّ الجَدَّ وَوَصِيّه، والقاضي وَوَصِيّه، وقد تكون الأمُ أيضًا وصيًّا، فيجوز فهم التصرُّفُ فَحَسْب.
حكاية
رُوي أن تلميذًا من تلامذةِ محمدٍ مات، وكان معه في سفر، فباع محمدٌ مالَه، وكَفَّنه فيه. فقال له النَّاسُ: كيف فَعَلْت، ولم يأذن لك القاضي؟ فتلا محمدُ بنُ الحسن قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة: 22).
قلت: هذا لم يكن من باب الفقه، بل كان عملا بالدِّيانة، كما قال هؤلاء السَّلَفُ: أن يجتَمِع إليه نُصحاؤه، ثم لينظروا في الذي هو خَيْر.
صحيح البخاري
باب اسْتِخْدَامِ اليَتِيمِ في السَّفرِ وَالحَضَرِ، إِذَا كانَ صَلاحًا لَهُ،وَنَظَرِ الأُمِّ أَوْ زَوْجِهَا لِليَتِيم
((5/146)
5/313)
---
أما نَظُرُ الأُم فمذكورٌ في الفقه أيضًا. وأما نَظَرُ زوجها سوتيلا باب فلم يذكر فيه، ولكن إذا لم يتهمه أَهُلُ المحلة، ورأواه ناصحًا له، فلا بأس به عند عَدِم التقاضي. ألا ترى أن محمدًا أيضًا رَاعى هذا الباب، مع كونِه باني الفقْه، ومؤسِّسًا له.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الحُدُودَ فَهُوَ جائزٌ، وَكَذلِكَ الصَّدَقَة
وإنما أَجازه المصنِّف، لأنه نَظَر إلى الواقف أنه وإنْ أَبهم الحُدودَ في الحالة الراهنة لكنه يُبَيِّنُها عن قريبٍ عند إجرائه، فيزول الإِبهام. وأما عند فقهائنا فَتَعْيينُ الحدودِ ضروريٌّ.
قلت: وهذا إذا لم تكن الأَرْضُ معروفةًت، أما إذا كانت معروفةً بحدُودِها وأطرافِها، فلا حاجة إليه. ولما كانت بَيْرَ حَاء مُسمّى مُعَيّنًا في الخارج، لم يَرِد علينا الحديثُ.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَوْقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جائز
واعلم أن وَقْف المُشاع لا يجوز عند أبي يوسف، ولا عند محمد؛ غير أَنَّ أبا يوسف تَحَمَّل الشيوع أولا، وأوجب عليه التقسيمَ آخِرًا، وأما محمدٌ فلمَّا كان الوَقْفَ عنده في حُكْم الصدقة، لم يتحملهُ مُطلقًا، بقي الحديث، فالوَقْفُ فيه وإن كان في المُشاع لكنه المسجد. وهذا يَنْفُذ اتفاقًا، ونتقل إلى مِلْك الله تعالى اتفاقًا.
صحيح البخاري
باب الوَقْفِ كَيفَ يُكْتَبُ؟
ولما كان الوَقْف معاملةً دائمةً، ناسب لها الكتابة.
ثُم اعلم أَني ما رأيتُ وَقْفًا من الأَوقاف إلا وقد تسلَّط علي الناسُ بعد بُرْهة، حتى أوقاف الأنبياء عليهم السلام، لا تجدها اليوم اسمًا، ولا رسمًا. كيف ومكَّة شرَّفها اللهاُ تعالى، وُقِفَت نحو عشرة مرات، ثُم الناس تغلبوا عليها، فما بالُ سائرِ الأَوْقاف؟
صحيح البخاري
(5/314)
---
باب الوَقْفِ لِلغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَالضَّيف
صحيح البخاري
باب وَقْفِ الأَرْضِ لِلمَسْجِد(5/147)
يعني أن الوقف ليس صدقةً مْحْضةً، فيجوز أن تُصْرَفَ عَنَّه إلى الأغنياء أيضًا، وفي «الهداية»: إن التصدُّق على الغنيِّ هبةٌ، والهِبَةَ للفقير تَصدُّق.
صحيح البخاري
باب وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالكُرَاعِ وَالعُرُوضِ وَالصَّامِت
صحيح البخاري
باب نَفَقَةِ القَيِّمِ لِلوَقْف
واعلم أنَّ وَقْفَ المَنْقول لا يَصِحُّ على أصل المذهب، وأجازه محمدٌ فيما تَعَارَفَهُ النَّاسُ، بقي حديثُ تَصَدُّقِ عمرَ بِفرَسه، فهو في التصدُّقِ دون الوَقْف.
قوله: (وقال الزُّهْريُّ: فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دينارٍ في سبيلِ اللهاِ)...الخ، وهي المسألةُ التي نَقَلْتُها من الأَنْصاري، أمن جواز وَقْف النَّقْد، كما مرَّ، ولمالم يَعْرِفه الناسُ حكموا بكونِه مجهولا. قلت: سبحان الله كيف، وهو تلميذُ زُفَر، وشَيخٌ للبخاري؟.
2776 - قوله: (ما تَركْتُ بعد نفقِة نسائي، ومَؤنَةِ عاملي، فَهُو صَدَقة)، فَرَّق بينَ النفقةِ، والمؤُنة؛ فاستعمل لَفْ النفقةِ في نسائهِ، والمؤُنة في عامليه، لأن المَؤنة ما يُنْفَق، ويُعْطَى على قدْر العمل، بخلافِ النَّفقة، فإِنَّ لا يُلاحظ فيها ذلك، فهي أوسعُ، والمؤنة أَضيقُ، وترجمتهالاكت.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا، وَاشْتَرَطَ لِنَفسِهِ مِثْلَ دِلاءِ المُسْلِمِين
صحيح البخاري
باب إِذَا قالَ الوَاقِفُ: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ جائِز
(5/315)
---
يعني يَصِحُّ أن يَشْترِط الوَاقِفُ، ولم يَذْكُر نَفْسَه في اللفظ، ونوى به، ينبغي أن يكون صحيحًا. وذلك لأنهم اختلفوا في باب الأَيْمان، أنه هل يُعتبرُ التَّخصِيصُ في اللفظ العام؟ فَذَهب الخَصَّافُ إلى أنه يُعْتبر قضاءً وديانةً، فإِنْ قال: والله لا آكل طعامًا، ونوى به طعامًا دون طعام، صُدَّق عنده؛ وقال الآخرون: يُعتبر دِيانةً لا قضاءً؛(5/148)
قلت: فإِذا اعتُبرت النِّيةُ في تخصيص العام، ينبغي أن تُعتبر في باب الوَقْف أيضًا، فلا بُدَّ أن يُسأل عن نِيئه، إلا أنه لا مُنازِع في تخصيص قوله: واللهاِ لا آكُل طعامًا، فيعتبر بلا نِزاع ولا دفاع، بخلافه في باب الوقف، فإِنَّه إذا عَمَّ في اللفظ، ثم نوى الخاصَّ زاحمهُ مُستحقّون، ومصارفه في التخصيص، لكونِه خلافًا للمتبادر.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
صحيح البخاري
باب قَضَاءِ الوَصِيِّ دُيُونَ المَيِّتِ بِغَيرِ مَحْضَرٍ مِنَ الوَرَثَة
(5/316)
---(5/149)
واعلم أنَّ أَوَّل مَنْ خدَم القرآنَ، وعلَّق عليه التفاسير هم النُّحاةُ؛ويقال لهم: أصحابُ المعاني، ومنهم الزَّجاج، وهؤلاء الذين أرادَهم البغويُّ في «معالم التنزيل» من قولِه: قال أصحابُ المعاني. ثم جاء المحدِّثون من بعدهم، وجمعوا الآثار، والأحاديث، ولا يُظَنُّ أنَّ كُلَّ ما يُنقل عن السَّلَف في باب التفسير يكونُ مرفوعًا كيف وقد ثبت عندي كالعِيان أنَّ أكثرَها ظُنونٌ، وآراه، أذواق وجدان، وقد مَهَّدنا مِنْ قَبْل أن التفسيرَ إذا لم يُوجب تغييرًا في العقيدة الإِسلامية، وتبديلا في المسائل المتواترة، فلا بأس به. فالزَّجَّاجُ منهم مرّ على هذه الآياتِ، وعدَّها من أشكلها حُكْمًا وإعرابًا، لأنَّ في ألفاظها نُبُوُّا، وتَعْقيدًا في المعاني، وكذا الزمخشريُّ أيضًا رجلٌ من رجال هذا الفَنَّ. فَهِمُّه أيضًا في إزالةِ هذا التعقيد. أما الرَّازي، فإِنَّ كان الناسُ يَزْعُمون أنه يَجُول في «الأطرافِ» لكن له لفتةٌ عندي إلى هذه الإِشكالات أيضًا، وَوَجْهُ الصعوبةِ في نَظْم القرآنِ عندي، أنه أَبْدع بين كلامِ المؤرخ. والفَقِيه نوعًا ثالثًا. فإِنَّ المُؤرِّخ يَسْرُد القِصَّة، ولا تكون له بالمسائل الشرعية عباية، والفقيه يرتِبُ المسائلَ، ولا تكون له إلى الوقائع عنايةً، أما القرآن. فإِنَّه يسايرُ الواقع شيئًا عند بيانِ الأحكام، فلا يَحْكي القِصَّة مرسلا، ولا يكتفي بِذِكر الأحكام بدون إيماءٍ إلى القِصة، فلما ركَّب نوعًا من النوعين أوْرَثَ ذلك تعقيدًا لا محالة، ولا سيما عند من لم يكن شاهدًا القصة فلا يَحْصُل له من العُنوان الجملي المَشْعرِ بها شيءٌ. والحاصل أءَنَّهم عَدُّوه مِن أَشْكَل آياتِ القرآن، ولا بأسَ أن نُشيرَ إلى بَعْضِها أيضًا.
قوله: (اثنَانِ ذَوَا عَدْلٍ منكم أو آخَرَان مِنْ غَيْرِكُم (المائدة: 106) والمرادُ منه الأجانبُ، أو الغيرُ في الدِّين، أي غيرِ المسلم؛ وعلى الثاني فيه إشكالٌ، كما سيأتي.
((5/150)
5/317)
---
2780 - قوله: (وليس بها مُسْلِمٍ)، أشار الراوي إلى كونه غيرَ مُسْلم.
قلت: والمقررُ في شَرْعنا أن شهادَة الكافر على المُسْلم لا تُقبل؛ وهذه الشهادةُ كذلك، فيقال بالنَّسْخ، كما قال محمدٌ في كتاب «الآثار»، وهو مُشْكِلٌ عندي. والأَوْجَه أن يقال: إنها مُعتبرة في السَّفر لمكانِ الحاجة، ثُم إنْ وقع التنازعُ حتى بلغ الأَمْرُ إلى القاضي، فإِنَّه لا يسمعها، وَيُردُّها، وَيُحكُم حسب القواعد.
صحيح البخاري
ولقائلٍ أن يقول: إن المرادَ من قوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} هو الأجانبُ، وحينئذً لا يرِدش شيءٌ، وإنَّما يَرِدُ الاعتراضُ إذا فَسَّرناه بالكافر، وفيه أن الآيةَ وَرَدت في قِصَّة تميم، وكان حينئذً كافرًا؛ اللهم إلا أن يقال: إنه كان مسلمًا، كما في قولٍ غيرِ مشهور، فإِنه ثبت أنه جاء مَكَة مرةً، وأما إذا اخترنا القولَ المشهورَ، فلا سبيل إلى الجواب، إلا ما ذكرناه.
ثُم إنَّ روايةَ الترمذي تدلُّ على خيانةِ تميم هذا. والأَوْلى عندي إن يسِقط هذا اللفظ، ويُبَرَّأ ظهرُه مِن تلك الخيانة؛ فإِنَّه أَسْلم آخِرًا، وكان صحابيًا مخلِصًا، وكان في أَوَّلِ أَمْرِه نصرانيًا مِن الشام، وكان سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأن يَكْتُب له مِن الشام كذا وكذا. ولم يكن فَتْحٌ بعد، فكتب له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فكان تميمٌ يومئذ كافرًا، ثُم لما فتح الشامَ أَعطى له ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمكَتَبه له؛ وكان هذا الكتابُ في ذُرِّيته. والحاصل أنه رجلٌ فَهْم وَضْل، فينبغي أن لا تُحمل عليه تلك الخيانةُ.
2780 - قوله: (مُخَوَّصًا مِن ذَهب) دهارى دار.
(5/318)
---(5/151)
2780 - قوله: (فقام رجلانِ من أوليائِهِ) أي أولياء السَّهْمِيُّ، (فحلفا: لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِن شَهادَتِهِما) فإِنْ قلت: إن هذين كانا مُدَّعىً عليهما، ولا شهادةَ إلا على المُدَّعي، فكيف بشهادتهما؟ وأجاب عنه صاحب «المدارك» بأنهما صارا مُدَّعىً عليهما في ضمن الكلام. وراجع له «الهِداية» لِتعلم أن المُدَّعَى عليه أيضًا قد يَنْقَلِبُ مُدَّعيًا. والأَصْوبُ فيه ما ذكره الشاه عبد القادر، فترجمة باللبيان الحلفي، فانحلُّ الإِشكالُ بلا تَكَلُّف، لأن إطلاقَ الشهادة على مِثْ هذا البيان مما لا يُنْكَرُ عُرْفًا؛ ولا حاجةَ إلى جَعْلِهما مُدَّعىً عليهما، كما فعله صاحِبُ «المدارك».
هذا باعتبارِ الأحكام، وأما الكلامُ باعتبار النَّظْم والتعقيد، فطويلٌ لا يَسَعُه الوَقْت، وقد ذكرناه في مذكرتنا، وفي الفقه أَنَّ الشهداءَ لا يجبرونَ على الحِلِفِ، نعم يُعْرَض عليهم، فإِنَّ فعلوا فيها، وإلا فلا جَبْر عليهم، بقي الحَلِفُ بالطَّلاقِ، فلا خلافَ فيه أن لا جَبْرَ عليه.
قوله: {فآخَرَانِ}...الخ (المائدة: 107) قيل: المرادُ منه الأجانِبُ، وقيل: الكُفَّار.
2780 - قوله: (وليس بها مُسْلِمٌ) وأشار بها الرَّاوي إلى كونِهما كافِرَين، لأنه ذَكَر للاستشهاد عُذْرًا، أي لم يكن هناك مُسْلم، فاضطر إلى شهادةِ الكافر.
صحيح البخاري
قوله: (أحلف) أي حَلَّف رِفَقاءه.
قوله (أولياءه) أي السَّهْمِيُّ. وبالجملة قد دلَّ على قَبولِ شهادة الكافر. وقد مرَّ معنا أنها تُعتبر لِلمُسْلِم لا عليه. وكان تميمٌ الدَّاري لم يكن أَسْلَم بعد، إلا على قولِ غير مشهور، ثبت مجيئه بمكة،ومرَّ الإِمامُ محمد على تلك الرواية في كتاب «الآثار»، وذهب إلى نَسْخها. قلت: وهو مُشْكِل، فيحمل على حال الصفر، ويمكن أن تُعتبر شهادةُ الكافر على المُسْلم، عند فِقْدان مسلم.
2781 - قوله: (أُغْرُوا بي) سسك كىء ميرى آبروز يزى كرنيكى لىء.
(5/319)
---(5/152)
- قوله: (جابر) وكانَ وَصِيًّا لوالده. واختلف الرواةُ في عدد أخواته، قال بعضُهم: ست؛ وقال الآخَرُ: تِسعٌ؛ وهكذا يكون من الرواة.
صحيح البخاري
كتاب الجِهَادِ والسِّيَر
صحيح البخاري
باب فَضْلِ الجِهَادِ وَالسِّيَر
واعلم أنَّ العِلْم الأشغال عند أبي حنيفة، ومالك؛ وعند أحمد الجهادُ أَفْضَلُها، كذا في «منهاج السنة» لابن تيمية، وفي كتاب السَّفاريني عن أحمدَ روايةٌ نَحْوَ أبي حنيفة، ومالك. وهذا كلُّه إذا لم يكنِ الجهادُ فَرْضَ، لأن الكلام في باب الفضائل دون الفرائض. ثمَّ إنَّ مثل المجاهدِ عندي كالاجِير الخاصِّ، احتبس أوقاتَهُ كُلَّها، فيستحق الأَجْر على شأنِهِ كلِّه، مادام في سبيل الله، وترجمته في الهندية كارى آدمى. ثُم لا يُعلم الجهادُ عَمْلا في زَمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان في الإِنجيل على شَاكلة المسألةِ، وإليها أشار القرآن: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ ؛ وَالإْنْجِيلُ} (التوبة: 111)، ولذا يُجاهِدُ النُّزولِ.
قوله: (قال ابن عباس: الحُدودُ: الطَّاعةُ). واعلم أنَّ المُرَادَ من الحدودِ عند الفقهاء هو العقوباتُ المعروفة؛ والمرادُ منها ههنا هي التي نهى الشَّرْع عن التجاوز عنها، وهي حدودٌ أقامها الشَّرْع عند تجانس الطرفين، كخِيار الشَّرْط، حَدَّده الشارِعُ بالثلاث من ولايته على خلاف القياس؛ وهي التي أرادها السَّرَخْسِي في عباراته: أنَّ المقادِيرَ والحدودَ مما لا يجري فيها الِقياسُ عند إمامنا، وذلك لأنَّ نَضْبَ المقاديرِ والحدود مما لا دَخْل فيها للعقل، فاستبدَّ به الشَّرْع. أما العقوباتُ وإن كانت هي أيضًا كذلك، إلا أن المرادَ منها في كلام السَّرْخْسِي ما ذكرناه.
2783 - قوله: (لا هِجْرةَ بعد الفَتْح) أي الهجرة المَعْهُودة مِن مكَّة، أما الهجرةُ العامَّة مِن دار الحَرْب إلى دار الإِسلام، فهي باقية.
(5/320)
---(5/153)
2785 - قوله: ((دُلَّني على عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ)، واعلم أنَّ القائمَ والصائمَ أيضًا قد يَعْدِلُ المجاهِدَ، وهذا على الأحوال.
2875 - قوله: (فَرِسَ المجاهِدِ ليستَنُّ ي طِوَلِهِ) دلَّ على كفايةِ النِّيةِ الإِجماليةِ لإِحراز الأَجْر، كما مرَّ.
صحيح البخاري
باب أَفضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفسِهِ وَمالِهِ في سَبِيلِ اللَّه
الشِّعْبُ - بالفتح - القيلةُ، و- بالكسر - كهاتى مع أَحْرِ أو غنيمة، وقد مرَّ في أوائل الكتاب: أن «أو» تدخل بين الشيئين المتغايَرِين حقيقةً، وإن لم يتحقق بينهما مانِعةُ الجَمْع، فقد يرجع الغازي مع الأَجحر، والغنيمة معًا. وهذا نظيرُ ما قال الميزانيون: إنَّ النِّسب بين المفرداتِ بحسب الحَمْل، وبين القضايا بحسب الماصَدُق، وكقوله: وهي اسمٌ، وفِعْل، وحَرْف - قيل: والمناسب حَرْفُ «أو»؛ قلت: إن كان المقصودُ دَرْجَها في الكلمةِ، فالأَوْلى هو الواو، وإن كان المقصودُ بيانَ التقابل فيما بينهما، فالأَوْلى هو «أو».
صحيح البخاري
باب الدُّعاءِ بِالجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ للِرِّجالِ وَالنِّسَاء
2288، 2789 - قوله: (يَدْخُل على أَمِّ حَرَامِ)...الخ، وكانت له قرابةٌ.
2288، 2789 - قوله: (ثَبَج هذا البحر) اس درياكى ابرسى). واعلم أن الحديثَ دَلَّ على أن دعاءه صلى الله عليه وسلّمكان متناولا للشهادة الأَخْرَويَّة، فإِنَّ أم حرام لم تقتل في سبيل الله، ولكنَّها وَقَصَتها ناقتُها، فماتت؛ ونظيرُه قوله تعالى: {وَسَلَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ}...الخ (مريم: 15). مع أنه لم يمت، ولكنه قُتِل واستُشهد.
غ
صحيح البخاري
باب دَرَجاتِ المُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّه
والسبيلُ يُذكَّرُ ويُؤنَّثُ.
(5/321)
---(5/154)
2790 - قوله: (جَاهد في سبيل الله، أو جَلَس في أَرْضِه التي وُلِد فيها) دلَّ الحديثُ على تَرْك الهجرة في زمن، كما مرَّ في «الزكاة» من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم اعمل مِن وراءِ البحار»(5، وأشار إليه القرآنُ أيضًا: {وإنْ كان من قومٍ عَدُوِّ لكم ؛ وَهُوَ مْؤْمِنٌ}...الخ (النساء: 92)، فدل على تمَكُّنْ المؤمنِ في دار الحرب، وتَرْك الهجرة عنها. ودلَّ أيضًا على أن الاتكالَ فيه من فضائل الأُمور دون فرائضه، فإِنَّه ذَكَرَ الفرائِضَ في صَدْر الحديث، ثُم الاتكالَ بعدها، وقد مرَّ تقريره.
2790 - قوله: (مَابَيْنَ الدَّرَجَتَيْن، كما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ) وهو كما عند التِّرْمذي عن ابن عباس: مسيرة خمس مئة عام. وقد تهافت فيما بعضُ الرُّواة، فذكرها مسيرةَ ثلاثٍ وسبعينَ عامًا، وسقط منه ذِكْر أربع مئة، مع بعض الكسر قطعًا؛ والصواب أها مسيرةُ أَربع مئة عام، وكذا سقط من رواية الترمذي ذِكْر الماء، والكُرسيِّ، والعَرْش، والجنَّة، وليس فيها إلا بيانُ مسافةِ السموات.
2790 - قوله: (فَوْقَهُ عَرْشُ الرحمن) وهو سَقفُ الجنَّة، وحينئذٍ لا بأس بكونِ عَرْش الرحمن سَقفًا لجميع درجات الجنة، مع كونِ بَعْضِها أوسط، وبَعْضِها أعلى.
(5/322)
---(5/155)
واعلم أن ههنا مقامين: الأَوَّل في بيان مسافة درجات الجنة؛ والثاني في بيان حَيِّز الجنةِ. فنقول: إن مسافةَ الجنَّةِ مسيرةُ خمسينَ ألفَ سنةٍ. كما يلوحُ من رواية البخاريّ. فإِنَّ للجنَّةِ مئة درجة، وما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ خمسة مئة عام، فَبِضَرْبها في المئة يحصُلُ العددُ المذكور. ويَرِدُ عليه قولُه تعالى: {تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ الف سنةٍ} (المعارج: 4)، على تفسير؛ والناس في تفسيره مختلفون، فقيل: إنه مدةُ يومِ الحساب، وإن كانت المحاسبةُ فيه بلحظاتٍ يسيرة، وهي كما بين الظهر والعصر، كما في رواية؛ وهذا أيضًا حسابُ العوام. أما المقرَّبون فيحاسَبون في طَرْفَة عين. وقيل: بل فيه بيانُ المسافة من الأرضِ إلى الجنة. وحينئذٍ ناقض الحديثُ ما في الآيةِ، فإِن تلك المسافة في الحديث مسافةٌ لدرجاتِ الجنَّة فقط، وبانضمام مسافةِ الأَرْض إلى السماء ومسافةِ السمواتِ فيما بينها تزيد على نحو أربعة آلاف، فلا يلتئم الحديثُ بالقرآن.
والجواب عندي أن المسافةَ في حديث البخاري هي مسافةٌ درجات الجنة فقط، وهي مسيرةُ خمسينَ ألف سنةٍ، وأما مسافة السمواتِ والأرض، فلم تتعرَّض إليها روايةُ البخاري، وذكرها الترمذيُّ. فروايةُ الترمذيِّ تعرضت إلى مسافةِ العالم السُّفْلي فقط، أي من الأرض إلى السموات، وروايةُ البخاريّ دَلَّت على مسافةِ العالم العُلْوي فقط، وهي من السموات إلى العرش. وعلى هذا لو ذهبنا إلى أن المذكورَ في الآية قَدْرُ المسافة دون سعةِ اليوم، فينبغي أن تكون تلك المسافة للعالم العُلوي فقط.
صحيح البخاري
(5/323)
---(5/156)
وإنما تَعَرَّضْتُ إلى تعيين تلك المسافةِ، لأني أجدُ شُهْرَتها بين السَّلَف أيضًا، ففي حكايةٍ: أنَّ هارونَ الرشيد قال لمالك: إني أريدُ أن أستفيدَ منك شيئًا؛ فلم يزل ينتظره بعد ذلك، فلم يجيء، وكذلك الرشيدُ كان ينتظرُ الإِمام مالكًا، فلم يجيء أحدُهما إلى الآخر. فلما التقيا قال مالك: ياأميرَ المؤمنين إنَّ القرآن نزل من مسافةِ خسمينَ ألف سنةٍ، فإِنْ لم تعظِّمه أنت أيضًا، فَمن يعظمه؟.
وأما بيَانُ حَيِّز الجنة، فقد صرَّح الحديثُ أَنْها فوق السمواتِ، فهذه بدايتُها؛ وقد جاء في روايةِ البُخاري أَنَّ عَرْش الرحمن فوقها، فهذه نهايتُها، بقيت السمواتُ السَّبْع، والأَرَضون كذلك، فهي كُلُّها حيْزٌ لجهنَّم عندي، وهو الذي سَمَّاه اللهاُ تعالى «أسَفَلَ السافلين» في سورة التين، وأَمَرَنا أن نخرج عنها مصعدين إلى الجنَّةِ مأوى أَبِينا، ومَنْ بقي فيه، ولم يَصْعَد، فقد بقي في دار الغُرْبة، وسَيَصْلى سعيرًا، فتلك العَرصةُ كُلُّها تنقلبُ حيِّزًا لجنهم. فنحن الآن في حَيِّز جهنَّم، وقد جمع الله فيه من الجنة وجهنم أشياء، كالحجر الأسود، والمقام، والمساجد، والكعبة. وأمثالها. فإِنَّها كلَّها من الجنة، وسترفع إليها، وكذا الشمس، والقمر، وأمثالهما، كلها مِنْ جهنَّم، وستلقى فيها، فركَّب اللهاُ سبحانه هذا العالمَ من أشياَ بَعْضُها من الجنة، وبَعْضُها من جهنم، وإذا أراد أن تنتهي النشأةُ، وَتَظْهَرَ النشأةُ الأُخرى، يَدُكُّ هذا العالمَ دَكًا، ويذهب بالاشياءِ كلِّها إلى مقارِّها.
(5/324)
---(5/157)
وبالجملة المَعْدِنُ هي الجنَّةُ، أو النَّار فقط، وأما الدُّنيا فهي مستَقرُّ إلى حين، ولذا لم يخبرنا اللهاُ سبحانه إلا بِنَسْف الجبال، وخَسْف القمر {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة: 9) ، وانفطار السمواتِ. فهذه أحوالٌ كلُّها تعترِض على هذا العالم، وهو حيِّزُ جهنَّم، ولم يخبرنا عما هو صانعٌ بما عنده فوق السموات، وهي الجنة؛ بل ذهب المفسِّرُون إلى أنها داخلةٌ فيما استثناه الله تعالى: فالحاصل أن المقرَّ الأصلي للإِنسان ليس إلا الجنةُ أو النار، فالجنَّةُ فوقَ السمواتِ، والسمواتِ مع الأَرَضين السَّبعةِ حَيِّزٌ لجنَّم، وهذا هو مستقرُّنا إلى حين؛ فلما يريدُ الله سبحانه أن يُعيدَ الأشياء إلى مقارِّها، يُخرب الدنيا بما فيها، ويرتبها بالاندكاك والانفطار والانشقاق، مقرًا ناسب أهلها.
(5/325)
---(5/158)
ولا يحسبنَّ زائِغٌ أن جهنَّم ليست بموجودة الآن، بل هي كما أخبر بها اللهاُ سبحانه، ولكن اختلاف العالمين منعنا عن إدراكها، أما حديد البصر فيراها الآن أيضًا. فالمعاصي هي النَّارُ بالفعل، لكنَّ ناريتها مستورةٌ عندنا، وظاهرةٌ عند حديد البصر، فالجنة مزخرفةٌ،وجهنَّم يحطم بَعْضُها أيضًا، إلا أنهما تضعفان زينةً، وعذابًا من أفعالنا؛ وتلك الأفعالُ هي الزينةُ، أو العذابُ في الحالة الراهنة، يراها الخواصُّ اليوم، وغدًا يراها العوامُ أيضًا، وكذلك الجنَّة والنار، ألا ترى أنَّ الكافر يُعَذَّب، ولا يسمعه الثَّقلان لاختلاف العالمين، فلا نعني بما حَقَّقت غيرَ هذا، ولكن مَنْ يقتحم أبوابَ الحقائق لا يجد لكشفها ألفاظًا تُوضِّحها، ومَنْ ليس له فَهْمٌ صحيح يقع في الزِّيغ، ويعزو إليّ ما لم أَوردْه، وهذا الذي وقع لأربابِ الحقائق، فلم ينتفع منهم إلا قليلٌ، فظاهِرُ الشريعةِ يبقى على طاهرِها والمسائل المسَلَّمة على مكانها، وإنما هو نحوَ بيانٍ خاطبت به، ومَنْ لا يقدر على وَضْع الأشياء في مواضعها، فليس خطابي معه، ولا أحل له أن يَقْفُو ما ليس له به عِلْم، وإنما خلق الله لكل فنِّ رجالا، ونعوذ بالله من الزِّيغ.
صحيح البخاري
2790 - قوله: (ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةُ) وهي نهرُ الماء، ونهرُ اللَّبن، ونهر العسل، ونهر الخمر، وقال الشيخُ الأكبر: إنها نهر الحياةِ، ونهر العِلم، ونهر الإِيمان، ونهرُ الذَّوْق.
صحيح البخاري
باب الغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَقابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّة
صحيح البخاري
باب الحُورِ العِينِ وَصِفَتِهِن
(5/326)
---(5/159)
قوله: (وقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُم) واعلم أن تعيينَ الأمكنة عندهم كان بالأقواس والسَّياط، وعليه جاء الحديث؛ ومن هذا الباب قولُه صلى الله عليه وسلّم «مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة»...الخ، وهو قولُه تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم: 9) والقَابُ والقيد واحد؛ وما ذكراه الراوي في الباب الآتي قَيْدُه - يعني سَوْطه - فإِنَّ كان بيانًا للمراد فصوابٌ، وإن كان بيانًا للترجمة فَغَلَطٌ. والمُفَسِّرون تأَوْلوا قوله تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ} فقالوا: معناه: قابي قَوْسين. والصواب عندي أنه عى ظاهِره، والمرادُ من القوسين في الطول على عاداتهم عند الهبوط في المنزل، فإِنَّهم كانوا إذا نزلوا مَنْزلا رموا بأقواسهم وسياطهم أولا، ليكون ذلك مكانَهم بعد ما نزلوا ولا يُزاحِمُهم فيه أحدٌ، وعلى هذا العُرْف جرى القرآنُ والحديث.
صحيح البخاري
باب تَمَنِّي الشَّهَادَة
2797 - قوله: (والذي نَفْسي بيده) ...الخ، معقولةٌ لأبي هريرة، نَبَّه عليه الترمذيُّ.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ في سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُم
فليس الشهيدُ هو المقتولَ فقط، بل مَنْ يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله، ثم يدركه الموتُ، فقد وَقَع أَجْرُه على اللهاِ.
صحيح البخاري
باب مَنْ يُنْكَبُ أَوْ يُطْعَنُ في سَبِيلِ اللَّه
صحيح البخاري
باب مَنْ يُجرَحُ في سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: 52) وَالحَرْبُ سِجَال
2801 - قوله: (أقوامًا مِن بَني سُليم) وَهْمٌ من الراوي، فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان بعث القُرَّارَ، ولم يكونوا من بني سُلَيم.
(5/327)
---(5/160)
2801 - قوله: (فَقَتَلُوهم إلا رجلا أَعْرَج صَعِدَ الجَبل) هذا هو الصوابُ، وفي المغازي عند البُخاري: «فانطلق حَرام أخو أمَ سُلَيم، وهو رجلٌ أَعْرجُ»...الخ وهذا وَهْم، فإِنَّ حَرَامَ كان قُتِل، ولم يُقْتل الأَعْرجُ، بل صَعِد الجبلَ.
2801 - قوله: (فَكُنَّا نَقْرأُ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنا)..الخ، ولما كانَ اللهاُ سبحانه تَكَفَّل لهم بإِبلاغ خَبَرِهم إلى قَوْمهم أَنْزَله في القرآن، ثُم نَسَخة بعد إيفاءِ الوَعْد، لعدم الحاجةِ إليه.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 23)
2805 - قوله: (غَابَ عَمِّي أَنْسُ بنُ النَّضْر عنَ قِتال بَدْر) أي تَخَلَّف عن بَدْر، لا أنه دَخَل فيها ثم غاب.
صحيح البخاري
باب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ القِتَال
صحيح البخاري
باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَه
لَعلَّه مأخوذٌ من قوله صلى الله عليه وسلّم «كما تَحْبُونَ تموتون، وكما تموتون تُحْشَرون». فهذا يُشْعِرُ بأنه ينبغي أن تكون خاتمةُ المرء عَمَل خير؛ وكان السَّلف يستحبُّون أن يكون لهم عَمَلٌ صالح قبل القتال، لدلالتِه على الإِخلاص.
قوله: (إنما تقاتِلُون بأعمالِكُم) أي إنَّ الأعمالَ الصالحةُ تُورِث ثباتَ القَدَمِ عند القتال، فالقتالُ يكون بسبب بركةِ الأعمال، فهي دخيلةٌ فيه.
قوله: {بُنْيَنٌ مَّرْصُوصٌ} (الصفِّ: 4) ولعلَّ الشيطانَ يدخلُ صفوف القتال، كما يدخل صفوفَ الصلاة فيفسدها أيضًا، ولذا أمرنا بالتراصِّ في الصفوف أيضًا.
صحيح البخاري
باب مَنْ قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليا
(5/328)
---
أعرض عن التفصيلِ المتعذِّر، وعَدَل إلى الجواب الجُمْلي، فقال: مَن قاتل للإِعلاه كلمةِ الله، فهو في سبيل الله.
حكاية:(5/161)
نُقِل أن تيمور لئك لمَّا رحل إلى الشام، وقتل الناس، وسفك دِماءهم ظُلْمًا وعُلوًا، بنى من هاماتهم صُفَّةً وقعد عليها، ثم دَعى العلماء، فكان يُناظِرُهم ويقُتُل مَنْ خالفه منهم؛ فسألهم مرةً أنه كيف صنع في قتلهم؟ فأجاب عالمٌ منهم: إنَّ جوابَه في الحديث، وقرأ هذا الحديث: «مَنْ قاتل لتكونَ كلمةُ اللهاِ»،...الخ، فتفطنَّ تميور أنه أراد به تَخْلِيص رَقَبتَه، فأغمض عنه.
صحيح البخاري
باب مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ في سَبِيلِ اللَّه
حمل المصنِّف قوله: «في سبيل الله» على الجهاد، ولذا فَسَّره أبو يوسف ومحمد في «باب الزكاة» بمنقطِع الغزاة.
قلت: والظاهر أنه عالمٌ لجميع سُبُل الخيرِ، كما يدلُّ عليه ما أخرجه الترمذيُّ في «باب من أغبرت قدماه في سبيل الله» عن يزيد بن أبي مَرْيم، قال: لِحَقَني عبايةُ بن رِفاعة بن رافع، وأنا ماشٍ إلى الجُمعة، فقال: أَبْشِر، فإِنَّ خُطاك هذه في سبيل الله؛ سمعت أبا عيش يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم «مَنِ اغبرت قَدَماه في سبيلِ الله، فهما حَرَامٌ عى النَّار» اه. فهذا صريحٌ أن هذا اللفظ كان عامَّا عند الصحابَيَّنِ المذكورَين، ولذا حملاه على المَشْي إلى الجُمعة أيضًا، إلا أن الترمذيَّ أخرجه من «باب الجهاد» فَيوه2 أنه أَخَذَه في الجهاد، كالمصنِّف، فله إطلاقانِ: عامٌ، وخاصٌ، والذي يناسِب في نحو هذا الحديث هو الإِطلاقُ العام، ولعل المصنِّف حمل على أنه اشتُهر في الجهاد عُرْفًا.
حكاية: (ماذا كان يفعلٍ بايزيدخان بعد الفراغ من غزوة
(5/329)
---
نُقِل أن السُّلْطان بَايزِيدخان يلدرن غزا ثئنتين وسبعين غزوةً، كلّها على أوروبا، وكان يَلْبَس في كلَّها قباءً واحدًا، ولا يبدّلُه، وكان إذا أفرغ منها يجمع ما وقع عليها من الغُبار في حقه، فإِذا أشرف على الموت، أوصى النَّاس، أن يدفنوها في قبره.
صحيح البخاري
باب مَسْحِ الغُبَارِ عَنِ النَّاسِ في السَّبِيل
صحيح البخاري(5/162)
باب الغَسْلِ بَعْدَ الحَرْبِ وَالغُبَار
2812 - قوله: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُه عَمَّار، تَقْتُلُه الفِئةُ الباغيةُ)...الخ، وقد مرَّ شَرْحه، وهذه جملةٌ موجودةٌ عد البخاريِّ، ثُم أنكارها الحافظ، فيما مرَّ.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
واعلم أنه قد تكلمنا مرَّةً في معنى حياة الشهداء والأنبياء عليهم السلام؛ وحاصله: أن الحياة بمعنى أفعالِ الحياة، وإلا فالأرواحُ كلَّها حياةٌ، ولو كانت أرواحَ الكفار؛ ولكنها معطلةٌ أن الحياة بمعنى أفعالِ الحياة، وإلا فالأرواحُ كلُّها أحياءٌ، ولو كانت أرواحَ الكفار؛ ولكنها معطلةٌ عن أفعال الحياة. ولذا ترى القرآنَ والحديث لا يذكُر ان الحياة إلا ويذكران معه فعلا من أفعال الحياةِ أيضًا، كما رأيت في الآية المذكورة حيث قال: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 69) فَذَكَر كونَهم مَرْزُوقين، وهي من أفعالِ فأُوْلى أن يُسمّوا بالأحياء بخلاف غيرهم، وفي الحديث أَنَّهم يدخلون الجنَّة في حواصل طيرٍ خُضْرٍ، ولفظ «الموطأ» يقتضي أن هؤلاء مُشبِّهون بالطَّيحرِ الخُضْر، إلا أن الطَيْرَ الخُضْر ظرفٌ لهم، ثم عند مالك في «موطئه» في باب الشهيد «إنما نَسْمَةُ المؤمنِ طيرٌ يعلَّقُ في الجَنَّة». اه. وهذا بدلُّ على كونِه صفةً لعامَّة المؤمنين غيرِ الشهداءِ أيضًا.
(5/330)
---
قلت: أما الشهداءُ فقد جاءت تلك الصِّفةُ في صِنْفِهم لِعَمِلهم؛ وأما غيرُهم فعلعه يكون فيهم أيضًا مَنْ يكون على صِفَتهم، ثُم هذا أبدانُ مِثاليةٌ لهم، لا أنهم أرواحُ مجردةُ، ولعله عَجَّلَ لهم ارزاقَهُم قبل الحَشْر، وأما سائر الناس فقد أخَرَّ انتفاعُهم بها إلى يوم القيامة.(5/163)
واعلم أن الحديثَ أَسْنَد الأَكْلَ والشُّرْب إلى النَّسمة دون البدن والجسد، فإِنَّه في التراب، فدلَّ على أن النَّسمة غيرُ الجسد، وكذلك غيرُ الرُوح، لأن الروح لا يُسْند إليها الأكلُ والشُّرْب، ما لم تتصل بجسدٍ مادي، أو مِثالي؛ ولذا لم يقل: إنَّ أرواحَ المؤمن طير...الخ، ولكن قال: نَسْمة المؤمن.
والحاصل أن مَحَطَّ الآية بيانُ كَوْنهم أحياءً فقط، ونبَّهت على أن المحط فيها قوله: {يُرْزَقُونَ} لا كونهم أحياءً فقط، فإِنَّ حياة الأرواح معلومةٌ، وعليها جرى الحديث، فقال: يعلق في الجنة، وكذا الأنبياء أحياء في قُبورهم يصلُّون، فتعرَّض إلى آثارِ الحياةِ من العَلَق، والصلاة، وراجع «شرْح الصدور، لأفعال الموْتى والقبور». فقد ورد فيه حَجُّهم، وتلاواتُهم، وصلاتُهم، وغيرها. أما الحجُّ والصلاة، فقد وَرد في الانبياء عليهم السلام: وأما التلاوةُ ففي غيرهم أيضًا، فإِذن المَحطُّ في كلِّها بيانُ هذه الأفعال، لا بيانُ نَفْس الحياة، وحينئذٍ عَلِمت حياتِهم ما هي أعني أنهم يفعلون أفعالَ الحيِّ، وليسوا بمعطلين. وإلى هذا المعنى أرشدَ القرآن بقوله: {يُرْزَقُونَ} والحديثُ بقوله:«يصلون».
ليتعيَّن المرادُ من الحياة، ولتتميزَ حياتُهم عن حياة سائر الناس.
صحيح البخاري
باب ظِلِّ المَلائِكَةِ عَلَى الشَّهِيد
صحيح البخاري
باب تَمَنِّي المُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
قوله (تُظلِّهُ الملائكةُ) ، ولعل في هذا الإِظلال إجلالا للبيت.
صحيح البخاري
(5/331)
---
باب الجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوف
2818 - قوله: (وكانَ كاتِبَه) وقد سها الحافظ هناك في ارجاع الضمير. وراجع «حاشية» لمُلاّ محمد يعقوب البمباني، والبمبان: محلة من بلدة لاهُور.
صحيح البخاري
باب مَنْ طَلَبَ الوَلَدَ لِلجِهَاد(5/164)
2819 - قوله: (فقال له صاحِبُه: قل: إن شاء الله) قيل: إنَّ آصف لَفَّته بهذا القولِ، ولكنه نَسِي، فلم يتكلَّم، فلم تلد منهن غيرُ امرأةٍ، وَلَدَتْ سَقِطًا أُلْقي على كُرسيِّه. والقَصَص المذكورة في التفاسير كُلُّها موضوعةٌ، إنْ هذا إلا اختلاقٌ.
صحيح البخاري
باب الشَّجَاعَةِ في الحَرْبِ وَالجُبْن
صحيح البخاري
باب ما يُتَعَوَّذُ مِنَ الجُبْن
2821 - قوله: (الأَعْرَابُ يسألُونَه)...الخ، والأعرابُ يقال لغةً لساكِني الباديةِ منهم.
صحيح البخاري
باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ في الحَرْب
صحيح البخاري
باب وُجُوبِ النَّفِيرِ، وَما يَجِبُ مِنَ الجهَادِ وَالنِّيَّة
قلت: وذلك أَمْرُ يختلِف باختلاف النِّيات؛ فإِنْ كانت نِيْتُه المراآةَ والإِسماعَ، سَمَّع الله به، وراءى به، وإن كانت نِيتُه الإِخلاصَ ومرضاة اللهاِ، فله الحُسْنى وزيادةُ.
صحيح البخاري
باب الكَافِرِ يَقْتُلُ المُسْلِمَ، ثُمَّ يُسْلِمُ، فَيُسَدِّدُ بَعْدُ وَيُقْتَل
صحيح البخاري
باب مَنِ اخْتَارَ الغَزْوَ عَلَى الصَّوْم
صحيح البخاري
باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى القَتْل
(5/332)
---
والضابطة فيه أن القاتِل لا يجتمعُ مع المقتول، فإِنْ ذهب أحدُهما إلى الجنة يدهبُ الآخَرُ إلى النَّار؛ ولا بُعْد أن يكون ابنُ عباس قال بتخليد قائلِ المؤمن نظرًا إلى هذهالقاعدة؛ لأن مقتولَة المُسْلم لما ذهب إلى الجنةِ يجب أن لا يجتمع معه قاتِلُه في الجنة، فَلزِم الخلودُ لا محالة؛ ولكنَّ الله قد يرى عجائبَ قدرتِه في الخَلْق، فيجمع بينهما في الجنة، بأن يُوفِّق هذا الكافرَ للإِسلام، بعد قَتْل المُسْلم، ثُمَّ يَمُنَّ عليه بالشهادةِ في سبيله، فيدخل القاتلُ والمقتولُ في الجنَّة؛ ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «يَضْكَكُ الله إلى رجلين؛ وذلك لدخولهما في الجنَّةِ معًا، وكذلك الإِنسان إذا ظفر بمنينة على خِلاف الضابطة، يضحك منه تعجبًا لا محالة.(5/165)
صحيح البخاري
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
صحيح البخاري
باب الصَّبْرِ عِنْدَ القِتَال
صحيح البخاري
باب التَّحْرِيضِ عَلَى القِتَال
* نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ** عَلَى الجِهَادِ ما بَقِينَا أَبَدَا
صحيح البخاري
باب حَفرِ الخَنْدَق
* نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ** عَلَى الإِسْلامِ ما بَقِينَا أَبَدا
صحيح البخاري
باب مَنْ حَبَسَهُ العُذْرُ عَنِ الغَزْو
2834 - قوله: (نَحْنُ الذين بايَعُوا محمدًا)...الخ كانوا يَرتَجزُون بها عند حَفْر الخندق، كما يدندن أحدُكم عند الشغل في عملٍ، لئلا يسأمَ منه، فإِنَّ الإِنسانَ إذا اشتغل في مَشَقَّة، وجعل نَفْسه في زَمْزَمةٍ لا يتعب، لأنه بِشُغْله في زمزمته لا يَحُسُّ ما يَلْحَقُه من التعب في عمله.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ الصَّوْمِ في سَبِيلِ اللَّه
صحيح البخاري
(5/333)
---
باب فَضْلِ النَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّه
قد مرَّ أنَّ البخاريَّ، وتلميذةَ الترمذي حملاءه على الجهاد لِشُيوع هذا اللفظ في الجهادِ والأَوْلى عندي أن يُتْرك على عمومِهِ، ويكونَ الجهادُ فرْدًا منه: فالصومُ في سبيل الله مطلقًا يوجِبُ الوَعْد والأجْر، وإن تفاوت أَجْرًا وأَجْرٌ، بحسب المشاق؛ فإِنَّ العطايا على متن البلايا، أو على قَدْر البلايا.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَير(5/166)
واعلم أنَّ الفِعْل قد يحصُل من واحد، وقد يُحصل من جماعةٍ، فإذا كان يحصُل من الجماعة يحصُل لكلِّ منهم أجرٌ كفاعِله، سواء كان فَعَله بنفسِه، أو أعان عليه بِنَوْعٍ، كالجهاد، فإِنه لا يَحْصُل إلا من جماعةٍ تَغْزُو، وكذا لا بد له ممَّن يُعيِن عليه، ويقوم على الغازين، فالمُعِين له، والقائمُ عليه كُلَّهم كالغزاةِ في سبيل الله. ونظيرُه القراءةُ، فإِنَّها فِعْلٌ واحِدٌ، ولا تتِمُّ القراءةُ من الإِمام إلا باستماع المُقْتدي، فالقراءة فِعل واحِدٌ، وحظُّ الإِمام منها نَفْسُ القراءةِ، وحَظُّ المُقتدى الاستماع إليها دون المنازعة معه؛ وحينئذٍ لا نقولُ: إن صلاةَ المُقتدي تَتِمُّ بدون القراءة، ولكنَّا نقولُ: إن عليه قراءةً أيضًا، ولكنَّ حظَّه منها الإِنصاتُ فقط؛ فالقراءةُ فِعْلٌ واحِدُ يتقوَّمُ حقيقتُها من قراءةِ الإِمام، واستماع المُقْتدي؛ إما إذا كانت قراءتُه في نفسه، أي لامع الجماعة فلا كلام فيه، وكذلك الخطبة لا تتأتى إلا باستماع المُقْتدي؛ ولذا قال: «مَنْ مَسَّ الحصى فقد لغا.
فالحاصل أنَّ باشر القِتال، ومَنح أعان عليه بنوعٍ، كلُّهم مشترِكون في الجهاد، وإن اختلفوا في الأجْر زيادةً ونُقْصانًا تَفاوُتِ مراتب الخلوص، وسماحةِ الأَنْفُس، وصَرْف الأموال، وَبذْل المهج.
فائدة: (في خلق أَفعال العباد)
(5/334)
---(5/167)
واعلم أنَّ العبادَ وأفعالَهم كُلُّهم مخلوقون لله تعالى: لا كما زعم المعتزلة؛ إنَّ العبادَ خالِقون لأفعالهم، كيف وأَنَّه لا بد للخالق أن يكونَ مُطَّلِعًا عنلى مخلوقة من جميع الوُجوه والجِهات، فإِنَّ الخَلْقَ لا يتأتى إلا بالعلم المحيط بالمخلوق. قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(المُلك: 14) فستشهد على خَلْقه بِعِلمه، فإِنَّ الخالق لا يكون إلا عالمًا بما خَلَقه، والعبدَ لا عِلْم له بمبادىء أَفعاله، فكيف يكون خالقًا لها، ومنه ظهر الفَرْق بين الخَلْق والكَسْب؛ فإِنَّ المكسوبَ يتَّصِلُ بكاسبه، ولا يُشْرط في الكاسب أن يكونَ عنده عِلْمٌ بالمبادىء أيضًا، بخلاف المخلوق، فإِنَّه ينفصل عن خالِقه ويُشترط فيه أن يكون عند خالِقِهِ عِلْمُهُ التام.
وما قال الدوَّاني: إنَّ فِعْل العبد يتأَتى من مجموع القُدْرتَين: قُدرة العَبْد وقدرة الله. فليس بشيء؛ فإِنَّ ذلك إنما يصِحُّ لوكانت للعبدِ قدرةٌ في نفسه، فإذا لم يكنِ لِقُدْرته تَقَوُّمٌ بدون القدرة الإِلهية لم يَحْصُل مجموعُ القدرتين، لانتفاء أحد جزئيه. أَلا ترى أَنَّ العبد ليس له وجودٌ في نَفْسه، أي مع قَطْع النَّظر عن إيجادِ خالقه، فإِذا لم يستقلَّ في وُجُوده لم يستقلَّ في سائر صفاته، فكلُّ صفةٍ تفرض تكون تلك أيضًا تحت القدرةِ، وعلى هذا فقُدرتُه أيضًا تحت قُدْرتِه تعالى، ويجري الكلامُ فيها أيضًا بِمِثْله، فيتسلسل.
صحيح البخاري
باب التَّحَنُّطِ عَنْدَ القِتَال
صحيح البخاري
باب فَضْلِ الطَّلِيعَة
(5/335)
---(5/168)
كان من دأبِ السَّلف أنهم إذا تهيأوا للقتال حُنِّطوا. مخافة أن تتغير أجسادُهم بعد القتل، لأنَّ الأوانَ أوانُ الحرب، وقد يتأخَّر فيه الدَّفْنُ، وكان أهلُ مِصْر يَطْلون أجسادَهم ببعض الأدوية، فلم تكن تَفْسُد أجسادُهم إلى مدة طويلةٍ، حتى وُجدت أجسادُ بَعْضِهم بعد قرون، كما دُفِنت: ثم فُقدت تلك الأدوية، وبقي استعمال الحَنُوط.
2845 - قوله: (قد حَسَرَ عن فخذِيْه) الأحُجَّة فيه على عَدم كَوْنِ الفَخِذ عورةً، لكونه فِعْل صحابيَ في محلًّ مُخْتَلَفٍ فيه.
2845 - قوله: (انكِشَافًا مِن النَّاس) أي نوع انهزام، لأنَّ الناس إذا تَرَكْوا مواضِعَهم وتفرَّقُوا، حَصَل الانكشافُ لا محالة.
2845 - قوله: (هكذا عَنْ وُجُوهِنا)أي خلوا وقومُوا عنَّا لِنُضارب القَوْمَ.
واعلم أن ثابت بنَ قَيس هذا كان خطيب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قُتِل يوم اليمامةِ؛ وكانت دِرْعُه سُرِقت فنساها أحدٌ منهم تحت وَبَرِ الإِبل، فرآه أحدٌ في المنام يقول: أن بَلِّغ أبا بكرٍ مني السَّلام، وقل له: إنه لا يكون لكم عُذْرٌ عند الله ورسولِه أنْ وُجِد منكم خُشوعٌ في الحرب، وأن دِرْعه في مَوْضع فلان، فأخرجه. ذكره مُسْلمٌ مَبسوطًا.
صحيح البخاري
باب سَفَرِ الاثْنَين
(5/336)
---(5/169)
ترجم بجواز سَفَرَ الرجُلين، ونَظرُه إلى ما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنَّ الواحد شيطان، والاثنين شيطانانِ، والثلاثةُ رَكْبٌ وحاصل المقام أن الشَّرْع لا يَتْرك النُّصْح في كلِّ موضع، فَيُعلِّم ما هو الأَنْسب للنَّاس، والأَوْلى يحالهم، مع عِلْمه أن الناس قد لا يأتون به للعجز عنه في بعض الأحوال، كما في الحديث المذكور، فإِنَّ الرفاقة قد تعوز، ويضطر الإِنسانُ إلى السَّفر منفردًا، فيجيزُه الشَّرْع لا محالة، مع بيان الضَّررِ فيه. وهذا كما نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعن كَسْب الحِجامة، ثم لا بد للناس من احتجام؛ وكالعِرافة نَهى عنها، ثم قال: ولا بدَّ لهم من العرافة. فيحتاجُ النَّاسُ إلى أمورٍ بحسب حوائجهم، يكون فيهم لهم ضررٌ، فيأتي الشَّرْعُ، ويخبرهم بما فيه من الضرر، وَيَدُلَّهم على ما هو الأَنْفَعُ لهم، مع عِلْمه أن النَّاس لا مناص لهم من الاقتحام فيه تكوينًا؛ ويجتمع في مثل هذه المواضع النهيُّ مع بيانِ الجواز، وكلاهما مَعْقُولٌ، كما عرفت.
صحيح البخاري
باب الخَيلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَة
وهذا لكونه آلةً للجهاد، فهو إشارةٌ إلى أن الجهادَ ماضٍ إلى يومِ القيامة.
صحيح البخاري
باب الجِهَادُ ماضٍ مَعَ البَرِّ وَالفَاجِر
صحيح البخاري
باب مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا
(5/337)
---(5/170)
فيه إيماءٌ إلى أَصْلٍ عظيمٍ، وهو أَنَّ الأمور التي تتقوَّمُ من الجماعةِ لا يُنْظر فيها إلى الأحوال الأفراد خاصَّةَ لا تخلو عن بَرِّ وفاجر دائمًا، ويتعذَّرُ وجودُ جماعةٍ لا يكون فيها إلا الخيار؛ فلو توقف الأمر على تَلَّوُّم مِثْل تلك الجماعة لأدَّى إلى تعطيل أكثرِ أعمال الخير، وقد سار في المثل السائر: ما لاُ يُدركُ كُلُّه، لا يترك كُلُّه. فلما كان «الجهادُ ماضٍ إلى يومِ القيامة»، وهوأَمْرُ جماعةٍ، ومعلوم أنَّ خيرَ الأئمة لا يتيسر دائمًا، فإِما أن يتعطَّل الجهادُ، أو يبقى مع كل بَرَ وفاجر؛ فَنَّه على أن لا تمتنعوا عن الجهادِ بفُجُور الأئمة، فإِنَّ الله تعالى قد يُؤيِّد دِينَه بالرُّجُل الفاجر أيضًا. فإِنَّ في تَفَحُّص أحوال الناس، والتأخُّر عن فاجرهم تأخرًا عن الخيرِ المحْض، وهو الجهاد، وذلك قد يؤدِّي إلى انعدامه، فإِطاعةُ فاجرٍ أَوْلى من إعدام خَيْرٍ، والتطوُّق بالذُّلّ أَبَدَ الدَّهْرِ.
وقد مرَّ في العِلْم: أن الطائفةَ التي تبقى ظاهرةً على الحقِّ إلى يوم القيامة، هي طائفةُ المجاهدين، حتى يَنْزِلَ المسيحُ ابنُ مريم، فيجاهد في سبيلِ الله، وهو قوله تعالى: {وجَاعِلُ الديَن اتَّبعُوك فَوْقَ الذين كَفَرُوا إلى يوم القيامةِ} (آل عمران: 55) وراجع تفصيله في رسالتي «عقيدة الإِسلام، في حياة عيس عليه الصلاة والسلام».
صحيح البخاري
باب اسْمِ الفَرَسِ وَالحِمَار
فذكر فيه فَرس أبي قتادة أي الجرادة، واسم فَرَس النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو اللَّخِيف - واسم حِمارِه - وهو عُفَير(2
ه2) وفي «السِّير» أن هذا العُفَير ألقى نفسه في حفرةٍ بعد وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ومات.
(5/338)
---(5/171)
2855 - قوله: (كان النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي حائطنا فرسٌ) أي كان يربى ويَرْبِطُ في حائطنا. واعلم أن التاء في أسماء الذكور كثيرةٌ في لسان العرب، لكونها منقولةً، كطحلةَ، فإِنَّها كانت اسمًا لشجرةٍ ذاتِ شَوْك، ثُم سُمِّي بها رجلٌ من الصحابة، وبقيت التاي فيه على الأصل؛ فقالوا: بأنه غيرُ مُنْصرِف للتاء والعَلَمية.
صحيح البخاري
باب ما يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الفَرَس
2858 - قوله: (إنَّما الشُّؤمُ في ثَلاثةٍ) واعلم أنَّ الأحاديثَ في الشُّؤم قد تَرِد بلفظ الخير، كما في الحديث المذكور؛ وقد ترِد بلفظ الشِّرْط، هكذا لو كان الشُّؤمُ لكان في ثلاثةٍ، فما لم يتعيَّن اللفظُ لم يَثْبت الشُّؤمُ عند الشَّرع، ثُم المرادُ من الشؤم، عند العماء هو عدمُ ملاءتها؛ وإنما خصَّصها بالذكر لأهميتها، ولكنها أكثرَ معاملةِ الرَّجل بها. ثُم لا بد من تسليمِ خصائص شِيَاتِ الفَرَس، لما في «جامع التَّرْمذي» أن فَرَس كذا في شِيَةُ كذا، يكون كذا، وفَرَس كذا فيه شِيَةُ كذا، يكون كذا. وهذا كلُّه يُعْلم من التجربة، كما اشتهر عند أهل العُرْف: كُلّ طويلٍ أحمق. فتلك الفُروقُ باقيةٌ في الأحاديث. أما النحوسةُ التي هي عند أهل الجاهلية، فقد وضعها الشَّرْعُ تحت قَدَمهِ.
صحيح البخاري
باب الخَيلُ لِثَلاثَة
صحيح البخاري
باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيرِهِ في الغَزْو
وقد كُنت تَمسَّكْت بالحديثِ على وُجوبِ الزَّكاة على الفَرَس أيضًا أيضًا.
2861 - قوله: (جَمَلٍ (لي) أَرْمَكَ) خاستر أونت.
2861 - قوله: (لَيْس فيه شِيْةٌ) أي بُقْعةٌ خلاف لَوْنِها.
(5/339)
---
2861 - قوله: (وعَقَلْتُ البعير في ناحِيةِ البلاطِ) وهذا صريحٌ في أنَّه لم يَعْقِلها في متن المسجد، ولكنها كانت في ناحية البلاط؛ فلا عبرةَ بإِبهامِ الرُّواةِ، لأنه شاع عنده التعبيرُ عن المكان القريبِ بذلك المكانِ بعينه.
صحيح البخاري(5/172)
باب الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ الصَّعْبَةِ وَالفُحُولَةِ مِنَ الخَيل
- قوله: (وقال راشِدُ بنُ سَعْد)...الخ، وهو راوٍ من رُواةِ الشَّام.
قوله: (لأنها أَجْرَى) ، وقد اشتهر في العُرْف أن الفَرَس أَجْرَى الحيواناتِ، وأَشْجَعُها، وأفرسها؛ ولذا سُمِّي فَرَسًا، لِشِدَّة فِرَاستِه في الحرب.
صحيح البخاري
باب سِهَامِ الفَرَس
صحيح البخاري
باب مَنْ قادَ دَابَّةَ غَيرِهِ في الحَرْب
البِرْذَون ما يكونُ أحدُ أبويه عَجمِيًا.H
2863 - قوله: (جَعَل لِلفَرس سَهْمين) وعند أبي داود، أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمأَسْهم لرجلٍ، لِفَرسِه ثلاثةً أسهم: سهمًا له، وسَهْمَينِ لِفَرسه. اه. فسقط ما ذكروه من التأويل، ولنا ما عند أبي داود: في حديث قِسْمة خبيرَ أَهْل الحُدَيبية: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقَسَمها على ثمانية عشر سَهْمًا؛ وكان الجيش الفًا وأربع مئة، فيهم ثلاث مئة فارس؛ فأعطى الفارِسَ سَهْمين، والراجل سَهْمًا.
فإِنَّ قلت: إنَّ الجيش ما في «البخاري» في المغازي إلفًا وأربع مئة، أو أكثر؛ وحينئذٍ لا يستقيم الحديثُ على مذهب الحنفية. قلت: وفيه مِثْل ما عند أبي داود أيضًا؛ فلا بُدَّ من تسليم العَدَدَيْن؛ ويقال: إن في أحد الطُّرق بيان عددِ المقاتلةِ، وفي الأخرى بيان عدد المجموع.
(5/340)
---
وأما حديثُ ثلاثة أَسهم - كما عند أبي داود - فمحمولٌ على التنفيل عندنا، وهو إلى رأى الإِمام، وذلك لأنَّ الجِهاد محلُّ التحريض، فورد فيه التنفيلُ بالسَّلب، والثلث، والرابع، إلى غير ذلك؛ فلما ثبت هذا النوعُ في هذا الباب لم يبق في حَمْله على النَّفْل بُعْدٌ.(5/173)
قوله: (لِتَرْكَبُوها وزِيَنة) فالركوبُ من مقاصِدها الأصلية، والزينةُ من أَوْصافها الخارجية التابعة، ولذا ذكرها بالعطف. من ههنا عُلِم أن لا حُجَّةَ للشافعيةِ في قول عمر؛ أن رَفْع اليدين زينةٌ للصلاة. لأنَّ لفظ الزينةُ يُنبىء عن كونِها معنىً زائدًا. والمصنِّف كَرَّرَه، وطحنه في جزء «رَفْع اليدين»؛ فطنَّ أنَّ قوله حجةٌ له، مع أن كونه للزينةِ يدلُّ على خِفَّة أَمْره، وأنه ليس مقصودًا لِذاتِه.
صحيح البخاري
باب الرِّكابِ وَالغَرْزِ للدَّابَّة
صحيح البخاري
باب رُكُوبِ الفَرَسِ العُرْي
صحيح البخاري
باب الفَرَسِ القَطُوف
الرِّكاب من الحديد، والخشب، والعَزْر لا يكون إلا من الجِلْد.
صحيح البخاري
باب السَّبْقِ بَينَ الخَيل
صحيح البخاري
باب إِضْمارِ الخَيلِ للِسَّبْق
صحيح البخاري
باب غايَةِ السَّبْقِ لِلخَيلِ المُضَمَّرَة
ويجوز فيه الاشتراطُ مِن طَرفٍ واحد، ولا يجوز من طَرَفين.
صحيح البخاري
باب نَاقَةِ النبي صلى الله عليه وسلّم
اختلف أهلُ السِّيرَ في أن القَصواء، والجَدْعَاء، والعَضْبَاء، كانت ثلاثَ نُوقٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم أوكلها أسماءُ لناقةٍ واحدةٍ.
قوله: (ماخَلأت) أي ما طغت.
2872 - قوله: (قَعُود) هو الإِبل القَوي ابنِ ثلاثِ، أَرْبعِ سنين.
صحيح البخاري
باب الغَزْوِ عَلَى الحَمِير
(5/341)
---
صحيح البخاري
باب بَغْلَةِ النبي صلى الله عليه وسلّمالبَيضَاء
صحيح البخاري
باب جِهَادِ النِّسَاء
- قوله: (أَهُدَى مَلِكُ أَيْلَةَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمبَغْلَةَ بَيْضَاءَ) وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّموَهَبها عليًا؛ وهي التي يُقال لها: الدُّلْدِّل.(5/174)
2874 - قوله: (لا والله ما ولى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّم جواب على أسلوبٍ الحكيم، فإِنَّ العبرة بالإِمام: وإذا ثبت النبيّ صلى الله عليه وسلّمعلى مكانه لم يتزحْزَح عنه قَيْدَ شِبْر، بل لم يَزَل يُركِض بَغْلَتَه أمامَهم، فكيف يصح الإِلزامُ بالتولِّي وفي كتب السِّيَر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكلما كان يريدُ أن يأخُذَ قبضةً من تراب، كانت بَغْلَتَه تهوي نحو أَرْض حتى يأخذها، فيضرِبُها في وُجُوهِهم؛ فلم تَبْق منهم نَفْسٌ واحدة إلا وقعت في عينيها، فانهزموا، وتولّوا مُدْبِرين.
صحيح البخاري
باب غَزْوِ المَرْأَةِ في البَحْر
صحيح البخاري
باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ في الغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِه
صحيح البخاري
باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجال
2877، 2878 - قوله: (فَتَزَوَّجَت عُبادة بَن الصَّامِت)...الخ، قيل: إنها كانت في نِكَاحِه مِنْ قَبْل، فما معنى قوله: فتزوجت؟ قال الحافظ: بتقدير الطلاق، أي طَلَّقها، ثُم تَزوَّجها، قلت: لا حاجةَ إليه، بل هو بيانٌ للنِّكاح الماضي، لا أنَّها تزوَّجت الآن؛ على أنه لا عِبرة باللفظ، فإِنَّ الرواةَ يَخْبِطُون فيها كثيرًا.
صحيح البخاري
باب حَمْلِ النِّسَاءِ القِرَبَ إِلَى النَّاسِ في الغَزْو
صحيح البخاري
باب ُ مُداواةِ النِّساءِ الجَرْحَى في الغَزْو
(5/342)
---
صحيح البخاري
باب رَدِّ النِّسَاءِ الجَرْحى وَالقَتْلَى
صحيح البخاري
باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ البَدَن
- قوله: (قال أو عبد: تَزْفِرُ: تخِيطُ) وهو سَهْوٌ؛ ولم يَثْبُت في اللغة معناه الخياطة؛ فالصواب أنَّ معناه تَحْمِل.
صحيح البخاري
باب الحِرَاسَةِ في الغَزْوِ في سَبِيلِ اللَّه
2885 - قوله: (لَيْتَ رَجُلا صالِحًا مِن أَصْحعابي يَحْرُسُني اللَّيلة) ...الخ، وذلك قبل أن يَنْزِل قولُه تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67).
صحيح البخاري(5/175)
باب ُ فَضْلِ الخِدْمَةِ في الغَزْو
صحيح البخاري
باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ في السَّفَر
2890 - قوله: (امْتَهِنُوا) أي بُلُوا من الخدمة، كما يَبْلى الثوبُ من الاستعمال.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّه
صحيح البخاري
باب مَنْ غَزَا بِصَبِيّ لِلخِدْمَة
صحيح البخاري
باب رُكُوبِ البَحْر
وإنما جعل الراط في المَرْتبة الثانيةِ من الجهاد، لأنَّ الرِّباط لا يكون من واحدٍ، بل يكون من التناوبُ، فانحط منه منزلةً، وترجمته جوكى دينا.
صحيح البخاري
باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ في الحَرْب
(5/343)
---
واعلم أن التَّوَسِّل بين السَّلف لم يكن كما هو المعهود بيننا، فإِنَّهم إذا كانوا يريدون أن يتوسَّلُوا بأحدٍ، كانوا يذهبون بِمَنْ يتوسَّلون به أيضًا معهم، ليدعوا لهم، يستغيثون بالله، ويدعونه، ويرجون الإِجابة منه، ببركةِ شموله، ووجوده فيهم؛ وهو معنى الاستعانة بالضعفاء، أي استنزال الرَّحمةِ ببركةِ كَوْنه فيهم. أما التوسُّل بأسماء الصالحين، كما هو المتعارفَ في زماننات، بحيث لا يكون للمتوسِّلين بهم عِلْم بتوسُّلنا، بل لا تُشتلرط فيه حياتُهم أيضًا، وإنما يُتوسل بِذِكْر أسمائِم فَحسْب، زعمًا منهم أن لهم وجاهةً عند الله، وقبولا، فلا يضيِّعُهم بِذِكْر أسمائهم، فذلك أَمْرٌ لا أُحِبُّ أَنْ اقتحم فيه، فلا أَدَّعِي ثبوتَه عن السف، ولا أَنْكِره، وراجع له الشَّامي. أما قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة: 35)، فذلك. وان اقتضى ابتغاءَ واسطة، لكن لا حُجَّة فيه على التوسُّلِ المعروف بالأسماء فقط. وذهب ابنُ تيميةُ إلى تحريمه؛ وأجازه صاحبُ «الدر المختار»، ولكن لم يأت بِنَقُلٍ عن السَّلَف.
صحيح البخاري
باب لا يَقُولُ فُلانٌ شَهِيد
(5/344)
---(5/176)
2898 - قوله: (ما أَجْزَأَ مِنَّا اليومَ أَحَدٌ كما أَجْزَأَ فُلانٌ) وليجعله نظيرًا لقوله صلى الله عليه وسلّم «لا تُجزىءُ صلاةُ مَنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب، عند الدارقطني؛ فإِنَّ الشافعية زعموه أنه لا يمكُنُ حَمْلُه على نَفي الكمال، لأنَّ النَّفْي فيه نَفْيُ الإِجزاء، أي نفي الكفاية، فلا يَصِحّ حَمْلُه على الكفاية، مع نَفْي الكمال. قلت: لم لا يجوز أن يكون المرادُ نَفْي الإِجزاء، نَفْي كمالٍ الإِجزاء، كما في اللفظ المذكور؟ وكان مولانا شيخُ الهند يتبسَّم عند هذا اللفظ إشارةٍ إلى ما قلنا. وفي طُرُق هذا الحديث: «إن الله ليؤيِّدُ دِينَه بالرَّجْل الفاجر»، معناه أن ذلك من عجائب قدرته، وغرائب سلطانه، حيث يؤيِّدُ دينه بالرجل الفاجر، لا أَنَّ فيه مَدْحًا له؛ ولدا أسند التأييدَ إلى نَفْسه، كأنه لا يكون من نِيَّةِ هذا الفاجرِ أن يُؤيِّدَه، ولكنَّ الله سبحانه يُؤيِّدُ به دِينَه، ويجعله واسطةً له.
صحيح البخاري
باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْي
والتحريضُ على الرَّمْي كان في الزمان الماضي، وأما اليوم فينبغي أن يكونَ على تَعَلُّم استعمالِ الآلات التي شاعت في زماننا، كالبندقية، والغاز، ومن الغباوة الجمودُ على ظاهر الحديث؛ فإِنَّ التحريض عليه ليس إلا الجهاد، وليس فيه معنىً وراءه؛ ولما لم يق الجهادُ بالأقواس لم يبق فيها معنىً مقصودٌ، فلا تحريض فيها؛ ومن هذه الغباوةِ ذهبت سَلْطنةُ بُخَاري، حيث استفتى السلطانُ علماءَ زمانهه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه، فمنعوه، وقالوا: إنَّها بِدْعة؛ فلم يدعوه أن يشتريها حتى كانت عاقبة أَمْرِهم أنهم أنهزموا، وتسلَّط عليهم الرُّوسُ. ونَعوذُ بالله من الجهل.
(5/345)
---(5/177)
ونحوه ما وقع لِسُلطان الرُّوم، حيث كتب إلى بعضِ السَّلاطين يخبرُه عن رغبته في الإِسلام - وكان وثنيًا - فسأله هل لي رخصةٌ في شُرْب الخَمْر في دِينك، فإِني لا أستطيع أن أَصْبِرَ عنها، فلو كان لي رُخصةٌ أسلمت؟ فاستفتى السلطانُ علماءَ زمانه، فأجابوا أنها حرامٌ، ولا نجد له رخصةً؛ فإِنْ شاء ترك الخمر، ويدخل في الإِسلام؛ وإن شاء بقي على دينه، ويَشْرب الخَمْر. فلما بَلَغ خبرُه إلى نصراني دعاه إلى دِينه، وقال: أشرب الخَمْرَ، وتنصَّر؛ فاحتار النصرانية، والعياذ بالله مِن سُوء الفَهْم، والجهل. ولو استُفْتيت منه لَقُلْتُ له: ادخل في الإِسلام، واعتقد بِحُرمة الخَمْر، ثم إن إبيت إلا أنْ تشربَ الخَمْر فاشرب.
فالحاصل أن التحريضَ في كلِّ زمانٍ بِحَسبِهِ؛ وفي النصِّ إشارةٌ إليه أيضًا، فقال تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) فالمقصودُ هو الإِرهابُ، وذلك لا يحصل اليومِ بِتَعلُّم الرَّمي.
2899 - قوله: (ارمُوا بني إسماعِيل) ويترجم المُصنِّف فيما يأتي. وبحث الشارحون هناك في تعديدِ قبائل بني إسماعيل؛ ثم اختلفوا في قبائل اليمين أن كُلَّها من بني إسماعيل أو لا. وفي حديث الباب دليلٌ على كَوْنِ قيلة أَسْلَم من بني إسماعيل.
2899 - قوله: (وأَنَا مَعَ بني فُلان)، (والمعية في الشَّركة الاسميةِ فقط).
صحيح البخاري
باب اللَّهْوِ بِالحِرَابِ وَنَحْوِهَا
والمرادُ به اللَّهْو للتعليم؛ وأخرجه المصنَّف في أبواب المساجد، واستدل منه على التوسعةِ في أحكامها، وقد مرَّ معنا عن مالك أنَّ هذا اللَّهو كان خارِجَ المسجد، قريبًا منه، فلا يَتِمُّ ما رامه المُصنَّفُ.
صحيح البخاري
باب المِجَنِّ وَمَنْ يَتَتَرَّسُ بِتُرْسِ صَاحِبِه
صحيح البخاري
باب الدَّرَق
صحيح البخاري
(5/346)
---
باب الحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيفِ بِالعُنُق
والمِجَنَّ من الجلد؛ والتُّرْس من الحديد.(5/178)
قوله: (فكانت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلّمخاصَّةً) أي في وِلايته، لا في مِلْكه.
صحيح البخاري
باب حِليَةِ السُّيُوف
صحيح البخاري
باب مَنْ عَلَّقَ سَيفَهُ بِالشَّجَرِ في السَّفَرِ عِنْدَ القَائِلَة
صحيح البخاري
باب لُبْسِ البَيضَة
وقد أجازها فقهاؤنا.
- قوله: (العَلابِيَّ) جمع العِلْباء، هي عَصَبٌ في ظَهْر البَعِير يكونُ من عُنُقه إلى ذَنَبه.
قوله: (الآنك) (سيسه). يريدُ أن الصحابةَ رضي الله تعالى عنهم الذين فتح اللهاُ البلادُ على أيديهم لم يَبْلُغوا في الرَّفاهِيةِ ما فيه أنتم اليوم؛ فإِنَّ حِلْيةَ سيوفِكم الذَّهب والفِضَّة، ولم تكن حِلْيةُ سيوفِهم إلا مِن هذه الأشياء التافهةِ.
صحيح البخاري
باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاحِ عَنْدَ المَوْت
صحيح البخاري
باب تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنِ الإِمامِ عِنْدَ القَائِلَةِ، وَالاسْتِظْلالِ بِالشَّجَر
صحيح البخاري
باب ما قِيلَ في الرِّماح
كان أهلُ الحاهليةِ إذا مات منهم عَطِيمٌ من عظمائهم كسروا سلاحه؛ يَقْصِدُون به أنه ليس أحدٌ بعده بَيْلى بلاءه.
صحيح البخاري
باب ُ ما قِيلَ في دِرْعِ النبي صلى الله عليه وسلّموَالقَميصِ في الحَرْب
(5/347)
---
2915 - قوله: (اللهم إنْ شئتَ لم تُعْبد بَعْدَ اليوم) وإنَّما أَلَحَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعلى رَبِّه لكونه نبيًا، وزعيمًا، ومُدَّعيًا لِنُصْرته، وأن العاقبةَ تكون له، والهزيمةَ لهم، وأن دِينه سيَتِم، ويَغْلِب الأديانَ كُلَّها؛ فلم يَزَل في مقام الخَوْف حتى بُشِّر بالفَتْح، وهو يَثُبُّ في دِرْعه من شِدَّة الفَرَح، وأما أبو بكر فإِنَّما لم يبلغ به الحالُ مَبْلَغه، لأنه لم يكن زعيمَ هذا االأَمْرِ، ولا كان مُدَّعيًا لشيء، فلم يَذُق ما ذاقه.(5/179)
2918 - قوله: (وَمَسَحَ بِرَأسِه) ولذا قُلْت: إنَّ الحديثَ لا يقوم حُجَّةً للحنابلة في الاجتزاء بالمَسْح على العِمامة، فإِنَّ الراوي قد يُفْصِح بِمَسْح الرأس أيضًا في تلك القصة بعينها، فلم يدَّل على الإِجزاءِ بمسح العِمامة فقط.
صحيح البخاري
باب الجُبَّةِ في السَّفَرِ وَالحَرْب
- واعلم أن الثَّوْبَ إذا كانت لُحْمتُه وسَدَاه حريرًا، فهو حرامٌ مطلقًا؛ فإِنَّ كان سَدَاه حريرًا فقط، فهو حلالٌ مطلقًا، وإن كانت لُحمتُه حريرًا فقط، فهو جائز في الحرب، دون غيره، وأما مسألةُ التداوي، فهي مسألةُ أُخرى، وأما عند الآخرين فهو جائزٌ في الحَرْب مطلقًا.
2919 - قوله: (مِنْ حِكَّةٍ كانت بهما) وفي كُتُب الطبِّ أنَّ الحرير يفيدُها، فهو للِعلاج، وقد يقول الرواي: القَمْل، بدل: الحِكة.
صحيح البخاري
باب الحَرِيرِ في الحَرْب
صحيح البخاري
باب ما يُذْكَرُ في السِّكِّين
أراد بيانَ الاقوام التي قاتلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واعلم أَنَّ الرومَ كان في الأصل لَقَبًا لإِيطاليا فلما شَقَ عصَاهم، واختلفوا فيما بينهم، فذهب بعضُهم إِلى القسطنطينية، فالرومُ هم النَّصاري. وقال العَيْني: إنَّ الرُّومَ ابن العيص، أو ابن ابنته؛ ولم يتحقَّق فيه عندي شيءٌ.
(5/348)
---
صحيح البخاري
باب ما قِيلَ في قِتَالِ الرُّوم
صحيح البخاري
باب قِتَالِ اليَهُود
2925 - قوله: (هذا يَهُوديُّ ورائي، فاقتلُهْ) وهؤلاء هم الذين ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام لِقتالهم، دونَ يهودِ سائر الأرض، وهم الذين يَتَّبعون الدَّجال، ثُم إنَّ المؤرخين قالوا: إنَّ عشرة أَسْباط من بني إسرائيل قد دخلوا في الإسلام، وبقي اثنان فقط، فليقد قدرهما.(5/180)
واعلم أن بأجوجَ ومأجوج لا يَبْعُد أن أن يكونوا أهلَ روسيا، وبريطانيا. والمراد من خروجِهم حَمْلَتُهم، وقد خرجوا مرارًا. فإِنَّ تيمور لنك(2، وجَنْكِيْزخَان، وهُلاكو «كلهم كانوا من يأجوج ومأجوج، ولم أَرَ فِعْلَهم ببني آدم إلا التدميرَ، واستباحةَ بيضتهم، ولعلهم يخرجونِ مِن نَسْلهم في زمنٍ قَدَّره الله تعالى. فَيَعِيثُون في الأرض مفسدين. أما السدُّ فقد انْدَكَّ اليوم، وحَقَّقت في رسالتي «عقيدة الإِسلام» أن هؤلاء ليسوا إلا من بني آدَم، وأَنَّ المرادَ من خروجهم ليس إلا خروجُهم على وَجْه الفساد، وأن السَّدَّليس بمانعٍ من خروجهم اليوم أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ قِتَالِ التُّرْك
صحيح البخاري
باب قِتَالِ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَر
صحيح البخاري
باب مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الهَزِيمَةِ، وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَاسْتَنْصَر
صحيح البخاري
باب الدُّعاءِ عَلَى المُشْرِكِينَ بِالهَزِيمَةِ وَالزَّلزَلَة
وإنما وردت الأحاديثُ في ذَمِّهم لكونهم كُفَّارًا إذ ذاك، أما ليوم فإِنهم أسلموا جميعًا، فينبغي أن يَرْتَفع عنهم مَيْسم السوء، ولا أَعْرِفُ قومًا أسلموا كلُّهم إلا العربُ، والتركُ، والأَفغان، فإِنَّه يَكْفر مَنْ كفر منهم إلا بعد إسلامه.
(5/349)
---
2927 - قوله: (المُطْرَقَة) دوتهى. وهذه الحِلْية التي تنطبق على التُّرك الذينهم بالشَّرْق، والشمال.
صحيح البخاري
باب هَل يُرْشِدُ المُسْلِمُ أَهْلَ الكِتَابِ أَوْ يُعَلَّمُهُمُ الكِتَاب(5/181)
وفي الحديث ما يدلُّ على أن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكتب إليهم آيةً من القرآن، فبلغت أيدي أَهْل الكتاب. قال الحنفيةُ: لا يجوزُ أن يُذْهب بالمصحفِ إلى أرض العدو، إلا إذا كانت لهم شَوْكةٌ، واختلفوا في تعليم القرآن مَنْ كان كافرًا؛ فإِنه ربما يعودُ مضرةً على الدِّين. ونُقِل عن المازني أنه جاءه أحدٌ من اليهود يريدُ أن يقرأ عليه كتابَ سيبويه على مئة دينار؛ فتفكر فيه المازني ساعةً، وأَبى أن يعلِّمه، وقال: إنَّ في كتابه نحو مئة آية، وفي تفسرها له مضرةٌ، وضِيق العيشِ أَحبُّ إلى من مضرَّةِ الدِّين، فأبدله الله تعالى ألفًا، بدل المئة؛ وقصته معروفة.
صحيح البخاري
باب الدُّعاءِ لِلمُشْرِكِينَ بِالهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُم
صحيح البخاري
باب دَعْوَةِ اليَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَعَلَى ما يُقَاتَلُونَ عَلَيهِ وَما كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم إِلَى كِسْرَى وَقَيصَرَ، وَالدَّعْوَةِ قَبْلَ القِتَال
صحيح البخاري
باب دُعاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمإِلَى الإِسْلامِ وَالنُّبُوَّةِ،وَأَنْ لا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه
(5/350)
---
- قوله: {سواءٍ بَيْنَا وَبَيْنَكم} (آل عمران: 64) وإنما قال ذلك، لأنَّ التوحيدَ مُسَلّم عند أكثرِ أهل المِلل، وإن كان في الكفار بمجرد دعاويهم؛ فإِنَّه ليس منهم أَحَدٌ إلا ويدَّعي التوحيدَ؛ وبهذا الاعتبار قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّمما قال، ألا ترى أنَّ مَلِك القسطنطينية، هذا مع قوله بالتثليث، كيف صَدَّق أبا سفيان، وقال: بدلك يأمرُ الأنبياءُ عليهم السلام. قال المؤرخون: إنَّ النصرانية بهذا النمط يُقِمها إلا قسطنطين الأعظم، وكان هِرَقْل أيضًا أتبعه فيها.
صحيح البخاري
باب مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيرِهَا، وَمَنْ أَحَبَّ الخُرُوجَ يَوْمَ الخَمِيس
صحيح البخاري
باب الخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْر(5/182)
وكانت عامَّةُ عاداتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالتوربة في الغزوات، لكنها أنفعَ في الحروب، إلا في تَبُوك؛ فإِنَّه جَلَّى للناس أَمْرَهم ليتأهَّبوا.
قوله: (ومَنْ أَحبَّ الخُروجَ يومَ الخَمِيس) وورد في روايةٍ: يوم السبت أيضًا؛ فدلَّ على أنه لا نُحوسة في الأيام، ولكنه صلى الله عليه وسلّملما كره الخروج يوم الجُمعة خرج يومًا قَبْلها، أو يومًا بعدها. وليس وراء ذلك مطلوبيةً أخرى في هذين اليومين عندي، والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
باب الخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْر
يشيرُ إلى ضَعْفِ ما نقِل عن عليّ، أن أواخِرَ الشَّهر منحوسةٌ، وفَسَّر بَعْضُهم قوله تعالى: {في ويم نَحْسٍ مُسْتمرٍ} (القمر: 19) بأواخر الأيام؛ فَنبَّه على أنه ليس بشيء، فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقد خرج في أواخر الشهر.
صحيح البخاري
باب الخُرُوجِ في رَمَضَان
(5/351)
---
يريد أَنَّ الأَحْرى بحالِ المُسْلم أن لا يَشُدَّ راحلته، ورمضانُ أمامه، فإِنه قد يوجِب الفِطْر في رمضانْ، والمطلوبُ للشارِع أن يَشْهَدَه، وهو يؤدِّي وظيفته، وإن كان رخصه للإِعذار بالفِطْر أيضًا، لكن الأصل فيه هو الصوم، والفطر بالعوارض، وكذلك الأَمْر في مِثْله، يُبنى على أحوال، ولذا ثبت فيه السَّفر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري
باب التَّوْدِيع(5/183)
2955 - قوله: (فحرِّقوهما) وكان أحدهما هبار بن الأسود. وإنَّما أَمْر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبتحرِيقه لأنه كان طعن راحلةَ زَيْنب بنتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمحين بعثها أبو العاص إلى المدينةِ على مواعدته من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فسقطت عنها، وكانت حاملةً، فسقط جنينُها. وفي الحديث جوازُ التَّحْريق بالنَّار، ولا يوجدُ في فِقْهنا إلا إحراقُ اللُّوطي؛ ورُوي عن عليِّ رضي اللهاُ عنه أنه حَرَق قومًا من الزنادقة، زعموا أنَّ الأُلوهيةَ حَلَّت فيه، والعياذ بالله، ولعله قتلهم، ثم حَرَّقهم، كذا في «التمهيد» لأبي عُمر. وحينئذٍ يخرج الكلامُ عمَّا نحنُ فيه، فإِنَّ الكلامَ في إحراق الأحياء، دون أجساد الأموات، ثُم عن أحمدَ أنه أجاز إحراق الزنابير، وبه أفتي.
2954 - قوله: (فقال: إني كُنْت أَمَرْتُكُم أن تحرِّقُوا فُلانًا، وفُلانًا بالنَّار، وأنَّ النَّارَ لا يُعذِّبُ بها إلا اللهاُ، فإِنَّ أَخَذْتُموهُما فاقتلُوهُما) وحملة الفقهاء على التغيير في اجتهادِه صلى الله عليه وسلّم فرأى أولا أن يحرِّقهم، ثم استقر اجتهادُه على أن لا يفعله، وعندي ليس هذا برجوعٍ، بل هو عدولٌ عن حَقِّه الثابت إلى الأَخَفِّ منه.
v
صحيح البخاري
باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِمام
(5/352)
---
الشيءُ إذا لم يخالف الشَّرْع، وكانت فيه مصلحةٌ للعامة، هل يَجِبُ بأمر الأمير، وهل يلزم فيه طاعتُه، أَم لا؛ فالرأي فيه مُخْتلف؛ وحَرَّر الحَموي في «حاشية الاشباه» أَنه إنْ ظهر وباءُ الاستسقاء. فأمر الإِمام بالصِّيام، لأنه يَنْفَع الاستسقاء، وجب عليهم أن يصوموا. قلت: إذا وجب الصيامُ في داء الاستسقاء بأمره. فما بالُ صلاةِ الاستقساء، لا تجب بأَمْره، قل أَمَرَ لوجبت عندنا أيضًا، وكذلك في أمثالها.
صحيح البخاري
باب يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِمامِ وَيُتَّقَى بِه(5/184)
ولفط «الوراء» يقتضي أن يكون الإِمامُ أَمَامَهم، وسائر النَّاس خَلْفه، وليس بمراد؛ بل المرادُ به الوراثيةُ المعنوية، أي تحت تدبير الإمام، وظِلَّه وحمايته، وكَنَفَ جِواره، وعند مسلم في «باب ائتمام المأموم بإِمام» عن أبي هريرة مرفوعًا: «إنَّما الإِمامُ جُنَّةٌ، فإِذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا»... الخ. وهو عندي وَهْم، لأن القطعة الأُولى وردت في الجهاد، وإطاعة الأمير، والثانية في الصلاة؛ فانتقل الراوي من حال الإِمام في الجهاد إلى حالة في الصلاة، فضم تلك القِطْعة بقطعة الصلاة نظرًا إلى أَنَّ طاعة الإِمام واجبةٌ في المَوْضعين، وإلا فليست تلك القطعة في إطاعة الإِمام في الصلاة عندي، وإن كان في الحديث المذكورُ على السِّياق المذكور مفيدًا للحنفية في جزاز القعود في صلاة الخوف، بدون عُذْر، كما هو مذهبنا؛ إلا أن الوُجْدان يَحْكُمِ بِكَوْن السَّياق المَذْكور، وَهْمًا من الراوي، فبناء المسألةِ عليه خروجٌ عن حِمى الحقِّ.
صحيح البخاري
باب البَيعَةِ في الحَرْبِ أَن لا يَفِرُّوا، وَقالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى المَوْت
* نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدا ** عَلَى الجِهَادِ ما حَيِينَا أَبَدَا
(5/353)
---
وهذا النِّزاعُ من باب النِّنزاع اللفظي. فَمن أَنْكر البيعةَ على الموتِ، أراد أن الموتَ ليس مقصودًا؛ فالبيعةُ وقعت على عَدَمِ الفِرار، ومَنْ أثبته لم يَر بها إلا عدمُ الفِرار، وإنْ أَشْرفوا على الموت، فلا نِزاع بعد الإمعان.(5/185)
2961 - قوله: (قال: با ابنَ الأَكْوَع، ألا تُبايعُ؟ قال: قُلْتُ: قد بَايَعْتُ يا رسول الله، قال: وأيضًا بايَعْتُهُ الثانية) قال الشارحون: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمبايعه مرتين، لكونِه شجاعًا شديدَ العدّو، فأحبَّ أن يأخذ منه البيعةُ مَرّتَيْن، لمزيد الاستيثاق. والأَمْر عندي أن ابنَ الأَكْوع إنما بايعهُ مرةً ثانيةً احترازًا عن صورةِ الانحراف، ورعايةً لما سبق له من سانه: «ألا تُبايع»؟ فبادر إليها ثانيةً. ولم يمتنع عنها تشاؤمًا، ولم يتف بجوابه: قد بايعت. وهذا مِن كمال امتثاله، وغايةِ أَدَبه بحضرةِ الرسالة، فلما تقدَّم هو إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمللبيعةِ بايعه هو أيضًا، ولم يَرُدَّه خاسِئًا. وهذا مِن كمال رأفته وغايةِ شَفَقَتِه.
صحيح البخاري
باب عَزْمِ الإِمامِ عَلَى النَّاسِ فِيما يُطِيقُون
صحيح البخاري
باب كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم إِذَا لَمْ يُقَاتِل أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْس
2964 - قوله: (رَجُلا مُؤذيًا) أي ذات أداةٍ، وسلاحٍ نشيط سبك روح.
قوله: (فعَسى أنْ لا يَعْزِمَ علينا في أَمْرَ إلا مَرَّةً) يعني إذا كان يَأمرُنا بِأَمْرٍ مرةً بادرنا إلى امتثاله، حتى لا يحتاج إلى الأَمْر مَرَّتين؛ يريدُ به استعجالهم إلى الامتثال بأَمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري
باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإِمام
(5/354)
---
قوله: {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} (النور: 62 ومن مِثْل هذا تَعَلَّم عليَّ لَفْظَ المِصْر الجامع، فقال: لا جُمعةَ، ولا تَشْرِيق إلا في مِصْرٍ جامِع».
قوله: (لم يَذْهَبُوا حتى يَسْتأذِنُوه) وفي التفاسير أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم إذا اعترتهم حاجة في خطبة الجمعة استأذنوه بالإِشارة، كما يفعله اليوم الأطفالُ في المدرسة عند أستاذهم.(5/186)
2967 - قوله: (هلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَم نبَيَّا؟) وكان مذهبُ أن المديونَ إنْ زاد على دِيْنَه لا بأس به.
صحيح البخاري
باب مَنْ غَزَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسِه
صحيح البخاري
باب مَنِ اخْتَارَ الغَزْوَ بَعْدَ البِنَاء
صحيح البخاري
باب مُبَادَرَةِ الإِمامِ عِنْدَ الفَزَع
صحيح البخاري
باب السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ في الفَزَع
صحيح البخاري
باب الخُرُوجِ في الفَزَعِ وَحْدَه
صحيح البخاري
باب الجَعَائِلِ وَالحُمْلانِ في السَّبِيل
صحيح البخاري
باب الأَجِير
وهي جمع جَعِيلة، وهي الأُجرةُ التي يجعلُها القاعِد لِمَنْ يَغْزُنو عنه في الجِهاد، ولا رَيْب في كَوْنِه مكرُوهًا؛ أمَّا أَخْذُ أُجْرةِ الجهاد فهو جائرٌ، وإنَ حَبِط الأَجْرُ، وفي «الكنز»؛ وكره الجُعْل، وهو بمعنى قطعة من المال يَضعُها الإِمام على الناس لتسوية أَمْر الجهاد، وهو مكروهٌ إذا كان في بيت المال فُسَّحةٌ، أما إذا لم يكن فيه مالٌ فلا بأس، ولعلَّ المصنِّف أيضًا نظر إليه.
قوله: (وقال طَاوُسٌ ومجاهِدٌ: إذا دُفِعَ إليك شيءٌ)...الخ، يعني أنه لا يُشْترطُ أَن يَذْهب به معه في سَفَره، بل له أَنَ يَتْرُكَ في أهله.
صحيح البخاري
باب ما قِيل في لِوَاءِ النبي صلى الله عليه وسلّم
(5/355)
---
يعني أن المجاهدين إذا خرجوا للجهاد، فأخذوا أجيرًا يسوسُ أشياءهم، ويقومُ عليها، فهو يستحِقُّ مِن المَغْنم سوى أُجرتِه؟.
قوله: (وقال الحسن، وابنُ سِيرين، يُقْسَم للأَجِيرِ مِن المَغْنَم) وليس له مِن المَغْنم عندنا شيءٌ، غيرَ أَنَّهُ يَرْضَخُ له الإِمامُ إنْ رأى له.
قوله: (وأَخَذ عَطِيَّةُ فَرَسًا على النِّصفْ، فبلغ سَهِمْ الفَرَس أَربع مئة دينارٍ، فأَخَذ مِئتين وأعطى صاحبه مِئتين، ولا أراه جائزًا في فِقْهنا، إلا أَنَّ البِّطْلان ههنا للنِّزاع، فيجوزُ عند عَدَمِه؛ وقد مر معنا أن البُطلان متى كان من جهة فخافةِ النزاع انقلب جائزًا عند عدَمِه.(5/187)
صحيح البخاري
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»
يريدُ الفَرْق بين اللواءِ والراية؛ ولا بُعْد أن يكون اللواءُ للأمير، والرايةُ لغيره.
صحيح البخاري
باب حَمْلِ الزَّادِ في الغَزْو
صحيح البخاري
باب حَمْلِ الزَّادِ عَلَى الرِّقاب
صحيح البخاري
باب إِرْدَافِ المَرْأَةِ خَلفَ أَخِيهَا
صحيح البخاري
باب الارْتِدَافِ في الغَزْوِ وَالحَج
2979 - قوله: (ما أَجِد شيئًا أَرْبِطُ به إلا نِطَاقي) والمعروف فيه الآن أنه بمعنى كمربند؛ وفي الأصل هو لباسٌ ساتِر للجسد.
2979 - قوله: (بالآخَرِ السُّفْرَةَ)، وهي على وَزْن أُكْلة - والسُّفْرة بالفارسية - بضم السين الدبر فكرِه النَّاسُ، واستعملوه بفتح السين وإلا فالأصلُ هو الضمُّ.
صحيح البخاري
باب الرِّدْفِ عَلَى الحِمَار
صحيح البخاري
باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكابِ وَنَحْوِه
وهذا يُبني على قَدْر طاقةِ الحمار، فإِنْ كان قَويًّا جاز، وإلا لا.
صحيح البخاري
(5/356)
---
باب السَّفَرِ بِالمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ العَدُو
وقد مَرَّ ما هي المسألةُ فيه.
قوله: (كذلك يُرْوَى عن مُحمَّدِ بن بِشْر) أشار البخاريُّ إلى أنَّ المحظورَ أن يُذْهب في السَّفر بالمُصْحف المكتوب، أما المحفوظ في الصُّدور، فلا بأس به، وإنْ كان هو أيضًا قرآنًا.
صحيح البخاري
باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الحَرْب(5/188)
واعلم أن المصنِّفين الذين جمعوا الأورادَ، والأذكارَ، لم يتعرَّضُوا إلى هذا التكبير، مع أنه ثابتٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي خيبرَ، وكذا عن ابن ماجة: «فتح القسطنطينية بصوت التكبير»، وكذا في «مستدرك الحاكم» «إنا حَمَلْنا عليهم بالتكبير». ونقل عن ابن جرير أن الأُمراءَ كانوا يكبِّرون دُبُرَ الصلواتِ، وما ذَكره ابنُ عباس انه ان يعرف انقضاءً الصلاةِ بالتكبير أيضًا يُحْتَمِله، إلا أنه لما لم يَجْرِ عليه التعامُلُ، ولم يأخذ به الائمةُ، فبقي احتمالا فقط، وقد حَقَّقنا مرادَه على وَجْه لا يُخالف عمل الأُمَّة، والائمةِ8
2991 - قوله: (رَفَع النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَدَيْه) ، وليس فيه رَفْعُ اليدين إلا في هذا الموضع، وسيعودُ المصنِّفُ إلى ذِكره، وينبه على أنه وهمٌ من الراوي؛ إلا أنَّ هذه العبارةَ ليست إلا في النُّسخة الاحمدية، وقد تَبِعها الحافظ في «الفتح» ثُم تمسَّك برَفْع اليدين هذا في تصفيفٍ آخر، فلا أدري ماذا وقع فيه حيث جرى في الكتابَيْن بالنَّحوين.
صحيح البخاري
باب ما يُكْرَهُ مِنْ رَفعِ الصَّوْتِ في التَّكْبِير
صحيح البخاري
باب التَّسْبِيحِ إذا هَبَطَ وَادِيًا
صحيح البخاري
باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلا شَرَفًا
وراجع البحث في رسالتي «نيل الفَرْقَدين» في أن المواد منه بَسْطُ التسبيح حالَ الهبوط، أو التسبيح في الوادي بعد البلوغ.
(5/357)
---(5/189)
2994 - قوله: (وإذا تصوَّبْنا سَبَحَّنْا) وعند أبي داود: في هذه الرواية في آخرها، وعليها وضعت الصلاة، ويلزم منها تَرْك التكبير عند الخَفْض، كما كان بعضُ الأمراء يَفْعَلُونه، ونُسِب إلى عثمان أيضًا؛ وحَقَّث الصحاوي أنه كان مِن فِعل بني أمية، ثُم اعلم أَنَّ عند أبي دواد لَفْظ: «لا يتم التكبير»، وكلام الحافظ فيه متناقِضُ في «الفتح و«التخليص»؛ والصواب عندي أنه تَصْحِيف، وأَصْل اللَّفظ: «لا يتم التكبير - بالثاء المثلثة - أي لا يَنْقُصه، كذا نقله في «المغرب» فاحفظه، فإِنَّه خَفِي على مِثْل الحافظ.
وفي «شرح القُدُوري» أنَّ محمدًا ذهب إلى أنه يُكبِّر للهبوط في القيام، ثُم يِهْبط، ولا يقول في حين الهبوط شيئًا، وَحَقَّق الطحاوي أنه يملاءُ الانتقال بالتكبير.
ويبسطه عليه. قلت: ولعلَّ ما قاله محمدٌ بيانٌ لما يكون له التكبيرُ، أعني انه للانحطاط، أو للقيام. وما ذكره الطحاوي بيانٌ لما يُناسب في العمل، فأَصلُه في القيام، وليس في الانخطاط إلا بقاؤه، وبسطه، والتكبيرُ إنما يناسِبُ حالَ الارتفاع، لكونه دالا على كبريائه تعالى، والكبرياء يناسِبه الارتفاع والعليا؛ ولذا فَصَّل محمدٌ التكبيرَ الهبوطِ في القيام فقط، أما الهبوط فيناسِبه التسبيحُ والتنزيه، فالنداء بكبريائه يأبي عن الخفْض، والهبوط.
صحيح البخاري
باب يُكْتَبُ لِلمُسَافِرِ مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ في الإِقامَة
أقول: إنما يُكْتب له إذا كان هذا الفِعْل مِن عادته قَبْل هذا العارِضِ الذي عَرَض له.
صحيح البخاري
باب السَّيرِ وَحْدَه
ولا ذِكْر له في الحديث الذي أخرجه أَوَّلا.
(5/358)
---(5/190)
2997 - قوله: (قال سُفْيانُ الحَوارِيُّ النَّاصِرُ) واختُلِف في اشتقاقه. قلت: إن كان اللفظُ عربيًا فهو من الحَوَر، أي الثَّواب الأبيض، وإن كان عبرانيًا فلا حاجةَ إلى تَفَحُص اشتقاقه عن لغة العرب؛ وكثيرًا ما يَقَعُ النَّاسُ في بيانِ مَأخذ الاشتقاق للألفاظ العبرية من العربية، فيقحون في بُعْدِ بعيد، والذي يناسب أن يتفحص حالُ كلَّ لَفَظٍ من لغته، كالمسيح، اختلفوا في اشتقاقه، وعندي هو مُعَّرب من ماشيح، وهو بالعبري بمعنى المُبارك،
صحيح البخاري
باب السُّرْعَةِ في السَّير
صحيح البخاري
باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاع
- قوله (إني مُتَعجِّلٌ إلى المدينة) أي ذاهِبٌ إليها من أقربِ الطريقين، قاله عند القُفول من تبوك.
2999 - قوله: (فسقَطَ عني) ...الخ، أي سقط هذا اللفظ عن حافظتي، ونسيتُه.
صحيح البخاري
باب الجِهَادِ بِإِذْنِ الأَبَوَين
وفي الفِقْه أن الجهاد لا يجوزُ إلا بإِذن الوالدين، ثُم يُستفاد من تفاصيلهم، أنه إنَّ كان يرى أن نَهْيُهما لحبُهما إيَّاه فقط، مع استغنائهما عن خدمتِه، جاز له الخروجُ بدون الإِذن أيضًا. وهذا كلُه إذا لم يكن فَرَّضَ عين. والحاصل أنه أيضًا مختلِفٌ باختلافِ الأحوال.
3004 - قوله: (ففِيهما فجاهِد) وهذا قولٌ بالموجب، حيث أبقى اللفظَ على حاله، وغَيَّر في متعلَّقِه، وجعل محله الأبوين معنًى، والجهادُ فيهما خِدْمَتُهما وطاعَتُهما؛ فهو على حدَّ قوله:
*قال: ثقلت إذا أتيت مرارًا
** قلت: ثقلت كأهلي بالأَيادي
صحيح البخاري
باب ما قِيلَ في الجَرَسِ وَنَحْوِهِ في أَعْنَاقِ الإِبِل
صحيح البخاري
باب مَنِ اكْتُتِبَ فِي جَيشٍ فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ حاجَّةً، وَكانَ لَهُ عُذْرٌ، هَل يُؤْذَنُ لَه
(5/359)
---
صحيح البخاري
باب الجَاسُوس
وإنما نهى عنه لتنفر الملائكة منه، ولأنه سببٌ لاطِّلاع العدو.(5/191)
3005 - قوله: (لا يَبْقَينَّ في رقبةِ بعيرٍ قلادَةٌ مِن وَتْر إلا قُطِعَتْ)..الخ، رُوي في قصَّة أن دابة كانت تَعَلَّقت بشجرةٍ، فاختنقت، فنهى عن قلادةِ الوَتْر وأمر بِقْطْعه؛ وهذا أقربُ مَحَامِلِه، وراجعٌ.
صحيح البخاري
باب الكِسْوَةِ لِلأُسَارَى
يعني أن الأسيرَ إذا لم يكن عليه ثوبٌ، لا ينبغي أن يُذْهب به هكذا عُريانًا، بل يُكْسى بثوبٍ.
3008- قوله: (وقميصَ عبدِ الله بن أُبيّ، يَقْدُرُ عليه) مِن قَدَرْت الثوبَ عليه قَدْرًا، أي جاء على مِقْدار كذا، وذلك لأن ابن أبي كان طويلا، كالعباس.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيهِ رَجُل
3009 - قوله: (فَقَال: أقاتِلهم حتى يكونوا مِثْلَنا)...الخ، وحاصله أنَّ علينا استأذَن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي المقاتلة حتى يُقِرُّوا بالإِسلام عند أنفسهم. فكأنه فَهِم أن ليس لهم مِنَّا إلا السَّيْفُ، فَعَلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمسُنَةَ القتالِ. وأخبره أَنَّ أَوَّل الأَمْرِ الدعوةُ إلى الإِسلام، والسَّيفُ آخِرُ الحِيل، وذلك: لأن يهدي اللهاُ ربك رجلا واحدًا خيرٌ لك حُمْرِ النَّعَم».
صحيح البخاري
باب الأُسَارَى في السَّلاسِل
وترجم المصنِّف بلفظ الحديث، ولا يخالقه قوُله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ} (البقرة: 256) لأنه ليس معناه على ما يَفْهَمُ العوامُّ، أنه ليس في الدِّين إكراهٌ أَصْلا، بل المرادُ أن لا الإِكرَاه في الدِّين لما كان إكْرَاهًا على الخير المَحْض، فكان أَلْيقَ أن لا يُسمَّى بالإِكراه، ومَنْ يفهمه إكْراهًا فقد سَفِه نَفْسه.
(5/360)
---(5/192)
3010 - قوله: (عَجِبَ اللهاُ مِن قومٍ يدخُلُون الجنَّةَ في السَّلاسِل). واعلم أن التعجب، والضحك، وأمثالهما ما يستحيلُ تحقّقه في حضرته تعالى؛ والمرادُ منها أن هذا الشيء مما يُتعجَّب عليه، ومما يُضْحك عليه، فاستعمل التعجُّب والضحك مع الإسناد إلى الله تعالى في أشياء كانت من شأنها أن يتعجب عليه، ممَّنْ يأتي منه التعجبُ، ففيه بيانُ لمادةِ التعجب، أي إن تلك مادةٌ يتحقق فيها التعجبُ، وإنْ لم يتحقق فيه لخصوصه الفاعل، وهو الله تعالى؛ ومن هذاالباب قولُه تعالى: {سَنَفْرُغُ لكم أَيُّة الثَّقلانِ} (الرحمن: 31) فإِنه تعسر عليهم أيضًا، لأن الله تعالى لا يحجُزُه شأنٌ عن شأن: قلت: هو كذلك، لكنه إذا ظهر شؤونه في الكون يجيى التناوب والترتب لا محالة.
قالحاصل أن الله تعالى، وأن كان لا يَشْغَله شأنٌ عن شأنٍ، لكن ذلك صِفَتع، أما في الخارج فلا مناص عن خروجها إلى بُقْعة الوجود إلا متعاقبة مترتبة؛ فجاءت العبارةُ المذكورة بالنَّظر إلى وجودِها وترتبها في الخارج. والمعنى أن الله تعالى يحاسِبُهم يومَ الحَشْر، ولما كان الحسابُ فيه مُؤخِرًا عن بعض ما في الحَشْر، عبر عنه بالفراغ، وإلا فاللهاُ سبحانه لا يحتاج إلى فراغ للحساب، فإِنَّ الله سبحانه لا يَشْغَلُه شيءٌ.
صحيح البخاري
باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابَين
وقد قصره بعضُهم على النصارى فقط، لأن اليهود لم يؤمنوا (به) وأنكروه. وقد مر معنا في العلم أن الحديثَ مقتبسٌ من الآية، وقد نزلت في حقِّ عبد الله ابنِ سَلام بالاتفاق، وكان يهوديًا؛ فإِذن أن يَعُمَّ الحديثُ للقبيلتين أيضًا عمومَ الآيةِ لهما.
صحيح البخاري
باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ، فَيُصَابُ الوِلدَانُ وَالذَّرَارِي
صحيح البخاري
باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ في الحَرْب
(5/361)
---(5/193)
وفي الفِقْه أنه ينوي المقاتلةَ، ثُم يُقتل كائنًا مَنْ كان، وإلا فَقَتْل النسوان والصبيان قَصْدًا ممنوعٌ، وهذا باب آخَرُ ظهر في الفِقْه، فإِنَّ الشيء قد يكون ممنوعًا في نَفْسه، ثُم يجوزُ بحسب اختلافِ النية، كما رأيت في مسألة التبييت، وكذا إنْ تَتَرَّس الكفارُ بالمسلمين. فالحكمُ فيهم أن نرميهم، وتنوي الكُفّارِ، لأنه إمَّا أن نَكُفَّ عن القتال فننهزم؛ أو نقاتل فنقتل المسلمين أيضًا. فلا مناصَ إلا بإِحدى البَلَّتَين، فاخترنا أَهْونَهما، ونوينا الكفارَ، لئلا يلزم قَتْلُ المسلمين قَصْدًا.
3013 - قوله: (هم مِن آبائِهم) وهذا لا يناقِضُ ما مَهَّدنا من قبل من التوقُّف في ذَرَاري المشركين، لأن هذا الحديث واردٌ في أحكام الدنيا، أي في إباحة قتلهم، لا في حُكْم الآخرة، أي النجاة والعقاب، فإِنَّه ورد في حديثٌ: «الله أعلمُ بما كانو عاملين». وكذا لا تناقُضَ بين النَّهي عن قَتْلهم، وبين إباحته، فإِنَّ الأَوَّل إذا كان قَصْدًا؛ والثاني في التثبيت.
صحيح البخاري
باب قَتْلِ النِّسَاءِ في الحَرْب
3015 - قوله: (وُجِدت امرأةٌ مقتولةٌ)...الخ، وفي بعض الروايات: «ما كانت هذه لتقاتل» والاعتدلُ بهذه المثابةِ في المُنشَّط والمكره في الرضى والغضب، مما لا يمكن إلا من عصائب الأنبياء عليهم السلام فسبحان الذي خلق الملائكة في جسمان الإِنس وسبحانه.
صحيح البخاري
باب لا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّه
(5/362)
---(5/194)
3017 - قوله: (إنَّ عَلِيًا حَرَّقَ قَوْمًا)...الخ، وكان رأسهم عبد الله بن سَبأ، وكان يهوديًا في الأصل. وفي «الفتح» عن «التميهد» أنه حَرَّق نَعْشَهم. قلت: غير أنه يحتاج إلى النَّظر في كلام العرب، أنَّ تحريقَ القوم هل يستعمل في تحريق النعوش أيضًا، كما قلت في حديث التشديد في أَمْر الجماعة: إن قوله: «لا حرِّقَ على الناس بيوتَهم» محاورةٌ لا يَسْتدعي كونَهم في البيوت عند التحريق أيضًا، بل تأتي في تحريق بيوتِ النَّاس أيضًا، وإن لم يكونوا فيه. فلو ثبت لَتَّم ما ذكره أبو عمر، وسيجيء عند البخاري. وفي قصَّةَ حَرْقِ نبيَ قريةَ النمل: «أَنْ قَرَصَتْك نملةٌ أَحْرَقْتَ أُمةً من الأمم تُسبِّح الله»، وهذا لا يدلُّ على عدم جواز التحريق، بل يدل على جواز إحراق التي قَرَصت، وقد تكلَّمنا عليه في باب «التوديع عند السفر».
صحيح البخاري
باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآء} (محمد: 4)
(5/363)
---(5/195)
- قوله: ({فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ؛ وَإِمَّا فِدَآء}) (محمد: 4) أي إذا غَلَبْتُم عليهم وأَسَرْتموهم، فأنتم حينئذٍ بين خيرتين، وفي الفِقْه أَنَّ للإِسلام الاسترقاق، أو القَتْلَ، أو الفِدَاء بالمال؛ فهو بين ثلاثة خيارات، أما الفِداء بالأُسارى والمَنّ، فليس له ذلك، فحملوا الآية على النَّسْخ، كما في «الدر المختار». قلت: كيف وقد روى محمدٌ جوازَهما على رَأي الإِمام. فَهُما مشروعانِ بعد، إلا أنهما موقوفانِ، على رأي الإِمام، فإِنْ رأى فيهما مصلحةً فَعَل، وإلا لا، اللهم إلا أن يُقال: إنَّ إطلاقَ النَّسْخ فيه عُرْفُ المتقدِمين. وقد مرَّ معنى النَّسْخ عندهم. والنَّسْخ عند الصحاوي أَوْسعُ مما عندهم، كما عَلِمت مرارًا، فإِنَّه يطلق على كلِّ أَمْر، قَلَّ فيه العملُ أيضًا، وإن بقي مشروعًا، فمعنى قوله في بعض المواضع: إنَّ هذا نَسَخَةُ هذا، أي اشتهر به العمل، وخفي، وقلَّ بمقابلة، وبهذا المعنى أُطلق النَّسْخ على رَفْع اليدين، يعني ثم صار التَّرْك مشهورًا بالعمل بالنسبة إلى الرَّفْع، وإتن الرَّفع ثابتًا في عهد النبوة، والحافظ لما لم يُدْرِك مرادَه اعترض عليه.
قلت: وقد مرَّ معنا أن لا حُجةَ في الشيوع والكثرةِ بعد عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإِنَّ العبرةَ بما كان في عهد صاحب النبوة، لأنه ظهرت في المبالغات فيما بعد.d
وقد تكلمنا عليه مبسوطًا فيما مرَّ، وذكرنا ما فيه من أعدل الأقوال عندنا.
صحيح البخاري
باب هَل لِلأَسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ وَيَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الكَفَرَة
صحيح البخاري
باب إِذَا حَرَّقَ المُشْرِكُ المُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّق
(5/364)
---(5/196)
قال الحنفية: إنَّ الأسيرَ ليس بِمُعاهد، فله الغَدْر بكلِ نَوْع، ولا تكون له أحكامُ المعاهد، إلا أنه لا يحل له ما يتعلق بَهَتْك حُرمةِ النِّساء، وأمور العفَّة، فإِنَّها معصيةٌ مطلقًا. وبلغنا عن الشاه إسحاق قُدِّس سِرُّه من مُحدِّثي - دلهي - أنه كان يقول: إنَّ أهلَ الهند كالأُسارى في أيدي السَّلْطنَة، وليست لهم معاهدةٌ.
قلت: والذي تحقق عندي أنَّ أهل الهند وإنْ لم يعاهدوهم حقيقةً، غير أن المعاهدةَ قامت بينم وبين السَّلطنة عملا؛ فإِنَّ رَفْع الدَّعوْى إلى المحكمة والاستغاثة بهم، والاستعانة منهم في فَصْل الأقضية في الأموال والأنفس، والرجوعِ في كلِّ ما يُرْجع فيه إلى الحُكَّامِ معاهدةٌ حُكْمًا، وإن لم يكتبه أحدٌ من الفقهاء؛ وحينئذٍ تَنْقل التفاريع، ولا تكون لنا أحكام الأَسْرى، إلا أن تلك المعاهدةَ كانت قائمةً في الماضي في حق الأموال والأنفس جميعًا، وأما الآن فقد نبذنا إليهم حَقِّ الأَنفس على سواء، وهي باقية في الأموال بعد، فلا يجوزُ أَخْذُ أموالهم سرقةً، نعم إن أخذناها منهم عِوضًا عما لنا عليهم من الحقوق جاز، إلا أن أمثال تلك الأمور دناءةٌ، ولا نعطي الدنية في دِيننا، فإِنَّ القَتْلَ يُعدُّ جرأةً وشجاعةً، بخلاف السَّرِقة، والانتهاب، فإِنَّه يُعد لُؤمًا؛ نعم لو نبذنا إليهم في حقَ الأموال أيضًا لارتفع عن الأموال أيضًا، إلا أنه ينبغي أن يكون على سواء، ليكون وفاءً لا عَذْرًا.
(5/365)
---(5/197)
وفي حديث «أن كافرًا أمن، واعتمد على مسلم بدون معاهدة وموادعةِ بينهما، لا ينبغي للمُسْلم أن يقتله». ولما غَلِط الناسُ في لفظ «أمن». وزعموه صيغةَ ماضٍ من الإِيمان. أشكل عليهم مبرادُه، والصواب ما قلنا: إنه مِن الأَمْن، وقد استُفْتيت مرةً في كشمير أن مِلكَهم قد حبس الناس عن الصحراء، وجعلها حِمىً لنفسه، فهل يجوزُ للمسلمين أن يأخذوا منها الخشب لبناء المسجد؟ فأجبت عنه أنه إنْ فَعَلَه أحدٌ، وبنى مسجدًا جاز، لأن خشب الصحراء مباحُ الأصل، والحبس عنه غَصْب، فلا يفيد له مِلكًا، فلا يكون الأخَذْ سرقةَ، أو تملُّكًا لمال الغير، ولكنه من باب الإِحراز مما هو مباح الأصل؛ والمسألة فيه أنه يكون لِمن سبقت يده إليه، وما في الفِقْه أنَّ المِلْك يَحْصُل للكفار بعد الاستيلاء على أموال المسلمين، فذلك في أَوان الحرب، أما إذا وضعت الحربُ أوزارَها فلا، فإِنَّه حينئذٍ إلا غَصْبًا. فإِنَّ ما خلقه اللهاُ مباحَ الأصل، ليس لأحدٍ أن يمنع عنه خَلْقَ اللهاِ، فأدرك الفَرْقَ بين المسألتين، ولا تخبط خَبْطَ عشواء. ولا تُمار بعد ما تبين ثورٌ من حِرا.
153 - بابٌ
صحيح البخاري
باب حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيل
ولم ذكر له ترجمة، وقد ذكرنا نُكْتته في المقدم.
3019 - قوله: (أَحْرقت أُمةً (من الأُمم) تُسَبِّح الله) ثبت منه تسبيحُ النَّملةِ. وقد أَقَرَّ صَدْرُ الشيرازي في رسالته «القضاء والقدر» بأن في الحيوانات إدراكًا.
صحيح البخاري
باب قَتْلِ النَّائمِ المُشْرِك
صحيح البخاري
باب لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُو
يقول: إن الفتك أيضًا جائزٌ في بعض الأحوال، وإنْ نهى عنه عامِّةً.
3022 - قوله: (فوُئِثَتْ رِجْلى) ترجمةمورج لك كثى.
صحيح البخاري
باب الحَرْبُ خَدْعَة
(5/366)
---(5/198)
والأبلغ فيه أن يكونَ صيغةَ مبالغة من اسم الفاعل. والمرادُ أَنَّ الحربَ لا تُدْرى عاقِبتُها، ولا يَتأَتَّى فيها الاعتمادُ على الأسباب، فإِنَّه قد تبدو النُّصرةُ في أَوَّل الأَمْر، ثُم تنقلِبُ هزيمةً، وقد تنعكس. وقيل: معناه جوازُ الخِداع، أي التدبير الخفي، والخداع عملا، فإِنَّه يجوزُ في الحرب. أما الخِداعُ اللساني، والكذب، والغدر، فلا يجوزُ بحالٍ لا في أوان الحرب ولا في غيرها.
3027 - قوله: (هَلَك كِسْرى، ثُم لا يكونُ كِسْرى بَعْدَه وقد مَرَّ أنه لَقَبُ ملك فارس، كما أن قَيْصر لَقَبُ ملك الروم، والنجاشي مَلِك الحبشة والخاقان مَلِكَ التُّرْك، وفرعون ملك القِبْط، وتُبَّع ملك اليمن، والعزيز ملك مِصْر، والقيل ملك حِمْير. ثم إنه كان كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فلم يبق من اسمه، ولا رسمه.
3027 - قوله: (وقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُم لا يكونُ قَيْصَرُ بعده) قلت: أما قيصرُ الشام فقد هَلَكَ، وانمحت آثارُه، فلم يبق له راثٍ، ولا باكٍ. أما بقاء الإِيطالية الذي يقال له: الرومُ، فإِنه خارجٌ عن نظرِه، فإِنه أخبر من هلاكه حيث كان في زمانه، وهو الشام، ولم تَقُم له سلطنةٌ فيه إلى اليوم. وإنما قلنا: إنَّ المرادَ هلاكُه عن موضع مخصوصٍ، لا عن وَجْه الأرض، لما دلت عليه الروياتُ ففي «الخصائص»: الفارس النطحة، والنطحتين؛ وأما الروم فذوات قُرون. اه. فدلَّ على بقائه في الجملة. وكذا ما أخرجه في «الفتح» أن التنوخي رسولُ هِرَقل. جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلّمالسنة التاسعة في تبوك، ولم يكن أسلم يومئذ، ثُم أسلم. وحديثه في «مسند» أحمد. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إني أرسلت كتابًا إلى هِرَقْل، فإِنَّ نجا»، ثم نقل أنه وضع كتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي أنبوبة من ذهب، فكانت سلطنته في الروم، تصديقًا لما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم
(5/367)
---(5/199)
والحاصل أن المرادَ من هلال قيصر، ليس عن وَجْه الأرض، بل عن الوضع الذي كان فيه بعهده صلى الله عليه وسلّممع الإِخبار ببقائه في الجملة، ولذا حملنا النهي على التخصيص.
صحيح البخاري
باب الكَذِبِ في الحَرْب
صحيح البخاري
باب الفَتْكِ بِأَهْلِ الحَرْب
صحيح البخاري
باب ما يَجُوزُ مِنَ الاحْتِيَالِ وَالحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشى مَعَرَّتَه
والمرادُ به عندنا التوريةُ.
صحيح البخاري
باب الرَّجَزِ في الحَرْبِ وَرَفعِ الصَّوْتِ في حَفرِ الخَنْدَق
* «اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ ما اهْتَدَينَا ** وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّينَا
* فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا ** وَثَبِّتِ الأَقَدَامَ إِن لاقَينَا
* إِنَّ الاعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَينَا ** إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَينَا»
صحيح البخاري
باب مَنْ لا يَثْبُتُ عَلَى الخَيل
صحيح البخاري
باب دَوَاءِ الجرْحِ بِإِحْرَاقِ الحَصِيرِ، وَغَسْلِ المَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَمْلِ المَاءِ في التُّرْس
صحيح البخاري
باب ما يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلافِ في الحَرْبِ، وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمامَه
صحيح البخاري
باب إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيل
صحيح البخاري
باب مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا صَبَاحاهُ، حَتَّى يُسْمِعَ النَّاس
* أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ** وَاليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
صحيح البخاري
باب مَنْ قالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلان
صحيح البخاري
باب إِذَا نَزَلَ العَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُل
(5/368)
---
وقد مَرَّ عن الأخفش أن الرَّجْزَ ليس بِشِعْر؛ ولذا كان الراجز عندهم غيرَ الشاعر.
قوله (ورفع الصوت في حفر الخندق) واعلم أنَّ الأَغْلب في الحروب إخفاءُ الصوت. وهو الأَوْلى بحال الحرب؛ فإراد المصنِّفْ أن يترجم بِرَفْع الصوت، لِيُعْلم أنه مختلِفٌ باختلاف الأحوال.
صحيح البخاري(5/200)
باب قَتْلِ الأَسِيرِ، وَقَتْلِ الصَّبْر
فالقتل وإن جان جائزًا بحسب المسألة، لكنه إنْ كان مُؤذيًا يُقْتلُ، ولا يكون له سبيلٌ غير ذلك.
قوله: (وَقَتْلِ الصَّبحر) أي في حال الأَسْر، ولا يريدُ في أوان الحَرْب.
صحيح البخاري
باب هَل يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَينِ عِنْدَ القَتْل
*ما أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ** عَلَى أَيِّ شِقَ كانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
*وَذلِكَ في ذَاتِ الإِلهِ وَإِنْ يَشَأْ ** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ
يعني أيجوزُ له أن يسلم نفسه للأَسْر أم لا؟ وقد وُجِد في السَّلَفِ النَّحْوانِ.
3045 - قوله: (بَنُو الحارِث بنِ عامِر)...الخ، فالحارِثِ ابنٌ، وعامرٌ أبوه، وليس ابنُ عامر، كُنْيةً للحارث، وإنما كانوا يذكرون الكُنْيتين للمُسْلِمين، واحدة من قِبل أبيه، وأخرى من قِبل ابنه. وأما الكفار فلم يكونوا يذكرون لهم إلا كُنية واحدة، فانهم أَحَقُر من أن تُذكر كُناهم، وإنما كانوا يكتفون بِذْكر إحدى كُنيتهم.
قوله: (وبرأ النَّسمة) قد تكلمنا على هذا اللفظ مرتين، ولا بأس أن نعودَ إليه ثالثًا، فاعلم أن النَّسمة ترجمته جان وفي تعريفات الأشياء لابن سيناء أن النفس الحيوانيةُ يقال لها: روان، والنفس الناطقة يقال لها: جان.
(5/369)
---(5/201)
قلت: وقال الشاه وليُّ الله: إنَّها الروح الهوائي، وليس بصحيح عندي. ثُم الروح الهوائي هي البخارات المملوءة في الشرايين، وهي مركب للحياة، وما أدركنما مرادَ النَّسمة إلا من حديث أخرجه مالِك في «موطئه»: «إنما نسمةُ المؤمنِ طَيْرٌ يعلق في شجرة الجنة حتى يرجع». فالروحُ أَمْرٌ مستقِرٌ عند الشرع، مصونٌ عن التغير والتطور، فلا تتطور، ولا تتبدل في ذاتها من صورةٍ إلى صورة، ولا تنتقل من شَكْل إلى شَكْل، ولا تُسند إليها الأَفْعالُ المادية؛ يخلاف النَّسمة، نعم تُنْسب إليها النَّفْخُ والقبض، ولكنها ليسا من الأفعال المادية.
ثُم تلك الروحُ تلبس لباسًا فيسنُد إليها من لأفعال المادية أيضًا، كالأَكْل، والشُّرْب، فلعلَّ التسمةَ من أحوالِ الأرواح، في وقت مخصوص. أما الروحُ، فهي أَمْرٌ مستقر. وإذن الفَرْق بين الروح والنَّسمة مِن قِبَل الأفعال، ولذا لم نجد في الأحاديث إسنادُ الأفعال الماديةِ إلى الروح، ومهما وجدناه وَجَدْناه بلفظ النَّسمة، فدلَّ على تغاير بينهما. وعند الترمذي في باب فضائل الشهيد: «في جوف طير». على خلاف لفظ «الموطأ» ففيه: «طير»، وقد مَرَّ أنه على لفظ «الموطأ» تَمَثُّلا، وتطورًا للروح، أي ظهورًا، بخلافه على لفظ الترمذي، وكذا عند لَفْظ الأرواح». مكان النَّسمة، فراعه.
صحيح البخاري
باب فَكاكِ الأَسِير
وقد مرَّ أن استبدال الأُسراء جائزٌ عندنا أيضًا، لكنه موكولُ إلى رأى الإِمام، ولم يتعرض إليه أصحابُ المتون، وقد ذكروه في المبسوطات.
صحيح البخاري
باب فِدَاءِ المُشْرِكِين
وقد مرَّ عن محمد أنه جائز.
3050 - قوله: (عن مُحمد بن جُبير عن أبيه، وكان جاء في أُسَارَى بَدْر)...الخ، وإنَّما كان كافرًا يومئذٍ.
173 - باب الحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلامِ بِغَيرِ أَمانٍ
صحيح البخاري
(5/370)
---
باب يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلا يُسْتَرَقُّون(5/202)
يعني أنا نحفَظُ أموالَهم، وأعراضَهم، ومَنْ يحارِبُهم نقاتِلْ دونهم.
واعلم أن بَعْضَ مَنْ لا دينَ لهم، ولا عَقْل، ولا شيء زعموا أنَّ الجِزيةَ ظُلْمٌ، هيهات هيات؛ وهل عَلِموا قَدْر الجِزْية؟ هو دِرْهمٌ على فقرائهم، وأربعةُ دراهِمَ على أغنياتهم، وليس على نسوانهم وصبيانهمم شيءٌ، ثم هل عَلِموا قَدْرَ ما يُؤخذ من المسلمين، فهو أضعافُ ذلك، يؤخذ منهم العُشرُ، والزكاةُ، والصدقاتُ، والجباياتُ الأخرى، بخلاف أهل الذِّمة، ثُم هل علموا أن ما نأخذُه منهم نكافئهم بأضعافه، نجعلُ دماءهم كدمائنا، وأعراضَهم كأعراضنا، نحفظ أموالهم، ونناضِلُ أعداءهم. فلو وازيت ما يُؤخذ من المسلمين بما يُؤخذ منهم، لعَلِمت أن المأخوذَ من أهل الذمة أقلُ قليل، مما نأخذُ من المسلمين. فَمَنْ ظنَّ أن الجزية ظُلْم، فقد سَفِه نفسه.
قوله: (ولا يُسْتَرَقُّون) أي إذا عقدوا عَقْدَ الذِّمة، فلا يُسْتَرَقُّون بعده.
صحيح البخاري
باب جَوَائِزِ الوَفد
صحيح البخاري
باب هَل يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُعَامَلَتِهِم
صحيح البخاري
باب التَّجَمُّلِ لِلوُفُود
وقد كَثُرت إلى حضرةِ الرسالة في السَّنة التاسعة، ولذا سميت بعام الوُفود.
3053 - قوله: (أَخْرِجُوا المشرِكين مِن جزيرة العرب) واعلم أنَّ أصحابَ الجغرافية اختلفوا في تحديد جزيرة العرب من الجانب الشمالي اختلافًا، وقد مرَّ معنا وَجْهه في كتاب الصلاة؛ أما مُكْث المُشْرِك في جزيرة العرب، فكما في الحديث.
صحيح البخاري
باب كَيفَ يُعْرَضُ الإِسْلامُ عَلَى الصَّبِي
صحيح البخاري
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّملِليَهُودِ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا
(5/371)
---(5/203)
وافق فيه الحنفيةُ، وإسلامُ الصبيِّ مُعتَبر عندنا دون ارتدادِه حتى يحتلِمَ. وأما عند الشافعي فإِسْلامُه أيضًا غيرُ مُتبر، وكنتُ أتعجَّب منه، وأقول: إنهم ماذا يصنعون بإِسلام عليَ، فإِنَّه أسلم في صباه. ثم رأيت «معرفة السنن» للبيهقي أنَّ الأحكام نِيطت عليه بالبلوغِ بعد غزوة الخندق، وإسلامُ عليَ كان قَبْلها، فلا بأس بِعِبْرته، وحينئذ زال الفَلَق.
3055 - قوله: (قال ابنُ صَيَّادٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم أَتَشْهدُ أَنِّي رسولُ الله)...الخ، واعلم أَنَّها كلمةُ كُفْرٍ، وإنما لم يقتله النبيُّ صلى الله عليه وسلّمكلونه غلامًا لم يحتلم إذ ذاك، وكان من أهل الذمة؛ ولأنه مشى في حَقِّه على التقدير، فقال لعمرَ: إنْ يكن هو فلست صاحبه، وإنما يَقْتُلُه عيسى عليه الصلاة والسلام، كما قال لرجل، اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلّم هذه قِسْمةٌ لم يُرد بها وَجْهُ الله، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «دعُوه، ولعلَّه يخرج من ضِئضِيء، هذا قومٌ»...الخ، فهذا أيضًا مشى على التقدير، وليس ذلك إلا للأنبياء عليهم السلام، وأما نحنُ فليس لنا إلا العملُ بالتشريع، لا المراعاةُ بالتكوين، فإِنَّ النبيَّ إذا أخبر بنفسِه بتكوين لا يليقُ به إعدامُ أسبابِه من نفسه، فهذا شأنُه فقط، دون سائر الناس، وقد قررناه مِن قَبْل.
3055 - قوله: (قال ابنُ صَيَّاد وهو الدُّخُّ)، قد بينا وَجْهه فيما مرّ، وقال الشيخ الأكبر، وهو أعلمُ الرجال في هذا الموضوع: إن السالكين كما يَرَوْن نُورًا، وكذلك لأشقياءُ يرون ظُلمةً متشابِهةً بالدُّخان، وهي التي كان يراها ابنُ صَيَّاد.
(5/372)
---(5/204)
3057 - قوله: (قال ابن عمر: ثُم قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي النَّاس،........ ثُم ذَكَر الدَّجَّال....، ولكنْ سأقولُ لكم فيه قولا لم يَقْله نبيُّ لقَوْمه)...الخ، وخطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمهذه إنما هي في المكان الذي ذهب منه لتفتيش أمر ابن صَيَّاد، فلما انصرف إليه خطب فيه. وهذه الخُطبةُ ليست بمذكورةٍ في عامة سياقه، فَلْيُعتن بها ههنا، لأنها دليل على أن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكان يَعْرِف أَمْرَه، لا كما زعم هذا الشَّقيُّ لَعينُ القاديان أن النبيِّ صلى الله عليه وسلّملم يُعْط له عِلْم الدجَّال، كما هو، ثُم جعل يَهْذي أنه قد أعطى ذلك هو، فازداد كُفْرًا قاتلة اللهاُ، ولعنه لَعْنًا كبيرًا؛ أو ما دَرَى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقد بلغ قد عِلْمه مبلغًا لم يَبْلُغْه نبيُّ، فأَعْلَمهم بعلامةٍ لم يُخْبر بها أَحَدُّ مِنقبله، ثُم لا تَسْكُن نَفْس هذا الشَّقي إلا بنسبةِ عَدمِ العلم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّموالعياذ بالله، وكأنه في ضِمْن ذلك يَدَّعي فضيلته عليه، لما يدعى أنه أعطى من الغيب ما لم يُعطه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم والعياذ بالله.
صحيح البخاري
(5/373)
---(5/205)
قلنا: هَبّ؟، هاتِ ما عندك من العلم، وما أَوْحى إليك شيطانُك في أَمره، فجعل الوَقِح الكذوب يقول: إنَّ الدجَّال هو الإنكليزُ، اخسًا، فلن تعدو قَدْرَك، هذا عِلْمُك الذي كنت تَدَّعي به، فوالله ما إنك إلا دجَّالُ من الدجاجلة، وقد تعلم ذلك، فإِنَّ الرجل أَعْلَم بِوَسْم قدحه، فلذا قلت ما قلت، نعم عرفت الدجَّال، وقد عرفناك. ثُم ما بالُ هذا المسيح الذي نزل لِقَتْل الدجَّال، إنه حَفِظه دجالُه من قَتْل الناس إياه، ولولا ذلك الدجالُ لَقُتِل، فوالله ما أنت إلا شَرُّ مسيح، ودجالُك خيرُ دجَّال، حيث حَفِظلك من الناس، ثُم ما كان لأحد في قتله حاجة، إلا أنه كان جبانًا، يَحْسَب كُلَّ صيحةٍ عليه، ويستظل بِظِلِّ دجَّاله؛ فَسُبحانَ اللهاِ من مسيحٍ مات ولم يَقْتَرِف من دُنياه لعُقباه، إلا نارُ الأنيار، وسبحانَ من دجالٍ ردَّ على نفسه كَيْدَ مِسيحه، وبقي حيًا بعده، يتقوَّى أَمْرُه يومًا فيومًا؛ والله ما كان ربُّنا لِينزل مسيحًا، يهزًا منه دجَّالُه، ولكنه إذا نزل حَقًّا يذوبُ منه عدوُّ الله، كلملح، فَيَقْتُله، ولو تركه لانذاب، هذا مسيُحنا، ينتظرُ عليه الصلاة والسلام.
(5/374)
---(5/206)
واعلم أنَّ الحديث لم يُجْمع إلا قطعةً قطعة، فتكون قطعةٌ منه عند واحد، وقطعة أخرى عند واحد، فليجمع طُرْفة، وليعمل بالقَدْر المشترك، ولا يجعل كلُّ قطعة منه حديثًا مستقِلا فهذه داعيةٌ، وأخرى فوقها أوهام الرواة في باب الروايات؛ فصارت تلك ضغثًا على إبالة، وقد وقعت في الصحيحين أيضًا؛ وإنْ كان يَعرِفها أصحاب الفن، فلا ينبغي أن يُعامل معه معاملةَ القرآن الذي هو محفوظٌ في الصُّدور، مصونٌ عن الظنون؛ ألا ترى أنه أخبر بِهَلاكَ قَيْصر، وأخبر ببقائهِ في الجملة أيضًا، فيجمعان، ويؤخذُ المرادُ منهما، وليس الاقتصارُ على أحدهما، وتركُ الآخَر من العمل في شيء، وهكذا الاستدلالُ من الحديث على عَدَمِ عِلم النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبحقيقةِ الدجَّال جَهْلٌ: فإِنَّ تلك الخطبةَ إذا وُجِدت في هذا الطريق، فَلْيُراعِها في جميعها، وإن لم يذكرها الراوي، فإِنَّه يُحْمل على اقتصاره، ولذك غَيرُ قليلٍ منه.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ في دَارِ الحَرْبِ، وَلَهُمْ مالٌ وَأَرَضُونَ، فَهيَ لَهُم
صحيح البخاري
باب كِتَابَةِ الإِمامِ النَّاس
صحيح البخاري
باب إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِر
صحيح البخاري
باب مَنْ تَأَمَّرَ في الحَرْبِ مِنْ غَيرِ إِمْرَةٍ إِذَا خافَ العَدُو
صحيح البخاري
باب العَوْنِ بِالمَدَد
صحيح البخاري
باب مَنْ غَلَبَ العَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا
(5/375)
---(5/207)
أي إذا أسلم قومٌ طوعًا بدون جهاد وقتالٍ في دار الحَرْب، ثُم ظهر المسلمون على تلك الدار، فانهم يستقرُّون على أملاكِهم في الأراضي وغيرِها، عند الشافعيِّ؛ وعندنا يستقرُّون على أملاكِهم في المنقولات، دون الأراضي، فإِنها تَتْبع الدارَ، وقصيرُ مِلْكًا للغانمين؛ بخلاف المنقولات، فإِنها تابعةٌ للمالكين، فَتَبْقى معصومةً، والمصنِّف لم يأتِ فيه بحديث صريح؛ فهو عند أبي داود؛ «يا صَخْرُ: إنَّ القومَ إذا أسلموا أَحْرزُوا أموالَهم ودماءهم»؛ ولا بدَّ له من جوابَ، وقد تعرَّض إليه ابنُ الهُمام، فلم يأت بما يشفي الصدور. فاعلم أنَّ خِطَّته إذا أسلمت كُلُّها، فهي دار الإِسلام، ولعلَّ مسألةَ الحنفيةِ فيما إذا أسلم قومٌ من بينهم، وبقي الكُفْر فيمن حَوَلَهم، وَيَقْرُب مِن مذهب الحنفية مذهبُ مالك في «موطئه»، وراجع «البحر»، فإنَّ فيه جزئياتٍ يستقيمُ عليها مذهبُ الحنفية أيضًا.
3058 - قوله: (خَيْف بني كِنَانة) احتج المصنف بالإِضافة إلى كنانة أن الأراضي كانت للمالكين، وهو ضعيف جدًا.
3059 - قوله: (قاتلوا عليها في الجاهلية، وأَسْلُموا عليها في الإِسلام) فيه دليلٌ على كَوْن تلك الأراضي مملوكةً لهم، وإذ لا يردَّ علينا، لأن المتباذر منه أنهم أسلموا كلُّهم، ومسألتنا فيما إذا أسلم قومٌ، وبقي الكُفْرُ من حولهم.
صحيح البخاري
باب مَنْ قَسَمَ الغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِه
قال الفقهاء: إنَّ مالَ الغنيمة يتعلَّقُ به في دارِ الحرب حَقُّ المِلْك فقط فإِذا حرزْته في دارِ الإِسلام ثبت ذلك، واستقر؛ ولا بأس بالبِسْمةِ للحَمْلِ دون المِلْك، فلا تكون القِسْمةُ إلا بعد بُلوغِها إلى دار الإِسلام.
صحيح البخاري
باب إِذَا غَنِمَ المُشْرِكُونَ مَالَ المُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ المُسْلِم
(5/376)
---(5/208)
ويأخذ المسلمُ مالَه قبل القِسْمة مجَّانًا؛ وأما بعدها، فله أن يأخذَها بالقيمةِ، فبقي حقُّ المِلْك، وإن لم يبق المِلْكُ الباتُّ.
صحيح البخاري
باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالفَارِسِيَّةِ والرَّطَانَةِ
ة
صحيح البخاري
باب الغُلُول
وليس لنا منها بد، فإِنا إذ نجاهدُ العَجَم، لا بد لنا مِن التكلُّم مع أقوامٍ من غير العرب أيضًا.
قوله: (والرَّطَانة) التكلُّم بلسان العجم.
قوله تعالى ({وَاخْتِلَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْونِكُمْ}) (الروم: 22) يعني إذا كان هذا الاختلافُ من بدء الخلقة، ومِن صنع الله تعالى، فمنَ ذا الذي يستطيعُ رَفعه؟ فلا بد من استعماله، ونقل الرَّازي في «تفسيره» أربعة استدلالاتٍ على وجود الصانِع عن الائمة الأربعة، فراجعها؛ واستدلَّ الشافعي بهذه الآية.
(5/377)
---(5/209)
وحاصله عندي أن الاختلافَ بين الأفرادَ من النَّوْع الواحد، وكاذا اتحاد النظام بين الأنواع المختلفة لا يُعْقَلِ إلا منن جهةِ الفاعل المُريد، فإِنَّ المادةَ متشابهةٌ، فلا يكون من تلقاء استعدادِها. وما قالوا: إنَّ نظامَ العالمِ كلَّه من استعداداتِ المادة، فذلك إنَّما يتأتَّى بعد تَقَرُّرِ النظام، ونحنُ نتكلِّمُ في نَفْس هذاالنظامِ. أنه كيف انتظمت الأنواعُ المتعددةُ المختلفةُ حقيقةً تحت نظام واحدٍ، فلا بد من الانتهاء إلى الفاعل المريد. فإِنَّ النِّظام المانسب لنوعٍ بنوعٍ آخر لا يتأتَّى من جهة المادة، وإنّما يمكنُ ذلك بين الأفراد من نوعٍ، وذلك أيضًا إذا لم يمختلف. وراجع «الفهرس الكبير»، ويتحيَّرُ الإِنسانُ من علومه، مما يكادُ يَعْجِز عنه الإِدراكُ، واستدل عليه بقوله تعالى: {لو كان فيها آلهةٌ إلا ااُ} (الأنبياء: 22) .... الخ، وتمسَّك الناسُ به على نفي التعدُّدِ، مع أنه فيه دليلا على نَفْي التعدُّد، مع نفي الغيْرِيَّة، والمَحَطُّ عندي هو الثاني. والمعنى أنه لو كان في الكونِ أَحَدٌ غير الله لفسد الكونُ، سواء كان غيرُه واحدًا أو متعددًا، فليس الفسادُ موقوفًا على كونِ الغير متعددًا، بل لو كان واحدًا لفَسَد أيضًا، فإذا كان متعددًا فالأَوْلى، ولكنَّ المقصود أنَّ نظامَ العالم إنَّما يمشي، وينتظمُ مِن واحدٍ، هو الله، ولو كان غيره لم ينتظر، فالتعددُ أيضًا باطلٌ، وكذا الغيرية.
(5/378)
---(5/210)
واعلم أنه لا يليق بالقرآن صورة البُرهان، فإِنه جرى على طريق التخاطب، - بخلاف طريق المخلوقِ المخلوق - فليس فيه إلا الخطابة، وما البُرهان فطريقٌ مُسْتحدَثٌ، خارِجٌ عن طَوْر كلام البُلغاء، ومخاطباتهم؛ نعم يكونُ سَطْحُه خَطابةً، وباطِنُهُ بُرهانًا، فإِذا قَرَّر عاد إلى البُرهان يَسْطَع: {يكادُ سَنا بَرْقة يَذْهِبُ بالأَبْصَار} (النور: 43) وراجِع «الشِفا»، فإِنه قال: إنَّ البُرهان إنَّما يتأتَّى في الاستحالة والوجوب، أما في الحُسْن والقُبْح، والنَّفْع والضَّرَر، فلا تتأتى فيه إلا الخطابةُ.
صحيح البخاري
3071 - قوله: (فَبَقِيَت حتى ذَكَّرَت) أي بَقِيت تلك القميصُ لم يَخْلَقها مُضى الليالي، ومرورُ الأيام، ولعلَّ تلك القميصُ أيضًا تكونُ تتوسَّعُ عليها بِقَدْرَ جَسَدِها، فإِنها إذا تَقَمَّصَت كانت صبيةً، فلا بدَّ من الزيادة في القميص، ومَنْ يؤمن ببقاء تلك القميصِ إلى زمنٍ لم تخلق، لم يَعْجِز عن الإِيمان بِسَعتها أيضًا؛ وأما مَنْ لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
صحيح البخاري
باب القَلِيلِ مِنَ الغُلُول
يشيرُ إلى تَضْعيف ما رُوي عند أبي داود في إحراق المتاع.
صحيح البخاري
باب ما يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبِلِ وَالغَنَمِ فِي المَغَانِم
صحيح البخاري
باب البِشَارَةِ فِي الفُتُوح
صحيح البخاري
باب مَا يُعْطَى البَشِير
صحيح البخاري
باب لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح
أي قَبْل التقسيم.
صحيح البخاري
باب إِذَا اضْطُرَّ الرَّجُلُ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالمُؤْمِنَاتِإِذَا عَصَينَ اللَّهَ، وَتَجْرِيدِهِن
صحيح البخاري
باب اسْتِقْبَالِ الغُزَاة
(5/379)
---
كما وقع في قِصَّة حَاطِبَ.
قوله: (والمؤمناتِ إذا عَصَيْنَ الله، وتَجْرِيدهِنَّ) وفي الفِقْه أن للمُعالج أن ينظرَ إلى العورة؛ وقياسُه يقتضي أن يجوزَ التجريدُ عند الحاجةِ الإِسلامية أيضًا.(5/211)
3081 - قوله: (وكان عُثمانيًا) وهو مَنْ كان مِن السَّلَف يفضل عثمان، ومَنْ فَضَّل منهم عليًا يُسمَّى عَلَويَّا، فجرى الناسُ على هذا الاصطلاح إلى زمنٍ، ثُم تُرِك، وفي الحديث مناظرةٌ بين العثماني والعَلَوي. وأنت تعلم أنَّ الألفاظَ في مِثْلها قد تأتي شديدةً على خلاف ضمير صاحبها. ألا ترى ما قال العثمانيُّ للعَلَويّ: إن لأَعْلَم ما الذي جَرَّأ صاحِبَك على الدِماء، فهذه الألفاظُ كأنها تدلُّ على أنَّ قائلها لا علاقةُ له بِعَليَ، وليس كذلك، ثُمَّ إنَّه لا يُعْلم ما مَحَطُّ قولِ العثماني، وما الذي أراده؟ هل أراد كونَه بَدْريًا، وأنه قد سبق القولُ فيهم بالغفرة، فهذا الذي جرأه أَم كونَه جريئًا على القتال لاجتهاده من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعنده في الباب؟ وفي السياق ما يدلُّ على الأَوَّل.
صحيح البخاري
باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزْو
3085 - قوله: (مَقْفَلَه من عُسْفَان) في السادسة، وفي الخبر الجاري إنما قال: مِن عُسْفان، لأن غزوةَ خيبرَ كانت عِقبها، كأنَّه لم يَعْتَدَّ بالإِقامة المتخللة بينهما، لتقارِبُهما.
3085 - قوله: (فاقْتَحَمَ)...الخ، يقال: اقتحم الأَمْر، إذا رمى نَفْسه فيه من غير رويةٍ.
3085 - قوله: (فلمَّا أَشْرَفْنَا على المدينةِ، قال: آيبُون تَائِبُون)...الخ، وكان في الرواية المارة أنه كان يقوله إذا قَفَل، ولم يكن تصريحٌ بأن قوله ذلك كان عند القُفُول، أو إشرافِه على المدينة؛ وفي هذه الروايةِ تصريحٌ أنه كان يقولُه حين يشرف على المدينة، زادها الله شَرَفًا، وتكريمًا.
صحيح البخاري
باب الصَّلاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر
(5/380)
---(5/212)
3087 - قوله: (ادْخل المَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتين) لا دليلَ فيه على كونهما صلاةَ الضحى، وكذا في قوله: «إذا قدم مِن سَفَرٍ ضحيَّ وَدَخَل المسجِدَ، فصلَّى ركعتين» لجواز كونِ ذلك الوقتِ وَقْتَ ضحىً، لا أن الصلاة فيه صلاةً الضُّحى، وأنكر الحافظ ابنُ تيميةِ ثبوتَها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفِعْلا، مع ثبوت التحريضِ عليها قَوْلا، وراجع له الرواياتِ عن مُسْلم.
صحيح البخاري
باب الطَّعَامِ عِنْدَ القُدُوم
- قوله: (وكان بنُ عُمَرَ يُفْطِر لِمْن يَغْشاهُ)...الخ، أي كان في نفسه كثيرَ الصيام، إلا أنه كان يُفْطر إكرامًا لخاطِر مَنْ يَنْزل عليه، فَيُضَيِّفه.
3089 - قوله: (نَحَر جَزُورًا، أو بَقَرةً) وقد ثبت ذَبْحُ البقرة، وأَكْلُ لجمها في مواضع: منها في قِصة بربرة، وكانت تصدق عليها؛ والثانية: أن النبيَّ: ذَبَح بقوةً عن نسائه في الحجِّ، وتلك ثالثها، فَمَنْ ظنَّ أنه لم يثبت عنه أَكْلُ لحمِ البقرةِ، فقد غَفَل عن تلك الأحاديثِ.
صحيح البخاري
كتاب فَرْضِ الخُمُس
صحيح البخاري
باب فَرْضِ الخُمُس
صحيح البخاري
باب أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الدِّين
3094 - قوله: (قد خَصَّ رسوله)...الخ، أي بالولاية دون التملك.
3094 - قوله: (مَتَع النَّهار) أي امتدَّ دن جره- كليا. واعلم أن مخاصمةَ فاطمةَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّممن أبي بكر كانت في التولية، وإلا فإِنَّ أبا بكر قد كان أخبرَها بأنَّ الانبياءَ عليهم السلام لا يورثون.
وأما مهاجرتُها إيَّاه، وموجدتها عليه، فكانت لأمورٍ أُخْرى، نحو تَرْك المشاورةِ وغيرِها، كذا ذكره السَّمْهُودي في «الوفا في أخبار دار المصطفى».
صحيح البخاري
باب نَفَقَةِ نِسَاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمبَعْدَ وَفَاتِه
(5/381)
---(5/213)
أمَّا نَفَقَتُهن فإِنْ شئت قلت: إنَّ الانبياء إذا كانوا أحياءً في قبورهم، فنفقةُ أزواجهم تكونُ في مالِ الله لا محالةَ، وإنْ شِئت قلت: إنَّهنَّ إذا اخترن الله ورسولَه عادت نفقتُهن إلى ماله تعالى.
صحيح البخاري
باب ما جاءَ في بُيُوتِ أَزْوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلّم وَما نُسِبَ مِنَ البُيُوتِ إِلَيهِن
يعني لمن تعدَّى بيوتَ أزواجه صلى الله عليه وسلّم والظاهر من الإِضافة أنها عدت ملكهن، وقد أضافها القرآنُ أيضًا إليهنَّ، ولعل النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يملكهن قولا، وإنما ثَبَتَ المِلْك لَهُنَّ بالتعاطي فقط، والمصنِّفُ سرد في الأحاديثَ التي فيها إضافةُ البيت إلى الأزواج.
صحيح البخاري
باب ما ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النبي صلى الله عليه وسلّموَعَصَاهُ وَسَيفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ، وَما اسْتَعْمَلَ الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا تَبَرَّكَ أَصْحَابُهُ وَغَيرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِه
قول: إنَّ بعضَ الأشياء قد بقيت بَعْدَه صلى الله عليه وسلّمبطريق التبرُّك، ولم تَجرِ فيها القِسْمةُ.
3109 - قوله: (قال عاصِمٌ: رأَيْتُ القَدَحَ، وشَرِبْتُ فِيهِ) ولا بأس بالشرْب عندنا من قَدَحٍ فيه سِلْسِلةً ذَهَب، إذا لم يَضَع فاه على مَوْضع السلسلة.
3110 - قوله: (إنَّ عليَّ بنَ حُسينٍ حَدَّه أَنَّهم حين قَدِموا المدينةَ من عِنْدِ يَزِيدَ) ...الخ، عليَّ بن الحسين هو الامام زينُ العابدين، وكان عند مشهد أبيه غُلامًا لم يحتلم، فأشخصوا به إلى يزيد في الشام، فلما رجع إلى المدينةِ حَدَّثه، كما في الحديث.
(5/382)
---(5/214)
3110 - قوله: (ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا) هذا تعريضٌ إلى عليَ، حيث كان يريدُ أن يَنْكِحَ بنت أبي جَهْل، ثُم إن عليًا لم يَنْكِح أحدًا مدَّة حياة فاطمةُ بعد ما سمع من مقالة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلما تخوفيت نَكَح بعدها الحنفيةَ.
3111 - قوله: (فقال لي عليُّ: اذهب إلى عُثمانَ، فاخبره أَنَّها صَدَقةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم فَمُر سُعاتَكَ يعملوا بها)...الخ، واعلم أن الحديث قد مرَّ مِرارًا، وفيه أنَّ عَلِيًا كان عنده كتابٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّمولكن لم يكن الرواةُ تعرَّضوا إلى ما فيه الأحكام بعد، وقد تعرَّض إليها الراوي في هذا الطريق، وبَيَّن أنه كانت فيه أحكامُ الزكاةِ، وقد تحقَّق كما في «مصنف» ابن أبي شيّبة أن مذهبه في زكاة السوائم كان كَمَذْهبِ الحنفيةِ، فثبت أن مذهب الحنفية ثابتٌ في صحِيفةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإِنَّ كانت صحيفةٌ أخرى عند غيرهِ. فلا ننكِرها أيضًا، لأنَّ الزكاة قد أُخِذت على الوجِهين عندي، كما قرره ابنُ جرير. ويقضي العجب من مِثْل الحافظ أنه جمع أحكام تلك الصحيفة كِلَّها، إلا أنه ترك منها أحكامَ الزكاة، وأنا أدري ما يريد، والله المستعان.
3111 - قوله: (أَغْنِها عَنَّا) أي أبعدها عَنَّا، وإنما لم يَقْبلها عثمانُ، لأنه كان عنده أيضًا عِلْمٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فَرَغِب فيه عن غيرِه، وقد معنا الكلامُ في سبب إثارةِ تلك الفتن، وشهادة عثمانَ.
باب «الدليل لى أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمساكين» الخ.
صحيح البخاري
(5/383)
---
باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّموَالمَسَاكِينِ، وَإِيثَارِ النبي صلى الله عليه وسلّمأَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأَرَامِلَ، حِينَ سَأَلَتْهُ فاطِمَةُ وَشَكَتْ إِلَيهِ الطَّحْنَ وَالرَّحى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْيِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّه(5/215)
واعلم أنَّ أربعةَ أخماسٍ من الغنيمة للغانمين بالاتفاق، بقي الخُمس، فقد تكفَّل القرآنُ ببيان مُستحقِّه، وذكرها في ستة، فخرجها الحنفية، على أن ذِكْر اسم الله تعالى لمجرَّدِ التبرُّك، بقي رسولُه، فسقط سَهْمُه بعد وفاته، وأما ذو قرابته، فإِنْما يُعْطون من أَجْل الفقر، وإذن لم يَبْق من الستة إلا ثلاثةٌ؛ وذهب مالكٌ إلى أنَّهم ليسوا بمستحقِّين، ولكنهم مصارِفٌ، فيصرِفُه الإِمامُ من ولايته كيف شاء، وكم شاء.
أمَّا الفيءُ فلم يذهب أحدٌ إلى إيجاب الخُمْس فيه، إلا الشافعيُّ، ولا خمْس فيه عند الجُمهور، فإِنَّه مالٌ حصَل بدون إيجافِ خَيْل، ولا رِكاب، فيستبدّ بِصَرْفه الإِمامُ، ولا يُخْرِج منه الخُمْس، ومذهبُ الشافعيِّ مرجوحٌ في ذلك. ولعلَّ المصنِّف رَجَّح مذهب مالك، واختار أن قِسمةَ الخُمْس إلا الإِمام، يَقْسِمه كيف شاء، وترجم لذلك أربع تراجم:
الأولى: هذه الترجمةُ، وأخرج تحتها حديثَ شِكاية فاطمةَ، وما كانت تجد من الطحن والرَّحَى. واستدل منه على أنَّ ذوِي القرابة لو كانوا مستحقين، لأعطاها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمغُلامًا من الخُمْس البتة؛
(5/384)
---
والثانية: في هذه الصحفحةِ، باب قول الله: {فأَنَّ خُمُسَة وللرَّسُولِ} (الأنفال: 41) ثُم فَسَّره بقوله: يعني للرسول قَسْم ذلك، فجعل القِسْمةَ إليه، يَقْسِمه كيف يشاء، والثالثة: ما ترجم به: باب «مَنْ قال: ومِن الدليل على أنَّ الخُمْس لنوائب المسلمين»...الخ، حيثُ جعلَه في النوائب، ولم يخصَّه بِصِنْف دون صِنْف، واستدل عليه بأنه صلى الله عليه وسلّمأَعْطَى الأنصارَ وجابر من تَمْر خَيْبر، مع أنهما لم يكونا من ذوي القرابة.
والرابعة: ما تركم به على باب: ومِن الدليل على أن الخُمْس للإِمام...الخ، فهذه تراجمُ كلَّها - كما ترى - قريبةُ المعاني، ومرماها واحِدٌ، وهو الموافقةُ لمذهب مالك.
صحيح البخاري(5/216)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41)
يريد به دَفْع التوهُّم الناشىء من الآية، أنك جعلت الخُمْس إلى رأي الإِمام، مع أن الآية تدلُّ على كونه مِلْكًا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فأزاحه بأنَّ إضافته إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلّمللقَسْم دون المِلْك.
صحيح البخاري
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «أُحِلَّتْ لَكُمُ الغَنَائِمُ»
صحيح البخاري
باب الغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَة
صحيح البخاري
باب مَنْ قاتَلَ لِلمَغْنَمِ، هَل يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ؟
صحيح البخاري
باب قِسْمَةِ الإِمامِ ما يَقْدَمُ عَلَيهِ، وَيَخْبَأُ لَمِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غابَ عَنْه
صحيح البخاري
باب كَيفَ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم قُرَيظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَما أَعْطَى مِنْ ذلِكَ في نَوَائِبِه
(5/385)
---
وظاهره أنَّ العنيمةَ كلَّها أُحِلَّت لعامَّةِ المسلمين، ويتبادرُ منه أن أربعةَ أخماسها أيضًا أي الإِمام، يَصْرِفها في حوائج المسلمين كيف شاء، إلا أنه ليس مذهبًا لأحدٍ، فيترك هذا التبادر، ويرادُ لها أربعة أخماسها، بقي الخُمْس، فقد صَرَّع بكونه تحت وِلايته.
3123 - قوله: (مِن أَجْرٍ أو غَنِيمةُّ)، وقد قرَّرنا فيما أَسْلَفنا معنى «أو» وإنْ عَجِزْت أن تفهمه، فعليك أن تقول: إنه كان في الأصل مِن أَجْر، وغنيمةٍ، أو غنيمةٍ فقط، ولما كان فيه التقابلُ بين الكلِّ والجزء جاءت العبارةُ كما ترىٍ بحَذْف أحدً الجُزْءين من المعطوف عليه، ليستقيمَ التقابلُ في اللفظ.
3124 - قوله: (غزا نبيِّ من الأَنْبياءِ) وهو يوشع عليه الصلاة والسلام، وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام لبث في التَّيه أربعينَ سنة، فلما دنا أَجَلُه أُجَلُهُ أنْ يَصْعَد جبلا، فَصَعِد فرأى ما قُدِّر له من الفتوحات بعده، وأَوْصى بعد ذلك، ثُم تُوفَّي.(5/217)
3124 - قوله: (اللهُمَّ احبِسْها عَلَيْنا) ..الخ. لأنها لو غَرَبت لدخل السَّبْتُ، ولما يُفْتح له، وكان يُحِبَّ أن يُفْتح له قبل دُخول السبت، لأن القتال في السبت كان ممنوعًا عندهم، وهذا السَّبْتُ عندي هو الجُمعة، فحرفوا فيه، وجعلُوه يوم السَّبْت المعروف.
صحيح البخاري
باب بَرَكَةِ الغَازِي في مالِهِ حَيًّا وَمَيّتًا، مَعَ النبي صلى الله عليه وسلّموَوُلاةِ الأَمْر
صحيح البخاري
باب إِذَا بَعَثَ الإِمامُ رَسُولا في حاجَةٍ، أَوْ أَمَرَهُ بِالمُقَامِ، هَل يُسْهَمُ لَه
يعني أنَّ الزُّبيرَ كان رجلا كثيرَ الدُّيون، ولم تكن دارُه تَبلُغ وفاءَ دَيْنه، فلما استُشْهِد جعل اللهاُ فيها بركَةً حتى قضت عنه ديونَه، وبقيت منه أموالٌ، قُسِمت بين وَرَثته، كما سيجيء.
قِصَّةُ شهادة الزُّبَيْر
(5/386)
---(5/218)
واعلم أن طَلْحَة، والزُّبير بايعًا عَلِيًا، وشاع في الناس أن عليًا لم يُبال بدم عثمان، ولم يأخذ بثأره، وقامت عائشةُ لتأخذَ ثأره، قاصدةٌ نحو الكُوفة، خرج الزُّبير معها، فلما بلغت فِناءَ الكُوفة، وتراءت الفئتانِ، نادى عليٌّ: أيها الزُّبيرُ، أما تَذْكُر ما قال لك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إنَّك تُحِبُّ عليًا. وأنك تقاتِلُه يومًا، وتكون اليوم طالمًا، وهو مظلومًا؟ فقال الزُّبير: نعم، فلما تذكّر الزُّبيرُ نَكَص على عَقبه، وقال: ما أراني إلا شهيدًا مظلومًا، وإنَّ ما يهمني ديوني التي ركبتني، فاقْضِها عني. وكانت ديونُه مستغرقةً لجميع ماله، ومع ذلك أَوْصى لبني ابنه. لأنه كان يَعْلم أنهم ليس لهم في الإِرث نصيبٍ، لكون اينه حيًا، فجعل لهم ثُلْثَ ثُلُثِ الوصية، وتسع الكل. وكان الناسُ يستودِعون أموالَهم عنده، فيأبى أن يأخذها وديعةً مخافةَ الضياع، ويقول: ليست تلك وديعةً، ولكنها سَلَفٌ وقَرْضُ عليّ، وكان رَجُلا زاهِدًا أمينًا، لم يلِ الإِمارةَ، ولا شيئًا قطّ، فلما تُوفي، وقضى عنه ابنُه دَيْنه، وفَضَل مِن ماله فاضل، قال له أخوه أن يَقْسِمه بينهم، فأبى أن يفعله، إلا بعد أن يُنادي في الموسم. فإِنْ ظهر أنه لم يبق أحدٌ مِمَّن يكون له دينٌ عليه يَقسِمه بينهم، ففعل، ولما لم يَبْقَ من دَيْنه شيءٌ إلا وقد قضاه، أعطى الثَّمن لأزواجه، وذلك نصيبُهنَّ من التركة، وله يومئذٍ أربعُ نسوةٍ.
3129 - قوله: (وكان بَعْضُ وَلَدِ عبدِ الله قَدْ وَازَى بَعْضَ بني الزُّبير)...الخ، بهتيجى ججون كى برابر هو كئى.
3129 - قوله: (وما وَليَ إمارةً)...الخ، أي إنما كانت معيشتُه مما يَرِدُ عليه من الجهاد، والغنائم، فحسب.
(5/387)
---(5/219)
3129 - قوله: (فجميعُ مالِه خمسونَ أَلْفَ أَلْفٍ، ومئتا ألف) أعلم أولا أنك إن أرَدْت تَحويلَ الحساب من الهندي إلى العربي، فاعلم أن أَصل في الحساب العربي في أربعُ أدوار، كلّ دورةٍ منها يتركَّبُ من أربعة أعمدة، وآخِر كلَّ دورة منها هي بعينها مبدأ لدورةٍ أُخْرى بعدها: فالأُولى: آحادٌ، وعشراتٌ، ومئاتٌ، وآلاف؛ والثانية: آحادُ ألف، وعشراتُ ألف، ومئاتُ ألف، وآلاف الفٍ، فحصلت ثمانيةُ أعمد، غير أن رابعةُ الأُولى هي بعينها أُولى الثانية، فهي مكررةٌ، فالألفاظْ ثمانيةً والمراتِبُ سَبْعُ، وهكذا فَلْيُقَس في الباقية؛ والثالثة: آحادُ أَلفَ ألف، عشراتُ ألف ألف، مئات ألف ألف، آلافُ ألف ألف؛ والرابعة: آحادُ ألف ألف ألف، عشراتُ ألف ألف ألف، مئاتُ ألف ألف ألف، آلافُ ألف ألف ألف.
صحيح البخاري
ثُم أَنَّ المجموعَ المذكورَ لا يستقيمُ بالحساب المذكور في الصحيح، فإِنَّ نصيبَ كُلِّ امرأةٍ بعد رَفْع ثُلُثِ الوصيةِ أَلْفُ ألف، ومئتا إلف باره لا كه، وكان له أَربعُ نسوةٍ، فصار مجموَ نصيبيهن أربعة آلافِ ألف، وثمان 48.00.000، وذلك ثُمُن الميراث، لانَّ نصيبَ الأزواج هو الثمن، فإِذا عَلِمنا أن المجموعَ المذكورَ ثمن التركةِ بعد رَفْع ثُلُث الوصيةِ، عَلِمنا أن التَّرِكةُ بجميع سهامها كانت ثمانية وثلاثينَ ألفَ ألف، وأربع مئة ألف من كروره جولا هي لاكيه وإذا عُلِمنا جميعَ سِهام التركة، وأنها ثُلُثا المال، علمنا مقدارَ ثُلُثِ الوصية أيضًا، وهو تسعةَ عشرَ ألف ألف، ومئتا ألف ايك كرور بانوى لا كهه وإذن مجموعُ السَّهام مع ثُلُث الوصية صار سَبْعةُ وخمسين ألف ألفٍ. وست مئة ألف، فإِنَّ ضَمَمْنا معه قَدْرَ الدَّيْن أيضًا حصعل ستونَ أَلْفَ ألف، إلا مئتا ألف؛ وهذا كما ترى، يزيدُ على المجموع المذكور بِقَدْرِ تسعة آلاف ألف، وست مئة ألف 9600.0000.
(5/388)
---(5/220)
والجواب الصحيح على ما نقل إلينا عن الشيخ الجَنْجُوجي أن قوله: «وجميع ماله خَمْسون»، مبتدأ وخبر، وليس قوله: «ألف ألف تمييزًا لخمسون، بال معناه جميعُ ماله خمسونَ سَهْمًا، وسَهْم واحد منها أَلْفُ ألف، ومئتا ألف في خمسين، حصل ستون ألف ألف، وكانت التركة بالحساب المذكور ستين ألف ألف، إلا مئتي ألف؛ فالمجموع الحاصل حينئذٍ يَنْقُص من المجموع المذكور بقدر مئتي أإلف، وهذا القَدْرُ قليلٌ جدًا بالنسبة إلى حساب الشارحين، فيمكن التسامحُ فيه، بأن يقال: إنَّ الراوي قَطَع النظر عن الكَسْر، وذكر العددَ التامَّ، أي ستين ألف ألف.d
وبالجملة ذهب الشارحون إلى أنَّ ألف ألف تمييزٌ لخمسونَ، ومئتا ألف، معطوفٌ على قوله: «خَمْسونَ» وذهبنا إلى أنَّ أَلْفَ ألف ليس تمييزًا عن قوله: «خمسون، بل هو مع معطوفةِ خَبَرٌ عن مبتدإٍ محذوفٍ، كما ذكرناه، والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِنَوَائِبِ المُسْلِمِينَ ما سَأَلَ هَوَازِنُ النبي صلى الله عليه وسلّمبِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم يَعِدُ النَّاسَأَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الفَيءِ وَالأَنْفَالِ مِنَ الخُمُسِ، وَما أَعْطَى الأَنْصَارَ،وَما أَعْطَى جابِرَبْنَ عَبْدِ اللَّهِ تَمْرَ خَيبَر
هذه ترجمة ثالثة في بيان أن خمس الغنيمة موكول إلى رأي الإِمام، يصرفه. كيف يشاء.
قوله: (برَضَاعِه فيهم) أي إنَّما سألوه بِسَبَبِ رَضَاعه فيهم.
قوله: فتحلَّل من المُسْلمين ترجمته معاف كرواديا.
قوله: (وما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّميَعِدُ النَّاسَ أن يُعْطِيَهُم مِن الفَيء)...الخ فلف فيه الفيء أيضًا، ولا خلاف فيه، فإِنه موكولُ إلى رأي الإِمام عندنا أيضًا، وإنما الكلام في خُمس الغنيمة، هل يستقِلُّ به الإِمام، أو يُصْرف إلى مُسْتحِقِّيه لا محالة؟
(5/389)
---(5/221)
3131، 3132 - قوله: (إنّي (قد) رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إليهم سَبْيَهُم) فعبَّرَه ههنا بالردِّ، وعبره عنه: ص 445 - ج ا بالمنِّ، وسيجيء عنده أنه كان إعتاقًا، وحينئذٍ تَسْقُط منه تراجِمُه كلُّها في الهبة - غر الذرى - سفيد كوهان والى.
3136 - قوله: (حِينَ افتتح خَيْبَرَ، فأَسْهم لنا، أو قال: فأَعْضَانا مِنْها)...الخ، وغَرَضُ البخاريِّ أَنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقَسَم خُمْس الغنيمةِ حيث شاء الله، فعلم أن مَصَارِف الخمس ليست منحصرةً فيما ذَكَره القرآن.
صحيح البخاري
باب ما مَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم عَلَى الأُسَارَى مِنْ غَيرِ أَنْ يُخَمِّس
وهذه أيضًا ناظِرةٌ إلى مذهب مالك، فإِنه إذا من عليهم، ولم يأخذ منهم الخُمْس، دَلّ على كونِه رأي الإِمام، فإِنَّ نفس الخُمْس إذا كان إلى رَأْيه، ققِسْمَتُه بالأَوْلى.
صحيح البخاري
باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِلإِمامِ وَأَنَّهُ يُعْطِي بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ: ما قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم لِبَنِي المُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيبَر
هذه ترجمةٌ رابعةٌ، تدلَّ على أنه ذَهَب في الخُمْس إلى مذهب مالك، كما قررناه.
قوله:(وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: لم يَعُمَّهم بِذَلك)ويعني أن النبي صلى الله عليه وسلّملم يُعْطِ مِن ذي قرابته كلَّهم، بل قَسَم لبني المُطَّلب، وبني هاشم فقط، ثُم لم يُعْط منهم كُلّهم أيضًا، بل أعطى بَعْضًا دون بعض، فدلَّ على أن ما ذُكِر في القرآن إنما هو مصارِفُ له فقط، دون مُسْتحِقِّيه.
قوله: (وإن كان الذي أعطى أبعد قرابةً مِمَّنْ لم يعطِ) فخبرُكان مُقدَّر.
(5/390)
---(5/222)
قوله: (ولم يَخُصَّ قريبًا دونَ مَنْ أحوجُ إليه) ...الخ. قلت: وهذا نَظَرُ الحنفيةِ أنَّ العبرة في أهل قرابةِ النبي صلى الله عليه وسلّمللفقر دون جهة القرابة، فليست القرابةُ جهةً مستقلة عندنا، فوافَقنا في هذا النَّظَر، وإنْ كان وافَق في أصل المسألة مالكًا، كما مرَّ.
صحيح البخاري
باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأَسْلابَ، وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيرِأَنْ يُخَمَّسَ، وَحُكْمِ الإِمامِ فِيه
وراجع «الهداية» لتفسير السَّلَب، والسَّلَب عندنا تحت وِلاية الإِمام، فإِن أعلن به فهو للقاتِل، وإلا فيحرز إلى الغنيمةِ، ويؤخذ منه الخُمْس، فليس السَّلَبُ دائمًا للقاتِل عندنا. أما قوله: «مَنْ قتل قتيلا» الخ، فمحمولٌ على إعلانه في تلك الحرب خاصَّةً، ونظيرُه قولُه صلى الله عليه وسلّم «مَنْ أحيا أرضًا ميتةً، فهي له، فإِنَّه محمولٌ عندهم على بيانِ تملُّك الأرضِ مُطْلقًا، وعندنا يُشْترط له الإِذنُ الجزئيُّ مِن الإِمام.
3141- قوله: (أيّكُما قَتَلَه) وإنما قال تطييبًا لخاطِرهما، وإلا فالقاتِلُ مَنْ كان أَثْخَنه، ولذا أعطاه سَلَبه.
صحيح البخاري
باب ما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم يُعْطِي المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَغَيرَهُمْ مِنَ الخُمُسِ وَنَحْوِه
ولعله ذَكَر المؤلَّفة قلوبُهُم تأييدًا لما اختاره، مِن أنَّ الخُمْس إلا الإمام، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإذا أعْطَاهُم - مع أنَّهم لا ذِكْر لهم في القرآن - دَلَّ على أنَّ المذكورين فيه مصارِفُ لا غَيْرُ، ولذا وسع له أن يَصْرِفه إلى غيرهم أيضًا، فثبت أن لا مَزيَّةَ لمن سُمِّي في القرآن على غيرهم. ونقول: إنَّ هؤلاء كانوا مصارِفَ إلى زمنٍ، ثُم نُسِخ، أو انتهى الحُكْم بانتهاء العِلَّة، فلا حُجَّة فيه.
(5/391)
---(5/223)
3144 - قوله: (إن عُمَر بن الخطَّاب قال: يا رسولَ الله، إنه كان عليَّ اعتكافُ يوم)...الخ، ومرَّ الحديث مِنْ قَبْل، وفيه اعتكاف ليلةٍ، وكان المصنِّف ترجم على ذل اللفظ، وقد كنا نبهناك على أنه ورد فيه لفظُ اليوم أيضًا، فلا يتم ما رامه المصنِّف.
3151 - قوله: (كُنْتُ أَنْقُل النَّوَى) وهو من مقولةِ أسماء، زوجة عبد الله بن الزُّبير، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأقطعه أرضًا. وقد مرَّ معنا أن الإِقطاع في السَّلف كان بمعنى إحياء الموت، لا بمعنى كونها مرفوعةً عنها المؤن، وكونها عَفْوًا.
صحيح البخاري
باب ما يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ في أَرْضِ الحَرْب
وقد أجاز الفقهاءُ أَكْلَ الطعام، وكلّ ما يتسارع إليه الفسادُ على قَدْر الحاجة، ومنعوا عن اتخاذ الخُبنة، فدلَّ على كَوْنه مستثنى من الخُمْس.
صحيح البخاري
كتاب الجِزْيَةِ وَالمُوَادَعَة
صحيح البخاري
باب الجِزْيَةِ وَالمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالحَرْب
أي معاهدة المسلمين من أهل الذِّمة، وإنما آثر لَفْظ الموادعة على المعاهدة، لأن الموداعة تُشْعِر بمادتها بعدم كونها مطلوبةً، لأن مادَّتها تدل على معنى التَّرْك، فمعناه تَرْكُ التعرُّض لهم، بخلاف المعاهدة، فإِنَّه يدلُّ على كونِه مطلوبًا، وحقًا لازمًا على المسلمين.
قوله: ({وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 9) أي هم لا يَتِبَّعون شريَعَتكُم.
قوله: (والمَسْكَنَة) مَصْدَرَ المِسْكين، أَسْكَن فلان أَحْوج منه، يريدُ أَنَّ قوله: أسكن فلان من المسكنة، لا من السكون، وإن كان أصلُ المادة واحدًا، وتحقيقُ معنى الإِلحاق لا يوجدُ أَبْسَط مما ذكر المَازَنْدَرَاني.
(5/392)
---(5/224)
قوله: (وما جاء في أَخْذَ الجِزيةِ من اليهودِ والنَّصارى والمَجْوس والعَجَم)، واعلم أَنَّ الجِزْيةَ تُؤخذ عندنا من سائر المعجم، وليس في بالِغِى العربِ، ومقاتليهم إلا السيف، أو الإِسلام، فإِنَّ الرسول نزل فيهم، وبلسانِهم فكُفْرُهم أشدّ من أنْ تُقبل منهم الجِزيةُ، وأما عند الشافعي فلا تُؤخذ إلا مِن أَهْل الكتاب، فإِنَّ كُفْرهم أَخفُّ من الآخرين، بقي المَجوسُ، فكان عمرُ تردَّد في ضَرْب الجِزْيةِ عليهم في أَوَّل أَمْرِه، ثُمَّ لما حدَثَّه عبدُ الرحمن بن عَوْف أنهم كانوا فرقة مِن أهل الكتاب. صَلُّوا كتابَ نبيِّهم قَبِل منهم الجزيةَ، إلا أنه لم يأذن لهم في نكاح المحارم. وراجع الطحاوي، ولا يُدْرَى ماذا أراد المصنِّفْ من زيادة العجم؟ إنْ أراد منهم الوثنيينَ ففيه دليلٌ على موافَقَةِ مذهب الإِمام، حيثُ تُؤخذ الجزيةُ عندنا منِ أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار أيضًا، بخلاف الشافعي؛ وإنْ كان المرادُ منه أهلَ الكتاب منهم، فلا دليلَ فيه على ما قلنا، والمتبادر هو الأول، لأنه ذَكَرهم بعد اليهودِ والنَّصارى، وهم أهلُ كتاب. ثُم إنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نَزل مِن السماء يَضَع الجزيةَ، ويَرْفع هذا الشقِّ رأسًا.
ثُم اعلم أن الجزية إذا ضُربت بالموادَعة، فعلى ما وقعت عليه، وإنْ كان من جانب الأمير بدون الموادعة. فعلى التفصيل الذي ذُكر في الفقه.
(5/393)
---(5/225)
3156 - قوله: (فأتانا كتابُ عمرَ بن الخطاب قَبْل موتِه: قَرَّقوا بين كُلِّ ذي مَحْرَم من المجوس) فكأَنَّه شَدَّد في أَمْرِ النِّكاح بين المحارم، ولم يتحمَّله ممن عقدَ معهم عَقْدَ الذِّمة أيضًا، حتى إنه خَيِّرهم بين أن يفارِقوا محارِمَهم، فيقرُّوا في دارِنا، أو يتحوَّلُوا إلي أيِّ جهة أرادوا، وذلك لشناعتهِ، وظهور بطلانه، لأنه ليس دينُ سماويُّ إلا وقد حرَّمه، وليس الغَرَضُ منه نَقْضَ عقدِ الذِّمَّة رأسًا، وإنما لم يَتْرُكْهم وما يدينونَ في هذا الجزء فقط، وإلا فَقد أَمَرنا بِتَرْك التعرُّضِ لهم في دينهم بعد الإِسلام، وإنْ ترافعوا إلينا نَحْكُم بينهم، كما في الإِسلام. وفي تخريج «الهداية» عن محمد ابن أبي بكر يَسْأل عليًا عن رجل مُسْلم زنى بذميِّةٍ، فكتب إليه: أن أرجُم المُسْلم، وسَلَّم الذميةَ إلى أهلِ الذمة ليقضُوا عليها ما عندهم مِن شَرْعِهم.
صحيح البخاري
3159 - قوله: (بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ في أَفْنَاء الأَمصار) ، واعلم أنَّ فارس كانت تطلق في القديم على القرى القارسية، أما اليوم فكلُّ مَنْ كانت لسانُه فارسيةً يقال له: فارسي، ولا كذلك في الاصطلاح القديم.
3159 - قوله: (فأَسْلَم الهُرْمُزانُ) مَلِكَ تُسْتر، معرَّب شوستر، أَسَرُوه فجاءوا به إلى المدينةِ، ووظفوا ليه، قيل: إنه كان أَسْلمع بلِسانه، ولم يكن دَخَل الإِيمانُ بقلبه، ومِن دسائسه استُشهد عمرُ.
3160 - قوله: (فقال النُّعْمانُ: ربماأَشْهَدَك الله مِثْلها) ترك النمانُ القِصَّة الأُولى، ودخل في الأخرى، وسأل المغيرة عما في الحديث.
قوله: (وَتَحْضُرَ الصلواتُ) ومحطُّه أنَّ للصَّلوات مدْخلا في النُّصْرة.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَادَعَ الإِمامُ مَلِكَ القَرْيَةِ، هَل يَكُونُ ذلِكَ لِبَقِيَّتِهِم
(5/394)
---(5/226)
يعني إذا كان الصُّلْح مع الكفار، فلا يكون مع كلِّ واحدٍ منهم، بل يكفي مَلِك القريةِ، فيكفي عن جميعهم لأنَّ موادَةَ الملك موادَةٌ لرعيتِهِ.
3161 - قوله: (بِبَحْرِهم) وه بستى جودر ياكى كَنارى هو.
صحيح البخاري
باب الوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم
3162 - قوله: (أَوْصِنا يا أميرَ المؤمنين) قالوا له حينَ خَرَج.
صحيح البخاري
باب ما أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم مِنَ البَحْرَينِ، وَما وَعَدَ مِن
مَالِ البَحْرَينِ وَالجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الفَيءُ وَالجِزْيَةُ
- قوله: (حتى تَلْقَوْني على الحَوْض) فيه دليلٌ على كونِ الحَوْض على نهاية السفر، فدلُّ على كونِه بعد الصراط؛ واعلم أنا قد تكلمنا مرةً على حديث أَنس، وقد ذكرنا ما قال فيه العلماء، وسنح لنت الآن أن نَذْكُر فيه ما هو الرأي عندنا، فنقولُ: إنَّ الحديثَ كما عند الترمذِّي أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأين أَطْلُبك يا رسول الله يوم القيامة؟ فقال له: اطلبني على الصِّراط، وإلا فعند الميزانِ، وإلا فعند الحَوْضِ - بالمعنى - ومرَّ عليه الشاه عبد العزيز، واستشكل عدمَ الترتيب بين هذه المواضع، فوَجَّهه بأنَّ المرادَ أني لا أزال أتردَّد بين هذه الموضع، فتارةً أَلْقاك ههنا، وأخرى هناك، فكأنه صلى الله عليه وسلّملا يكون له استقرارٌ في موضع من المَحْشر، مادام تحاسب أُمته، فيراقِبُ أُمته في مواضع الأَهْول كلها.
(5/395)
---(5/227)
والذي تَبَيِّن لي - ولا يبعد أن يكون صوابًا - أنه أَمَرَه أَوَّلا بِطَلبه عند الصِّراط، لأن المَحْشر فضاءٌ، واسع، يتعسَّرُ فيه الطلبُ واللقاء، فدلَّهُ على مَوْضع يَجْتمِع فيه الناسُ، فإِنَّه ليس من أهل المَحْشر، إلا ويكونُ له مرورٌ على الصِّراط، فَيَسْهُل الالتقاءُ هناك، ولأنه لا مجتمع بعد عُبور المَحْشَر إلا هو، فإِنَّ لم تجدني هناك فاطلبني في هذا الجانب من الصراط، أو وراءَهُ، ولا أكونُ في هذا الجانب إلا عند الميزانِ، وإنْ جاوزت الصراط، فلا تجدني إلا عند الحَوْض، فالحوضُ بعد الصِّراط عندي عرفا أبهى يهى كهتى هين كه كجهى بل برد يكه لينا أو اكروهان نه ملاتويا آرهونكا يابار.
صحيح البخاري
باب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيرِ جُرْم
صحيح البخاري
باب إِخْرَاجِ اليَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَب
3166 - قوله: (مَنْ قتَل مُعَاهِدًا لم يَرَحِ رائِحةَ الجَنَّةِ ومُخُّ الحديثِ: إنَّك أيها المخاطَب قد عَلِمت ما في قَتْل المسلم من الإِثم، فإِن شناعتَه بلغت مَبْلَغ الكُفْر، حيث أوجب التخليدَ، أما قَتْل مُعاهدٍ، فأيضًا ليس بَهِّين، فإِنَّ قاتِله أيضًا لا يَجِدَ رائحةَ الجنة.
صحيح البخاري
باب إِذَا غَدَرَ المُشْرِكُونَ بِالمُسْلِمِينَ، هَل يُعْفَى عَنْهُمْ؟
صحيح البخاري
باب دُعَاءِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا
3169 - قوله: (قوله) أي اليهود.
3169 - قوله: (نكُونُ فيها) أي النَّار.
3169 - قوله: (يسيرًا، ثم تَخْلُفُونا فيها) نعم، ولقولهم مَنْشأ نَبَّه عليه الشاه عبد العزيز، وهو أَنَّه لم يزل يُذْكر في الأديان السماوية أنَّ المؤمن العاصي يُعذَّب يسيرًا، ثُم يَنْجوُ، فهؤلاء الملاعنةُ يَزْعمون أنفسُهم مؤمنين فاسقين، والمسلمين كفَّارًا، فقالوا ما قلوا.
(5/396)
---
صحيح البخاري
باب أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِن(5/228)
وأمانُ الحرِّ، أو الحُرَّة معتبرٌ عندنا، ولو بلا إذْن الإِمام؛ نعم للإِمام أن يَنْبِذه على سواء إنْ رآه خلافَ مصلحته، وبعزِّزه، وحاصله أَنَّ المعاملةَ إذا وقعت مع الكفارِ فوضِيعُنا وعزيزُنا فيها سواء، فلا فَرْق بين الوضِيع والشريف، ولا تُرَاعى في مقابلتهم إلا جهة الإِسلام، يعني غير قوم كى مقابلة مين برى جهوتى كما فرق نه ركها كيا بلكه مسلمًا هونى كى رعايت كى فينفذ تأمينُ كلِّ مَنْ كان من أهلِ الولاية والإِسلام، عزيزًا أو وَضِيهًا، حرًّا، أو حُرَّةً.
صحيح البخاري
باب ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَجِوَارُهُمْ وَاحِدَةٌ يَسْعى بِهَا أَدْنَاهُم
وهذه الوَحدة كما أنَّ صلاةَ الجماعةِ واحِدةٌ عندنا وإن اشتملت على أَلف صلاةٍ، فكذلك ذِمَّةُ المسلمين أيضًا، سواء كان المعاهدون واحدًا أو ألفًا.
3172 - قوله: (فَمَنْ أَخْفَر) عهد شكن بنايا.
صحيح البخاري
باب إِذَا قَالُوا: صَبَأْنا وَلَمْ يُحْسِنُوا أَسْلَمْنَا
- (وقال: تَكَلَّم لا بأْس) وهذا جين جيء بُهرْمُزان أسيرًا، فلماذا رآه عمرُ تَقْشَعِرّ جلودْه، وترعد فرائصُه، قال له: تكلم لا بأس، ثُم نسي عمرُ من مقالته ذلك، وقال بعد ذلك: إني سأَقْتُلك، فقال له الهُرْمُزَان: إنك لست تستطيعُه، قال: فكيف ذلك؟ قال: أما قلتَ الآن: مترس فهو أَمِن، فسأل عمرُ أَنسًا عن ذلك، فأَقَرَّ به، فعفا عنه.
صحيح البخاري
باب المُوَادَعَةِ وَالمُصَالَحَةِ مَعَ المُشْرِكِينَ بِالمَالِ وَغَيرِهِ،وَإثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِالعَهْد
صحيح البخاري
باب فَضْلِ الوَفَاءِ بِالعَهْد
(5/397)
---
يعني أما المصالحةُ بأَخْذ الأموالِ عنهم فهي طريقةٌ مسلوكةٌ، فإِنَّ اضطرُ المسلمونَ إلى بَذْل المال إليهم مِن عندهم، فلا بأسَ، به أيضًا ويكونُ جائزًا.(5/229)
3173 - قوله: (انطَلقَ عبدُ الله سَهْل)...الخ، وفي الحديث قِصَّة القَسامة، وهي تجري فيما (إذا) وُجِدَ القاتل في محلِّ الدِّية، ولم يُعلم قاتِلُه، وراجع تفصيلها في الفقه. واليمينُ لا يتوجَّ في القسامة عند إمامنا على المُدْعي بل يَحْلِف خمسونَ رَجُلا من المدَّعي عليهم بالله ما قتلناه، ولا علمنا قَاتِلَه، ثُم تَجِبَ عليهم الدِّيةُ لأَوْليا المقتول، وفائدةُ الحَلِف دَرْءُ القِصاص عنهم، وتبَيُّن القاتِل إنْ علموه، وقال الشافعيُّ: بل يتوجَّهُ اليمينُ أَوَّلا على المُدَّعِين فإِنْ فعلوه، وجبت الدِّيَّةُ على المدَّعي عليهم، وإلا يتوجَّهُ اليمينُ علي المُدَّعَى عليهم، فإِنْ حَلفوا تَسْقُط عنهم الدِّية. ثُم إنه لا قِصاص عندنا، وعند الشافعيِّ في صورة. وقال مالك ابنُ أنس: إنَّ المين يتوجَّه أولا على أولياء القتيل، ليحلِفُوا على أَنَّ فلانًا قاتِلُه، ويُشْترط أن يبيِّنُوا سبب العداوةِ بين القتيل والقاتِل، فإِذا حلف خمسونَ منهم على أنَّ فلانًا قَتَله، وَبيِّنوا العدواةَ أيضًا يُقْتَصُّ منه، وإلا فيتوجَّه اليمينُ على المُدَّعَى عليهم، كمذهب الشافعي.
(5/398)
---
والحاص أن اليمينَ يتوجَّه أَوَّلا على المُدَّعِي عند مالك، والشافعيِّ، غير أن مالكًا أوجب القِصَاص في صورةٍ، بخلاف الشافعيِّ، فإِنه لا قِصاص عنده في صورةٍ، أما الإِمام الأعظم، فقد مشى فيها على الضابطةِ العامَّة، أن البينةَ على المُدَّعِي، والمينَ على مَنْ أنكر، فلم يقل ببدايةِ اليمينِ على المُدَّعين، ولكن يتوجَّه الحَلِف على المُدَّعَى عليهم، ولا قِصاص عنده أيضًا في صورةٍ، كما هو عند الشافعي، وهو مذهبُ عُمَر، واختاره البخاريُّ أيضًا، كما سيجيء في موضعه، وراجع «الجَوْهر النقي» فإِنَّه تكلَّم عليه كلامًا جيدًا.(5/230)
3173 - قوله: (فذهب عبدُ الرحمن يتكلَّم، فقال: كَبِّرْ كَبِّر) وإنما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يَسْمع القِصَّةَ، أولا من مُحَيِّصة، وحُوَيِّصَة، وإن كان حَقُّ الدَّعْوى لعبد الرحمن أخي القتيل، ثُم إذا يَبْلغ أوانْ الدَّعْوى يتقدَّم أخوه، ويدَّعي، كما هو الطريق المعروف، وإنما أَخَّره في سماع القصة، لكونِه أحدثَ القوم، يمكن أن لا يأتي بها على وَجْهها.
صحيح البخاري
(5/399)
---(5/231)
3173 - قوله: (فقال: اتحلِفُون وتستحِقُّون دم قاتلكم)...الخ كياتم جوهر قتيل كى اوليا...الخ، فيه حجَّةٌ للشافعيِّ، فإِنه وَجَّه المين أَوَّلا على المُدَّعيين، وعندي هو استفهامٌ فقط لا أنه صَرْف اليمين إليهم على شاكِلةِ القضاء، والمسألة، وإنَّما أراد به يقروا مِن عند أَنْفُسهم أنهم كيف يَحْلِفون، وهم لم يشهدوه، فإِنْ أنكروا عنه يقضي بيمين المُدَّعى عليهم، فإِذْن هو طريقُ كلامٍ، وخطاب، ولذا قالوا: كيف نَخْلِف، ولم نَشْهد؟ فدلَّ على أنه كان على طَوْر المجاراة مع الخَصْم لا غير، ولذا قال: فتبرِئكُم اليهودُ بخمسينَ يمينًا؟ فقالوا: كيف نأخذُ أَيْمانَ قوم كُفَّار؟... الخ، ولكنهم إذا لم تكن عندهم بينةٌ، وأَبَوا عن اليمين أيضًا لَزِمهم أن يرضوا بأَيْمان المدَّعَى عليهم لا محالة، وإنْ كانوا قومًا كاذبين، فإِنَّ الإِمام ليس عليه الاطلاعُ على الوقائع، وإنما يقضي على الضابطة، فإِذا أنكروا عن البينةِ واليمين، لم تبق صورة إلا القضاء بأَيْمانهم، وهذا الذي كان يريدُه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبتوجِيه اليمين إليهم، لينْكُلوا عنه، فينصرف اليمينُ إليهم، ولا يبقى احتمالٌ غيرُه، وي الروايات أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكتب إلى يهوِ خيبرَ أن يَحْلِفوا، فكتبوا إليه: إنَّك لو أمرتنا به نَفْعله، ولكنا لم نَعْلَم قاتِلْه، فودَاه النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن بين المال، ولم يهدر دَمَه، وإنما فعل ذلك لأنه كان يومئذٍ بينه وبينهم صُلْحٌ، كما في بعض طرقه في «الصحيحين»، وتجِب الديةُ في بعض الصَّور على بيتِ المال عندنا أيضًا، وفيه دليلٌ للحنفيةِ على أن دمَ القتيل لا يُهْدَر بحال، بخلافِه عند الشافعيِّ، فإِنه لو حلف خمسونَ من المدَّعَى عليهم لا يجِب عنده ديةٌ، ولا قِصَاص.
صحيح البخاري
باب هل يُعْفَى عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَر
صحيح البخاري
(5/400)
---
باب مَا يُحْذَرُ مِنَ الغَدْر(5/232)
3175 - قوله: (حتى كان يُخَيَّل إليه أَنَّه صنع شيئًا، ولم يَصْنَعْه) وقد سبق إلى بعضِ الأوهام أن السِّحر مما لا بنبغي أن يمشي على الأنبياء عليهم السلام، فإِنه بوجِب رَفْع الأمان عن الشرع. قلت: وإنما يلزم ذلك لو سَلَّمناه في أمور الشريعة، أما لو مشى عليه من غيرِ هذا الباب فلا غائلة فيه. وإنَّما سِحر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي أَمْر النِّساء، فكان يُخيَّلُ إليه أنه قادِرٌ على النِّساء، ولا يكون قادرًا، وهذا النوعُ من السِّحرْ معروفٌ عند الناس، ويقال له في لسان الهند: فلان مرد كوبانده ديا.w
ثم إنَّ السحر له تأثيرٌ في التقليب من الصِّحة إلى المرض، وبالعكس، أما في قلب الهامية فلا، وما يتراءى فيه من قَلْب الماهية لا يكونُ فيه إلا التَّخْييلُ الصرف، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) فلم تَنْقلب الحبالُ إلى حيَّات، ولكن خُيِّل إليه أنها انقلبت. وهذا ما نُسِب إلى أبي الحنيفة أنَّ في السِّحْر تخييلا، فقط، ولا يريدُ به نفي التأثير مُطْلقًا. فإِنَّه معلومٌ مَشْهودٌ، بل يريد به نَفِي التأثير في حَقِّ قَلْب الماهياتِ. ولا رَيْب أن ليس له فيه تأثيرٌ غير التخييل، ومِن ههنا ظهَرَ الفَرْق بين المعجزةِ والسِّحْر، فإِنَّ المعجزةَ خاليةٌ عن التخييل، فهي على الحقيقةِ البحتةِ، ونَفْس الأَمْرَ الصرف، ولذا قال تعالى: {فإِذا هي تَلْقَف ما صَنَعوا} (طه: 69) أي جِعلت تَفْعل فعل الأُفْعُوان، من بلْع الحيات، وأَكْلِها، ولو كان تخييلا فقط، لم تفعل ذلك فَنبَّه على تحقيقها، وحَقَّق تخييل السِّحر، فافهم.
2371 - قوله: (3176: (عقاص غنم) داء الطاعون في الغنم.
صحيح البخاري
باب كَيفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ العَهْد
- قوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ}(الأنفال: 58) صاف بات نكهرى هوئى كهدو.
(5/401)
---
قوله: (عى سَواء) (الأَنفال: 58) جتنا تمهين معلوم هي أوتنا أونهين معلوم هوجاوى.(5/233)
صحيح البخاري
باب إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَر
صحيح البخاري
باب
صحيح البخاري
باب المُصَالَحَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُوم
3179 - قوله: (مَنْ أَحْدَث حَدَثًا) ...الخ، أي مَن زاد عليهم مِن السلاطن في الجبايات، وأخذ منهم مالا ظُلْمًا، وهذا مصداقة الأولى، ثُم صار عامَّا لِكُلِّ مبتدع في المدينة.
3180 - قوله: (إذا لم تَجْتَبُوا دِينارًا ولا دِرْهمًا) أي لم تأخذوه على وَجْه الجِباية، والخَراج، يعني جزيه وصول نهوكا.
3180 - قوله: (فيُشُدُّ اللهاُ قلوبَ أهلِ الذِّمة) خدا أونكى دلون كوسخت كرديكا أوروه صاف جواب ديدينكى.
صحيح البخاري
باب المُوَادَعَةِ مِنْ غَيرِ وَقْت
صحيح البخاري
باب طَرْحِ جِيَفِ المُشْرِكِينَ فِي البِئْرِ، وَلا يُؤْخَذُ لَهُمْ ثَمَن
صحيح البخاري
باب إِثْمِ الغَادِرِ لِلبَرِّ وَالفَاجِر
ليس هذا من الموادَعة، في شيء، وإنما كان تَرَكهم ليزرَعوا في أرضها، ويردُّوا منه إلى بيت المال ما وجب عليهم فيه.
59 - كِتَابُ بَدْءِ الخَلقِ
وقد مرَّ نظائرُه من قوله: «بَدْء الوحي»، و«بَدْء الحَيْضِ»، فهذا «بَدْء الخَلْقِ». ويَذْكُرُ في ضِمْنِهِ الأحوالَ، إلى الحشر. وهذا الكتابُ في كُتُبِ الأحاديث أقربُ إلى سِفْر التكوين من التوراة.
قوله: ({وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}) (الروم: 7) أَتَى بِصيغة التفضيل رعايةً لحال المُخَاطَبِينَ، ومُجَارَاةً لهم، فإن الإِعادةَ عندهُم أسهلُ من الإِبداع، وإلاَّ فالكلُّ سواء بالنسبة إلى قدرته، فإن الله تعالى لا مُكْرِهَ له.
(5/402)
---(5/234)
3191 - قوله: (كان اللَّهُ، ولَمْ يَكُنْ شيءٌ غَيْرُهُ) ومن لفظه: «ولم يكن شيءٌ قَبْلهُ»، ولا أَذْكُرُ فيه لفظ: «معه». والأَوْلَى اللفظُ الأوَّلُ، فإنه يَدُلُّ على أن سائرَ العالم بنَقِيرِه وقِطْمِيرِه حَادثٌ، بخلاف قوله: «ولم يكن شيءٌ قبله»، فإنه وإن كان صحيحاً في نفسه، لكنه لا تَسْتَفَادُ منه المسألةُ المذكورةُ. ثم إن هذه عقيدةُ الأديان السماوية كلِّها، وما من دينٍ حقَ إلاَّ ويَعْتَقِدُ بحدوث الأكوان، إلاَّ الله، واختار الشاه وليُّ الله في بعض رسائله قِدَمَ العالم، وتمسَّك بما عند الترمذيِّ إنه صلى الله عليه وسلّمسُئِلَ: «أيْنَ كَانَ رَبَّنَا قَبْلَ أن يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قال: كان في عَمَاءٍ، ما فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وما تَحْتَهُ هَوَاءٌ.
3191 - قوله: (وكَانَ عَرْشُهُ على المَاءِ) وقد مرَّ: أن هذا الماءَ إمَّا هو ما أَخْبَرَ به ابنُ مسعود: أنه على مسافة خمس مئة سنةٍ فوق السموات، أو هذا الماءُ المعروفُ عندنا. فالمرادُ منه كون العرشِ في طرفٍ، وفي طرفٍ آخرَ منه الماءُ، لا كونه مستقرّاً على الماء.
3191 - قوله: (في الذِّكْرِ): أي اللوح المحفوظ.
3191 - قوله: (فإذا هيَ تَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ)، معناه أنها بَعُدَتْ بُعْداً لا يَظْهَرُ دونه السَّرَابُ، مع أنه يَلْمَعُ من البُعْدِ، فإذا لم يَظْهَرْ السَّرَابُ أيضاً، دَلَّ على قطعها بُعْداً بعيداً، والغرضُ بيانُ بُعْدِهَا فقط.
(5/403)
---(5/235)
3194 - قوله: (فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ، إن رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي) وفي لفظٍ: «سَبَقَتْ غَضَبِي»، وتمسَّك به الشيخُ الأكبرُ على أن عذاب الجحيم لا يَدُومُ لأحدٍ، لأن الحديثَ يُخْبِرُ أن الرحمةَ والغضبَ تَسَابقا، فَسَبَقَتْ رحمتُه غضبَه، فإذا سَبَقَتْ لَزِمَ أن لا يَبْقَى أحدٌ تحت غضبه تعالى، ويَدُخُلَ كلُّهم في رحمته تعالى، ويَخْلُصَ من عذاب الله عزَّ وجلَّ، ولو آخِراً. وذلك لأن النارَ تكون طبيعةً لهم، فَيَعِيشُون فيها غير معذَّبين، لكونهم ناريي الطبع. كمائيِّ المَوْلِدِ، يَسْكُنُ في الماء، ولا يكون عليه ضيقٌ، وغيره لو سَكَنَ فيه مات من ساعته.
صحيح البخاري
قلتُ: ومذهبُ الجمهور: أن جهنم عذابٌ سَرْمَدِيٌّ لمن فيها. قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} (النساء: 56). وأمَّا السَّبْقِيَّة، فهي عندي في جانب المبدأ دون المنتهى، ومعناه: أن الرحمةَ والغضبَ تَسَابَقَا عند ربك، فسَبَقَتْ الرحمة قبل سَبْقِ الغضب، فتقدَّمت عليه من هذا الجانب. وذلك لأن الغضبَ يَحِلُّ بالمعاصي، والرحمة منشؤها الجود، فتأتي من غير سببٍ ولا استحقاقٍ. بخلاف الغضب، فإنه يَنْتَظِرُ اقترافَ السيِّئات، واقتحام الموبقات، والرغبة عن التوبة، ثم التمادي في الغيِّ، فلا يأتي حين يأتي إلاَّ على مَهْلٍ، فتقدُّمها يَظْهَرُ في جانب المبدأ.
(5/404)
---(5/236)
وأخذه الشيخُ الأكبرُ في الجهة الأخرى، فاضْطَرَّ إلى مخالفة الجمهور. ثم إن تلك القاعدةَ فوق القواعد كلِّها، فهي كاختيارات الملك، ولهذا وَضَعَهَا على العرش، على نحو ما قالوا في استواء الحضرة الرحمانيَّة على العرش. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قالوا: إنه فوق العوالم كلِّها، فدخلت كلُّها تحت الرحمة. ولو استوى القهَّار على العرش، والعياذ بالله من قهره وجلاله، لَدَخَلَتْ كلُّها تحت القهر، فلم تَمْشِ على ظهر الأرض دابةٌ.
حكاية: حاجَّ إبليسُ، مع الشيخ عبد الله التُّسْتُرِي أنك تقولُ: إني أُعَذَّبُ في النار، وكيف يكون ذلك؟ مع أن الله تعالى أَخْبَرَ أن رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كل شيءٍ، أَلَسْتُ بشيءٍ؟ فَلِمَ أَدُخُلُ تحت الرحمة؟ فأجابه التُّسْتُري: أن الرحمةَ للذين يُقِيمُونَ الصلاة ويُؤْتُونَ الزكاة، وبربهم يُؤْمِنُون، ولَسْتَ منهم. فَضَحِكَ منه، وقال: كنتُ أَرَى أنك عالمٌ عارفٌ، فإذا أنت ممن لا يَعْرِفُ شيئاً، قيَّدْتَ صفاته المطلقة، فإن اللَّهَ تعالى قادرٌ على الإِطلاق، وخالقٌ على الإِطلاق، فكذا هو رحيمٌ على الإِطلاق، وأنت تقيِّدُها، فلم يَدْرِ التُّسْتُرِي ما يقول له.
قلتُ: ولا أدري ماذا أَفْحَمَ التُّسْتُري، وأين اللعين من قوله تعالى؟ فإنه ليس فيه إلاَّ بيان سَعَتِهَا، لا حكم بالرحمة، فهو على حَدِّ قولك: هذه الدارُ تَسَعُ ألفَ رجلٍ، ولو لم يَدْخُلْ فيها واحدٌ، ففيه بيان لَسِعَتِهَا، لا حكم بكون هذا العدد فيها بالفعل. فرحمةُ اللَّهِ أيضاً وَسِعَتْ العوالمَ كلَّها، وهذا اللعينُ أيضاً. فلو أَرَادَ الدُّخُولَ فيها، لم يَجِدْ فيها ضيقاً، ولكن الشقيَّ إذا حَجَرَ نفسَهُ عنها، ولم يَدْخُلْها، فما ذنبُ الرحمة؟ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَرِهُونَ} (هود: 28)
صحيح البخاري
باب ما جاءَ في سَبْعِ أرَضِين
(5/405)
---(5/237)
وقد تكلَّمنا فيه من قبل مفصَّلاً، أن المرادَ منه طبقات تلك الأرض، أو العمرانات التي شُوهِدَتْ في السَّيَّارات، والكلُّ محتملٌ. والحقُّ عند عالم الغيب والشهادة، لا يَعْلَمُهُ إلاَّ هو.
قوله: ({وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ})، واعلم أنه ذهب بطليموس إلى أن هذا المشهود الأزرق ليس بِفَلكٍ، وإنما تتراءى الزُّرْقَة، لأن النورَ ليس إلاَّ إلى سبعة عشر فَرَاسِخ، وبعد ذلك ظلمةٌ شديدةٌ. فإذا نَفَذَ البصرُ النورَ، وبلغ الظلمةَ، تَلُوحُ كالزُّرْقة، وذلك لأن من شرائط الانعكاس الكثافةَ، ولذا تتنوَّرُ الأرض. وأمَّا السَّمَوَاتُ فلمَّا كانت لطيفةً، لا يَنْعَكِسُ فيها النور. ولو كانت السمواتُ أيضاً كالأرض لاسْتَنَارَتْ، كاستنارتها بانعكاس النور. وفي «فتح الباري»، عن القاضي أبي بكر: أن ما تُدْرِكُهُ أبصارُنا ليس بسماء، وإنما السموات كلُّها فوق المشهود. والله تعالى أعلم بالصواب.
3195 - قوله: (طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ)، والمُتَبَادَرُ منه كون تلك الأَرَضِين صَمْداً، كالطبقة الواحدة. ولقائلٍ أن يَقُولَ: إنه يَمْكِنُ التطويق مع كونها سبعاً على حِدَةٍ أيضاً.
صحيح البخاري
باب في النُّجُوم
واعلم أنها أجرامٌ تَسْبَحُ في الجو بأنفسها، لا أنها مَرْكُوزَةٌ في السموات تَدُورُ بدورها. والقرآنُ لا يهتمُّ بأمرها، ولا يَذْكُرُهَا إلاَّ بالنور والاهتداء. أمَّا النُّحُوسَةُ والبركةُ، فإنها أهونُ على الله من ذلك. كيف وأنها مسخَّرةٌ تَصْعَدُ وتَغْرَب، تَغِيبُ وتُشْرِقُ، وتَدُورُ في كلِّ ساعةٍ كالخدَّام، فهي أصغرُ من أن تكونَ فيها النُّحُوسَةُ والبركةُ. نعم يُعْلمُ من القرآن أن في السموات دفاتر، وفيها تدابير أيضاً، وإليه أشار البخاريُّ من قوله: فمن تأوَّل فيها بغير ذلك أخطأ.
صحيح البخاري
باب صِفَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَر
(5/406)
---
{(5/238)
بِحُسْبَانٍ} قالَ مُجَاهِدٌ: كَحُسْبَانِ الرَّحى، وَقالَ غَيرُهُ: بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لاَ يَعْدُوَانِهَا. حُسْبَانٌ: جَمَاعَةُ حِسَابٍ، مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ.
{ضُحَهَا} (الشمس: 1): ضَوْؤُهَا. {أَن تدْرِكَ القَمَرَ} (يس: 40): لاَ يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِما ضَوْءَ الآخَرِ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُمَا ذلِكَ، {سَابِقُ النَّهَارِ}: يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَانِ. {نَسْلَخُ} (يس: 37): نُخْرِجُ أَحَدَهُما مِنَ الآخَرِ وَنُجْرِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، {وَاهِيَةٌ} (الحاقة: 16): وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا. {أَرْجَآئِهَآ} (الحاقة: 17): ما لَمْ يَنْشَقَّ مِنْهَا، فَهيَ عَلَى حافَتَيهِ، كَقَوْلِكَ: عَلَى أَرْجاءِ البِئْرِ. {وَأَغْطَشَ} (النازعات: 29) وَ {جَنَّ} (الأنعام: 76): أَظْلَمَ.
وَقالَ الحَسَنُ: {كُوّرَتْ} (التكوير: 1) تُكَوَّرُ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْؤُهَا. {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (الانشقاق: 17): جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ. {اتَّسَقَ} (الانشقاق: 18): اسْتَوَى. {بُرُوجًا} (الحجر: 16): مَنَازِلَ الشَّمْسِ وَالقَمَرٍ. {الْحَرُورُ}: (فاطر: 21) بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الحَرُورُ بِاللَّيلِ، وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ، يُقَالُ: {يُولِجُ} (الحج: 61) يُكَوِّرُ، {وَلِيجَةً} (التوبة: 16): كُلُّ شَيءٍ أَدْخَلتَهُ في شَيءٍ.
صحيح البخاري
باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاح
نُشْرًا بَينَ يَدَي رَحْمَتِهِ} (الأعراف: 57)
{قَاصِفًا} (الإِسراء: 69):
قوله: ({كُوّرَتْ}) أي يُسْلَبُ نُورُها. وقد عَلِمْتَ أن العالمَ كلَّه في حَيِّزِ جهنَّم، من صَعَدَ منها إلى الجنة نَجَا، ومن بَقِيَ فيها بقي، فلا إشكالَ في إلقاء الشمس والقمر في جهنَّم، فإنهما فيها الآن أيضاً، وليس للتعذيب.
(5/407)
---(5/239)
3199 - قوله: (فإنها تَذْهَبُ حتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ) واعلم أن القرآن أخْبَرَ بسجود ظلِّ الأشجار، وأَخْبَرَتْ الأَحاديثُ بسجود الشمس. وتحقيقُهُ على ما ذَكَرَهُ الشاه رفيع الدين في كتابه «تكميل الأذهان»: أن سجودَ كلِّ نوعٍ ما يَلِيقُ بشأنه، فسجودُ الظلِّ: وقوعُهُ على الأرض، فهو في السجود دائماً. وسجود الشمس: ميلُها من الاستواء إلى الغروب، وهي عند الطلوع شبه القاعد، وعند الاستواء كالقائم، وعند الدُّلُوك كالرَّاكِعِ، وعند الغروب شبه الساجد، وإليه أَشَارَ بعض الصوفية، وأجاد:
*دون جشمي له خم شدا زهر ركوع ** خورشيد رخ كه سر بسجود است أينجا
(5/408)
---(5/240)
3199 - قوله: ({وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا})... إلخ. قال البَيْضَاوِيُّ: إنها لا تَزَالُ تجري كذلك إلى يوم القيامة، فإذا دنا الأجلُ سَكَنَتْ. فإن قلتَ: حينئذٍ ناقَضْتَ الآيةَ والحديثَ، فإن مستقرَّها على تفسير يوم القيامة، والحديثُ يَدُلُّ على أنها تذهب كل يوم تحت العرش، وتؤذن بالسجود، وذلك مستقرُّها. قلتُ: لا يَلْزَمُ أن يكونَ الحديثُ شرحاً لِمَا في القرآن دائماً. فلعلَّ ما ذكره البَيْضَاوِيُّ تفسيراً للقرآن، وما ذكره الحديثُ فهو اقتباسٌ منه. أمَّا تحقيقُ جريان الشمس، فقد تكلَّمنا فيه مرَّةً، وحقَّقنا أن القرآن قد يَعْتَبِرُ الواقعَ بحسب الحِسِّ أيضاً، كما أنه يَعْتَبِرُ الواقعَ بحسب نفس الأمر، فَيُدِيرُ الأحكامَ على ما هو المشهود. ومن هذا الباب قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} فإن جريانها مشاهدٌ، سواء كانت جاريةً في الواقع بحسب نفس الأمر، أو لا، وهو الذي يُنَاسِبُ شأن القرآن. فإنه لو كان بَنَى كلامَهُ على نفس الأمر الواقعيِّ في كلِّ موضعٍ، لَمَا آمن به كثيرٌ من البشر، فإن من فطرته الجمود على تحقيقه. فلو قال القرآن: الفلكُ متحرِّكٌ، كما يقوله أصحاب الهيئات القديمة، لكذَّبه الناسَ اليوم، ولم يؤمنوا به، لأنه ثَبَتَتْ عندهم حركة الأرض. ولو بناه على ذلك لكان مكذَّباً فيما بينهم، وإن آمن به الناسُ اليوم. مع أنك تَعْلَمُ أن نفسَ الأمر الواقعيِّ لا يَخْلُو عن أحد هذين الأمرين، مع استحالة الاجتماع. فلذا أَغْمَضَ عنه، وبَنَى كلامَه على واقعٌ يشترك فيه العامة والخاصَّة، فافهم، وتشكَّر. وسأعود إلى تفسيره في صورة يس أبسط من هذا.
صحيح البخاري
قوله: ({لَوَاقِحَ}) من قبِيلِ قولهم: ومختبط ممَّا تطيح الطوائح أي الملحقات حامله بنا نيوالين.
3206 - قوله: (مَخِيلَةً): سحابة يَخَالُ فيها.
صحيح البخاري
(5/409)
---
باب ذِكْرِ المَلاَئِكَةِ صَلَواتُ الله عليهم(5/241)
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِبْنُ سَلاَمٍ لِلنبي صلى الله عليه وسلّم إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلاَئِكَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ}: (الصافات: 165) المَلاَئِكَةُ.
وَقَالَ هَمَّامٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «فِي البَيتِ المَعْمُورِ».
وَتَابَعَهُ أَبُو عاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قالَ: أَخْبَرَنِي مُوسىبْن عُقْبَةَ، عَنْ نافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّمقالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ في أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرْضِ».
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ بِهذا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيرَةَ وَفاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم أَن جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُهُ القُرْآنَ.
واختلفوا في اشتقاقه، فقيل: من الألوكة، وقيل: من لئك. والمختار عندي أنه من المِلْكِ، بمعنى الولاية، وهو جمع مَلِيك لا مَلَك، فهو على وزن فَعَائِلَة عندي، وعندهم على وزن مَعَافِلَة، والتاء للنقل من الاسميَّة إلى الوصفيَّة. والملائكةُ أجسامٌ لطيفةٌ سريعةُ الحركة، تتشكَّلُ بأشكالٍ مختلفةٍ، وعند الصوفية: من عالم المِثَال. وراجع له «شرح السلم لبحر العلوم»، وقد مرَّت نبذةٌ منه في المقدمة.
وقد مرَّ: أن علماء الشريعة أيضاً صرَّحُوا بكونهم أرواحاً لطيفةً، كما صرَّحوا بكون الشياطين أرواحاً خبيثةً.
(5/410)
---(5/242)
قوله: (وقال ابن عَبَّاسٍ: إنا لَنَحْنُ الصَّافُونَ. المَلاَئِكَةُ)، فالصفُّ من خواصِّ نوعهم، وأمَّا الإِنْسُ، فهم فيه تَبَعَق لهم. ومن ههنا ظَهَرَ معنى الحصر. وهذا هو معنى التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلّم «أَلاَ تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكةُ عند ربهم»، فهم أصلٌ في الاصطفاف.
3207 - قوله: (بين النَّائِمِ واليَقْظَانِ) واعلم أن هذا حالٌ في الأنبياء عليهم السلام، يُشْبِهُ الكشفَ في الأولياء، وأنهم يَرَوْن في هذا الحالِ يقظةً ما نراه في الرؤيا، ويعبِّرُ عن هذا الحالِ بين النوم واليقظة، فافهم.
صحيح البخاري
3207 - قوله: (فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى)... إلخ، وصرَّح الشيخُ الأكبرُ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَلْقَ أحداً منهم بسجده الناسوتي غير عيسى عليه الصلاة والسلام. ولا بُدَّ عندي أن يكونَ فيه عند الرفع تروُّحٌ، كما صرَّح به مولانا الرومي: أن الأرواحَ في عالم المثال تتجسَّد، والأجسادَ تتروَّحُ.
3207 - قوله: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قيل: إنه بَيْتٌ حِذَاءَ الكعبة على كلِّ سماءٍ، والأرجحُ أنه على السماء السابعة، وهو قِبْلَةٌ للملائكة على السموات.
(5/411)
---(5/243)
3207 - قوله: (أَمَّا الظَّاهِرَانِ، النيل والفُرَات) واعلم أنا قد رَأَيْنَا الشرعَ يُطْلِقُ على مبادىء الأشياء الظاهرة أيضاً أسماءَ تلك الأشياءِ بعينها، كالفرات، والنيل في الظاهر؛ فإن لهما مبدآن في الباطن، وعَالَم الغيب، فأطلق الشرعُ أسامي الظاهر منهما على مبادئهما أيضاً. ونظيرُه الرَّعْدُ، فإن الشرعَ يُخْبِرُ أنهُ صوت الرعد، وأهلُ الفلسفة ذَكَرُوا له أسباباً، وهو أيضاً صحيحٌ في الجملة. ولكن ما ذَكَرُوه أسبابه في الظاهر، وما دَلَّ عليه الشرعُ هو مبدأٌ لِمَا في الظاهر، فاشترك الاسم لا محالة، وليس على الشرع أن يتعرَّضَ إلى الأسباب الظاهرة. وذكر عند مسلم: نهران آخران أيضاً، سَيْحَان وجَيْحَان، وهما غير سَيْحُون وجَيْحُون، إذ الأوَّلان من آرمنياء بقرب الشام، والأخيران في أطراف بَلْخٍ، وبُخَاري.
3208 - قوله: (إنَّ أَحَدَكُمْ يَجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ)، واختلف أهلُ السُّنَّةِ أن الأرواحَ مخلوقةٌ قبل الأبدان، أو تُخْلَقُ معها. والفلاسفةُ أيضاً مختلفون فيه. وذهب أبو عمر إلى الأوَّل، ومال ابن القيِّم إلى الثاني، وذكر تأويل الأحاديث التي تمسَّك بها أبو عمر. أمَّا أنا، فلا أريد الآن أن أخوضَ في هذه اللَّجَّةِ.
3209 - قوله: (ثم يُوْضَعُ لَهُ القُبُولُ) فالقَبُول إن بدا من خواصِّ عباده إلى العوام، فهو أمارةٌ لكونه نازلاً من السماء. أمَّا إذا بدا من العوام كالأنعام، فالله يدري ما هو صانعٌ به.
3215 - قوله: (ويَتَمَثَّلُ لي المَلَكُ أحياناً رَجُلاً) - المَلَكُ ههنا فاعلٌ، ورجلاً مفعول، مع اتحاد المِصْدَاق، فإن الرجلَ والملكَ في هذا الموضع عبارتان عن ذاتٍ واحدةٍ. وهكذا قلت في قوله تعالى: {وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) أن نائبَ الفاعل في {شُبّهَ} ضميرٌ يَرْجعُ إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد مرَّ تقريره مبسوطاً.
صحيح البخاري
(5/412)
---(5/244)
باب إِذَا قالَ أحَدُكُمْ: آمِينَ وَالمَلاَئِكَةُ في السَّمَاءِ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرى،غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه
وهذا البابُ غريبٌ في سلسلة ذكر الملائكة، إلاَّ أنه أدخله في أضعاف ذكرهم لفائدةٍ، وهي: أنهم موكَّلُون على قول: آمين أيضاً.
3226 - قوله: (إلاَّ رَقْمٌ في ثَوْبٍ)، وظاهرُه يَدُلُّ على جواز التصاوير المنقوشةِ المسطَّحَةِ، إلاَّ أنه قد مرَّ منِّي غير مرَّةٍ: أن المسائلَ لا تُؤْخَذُ من حديثٍ واحدٍ، ولكن تُجْمَعُ أحاديثَ الباب كلَّها، ثم تُبْنَى عليها المسائل. ولا بَحْثَ لنا مع مَنْ زَاغَ، فَأزَاغَ اللَّهُ قلبَه.
3231 - قوله: (يَوْمَ العَقَبَةِ)، وهذه واقعةُ الطائف حين انصرف النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وهو محزونٌ مهمومٌ، فلم يَسْتَفِقْ من همِّه حتَّى بلغ قرن الثعالب.
3231 - قوله: (فَنَادَاني مَلَكُ الجِبَالِ) فيه الترجمةُ، لدلالته على أن المَلَكَ موكَّلٌ على الجبال أيضاً.
3235 - قوله: ({ثُمَّ دنَى فَتَدَلَّى}... إلخ، قالت: ذَاكَ جِبْرِيلُ)... إلخ. قلتُ: وفي البخاريِّ عن أنسٍ: أن فاعلَه هو اللَّهُ جلَّ مجده، وتصدَّى له الحافظ.
3239 - قوله: (جَعْداً) قد يكون صفةً للشعر، وهو الذي فيه حجونة. وقد يُقَالُ للرجل المَكْتَنِزِ الأعضاء.
3239 - قوله: ({فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَآئِهِ})، وقد تَلاَها الراوي في غير محلِّها، ولا مناسبَة لها مما قبلها. واتفق العلماءُ على أنه من قول الراوي ههنا.
صحيح البخاري
باب ما جاءَ في صِفَةِ الجَنَّةِ وَأَنَّها مَخْلُوقَة
(5/413)
---(5/245)
قالَ أَبُو العَالِيَةِ: {مُّطَهَّرَةٌ} مِنَ الحَيضِ وَالبَوْلِ وَالبُزَاقِ، {كُلَّمَا رُزِقُواْ} أُتُوا بِشَيءٍ، ثُمَّ أُتُوا بِآخَرَ. {قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أُتِينَا مِنْ قَبْلُ {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً} (البقرة: 25): يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً وَيَخْتَلِفُ في الطُّعُومِ {قُطُوفُهَا} يَقْطِفُونَ كَيفَ شَاؤُوا {دَانِيَةٌ} (الحاقة: 23): قَرِيبَةٌ.
{الاْرَآئِكِ} (الكهف: 31): السُّرُرُ. وَقالَ الحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الوُجُوهِ، وَالسُّرُورُ في القَلبِ. وَقالَ مُجَاهِدٌ: {سَلْسَبِيلاً} (الإنسان: 18): حَدِيدَةُ الجِرْيَةِ {غَوْلٌ} وَجَعُ البَطْنِ {يُنزِفُونَ} (الصافات: 47) لاَ تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {دِهَاقاً} (النبأ: 34) مُمْتَلِئاً. {وَكَوَاعِبَ} (النبأ: 33) نَوَاهِدَ. الرَّحِيقُ: الخمْرُ. التَّسْنِيمُ: يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الجَنَّةِ {خِتَمُهُ} طِينُهُ {مِسْكٌ} (المطففين: 26). {نَضَّاخَتَانِ} (الرحمن: 66) فَيَّاضَتَانِ. يُقَالُ: {مَّوْضُونَةٍ} (الواقعة: 15) مَنْسُوجَةٌ، مِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ وَالكُوبُ: ما لاَ أُذُنَ لَهُ وَلاَ عُرْوَةَ، وَالأَبَارِيقُ: ذَوَاتُ الآذَانِ وَالعُرَا. {عُرُباً} (الواقعة: 37) مُثَقَّلَةً، وَاحِدُهَا عَرُوبٌ، مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّة: العَرِبَةَ، وَأَهْلُ المَدِينَةِ: الغَنِجَةَ، وَأَهْلُ العِرَاقِ: الشَّكِلَةَ.
(5/414)
---(5/246)
وَقالَ مُجَاهِدٌ: {رَّوْحِ} (الواقعة: 89) جَنَّةٌ وَرَخاءٌ، وَالرَّيحَانُ: الرِّزْقُ. وَالمَنْضُودُ: المَوْزُ. وَالمَخْضُودُ: المُوقَرُ حَمْلاً، وَيُقَالُ أَيضاً: لاَ شَوْكَ لَهُ. وَالعُرُبُ: المُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَيُقَالُ: {مَّسْكُوبٍ} (الواقعة: 31) جارٍ. {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} (الواقعة: 34) بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. {لَغْواً} بَاطِلاً {تَأْثِيماً} (الواقعة: 25) كَذِباً. {أَفْنَانٍ} (الرحمن: 48) أَغْصَانٌ. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (الرحمن: 54) ما يُجْتَبى قَرِيبٌ {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الإِبْكَارُ: أَوَّلُ الفَجْرِ: وَالعَشِيُّ: مَيلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ - أُرَاهُ - تَغْرُبَ.
فيه ردٌّ على المعتزلة، فإنهم أَنْكَرُوا كونهما مخلوقين من قبل. والتحقيقُ عندي أنه قد سبق تخطيط درجاتهما، فهما مخلوقتان من قبل. ثم إن الجنة لتزخرف بعد من الأعمال الصالحة، وإن جهنم لتوقد من الأعمال الصالحة، فَتُضَاعَفَان زينةً وعذاباً. ولذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ليلة المِعْرَاج: «بلِّغ أمَّتَكَ منِّي السلام، وقُلْ لها: إن الجنةَ قِيعَانٌ طيبة التربة، وغِرَاسُها: سبحان الله، والحمد »- بالمعنى .
صحيح البخاري
قوله: (التَّسْنِيمُ) - مزاجٌ لخمر الجنة، يُلْقَى فيها لطيب رائحته: ملوني جو شراب برخو شبو كيلئي دَالتي رهين.
قوله: (وَضِينُ النَّاقَةِ): تنك.
قوله: (المَوْزُ): كيلا.
قوله: (سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ) أي: شادابي وسيرابي كيوجه سي.
(5/415)
---(5/247)
3240 - قوله: (فإنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ)، وفي الحديث إشارةٌ إلى أن ما في القبر هو العَرْضُ فقط، وأمَّا الدخولُ فيكون بعد الحشر. وفيه: أن بدايةَ التلذُّذ بنعيم الآخرة من القبر، ونهايتَهُ في الجنة، والتحضيضُ بالوقتين على شاكلة الطعام في الدنيا.
3241 - قوله: (فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءِ) قلتُ: وهذه مشاهدةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي هذا الوقت، فلعلَّهن كُنَّ إذ ذاك أكثرها، وليس فيه بيانُ حكم جميع النساء، ولا مشاهدة جميع الأزمان، فلا إشكال فيما سيرد في الحديث: «أن لكلِّ رجلٍ من أهل الجنة زوجتين»، فكيف يمكن كونهن أكثرَ أهل النار؟ على أن الزوجتين الموعودتين من الحُورِ العين، كما هو عند البخاريِّ: «زوجتان من الحور العين»، وليس فيه أن هاتين من بنات آدم، إلاَّ أن يَثْبُتَ في طريقٍ من الطرق، فلينظره.
3243 - قوله: (سِتُّونَ مِيلاً)، وهو الأكثرُ، وفي بعض الروايات: «ثلاثون ميلاً» أيضاً.
3245 - قوله: (لا يَبْصُقُونَ فيها ولا يَمْتَخِطُون) قال الصدر الشِّيرازِي، وهو شيعيٌّ صوفيٌّ: إن أهلَ الجنةِ تَغْلِبُ عليهم الروحانية، وأهلَ النارِ تَغْلِبُ عليهم المادية، فتوسَّع أجسامهم، كما في الحديث. وهذا ما أراده الشيخُ الأكبرُ من قوله في الكبريت الأحمر: إن أهلَ الجنة يكونون في العالم الطبيعيِّ، وأهلَ النار في العالم العنصريِّ. والعالمُ الطبيعيُّ عنده فوق العالم العنصريِّ. واصطلاحُه هذا يحتاج إلى التفهيم والتقرير، إلاَّ أن مآلَه إلى ما ذكره الشِّيرَازيُّ.
3245 - قوله: (مَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ) قيل: تكون المَجَامِرُ نفسها من الأَلُوَّةِ، وقيل: تكون هي وقودها.
(5/416)
---(5/248)
3245 - قوله: (لا اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ) واعلم أن المؤمنين يَدْخُلُون الجنةَ، طائفةً طائفةً، والتقدُّم والتأخُّر بينهما يكون بحسب تفاوت أعمالهم. فالتي تساوت أعمالاً تَدْخُلُ معاً، ولا يَظْهَرُ فيها الترتيب. ولذا وَرَدَتْ الزحمة في الحديث عند دخول باب الجنة، حتَّى تنتقل المَنَاكِب. وهو معنى ما في حديث سَهْل عند البخاريِّ من هذه الصفحة: «لا يَدْخُلُ أوَّلهُم حتَّى يَدْخُلَ آخرُهم»، يعني يَدْخُلُون معاً.
صحيح البخاري
باب صِفَةِ أَبْوَابِ الجَنَّة
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَينِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجَنَّةِ».
فِيهِ عبَادَةُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
وقد أَجَادَ الشاه عبد القادر في نكتة كون أبوابها ثمانية، فراجعه. ثُمَّ اعلم أن أهلَ الجنة إنما أُوتُوا في الجنَّة مثل الدنيا، وما فيها، وعشرة أضعاف ذلك، لأنهم دُعُوا بالملوك في حديث عند مسلم، والملوكُ تناسِبُهم السَّعَة في مملكتهم. فاندفع ما قد يَخْتَلِجُ في الصدور، أنهم ماذا يفعلون بهذا الملك الوسيع، فإنه ليس للحاجة إليه، بل لأجل التشريف.
صحيح البخاري
باب صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّها مَخْلُوقَة
{وَغَسَّاقاً} (النبأ: 25) يُقَالُ: غَسَقَتْ عَينُهُ وَيَغْسِقُ الجُرْحُ، وَكَأَنَّ الغَسَاقَ وَالغَسَقَ وَاحِدٌ. {غِسْلِينٍ} (الحاقة: 36) كُلُّ شَيءٍ غَسَلتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيءٌ فَهُوَ غِسْلِينُ، فِعْلِينُ مِنَ الغَسْلِ مِنَ الجُرْحِ وَالدَّبَرِ.
(5/417)
---(5/249)
وَقَالَ عِكْرمَةُ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء: 98) حَطب بِالحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ غَيرُهُ {حَاصِبًا} (الإِسراء: 68) الرِّيحُ العَاصِفُ، وَالحَاصِبُ مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ، وَمِنْهُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ}، يُرْمى بِهِ فِي جَهَنَّمَ هُمْ حَصَبُهَا، وَيُقَالُ: حَصَبَ فِي الأَرْضِ: ذَهَبَ، وَالحَصَبُ مُشْتَقٌّ مِنْ حَصْبَاءِ الحِجَارَةِ. {صَدِيدٍ} (إبراهيم: 16) قَيحٌ وَدَمٌ. {خَبَتْ} (الإِسراء: 97) طَفِئَتْ، {تُورُونَ} (الواقعة: 71) تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيتُ أَوْقَدْتُ، {لِلمُقْوِينَ} (الواقعة: 73) لِلمُسَافِرِينَ، وَالقِيُّ القَفرُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {صِرطِ الْجَحِيمِ} (الصافات: 23) سَوَاءُ الجَحِيمِ وَوَسَطُ الجَحِيمِ. {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} (الصافات: 67) يُخْلَطُ طَعَامَهُمْ وَيُسَاطُ بِالحَمِيمِ. {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (هود: 106) صَوْتٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ. {وِرْداً} (مريم: 86) عِطَاشاً. {غَيّاً} (مريم: 59) خُسْرَاناً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُسْجَرُونَ} (غافر: 72) تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ. {وَنُحَاسٌ} (الرحمن: 35) الصُّفرُ، يُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، يُقَالُ: {ذُوقُواْ} (الحج: 22) بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيسَ هذا مِنْ ذَوْقِ الفَمِ. {مَارِجٌ} (الرحمن: 15) خَالِصٌ مِنَ النَّارِ، مَرَجَ الأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلاَّهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، {مَّرِيجٍ} (ق: 5) مُلتَبِسٌ، مَرِجَ أَمْرُ النَّاسِ اخْتَلَطَ. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} (الرحمن: 19) مَرَجْتَ دَابَّتَكَ: تَرَكْتَهَا.
رَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الأَعْمَشِ.
رَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الأَعْمَشِ. (مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، رقم: 2989). (الحديث 3267 - طرفه في: 7098).
(5/418)
---(5/250)
3261 - قوله: (فَقَالَ: أَبْرِدْهَا)، أي الحُمَّى، وعند ابن ماجه: «أن يُبْرِدَهَا»، بأن يُلْقي الماء على صدره، أو يُغْمَسُ في الماءِ. وحمله ابن سينا على الحُمَّى الصَّفْرَاوِيِّ، فإنه يفيده دواء.
صحيح البخاري
3267 - قوله: (إنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إلاَّ أُسْمِعُكُمْ) يعني: تمهارايه خيال معلوم هو تاهى كه اكرمين تمهارى سامنى هى كهون جب تومين نى كهاورنه مين نى كهاهى هين.
صحيح البخاري
باب صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِه
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَيَقْذِفُونَ} (الصافات: 8) يُرْمَوْنَ. {دُحُوراً} مَطْرُودِينَ. {وَاصِبٌ} (الصافات: 9) دَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَّدْحُورًا} (الأعراف: 18) مَطْرُوداً. يُقَالُ: {مَّرِيداً} (النساء: 117) مُتَمَرِّداً. بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ. {وَاسْتَفْزِزْ} (الإِسراء: 64) اسْتَخِفَّ، {بِخَيْلِكَ} الفُرْسَانُ، وَالرَّجْلُ الرَّجَّالَةُ، وَاحِدُهَا رَاجِلٌ، مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَتَاجِرٍ وَتجْرِ. {لاحْتَنِكَنَّ} (الإِسراء: 62) لأَسْتَأْصِلَنَّ. {قَرِينٌ} (الزخرف: 36) شَيطَانٌ.
قالَ: وَحَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِثْلَهُ.
3268 - قوله: (سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّمحَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إَلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشيءَ، ومَا يَفْعَلُهُ) وإنما بَقِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعلى هذا الحال ستة، أو سبعة أشهر.
3268 - قوله: (وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ) أي كان ذلك السِّحْرُ تونا موضوعاً فيه، فأخرجه الصحابةُ رضي الله عنهم، ونَقَضُوه. فَدَلَّ على أن نَقْضَ ما فيه السحر يُوجِبُ إبطال أثره.
(5/419)
---(5/251)
3268 - قوله: ({طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّيَطِينِ}) (الصافات: 65). فيه بيانٌ لما كانت في هذا المحلِّ من الوحشية، وقد كنتُ أرَدْتُ مرَّةً أن أدَّعِي أنه ليس في القرآن تشبيهٌ وتمثيلٌ مخيَّلٌ، إلاَّ أني كَفَفْتُ عنه لهذا التشبيه، فإنه مُخَيَّلٌ. وراحع تفصيله من «الفوائد السمرقندية»، أمَّا قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَرَهُمْ} (البقرة: 20) فليس بمخيَّل، بل هو واقعٌ على الصراط، كما هو عند مسلم.
3268 - قوله: (دُفِنَتِ البِئْرُ): صلى الله عليه وسلّمت دياكيا.
3280 - قوله: (إذا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ) أي أَقْبَلَتْ أوائله.
3280 - قوله: (فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فإن الشَّياطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ)، وَفهِمْتُ من الأحاديث أن للشياطين انتشاراً وهجوماً بعد غروب الشمس، كهجوم الصِّبْيَان عند خروجهم من المدرسة.
3280 - قوله: (وأَطْفِىء مِصْبَاحَكَ، واذْكُرِ اسْمَ الله) ولعلَّ التسميةَ عند وضعه حين أناره، لا عند الإطفاء، فإن المناسبَ لحال التسمية هو بداية الأمور لا نهايتها. فَلاَ أَدْرِي أَهُوَ وَهْمٌ من الرواة، أو المسألةُ ذلك.
3282 - قوله: (فَقَالَ: وَهَلْ بي جُنُونٌ)، وهي كلمةٌ عظيمةٌ، فلو كان قائلها مُسْلِماً وَجَبَ تخليص رقبته من الكفر بإِخراج مَحْمَلٍ صحيحٍ، وإن كان منافقاً استرحنا.
صحيح البخاري
3286 - قوله: (فَطَعَنَ في الحِجَابِ)، أي في الجلد الذي يكون فيه الصبيُّ.
3289 - قوله: (التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ)، والحديث يُسْنِدُ العُطَاس إلى الرحمن، لأن الأوَّلَ يُوجِبُ الكسل، والشيطان يَرْضَى به، فأُسْنِدَ إليه إسنادَ الخبائث إليه. والثاني يَدُلُّ على نشاط الطبع، والجودة عموماً، وإن كان في بعض الأحوال من المرض أيضاً، فَنَاسَبَ أن يُسْنَدَ إلى الرحمن، على سُنَّةِ إسناد الطيِّبات.
(5/420)
---(5/252)
3292 - قوله: (والحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُماً يَخَافُهُ)... إلخ، فيه توجيهٌ إلى أن يَنْظُرَ أنَّ الحُلُمَ إن كان سطحُهُ مُوحِشاً، ممَّا يُظَنُّ أنه من الشيطان، نحو أن كان رؤيا مخيفةً، فهي من الشيطان. وليس فيه بيانُ ضابطةٍ كلِّيةٍ لتميُّز حُلُم الشيطان من رؤيا الرحمن، وأنَّى يُمْكِنُ من العوام. فافهم، واستقم، ولا تعجل.
3293 - قوله: (مَنْ قَالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ،... مِئةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ) فَمَنْ قَالَها عشر مرات يَحْصُلُ له ثواب عتق رقبة، هذا هو الأصل عند الحافظ. والمختارُ عندي ما عند الترمذيِّ، أي ثواب رقبة لمن قَالَها مرَّةً واحدةً، فهي رواية البخاريِّ وَهْمٌ من الراوي. والأصلُ: «من قالها عشر مرات، كانت له عَدْل عشر رقاب»... إلخ. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
صحيح البخاري
باب ذِكْرِ الجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِم
لِقَوْلِهِ: {يَمَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَتِي} إِلَى قَوْلِهِ: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 130 - 132)، {بَخْساً} (الجن: 13) نَقْصاً. قالَ مُجَاهِدٌ: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158)، قالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ: المَلاَئِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الجِنِّ. قالَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصافات: 158)، سَتُحْضَرُ لِلحِسَابِ. {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} (يس: 75) عِنْدَ الحِسَابِ.
(5/421)
---(5/253)
ونُسِبَ إلى إمامنا في الفقه: أن لا ثوابَ لهم ولا عِقَابَ. ورأيتُ في الخارج: فيه مناظرةٌ بين أبي حنيفة، ومالك، فكان مالكُ يقولُ بدخولهم في الجنَّة، ويَقْرَأُ آيةً، وأبو حنيفة يُنْكِرْهُ، ويتلو آيةً، إلاَّ أنه لم يَذْكُرْ تلك الآيات. والذي تبيَّن لي في هذا الباب: أنهم يكونون تَبَعاً لنا في الجنَّة، كما أنهم تَبَعٌ لنا في الدنيا، فيأكلون زَادَهم مما أَفْضَلْنَا لهم، وكذلك لا يَسْكُنُون إلاَّ في الغيران والجبال، أي في الحواشي والأطراف، ونحن نَسْكُنْ في متن العمرانات، ولعلَّه ذلك حالَهم في الجنَّة، فيستمتعون بما يَتْرُكُ لهم الإِنسُ من المطاعم، والمشارب، والأماكن. ولعلَّ هذا هو الذي أراده إمامُنَا، فحرَّف الناسُ في النقل، وعَزُوا إليه النفيَ مطلقاً.
صحيح البخاري
باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُوْلَئِكَ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} (الأحقاف: 29 - 32)
{مَصْرِفًا} (الكهف: 53) مَعْدِلاً، {صَرَّفْنَا} أَي وَجَّهْنَا.
واعلم أنه لم يتبيَّن لي بعدُ، أن قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ} من سورة الأحقاف، وقوله: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ} من سورة الجن (الآية: 1)، هل هما واقعتان، أو واقعةٌ، والتعبيرُ بالنَّفَر في الموضعين يُشْعِرُ بوحدتهما، والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبَّةٍ} (البقرة: 164)
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا.
(5/422)
---
يُقَالُ: الحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ: الجَانُّ وَالأَفَاعِي وَالأَسَاوِدُ. {ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} (هود: 56) في مِلكِهِ وَسُلطَانِهِ. يُقَالُ: {صَآفَّتٍ} بُسُطٌ أَجْنِحَتَهُنَّ. {وَيَقْبِضْنَ} (الملك: 19): يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ.(5/254)
3297 - قوله: (اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ)، قيل: هما خَطَّان من رأسها إلى ذنبها، وقيل: هما نقطتان على عينيها شبه حلمة الثدي. وبَلَغني عن ثقةٍ: أنه تُوجَدُ في العرب حيَّةٌ يكون على رأسها قرنان، كما يكون على رأس ثمر في الهند يُقَالُ له: اسنكهاره، ولا يُعْدَ أن يكونَ المرادُ من الطَّفْيَتَيْن هما هذان القرنان.
صحيح البخاري
باب خَيرُ مالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَال
قالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرُوبْنُ دِينَارٍ: سَمِعَ جابِرَبْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ ما أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ».
صحيح البخاري
باب خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ فَوَاسِقُ، يُقْتَلنَ في الحَرَم
وَعنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: مِثْلَه. قالَ: وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً. وَتَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ. وَقالَ حَفصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيمانُبْنُ قَرْمٍ، عَنِ الأَعمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قالَ: وَحَدَّثَنَا عُبَيدُ اللَّهِ: عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم مِثْلَهُ.
3302 - قوله: (الإِيمَانُ يَمَانٍ)، وذلك لكونهم أوَّلَ إجابةٍ لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلامَ، حين نادى للحجِّ، وكونهم مسلمين عن طَوْعٍ منهم.a
(5/423)
---
3303 - قوله: (إِذَا سَمِعْتُم صِيَاحَ الدِّيَكَةِ)... إلخ، وفي بعض الروايات: «أن تحت العرش ديكاً إذا صَاحَ، صَاحَ ديكُ الدنيا»، وإسنادُه ضعيفٌ.(5/255)
3305 - قوله: (فُقِدَتْ أُمَّةٌ من بني إِسْرَائِيلَ، لا يُدْرَى ما فَعَلَتْ)... إلخ، ومن آثارِهِ أن الفأرةَ إذا قَدَّمْتَ إليها لبنَ الإِبل، فإنها لا تَشْرَبُهُ، فإن بني إسرائيل لم يَكُونُوا يَشْرَبُونَهُ. قيل: إن الأُمَّةَ إذا مُسِخَتْ، فإنها لا تبقى فوق ثلاثة أيام، فكيف يُمْكِنُ أن تكونَ الفأرة منها؟ وأُجِيبَ أن المرادَ منه المسخ في جنسها، لا أنها من الأُمَّةِ الممسوخةِ بشخصها. قلتُ: إن الأحاديثَ التي وَرَدَتْ في بقاء الأُمَّةِ الممسوخةِ إلى ثلاثة أيامٍ، ليست بكليَّةٍ أيضاً.
3311 - قوله: (الجِنَّانَ) قال الترمذيُّ هي حيَّةٌ كقضيب الفضة في البياض، لا تَلْوِي في المشية.
صحيح البخاري
باب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَليَغْمِسْهُ،فَإِنَّ في إِحْدَى جَنَاحَيهِ دَاءً وَفِي الأُخْرَى شِفَاء
قلتُ: وأمرُ الغَمْسِ وإن كان مُطْلَقاً في الحديث، لكنه مقيَّدٌ عندي بما لم يكن الشيءُ حارَّاً، لأن الغَمْسَ فيه لا يزيد إلاَّ شرّاً، وقال بعضُهم: إن الذبابَ كثيراً ما يَطِيحُ على النجاسات، فينبغي أن لا يُغْمَسَ في البارد أيضاً. قلتُ: وهذا جَهْلٌ، لأن حاصلَه: رفعُ مِصْدَاق الحديث من الوساوس، والشُّبُهَات. نعم إن كانت بقربه نجاسةٌ، فطار منها، ثم وَقَعَ في شيءٍ، فذاك محلُّ تأمُّلٍ. ولينظر فيه المُحَدِّث أنه هل من فَرْقٍ بين الذباب الواقع من مكانٍ نظيفٍ، ليست حوله نجاسةٌ، وبين الواقع من مكانٍ في حواليه تلك. وإنما لم يتعرَّض له الفقهاء، لأن وظيفتهم الحِلُّ والحُرْمَةُ، والطهارةُ والنجاسةُ، ولعلَّ ما عليه من النجاسة ليست بنجاسةٍ عندهم، فإنها قليلةٌ جداً، فلم يتعرَّضوا إليه لذلك.
(5/424)
---(5/256)
قوله: (فإن في إحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً، وفي الأُخْرَى شِفَاءً) قال الدَّمِيرِي: وجرَّبْتُ أنه يقدِّم الجناحَ الأيسرَ في الغَمْسِ، وفيه الداء، والشفاء في الأيمن، فليغمسه أيضاً، ليكون هذا بهذا. وقرَّر ابنُ القيِّم أن من صُنْعِ الله تعالى أنه لم يَخْلُقْ السُّمَّ من الحيوانات، والجمادات، والنباتات، إلاَّ وخَلَق بجنبها تِرْياقاً لها، فأخبثُ الحيوانات الحيَّةُ، وتِرْيَاقُها على رأسها، ويُقَال له: حجر الحية، وكذا خبث الجمادات: هيرا وخُلِقَ تِرْيَاقُه: زمرد، وكذا أخبثُا لأشجار بيس، وتِرْيَاقُه نربس أي الجدوار، خُلِقَ بقربه. فكذلك الذُّبَابُ إذا خُلِقَ في إحدى جَنَاحَيْهِ داءٌ، خُلِقَ بقربه دواؤه، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أحسنُ الخالقين.
3322 - قوله: (لا تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ) قال ابن قُتَيْبَة في مختلف الحديث: إن الشيطانَ أَشْبَهُ بالكلب، فإنَّهُ يَشُمُّ الأشياء كشمِّه، ويَعْدُو عليك كعدو الكلب، فإذا ذَكَرْتَ اللَّهَ تلكَّأ كالكلب عند رؤية العصا، وهو معنى الخنَّاس. ولذا قال: لا ينبغي أكل الطعام عند الكلب، لأن له عيناً، كعين الإِنسان، فَتَلُمُّ به.
صحيح البخاري
كتاب أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاء
صحيح البخاري
(5/425)
---(5/257)
فيض الباري شرح صحيح البخاري
محمد أنور شاه الكشميري
الملف الثالث للكتاب
المحدث الكبير والفقيه المحقق الحجة المولود سنة 1292 والمتوفى سنة 1352 رحمه الله تعالى
من أول كتاب أحاديث الأنبياء وحتى أول كتاب النكاح
كتاب أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاء
باب خَلقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِه
{صَلْصَلٍ} (الحجر: 26): طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ، فَصَلصَلَ كَمَا يُصَلصِلُ الفَخَّارُ، وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ، يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ، كَمَا يُقَالُ: صَرَّ البَابُ، وَصَرْصَرَ عِنْدَ الإِغْلاَقِ، مِثْلُ كبْكَبْتُهُ، يَعْنِي كَبَبْتُهُ. {فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189): اسْتَمَرَّ بِهَا الحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ. {أَن لاَ تَسْجُدَ} (الأعراف: 12): أَنْ تَسْجُدَ.
---(6/1)
وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطارق: 4): إِلاَّ عَلَيهَا حَافِظٌ. {فِى كَبَدٍ} (البلد: 4) فِي شِدَّةِ خَلقٍ. {وَرِيَاشاً} (الأعراف: 26) المَالُ. وَقَالَ غَيرُهُ: الرّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ. {مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة: 58): النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (الطارق: 8): النُّطْفَةُ فِي الإِحْلِيلِ. كُلُّ شَيءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفعٌ، السَّمَاءُ شَفعٌ، وَالوَتْرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4) فِي أَحْسَنِ خَلقٍ. {أَسْفَلَ سَفِلِينَ} (التين: 5) إِلاَّ مَنْ آمَنَ. {خَسِرَ} (العصر: 2) ضَلاَلٍ، ثُمَّ اسْتَثْنى إِلاَّ مَنْ آمَنَ، {لاَّزِبٍ} (الصافات: 11) لاَزِم. {نُنْشِئكُمْ} (الواقعة: 61) فِي أَيِّ خَلقٍ نَشَاءُ. {نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} (البقرة: 30) نُعَظِّمُكَ. وَقَالَ أَبُو العَالِيَةِ: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37) فَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23). {فَأَزَلَّهُمَا} (البقرة: 36) فَاسْتَزَلَّهُما. و{يَتَسَنَّهْ} (البقرة: 259) يَتَغَيَّرْ، {ءاسِنٍ} (محمد: 15) مُتَغيِّرٌ. وَالمَسْنُونُ المُتَغَيِّرُ. {حَمَإٍ} (الحجر: 33) جَمْعُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ المُتَغَيِّرُ. {يَخْصِفَانِ} (الأعراف: 22) أَخْذُ الخِصَافِ مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ، يُؤَلِّفَانِ الوَرَقَ وَيَخْصِفَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. {سَوْءتِهِمَا} (الأعراف: 22) كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجِهِمَا، {وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ} (الأعراف: 24) هَا هنَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الحِينُ عِنْدَ العَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لاَ
---(6/2)
يُحْصى عَدَدُهُ. {وَقَبِيلُهُ} (الأعراف: 27) جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ.
واعلم أنهم اختلفوا في اليوم الذي بدأ منه خلق العالم، والتحقيقُ عندي: أنه بدأ من يوم السبت المعروف، وانتهى إلى الخميس، وتلك الستة ذَكَرَهَا اللَّهُ تعالى في قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (يونس: 3)، أي يوم الجمعة، ولم يَخْلُقْ فيه شيئاً، فكان هو يومُ التعطيل، وهو يومُ العيد للخَلْقِ. وفي التوراة: إن مُوسَى عليه السلام كان يَعِظُهُمْ في هذا اليوم، ويُذَكِّرُهُم. فَعُلِمَ أن السبتَ كان يوم الجمعة، فلا أَعْلَمُ متى وقع فيه التحريفُ، حتَّى جَعَلُوه أوَّلَ يومٍ من الأسبوع. ثُمَّ إن هذه الستَةَ، ستةُ آلافٍ عند ربك: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47)، فالستةُ عنده ستةُ آلافٍ عندنا.
أمَّا خَلْقُ آدم عليه الصلاة والسلام، فهو وإن كان في يوم الجمعة، لكنه ليست الجمعة المتصلة، لأنه حَصَلَ فيها الاستواء على العرش، ثُمَّ خلقه في جمعةٍ أخرى. والله يَعْلَمُ المدَّةَ بين الستة، وبين تلك الجمعة التي خلقه فيها. ولذا ترى القرآن لا يَذْكُرْ خَلْقَ آدم عليه السلام مع خلق العالم في موضعٍ، ولكن يَذْكُرُ بعده الاستواء، ليكونَ دليلاً على أنه لم يَخْلُقْ فيما بعده شيئاً. ونقل الدَّمِيرِي، عن السُّبْكي في «حياة الحيوان»: أن آدم عليه الصلاة والسلام خُلِقَ في الجمعة المتصلة، والتحقيقُ عندي ما نبَّهناك. ومن ههنا قيل: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنبيُّ السابعة من سبعة آلاف.
ثم الاستواءُ على العرش لبيان نهاية عالم الأجسام، فليس فوق العرش شيءٌ غيرَ حضرة الربوبية، بشأنها التي تَلِيقُ به، وعالم الإِمكان كلُّه تحته، كذا ذكره صاحب «اليواقيت»، عن محدِّثٍ.
---
قوله: (ويُقَالُ: مُنْتِنٌ، يُرِيدُونَ به صَلَّ)، أي المتغيِّر سترى هوئى.(6/3)
قوله: (صَرَّ البَابُ)، أي تصوَّت.
قوله: (أَنْ لاَ تَسْجُدَ: أن تَسْجُدَ) يريد أن «لا» زائدة. قلتُ: وترجمته: تجهى كس نى منع كياهى كه سجدة هنين كرتا، وعلى هذا لا حاجةَ إلى القول بزيادتها، فهي إذن للبيان بعد الإِبهام في قوله: {مَا مَنَعَكَ} (الأعراف: 12) على حدِّ قوله: {فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه: 78)، وليست مفعولاً لقوله: {مَنَعَكَ}، وكذلك لا أقول بزيادة «لا» في قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1) فإنها لنفي ما قبلها، وأمَّا القَسَمُ، فعلى ما بعدها.
قوله: ({أَسْفَلَ سَفِلِينَ})، ومِصْدَاقُه الأَوَّليُّ ما ذَكَرَه علماء الشريعة، ومِصْدَاقُه الثانويُّ ما ذكره الشيخ الأكبر: أنه حيِّزٌ لجهنم التي نحن الآن فيه.
3326 - قوله: (فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ)... إلخ، وأنكره ابن خَلْدُون، وقال: لم يَثْبُتْ عندنا من حال عماراتهم أنه كان طولهم ستون ذِرَاعاً في زمنٍ، بل بيوتُهم في الارتفاع فيما مضى كما هي اليوم.
قلتُ: سبحان الله، ما حمله على إنكار حديثٍ صحيحٍ عند القوم، مع أنه قد دَلَّ تاريخُ عَادٍ على طول قامتهم. وشاهدنا الآن أيضاً الفرق بين المولَّدين في عهد الإِنكليز، وقبله، وبين الحَضَرِيِّ والبدويِّ. فإن البدويَّ أبسطُ جسماً، وأطولُ قامةً، وأعرضُ صَدْراً، وأوسعُ هِمَماً بالنسبة إلى الحضريِّ، وكذلك من وُلِدُوا قبل عهد الإِنكليز، كانوا أشدَ قوةً، وأكثرَ طولاً. ونحوه قد شاهدنا في الحيوانات أيضاً. والذي ينبغي أن يُنْقَدَ في مثل هذا بالحديث الصحيح، لا أن يُحَرَّفَ الحديث، أو يؤوَّل بغير تأويله، ثم هذا فريد وجدي صاحب «دائرة المعارف» محرومٌ عن الإِيمان والخير كلِّه، فَيَنْقُلُ الأحاديثَ، ثم يَسْخَرُ منها، سَخِرَ الله منه.
---(6/4)
3327 - قوله: (سُتُّونَ ذِرَاعاً في السَّمَاءِ)، أي في الطول، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ مرادُ الحديث أنه كان قدر طولهم هذا في الجنة، فإذا نَزَلُوا عادوا إلى القصر. فإن الأحكامَ تَتَفَاوت بتفاوُت البلدان، والأوطان. كما أن يوماً عند ربك كألف سنةٍ مما تَعُدُّون، فهو يومٌ في العالم العلويِّ، وألف سنةٍ في العالم السفليِّ، هكذا يُمْكِنُ أن تكونَ قاماتهم تلك في الجنة، فإذا دَخَلُوها عادوا إلى أصل قامتهم.
3329 - قوله: (فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ) واعلم أن الأحاديثَ تُخْبِرُ أن الخيرَ والصلاحَ في إِبَّان الساعة يكون بالشام، وقد حَمَلْتُهَا على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام. وهذا يَدُلُّكَ ثانياً على أن الغلبةَ المعهودةَ إنما هي بالأرض التي يَنْزِلُ بها عيسى عليه الصلاة والسلام، لا على البسيطة كلِّها، وما ذلك إلاَّ من تَبَادُرِ الأوهام فقط.
3329 - قوله: (زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ) قال اليُّهَيْلِيُّ في «الروض الأنف»: إن في هذا النُّزُلِ إشارةٌ إلى انتهاء نشأة الدنيا، فإنها إمَّا بحرٌ، أو برٌّ، والبرُّ على الثور، والبحرُ على الحوت، فإذا استعملا في النُّزُل، فقد انتهت الدنيا أيضاً.؟.
3330 - قوله: (لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ) وفيه دليلٌ على أن من سَنَّ سنَّةً سيئةً فإنها تتسلسل، وتلزم. كقابيل، فإنه قَتَل أخاه، فظهر شُؤْمَهُ في سِبْطِهِ السابع. فكانت الدنيا على صرافتها خاليةً عن المعاصي، فجاء شقيٌّ، وسَنَّ معصيةً، ثم تسلسلت، وهكذا إلى أن امتلأت ظلماً وجَوْراً. وهذا معنى قوله: «لولا بنو إسرائيل لم يَخْنَزِ اللَّحْمُ، ولولا حَوَّواءُ لم تَخُنْ أنثى زوجها»، أي ظهرت معصيةٌ من أحدٍ على وجه الأرض، ثم تسلسلت، وبقيَ أثرُها.
---(6/5)
3331 - قوله: (فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ) والمشهور أنها خُلِقَتْ من ضِلْعٍ أيسر. ورأيت مصنِّفاً مرَّ عليه، وقال: إن آدم عليه السلام انتبه مرَّةً من منامه، فإذا حواءُ جالسةٌ على يساره، وهذا معنى مخلوقة من ضلعٍ، أي رآها مخلوقةً نحو يساره. وإنما ذَكَرْتُ هذا الاحتمال، لأن الناسَ في هذا العهد قد تعوَّدوا بإنكار كلِّ شيءٍ لا تُحِيطُ به عقولهم، ما أجهلهم. فإنهم إذا أَخْبَرَهُمْ أهل أوروبا بما شاهدوه بالآلات آمَنُوا به، وإن كان أبعدَ بعيدٍ، ولا يَشُكُّون فيه مثقالَ ذرَّةٍ، كقولهم: إن الإِنسانَ كان أصلُه قردةً، وكقولهم: إن في السيارات عمرانات. ثم إذا أخبرهم أصدقُ القائلين عمَّا رآه بعينه، كما قال: {أَفَتُمَرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (النجم: 12)، أو يُخْبِرُ به ربُّه جلَّ وعزَّ. إذا هم مُعْرِضُون. وحنيئذٍ لا يَمْلِكُ المرءُ إلاَّ أن تتقطعَ نفسُهُ عليهم حسراتٍ، فهداهم الله سواء الصراط.
3334 - قوله: (وأَنْتَ في صُلْبِ آَدَمَ) فيه دليلٌ على أنه كانت لذريته صورة، وهي في صلبه. أمَّا الفلسفيُّ، فإِنه يَحْمِلُهُ على كون مادتها في صُلْبِهِ.
3334 - قوله: (لأَنَّهُ أوَلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ)، يعني: أن الدنيا كانت طاهرةً عن هذه المعصيةِ، وإنما سَنَّها هو، فينبغي أن يكون عليه كِفْلٌ منها.
باب الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَة
---
وقد عَلِمْتَ الخلافَ في خَلْقِ الأرواح مع الأجساد، كما اختاره ابن القيِّم، أو قبلها، كما ذَهَب إليه آخرون. والظاهرُ من الحديث أنها مخلوقةٌ من قبل. فإذا خَلَقَ اللَّهُ الأجسادَ، يُحْدِثُ بين تلك الأرواح والأجساد علاقةً، تسمَّى بالنفخ. إلاَّ أن ابن القيِّم أوَّلَهُ أيضاً، وقال: إنها حالها في المستقبل، أي تكون جنوداً مجنَّدةً حين تُنْفَخُ في الأجساد. والذي نفهم أن التناكرَ والتعارفَ بينها قبل ذلك، ولو تبيَّن لي فيه عقيدةُ السلف، لسلكتُ مدرجهم.(6/6)
باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (هود: 25)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بَادِىَ الرَّأْى} (هود: 27) مَا ظَهَرَ لَنَا. {أَقْلِعِى} (هود: 44) أَمْسِكِي. {وَفَارَ التَّنُّورُ} (هود: 40) نَبَعَ المَاءُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ الأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الْجُودِىّ} (هود: 44) جَبَلٌ بِالجَزِيرَةِ. {دَأْبِ} (غافر: 31) مِثْلُ حَالٍ.
{وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ المُسْلِمِينَ} (يونس: 71 - 72).
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (نوح: 1 - 28)
---
3337 - قوله: (ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ) واعلم أنه لا يكونُ مع الدَّجَّالِ إلاَّ تَخَيُّلاَت ليس لها حقائق، فلا يكون لها ثباتٌ، وإنما يَرَاه النَّاسُ في أعينهم فقط دجال كيساته وه كر شمه هوكا جيسا آجكل مدارى راسته مين دكهلاتاهى او سمين صلى الله عليه وسلّمئيدارى نهين هوتى. ولكن نقل الشيخُ المجدِّدُ السَّرْهَنْدِي حكايةً في ذلك تَدُلُّ على أن تَخَيُّلاتِ المُشَعْبِذِين لها أيضاً حقيقةً. قال: إن رجلاً جاى عند ملكٍ، وقال له: إنه يريد أن يُرِيَهُ شَعْبَذَةً، فأجازه، ففعل، حتَّى خُيِّلَ إلى الناس إنه خَلَقَ حديقةً نفيسةً، فلمَّا تمَّت تلك الحديقة، وهم ينظرون، أمر الملك أن يُضْرَبَ عُنُقُهُ، وهو لا يَشْعُرُ به وقد كان الملكُ سَمِعَ من أفواه الناس: أن التخييل يَتْبَعُ صاحبَهُ، فإن قُتِلَ يَبْقَى كما هو، فَبَقِيَتْ تلك الحديقةُ، حتَّى أكل منها.(6/7)
قلتُ: ولو كان الشيخُ سمَّى هذا الملك، أو عيَّن المكان، لكان في أيدينا أيضاً سبيلٌ إلى تحقيقه، حتَّى نَعْلَمَ صِدْقَ الحكاية من كذبها. ويُمْكِنُ أن يكونَ الشيخُ الأجلُّ قد بَلَغَهُ ما بَلَغَهُ من أفواه الناس، فإنه لم يَنْقُلْ مشاهدته بعينيه، وإنما نَقَلَ ما بلغ عنده، ففيه احتمالٌ بعيدٌ.
---
وصرَّح الشيخ الأكبر في «الفصوص»: أن في الإِنسان قوَّةً يَخْلُقُ بها في الخارج ما شاء وأراد، وقد أقرَّ به اليوم أهل أوروبا أيضاً. ورأيتُ في رسالةٍ تُسمَّى بديده ودانش: أن رجلاً من أهل أوروبا قَصَدَ أن يَذْهَبَ إلى موضع فلانٍ، فَوُجِدَ في ذلك المكان على أثره، مع أنه لم يتحرَّكْ من مكانه. فهذا تصوُّرٌ للخيال، فإنه لم يَذْهَبْ، ولا تحرَّكَ على مكانه، ولكن صار خياله مصوَّراً بقوَّته. إلاَّ أن ما نَقَلَهُ الشيخُ المجدِّدُ فوق ذلك، فإنه يَدُلُّ على بقاء هذا المخيَّل أيضاً. أمَّا تصوُّرُ الخيال، وتمثُّلُه، فممَّا لا يُنْكَرُ، وقد أقرَّ به ابن خلدون أيضاً: أنه يُمْكِنُ إنزال الصورة من المَخِيلَةِ إلى الخارج. ثم ذَكَرع حقيقتَهُ أنها لا تكون فيها إلاَّ الكميَّة، ولا تكون فيها المادة.(6/8)
3338 - قوله: (وَإنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ تِمْثَالَ الجَنَّةِ والنَّارِ) والمرادُ من التِمْثَال ما قرَّرنا آنفاً، أي تخيُّلات المُشَعْبِذِينَ. وفي «الفتوحات»: أن نبيَ الله سليمان عليه الصلاة والسلام كان مرَّةً يصلِّي، فأراه الشيطانُ جنَّةً مخيَّلة، ولكنه عليه الصلاة والسلام بقي على حاله، ولم يَلْتَفِتْ إليها، ثم كَتَبَ أن تلك الجنةَ بَقِيَتْ مدَّةً. فلا يُقَالُ في ذلك التِمْثَال: إنه كان مشبَّهاً بالجنة والنار، ولكنه يُطْلَقُ عليه الجنة والنار. وهذا ما قلتُ: إن الضميرَ في قوله تعالَى يَرْجِعُ إلى المسيحِ عليه الصلاة السلام نفسه، فإن شَبَهَ المسيح لا يُقَالُ له إلاَّ المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد قرَّرناه مبسوطاً فيما مرَّ.
3338 - قوله: (فالتي يَقُولُ: إنَّهَا الجَنَّةُ هِيَ الناَّرُ)، يحتملُ أن يكونَ معناه: من يَدْخُلُ جنته يكون مآله إلى النار، ويحتملُ: أنه من يَدْخُلُ فيها يَحْتَرِقُ ويَمُوتُ.
باب
---
{وَإِنَّ إِليَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَلِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَآئِكُمُ الاْوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ} (الصافات: 123 - 129)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيرٍ. {وَتَرَكْنَا عَلَيهِ فِي الآخِرِينسَلاَمٌ عَلَى آلِ ياسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (الصافات: 130 - 132).
يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِليَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ.
باب ذِكْرِ إِدْرِيسَ عَلَيهِ السَّلاَمُ وهُوَ جَدُّ أَبي نُوح، ويُقالُ جَدُّ نُوحٍ عليهما السَّلام
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} (مريم: 75).(6/9)
قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّماوَاتِ إِدْرِيسَ وَمُوسى وَعِيسى وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لِي كَيفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيرَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَقَالَ أَنَسٌ: «فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، فَقُلتُ: مَنْ هذا؟ قَالَ: هذا إِدْرِيسُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسى، فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قُلتُ: مَنْ هذا؟ قَالَ: هذا مُوسى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسى، فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قُلتُ: مَنْ هذا؟ قَالَ: عِيسى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، قُلتُ: مَنْ هذا؟ قَالَ هذا إِبْرَاهِيمُ».
---
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَيَّةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولاَنِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «ثُمَّ عُرِجَ بِي، حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ».(6/10)
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُبْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذلِكَ، حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسى، فَقَالَ مُوسى: مَا الَّذِي فَرَضَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلتُ: فَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذلِكَ، فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسى، فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ: فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذلِكَ، فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهيَ خَمْسُونَ، لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسى، فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلتُ: قَدِ اسْتَحْيَيتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى السِّدْرَةَ المُنْتَهى، فَغَشِيَهَا أَلوانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلتُ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ».
قوله: (قال ابن عبَّاس: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ): نيك نام تفسيرٌ لقوله: ({وتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إلْ ياسين})... (الصافات: 129، 130) إلخ، ويُذْكَرُ عن ابن مسعود، وابن عباس: إن إلياسَ هو إدريسُ.
---(6/11)
واعلم أن ههنا مقامين: الأوَّلُ: في الترتيب بين إدريس، ونوح عليهما السلام. فقيل: إن إدريسَ عليه الصلاة والسلام نبيٌّ متأخِّرٌ عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ لا يَجِبُ كونه من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقيل: إنه متقدِّمٌ عليه. ولمَّا كان نوحُ عليه الصلاة والسلام من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كان إدريسُ عليه الصلاة والسلام المتقدِّم عنه من أجداده صلى الله عليه وسلّمبالأَوْلَى. والمصنِّفُ أخَّر ذكرَه عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام بناءً على كونه بعده، وحينئذٍ لا يَلْزَمُ أن يكونَ من أجداده صلى الله عليه وسلّم ولكن يُشْكِلُ عليه ما في نسخة الباريِّ لابن عساكر. «وهو جدُّ أبي نوحٍ، أو جدّ نوحٍ»، فإنها تَدُلُّ على كون إدلايسَ عليه الصلاة والسلام متقدِّماً على نوحٍ عليه الصلاة والسلام، لكونه من أجداده. ووضْعُهُ في التراجم بعد نوحٍ عليه الصلاة والسلام، يَدُلُّ على كونه متأخِّراً عنه، فلا يكونُ من أجداده.
قلتُ: لو ثَبَتَتْ نسخة ابن عساكر من جهة المصنِّف. وَجَبَ أن تكونَ تجرمةُ إدريس عليه السلام متقدِّمةً على نوح عليه الصلاة والسلام، لكونه من أجداده على هذه النسخة. إلاَّ أن يُقَالَ: إن المصنِّفَ اتَّبَعَ ف يترتيب التراجم القول المشهور عند الناس من تقدُّم نوحٍ عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر رجحانه إلى تقدُّم إدريس عليه الصلاة والسلام، وأشار إليه بقوله: «وهو جَدُّ نوحٍ عليه الصلاة والسلام». وهكذا فَعَلَ في «المغازي» أيضاً.
---(6/12)
والمقام الثاني: أن إدريسَ، وإلياسَ عليهما الصلاة والسلام، هل هما نبيَّان، أو اسمان لنبيَ واحدٍ، كما يَدُلُّ عليه قول ابن مسعود، وابن عبَّاس؟ والجمهور على أنهما نبيَّان، فإن إدريسَ عليه الصلاة والسلام نبيٌّ قبل نوحٍ عليه الصلاة والسلام، وبعد شيث عليه الصلاة والسلام. وأمَّا إلياسُ عليه الصلاة والسلام، فهو نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ وَجَبَ تأويل قول ابن مسعود، وابن عباس: إن إلياسَ هو إدريسُ عليهما الصلاة والسلام. فقيل: إن ابن عباس فسَّر قراءةً أخرى فيه، وهي {سلام على إدراسين} وكان قوله: هكذا إن إدراس هو إدريس، فسُومِحَ فيه. وقيل: إن إلياسَ هو إدريسُ، مكان إدراس.
وقيل: إن لهذين اسمان متبادلان، يُطْلَقُ أحدهما على الآخر، فيقال لإِدريسَ: إلياس أيضاً عليهما الصلاة والسلام، وبالعكس، على أن اسمَ أحدهما لقبٌ للآخر، فإِدريسُ عَلَمٌ له، ولقبُه إلياسُ عليهما الصلاة والسلام، وكذا العكس، فهما مشهوران بِعَلَمَيْهِمَا، وأَطْلَقَ ابن عباس باعتبار اللقب.
وقال الشيخُ الأكبرُ: إن إدريس وإلياس نبيٌّ واحدٌ عليه الصلاة والسلام. وقال في «الفصوص»: إن إدريسَ عليه الصلاة والسلام كان نبيّاً حين رُفِعَ، ثُمَّ إذا نَزَلَ، وقد جَعَلَه اللَّهُ رسولاً، سُمِّي بإِلياسين، فهو نبيٌّ واحدٌ في النشأتين، كعيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا يَدُلُّ على أنه ذَهَبَ إلى وَحْدَتِهِمَا. وناقضه في مواضعَ عديدةٍ، حين ذَكَرَ الذين اشتهرت حياتُهم، وذكرهم أربعة، إدريس، وإلياس، وعيسى، والخَضِر عليهم الصلاة والسلام، فَدَلَّ على تغايُرِهِمَا عنده. وتأوَّله بحر العلوم أنهما اثنان، باعتبار العُهْدَةِ، لكونه نبيّاً قبل الرفع، ورسولاً بعد النزول، وأمَّا باعتبار الشخص، فواحدٌ.
---(6/13)
ثم إن الشيخَ الأكبرَ تمسَّك بقوله: «مرحباً بالنبيِّ الصالح، والأخ الصالح»، في ليلة المعراج، على عدم كونه من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإلاَّ لَقَالَ: بالابن الصالح.
قلتُ: وهو غيرُ تامَ، فإنه لم يُخَاطِبْهُ بالابنيَّة أحدٌ منهم غير آدم، وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، تنبيهاً وتعظيماً لأمره، أمَّا آدمُ عليه الصلاة والسلام، فقد كان أبا البشر، فما له إلاَّ أن يَدْعُوَه بالابن. وأمَّا إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد إشاعةَ هذه النسبة من قبله، وفي الحديث: «إني دعوة أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام»... إلخ. وأمَّا غيرُهُما، فاكتفوا في المخاطبة بالأخوَّة العامة، «فإن الأنبياءَ عليهم السلام إِخْوَة لِعَلاَّتٍ(2)(3)، إلى آخر الحديث، وكلُّهم بنو آدم، فصَحَّت الأخوَّة بلا ريب.
والذي تبيَّن لي أنهما نبيَّان قطعاً، ومن ظَنَّ أنهما واحدٌ، فقد نَظَرَ إلى شهرة رفع إدريس عليه الصلاة والسلام في أهل الإِسلام، وشهرة رفع إلياس عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل، فركَّب من مجموع ذلك الاتحاد، وإلاَّ فهما نبيَّان.
ثم إنهم اختلفوا في معنى قوله: {إِلْ يَاسِينَ}، و{إدراسين}. فقيل: معناه: أتباعُ إلياس، وإدريس عليهما الصلاة والسلام، فلياء، والنون للجمع، وللنسبة إلى مفرده، كما في «خُبَبِيُّون» نسبةً إلى قبيلة خُبَيْب خبيب والى يعنى اسكى نسل سى. وقيل: إنه لغةً في إلياس. ومرَّ عليه الحافظ، وقال: بل هو كجبرين، لغةً في جبرائيل، فالنون زائدة. وذكر مفسِّرٌ: أن إلياسين، معناه: أتباع إلياس عليه الصلاة والسلام، كما مرَّ.
---
قلتُ: ويوافقه اللغة أيضاً، فعند البخاريِّ: «عليك إثم الأَرِيسيِين»، على وجهٍ، وفسَّر معناه: متبعي الأروس، كان رجلاً اخْتَرَعَ مذهباً، فسمَّى أتباعه: أَرِيسيِين، وكان هرقل منهم. ولم يَشْعُرْ به الحافظُ، فقال بزيادة النون. والظاهرُ أن إلياسين، وإدراسين، نظيرُ أَرِيسيِين.(6/14)
قلتُ: ويوافقه اللغة أيضاً، فعند البخاريِّ: «عليك إثم الأَرِيسيِين»، على وجهٍ، وفسَّر معناه: متبعي الأروس، كان رجلاً اخْتَرَعَ مذهباً، فسمَّى أتباعه: أَرِيسيِين، وكان هرقل منهم. ولم يَشْعُرْ به الحافظُ، فقال بزيادة النون. والظاهرُ أن إلياسين، وإدراسين، نظيرُ أَرِيسيِين.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} (الأعراف: 65)
وَقَوْلِهِ: {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاْحْقَافِ} إِلَى قَوْلِهِ: {كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 21 - 25). فِيهِ: عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيمَانَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
وقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شَدِيدَةٍ {عَاتِيَةٍ}، قَالَ ابْنُ عُيَينَةَ: عَتَتْ عَلَى الخُزَّانِ {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} مُتَتَابِعَةً {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أُصُولُهَا {فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} بَقِيَّةٍ (الحاقة: 6 - 8).
واعلم أن هُودَ عليه الصلاة والسلام لم يُبْعَثْ في وسط العرب، ولكنه بُعِثَ لمن كانوا في ناحية البحر من حَضْرَمَوت إلى الشام.
باب قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج
---
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَالُواْ يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ} (الكهف: 94). وقَوْلِ
قالَ قَتَادَةُ: حَدَبٌ أَكَمَةٌ، قالَ رَجُلٌ لِلنبي صلى الله عليه وسلّم رَأَيتُ السَّدَّ مِثْلَ البُرْدِ المُحَبَّرِ، قالَ: «رَأَيتَهُ؟».
قوله: ({وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ}) وفيه عِدَّةُ فوائد:(6/15)
ولا ريب في كونه رجلاً صالحاً. أمَّا إنه كان نبياً، أو وليّاً، فالله تعالى أعلم به. والذي يَظْهَرُ أنه ليس بالاسكندر اليونانيِّ، وإليه ذهب الرازي، والحافظ. فإن أرسطو كان من وزرائه، وكان يَسْجُدُ له. وهو أوَّلُ من دوَّن الجغرافية، وذكر فيه السدَّ، فَدَلَّ على أنه كان مبنيّاً قبل الاسكندر اليونانيِّ، اللهم إلاَّ أن يُقَالَ: إنه أراد به السدَّ الذي بناه ملكه، والظاهرُ هو الأوَّلُ. على أن اليونانيَّ لم يَخْرُج إلى مطلع الشمس والمغرب، ولكنه كان بسَمَرْقَنْد. وقاتل دار فقتله، ثُمَّ فتح الاسكندرية، ثم أتى أرضَ بابل، ورجع من ههنا إلى كابل، ثم إلى راولبندى حتى ألقى عصاه بموضع تيكسله، وضرب فيها سِكَّةً، ثم سافر إلى السند، ومات ثَمَّةَ. فليس اليونانيُّ هو ذو القرنين الذي ذكره القرآن. وراجع صورة العالم من آخر «التفسير» للشيخ عبد الحق الدَّهْلَوِي، فإنه مهمٌّ، ويَنْفَعُكَ في هذا الباب. واسْتَنْبَطْتُ من سفره إلى مطلع الشمس ومغربها، أنه لم يكن من سكانهما.
---
أمَّا الكلامُ في السدِّ، فاعلم أنه عديدٌ، والذي بناه ذو القرنين، هو في الجانب الشماليِّ عند جبل قوقيا. أما الذي هو في بلدة الصين في طول ألف ومئتي ميلٍ تقريباً، فهو سدٌّ آخر. ومن ظنَّه السدَّ المعروفَ، فبعيدٌ عن الصواب. وسدٌّ آخر باليمين بناه شدَّاد، وظنَّ البيضاويُّ - وهو مؤرِّخٌ فارسٌ - أنه عند دربند ثم رَوَى الحافظُ عن صحابيَ: «أنه لمَّا رَجَعَ بعد رؤيته السدَّ، سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: رأيته كالبُرْدِ المُحَبَّرِ». وحمله الحافظُ على سدِّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ.(6/16)
قلتُ: هذا غلطٌ، بل هو سدٌّ آخر كان باليمين، وسدُّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ في موضعٍ وراء بُخَارَى. ثم إن سدَّ ذي القرنين قد اندكَّ اليوم، وليس في القرآن وعدٌ ببقائه إلى يوم خروج يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ولا خبرٌ بكونه مانعاً من خروجهم، ولكنه من تَبَادُرِ الأوهام فقط. فإنه قال: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ} (الكهف: 99) {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}... إلخ (الأنبياء: 96) فلهم خروجٌ مرَّةً بعد مرةٍ. وقد خَرَجُوا قبل ذلك أيضاً، وأَفْسَدُوا في الأرض بما يُسْتَعَاذُ منه. نعم يكون لهم الخروجُ الموعودُ في آخر الزمان، وذلك أشدُّها. وليس في القرآن أن هذا الخروجَ يكون عَقِيبَ الاندكاك متَّصلاً، بل فيه وعدٌ باندكاكه فقط، فقد اندكَّ كما وَعَدَ.
أما إن خروجَهم موعودٌ بعد اندكاكه بدون فصلٍ، فلا حرفَ فيه. أَلاَ ترى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمعدَّ من أشراط الساعة: قبضَه من وجه الأرض، وفتحَ بيت المقدس، وفتحَ القسطنطينية، فهل تراها متَّصلةً، أو بينها فاصلةٌ متفاصلةٌ، فكذلك في النصِّ. نعم فيه: أن خروجَهم لا يكون إلاَّ بعد الاندكاك، أمَّا إنه لا يندلُّ إلاَّ عند الخروج، فليس فيه ذلك.
---(6/17)
أمَّا الكلامُ، في يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، فاعلم أنهم، من ذُرِّيَّة يافث باتفاق المؤرِّخين. ويُقَال لهم في لسان أروبا: كاك ميكاك، وفي مقدمة ابن خَلْدُون: «غوغ ماغوغ». وللبرطانية إقرارٌ بأنهم من ذُرِّيَّة مَأْجُوجَ، وكذا ألمانيا أيضاً منهم، وأمَّا الروس فهم من ذُرِّيَّةِ يَأْجُوجَ. وليس هؤلاء إلاَّ أقواماً من الإِنس، والمراد من الخروج: حملتُهم، وفسادُهم، وذلك كائنٌ لا محالة في زمانه الموعود، وكلُّ شيءٍ عند ربِّك إلى أجلٍ مسمَّى. وليس السدِّ مَنَعَهُمْ عن الفساد، فهم يَخْرُجُون على سائر الناس في وقتٍ، ثم يُهْلَكُونَ بدعاء عيسى عليه السلام. هكذا في «مكاشفات يوحنا» وفيه: أنهم يُهْلَكُونَ بدعاء المسيح عليه الصلاة والسلام عليهم.
وإنما ذكرنا نبذةً من هذه الأمور، لِتَعْلَمَ أنها ليست بشيءٍ يُفْتَخَرُ بها عند العوام، ولكنها كلَّها معروفةٌ عند أصحاب التاريخ. أمَّا من لم يُطَالِعْ كُتُبَهُمْ فالإِثمُ عليه. وهذا الجاهل - لعين القاديان - يَزْعُمُ أنه أتى بعلمٍ جديدٍ، كأنَّه أوجده من عند نفسه، وكان النَّاسُ غَافِلُونَ عنه قبل ذلك. وقد بَسَطْنَاها في رسالتنا «قيدة الإِسلام»، وحاشيته بما لا مَزِيدَ عليه، فراجعها.
وبعدُ، فإن العِلْمَ بيد الله المتعال، وأمَّا من زَعَمَ أنه قد أَحَاطَ بوجه الأرض كلِّها عِلْماً، ولم يَتْرُكْ موضعاً إلاَّ وقد شَاهَدَ حاله، فذلك جاهلٌ. فإنهم قد أقرُّوا بأن كثيراً من حصص الأرض باقيةٌ لم تقطعها بعدُ أعناق المطايا، منها ساحةٌ طويلةٌ في أرض الروس الشهيرة بسيبيريا وغيرها، فما هذه الزقازق؟.
وإذ قد فَرَغْنَا عن نقل القطعات التاريخية على القدر الذي أردناها، فالآن نتوجَّه إلى بعض ألفاظ الحديث.
---(6/18)
فاعلم أنا لم نَجِدْ في القرآن، ولا في حديثٍ صحيحٍ أن السدَّ مانعٌ عن خروجهم، إلاَّ ما عند الترمذيِّ، فإنه يُشْعِرُ بظاهره أنه مانعٌ عنه، لِمَا فيه: «أنهم يَحْفِرُونه كل يومٍ، حتَّى إذا بَقِيَ منه شيءٌ يَرْجِعُونَ إلى بيوتهم يقولون: نَعُود إليه غداً، ونَحْفِرُ الباقي، ولا يقولون: إن شاء الله تعالى. فإذا عَادُوا إليه، وَجَدُوه كما كان قبله، فَلاَ يَزَالُ أمره وأمرهم هكذا، حتَّى إذا جاء الموعدُ يَرْجِعُونَ إلى بيوتهم يقولوه: إنا نَحْفِرُه غداً إن شاء الله تعالى، فإذا رَجَعُوا إليه غداً، وَجَدُوه كما تَرَكُوه، لم يَزِدْ عليه شيئاً، وحينئذٍ يَدُكُّونه، ثم يَخْرُجُون مفسدين في الأرض» - بالمعنى . ولكنه مخالقٌ لِمَا في الصحيح، لأنه يَدُلُّ على أن السدَّ في زمنه صلى الله عليه وسلّم «كان فُتِحَ مثلَ هذه، وحلَّق بإِصْبَعَيْهِ: الإِبهام، والتي تليها». وقد ذَكَرْنَا تمامه في «عقيدة الإِسلام»، مع أن ابن كثير علَّله، وقال: إن أبا هريرة قد يَرْفَعُهُ، وقد يُوقِفُهُ على كَعْبٍ، وبه يَحْكُمُ وجداني: أنه ليس بمرفوعٍ، بل هو من كعب نفسه.
قال الشيخُ في كتابه «عقيدة الإِسلام»، في حياة عيسى عليه السلام: قد تَوَاتَرَ في الأحاديث أنه عليه السلام يَنْزِلُ بعد خروج الدَّجَّال، فَيَقْتُلُه، ويُرِيهم دمَه على حَرْبَتِهِ، ثم يَخْرُجُ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ، فَيُهْلِكُهُم الله بدعائه. وقد حرَّف المُلْحِدُون تلك الأحاديث أيضاً. وكُنْتُ قد أفردت في مبحث يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مقالةً حديثيَّةً تاريخيَّةً، لا يسعها المقام، وهذه نبذةٌ منها أوردتها.
---(6/19)
فالذي ينبغي أن يُعْلَمَ، ويكفي ههنا: أن الظاهرَ من أمر ذي القرنين أنه رجلٌ ليس من أهل المشرق، كما قيل: إنه مغفور الصين، الذي بنى سدّاً هناك، في طول ألف مئتي ميلٍ، ويَمُرُّ على الجبال والبحار. لأنه لو كان كذلك، لقيل في القرآن العزيز بعد سفره إلى المغرب: إنه رَجَعَ إلى المشرق، كالراجع إلى وطنه. ولا من أهل المغرب، وإنما هو من أهل ما بينهما. والراجحُ أنه ليس من أذواء اليمن، ولا كيقباد من ملوك العجم، ولا هو اسكندر من فيلقوس، بل ملكٌ من الصالحين، ينتهي نَسَبُهُ إلى العرب الساميِّين الأوَّلين. ذكره صاحب «الناسخ» وأرَّخ لبنائه السد: سنة 3460 من الهبوط.
وذَكَرَهُ قبل العرب الساميِّين الذين مَلَكُوا مصر، كشَدَّاد بن عاد بن عود بن أرم بن سام، وابن أخيه سنان بن علوان بن عاد، وبعدهما الريان بن الوليد بنع مرو بن عمليق بن عولج بن عاد. قال: ومن أَطْلَقَ على هؤلاء الفراعنة بعد الريان العمالقة، فللنسبة إلى عمليق بن عولج، لا إلى عمليق بن لاوذ بن أرم بن سام الذين كانوا سَكَنُوا بمكة. وكذا هو - أي ذو القَرْنَيْن - قبل ضحاك بن علوان، أخي سنان المذكور الذي قَتَلَ جمشاد ملك الإِيران، وملكه.
---(6/20)
وذكر اسم ذي القرنين: صعب بن روم بن يونان بن تارخ بن سام، فهو إذن من عادٍ الأُولَى، لا من الروم، أو اليونان، وقد قال الله تعالى: {واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} (الأعراف: 69). وذكر أيضاً أن كورش ليس هو كيقباد، بل هو من الطبقة الثانية من ملوك بابل. والأشبه في وجه تسميته ما عن عليّ، وقد قوَّاه في «الفتح» وشرحه في «شرح القاموس»، وذكر في التنزيل ثلاثة أسفار له: الأوَّل إلى المغرب، ثم إلى المشرق، ولم يَذْكُرْ جهةَ الثالث، ولا قرينةَ له على أنَّه إلى الجنوب، فهو إذن إلى الشمال، وسدُّه هناك في جبل قوقايا، الذي يسمى الآن الطائي، غير مجموعة الجبال الأورالية، وهو المرادُ بآخر الجربياء في كتاب حزقيال عليه السلام، كما في «روح المعاني».
قلتُ: الجِرْبِياء في اللغة: الريح التي تَهُبُّ من المشرق والشمال. وبنى أيضاً بعضُ ملوك الصين سدّاً لنحو ضرورة ذي القرنين، وهو سدٌّ كان المغول سَمَّوْهُ: أتكووة، وسمَّاه الترك: بوقورقه، ذكره صاحب «الناسخ»، وأرَّخ لبنائه: سنة 4381 من الهبوط. وكذا بعض ملوك العجم من باب الأبواب لمثل ما ذَكَرْنَاهُ. وهناك سدودٌ أُخَر، وكلُّها في الشمال.
ثم لو ثَبَتَ ما اشتهر، وشهَّره المؤرِّخون، وذكره في «حياة الحيوان»، عن ابن عبد البَرِّ في «كتاب الأمم من الكركند»: أن مَأْجُوجَ من ولد يافث، سَكَنَ هناك، وأن جوج لَحِقَ بهم، وأن ماغوغ - كما ذَكَرَه ابن خَلْدُون - بالعبرية، هو: مَأْجُوجُ في العربية، وجوج، هو: يَأْجُوجُ. مع أنه لم يَذْكُرْ في كتاب حزقيل بلفظ يَأْجُوج، وإنما ذَكَرَ: جوج، وسلَّم أنهما معرَّبٌ كاك ميكاك في الإِنكليزية، وأن رخلأسيَا من يَأْجُوج، وأهل بريطانيا من مَأْجُوج. ولم يَدُلُّ على أن ذي القرنين سَدَّ على كلِّهم، بل سَدَّ على فِرْقَةٍ منهم هناك.
---(6/21)
قال ابن حَزْم في «الملل والنحل» فيما يَعْتَرِضُ به النصارى على المسلمين قديماً: إن أرسطو ذكر السدَّ ويَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ في «كتاب الحيوان»، وكذا بطليموس في «جعرافياه». بل سؤالُ تعيين السدِّ، أو تعيينُ ذي القرنين، وَقَعَ من اليهود أولاً عنه صلى الله عليه وسلّم كذا يُسْتَفَادُ من بعض روايات «الدر المنثور». وبعضُ الناس يَجْعَلُ اللفظين: منكوليا ومنجوريا، وبعضُهم كاس ميكاس، وبعضهم: جين ما جين، وهو كما تَرَى.
وأعجبُ منه ما في «الناسخ»، من ذكر بناء بيت المَقْدِسِ: أن علماءَ بني إسرائيلَ كانوا يُطْلِقُون على صور وصيدا: جين ما جين، ونَقَلَ بَعْضُهم عن «تاريخ كليسيا» فِرْقَةً من فِرَقِ الآريوسة لقبها: ياجوجي. والمُفْسِدُون في الأرض لا يَصْدُقُ على كلِّهم، فإنه إهلاكُ النَّسْلِ والحَرْثِ، وتَخْرِيبُ البلاد، والنهبُ، والسفكُ، وشنُ الغارة، لا أخذ الممالك بالسياسة والتدبير، وهؤلاء مَوْصُوفُون بذلك لا الأول. وإذا انقطع هذا اللقبُ عنهم الآن، لم تَبْقَ المعرفة إلاَّ بوصف الإِفساد. فإن كان شعبُهم ينتهي إليهم، فلينته. ولعلَّه في بعض الآثار أَدْخَلَ نحو إنسان الغاب، أو الجبَّارين في يأجوج ومأجوج فراجع إنسان الغاب، والجبَّار من الدائرة.
وفي «البحر»: أنه قد اخْتُلِفَ في عددهم وصفاتهم، ولم يَصِحَّ في ذلك شيءٌ. اه.c
قلتُ: قد صَحَّ في كثرة عددهم أحاديث، وكذا نُقِلَ عن «كتاب الجمان في تاريخ الزمان» للعينيِّ، عن «تاريخ ابن كثير»: أنه لم يَصِحَّ في صفتهم كثيرُ شيءٍ. وإذا كان هؤلاء الأورباويون خارجين من بلادهم، وأخلاقهم، وسيرتهم، فليسوا بمرادين. وإنما المراد فِرْقَةٌ منهم، أي من شعبهم في الشمال، والشرق ولهم خروجٌ في آخر الأيَّام، وليس أنهم مَسْدُودُون بالسدِّ، من كل جهةٍ، بل مُنِعُوا من شعبٍ هناك.
---(6/22)
فإن قيل: إنهم أيضاً قد ارتفع عنهم المانع الحسيُّ منذ زمانٍ طويلٍ، واندكَّ السَّدُّ، وقد خَرَجُوا، قيل: فإذن لم يَكُنْ هذا الخروجُ مراداً، فإنه لم يتحقَّق نزول عيسى عليه السلام قُبَيْل ذلك. ويستمرُّ الأَمْرُ هكذا حتَّى يَخْرُجَ بعضٌ منهم، الذين لم يَخْرُجُوا إلى الآن في عهد عيسى عليه السلام. ويكون الخروج مرَّةً بعد مرَّةٍ، كمثل خروج الخوارج، لا خروجاً بالمرَّة من السدِّ، ولم يَذْكُرْ في القرآن لفظ الخروج من هذا السدِّ فقط: لههنا، ولما ذَكَرَ في الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (الآية: 96)، يوميءُ أن بعضَهم في مقابلة بعضهم الآخرين. فالبعضُ خارجون من السدِّ، والبعضُ الآخرون من غيره، وكأن اندكاك السدِّ جَعَلَ موضعَ خروج بعضٍ، وميقاتَ خروج آخرين منهم. وقَدْ وَقَعَ في مكاشفات يوحنا الإِنجيليِّ خروجهم مرَّةً بعد مرَّةٍ، أي من سُدَّ عليهم، أو لم يُسَدّ.
وكذا ذكره في «الناسخ»، عن الفصل الحادي عشر، من سفر سنهذرين، من كمار اليهود، وهو عندهم كالحديثِ عندنا. قال فيه: وُجِدَ في خزائن الروم بالخط العِبْرِيِّ: أن بعد أربعة آلاف سنة ومئتين وإحدى وتسعين سنة يبقى العالمُ يتيماً، وتَجْرِي فيه حروب كوك ما كوك، وتكون سائر الأيام أيام الماشيح. وهذا التاريخُ - على ما يؤرِّخ به اليهود - مولدُ خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم ويَبْقَى العالمُ بعده يتيماً، لا راعي له، أي تُخْتَتَمُ النبوَّة، وتجري بعد ذلك - وبعد خيرٍ كثيرٍ - ملاحم يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ويَنْزِلُ إذ ذاك عيسى عليه السلام.
---(6/23)
وصاحب «الناسخ» حمل الماشيح على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم وكذا ذكرهم في كتاب حزقيل، ولم يَذْكُرْ السدَّ. فيأجوجُ ومأجوجُ أعمُّ ممن سُدَّ عليهم. فقد جَمَعَ القرآنُ حالَ أعمِّهم وأخصِّهم، وذلك لسؤالهم عن ذي القرنين، لا عن يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ فقط. فَذَكَرَ أوَّلاً من سُدَّ عليهم منهم، ثم عمَّم في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ} (الكهف: 99)، وهو إذن للاستمرار التجدديِّ، حتَّى يَتَّصِلَ خروجهم المخصوص بنزول عيسى عليه السلام، فَوَقَعَ هنا في القرآن أعمُّ مما في الحديث. وكذا في قوله: {وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} (الأنبياء: 96) فَذَكَرَ كلَّ حَدَبٍ، ولا بُدَّ من ذلك إن ثَبَتَ أن الأورباويين منهم، وأن لهم خزجات. أو ذَكَرَ في القرآٌّ من سُدَّ عليهم فقط، لكن لم يَذْكُرْ أنه لا يَنْدَكُّ، ويكون خروجهم مرَّةً بعد مرَّةٍ، حتى يكونَ خروجُهم المرادُ عند نزوله عليه السلام.
وقد بُدِيء باندكاكه في زمانه صلى الله عليه وسلّم حيث قال: «ويلٌ للعرب، من شرَ قد اقترب، فُتِحَ اليومَ من رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مثل هذه» وهؤلاء الذين خَرَجُوا كذلك، أي من غير سدَ لا يُقَالُ: إنهم خَرَجُوا عليه، لأنَّهم نصارى نحلةً وانتماءً، وبقي بعضُ هؤلاء، أصلاً وشعباً ليسوا نصارى، سَيَخْرُجُون عليه في آخر الزمان. وذَكَرَ في كتاب حزقيل خروجَهم على بني إسرائيل. ففي «روح المعاني»: وفي كتاب حزقيال عليه السلام الأخبارُ بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجِرْبِياء، في أممٍ كثيرةٍ لا يُحْصِيهم إلاَّ اللَّهُ تعالى، وإفسادُهم في الأرض، وقصدُهم بيت المَقْدِسِ، وهلاكُهم عن آخرهم بِرُمَّتِهِمْ بأنواعٍ من العذاب. اه.
---(6/24)
وذُكِرَ في الأحاديث النبوية توجُّهُهُم إلى الشام، فليس الخروج عليه متَّصلاً بالاندكاك، وإنما المتَّصلُ به خروجُهم على الناس، وهو كذلك في بعض الألفاظ، كما في «الكنز». وقد تأتي أحاديثُ أشراط الساعة بالتقاط أشراطها من البين، وترك ما بينها، فلهم خروجٌ مرَّةً بعد مرَّةٍ. وليس القرآنُ العزيزُ نصّاً في أن السدِّ مَنَعَهُم من كلِّ جهةٍ، ولا أن عدمَ خروجهم في الأزمنة الآتية لعدم الاندكاك فقط، فإن ذلك إذ ذاك - أي عند بنائه - ودَهْراً بعده. وأمَّا بعد ذلك، فلهم عِدَّةُ خروجٍ، ففيه {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} الآية، فلم يَقُلْ: حتَّى إذا فُتِحَ الرَدْمُ، والمراد تلك النَّوْبَة من الخروج.
وبنبغي أن يُعْلَمَ أن قولَ ذي القرنين {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى فَإِذَا جَآء وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّآء ؛ وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً} (الكهف: 98) قولٌ من جانبه، لا قرينةٌ على جَعْلِهِ من أشراط الساعة. ولعلَّه لا عِلْمَ له بذلك، وإنما أَرَادَ وعدَ اندكاكه. فإذن قوله تعالى بعد ذلك: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ} للاستمرار التجدديِّ. نعم قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} هو من أشراطِ الساعة، لكن ليس فيه للرَّدْمِ ذِكْرٌ، فاعلم الفرق.
---(6/25)
واعلم أيضاً أن السَّدَّ الذي رآه صحابيٌّ، كما في «الفتح»، و«والدر المنثور»، و«حياة الحيوان» الظاهرُ أنه سَدٌّ آخر لا هذا السدّ، ويَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ فيه بمعنى أهل الشرك. وحديث حَفْرِ السدِّ كلَّ يومٍ، أعلَّ ابن كثير في «تفسيره» رَفْعَهُ، بأنه لعلَّه سَمِعَه من كَعْب. فإن كَعْباً رَوَى عنه مثل ذلك، وقد ذكره أيضاً ابن كثير. وفي «الفتح»: أن عبد بن حميد رواه عن أبي هريرة موقوفاً. أَوْ كانوا حَفَرُوا أولاً، وتَرَكُوا، وسَيَحْفِرُونَه عند خروجهم المخصوصِ أيضاً، وإن كانوا خَرَجُوا قبل ذلك خروجاً غير خروجهم على عيسى عليه السلام، فإن الله تعالى قد قال: {وَمَا اسْتَطَعُواْ لَهُ نَقْبًا} (الكهف: 97) ذكره ابن كثير أيضاً.
---
وأقول: إن كان في إيمان الناظرين سَعَةٌ، فلا ضَيْقَ في تسليمه أيضاً. والحاصلُ: أنه إن كان قد اندكَّ، أو كان لم يَنْدَكَّ، ولكن كان لم يَبْقَ مانعاً بحسب هذا الزمان بأن يكون خروجهم من طُرُقٍ بعيدة من وراء الجبال، والسدُّ على البوابير والمراكب المُحْدَثة للأسفار الطويلة. فخروجُهم المخصوصُ ليس متَّصلاً به. كيف وهو مُنْدَكٌّ إذن منذ زمانٍ طويلٍ، فَلَمْ يَبْقَ من السَّدِّ الذي جَعَلَهُ الناظرون سدَّ ذي القرنين، إلاَّ أثرٌ وطَلَلٌ، ولم يتَّصلْ خروجُهم ذلك به، فليكن من الزمان بُرْهَةٌ أخرى كذلك، لا أنهم خَرَجُوا في زماننا هذا، فَيُطْلَبُ عيسى عليه السلام فيه. فإنه إذا تَرَاخَى من اندكاكه، أو من خروجهم من زمنٍ طويلٍ، فَلْيُتَرَاخَى عهداً آخر أيضاً، وإن لم يندكَّ مقدار ما بين الصَّدَفَيْن. وليس له زيادةُ طولٍ حتَّى يُسْتَبْعَدَ خفاؤُه. كما في «روح المعاني» في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} (الكهف: 93)، في قراءة فتح السين، وضمها السُّد بالضم: الاسم، وبالفتح: المصدر. وقال ابن أبي إسحاق: الأوَّلُ ما رأته عَيْنَاك، والثاني ما لا تَرَيَاهُ. اه.(6/26)
وذكره كذلك في «البحر»، فالأمرُ إذن على الانتظار، ويَدُورُ على الإِيمان، فَلْيَنْتَظرْ، فإنهم وإن خَرَجُوا مثلاً من طريقٍ آخر، لكنَّهم لم يَخْرُجُوا على هذا التقدير من السدِّ. وإذن كان السدُّ اندكَّ، أو لم يَنْدَكَّ، لكن قد انْهَدَمَ ما بناه ذلك الملحد أساساً ورأساً على كلِّ حالٍ. وكذا لم يُفِدْهُ أكان الأروباويون منهم، أم لم يَكُونُوا، فإنهم لم يَخْرُجُوا من السدِّ، وإن خَرَجُوا على الناس. كيف وذلك المُلْحِدُ نفسه من ذُرِّيَّةِ مَأْجُوجَ على تحقيقه، فإنه من المَغُول. هذا، مع ما هو مسلَّمٌ عند الجغرافيين: أنه لم يَنْكَشِفْ إلى الآن لهم حال بعض الجبال، والقفار، والبحار.
---
ثم لمَّا كان الإِنكليزُ من الألمانيين وهم من ذِرِّيَّةِ جومر أخي مَأْجُوج، فَلَيْسُوا من نَسْلِ مَأْجُوج. ولا يُفيدُ ما ذُكِرَ في الألمان أنهم خَرَجُوا من كوه قاف، وأورال، فإن جبلَ أورال سلسلةٌ مستطيلةٌ من الشرق إلى الغرب. ولم يَكُنْ نَسْلُ مَأْجُوجَ، أو الذين سُدَّ عليهم إلاَّ في شرقه.
وذُكِرَ في «دائرة المعارف» جوج من جومر، وأنه ملك السكيثيين، فَيَأْجُوجُ إخوان مَأْجُوج، وهو كذلك عند اليهود، كما في «لقطة العجلان»، فاحذر قول الخرَّاصين. ومذهبُ السكيثيين: ميتهالوجي، أي علم الأصنام، فليسوا بني إسرائيل أيضاً. وجوج الذي هو من ذُرِّيَّةِ يعقوب رجلٌ آخر، وجوج الذي عُدَّ مع مَأْجُوجَ في كتاب حزقيل، ليس من ذُرِّيَّة يعقوب، بل هو معاذ لبني إسرائيل. فلو سُلِّمَ أن جوج والي روسيا، فليس الذي سُدَّ عليهم إياهم، بل هم بعضٌ من جوج. والذي يُعْلَمُ من كتابه: أن جوج أقربُ مسكناً، ومَأْجُوجَ أبعدُ. ولمَّا كان الأريانة، أصلَ الأروباويين، كيف يكون الأوروباويون من مَأْجُوجَ؟ وإلاَّ لكان الهنودُ منهم، إلاَّ أن يُقَالَ: إنه قد تبدَّلت ألقابهم، فهذا يجري في الأوروباويين أيضاً.(6/27)
وقد قال في «الفتح» في حديث: «أبشروا، فإن من يَأْجُوجَ ومَأْجُوج ألفاً، ومنكم رجل» قال القرطبيُّ: قوله: «من يَأْجُوجَ، ومَأْجُوجَ ألفاً»، أي منهم، وممن كان على الشِّرْكِ مثلهم، وقوله: «ومنكم رجل»، يعني من أصحابه، ومن كان مثلهم.
---
قلتُ: وهو عن عِمْران بن حُصَيْن عند الحاكم في «المستدرك»: «وأبشروا، فوالذي نفسُ محمدٍ بيده إنكم مع خَلِيقَتَيْنِ ما كانتا مع شيءٍ إلاَّ كثَّرَتَاه، يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ومَنْ هَلَكَ من بني آدم، وبني إبليس». اه. فوقع مفسَّراً، ولم يستمد به في «الفتح». وقد صحَّحه الحاكمُ، وأقرَّه الذهبيّ، فاعلمه. وقد أَخْرَجَهُ الترمذيُّ، والنَّسَائيُّ في تفسيره كذلك. ونحوه في «الدر المنثور»، عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدنَ شِيباً} (المزمل: 17).
---(6/28)
واعلم أن ما ذَكَرْتُهُ ليس تأويلاً في القرآن، بل زيادةَ شيءٍ من التاريخ والتجربة، بدون إخراج لفظه من موضعه. فلا يتَّسِعُ الخرق، فإن التاريخَ لمَّا ذَكَرَ أن بعضَ الشعود الخارجة من السَّدِّ من نَسْلِ يَأْجُوجَ أيضاً، قُلْنَا: إن ثَبَتَ، فالقرآن لم يَذْكُرْ السدَّ على كلِّهم، ولا من كلِّ جهةٍ، فَلْيَكُنْ الخارجون المذكورون من يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ولكن لَيْسُوا بمرادين في القرآن. وإن ثَبَتَ أنه اندكَّ، أو خَرَجُوا من جانبٍ آخرَ، فَلَيَكُنْ مَوْجُ بعضهم في بعضٍ متجدِّداً مستمرّاً، حتَّى يَنْزِلَ عيسى عليه السلام، فَيَخْرُجُون أيضاً من بلادهم من السَّدِّ المُنْدَكِّ، ويُفْسِدُون في الأرض حتَّى يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ تعالى بدعائه عليه السلام. كيف وقد قَالَ اللَّهُ تعالى في الأنبياء: {وحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ حَتَّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (الأنبياء: 95، 96)، أي حرامٌ عليهم غير ما نقول، وهو: أنهم لا يَرْجِعُون إلى الدنيا ثانياً، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (يس: 31)، ويَدْخُلُ تحت النفي رَجْعَةُ الروافض، وبروزُ ذلك المُلْحِدِ، فإنه جَعَلَهُ أنه هو حقيقةُ ما أَطْلَقَ عليه أنه رجوعٌ للأوَّل. وقيل: إنه سَيَرجُعُ، كما جاء في عيسى عليه السلام مرفوعاً، وقد مرَّ: «أنه رَاجِعٌ إليكم». فإن كان هذا هو حقيقةُ رجوع أحدٍ، كما افتراه أنه هو عُرْفُ الكتب السماوية، فقد حرَّمته الآية. فإن الاعتبارَ في ذلك لِمَا يسمِّيه أهلُ العُرْفِ رجوعاً، لا لغيره. وكذا مجيءُ مثيلٍ، إن كان مجيئاً مبتدأ، فليس هذا رجوعاً للأوَّل، وإن قيل: إن الرجوعَ الأوَّلَ هو هذا، فقد شَمَلَتْهُ الآية. ولا يَظْهَرُ ما قيل في الآية: إن المرادَ: حرامٌ عليهم أنهم لا(6/29)
---
يَرْجِعُون إلينا، فإنه لو كان مُرَاداً، لم يَذْكُرْ في السياق الإِهلاكَ أولاً، وإلاَّ لصار إذن ذِكْرُ الحَلِفِ على ذلك، وذِكْرُ حرمة عدم الرجوع إليه كالمستدرك.
وقد جاء في الحديث: «أن عبدَ الله بن حرام لمَّا اسْتَشْهَدَ بأحدٍ، واستدعى الله تعالى أن يُرْجِعَهُ إلى الدنيا ليستشهد ثانياً، أُجِيبَ بما في الآية»، أخرجه الترمذيُّ، وحسَّنه. وإذ لا رجوعَ إلى الدنيا، فلا تَنَاسُخَ أيضاً بنقل الأرواح في الأبدان، وإذن لا بُدَّ من القيامة، لِتُجْزَى كلُّ نفسٍ بما عَمِلَتْ. ومن أشراطها: خَرُوجُ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، فخروجُهم في قُرْبِ القيامة. ومن أشراطها: نزولُ عيسى عليه السلام قُبَيْل ذلك بصريح تواتر الأحاديث فيه {أنهم يَرَوْنَهُ بعيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} (المعارج: 6 - 7). ومعلومٌ أنه ليس من موضع القرآن استيعاب التاريخ، ولا الوقائع كلَّها. فمن اعْتَبَرَ بالتاريخ فَلْيَزِدْهُ من عنده، كأنه خارجٌ منضمٌّ. ولا يزيد التاريخ على ذلك، لمن كان له قلب، أو أَلْقى السمعَ، وهو شهيدٌ.
3348 - قوله: ({وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا})... إلخ. قيل: هو قبل الحشر. وقيل: في الحشر، وهو مُشْكِلٌ، لأنه ليست هناك حَامِلٌ، ولا مُرْضِعٌ، وقيل: إنه عند النَّفْخَةِ الأُولَى، وهي في الحشر عُرْفاً، على أن بين النفخةِ الأولَى والبعثة مدَّة أربعين سنة.
3348 - قوله: (فإنَّ مِنْكُمْ رَجُلاً ومِنْ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ألفاً)، وهذا العددُ عند الترمذيِّ مع انضمام المشركين معهم، وهو الصوابُ عندي.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125)
---
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَنِتًا} (النحل: 120). وَقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114). وَقالَ أَبُو مَيسَرَةَ: الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الحَبَشَةِ.(6/30)
باب {يَزِفُّونَ} (الصافات: 94) النَّسَلاَنُ في المَشْي
باب
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِبْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كانَتْ عائِشَةُ سَمِعَتْ هذا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم ما أُرَى أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّمتَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَينِ اللَّذَينِ يَلِيَانِ الحِجْرَ، إِلاَّ أَنَّ البَيتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقالَ إِسْماعِيلُ: عَبْدُ اللَّهِبْنُ أَبِي بَكْرٍ.
3349 - قوله: (أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام) وفي الروايات: أن نبيَّنا صلى الله عليه وسلّميُكْسَى بعده، ثم سائرَ الخَلْقِ، وذلك لأنه أوَّلُ من جُرِّدَ في سبيل الله حين قَذَفَهُ الكفَّار في النار، فَجُوزِيَ بأوَّلِ الكسوة في الحشر، وهذه فضيلةٌ جزئيَّةٌ.
3349 - قوله: (فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ})... إلخ. واعلم أنه لا تمسُّكَ فيه للمتنبيِّ الكاذب اللعين على وفاة عيسى عليه السلام، فإن هذا القولَ يَصْدُرُ منه صلى الله عليه وسلّمفي المحشر. وقد حَكَى اللَّهُ سبحانه هذا القولَ عن عيسى عليه الصلاة والسلام في القرآن، فهذه الحكايةُ ماضيةٌ بالنسبة إلى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي المحشر لا محالة، ولذا قال: «كما قال العبد الصالح»، بصيغة الماضي.
---(6/31)
3350 - قوله: (فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يا رَبِّ إنَّكَ وَعَدْتَنِي)... إلخ، وإنما تلقَّفها النبيُّ صلى الله عليه وسلّملمثل هذا الموضع على طريق الاقتباس فقط. أَلاَ تَرَى أنها وَقَعَتْ في الأصل جواباً عن سؤاله تعالى: {أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ}... إلخ (المائدة: 116)، ونبيِّنا صلى الله عليه وسلّميُسْأَلُ عن ذلِك. وإنما قال ذَلِكَ حين رأى بعضَ أصحابه يؤخذ عنه ذات الشمال، فنادى أنهم أصحابي، فقيل له: «إنَّك لا تَدْرِي ما أَحْدَثُوه بعدك». فاعْتَذَرَ عن تلك الكلمات التي بَلَغْتَ إلى مكان القَبُول على طريق الاقتباس. فإذا لم يَتَّحِدْ السؤالُ، كيف يَتَّحِدُ الجواب؟ ولكن الجواب لمَّا كان حاوياً لجميع الأطراف، والجوابُ مُرَاعِياً لسائر الآداب والعواطف، اصطفاه لاعتذاره أيضاً.
ثم إن نفيَ العِلْمِ عن نفسه من آداب حضرة الربوبية، أَلاَ تَرَى أن الملائكةَ حين اعْتَذَرُوا عن أنفسهم، قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} (البقرة: 32) وكذلك فَعَلَ الرُّسُلُ، قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ} (المائدة: 109)، وليس هذا كَذِباً، بل عَلمُ العبد بجنب علم الله متلاشىً، ولا شيء. وقد كان موسى عليه السلام نَسَبَ الأعْلَمِيَّة إلى نفسه مرَّةً، فجُوزِيَ بلقاء الخَضِر عليه الصلاة والسلام، وأَبْرَزَ له عِلْمَهُ في كلِّ موضعٍ حتَّى بموضعٍ لَقِيَهُ أيضاً، فَلَمْ يَلْقَهُ حتَّى جاز مكانه، ثم رَجَعَ على آثاره قصصاً. وقد غَفَلَ عنه الملائكةُ أولاً، فابتلوا بإِنباء الأسماء، فلم يَفْعَلُوا.
---(6/32)
وليس المَحْشَرُ موضعَ ادِّعَاء عِلْمٍ، وإن كان عندهم عِلْمٌ دون عِلْمٍ، فذلك كالعدم. والعلمُ يومئذٍ كله لعلاَّم الغيوب، ولا ينفي ذلك نفس العلم إجمالاً أصلاً، ثم ههنا كلماتٌ طويلةُ الأذيال طَوَيْنا عنها كَشْحاً لغرابة المقال، وإنما ذكرنا شيئاً سَنَحَ لنا في الحال، والأمرُ إلى الله العليِّ المتعال. تقدَّم لي شفاعته، مع أنه لا يُغْفَرُ له رجاءً في تخفيف العذاب، وتخفيفُ العذاب في حقِّ الكافرِ ثابتٌ، فإن قُرُبَاتِهِ نافعةٌ البتة، كما مرَّ تحقيقه. وإن أبا طالبٍ يكون في ضَحْضَاحٍ من النار، على أنه ناظرٌ إذ ذاك إلى وعده تعالى، ولذا قال: «إنك وَعَدْتَني أن لا تخْزِيَنِي يومَ يُبْعَثُون»، فَحَمَلَهُ على العموم.
3350 - قوله: (فإذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ) قال الشيخُ الأكبرُ: وإنما مُسِخَ في هذه الصورة لتنقطعَ عنه شفقةُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
3351 - قوله: (أَمَّا هُمْ، فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ المَلاَئِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ صُورَةٌ)، وفيه دليلٌ على كونه مشهوراً فيما بينهم أيضاً، ولعلَّه كان في الأديان السماوية السابقة أيضاً.
3356 - قوله: (اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام، وهُوَ ابنُ ثَمَانِينَ سَنَةً) فلمَّا شَكَا إلى ربِّه بالوجع، قال الله تعالى: لِمَ عَجِلْتَ، وما انتظرتَ أمري؟ فسبحان الله من معاملات الأنبياء عليهم السلام مع ربِّهم، فاقدر من ذلك أحوالهم. ولو فَعَلَ نحوَه أحدٌ من العوامِّ لغُفِرَ له، وهؤلاء يُعَاتَبُون عليه. نعم الكمالُ في الامتثال، والنظرُ إلى الله سبحانه في كلِّ حالٍ.
3358 - قوله: (ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ) تَسَامَحَ فيه الراوي، وإلاَّ فلم يَقْدِرْ عدوُ اللَّهِ على التناول، ولكنه ذَهَبَ ليتناول، فَأُخِذَ، كما في اللفظِ الأوَّلِ.
---(6/33)
3359 - قوله: (أَمَرَ بِقَتْلِ الوَزَغِ)، فيه دليلٌ على تقسيم الحيوانات أيضاً إلى الخبيث والطيب، كالإِنسان، وكان الوَزَغُ يَنْفُخُ في النار التي أُوقِدَتْ لخليل الله عليه الصلاة والسلام والتسليم، كما في البخاريِّ، فأمر بقتله.
وعند مسلم ما يَدُلُّ على الوعد بقتله بضربةٍ.
3362 - قوله: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلاَ أَنَّهَا عَجِلَتْ لَكَانَ زَمْزَمَ عَيْناً مَعِيناً) وحديثها: أنها لمَّا وَلَدَتْ إسماعيلَ عليه الصلاة والسلام غَارَتْ عليه سارة، وقالت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: فرِّق بيني وبينها، فَتَرَكَ هاجر عند البيت، عند أَكَمَةٍ، ولم تكن هناك عمارة إذ ذاك، ولا ماء، وهنالك دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عند عَقِب الأَكَمَةِ: {رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} (إبراهيم: 37)، ورفع يديه إلى آخر القصة، كما سَرَدَها البخاريُّ.
واعلم أن في «تاريخ ديار بكر»: أن رَفْعَ اليدين سنةٌ إبراهيميَّةٌ، وجرَّه الشافعية إلى مذهبهم، وحَمَلَه الحنفيةُ على التحريمة. وهو عندي خارجٌ عن موضع النزاع، لأن ما ذكره من رفع يديه هو الرفع في الدعاء، فَنَقَلُوه إلى الصلاة، من عَجَلَةٍ تعتري المرء عند الظَّفر بالمقصود.
---(6/34)
فائدة: اشتهر عند أصحاب التاريخ أن ابتداءَ تعمير مكة من زمن إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ويُسْتَفَادُ من رواية الترمذيِّ من قصة وفد عاد، أنها كانت موضعاً مشتهراً بإِجابة الدعوة. وبَعَثَ إليه عادٌ أناساً، فَنَزَلُوا بها، إلى آخر القصة. أقولُ: لا ريب أنها كانت محلاًّ مكرَّماً من زمنٍ قديمٍ، إلاَّ أنه يمكن أن تكونَ خَرِبَتْ في البين، ثم ابْتُدِىء تعميرها من زمن إسماعيل عليه الصلاة والسلام. وفي التاريخ: ذكرٌ للأسباط الذين دَخَلُوا مكة من عادٍ. وكانت سلطنتهم على إيران أيضاً، فإن الضحَّاك منهم، فإنه ابن أخٍ لعاد، وكانت سلطنتهم على الشام، ومصر، والعراق أيضاً.
3364 - قوله: (ذَاكِ أِبي، وقَدْ أَمَرَني أَنْ أُفَارِقَكِ، إلْحَقِي بِأَهْلِكِ) واعلم أنه من ألفاظ الكِنَايَات، والواقعُ بها بوائنٌ عندنا. وفي مبسوطات الفِقْهِ: أن الواحدَ البائنَ أيضا بِدَعِيٌّ؛ فكيف طلَّق به إسماعيلُ عليه الصلاة والسلام؟ والجواب عندي، واستفدته من مسألةٍ عن محمد في «المنتقى»، وهي: أن الخُلْعَ جائزٌ في حالة الحَيْضِ، مع أن الخُلْعَ طلاقٌ بائنٌ، والطلاقُ في حالة الحيض بِدَعِيٌّ، فإذا ثَبَتَ الجوازُ في موضعٍ لأجل الضرورة، قِسْتُ عليه جوازه في مَوْضِعٍ آخرَ أيضاً، وهو عندي: عدم التوافق والعزمُ على تركها بالكليَّة.
---(6/35)
3366 - قوله: (قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنَةً) قيل: إن المسجدَ الأقصى من تعمير سليمان عليه الصلاة والسلام، وإن كان ابتداؤُه من داود عليه الصلاة والسلام، وبينه وبين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قرونٌ متطاولةٌ. والجوابُ على ما اختاره ابن القيِّم: أن تعيينَ مكان المسجد الأقصى كان من يد إسحاق عليه الصلاة والسلام، فإنه كان غَرَزَ وَتَداً هناك، كما في التوراة. فأمكن أن تكونَ المدَّةُ المذكورةُ بين البناءين بهذا الاعتبار. وللقوم ههنا أجوبةٌ أخرى، ذَكَرَها الشارِحُون. وقد قدَّمنا الكلامَ في تحقيق القِبْلَتَيْن في باب الإِيمان، وأن الأقربَ عندنا أنهما من بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فإن الذبيحَ عندي اثنان. وكان إسحاقُ عليه الصلاة والسَّلام قُرِّبَ به في بيت المقدس، وإسماعيلُ عليه الصلاة والسلام في مكة، فكانتا قِبْلَتَيْنِ لبني إسرائيل، وبني إسماعيل.
فإذا عَلِمْتَ أنهما قِبْلَتَان إبراهيميتان، وأن الذبيحَ اثنان. وأنه ما معنى قوله: «أنا ابن الذبيحين»، فاعلم أن التقسيمَ بينهما، كان إمَّا باعتبار البلاد، أو الأقوام. فكان أهلُ المدينة يَسْتَقْبِلُون بيت المقدس لكونهم في عِدَاد من كانت قبلتهم بيت المَقْدِس، فمشى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإلى ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً، وحينئذٍ لا يَحْتَاج إلى القول بالنَّسْخِ.
3366 - قوله: (ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّهْ) وقَد مرَّ منِّي: أن مراقبةَ الأوقاتِ كانت أهمَّ قبل بناء المساجد، وبعد بنائها صارت الصلاة فيها مطلوبةً. فالزمانُ والمكانُ كلاهما مطلوبان في شرعنا، وإن كان أحدُهما أَقْدَمَ من الآخر.
---(6/36)
3370 - قوله: (كما بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وعلى آل إبراهيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وفيه إشارةٌ إلى ما في القرآن من لفظ الملائكة لمَّا نَزَلُوا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: 73).
3371 - قوله: ({بكلمات التَّامَّةِ}) (هود: 73). وكلماتُه تعالى تامَّةٌ كلُّها بلا ريب. أمَّا الهَامَّةُ، فقيل: إنها المُؤْذِيَات، وقيل: الهَامَة - بتخفيف الميم : حيوانٌ من خصائصه الخَرَابُ حيثما تصوَّت. وقيل: كان طائرٌ يَخْرُجُ من رأس المقتول، يقول: اسقوني اسقوني، حتى يُؤْخَذَ بدمه. وكان كلُّ ذلك من معتقداتهم السوآى.
3371 - قوله: (عَيْنٍ لاَمَّةٍ): أي التي تَلُمُّ بِكَ j) بهئكنى والى هو.
باب
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيفِ إِبْرَاهِيمَ إِذ دخلوا عليه} الآية (الحجر: 51) لا تَوْجَلْ: لا تَخَفْ {وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى} إِلى قوله: {وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} (البقرة: 260).
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِسْمَعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَدِقَ الْوَعْدِ} (مريم: 54)
باب قِصَّةِ إِسْحاقَبْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِمَا السَّلاَم
فِيهِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133)
باب
---
{(6/37)
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَهَا مِنَ الْغَبِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} (النمل: 54 - 58).
باب {فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ المُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (الحجر: 62)
{بِرُكْنِهِ} (الذاريات: 39): بِمَنْ مَعَهُ لأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ. {تَرْكَنُواْ} (هود: 113) تَمِيلوا. فَأَنْكَرَهُمْ وَنَكِرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ. {يُهْرَعُونَ} (هود: 78): يُسْرِعُونَ، {دَابِرُ} (الحجر: 66) آخِرَ. {صَيْحَةً} (يس: 29) هَلَكَةٌ. {لِلمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر: 75). لِلنَّاظِرِينَ. {لَبِسَبِيلٍ} (الحجر: 76): لَبِطَرِيقٍ.
---(6/38)
قوله: ({قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}) واسْتَشْكَلُوا هذا السؤال. قلتُ: وفي الكلام أنواعٌ لم يتعرَّض إليها النحاةُ، منها ما لا يكونُ له محكى عنه، لا عند المتكلِّمِ، ولا عند المُخَاطَبِ، كالكلام عند مُعَاتَبَةٍ أو مُلاَطَفَةٍ، أو مُطَايَبَةٍ، كما تقول لخادمك: ما شَأْنُكَ تعصيني في كلِّ أمرٍ. ولا تُطِيعُنِي، مع عِلْمِكَ أنه مخلصٌ لك، ولا يكون في ذهن المخاطب أيضاً، أنك تُذْعِنُ به عن جَذْرِ قلبك، ولكنك تُخْرِجُهُ للتهويل عبارةً. والتبكيت معارضةً في اللفظ، لا غير. ولو دوَّن الناسُ ما عند البُلَغَاء من أنحاء الكلام، لارتفع أكثرُ الإِشكالات، فإنها تكونُ من هذا القبيل، وقد نبَّه على بعضها أهل المعاني. ويمكن دَرْجُه في الخبر، ولكن ليس المقصود منه الخبر، بل لازمُ فائدة الخبر، على اصطلاحهم. وصرَّح التَّفْتَازانيُّ في «المطوَّل»: أن للخبرِ فوائدَ أخرى، كالتحزُّن، والتحسُّر أيضاً.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحًا} (هود: 61)
وقَوْلِهِ: {كَذَّبَ أَصْحَبُ الحِجْرِ} (الحجر: 80) مَوْضِعُ ثَمُودَ. وَأَمَّا {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} (الأنعام: 138) حَرَامٌ، وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهُوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ، وَالحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيتَهُ، وَما حَجَرْتَ عَلَيهِ مِنَ الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ البَيتِ حِجْراً، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ، مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ، وَيُقَالُ لِلأُنْثى مِنَ الخَيْلِ الحِجْرُ، وَيُقَالُ لِلعَقْلِ حِجْرٌ وَحِجًى. وَأَمَّا حَجْرُ اليَمَامَةِ فَهُوَ مَنْزِلٌ.
باب {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} (البقرة: 133)
---
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَتٌ لّلسَّآئِلِينَ} (يوسف: 7)(6/39)
قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ {اسْتَيْأَسُواْ} افتَعَلُوا، مِنْ يَئِسْتُ {مِنْهُ} (يوسف: 80) مِنْ يُوسُفَ {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} (يوسف: 87) مَعْنَاهُ الرَّجاءُ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء: 83)
{ارْكُضْ} (ص: 42): اضْرِبْ، {يَرْكُضُونَ} (الأنبياء: 12) يَعْدُونَ.
باب قَوْلِ الله: {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَدَيْنَهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} كَلَّمَهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَرُونَ نَبِيّاً} (مريم: 51 - 53)
يُقَالُ لِلوَاحِدِ وَلِلاِثْنَينِ وَالجَمِيعِ نَجِيٌّ، وَيُقَالُ: {خَلَصُواْ نَجِيّا} (يوسف: 80) اعْتَزَلُوا نَجِيّاً. وَالجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ. {تَلْقَفُ} (الأعراف: 117): تَلَقَّمُ.
باب {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَنَهُ}إِلَى قَوْلِهِ: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
النَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي يُطْلِعُهُ بِمَا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيرِهِ.
باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل
{وَهَل أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأَى نَاراً} إِلَى قَوْلِهِ: {بِالوَادِي المُقَدَّسِ طُوى} (طه: 9 - 12)، {ءانَسْتُ} (طه: 10) أَبْصَرْتُ {نَاراً لَّعَلّى آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ} (طه: 10) الآية.
---(6/40)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: المُقَدَّسُ: المُبَارَكُ، {طُوى}: اسْمُ الوَادِي. {سِيَرتَهَا} (طه: 21) حَالَتَهَا. وَ{النُّهَى} (طه: 54): التُّقَى. {بِمَلْكِنَا} (طه: 87) بِأَمْرِنَا. {هَوَى} (طه: 81) شَقِيَ. {فَارِغاً} (القصص: 10) إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسى. {رِدْأً} (القصص: 34) كَي يُصَدِّقَنِي، وَيُقَالُ: مُغِيثاً أَوْ مُعِيناً. يَبْطُشُ وَيَبْطِشُ. {يَأْتَمِرُونَ} (القصص: 20) يَتَشَاوَرُونَ. وَالجِذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الخَشَبِ لَيسَ فِيهَا لَهَبٌ. {سَنَشُدُّ} (القصص: 35) سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيئاً فَقَدْ جَعَلتَ لَهُ عَضُداً. وَقَالَ غَيرُهُ: كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهيَ عُقْدَةٌ.
{أَزْرِي} (طه: 31) ظَهْرِي. {فَيُسْحِتَكُم} (طه: 61) فَيُهْلِكَكُمْ. {المُثْلَى}: (طه: 63) تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ، يَقُولُ: بِدِينِكُمْ، يُقَالُ: خُذِ المُثْلَى خُذِ الأَمْثَل. {ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً} (طه: 64): يُقَالُ: هَل أَتَيتَ الصَّفَّ اليَوْمَ، يَعْنِي المُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ. {فَأَوْجَسَ} أَضْمَرَ خَوْفاً، فَذَهَبَتِ الوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} (طه: 67) لِكَسْرَةِ الخَاءِ. {فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) عَلَى جُذُوعِ. {خَطْبُكَ} (طه: 95) بَالُكَ. {مِسَاسَ} (طه: 97) مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاساً. {لَنَنسِفَنَّهُ} (طه: 17) لَنُذْرِيَنَّهُ. الضَّحاءُ الحَرُّ {قُصّيهِ} (القصص: 11) اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ تَقُصَّ الكَلاَمَ. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} (يوسف: 77) {عَن جُنُبٍ} (القصص: 11) عَنْ بُعْدٍ، وَعَنْ جَنَابَةٍ وَعَنِ اجْتِنَابٍ وَاحِدٌ.
---(6/41)
قَالَ مُجَاهِدٌ {عَلَى قَدَرٍ} (طه: 40) مَوْعِد. {وَلاَ تَنِيَا} (طه: 42) لا تَضْعُفَا. {يَبَساً} (طه: 77) يَابِساً. {مّن زِينَةِ الْقَوْمِ} (طه: 87) الحُلِيِّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. {فَقَذَفتُهَا} أَلقَيتُهَا. {أَلْقَى} (طه: 87) صَنَعَ. {فَنَسِىَ} (طه 88) مُوسى، هُمْ يَقُولُونَهُ: أَخْطَأَ الرَّبُّ. {أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَيهِمْ قَوْلاً} (طه: 87) فِي العِجْلِ.
تَابَعَهُ ثَابِتٌ، وَعَبَّادُبْنُ أَبِي عَلِيّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَنَهُ} إلى قوله: {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
باب {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (طه:9) {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء:164)
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ؛ وَقَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَرُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ؛ وَلَمَّا جَآء مُوسَى لِمِيقَتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 141 - 143).
---
يُقَالُ: دَكَّهُ زَلزَلَهُ، {فَدُكَّتَا} (الحاقة: 14) فَدُكِكْنَ، جَعَل الجِبَالَ كالوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنَّ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} (الأنبياء: 30)، وَلَمْ يَقُل: كُنَّ، رَتْقاً: مُلتَصِقَتَينِ، {وَأُشْرِبُواْ} (البقرة: 93) ثَوْبٌ مُشربٌ مَصْبُوغٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {انْبَجَسَتْ} (الأعراف: 160) انْفَجَرَتْ، {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} (الأعراف: 171) رَفَعْنَا.(6/42)
قوله: (وَمَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ): بارلكانا، واعلم أن ثمودَ يُقَالُ لبقايا عادٍ، ولذا يُقَال: عادٌ الأُولَى، وعادٌ الثانية. فصالحُ عليه الصلاة والسلام قد مضى قبل إبراهيم عليه السلام باتفاق المؤرِّخين، فلا أَدْرِي ما حمل المصنِّفُ على سوء هذا الترتيب، فإنه ذَكَرَهُ بعده، مع أنه قبله.
3379 - قوله: (وأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ العَجِينَ)، فيه دليلٌ على أن الشيءَ إذا كان فيه نوعُ خَبَثٍ، يجوز له أن يَدْفَعَهُ عن نفسه، ويُؤْكِلَهُ حيواناً. وعند الترمذيِّ: «أن رجلاً سَأَلَهُ عن كسب الحِجَامة، فلم يُرَخِّص له فيه، وأمر أن يُؤْكِلَهُ عبده». وكان هذا موضعاً مُشْكِلاً، فإنه دَفْعٌ للمكروه عن نفسه، وإلقاءٌ على الآخر، فَأَرْشَدَ إليه الحديث أنه يَجُوزُ بمثل هذا. وقد بَلَغَنَا أن الشيخَ مولانا محمد يعقوب - قُدِّس سرُّه، من أساتذة علماء ديوبند - دُعِيَ إلى بعض طعامٍ، فلم يَذْهَبْ إليه بنفسه، وبَعَثَ إليه بعضَ الطلبة، فكأنه عمل بالتورُّع لنفسه، ورأى الطلبةَ أبناءَ سبيل، فلهم أن يملؤوا بطونَهم بأيِّ نوعٍ تيسَّر لهم، وإن لم يكن أفضل.
باب طُوفانٍ مِنَ السَّيل
---
ويُقَالُ لِلمَوْتِ الكَثِيرِ طوفانٌ، {وَالْقُمَّلَ} (الأعراف: 133): الحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الحَلَمِ. {حَقِيقٌ} (الأعراف: 105) حَقٌّ. {سُقِطَ} (الأعراف: 149) كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِط فِي يَدِهِ.
باب حَدِيثُ الخَضِرِ مَعَ مُوسى عَلَيهِمَا السَّلاَم
ثُمَّ قَالَ لِي سُفيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَينِ وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ، قِيلَ لِسُفيَانَ: حَفِظْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ تَحَفَّظْتَهُ مِنْ إِنْسَانٍ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ أَتَحَفَّظُهُ؟ وَرَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ عَمْرٍو غَيرِي؟ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَينِ، أَوْ ثَلاَثاً، وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ.
باب(6/43)
باب {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} (الأعراف: 138)
{مُتَبَّرٌ} (الأعراف: 139) خُسْرَانٌ. {وَلِيُتَبّرُواْ} يُدَمِّرُوا {مَا عَلَوْاْ} (الإِسراء: 7) مَا غَلَبُوا.
---
والمشهورُ أنه أرمياء عليه السلام. أقولُ: وهو غَلَطٌ، لأن أرمياء عليه الصلاة والسلام بعد خمس مئة سنة بعد موسى عليه الصلاة والسلام، ولأن الخَضِر كان في زمنه. على أنه ثَبَتَ وفاةُ أرمياء عليه الصلاة والسلام، وأمَّا وفاةُ الخَضِر عليه السلام، فهم فيه مُخْتَلِفُون بعدُ. ثم لو قُلْنَا: إنه أرمياء عليه السلام لَزِمَ أن لا يكون صاحبَ موسى عليه الصلاة والسلام هو الخَضِرُ المعروفُ، أو لا يكون موسى هو موسى بني إسرائيل، لعدم المُعَاصَرَةِ بين موسى عليه الصلاة والسلام، وأرمياء عليه السلام. وهذا النزاعُ الذي مرَّ في كتاب العلم من اختصام الرجلين: أن موسى هل هو موسى بني إسرائيل، أو غيره؟ وكذا اختصامُ رجلين آخرين في صاحب موسى عليه الصلاة والسلام: أنه الخَضِرُ عليه الصلاة والسلام. أو رجلٌ آخر؟ فهما يُرِيدَان ثبوتَ المُعَاصَرَةِ بينهما، ولا يُمْكِنُ إلاَّ أن يكونَ الخَضِرُ صاحبَ موسى، هو الخَضِرُ المعروفُ عليهما الصلاة والسلام.
باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} (البقرة: 67) الآيَة
باب وَفَاةِ مُوسى وَذِكْره بَعْد
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم نَحْوَهُ.
وإنما زاد قوله، وذكره بعد، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «فلو كنت ثَمَّةَ لأَرَيْتُكُم»، ولكنه لم يَكُنْ هناك.
3408 - قوله: (فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ) والتحقيقُ: أن الأحياءُ يَمُوتُون، والأرواحَ يُغْشَى عليها، ويكون هذا الغَشْيُ موتاً لهم، كذا ذكره الصدرُ الشِّيرَازِيُّ. وقد مرَّ الكلامُ فيه مبسوطاً.
---(6/44)
واعلم أن موسى عليه السَّلام، إنما أُعْطِي معجزة قلب العصا حيَّةً، لأنها كانت أعظمها عندهم، كما يُعْلَمُ من قصة السَّحَرَةِ، حيث أَلْقُوا حبالهم، فَخُيِّلَ إليه كأنها حيَّات، وقال تعالى: {وَجَآءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 116). فلذا أُوتِي موسى عليه السلام أيضاً، ممَّا تَعَاظَمُوه فيما بينهم، وإن كانت الحيَّةُ من أخبث الحيوانات.l
ثم أُعْطِي له اليدُ البيضاءُ معجزةً أخرى، تلافياً لِمَا يظنَّ في يده من سوء، والله أعلم.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 11، 12).
باب {إِنَّ قَرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} (القصص: 76) الآيَة
{لَتَنُوأُ} (القصص: 76): لَتَثْقُلُ، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُوْلِى الْقُوَّةِ} (القصص: 76): لاَ يَرْفَعُهَا العُصْبَة مِنَ الرِّجَالِ. يُقَالُ: {الْفَرِحِينَ} (القصص: 76): المَرِحِينَ. {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} (القصص: 82) مِثْلُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ. {يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَآء وَيَقَدِرُ} (الرعد: 26) وَيُوَسِّعُ عَلَيهِ وَيُضَيِّقُ.
ورُوِي كما في «الكبريت الأحمر»: أن داودَ عليه السلام كان يَصُوم يوماً، ويُفْطِرُ يوماً. وكانت مريمُ عليها السلام تَصُومُ يومين وتُفْطِرُ يوماً، فلمَّا جاء عيسى عليه الصلاة والسلام، صَامَ الدهرَ.
قوله: (وَيْكَأَنَّ) قيل: هو مركَّبٌ من المضاف، والمضاف إليه، مثل رُوَيْدَك. وقيل: إن «وي» حرف تعجُّبٍ، و«كأن» حرفُ التشبيه.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (هود: 84)
---(6/45)
إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ، وَمِثْلُهُ: {وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وَاسْأَلِ العِيرَ (يوسف: 82) يَعْنِي أَهْلَ القَرْيَةِ وَأَهْلَ العِيرِ. {وَرَآءكُمْ ظِهْرِيّاً} (هود: 92) لَمْ يَلتَفِتُوا إِلَيهِ، يُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ حاجَتَهُ: ظَهَرْتَ حاجَتِي وَجَعَلتَنِي ظِهْرِيّاً.
قَالَ: الظِّهْرِيُّ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ. مَكانَتُهُمْ وَمَكانُهُمْ وَاحِدٌ. {يَغْنَوْاْ} (الأعراف: 92) يَعِيشُوا. {يَأْيَسُ} (المائدة: 26) يَحْزَنُ. {ءاسَى} (الأعراف: 93) أَحْزَنُ.
وَقالَ الحَسَنُ: {إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ} (هود: 87) يَسْتَهْزِؤُونَ بِهِ.
وَقالَ مُجَاهِدٌ: لَيكَةُ الأَيكَةُ. {يَوْمِ الظُّلَّةِ} (الشعراء: 189) إِظْلاَلُ العَذَاب عَلَيهِمْ.
واعْلَمْ أن اسمه في التوراة: يثروب، كما أن اسم عيسى عليه الصلاة والسلام: يشوع، وأيشوع. ولمَّا نَزَلَ القرآنُ بلغة العرب، اختار ما كان المعروف عندهم، أعني: شُعَيْباً، وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
قوله: (لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ) واعْلَمْ أن مَدْيَان اسم لابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، من بطن قنطوراء، وهي امرآةٌ نَكَحَها بعد هاجر، ثم سمَّى البلدَ على اسمه: مَدْيَنَ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لله} (الصافات: 139) - إلى قوله - {وَهُوَ مُلِيمٌ} (الصافات: 142) قال مجاهد: مذنب. المشحون: الموقر. {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ} الآية {فَنَبَذْنَهُ بِالْعَرَآء} بوجه الأَرض {وهو سقيم وأَنبتنا عليه شجرة من يقطين} من غير ذات أَصل، الدباء ونحوه.
{وَأَرْسَلْنَهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فآمنوا فمتعناهم إلى حين}.
---
{وَلاَ تَكُن كَصَحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم: 48) {كَظِيمٌ} وَهُوَ مَغْمُومٌ.
باب
{(6/46)
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ يُجَاوِزُونَ في السَّبْتِ {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} (الأعراف: 163) شَوَارِعَ، إِلَى قَوْلِهِ: {كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ} (الأعراف: 166).
قوله: (أَوْ يَزِيدُونَ) قال الفرَّاء: إن «أو» بمعنى: بل. وقال الآخرون: إنه تعالى أتى بحرف الإِبهام قَصْداً، لعدم إرادة الاطلاع بحقيقة أعدادهم. قيل: إنَّهم كانوا 000و120.
3414 - قوله: (فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) قال بعضُ الشارحين: إنه أبو بكر رضي الله عنه، وإطلاقُ الأنصار عليه باعتبار اللغة، ولعلَّه تكونُ عندهم روايةٌ على ذلك.
3414 - قوله: (فَغَضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم؟، وفيه تصريحٌ بالغضب، ولم يَكُنْ وَرَدَ في طريقٍ بعدُ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} (النساء: 163)
الزُّبُرُ: الكُتُبُ، وَاحِدُهَا زَبُورٌ، زَبَرْتُ: كَتَبْتُ. {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ} قالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ {وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ؛ أَنِ اعْمَلْ سَبِغَتٍ} الدُّرُوعَ، {وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ} المَسَامِيرِ وَالحَلَقِ، وَلاَ يُدِقَّ المِسْمارَ فَيَتَسَلسَلَ، وَلاَ تُعَظِّمْ فَيَفصِمَ {وَاعْمَلُواْ صَلِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سبأ: 10 - 11).
---
باب أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ: كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْماً وَيُفطِرُ يَوْما
قالَ عَلِيٌّ: وَهُوَ قَوْلُ عائِشَةَ: ما أَلفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِماً.(6/47)
قوله: (يا جِبَالُ أَوِّبي مَعَهُ والطَّيْرَ)، قال ابنُ هشامٍ: لم أَجِدْ في القرآن مِثَالاً لمفعولٍ معه. قلتُ: بل هو كثيرٌ، كما عَلِمْتَ منَّا سابقاً، وقوله: {وَالطَّيْرَ} أيضاً من هذا القبيل. وقد تكلَّمنا عليه مبسوطاً في «الطهارة».
3417 - قوله: (خُفِّفَ على دَاوُدَ القُرْآنُ)، وهذه مسألةُ طيِّ الزمان، ونشره، وهو من مصطلحات الشيخ الأكبر، ويَسْتَعْمِلُهُ كثيراً، ولكنه لم يفسِّرهْ في موضعٍ. ومن علومه: أنه يقرِّرُ المسائلَ في ابتداء كلّ بابٍ، ثم يَذْكُرُ علوماً كثيرةً من هذا الموطن في آخره، ولا يقرِّرُها، ومنها هذه المسألةُ.
باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
---
قالَ مُجَاهِدٌ: الفَهْمُ في القَضَاءِ {وَلاَ تُشْطِطْ} لاَ تُسْرِف {وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآء الصّرطِ ؛ إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، يُقَالُ لِلمَرْأَةِ نَعْجَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا أَيضاً شَاةٌ، {وَلِى نَعْجَةٌ وحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} (ص: 22، 23) مِثْلُ {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران: 37) ضَمَّهَا. {وَعَزَّنِى} غَلَبَنِي، صَارَ أَعَزَّ مِنِّي، أَعْزَزْتُهُ جَعَلتُهُ عَزِيزاً {فِى الْخِطَابِ} يُقَالُ المُحَاوَرَةُ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَآء} الشُّرَكَاءِ {لَيَبْغِى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنَّمَا فَتَنَّهُ} (ص: 23 - 24). قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ، وَقَرَأَ عُمَرُ: فَتَّنَّاهُ، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (ص: 24).
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}الرَّاجِعُ المُنِيب
---(6/48)
وقَوْلِهِ: {وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} (ص: 35)، وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلكِ سُلَيمانَ} (البقرة: 102). {وَلِسُلَيْمَنَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أَذَبْنَا لَهُ عَينَ الحَدِيدِ {وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِن مَّحَرِيبَ} (سبأ: 12، 13) قالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ ما دُون القُصُورِ {وَتَمَثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} كالحِيَاضِ لِلإِبِلِ، وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كالجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ {وَقُدُورٍ رسِيَتٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {الشَّكُورُ} (سبأ: 13) {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ} الأَرَضَةُ {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} عَصَاهُ، {فَلَمَّا خَرَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {المُهِين} (سبأ: 14) {حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى} (ص: 32) مِنْ ذِكْرِ رَبِّي، {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاْعْنَاقِ} (ص: 33) يَمْسَحُ أَعْرَافَ الخَيلِ وَعَرَاقِيبَهَا. {الاْصْفَادِ} (ص: 38) الوَثَاقُ.
وقالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّفِنَتُ} صَفَنَ الفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الحَافِرِ {الْجِيَادُ} (ص: 31) السِّرَاعُ {جَسَداً} (ص: 34) شَيطَاناً {رُخَآء} طَيِّبَةً {حَيْثُ أَصَابَ} (ص: 36) حَيثُ شَاءَ. {فَامْنُنْ} أَعْطِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} (ص: 39) بِغَيرِ حَرَجٍ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 12 - 18)
{وَلاَ تُصَعّرْ} (لقمان: 18) الإِعْرَاضُ بِالوَجْهِ.
---(6/49)
قوله: ({وَفَصْلَ الْخِطَابِ}) وفي روايةٍ ضعيفةٍ: أن المرادَ منه: أمَّا بعدُ، وأوَّلُ من تكلَّم بها هو داود عليه السلام.
قوله: ({تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}) واعلم أن ما ذَكَرَهُ أصحابُ التفسير في قصته باطلٌ لا أصلَ له ولا نَعْلَمُ فيه نقلاً إسلامياً، وكلُّ ما بَلَغَنَا فيه، فمن نقول الكُتُبِ السابقةِ.
والذي تبيَّن لي في هذا البابِ: هو أن يُكْتَفَى بما في «مستدرك الحاكم» بإِسنادٍ صحيحٍ: «أن داودَ عليه الصلاة والسَّلام لمَّا أَمَرَهُ سبحانه أن {اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً} (سبأ: 13)، قسَّم أيامه للعبادة، فجعل يوماً لنفسه، ويوماً لِعِيَالِهِ، ويوماً لعبادة ربِّه، ويوماً لفظل الخُصُومَاتِ. ومرَّ على ذلك زمانٌ حتَّى أعجبه النظم لعبادته، فَفَرِحَ بذلك، وظنَّ أنه قَلَّ منهم من يكون عنده نظمٌ في العبادة مثله، فقيل له: يا داود إنا نُفْتِنُكَ، فقال: علِّمني اليوم الذي أُفْتَتَنُ فيه. فقال له ربه: لا. فابتلاه ربه، بأن صَعِدَ الملائكةُ على جدار بيته، واسْتُفْتُوهُ عن قضيةٍ مفروضةٍ: له تسعٌ وتسعون نعجةً... إلخ، سواء كان المراد منها الشاة، أو غيرها. فَقَضَى داودُ عليه الصلاة والسلام منهم التعجُّب، أنهم كيف وَصَلُوا إليه في يوم عبادته مع الحراسة، والانتظام الشديد، وقد تمَّ الابتلاءُ بهذا القدر فقط.
قوله: ({فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ})، فيه دليلٌ على مذهب الحنفية: أن الركوعَ يَنُوبُ عن سجود التلاوة. واسْتَحْسَنَهُ الرازيُّ في «تفسيره». وأَوْرَدَ عليه الشيخ ابن الهُمَام أنه لَمَّا كان المقصودُ من لفظ الركوع هو السُّجُودُ، لم يَتِمَّ الاستدلال، لأن العِبْرَةَ للمعنى دون اللفظ المجرَّد. قلتُ: رُبَّ أحكامٍ تُبْنَى على ألفاظ القرآن أيضاً، فألفاظُه ليست مطروحةً، فإِطلاقُ الركوع على السجود يُتِمُّ الاستدلال.
---(6/50)
قوله: ({فَطَفِقَ مَسْحاً}) يَمْسَحُ أَعْرَافَ الخيل وعراقيبها. ولم يَصِحَّ ما نُقِلَ من ذبح الخيل، فل علينا أن لا نُسَلِّمَهُ، مع أن فيه إضاعةُ المال، وذَبْحُ الحيوان. والأَوْلَى أن يُقْتَصَرَ على لفظ القرآن، وليس فيه إلاَّ المسح. والظاهرُ أنه كان شفقةً، فإن صاحبَ الخيل إذا أَحَبَّهَا مَسَحَ نواصيها، وأكفالَها، وأَعْرَافَها.
قوله: ({فَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً})... إلخ، وفسَّره المصنِّفُ بالشيطان، وهو غَلَطٌ صريحٌ. والسِّرُّ في ذلك: أن المصنِّفَ دوَّن تفسيرَه من كتاب أبي عُبَيْدَة، فاحتوى كتابه أيضاً على ما كان في كتابه من الأقوال المرجوحة. ويُمْكِنُ تأويله: أن اللَّهَ سبحانه ألقاه على كُرْسِيِّهِ، لإِراءته أنه ليس في يده شيءٌ، كما أنه أَدْخَلَ المُتَخَاصِمَيْن في بيت داود عليه الصلاة والسلام، فتحيَّر منه. وأمَّا ما وراء ذلك، فكلُّه كَذِبٌ لا أصلَ له. ولئن سلَّمناه، فلعلَّه كان جَسِماً مثالثاً، أُرِيَ بطريقٍ عارضيَ. قال الشيخُ الأكبرُ: إن الجسمَ يُقَالُ للجسم الناسوتي، والجسد للبدن المثالي، فلعلَّه كان بدناً مثالياً لجنَ. والله تعالى أعلم.
3427 - قوله: (ائْتُوني بالسِّكِّين أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا) وأنت تَعْلمُ أنه لم يَكُنْ من نيَّته الشقُّ في الواقع، وإنما أَرَادَ منه التبيُّن، والاختبار. فلا يُقَالُ لمثله: كَذِبٌ، فهذا نوعٌ من الكلام، كما مرَّ التنبيه عليه.
باب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَبَ القَرْيَةِ} (يس: 13) الآية
{فَعَزَّزْنَا} (يس: 14): قالَ مُجَاهِدٌ: شَدَّدْنَا. وَقالُ ابْنُ عَبَّاسٍ {طَائِرُكُمْ} (يس: 19) مَصَائِبُكُمْ.
---(6/51)
والمرادُ منهم رسلُ عيسى عليه السلام، فهذه قصةٌ بعد زمان عيسى عليه السلام. وقيل: إنها قصةٌ قبل زمانه. ثم إنه لم يَثْبُتْ نبيٌّ بعد عيسى عليه السلام قبل بعثته صلى الله عليه وسلّمفي النقول الإِسلامية. نعم، ومن مَسْخِ طباع الإِنجيليين حيث ألحقوا حصةً في أواخر الإِنجيل، وسمَّوْهُ رُسُلاً، وهم الحواريُّون. ثم يقولون: إنهم مُلْهَمُون مَعْصُومُون، كالرُّسُلِ، وأطلقوا عليهم الرُّسُلَ أيضاً. وأمَّا ما ذَهَبَ إليه الشيخُ الأكبرُ من بقاء النبوة من غير تشريعٍ، فهو اصطلاحٌ جديدٌ منه، فإنه يُطْلِقُ النبوة على الكَشْفِ والإِلهام أيضاً، وقد مهَّدناه في رسالتنا «خاتم النبيين».
وبالجملة لم يَثْبُتْ بعثةُ نبيَ بعد عيسى عليه الصلاة والسلام، قيل: في زمن نبينا صلى الله عليه وسلّم إلاَّ ما أَرْجَف به الإِنجيليون، فقالوا: إن الحواريِّين هم الرُّسُلُ.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيباً} إلى قوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} (مريم: 2 - 7)
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلاً، يُقَالُ: رَضِيّاً، مَرْضِيّاً {عِتِيّاً} (مريم: 8) {عَصِيّاً}، عتا يَعْتُو. {قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} وَيُقَالُ: صَحِيحاً. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فَأَوْحى: فَأَشَارَ {ييَحْيَى خُذِ الْكِتَبَ بِقُوَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} (مريم: 7 - 15). {حَفِيّاً} (مريم: 47) لَطِيفاً، {عَاقِرًا} (مريم: 5) الذَّكَرُ وَالأُنْثى سَوَاءٌ.
---(6/52)
قوله: ({عِتِيّاً} {عَصِيّاً})، هكذا وُجِدَ في نُسَخِ البخاريِّ، وهذا التفسير غَلَطٌ، وراجع الهامش.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} (مريم: 16)
{إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ} (آل عمران: 45). {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْرهِيمَ وَءالَ عِمْرنَ عَلَى الْعَلَمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَرْزُقُ مَن يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 33، 37) قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَآلُ عِمْرَانَ: المُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانِ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍصلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} (آل عمران: 68) وَهُمُ المُؤْمِنُونَ. وَيُقَالُ: آلُ يَعْقُوبَ أَهْلُ يَعْقُوبَ، فَإِذَا صَغَّرُوا آلَ ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأَصْلِ قالوا: أُهَيلٌ.
قوله: ({وَءالَ عِمْرنَ عَلَى الْعَلَمِينَ})، وهو والدُ مَرْيَمَ عليها السلام، كما قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}... إلخ (التحريم: 12)، لا عِمْرَان والدُ موسى عليه الصلاة والسلام.
باب
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَكِ عَلَى نِسَآء الْعَلَمِينَ يمَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ ذلِكَ مِنْ أَنبَآء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 42 - 44).
---
يُقَالُ: يَكْفُلُ يَضُمُّ، كَفَلَهَا: ضَمَّهَا، مُخَفَّفَةً، لَيسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا.(6/53)
باب قَوْلِ الله تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ} إِلَى قَوْلِهِ:{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 45 - 47)
يُبَشِّرُكِ وَيَبْشُرُكِ وَاحِدٌ، {وَجِيهًا} شَرِيفاً. وَقالَ إِبْرَاهِيمُ: المَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقالَ مُجَاهِدٌ: الكَهْلُ الحَلِيمُ، وَالأَكْمَهُ مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيلِ. وَقالَ غَيرُهُ: مَنْ يُولَدُ أَعْمى.
تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحاقُ الكَلبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
3434 - قوله: (وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيراً)، يعني أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمذَكَرَ فضل نساء قريش: رَكِبْنَ الإِبِلَ، ولمَّا لم تَرْكَبْ مريمُ عليها السلام بَعِيراً، لم تَدْخُلْ في هذا التفضيل.
باب قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا في دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماوَاتِ وَما في الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: 171).
قالَ أَبُو عُبَيدٍ: {وَكَلِمَتُهُ} كنْ فَكانَ. وَقالَ غَيرُهُ: {وَرُوحٌ مّنْهُ} أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحاً. {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَثَةٌ}.
باب {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} (مريم: 16)
---(6/54)
فنَبَذْنَاهُ: أَلقَينَاهُ: اعْتَزَلَتْ. {شَرْقِياً} (مريم: 16) مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ. {فَأَجَآءهَا} (مريم: 23) أَفعَلتُ مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ: أَلجَأَهَا اضْطَرَّهَا. {تُسَقِطْ} (مريم: 25) تَسْقُطْ. {قَصِيّاً} (مريم: 22) قاصِياً. {فَرِيّاً} (مريم: 27) عَظِيماً. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {نَسِيَا} (مريم: 23) لَمْ أَكُنْ شَيئاً. وَقالَ غَيرُهُ: النِّسْيُ الحَقِيرُ.
وَقالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قالَتْ: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} (مريم: 18).
قالَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحاقَ، عَنِ البَرَاءِ {سَرِيّاً} (مريم: 24) نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
قالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ في الجَاهِلِيَّةِ.
وَقالَ إِبْرَاهِيمُبْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسىبْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفوَانَبْنِ سُلَيمٍ، عَنْ عَطَاءِبْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم
قوله: ({يأَهْلَ الْكِتَبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ}) قال: «من شَهِدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأن محمداً عبدُه ورسولُه، وأن عيسى عبدُ الله ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ، وروحٌ منه»... إلخ، يعني به: أن كونه كلمةً، وروحاً منه، صار من عقائد الدين، ومن المسائل التي لا بُدَّ للأمة تعلَّمها. أمَّا كونه داخلاً في الإِيمان، فقد عُلِمَ ذلك من القرآن ولكن الحديث نبَّه على كونه من المسائل التي تُعْرَضُ على الأمَّةِ، على نحو ما يُعَلَّم الأطفال: بناء اسلام برجند جيز هست بكوير ينج جيز هست.
3438 - قوله: (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ)، وهو معرَّب: جت، ويُقَالُ له في الأردويه: جات، ولعلَّ بعضاً منهم ذَهَبَ إلى العراق في زمنٍ.
---(6/55)
3440 - قوله: (ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلاً وَرَاءَهُ... يَطُوفُ بالبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالوا: هَذَا المَسِيحُ الدَّجَّالُ)... إلخ، قالوا: لم يَكُنْ من نيَّةِ الشقيِّ الطوافُ بالبيت، ولكن لمَّا كان هذا الشقيُّ بصدد نقض ما يَغْزِلُهُ عيسى عليه الصلاة والسلام، أَرِيَ في المنام صورةُ ذلك كذلك، أي كأنه يَطُوفُ، وهذا يُعَاقِبُه خلفه. ثم إنه قد يَخْطُرُ بالبال أن بعضَ الرواة لا يَذْكُرونَ طوافه، وهو في البخاريِّ أيضاً، فلا بُعْدَ أن يكونَ ذِكْرُه وهماً من بعضهم. وقد أَشَارَ إليه القاضي عِيَاض: أن ذِكْرَ طوافه ليس في رواية مالك، كما في النوويِّ. وسنعود إلى بيانه أبسط منه إن شاء الله تعالى.
3442 - قوله: (والأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ نَبِيٌّ)، يعني هم متَّحِدُون في العقائد، وإن اخْتَلَفُوا في الفروع، كالأولاد التي تكون من أب واحد، وأمهاتهم شتَّى.
ثم اعلم أن المشهورَ أن لا نبيَّ بينه، وبين المسيح عليه السلام، كما هو في البخاريِّ، ولكن عند الحاكم في «مستدركه»: أنه كان بعد عيسى عليه السلام نبيّاً اسمه: خالد بن سِنَان. بل ظاهرُه أنه كان قُبَيْل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلّم ويُمْكِنُ أن يكونَ إطلاقُ الأَبِ فيه توسُّعاً. ومرَّ عليه الذهبيُّ، ولم يُنْكِرْ عليه، وليس إسنادُه بالقويِّ.
---(6/56)
3444 - قوله: (آمَنْتُ باللَّهِ، وكَذَّبْتُ عَيْنِي)، فإن قلتَ: كيف كذَّب عيسى عليه الصلاة والسلام ما رأته عَيْنَاه؟ قلتُ: ولا بُعْدَ فيه. فإن المخاطبَ إذا أَنكر أمراً بالشدَّة، حتَّى يَحْلِفَ به أيضاً، تُلْقَى منه الشبهات في صدور مَنْ لا يعتمد على نفسه في زماننا أيضاً، فإنه يَخْطُرُ بباله أنه لعلَّه لم يتحقَّق النظرُ فيه. والنظرُ يُغَالِطُ كثيراً، فيرى المتحرِّكَ ساكناً، والساكنَ متحرِّكاً، والصغيرَ كبيراً، والكبيرَ صغيراً، إلى غير ذلك. فكيف إذا وَاجَهَهُ رجلٌ باسم الله الذي تَقْشَعِرُّ منه جلود الذين آمنوا. وقياسُ صدور الذين مُلِئَت إيماناً عن الذين مُلِئَتْ جَوْراً وظلماً، قياسٌ مع الفارق. ومَنْ لم يَذُق، لم يَدْرِ.
3445 - قوله: (لا تُطْرُوني كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ)... إلخ، فالحديثُ لم يشدِّد فيه تشديدَ القرآن، وعدَّ قولهم من باب الإِطراء فقط، لإِمكان التأويل فيه، بادِّعاء وَحْدَة الوجود، أو غيره.
فائدةٌ: واعْلَمْ أنه لا حِجْرَ في وَحْدَةِ الوجود، فَيُمْكِنُ أن يكونَ كذلك. أمَّا كونُه من باب العقائد التي يَجِبْ بها الإِيمان، فذلك جَهْلٌ، لأن غايةَ ما في الباب أنه شيءٌ ثَبَتَ من مُكَاشَفَات الأولياء، فَقَدْ ثَبَتَ خلافه أيضاً وإنما الأحقُّ بالإِيمان، هو الوحيُ لا غير.
---(6/57)
3446 - قوله: (وإِذَا آمَنَ بِعِيسى، ثُمَّ آمَنَ بِي، فَلَهُ أَجْرَانِ) واعْلَمْ أن المذكورَ في سائر طُرُق هذا الحديث في البخاريِّ. «آمن بأهل الكتاب»، إلاَّ في هذا الطريق، ففيه: «آمن بعيسى عليه الصلاة والسَّلام»، ومن ههنا قال بعضُهم: إن الذين يُؤْتَوْنَ أَجْرَيْنِ هُمُ النصارى الذين آمنوا بعيسى عليه السلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلّم أمَّا اليهودُ، فإنهم كَفَرُوا بعيسى عليه السَّلام، فلا يستحقُّون إلاَّ أجراً واحداً، وهو الإِيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلّمفقط. وقالوا: إن المرادَ من أهل الكتاب هُمُ النصارى، لأجل هذا اللفظ. ويُرَدُّ عليهم: أن الحديثَ مأخوذٌ من الآية. وأنها قد أُنْزِلَتْ في عبد الله بن سلام، وكان يهودياً، فكيف يُمْكِنُ إخراجهم عن قضية الحديث، مع كونهم موردَ النَّصِّ. وقد أَجَبْنَا عن الإِشكال في كتاب العلم مبسوطاً، فراجعه.
3447 - قوله: (قَالَ: هُمُ المُرْتَدُّونَ)، وقد مرَّ منا: أن المرادَ منهم المُبْتَدِعُون مطلقاً. وإنما جَاءَ ذِكْرُ المرتدِّين في سياق الحديث، لأن الذين كانت بهم معرفةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّملم يَكُونُوا إلاَّ هؤلاء. والمرادُ منه: كلُّ من بدَّل الدين، كما يَدُلُّ عليه قوله: «سُحْقاً، سُحْقاً لمن بدَّل بعدي». وإنما يُذَادُون عن الحوض، لأنه تمثُّلٌ للشريعة، كما مرَّ مني مِرَاراً: أن الأعراضَ تَنْقَلِبُ جواهرَ يوم القيامة، فالحوض هو تمثُّل الشريعة والسُّنة، فمن بدَّلها في الدنيا لا حظَّ به أن يَرِدَ عليه في الآخرة. بل أقول: إن الشريعة معناها: الحوض لغةً، فإِذن ظَهَرَتْ المناسبة بالأولى.
باب نُزُولُ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيهِمَا السَّلاَم
---
3448 - قوله: (حَكَماً) نعم يَصْلُحُ للحكومة مَنْ كان مسلماً للفريقين، وعيسى عليه الصلاة والسَّلام كذلك، فإنه نبيٌّ من بني إسرائل، وقد آمنا به أيضاً.(6/58)
3448 - قوله: (فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ)، ولمَّا كان الصليبُ جَرَى باسمه، فهو الأحقُّ بنقضه.
3448 - قوله: (ويَقْتُلَ الخِنْزِيرَ) لأن أمَّتَهُ اختارت حِلَّتَهُ، خلاف الواقع.
3448 - قوله: (ويَضَعَ الحرب)، هذه نسخةٌ مرجوحةٌ، والراجحةُ ما في الهامش، «ويَضَعَ الجِزْيَةَ». وقد عَمِلَ ببعضه نبينا صلى الله عليه وسلّمفي زمنه أيضاً، وهو قولُه عند وفاته: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب». فلم يَقْبَلْ منهم الجِزْيَةَ في العرب، وإذا نَزَلَ عيسى عليه السَّلام لا يَقْبَلُهَا منهم أينما كانوا.
(الفرق بين القراءة المتواترة والقراءة الشاذَّة)
3448 - قوله: ({وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}وفي قراءة شاذَّةٍ قبل موتهم وفي قراءة شاذَّةٍ قبل موتهم. واعْلَمْ أن القراءةَ الشاذَّةَ يكفي لها الصدقُ فقط. وإنما تُطْلَبُ النكات في القراءة المتواترة، لأن الفرقَ بين المتواترة والشاذَّة إنما يكون في الأمور اليسيرة، نحو: الخِطَاب مكان الغيبة، أو أفراد الضمير مكان الجمع ونحوها. أمَّا الفَرْقَ بالمسائل فليس فى موضع منها، فإن القرآنَ نَزَلَ يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، فلفظُ القراءة الشاذَّة يكون تابعاً للقراءة المتواترة، ولذا لا يَحْتَاجُ إلى النكات. وحينئذٍ لا بَأْسَ إن كان المرادُ من الإيمان في الشاذَّة الإيمان بالغيب، فإن الطَّائفتين من أهل الكتاب تَنْتَظِرَان نزوله عليه الصلاة والسلام، فَصَحَّ إيمانُهما به، بمعنى الإِيمان بالغيب، لا بمعنى العِبْرَةِ بِهما.
---(6/59)
3449 - قوله: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ)، والواو فيه حاليةٌ. والمُتَبَادَرُ منه الإِمام المهدي، فَسُمِّي إماماً، وعيسى عليه السلام حكماً وعَدْلاً. وحاصله: أنتم كيف تكونون حين يَنْزِلُ فيكم ابن مريم، وهو يكونُ فيكم حكماً عَدْلاً. أمَّا الإِمامُ، فإنه لا يكونُ هو، ولكنه يكون أحدٌ غيره، ويكون ذلك الإِمامُ منكم، لا من بني إسرائيل. بخلاف عيسى عليه الصلاة والسلام. وقد اخْتَلَطَ فيه بعضُ الرواة عند مسلم، فَأَطْلَقَهُ على عيسى عليه الصلاة والسلام، فجعل اللفظ: «وأَمَّكُمْ مِنْكُم»، يعني أنه إن كان من بني إسرائيل، لكنه يكونُ تابعاً لشرعكم. والراجح عندي لفظُ البخاريَّ، أي: «وإمامكم منكم»، بالجملة الاسمية. والمرادُ منه الإِمام المهديّ، لِمَا عند ابن ماجه: بإِسنادٍ قويَ: «يا رسول الله، فأين العربُ يومئذٍ؟ قال: هم يَوْمَئذٍ قليلٌ ببيت المَقْدِس، وإمامهم رَجُلٌ صالحٌ، فبينما إمامُهم قد تقدَّم يُصَلِّي بهم الصبح، إذ نَزَلَ عليهم عيسى ابن مريم الصبحَ، فَرَجَعَ ذلك الإِمامُ يَنْكُصُ يمشي القَهْقَرَى، ليقدِّمَ عيسى عليه السلام يُصَلِّي»... إلخ. فهذا صريحٌ في أن مِصْدَاقَ الإمام في الأحاديث هو الإِمامُ المهدي دون عيسى عليه الصلاة والسلام نفسه، فلا يُبَالي فيه باختلاف الرواة بعد صراحة الأحاديث. وبأيِّ حديثٍ بعده يُؤْمِنُون، فهذا هو أصلُ اللفظ. ومن قال: «أَمَّكُم منكم» أو: «أَمَّكُم بكتاب الله». فكلُّ ذلك من تصرُّفاتهم، وأوهامهم، لأن الحديثَ إذا اخْتَلَفَتْ ألفاظُه عن صحابيَ، فالطريقُ العدولُ عنه إلى حديث صحابيَ آخَرَ إن كان عنده ذلك الحديث، فإنه يَنْفَصِلُ به الأمر على الأغلب.
---(6/60)
بقيَ الكلامُ في إمامة الصلاة، فالإِمامُ في أوَّل صلاةٍ بعد نزول المسيح عليه السلام يكون هو المهديُّ عليه السلام، لأنها كانت أُقِيمَتْ له، ثم بعدها يُصَلِّي بهم المسيح عليه السلام.
باب ما ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل
قالَ عُقْبَةُبْنُ عَمْرٍو: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلكَ، وَكانَ نَبَّاشاً.
باب حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَعْمى وَأَقْرَعَ في بَنِي إِسْرَائِيل
باب : {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} (الكهف: 9)
الكَهْفُ: الفَتْحُ فِي الجَبَلِ، وَالرَّقِيمُ: الكِتَابُ. {مَّرْقُومٌ} (المطففين: 9) مَكْتُوبٌ، مِنَ الرَّقْمِ. {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} (الكهف: 14) أَلهَمْنَاهُمْ صَبْراً. {شَطَطاً} (الكهف: 14) إِفرَاطاً. الوَصِيدُ: الفِنَاءُ، وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الوَصِيدُ البَابُ، {مُّؤْصَدَةٌ} (البلد: 20) مُطْبَقَةٌ، آصَدَ البَابَ وَأَوْصَدَ. {بَعَثْنَهُمْ} (الكهف: 19) أَحْيَينَاهُمْ. {أَزْكَى} (الكهف: 19) أَكْثَرُ رَيعاً. فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فَنامُوا {رَجْماً بِالْغَيْبِ} (الكهف: 22) لَمْ يَسْتَبِنْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَّقْرِضُهُمْ} (الكهف: 17) تَتَرُكُهُمْ.
2352 - قوله: (وكان نَبَّاشاً)، قد ذكر الراوي في الصدر قصتين، ثم قال في الأخرى: «كان نَبَّاشاً»، فَيُوهِمُ أنه وصفٌ لهما، مع أنه وصفٌ لمن ذُكِرَ في القصة الثانية.
---(6/61)
ومن ألفاظه: «لَئِنْ قَدَرَ الله عليّ...» إلخ، قيل: إن هذا يُؤْذِنُ بتردُّده في قدرته تعالى، وهو كفرٌ. قلتُ: لفظه هذا يحتمل معنيين: الأول: ما قلتَ، وهو كفرٌ، كما قلتَ. والثاني: أنه لا شكَّ له في نفس القدرة، ولكنه في إجرائها، أي إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، وإن كان قادراً، لكنه إن تَرَكَني على هذا الحال ولم يَجْمَعْني، فقد تمَّت حيلتي، وأنقذتُ نفسي، وإن لم يَتْرُكْني حتَّى جَمَعَني ونفذت قدرته، فإنه يعذِّبني... إلخ. وهذا معنى لا غائلة فيه. وليس فيه ما يُوجِبُ الكفرَ أصلاً. ومن قال: لعلَّ التردُّدَ في القدرة لم يَكُنْ كفراً في دينه، بخلاف شرعنا. فجعل الخلافَ خلاف المسألة، فهو كما تَرَىَ، وترجمته عندي هكذا: يعني: اكرميرا بهاند كاركر هو كياتو فبها ونعمت اوراكر قدرت...... اورقدرت جلاهى لى تو... إلخ.
وراجع التفصيلَ من رسالتي «إكفار الملحدين». ثم اعلم أن الرواةَ قد اختلطوا في تعيين هذا الرَّجُل، فلم يَثْبُتُوا على أمرٍ، فقالوا مرَّةً: «إنه كان نَبَّاشاً». وأخرى: «أنه رجلٌ آخر يَخْرُجُ من جهنم». والصواب: «أنه رجلٌ من بني إسرائيل»، والباقيةُ كلُّها أوهامٌ.
3455 - قوله: (أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ تعالى سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُم)، وهذا من دَأْب الشريعة: أن أمراً إذا انتظم من جماعةٍ يُوصِي كلاًّ منهم ما نَاسَبَهُ، فقال في الأمير الجائر قولاً شديداً: فإنه نَصَبَه للعدل، وإزالة الجَوْرِ، وأمر الرعايا بإِطاعته في كلِّ حرَ وبَرْدٍ. وسنقرِّره في النكاح إن شاء الله تعالى.
3458 - قوله: (كَانَتْ تَكْرَهُ أنْ يَجْعَلَ يَدَهُ في خَاصِرَتِهِ) واعلم أنه مكروهٌ تحريماً في الصلاة. وقبيحٌ خارج الصلاة أيضاً. وعند الترمذيِّ: «أن الشيطان إذا أُخْرِجَ كان على تلك الهيئة».
---(6/62)
3460 - قوله: (قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَناً)... إلخ، وقد كان هذا الرجلُ أخذ قيمةَ الخمر من كتابيَ في الجِزْيَةِ، وأتى به إلى بيت المال في عهد عمر. وفي طُرُقهِ: «لِمَ لم يُوَاكِّلْ عليها كافراً يَبِيعُهَا، فيأخذ ثمنها منه، فَدَلَّ على مسألة الحنفية: أن مسلماً لو وَكَّل كافراً ببيع الخمر، طَابَ له الثمن.
3461 - قوله: (حَدِّثُوا عَنْ بَني إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ) والحالُ فيه مختلفٌ، فإن ما يُنْقَلُ عنهم إن صَحَّ ووافق شرعَنا نصدِّقه ونعمل به أيضاً. وإن صَحَّ، ولكن لم يُوَافِقْه شرعُنا نصدِّق به، ولا نعمل به، ونحمله على النسخ، أو التحريف. وإن لم يَصِحَّ، أو لم يَنْكَشِفْ أصلُه، فإذن لا نصدِّقه ولا نكذِّبه، ونؤمن إجمالاً بما هو الحقُّ عند الله العظيم. وهذا هو السبيلُ عندي في المسائل المختلف فيها بين الأئمة، فَنُؤْمِنُ بها إجمالاً على ما هي حقيقتها عند الله تعالى. وهو المنقولُ عن أبي مُطِيع البَلْخِي في الفقه الأكبر في نحو تلك المسائل. ولَعَمْرِي هو مَخْلَصٌ حَسَنٌ.
3463 - قوله: (بَادَرَني عَبْدِي) يعني أن الموتَ كان آتِيهِ لا محالة، ولكنه بادرني.
3464 - قوله: (فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلْدَ هَذَا)، وهذا في لغة العرب، فإنهم يَسْتَعْمِلُون لفظَ الإِنتاج في بعض الحيوانات، والتوليد في بعضٍ.
3464 - قوله: (فَوَاللَّهِ لا أَحْمَدُكَ اليَوْمَ لشيء أَخَذْتَهُ لِلَّهِ) يعني لو أخذت منه شيئاً قليلاً لا أَحْمَدُكَ عليه.
باب حَدِيثُ الغَار
---
وهذا البابُ ظاهرُه بين تضاعيف تلك الأبواب غريبٌ. فقيل: إن البابَ الأوَّلَ كان في أصحاب الرقيم، وهذا كالتفسير له. والتحقيقُ: أن أصحابَ الرَّقِيمِ هم أصحاب الكهف، وإنما قيل لهم: أصحاب الرقيم، لأن مَلِكاً كان رقَّم كتاباً، ووضعه هناك. وقيل: لا حاجةَ إلى جعله تفسيراً، بل هو بابٌ مستقلٌّ، وقصةٌ من قصص بني إسرائيل، ذكرها المصنِّفُ في جملة قصصهم.
باب(6/63)
وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا سُفيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِبْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم بِمِثْلِهِ.
وَقالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَبْنَ عَبْدِ الغَافِرِ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
3469 - قوله: (كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ من الأمم مُحَدَّثُونَ)... إلخ، وهو الذي يجيءُ بأقوالٍ صادقةٍ، ولا يُوحَى إليه.
3470 - قوله: (فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نحوها)... إلخ. واعلم أن الجزء الأعظمَ من التوبة، هو الندمُ. فإن كانت المعصيةُ نحو الزنا، والسرقة، فتوبتُها بالندم والعَزْمِ بالإِقلاع عنها. وإن كانت نحو ترك الصلاة، والصيام، فتوبتُها بالقضاء مع العزم بالإقلاع عن الترك. وفي الحديث دليلٌ على أن الندمَ، والعزمَ على الترك توبةٌ، وإن لم يَجِدْ بعدها وقتاً لعملٍ صالحٍ.
3472 - قوله: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَاراً) قيل: هي قصةٌ وقعت في عهد أنوشيروان،
3473 - قوله: (الطَّاعُونُ رِجْسٌ)... إلخ، أي لا ينبغي الدخول في البلدة المطعونةِ، إظهاراً لتوكُّلِهِ، فإن وقع وأنت بها. فحينئذٍ لا ينبغي الخروج منها فِرَاراً منه. وأمَّا الخروجُ والدخولُ لأجل الحاجات، فهو مستثنىً.
---
3473 - قوله: (فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ) وفي رواية أبي النَّضْر، كما في الهامش: «لا يُخْرِجُكم إلاَّ فراراً منه»، وفيه إشكالٌ، لأنه نقيضُ المراد. وأجابَ عنه الشَّارِحُون على أنحاء، كما في الهامش. أقولُ: وجوابُه عندي بترجمةٍ مفروضةٍ هكذا: أي لا يُخْرِجُهُ عنها إلاَّ خروجه المفروض للفِرَارِ.(6/64)
والحاصلُ: أن لا تَخْرُجُوا من البلدةِ المطعونةِ، كأنكم تَخْرُجُون منها فِرَاراً من القدر. أمَّا الخروجُ للحوائج، فهو مرخَّصٌ. فالنهيُ عن الفرار، والخروج المقدَّر معاً، لا عن الخروج المحقَّق فقط، مع استثناء الفرار. فافهم. يعني: ايسى نه نكلو جيسا كه نه نكالتا هو تمكو طاعون سى مكر بها كنا هى، يعني صرف بها كنى كى غرض سى نكلو ايسامت كرو.
3475 - قوله: (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ)... إلخ. قال العلماءُ: والمستحبُّ في هذا الموضع، أن يُقَالَ: أَعَاذَهَا اللَّهُ تعالى منه.
3485 - قوله: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ)، وهو قارون. وكانت له قرابةٌ بموسى عليه السَّلام. وكان في ضيقٍ من ذات يده، ولم يُؤْتَ سَعَةً من المال، فدعا له موسى عليه السلام. فإذا الرجلُ قد أُثْرِيَ، ثم ذَهَبَ إليه موسى عليه الصلاة والسلام ليأخذَ منه ما أَوْجَبَ عليه ربُّه في ماله من الزكاة، فأبى، وجَعَلَ يُؤْذيه بكلِّ ما أمكن. حتَّى اتفق أنه كان يَعِظُ قومه مرَّةً، فأَمَرَ امرأةً أن تَذْهَبَ إليه، وتقولُ: إنه زَنَى بها - والعِيَاذُ بالله - ففعلت، أخزاها الله.
واستشعر به موسى عليه الصلاةُ والسلامُ، فدعا عليه، وقال: يا رب، أَلاَ تَغَارُ مما يفعل هذا، فخيَّره ربُّه أن يَدْعُوَ عليه بما شاء، فدعا عليه بالخَسْفِ.d
---
فجعل يَتَجَلْجَلُ في الأرض، وهو يَعْتَذِرُ عمَّا صَنَعَ، فلم يَعْفُ عنه موسى عليه الصلاة والسلام، حتَّى خَسَفَ به الأرض. ورأيتُ في بعض الروايات: قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: إنه اعْتَذَرَ منك، فلم تَعْذُرْهُ، أما إنه لو استغفرني لَغَفَرْتُ له. والله تعالى أعلم.
كتاب المَنَاقِب
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى(6/65)
وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
وَقَوْلِهِ: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1). وَما يُنْهى عَنْ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ. الشُّعُوبُ: النسَبُ البَعِيدُ، وَالقَبَائِلُ دُونَ ذلِكَ.
قَال أَبُو عَبْدِ الله: سُمِّيَتِ اليَمَنَ، لأَنَّهَا عَنْ يَمِينِ الكَعْبَةِ، وَالشَّأْمَ عَنْ يَسَارِ الكَعْبَةِ، وَالمَشْأَمَةُ المَيسَرَةُ، وَاليَدُ اليُسْرَى الشُّؤْمى، وَالجَانِبُ الأَيسَرُ الأَشْأَمُ.
باب مَنَاقِبِ قُرَيش
باب نَزَلَ القُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيش
باب نِسْبَةِ اليَمَنِ إلَى إسْماعِيل
مِنْهُمْ: أَسْلَمُبْنُ أَفصَىبْنِ حَارِثَةَبْنِ عمْرِوبْنِ عامِرٍ، مِنْ خُزَاعَةَ.
3493 - قوله: (وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ)... إلخ، أي من كان أشدَّ في كفره، يكون أشدَّ في إسلامه أيضاً.
3494 - قوله: (وتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَيْنِ)، وهُمْ ضُعَفَاءُ الإِيمان: يعنى كجى ايمان والى دون المنافقين.
---
3497 - قوله: ({إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى}) وحاصلُ ما جرى بين سعيد، وابن عباس في تلك الآية: أن سعيداً حَمَلَهَا على أن في الآية تأكيداً لمراعاة أقربائه صلى الله عليه وسلّم ورَدَّه ابنُ عباس بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن بطنٌ من قريش إلاَّ كانت له قرابة فيهم، فكان يقولُ لهم: إنِّي لا أسألكم شيئاً إلاَّ أن تُرَاعوا قرابتي فيكم؛ فَتَسْتَجِيبُوا لدعوتي.(6/66)
3500 - قوله: (سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ) وكنتُ أراه رجلاً ظالماً، لمَّا وَرَدَ في حقِّه لفظٌ: «يسوق الناس بعصاه»، ثُمَّ بدا أنه رجلٌ صالحٌ يكون بعد عيسى عليه الصلاة والسلام لمَّا وَجَدْتُهُ ممدوحاً في الأحاديث. وحينئذٍ فالمرادُ من السوق... إلخ: لنظم الأمور. وفي كتاب «المبتدا» لابن منبِّه: أنه يكونُ آخر ملك في الإِسلام بعد عيسى عليه الصلاة والسلام، ويكون من أهل اليمن دون قُرَيْش، وإذا يَحْمِلُ الحبشةُ على بيت الله المكرَّم، يَدْفَعُهُمْ هذا الملكُ. ثم لا يُعْلَمُ هل يبنيه ثانياً، أم لا؟ وليس هذا جَهْجَاه الغِفَاري، فإنه رجلٌ آخر مذمومٌ.
ويُسْتَفَادُ من الأحاديث: أن الدين في أواخر الدنيا يكون في الشام، ويَشِيعُ الكفرُ في الحجاز، ثم يَخْرُجُ من اليمن أيضاً، ثم يَنْبَسِطُ على البسيطة كلِّها، ثم تَظْهَرُ القيامةُ.
3500 - قوله: (ما أَقَامُوا الدِّينَ) واعلم أن عبدَ الله بن عمرو بن العاص لمَّا حدَّث معاويةَ عن أمر الخلافة، وأنها خارجةٌ عن يد قريش يوماً حتَّى يكونَ القَحْطَانيُّ ملكاً، غَضِبَ عليه معاوية، وحدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمبدوامها فيهم. وقال العلماء: إن ردَّه لا يتمُّ من الحديث الذي رواه، لأن جوابَه موجودٌ في نصِّ الحديث، وهو قوله: «ما أَقَامُوا الدِّينَ»، فإذا لم يَفْعَلُوا ذلك تَخْرُجُ عنهم. فليس في الحديث ما رامه معاوية، ولكنه مؤيِّدٌ لِمَا قاله عبد الله بن عمرو بن العاص.
---
ثم عند ابن ماجه، بإِسنادٍ صحيحٍ في روايةٍ طويلةٍ في نزول عيسى عليه السلام، «وتُمْلأُ الأرض من المسلم، كما يُمْلأُ الإِناء من الماء، وتكون الكلمةُ واحدةً، فلا يُعْبَدُ إلاَّ الله، وتَضَعُ الحربُ أوزارها، وتُسْلَبُ قريش ملكها» اه. فَدَلَّ على أن الملكَ في زمنه يَنْتَقِلُ من قريش، فانحلَّ به قصة القحطانيِّ أيضاً، لكونها بعد سَلْبِ الملك عن قريش.
باب(6/67)
ولم يَقْدِرْ الحافظُ أن يأتي بشيءٍ يَدُلُّ على كون قبائل اليمن من ذُرِّيَّة إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
قوله: (مِنْهُمْ: أَسْلَمُ)... إلخ، وهذه أَسْلَم من خُزَاعة. وفي كونها إسماعيليةً اختلافٌ شديدٌ، ولم يتنقَّح بعدُ ولا تمسُّك في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّملأَسْلَمَ: «فإن أَبَاكُم كان رَامِياً»، على كونهم من ذُرِّيَّة إسماعيل عليه السلام، لجواز كون إسماعيلَ في حزبهم، فَنَسَبَهُمْ إليه لمكانه فيهم. قال المؤرِّخُون: إن قَحْطَانَ، وعدنان معاصران، وعدنانَ من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قيل: إن عدنانَ مُعَاصِرٌ بُخْتُ نَصَّر، فلمَّا حَمَلَ عليهم بَخْتُ نَصَّر، جاء عدنان من العرب لحماية أبناء عمِّه حتى انهزمَ، واضْطَرَّ إلى ترك العرب، والسكون في اليمن وبالجملة كون أهل اليمن كلِّهم إسماعيليين، خلافُ الواقع، وقول المؤرِّخين فيه صوابٌ، ولا بدَّ له من تأويلٍ.
باب ذِكْرِ أَسْلَمَ، وَغِفَارَ، وَمُزَينَةَ، وَجُهَينَةَ، وَأَشْجَع
باب ذِكْرِ قَحْطَان
باب ما يُنْهى مِنْ دَعْوَى الجَاهِلِيَّة
---
3515 - قوله: (أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ جُهَيْنَةُ)... إلخ، واعلم أن جُهَيْنَةَ، ومُزَيْنَةَ، وأَسْلَمَ، وغِفَارَ كانت دون بني تَمِيمٍ، وبني أَسَدٍ في زمن الجاهلية، فلماَّ بادروا إلى الإِسلام سَبَقُوا عليهم في الشرف. هذا محصَّلُ ما في الحديث.
باب قِصَّةِ خُزَاعَة
وهؤلاء من جُرْهُم، وكانوا هم مجاورو بيت الله أولاً، ثم سلبها قريش عنهم، ومنهم عمرو بن لُحَيِّ، أوَّلُ من سَنَّ عبادة الأصنام.
باب قِصَّةُ إِسْلاَمِ أَبِي ذَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب قِصَّةِ زَمْزَم
باب قِصَّةِ زَمْزَمَ وَجَهْلِ العَرَب
باب مَنِ انْتَسَبَ إِلَى آبَائهِ في الإِسْلاَمِ وَالجَاهِلِيَّة
باب ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ، وَمَوْلَى القَوْمِ مِنْهُم(6/68)
باب قِصَّةِ الحَبَشِ، وَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «يَا بَنِي أَرْفِدَةَ»
باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ لاَ يُسَبَّ نَسَبُه
3522 - قوله: (وَأَكُونُ في المَسْجِدِ)، ولم يَكُنْ المسجد بُنِيَ بعدُ، وإنما كان في المطاف.
باب ما جاءَ في أَسْماءِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآء عَلَى الْكُفَّارِ} (الفتح: 29). وَقَوْلِهِ: {مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6).
وراجع تفسيره من «روح المعاني».
باب خاتمِ النَّبِيِّينَصلى الله عليه وسلّم
---
باب وَفَاة النبي صلى الله عليه وسلّم
وَقالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُبْنُ المُسَيَّبِ مِثْلَهُ.
باب كُنْيَةِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب
3534 - قوله: (إلاَّ مَوْضِعَ لِبَنَةٍ) قال الحافظُ في تقريره: إن تلك اللَّبِنَةَ، لكونها في ناحية البيتِ، ينبغي أن تكونَ بصفةٍ يتوقَّفُ عليها بناء البيت، فإن لَبِنَةَ الناحية، لو كانت ضعيفةً، وهي بنيانُ البيت، لانْقَضَّتْ.
قلتُ: والألطفُ عندي في تقريره ما في الإنجيل: أن المعمارَ إذا بني بيتاً، جَعَلَ يبني بالحجارة الرخوة، ويرمي الصلبة، فإذا انتهى إلى ختم البناء، يَرْفَعُ هذه الحجارة التي كان رماها أولاً، ويَضَعُها في ناحية البيت، فتكون الحجارةُ التي قد رمى بها أولاً، صدرَ البيت آخراً. وهذا التمثيلُ يُشِيرُ إلى أن إسماعيلَ عليه الصلاة والسلام قد كان ألقى في ناحيةٍ، ثم صار هو صدراً.
باب خاتمِ النُّبُوَّة
قالَ ابْنُ عُبَيدِ اللَّهِ: الحُجْلَةُ مِنْ حُجَلِ الفَرَسِ الَّذِي بَينَ عَينَيهِ، قالَ إِبْرَاهِيمُبْنُ حَمْزَةَ: مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ.(6/69)
3541 - قوله: (قَالَ ابنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الحُجْلَةُ، مِنْ حُجَلِ الفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ) قلتُ: وهذا التفسيرُ وَهْمٌ، فإن حُجَلَ الفرس لا يكون بين عينيه، وكذا قوله: الصحيح الراء، قبل الزاي، بل الصحيحُ: الزاي، قبل الراء، أي زِرُّ الحَجَلَةِ. وفي «مسند أبي داود الطيالسي»: أن خاتم النبوة كانت علامة لختم النبوة. وراجع «عقيدة الإِسلام».
باب صِفَةِ النبي صلى الله عليه وسلّم
قالَ: وَقالَ ابْنُ بُكَيرٍ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ: بَيَاضَ إِبْطَيهِ.
---
3547 - قوله: (فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ)، وإنما لَبِثَ ثلاث عشرة سنة، وإنما عدَّ عشر سنين، لأنه بصدد عدِّ السنين التي نَزَلَ فيها الوحيُ، فلعلَّه عدَّ زمنَ الفترة، ثلاث سنين، وللعلماء في عِدَّتِها أقوالٌ.
3555 - قوله: (إن بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ)، أي أحدهما أبٌ، والآخر ابنٌ. واعلم أنه لا عِبْرَةَ بالقافة عندنا شرعاً، وإنما هي أمرٌ لتطييب الخاطر. ولا حُجَّةَ في الحديث على كونها حُجَّةً.
3558 - قوله: (ثُمَّ فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم؟ ، قال الحافظُ: وذلك بعدما فُتِحَتْ مكة.
فائدة: واعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يُحِبُّ موافقةَ أهل الكتاب فيما لو يُؤْمَرْ فيه بشيءٍ. ومن هذا الباب استقبالُه إلى بيت المَقْدس بالمدينة، لا أنه كان لتأليف قلوبهم. بل الوجهُ أنه لمَّا بُلِّغَ في موضع كانت قبلتهم إلى بيت المَقْدِس، اتَّبَعَ قبلتهم، لأن نسخَ قبلة النبيِّ المتقدِّم بلا نزولٍ، شرعٌ جديدٌ يُؤْذِنُ بالخلاف، ويُورِثُ الشقاق. ثم لمَّا وُجِّهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإلى البيت، ترك استقبال قبلتهم لنزول قبلته. وهذا الوجه مماَّ قد تفرَّدت به، وقد قرَّرته سابقاً.
3559 - قوله: (فَاحِش): بدزبان.
3559 - قوله: (مُتَفَحِّش): بزور بدزبانى كرنى والا.(6/70)
3565 - قوله: (كَانَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ في شَيءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلاَّ في الاسْتِسْقَاءِ)، وفي «مراسيل أبي داود»: لا يَرْفَعُ كل الرفع، فاندفع الإِشكال. وإلى المبالغة في الرفع يُشِيرُ قوله فيما بعده: «فإنه كان يرفع يَدَيْهِ حتَّى يُرَى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ». وقد ذَكَرَ ابنُ عبَّاسٍ في الرفع درجاتٍ، فراجعها من رسالتنا «كشف الستر».
باب كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم تَنَامُ عَينُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلبُه
---
رَوَاهُ سَعِيدُبْنُ مِينَاءَ، عَنْ جابِرٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
3569 - قوله: (يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ)... إلخ، أمَّا كون عدد ركعاته صلى الله عليه وسلّمإحدى عشرة ركعةً، فكان ذلك في رمضان وغيره. وأمَّا كون أربع ركعاتٍ بترويحةٍ، ثم أربع ركعاتٍ بترويحةٍ، فذلك كان في رمضان فقط.
3570 - قوله: (جَاءَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوْحَى إِلَيْهِ) وقد أَخْرَجَ فيه الحافظُ عشر عِلَلٍ: منها أن المعراجَ ليس إلاَّ بعد نزول الوحي. وأُجِيبَ أنهم جاءوا، ثم انْصَرَفُوا في تلك المرَّةِ. وفي هذه الرواية: إن فاعل {دنا} (النجم: 8)، هو الله تعالى ويجيء الحديثُ في كتاب التوحيد، وعندي فيه تقديمٌ وتأخيرٌ
باب عَلاَماتِ النُّبُوَّةِ في الإِسْلاَم
وَقالَ عَبْدُ الحَمِيدِ: أَخْبَرَنَا عُثْمانُبْنُ عُمَرَ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُبْنُ العَلاَءِ، عَنْ نَافِعٍ بِهذا. وَرَوَاهُ أَبُو عاصِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
قالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هذا الحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّبْنَ أَبِي طَالِبٍ قاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذلِكَ الرَّجُلِ فَالتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيهِ عَلَى نَعْتِ النبي صلى الله عليه وسلّمالَّذِي نَعَتَهُ.(6/71)
وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «فَنَزَعَ أَبُو بَكْرٍ ذَنُوبَينِ».
واعلم أن ما يَصْدُرُ من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة يُسَمَّى إرْهَاصاً، وما يَصْدُرُ بعد النبوة يُسَمَّى معجزةً، وأمَّا المصنِّفُ، فإنه بصدد بيان العلامات، سواء كانت من جنس الإرهاصات، أو المعجزات.
---
3571 - قوله: (فَشَرِبْنَا عِطَاشاً أَرْبَعِينَ رَجُلاً)، ولا حاجةَ إلى ذكر هذا العدد، فإن الصحابةَ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ كانوا ألفاً وأربع مئة، وهذه القصة فيها، وكانوا كلُّهم محتاجين إلى الماء.
3572 - قوله: (قُلْتُ لأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قال: ثَلاَثَ مِئَةٍ)، وفي الرواية الثالثة بعدها عن أَنَسٍ، قال: «خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي بعض مَخَارِجِهِ»، فذكر فيه: أنهم كانوا سبعين. وحَمَلَهما الحافظُ على الواقعتين في تمر المدينة. وأمَّا قوله: «خرج في بعض مَخَارِجِهِ»، فإن ظاهرَ خروجه للسفر، لكن يُؤَوَّل أنه خَرَجَ في المدينة إلى وجهٍ.
3583 - قوله: (حَدَّنا أبو حَفْصٍ، واسْمُهُ عُمَرُ بنُ العَلاَءِ، أَخُو أبي عَمْرٍو بن العلاءِ)... إلخ، فأبو عمرو ليس راوياً، بل هو أخٌ للراوي في البخاريِّ، وأبو عمرو هذا متقدِّمٌ عن سيبويه، والخليل، وإمامٌ للنحو. وهذا الذي نَقَلْتُ عنه الفرق بين الفرجة، والفرجة، وهو الذي سَأَلَ أبا حنيفة عن القتل بالمثقَّل، فقال له الإِمام: ولو ضرب بأبا قُبَيْس.(6/72)
3590 - قوله: (حتَّى تُقَاتِلُوا خُوزاً، وكَرْمَانَ) قيل: من هؤلاء، فإن خُوزستان، وكَرْمَان من بلاد إيران. وما ذُكِرَ فيه من حليتهم، أعني: «فُطْسَ الأُنُوفِ»، وغيره، لا تُوجَدُ فيهم، فإنها حلية الترك. وليسوا هؤلاء من الترك، ولا من مغول، فمن هم؟ أمَّا مغول، فهو من ذُرِّيَّة يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، وكذا بعضٌ من الترك أيضاً. فأجاب الحافظُ بحمله على وَهْمِ من أحد الرواة، حيث ذكر من حلية الترك مع خُوز، وك2رْمَان. وقيل: إنه جاءَ بعضٌ من مغول في الابتداء في خُوز، وكَرْمَان، وسَكَنُوا بها، فهم هؤلاء.
---
3591 - قوله: (تُقَاتِلُونَ قَوْماً نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وهو هذا البَار2زُ)، يعني: باهر والى، ورأيتُ أن كلَّ أهل بلدة يقول لآخر: بَارِزَاً. فالعربُ تقول للعجم: بَار2زاً، وكذا العكس. وقيل: إنه معرَّبٌ فارسٌ، للإِبدال بين الباء والفاء، وكذا بين الزاي والسين. قلتُ: فإن كان بفتح الراء، فهو كذلك، كما عند ابن ماجه.
3593 - قوله: (حَتَّى يَقُولُ الحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائي فَاقْتُلْهُ)، وعند ابن ماجه: «أنه يكون سبعون ألفاً منهم مع الدَّجَّال».
3595 - قوله: (دُعَّارُ طَيِّىءٍ)، والدُّعَّار: جمع داعر، والطيِّىءُ: بهمزة في آخرها.
3596 - قوله: (ثُمَّ انْصَرَفَ إلى المِنْبَرِ)، ولهذا قلتُ: إن دعاءَه صلى الله عليه وسلّمعلى أهل أحد لم يَكُنْ على شاكلة الصلاة، لأنه لم يَخْرُجْ إليهم، وأنه كان في المسجد لذكر الانصراف إلى المنبر بعد الدعاء، وكان المنبرُ في المسجد.
3600 - قوله: (وأَصْلِحْخ رُعَامَهَا) والرُّعَامُ: رطوبةٌ تَخْرُجُ عن أنف الغنم، وقد تكونُ لأجل المرض أيضاً.
3601 - قوله: (مَنْ يُشْرف لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ): جو اسكوجها نكيكا فتنه اسكوجها نك هي ليكا.
3602 - قوله: (مِنَ الصَّلاَةِ، صَلاَةٌ مَنْ فَاتَتْهُ)... إلخ، وإنما ذَكَرَهُ في هذا الباب لكونه تتمةً من الحديث السابق.(6/73)
3605 - قوله: (هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ)، وهم بنو أُمَيَّة.
3606 - قوله: (وفِيهِ دَخَنٌ)، يعني لا يكون فيه خيرٌ واضحٌ.
3606 - قوله: (دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ)، يعني يَدْعُو الأمراء إلى أمورٍ خلاف الشرع.
---
3606 - قوله: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ)، ومنه أُخِذَ لفظُ: أهل السنة والجماعة، وذلك لكون الحقِّ في جماعة المسلمين في الأغلب. وقد أخرج الشَّهْرَسْتَاني حديثاً فيه لفظ السنة والجماعة معاً، ولا أدري ماذا حال إسناده. وقد احتجَّ الأصوليون من مثله على كون الإِجماع حُجَّة.
قلتُ: وفيه نظرٌ، فإن تلك الأحاديث إنما وَرَدَتْ في سياق التحريض على إطاعة أُولي الأمر، لئلا تَثِيرُ الفتن عند انقلاب الحكومة، فَأَوْصَى باتِّبَاع السواد الأعظم لهذا، ولم يَرِدْ في إجماع الأمة. ولعلَّهم تمسَّكُوا بحاصلها، سواء وَرَدَتْ في هذا أو ذاك. فإن اللزومَ مع الجماعة مطلوبٌ في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ شيءٍ، فَيَصْلُحُ للاستدلال.
ثم اعلم أن الحديثَ يَدُلُّ على أن العِبْرَةَ بمعظم جماعة المسلمين، فلو بايعه رجلٌ واحدٌ، أو اثنان، أو ثلاثة، فإنه لا يكون إماماً ما لم يُبَايِعْهُ معظمُهُمْ، أو أهلُ الحَلِّ والعقدِ. والمنقولُ عن الأشعريِّ خلافه، ولم أَرَهُ إلاَّ في الفتوحات.
3609 - قوله: (حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيباً من ثَلاَثِينَ) وفي «فتح الباري»: السبعين أيضاً.
3610 - قوله: (فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، فَالْتُمِسَ، فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم؟ ، وقد كان الْتُمِسَ قبله مرَّتين، ولم يُوجَدْ، فلَمَّا حَلَفَ أبو سعيدٍ أني ما كَذَبْتُ، فَالْتُمِسَ ثالثاً حتَّى وّجِدَ.(6/74)
3615 - قوله: (رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ): سامنى ايك بتهرد كهائى ديا، وعلى هذا العُرْفِ قولهم: طَلَعَتِ الشمسُ وغَرَبَتْ، وإلاَّ فهي طالعةٌ أبداً.
3615 - قوله: (قَعْبٍ): برى ركابى.
3620 - قوله: (قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ)... إلخ، والإِسنادُ فيه من قبيل بنى الأمير المدينة، لأن عدوَّ الله لم يَخْرُجْ من خيمته، كما ذكره الحافظُ.
---
3622 - قوله: (فَذَهَبَ وَهَلي) والوَهَلُ: هو ما سبق منك بغير الاختيار، فهو مرتبةُ الخاطر، أو الهاجس.
3622 - قوله: (وثَوَابِ الصِّدْقِ الذي أَتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ) المراد منها بَعْدِيَّة متراخية، أو بدر الصُّغْرَى.
3623 - قوله: (حَدَّثَنا أَبو نُعَيْمٍ... عن عَائِشَةَ)... إلخ، وفيه زيادةٌ في «معجم الطبراني» بهذا الإِسناد: «أن كلَّ نبيَ عاش نصف عمر الذي قبله، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام عاش مئة وعشرين، فلا أُرَاني ذاهباً إلاَّ على رأس ستين». وهذا مُشْكِلٌ، فإنه لا يَسْتَقِيمُ بحسب أعمار الأنبياء عليهم السلام. والمرادُ عندي أنه باعتبار أُولي العزم من الأنبياء عليهم السلام الذي دُوِّن التاريخ بهم. وأمَّا عمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فتفصيلُه: أنه رُفِعَ وهو ابن ثمانين سنة، ويَمْكُثُ في الأرض بعد نزوله أربعين سنة. وأمَّا «سبع سنين» عند مسلم، فهي عمره مع المهدي عليه السلام، فتلك مئة وعشرون.
3627 - قوله: (فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم؟، وليس هذا من باب المجاز، ولا من باب الكِنَاية، فإنه لا دلالةَ عليه بسورة الفتح من حيث اللغة، ولا غيرها. نعم ذلك من مقاصد السورة وأغراضِها، فقام من ذلك أصلٌ عظيمٌ لبيان معنى القرآن: أنه يَصِحُّ بهذا الطريق، مع عدم كونه حقيقةً، ولا مجازاً، ولا كنايةً، وإنما هو من مراميها البعيدةِ، يَفْهَمُهَا رجلٌ أُوتِي فَهْماً، ورُزِقَ علماً من عند الله.h(6/75)
فهكذا يُمْكِنُ أن يكونَ موتُ عيسى عليه الصلاة والسلام أيضاً من المرامى البعيدة للفظ التوفِّي. وإلاَّ فاللفظُ لا دلالةَ له عليه، وإنما يُفْهَمُ منه معنى الموت على حدِّ الإِيماء والإِشارة، مع كون الغرضِ هو الاستيفاء. نعم بعد استيفاء الأجل ليس إلاَّ الموت، فَيُمْكِنُ أن يكونَ مفهوماً بهذا الطريق.
---
3628 - قوله: (حَدَّثَنَا أبو نُعَيْمٍ...، عن ابن عبَّاس، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمفي مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ، وقَدْ عَصَّبَ رأسه بِعصَابَةٍ دَسْمَاءَ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثم قال: أَمَّا بَعْدُ)... إلخ، وهذا خروجُه يوم الخميس. وأنكره الحافظُ، وادَّعَيْتُ إثباته فيما مرَّ.
3633 - قوله: (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً)، أي شخصاً معظَّماً. والفَرِيُّ: أصلُه: قَدُّ السَّيْرُ بين إصْبَعَيْنِ، ولا يأتي إلاَّ من الماهر، فإنه يخاف فيه جرح الإِصْبَع، وقد يُشْكِلُ قدُّه مستقيماً، فقد تَنْحَرِفُ الآلة، فَيَدِقُّ السَّيْرُ من بعض المواضع. ويَغْلُظ في بعضٍ، ولذا يُرَادُ به الماهر في فنِّه.
باب سُؤَالِ المُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم آيَةً، فَأَرَاهُم انْشِقَاقَ القَمَر
وقد شاهده ملك بهوصلى الله عليه وسلّمل من الهند، اسمه: بهوج صلى الله عليه وسلّمل، ذكره الفرشته في «تاريخه» على أن مشاهدة غيرهم ليس بلازمٍ، فكثيراً ما تَنكَسِفُ الشمس والقمر، ولا يكون به للعامة خبرٌ، فكيف بانشقاقه؟ فإنه انشقَّ، ثم الْتَأَمَ من ساعته.
باب
قَالَ عُمَيرٌ: فَقَالَ مَالِكُبْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هذا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذاً يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ.(6/76)
قَالَ سُفيَانُ: كَانَ الحَسَنُبْنُ عُمَارَةَ جَاءَنَا بِهذا الحَدِيثِ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَهُ شَبِيبٌ مِنْ عُرْوَةَ، فَأَتَيتُهُ، فَقَالَ شَبِيبٌ: إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الحَيَّ يُخْبِرُونَهُ عَنْهُ.
---
3641 - قوله: (لا يَزَالُ من أُمَّتي أُمَّةٌ قَائِمةٌ) وقد مرَّ مني: أنها طائفةُ المجاهدين في سبيل الله. وما ذَكَرَهُ أحمدُ أنها أهل السنة والجماعة، فهو أيضاً آيِلٌ إلى ما قُلْنَا، وقد فصَّلناه من قبل.
3641 - قوله: (فقال مُعَاوِيَةُ: هذا مَالِكٌ يَزْعُمُ أنه سَمِعَ مُعَاذاً يَقُول، وهُمْ بالشَّام)، وإنما كان معاويةُ يُذِيعُهُ إشارةً إلى كونه على الحقِّ، مع أن الحديثَ وَرَدَ نظراً إلى زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنَّ الخيرَ لا يكون في زمنه إلاَّ بالشاَّم. أو هو بناءً على الحديث الذي اختلف فيه المحدِّثُون: «أن الأَبْدَالَ أكثرهم بالشام»، ولا تعلُّق له بما يُشِيرُ إليه معاويةُ.
3642 - قوله: (قال سُفْيَان: كان الحَسَنُ بنُ عُمَارَةَ جَاءَنَا بِهَذَا الحديثِ عَنْهُ) واعلم أن الحسنَ بن عُمَارة ضعيفٌ بالاتفاق، ولكن ليس ذِكْرُه في الإِسناد، بل في ذَيْلِ القصة، ولا بأسَ به.
3646 - قوله: (ورَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّياً) واسْتُدِلَّ به على أن التغنِّي يُسْتَعْمَلُ بمعنى الاستغناء، وهو المرادُ في قوله: «مَنْ لَمْ يتغنَّ بالقرآن»»، الحديث. أي من لم يَسْتَغْنِ به. ولي شرحٌ آخر، سأذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (قال أبو عبد الله: دَعْ - فرفع يديه ) فإني أخشى أن لا تكونَ محفوظاً، وليس هذه العبارةُ في غير تلك النُّسْخَةِ، ولم يأخذها أحدٌ من شارحيه. وثَبَتَ منه رععُ اليدين عند التكبير في خَيْبَر.
كتاب فَضَائِلِ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب ُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلّم(6/77)
وَمَنْ صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلّم أَوْ رَآهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ.
---
باب ُ مَنَاقِبِ المُهَاجِرِينَ وَفَضْلهم
مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ التَّيمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَآء الْمُهَجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَرِهِمْ وَأَمْولِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّدِقُونَ} (الحشر: 8). وَقَالَ: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40)، قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلّمفِي الغَارِ.
---(6/78)
واعلم أنه كانت عند أبي بكرٍ ناقتان: إحداهما اشتراها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وكانت تُعْلَفُ عند أبي بكر، والأخرى له، وهاتان كانتا في سفر الهجرة. أمَّا دخوله صلى الله عليه وسلّمفي المدينة، ففيه اختلافٌ لأصحاب السِّيَر، فقيل: إنه دَخَلَ الثامنة، وقيل: الثانية عشر. وعيَّنه محمود شاه الفرنساوي، وهو الصوابُ، لأن ما تلقَّاه أهلُ السِّيَرِ هو من أفواه الناس، وما حرَّره الفرنساوي هو بالحساب، فهو أقربُ إلى الصواب. فلمَّا سَمِعَ أهلُ المدينة مَقْدَمَهُ، خَرَجُوا إليه وافدين، وأصرُّوا عليه أن يَنْزِلَ ببلدهم، ولكن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمنزل بقُبَاء، وأقام بها أربعة عشر يوماً، ولم يَجْمَعْ بهم. وما في هامش البخاريِّ نسخة: «أربعة وعشرين يوماً»، غَلَطٌ. ثم ارْتَحَلَ من قُبَاء يوم الجمعة، وجَمَعَ في بني سالم - محلَّة من المدينة - ثم دَخَلَ في بيت أبي أيوب الأنصاريِّ، وكان البيت بناه تبع. وقصته: أنه خَرَجَ إلى أهل المدينة ليُحَارِبَهُمْ، فلماَّ دَنَا منها أخبره من معه من اليهود أنها مهاجر النبيِّ الأميِّ صلى الله عليه وسلّم فأعْرَضَ عنهم، وبَنَى بيتاً لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم ولعلَّ هذا هو السِّرُّ في بروك راحلته عنده، فكان به حتى بَنَى المسجد، ولم يكن إذ ذاك عنده إلاَّ سَوْدَة، فبنى له بيتاً وحُجْرَة.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «سُدُّوا الأَبْوَابَ، إِلاَّ بَابَ أَبِي بَكْرٍ»
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
واختلف الرواةُ بين ذكر الباب، أو الخَوْخَةِ.
باب ُ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً»
قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ.
---
تَابَعَهُ جَرِيرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِبْنُ دَاوُدَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَمُحَاضِرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ.(6/79)
قَالَ وَهْبٌ: العَطَنُ مَبْرَكُ الإِبِلِ، يَقُولُ: حَتَّى رَوِيَتِ الإِبِلُ فَأَنَاخَتْ.
واعلم أن فضلَه قطعيٌّ عند الأشعريِّ، وظنيٌّ عند البَاقِلاَّني.
قلتُ: وما ذكر الأشعريُّ هو الصوابُ، لورود الأحاديث فيه فوق ما يَثْبُتُ به التواتر، وهكذا فضل الخَتَنَيْنِ أيضاً. ثم الترتيبُ بينهم بعكس قرابتهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأقربهم نَسَباً آخرهم فضلاً، وهو عليّ، ثم عثمان، ثم عمر، ثم إن أبا بكر ألضلُ من المهديِّ جزماً.
3658 - قوله: (أَنْزَلَهُ أباً)، يعني جعل الجدِّ كالأب، أَنْزَلَهُ منزلته في استحقاق الميراث. وهو مذهبُ الحنفية، إلاَّ في أربع جزئيات.
3661 - قوله: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدذْ غَامَرَ) وأصلُه النزولُ في معظم الماء، مع تَشْمِيرِ الثياب. والمرادُ منه: الغضبُ.
3661 - قوله: (إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إليكم، فَقُلْتُم: كَذَبْتَ)، وهذا الكلامُ مماَّ لا مَحْكَى عنه عند المُخَاطَب، ولا عند المتكلِّم، وإنما أُرِيدَ به إظهار المَلاَل فقط، وقد مرَّ الكلامُ فيه.
3665 - قوله: (إنَّكَ لَسْتَ تَصْنَعُ ذلك خُيَلاَء)، وهذا عند الحنفية ترخيصٌ له خاصةً، مع ذكر بعض ما يُنَاسِبُ العِلِّيَّة في الجملة. فإن ظاهرَ كلامهم كراهةُ نفس الجرِّ، والإِرخاء عمَّا تحت الكَعْبَيْن، سواء كان استكباراً أو لا. ونصَّ الشافعيُّ على أن التحريمَ مخصوصٌ بالخُيَلاَء، فإن كان للخُيَلاَء فهو مكروهٌ تحريماً، وإلاَّ فمكروهٌ تنزيهاً.
---(6/80)
3668 - قوله: (فذهب إليهم أبو بكر، ورأى هناك سعد بن عبارة ملتفاً ببردة، وهو يوعك، وكان الناس أرادوا أن يجعلوه أميراً، فلما بايع الناس أبا بكر ذهب سعد إلى الشام، ولم يبايعه، وتوفي بها)، لا يُقَالُ: إن إجماعَ الصحابة قطعيٌّ عند الحنفية، وإجماعَ من بعدهم ظنيٌّ. فلو أَنْكَرَ أحدٌ عن استحقاق خلافة أبي بكر، كفر لإِنكاره القطعيَّ كما في «البحر». فكيف بسعد؟ لأنا نقولُ: إنه لم يَبْحَثْ في استحقاق الخلافة، ولكنه نَزَعَ يده عن البَيْعَةِ، فلا إشكالَ.
3669 - قوله: (لقد خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ)... إلخ، أي كان المُنَافِقُوٌّع يُحِبُّون أن يُشَقَّ عصا المسلمين، ويتفرَّقَ أمرُهم عند هذا الخَطْبِ، فَرَدَّ اللَّهُ كيدَهم في نحورهم، لمَّا رأوا من جلالة عمر. فَنَفَعَ اللَّهُ بخُطْبته، كما نَفَع بخُطْبة أبي بكر، حيث عرَّف الناسَ الحقَّ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقد تُوُفِّي.
3674 - قوله: (القُفِّ): كنوين كى من.
3674 - قوله: (كَشَفَ عن سَاقَيْهِ) وفي محلٍ آخر: «عن فَخِذَيْهِ»، فهذا من أمر الرواة أنهم يَذْكُرُونَ لفظاً مكان لفظٍ، ثم يَجِيءُ الناسُ، ويتمسَّكُون بألفاظهم، غافلين عن الطُّرُق، فَيَقَعُون في الأَغْلاَطِ.
3674 - قوله: (قَالَ سَعِيدُ بن المُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا: قُبُورَهُم) قال الشاه ولي الله: أمَّا الرُّؤْيَا، فكونها محتاجةً إلى التعبير أَمرٌ معلومٌ. ولكن ما عُلِمَ من هذا الحديث: أن الوقائعَ الكونيةَ أيضاً قد يكونُ لها تعبيرٌ، أي لا يكون مِصْدَاقُها ما ظَهَرَ في هذا الوقت، بل تكون لها آثاراً في المستقبل أيضاً، كهذه الواقعةِ.
3675 - قوله: (فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ) قال الشَّارِحُون: إن تلك الرَّجْفَةَ كانت للمسَرَّة. ولا أَدْرِي هل عندهم نقلٌ على ذلك، أو لا.
---(6/81)
3677 - قوله: (يقول: رَحِمَكَ اللَّهُ، إنْ كُنْتُ لأَرْجُو أن يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ)، ولعلَّه كانت عندهم سُنَّة الأموات، أن يُقَالَ عندهم نحو تلك الكلمات، كما هو المعروفُ بيننا أيضاً، فإِنَّا إذا حَضَرْنا ميتاً نَقُولُ بنحو تلك الكلمات.
باب ُ مَنَاقِبِ عُمَرَبْنِ الخَطَّابِ، أَبِي حَفصٍ، القُرَشِيِّ، العَدَوِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
قَالَ ابْنُ جُبَيرٍ: العَبْقَرِيُّ عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ، وَقَالَ يَحْيى: الزَّرَابِيُّ الطَّنَافِسُ لَهَا خَمْلٌ رَقِيقٌ، {مَبْثُوثَةٌ} (الغاشية: 16) كَثِيرَةٌ.
زَادَ زَكَرِيَّاءُبْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ».
قَالَ حَمَّادُبْنُ زَيدٍ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دَخَلتُ عَلَى عُمَرَ بِهذا.
3681 - قوله: (ثمَّ نِاوَلْتُ عُمَرَ، قالوا: فما أوَّلْتَهُ؟ قال: العِلْمَ)، وهكذا تتمثَّلُ المعاني، كما تمثَّل العلمُ لَبَناً. فإن كَبُرَ عليكَ. وتعسَّر فهمه، فاعلم أن الصورةَ الذهنيةَ إذا نَزَلَتْ إلى الخَيَالِ صارت ذات كميَّة بدون مادة. وصرَّح ابن سِينَا أن التجريدَ التامَّ لا يكون في المَخِيلَةِ، فتبقى فيها الهيئةُ والوضعُ، فإذا نَزَلَتْ من المَخِيلَةِ إلى الحواس في الخارج تسمَّى كُلِّيَّاً طَبْعِيّاً. فإن عَجِزْتَ أن تَفْهَمَ كيف تُثَمثَّل المعاني، فعلك بما قُلْنَاهُ، فإن هذا القدرَ مُسَلَّمٌ عند علماء المعقول.
3682 - قوله: (عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ) نفيس صلى الله عليه وسلّمشش.
---(6/82)
3682 - قوله: (قال يَحْيَى)، وهو الفرَّاء، وقد عُدَّ ذلك من مناقبه، حيث سمَّاه البخاريُّ في كتابه باسمه. وجاء في كتاب التفسير نقولٌ عن سيبويه أيضاً، وإن لم يَذْكُرْهُ باسمه. ولعلَّ ذلك، لأنه نَقَل تفسيرَه من تفسير أبي عُبَيْدَة، وكانت فيه نقولٌ عن سيبويه، فجاء في كتابه أيضاً.
3682 - قوله: (الطَّنَافِسُ) كدى جسكى جها لرهون.
3683 - قوله: (إيهاً) فإن كان بدون التنوين، فمعناه: جوبات كهه رهاتها اوسيكو اور كهه أي أَعِدْ ما كُنْتَ تقوله. وإن كان بالتنوين، فمعناه: كوئى بات صلى الله عليه وسلّمرى كر.
3685 - قوله: (فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُون ويُصَلُّونَ)، ولعلَّهم كان من سُنَنِهِمْ الدعاءُ والصلاةُ عند حضورهم على ميِّتٍ. واسْتَعْمَلَ فيه لفظَ الصلاة، فَدَلَّ على أن لفظَ الصلاة يُسْتَعْمَلُ في الدعاء على الميِّت أيضاً. ولذا تَرَكْتُ جواءَ العَيْنيِّ فيما مرَّ، واخْتَرْتُ شرحَ النوويِّ في قوله: «صلَّى عليهم صلاتَه على الميِّت»، وقد مرَّ الكلامُ في الصلاة على الشهيدِ مفصَّلاً.
3687 - قوله: (ما رَأَيْتُ أَحَداً قَطُّ بَعْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلّممن حِينَ قُبِضَ، كان أَجَدَّ وأَجْوَدَ، حتى انتهى، من عُمَرَ بن الخطَّاب) وأصلُ العبارةِ هكذا: كان أَجَدَّ وأَجْوَدَ من عمر بن الخطاب حتَّى انتهى. يعني العمر كلّه.
---(6/83)
3688 - قوله: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) لا يُرِيدُ به المَعِيَّةَ في منزلته، حتى لا يَبْقَى بينه وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفَرْقٌ، ولكنه أراد به - والله سبحانه وتعالى أعلم : أن مَنْزِلَةَ المُحِبِّ تكون في الجنة بِحَسَبِ حبِّه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وتفصيلُه على ما ظَهَرَ لنا من الشَّرْعِ أن الدُّخُولَ في الجنة يَدُورُ بالإيمان، وأمَّا الطاعاتُ فَتَنْفَعُ في الاتقاءِ عن النار، وأمَّا تعيينُ منزلته في الجنة فباعتبار حبِّه للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإنَّ أَوَّلَ خيمةٍ تُضْرَبُ تَكُونُ للسلطان، ثم تَكُونُ لسائر الناس على قدر منازلهم منه. فَمَنْ يكونُ أقربَ عنده منزلةً، تُنْصَبُ خيمته أقرب منه مكاناً، وهكذا - ثم وثم - فهذا هو المرادُ من المَعِيَّةِ. فإنَّ الجنةَ كلَّها كالمكانِ الواحدِ، والمَعِيَّةُ فيها بِحَسَبِ القُرْبِ والبُعْدِ من منزلة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو يَدُورُ بالمحبَّة، لا أن المرادَ به المَعِيَّةُ في عين ذلك المكان والمحلِّ، فإنه مُحَالٌ.
3689 - قوله: (لَقَدْ كَانَ فِيمَا كَانَ قَبْلَكُمْ من الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فإِنْ يَكُ في أُمَّتي أحدٌ، فإنه عُمَرُ)، فيه دليلٌ على كثرة المُحَدَّثِينَ في الأمم السالفةِ، وقلَّتهم في هذه الأمةِ. فمن زَعَمَ أن لا خَيْرَ في الأمم السالفة فقط، حَادَ عن الصواب، بل فيهم أيضاً خيرٌ. نعم في هذه الأمَّةِ خيرٌ كثيرٌ، ولذا لُقِّبَتْ بخير الأمم. وقد مرَّ أنه كان فيهم من امْتَشَطَتْ امْتِشَاطَ الحديدِ، دون لَحْمِهِمْ، وعَظْمِهِمْ {فما ضَعُفُوا وما اسْتَكَانُوا} (آل عمران: 146).
3692 - قوله: (وأَمَّا ما تَرَى من جَزَعِي، فَهُوَ من أَجْلِكَ، ومن أَجْلِ أَصْحَابِكَ)... إلخ، أَرَادَ به جماعةَ المؤمنين.
---(6/84)
3692 - قوله: (لَوْ أَنَّ لي طِلاَعَ الأرضِ ذهباً لافْتَدَيْتَ به من عَذَابِ اللَّهِ)، يعني به أن ما ذَكَرْتُ من أمري، فهو كما ذَكَرْتُ، ولكن الإِيمانَ بين الرجاء والخوف، فلا يَلِيقُ الاعتمادُ بالمغفرة كلّ الاعتماد، ولذا قال: «لو أن لي طِلاَعَ الأَرْضِ»... إلخ، ولم يَعْتَمِدْ على مغفرته قَطْعاً.
باب ُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَبْنِ عَفَّانَ، أَبِي عَمْرٍو، القُرَشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَحَفَرَهَا عُثْمَانُ، وَقَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ.
3695 - قوله: (فَسَكَتَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ)، ولعلَّه سَكَتَ في حقِّه دون صَاحِبَيْهِ، إشارةً إلى أن قَبْرَه لا يكونُ معه، بخلاف صَاحِبَيْهِ.
3695 - قوله: (وزَادَ فيه عَاصِمٌ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان قَاعِداً في مكانٍ فيه ماءٌ، قَدِ انْكَشَفَ عن رُكْبَتَيْهِ) وهذه الزيادةُ وَهْمٌ عندي، فإنه صلى الله عليه وسلّمكان قاعداً، كما وُصِفَ في قصة بئر أَرِيس. وقد مرَّت عند البخاريِّ آنفاً، فاختلطت على الراوي، فنقله إلى القصَّةِ التي كانت في البيت، لاشتراك الدَّاخِلِينَ في الموضعين، فَنَقَلَ ما كان في قِصَّةِ بئر أرِيس إلى قصة البيت.
3696 - قوله: (ما يَمْنَعُكَ أن تُكَلِّمَ عُثْمَانَ لأَخِيهِ الوَلِيدِ)، كان الوليدُ هذا والياً بالكُوفَةِ، وكان أخاً لعثمان لأمِّهِ، وقد كان الناسُ أَكْثَرُوا فيه.
3696 - قوله: (قَالَ: أَعُوذُ باللَّهِ مِنْكَ)، كأنه ملَّ عن وَشْيِهِمْ فيه. فَضَاقَ به صَدْرُه، وظنَّه خلاف الواقع، فَاسْتَعَاذَ لذلك.
---(6/85)
3696 - قوله: (فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ)، وهذا حُجَّةٌ للحنفية أن حَدَّ السكران ثمانون. وليس هذا اللفظُ في البخاريِّ إلاَّ ههنا فقط، فَلْيَحْفَظْهُ. وأوَّلَ فيه البيهقيُّ: أن السَوْطَ لعلَّه كان ذي عُقْدَتَيْنِ، فعدَّه الراوي ثمانين. قلتُ: فإن كانت العُقْدَتَان طويلتين تَقُومَان مقام السَّوْطَيْنِ حقيقةً، فلا خلافَ لنا فيه، وإلاَّ فهذا التأويلُ لغوٌ. والصوابُ: أن حدَّ السكران قَدْ جاء بالنحوين في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فللأئمة أن يَخْتَارُوا ما شَاؤُوا. وسيجيء الكلامُ فيه بأبسط من هذا.
باب قِصَّةُ البَيعَةِ، وَالاِتِّفَاقُ عَلَى عُثْمَانَبْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وَجاءَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ حَفصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا، فَلَمَّا رَأَينَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيهِ، فَبَكَتْ عنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجالُ، فَوَلَجَتْ دَاخِلاً لَهُمْ، فَسَمِعْنَا بُكاءَهَا مِنَ الدَّاخلِ، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِف، قَالَ: ما أَجِدُ أَحَقَّ بِهذا الأَمْرِ مِنْ هؤُلاَءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّموَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيّاً وَعُثْمانَ وَالزُّبَيرَ وَطَلحَةَ وَسَعْداً وَعَبْدَ الرَّحْمنِ، وَقالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِبْنُ عُمَرَ، وَلَيسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ - كَهَيئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ - فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْداً فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلاَّ فَليَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ ما أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلهَ عَنْ عَجْزٍ وَلاَ خِيَانَةٍ.
---(6/86)
وَقالَ: أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي، بِالمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، ويَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خيراً، الَّذِين تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يُعْفى عَنْ مُسِيئهِمْ، وَأُوصِيِه بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيراً، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الإِسْلاَمِ، وَجُبَاةُ المَالِ، وَغَيظُ العَدُوِّ، وَأَنْ لاَ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلاَّ فَضْلُهُمْ عَنْ رضَاهُمْ. وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيراً، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ العَرَبِ، وَمادَّةُ الإِسْلاَمِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ، وَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِيِهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالى، وَذِمِّةِ رَسُولِهِصلى الله عليه وسلّمأَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ.
---(6/87)
فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِبْنُ عُمَرَ قالَ: يَسْتأْذِنُ عُمَرُبْنُ الخَطَّابِ، قالَتْ: أَدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيهِ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفنِهِ اجْتَمَعَ هؤُلاَءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيرُ: قَدْ جَعَلتُ أَمْرِى إِلى عَلِيّ، فَقَالَ طَلحَةُ: قَدْ جَعَلتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمانَ، وَقالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمنِبْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هذا الأَمْرِ، فَنَجْعَلُهُ إِلَيهِ وَاللَّهُ عَلَيهِ وَالإِسْلاَمُ، لَيَنْظُرَنَّ أَفضَلَهُمْ في نَفسِهِ؟ فأُسْكِتَ الشَّيخَانِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لاَ آلُوْ عَنْ أَفضَلِكُمْ؟ قالاَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِما فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّموَالقَدَمُ في الإِسْلاَمِ ما قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثمَّ خَلاَ بِالآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ المِيثَاقَ قالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمانُ، فَبَايَعَهُ، فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ.
---(6/88)
واعلم أن عُمَرَ لمَّا رَحَلَ إلى الحجِّ اجتمع جَمْعٌ كثيرٌ من الناس، فنادى منادٍ منهم: إنا نَسْتَخْلِفُ بعد عمر من شِئْنَا، وستتمُّ خلافته، كما تمَّت خلافةُ أبي بكرٍ، من غير عهدٍ. فَبَلَغَ ذلك عُمَرَ، وأراد أن يَخْطُبَ بينهم، فنهاه عبد الرحمن بن عَوْف، وقال: إن هؤلاء قومٌ أَجْلاَفٌ، فلا تَخْطُبُ حتَّى تأتي المدينةَ، فإن فيهم ذا الفَهْمِ والعلم. فلمَّا بَلَغَ إلى المدينة، لَقِيَه أبو لُؤْلُؤَةَ في بعضِ السِّكَكِ، وسَأَلَهُ أن يُكَلِّمَ مولاه في تخفيف الخَرَاج عنه، فقال له عمر: لا أفعله، فإنِّي سَمِعْتُكَ أَنَّكَ تَصْنَعُ الرَّحى، فلو صَنَعْتَهُ للمسلمين لَنَفَعَهُمْ جِدّاً، فقال له: إني أَعْمَلُ لك رحى يتحدَّث بها الناس بين المَشْرِق والمغرب. فلم يَلْبَثُ بعد ذلك إلاَّ أن أُصِيبَ به، كما عند البخاريِّ. وفيه: «أنه استخلف عبد الرحمن بن عَوْف»، وهذا حُجَّةٌ لثبوت جنس الاستخلاف في الصلاة، وإن لم يَكُنْ صحيحاً في خصوص هذه الصورة. وهذا على ما هو عند البخاريِّ، وإلاَّ فقد أَخْرَجَ المُحِبُّ الطبريُّ في «الرياض النضرة» بإِسنادٍ: «أنهم ذَهَبُوا بِعُمَرَ، وجاء عبدُ الرحمن بن عَوْف، فَأَتَمَّ الصلاةَ بقراءةٍ خفيفةٍ.
3700 - قوله: (وَقَفَ على حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ، وعُثْمَانَ بن حُنَيْفٍ)، وقد كان بَعَثَهُمَا لتعيين الخَرَاج إلى العراق.
3700 - قوله: (حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ)، فيه دليلٌ على أن مُدْرِكَ الركوع مُدْرِكٌ للركعة، ولذا كان ينتظرهم حتَّى يَجْتَمِعُوا، فإذا اجْتَمَعُوا رَكَعَ. وادَّعى البخاريُّ في «رسالته»: أن من اخْتَارَ منهم وجوبَ القراءة خلف الإمام لم يَذْهَبْ إلى أن مُدْرِكَ الركوع مُدْرِكٌ للركعة. قلتُ: وهو خلافُ الواقع.
3700 - قوله: (العِلْجُ): كاشتكار: غيرُ مُسْلِمٍ.
3700 - قوله: (الصَّنَع) ترجمته: كارى كر.
---(6/89)
3700 - قوله: (الحمدُ الذي لم يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ)، وذلك لأن ذنوبَ المقتول تُطْرَحُ على القاتل. فلو كان قاتله مُسْلِماً لطُرِحَتْ ذنوبه عليه، فكَرِهَ ذاك لذلك.
3700 - قوله: (قال: يا ابنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فإنَّه أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وأَتْقَى لِرَبِّك)، فَسُبْحَان من رجلٍ لم يَتْرُكْ الأَمْرَ بالمعروف، وهو في سياق الموتِ، يَجُود بنفسه.
3700 - قوله: (فإِنَّهُمْ أَصْلُ العَرَبِ، ومَادَّةُ الإِسْلاَمِ)، المادة ترجمتها. سامان وجر، وهي عندي معرَّبة من الماية. وتشديدُ الدَّال فيها لحنٌ عندي. وغَلِطَ فيها الملاَّ محمود الجونفورى في «الشمس البازغة».
باب ُ مَنَاقِبِ عَلِيِّبْنِ أَبِي طَالِبٍ القُرَشِيِّ الهَاشِمِيِّ، أَبِي الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم لِعَلِيّ: «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ».
وَقالَ عُمَرُ: تُوفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّموَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ.
باب مَنَاقِبِ جَعْفَرِبْنِ أَبِي طَالِبٍ الهاشميّ رَضي الله عنه وَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «أَشْبَهْتَ خَلقِي وَخُلُقِي»
3703 - قوله: (قال: يَقُولُ له: أبو تُرَابٍ) هنا إلخ، يعني أنه يَسْتَهْزِأُ به على كُنْيَتِهِ هذه.
3706 - قوله: (أَمَا تَرْضَى أن تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) وثَبَتَ فيه الاستثناءُ، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي.
3707 - قوله: (وَكَانَ ابنُ سِيرِينَ يَرَى أنَّ عامَّةَ ما يُرْوَى عن عليَ الكَذِبُ)، يعني به ما يُرْوَى عنه من الأقوال المشتملة على مخالفة الشيخين، فإنها كلَّها من جهة الرَّوَافِضِ. والمُعْتَبَرُ منها ما يُرْوَى عنه بواسطة أصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
---
باب ذِكْرُ العَبَّاسِبْنِ عَبْدِ المُطَّلِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِبِ قَرَابَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم(6/90)
وَمنْقَبَةِ فاطِمَةَ عَلَيهَا السَّلاَمُ بِنْتِ النبي صلى الله عليه وسلّم وَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «فاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ».
3710 - قوله: (وإنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نبيِّنا. فاسْقِنَا، فَيُسْقَوْنَ) قلتُ: وهذا توسُّلٌ فعليٌّ، لأنه كان يقول له بعد ذلك: قُمْ يا عبَّاس فاسْتَسْقِ، فكان يَسْتَسْقِي لهم. فلم يَثْبُتْ منه التوسُّلُ القوليُّ، أي الاستسقاء بأسماء الصالحين فقط، بدون شركتهم. أقول: وعند الترمذي: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمعَلَّمَ أعرابياً هذه الكلمات - وكان أعمى : اللهم إني أتوجَّهُ إليك بنبيكَ محمد نبي الرحمة....، إلى قوله: اللَّهُمَّ فشفِّعْهُ فيَّ»، فثبت منه التوسُّلُ القوليُّ أيضاً. وحينئذٍ إنكار الحافظ ابن تَيْمِيَة تطاولٌ.
3713 - قوله: (ارْقُبُوا محمَّداً صلى الله عليه وسلّمفي أَهْلِ بَيْتِهِ)، يعني أَحِبُّوا أهل بيته صلى الله عليه وسلّمليكونَ دليلاً على حُبِّكُمْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم
باب ُ مَنَاقِبِ الزُّبَيرِبْنِ العَوَّام
وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ حَوَارِيُّ النبي صلى الله عليه وسلّم وَسُمِّيَ الحَوَارِيُّونَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهمْ.
باب ُ ذِكْرِ طَلحَةَبْنِ عُبَيدِ اللَّه
وَقالَ عُمَرُ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ.
3720 - قوله: (جُعِلْتُ أَنَا، وعُمَرُ بنُ أبي سَلَمَةَ في النِّسَاءِ)، يعني تَرَكُونا في النساء لكوننا غُلاَمَيْنِ لم نَحْتَلِمَا يومئذٍ.
---
باب ُ مَنَاقِبِ سَعْدِبْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيِّ، وَبَنُو زُهْرَةَ أَخْوَالُ النبي صلى الله عليه وسلّم وَهُوَ سَعْدُبْنُ مالِك
3726 - قوله: (وَأَنَا ثُلُثُ الإِسَلاَمِ)، ولا يَسْتَقِيمُ كونه ثُلُثاً. فأوَّلُوه: بأن أمَّ المؤمنين خَدِيجة كانت من النساء، وأمَّا عليُّ فكان من الصبيان، وبعده يَزُولُ الإِشكالُ.(6/91)
3728 - قوله: (ما لَهُ خِلْطٌ)، يعني خِلْطُ شيءٍ من الأغذية او سمين غذاكا كوئى اور ملاؤنه نها.
باب ذِكْرِ أَصْهَارِ النبي صلى الله عليه وسلّم مِنْهُمْ أَبُو العَاصِبْنُ الرَّبِيع
وَزَادَ مُحَمَّدُبْنُ عَمْرِوبْنِ حَلحَلَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيّ، عَنْ مِسْوَرٍ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلّموَذَكَرَ صِهْراً لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَثْنى عَلَيهِ في مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ فَأَحْسَنَ، قالَ: «حَدَّثَني فَصَدَقَني، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي».
باب ُ مَنَاقِبِ زَيدِبْنِ حارِثَةَ، مَوْلَى النبي صلى الله عليه وسلّم
وَقالَ البَرَاءُ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا».
والصِّهْرُ: سسرال، واسْتَعْمَلَهُ في معنى زوج البنت.
باب ُ ذِكْرِ أُسَامَةَبْنِ زَيد
باب
قالَ: وَحَدَّثَني بَعْضُ أَصحَابِي، عَنْ سُلَيمانَ: وَكانَتْ حاضِنَةَ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب ُ مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِبْنِ عُمَرَبْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
3733 - قوله: (فَصَاح بي) أي وَجَدَ عليَّ، وصَاحَ بي.
باب ُ مَنَاقِبِ عمَّارٍ وَحُذَيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
---
باب ُ مَنَاقِبِ أَبِي عُبَيدَةَبْنِ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
3743 - قوله: (صاحب السواك والسواد) أي المناجاة.
باب ُ ذِكْرِ مُصْعَبِبْنِ عُمَيرٍ24 - بابُ مَنَاقِبِ الحَسَنِ وَالحسَينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قالَ نَافِعُبْنُ جُبَيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: عانَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم الحَسَنَ.
باب ُ مَنَاقِبِ بِلاَلِبْنِ رَبَاحٍ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيكَ بَينَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ».
باب ُ ذِكْر ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا(6/92)
باب ُ مَنَاقِب خَالِدِبْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِب سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِبْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
3747 - قوله: (أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ زِيادٍ بِرَأْسِ الحُسَيْنِ)... إلخ. ومن غَرائبِ قدرته تعالى: أنه أُتِيَ برأس عُبَيْد الله أيضاً بُعَيْدَ ذلك في هذا المحلِّ بعينه. وعند الترمذيِّ: «أن حَيَّةً دَخَلَتْ في مَنْخِرَيْهِ ثلاث مرَّاتٍ، وخَرَجَتْ كذلك، ورأسُهُ موضوعٌ بين يدي الناس، وهم يَقُولُون: قد جَاءَتْ، قد جَاءَتْ، أي الحيَّةُ». وفي «مستدرك الحاكم» مرفوعاً، وصحَّحه: «أني قَتَلْتُ بقتل يحيى عليه السلام سبعين ألفاً، وأني لسِبْطِكَ سبعين، وسبعين ألفاً». أقولُ: أمَّا عددُ المقتولين، فقد بَلَغ إلى آلاف ألف ألف، ثم اللَّهُ تعالى يُدْريه أنه كم اعتدَّ منهم بهذه القِتْلَةِ.
---
3747 - قوله: (بالوَسْمَةِ): أى نيل، وأشْكَلَ عليه أن خِضَابَهُ يكون أسودَ، وفيه الوعيدُ عند النَّسائي. والجوابُ عنه: أنه يجوز إذا كانت تَلُوحُ فيه الزُّرْقَة، ولم يكن أسودَ حالكاً. هكذا يُسْتَفَادُ من كلام محمد في «الموطأ». ثم هو جائزٌ عندنا في الجهاد، لإِرهاب العدو. وإن كان أسودَ حالكاً، وكذا لمن تزوَّج جاريةً حديثَة السِّنِّ.
3755 - قوله: (إن بِلاَلاً قَالَ لأبي بَكْرٍ: إن كُنْتَ إنما اشْتَرَيْتَنِي لنفسكَ، فَأَمْسِكْنِي)... إلخ. كان بلالُ بعدما تُوُفِّي النبيُّ صلى الله عليه وسلّمذَهَبَ إلى الشام، وتَرَكَ المدينة، فمنعه أبو بكر أن يَتْرُكَها، فقال له بلال كما في الحديث وفي رجوعه اختلافٌ، وأخرج أبو داود ما يَدُلُّ على صحة رجوعه، وإسنادُه جيدٌ. وحاصِلُه: أن بلالاً لمَّا رَجِعَ من الشام سَأَلَهُ الناسُ أن يُسْمِعَهُمْ التأذينَ. كتأذينه في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأذَّن.(6/93)
باب ُ ذِكْر مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِب فَاطِمَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ».
باب فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
63 - كتاب مناقب الأنصار
باب مَنَاقِب الأَنْصَارِ وقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ}(الأنفال: 72)
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا}
---
كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَنَسٍ، فَيُحَدِّثُنَا بمَنَاقِب الأَنْصَارِ وَمَشَاهِدِهِمْ، وَيُقْبلُ عَلَيَّ، أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَزْدِ، فَيَقُولُ: فَعَلَ قَوْمُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ»
قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِبْنُ زَيدٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
فَقَال أَبُو هُرَيرَةَ: ما ظَلَمَ، بِأَبِي وَأْمِّي، آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ، أَوْ كَلِمَةً أُخْرَى.
باب ُ إِخاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمبَينَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار
باب حُبُّ الأَنْصَارِ مِنَ الإِيمان
3764 - قوله: (أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ العِشَاءِ بِرَكْعَةٍ.... إلى قوله: دَعْهُ، فإنه قد صَحِبَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم وفي روايةٍ: (أَصَاب، أنه فَقِيهٌ) قلتُ: وليس فيه تصويبٌ له، بل إغماضٌ. ونحو تسامحٍ عنه. وعند الطحاويِّ: «فقام معاويةُ، فَرَكَعَ ركعةً واحدةً، فقال ابن عبَّاسٍ: من أين ترى أخَذَهَا الحمارُ؟» ورَاجِعْ تمام البحث من «كشف الستر»، فإن الكلمةَ شديدةٌ.
3781 - قوله: (وَضَرٌ من صُفْرَةٍ) أي: دهبه.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّملِلأَنْصَارِ: «أَنْتُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ»(6/94)
باب ُ أَتْبَاعِ الأَنْصَار
باب ُ فَضْلِ دُورِ الأَنْصَار
وَقالَ عَبْدُ الصمَّدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ: سَمِعْتُ أَنَساً: قالَ أَبُو أُسَيدٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّمبِهذا. وَقالَ: سَعْدُبْنُ عُبَادَةَ.
---
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّملِلأَنْصَارِ: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ»
قالَهُ عَبْدُ اللَّهِبْنُ زَيدٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب ُ دُعاءِ النبي صلى الله عليه وسلّم «أَصْلِحِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَةَ»
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم مِثْلَهُ. وَقَالَ: «فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ».
* نَحْنُ الَّذينَ بَايَعُوا مُحمَّدَا ** عَلَى الجِهَادِ ما حَيِينَا أَبَدَا
فَأَجَابَهُمُ: «اللَّهُمَّ لاَ عَيشَ إِلاَّ عَيشُ الآخِرَهْ، فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ».
باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9).
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئهِمْ»
باب ُ مَنَاقِبِ سَعْدِبْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وَعَنِ الأَعْمَشِ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ جابِرٍ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّممِثْلَهُ. فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: فَإِنَّ البَرَاءَ يَقُولُ: «اهْتَزَّ السَّرِيرُ». فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ بَينَ هذَيْنِ الحَيَّينِ ضَغَائِنُ، سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلّميَقُولُ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمنِ لِمَوْتِ سَعْدِبْنِ مُعَاذٍ».
باب ُ مَنْقَبَة أُسَيدِبْنِ حُضَيرٍ وَعَبَّادِبْنِ بِشْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
---(6/95)
وَقالَ مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُسَيدَبْنَ حُضَيرٍ، وَرَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. وَقالَ حَمَّادٌ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ: كانَ أُسَيدُبْنُ حُضَيرٍ وَعَبَّادُبْنُ بِشْرٍ عَنْدَ النبي صلى الله عليه وسلّم
باب ُ مَنَاقِب معَاذِبْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنْقَبَة سَعْدِبْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وَقالَتْ عائِشَةُ: وَكانَ قَبْلَ ذلِكَ رَجلاً صَالِحاً.
باب ُ مَنَاقِب أُبَيِّبْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِبِ زَيدِبْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِبِ أَبِي طَلحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ مَنَاقِب عَبْدِ اللَّهِبْنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وَقالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا قَيسُبْنُ عُبَادٍ، عَنِ ابْنِ سَلاَمٍ قالَ: وَصِيفٌ مَكانَ مِنْصَفٌ.
وَلَمْ يَذْكُرِ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَوَهْبٌ، عَنْ شُعْبَةَ: البَيتَ.
باب ُ تَزْوِيج النبي صلى الله عليه وسلّمخَدِيجَةَ، وَفَضْلهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
باب ُ ذِكْر جَرِيرِبْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ ذِكْر حُذَيفَةَبْنِ اليَمَانِ العَبْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
---
3785 - قوله: (قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّممُمْثِلاً) وفي روايةٍ: «مُمْتِناً». واعلم أن القيامَ للتوقير رُخْصَةٌ، أو مستحبٌّ إذا كان هذا المعظَّمُ يُقْصِدُ نحوه، ويجيء إليه. وأمَّا إذا كان يَذْهَبُ لحاجةٍ له، فلا. وأمَّا المُثُولُ كفعل الأعاجم، بأن يكون هو قاعداً، والنَّاسُ قائمين بين يديه. فهو ممنوعٌ قطعاً.
3791 - قوله: (أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أن تَكُونُوا من الخِيَارِ)، يعني قد فضَّلَكُمْ أيضاً على كثيرٍ، أو ليس ذلك بِحَسْبِكُمْ.(6/96)
3794 - قوله: (حِينَ خَرَجَ مَعَهُ إلى الوَلِيدِ)، وهو ابنُ عبد الملك. وقد كان أنسُ ذَهَبَ إليه يَشْكُو مما يَلْقَى من الحجَّاج، فلم يُلْقِ له بالاً. وفي حديثٍ: «أن الوليدَ فرعونُ أمَّتي»، وإسنادُه ساقطٌ.
3799 - قوله: (قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم؟، وإنَّما كانوا يَبْكُون لمَّا فَطَنُوا لموت النبيِّ صلى الله عليه وسلّممن القرائن.
3799 - قوله: (فإِنهم كَرِشِي وعَيْبَتِي) والكَرِشُ هو الكَبِدُ، وحَوَالَيْهِ: جكر بند، والعَيْبَةُ: جامه دان، ما يُجْعَلُ فيه الثياب. والمراد منه: كونهم أخصَّ أصحابِ سرّه.
3803 - قوله: (اهْتَزَّ العَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ)، وفي بعض الروايات: لفظ السرير، وبينهما فَرْقٌ، فإن الاهتزازَ على الثاني، اهتزازُ سريره الذي كان نَعْشُهُ عليه. وعلى الأوَّلِ، فهو إمَّا للفرحةِ والمسرَّةِ لقدومه إلى حضرة الربوبية، أو لمساءة موته. وبالجملة: هو كنايةٌ عن حدوث أمرٍ عظيمٍ، والأوَّلُ أقربُ من لفظ الاهتزاز.
3803 - قوله: (فَقَال رَجُلٌ لِجَابِرٍ فإن البَرَاءَ يَقُولُ: اهْتَزَّ السَّرِيرُ، فَقَالَ: إنَّهُ كان بَيْنَ هذَيْنِ الحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ)، ولذا غيَّر لفظ العرش، وبدَّله بالسرير.
قلتُ: وهذا مُسْتَبْعَدٌ من شأن الصحابة، فهم أربعُ من ذلك.
---
3810 - قوله: (جَمَعَ القُرْآنَ على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأَرْبَعَةٌ، كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ) وقد أَعْلَمْنَاكَ فيما مرَّ: أن القرآنَ جَمَعَهُ غيرُهم أيضاً، إلاَّ أن ذكرَ الأربعة لكونهم كلُّهم من الأنصار، لا لكونهم جامعين هؤلاء فقط. وفي الرواية دليلٌ على ما قُلْنَا.
3811 - قوله: (شَدِيدَ القِدِّ) ترجمته: كمان كو سخت كهينجنى والا.(6/97)
3814 - قوله: (إذا كَانَ لَكَ على رَجُلٍ حَقٌّ، فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ)... إلخ، ومن ههنا مَنَعَ الفقهاءُ عن كلَ منفعةً جَرَّها القرضُ. أمَّا في الأحاديث فَتُوجَدُ بعضُ التَّوْسِيعَات، فهذا من باب اختلاف عصرٍ وزمانٍ، لا دليلَ وبرهانَ، وقد مرَّ البحثُ فيه.
3820 - قوله: (هَذِهِ خَدِيجَةُ، قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إنَاءٌ فيه إذَامٌ).
.. إلخ. ذكر الشيخُ الأَلُوسي في «الجواهر الغالية»، عن «حاشية البخاري» للسفيرى: أنها بُشِّرَتْ ببيتٍ في الجنَّةِ، لا نَصَبَ فيه لأجل ذلك.
3821 - قوله: (فارْتَاعَ): جونك ائها.
3821 - قوله: (حَمْرَاءَ الشِّدْقَيْنِ): سرخ مودون والى، أي حَمْرَاء اللِّثَات، لسقوط أَسْنَانِهَا.
3821 - قوله: (قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهَا)، وفي «مسند أحمد»: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمغَضِبَ عليها حتَّى احمرَّ وجهه، وقال: والله ما البدلُ بخيرٍ منها، فَقَامَتْ إليه عائشةُ، تَتُوبُ إلى الله، ثم لم تَرْجِعْ إلى مثله أبداً».
باب ذِكْر هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَبْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وهي زَوْجَةُ أبي سُفْيَان، وأمُّ معاوية رضي الله تعالى عنهما.
باب ُ حَدِيث زَيدِبْنِ عَمْرِوبْنِ نُفَيل
---
وابنه سعيد من العشرةِ المبشَّرَةِ، كان أبوه زيدُ من موحدي الجاهلية، وهذه واقعةٌ قبل مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلّم.
3826 - قوله: (فَقُدِّمَتْ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّمسُفْرَةٌ، فَأَبى أن يَأْكُلَ منها، ثُمَّ قال زَيْدٌ: إني لَسْتُ آكُلُ ممَّا تَذْبَحُونَ على أَنْصَابِكم).(6/98)
واعلم أن ههنا نُسْخَتَيْنِ: الأُولَى: ما عَلِمْتَ: «قُدِّمَتْ» - بضم القاف - مجهولاً. والثانية: ما في رواية الجُرْجَاني: «فقدَّم إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمسُفْرَةً»، وفيها إيهامٌ شديدٌ لخلال المراد، فإنها تَدُلُّ على جواز أكله عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وعدم جوازه، عند زَيْد بن نُفَيْلٍ، ولذا أَبَى أن يَأْكُلَهُ. وتكلَّم عليه القاضي بدر الدين أبو عبد الله الشِّبْلي في «آكام المرجان»، وأخرج طُرُقَهُ، فراجعها تَنْفَعُكَ في هذا المقام. وإيَّاكَ، وما ذَكَرَهُ الحافظُ ههنا.
3827 - قوله: (فَقَالَ: لا تَكُونُ على دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ)، وفيه دليلٌ على أن اليهودَ كانوا يَعْلَمُونَ في أنفسهم أنهم قد باؤُوا بغضبٍ من الله، وكذلك النَّصَارى أيضاً.
3827 - قوله: (قال: دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّاً ولا نَصْرَانِيّاً) قيل: ما وجهُ التقابل بين الحنيفية واليهودية والنصرانية؟ فراجع له «روح المعاني». قلتُ: إن الحنيفيةَ لقبٌ مِلِّيٌّ، وهذان لقبان نِسْلِيَّان، والتفصيل مرَّ في الأوائل.
3827 - قوله: (فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ) واسْتُحْسِنَ في دين الأنبياء عليهم السَّلام أن يكونَ مع عَلْمٍ عملٌ أيضاً يُنَاسِبُهُ، فَنَاسَبَ عند الشهادة رفع اليدين. فدينُهم بين التشبيه الصِّرْف، والتعطيل البحت، ليس فيه التجسيم كما عند اليهود، ولا التجرُّد كما عند الفلاسفة، كما قال الشيخُ الأكبرُ:
*وشَبِّهْهُ، ونَزِّهْهُ ** وقُمْ في مقعد الصِّدْقِ
---
3827 - قوله: (اللَّهُمَّ إنِّي أَشْهَدُ أَنِّي على دِينِ إبْرَاهِيمَ)، ثُمَّ تُوُفِّي على ذلك، وقد سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعنه، فَأَجَابَ بما يَدُلُّ على كونه مغفوراً له.
باب ُ بُنْيَانِ الكَعْبَة(6/99)
3830 - قوله: (لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمحَوْلَ البيتِ حَائِطٌ، كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ البيتِ حتَّى كان عُمَرُ حَائِطاً)، ولذا قلتُ فيما مرَّ: إنه لم يَكُنْ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّممسجدٌ غير البيت المطاف. وحينئذٍ أين يقع توسيع البخاريِّ في تراجمه في باب أحمام المساجد.
باب ُ أَيَّام الجَاهِليَّة
* وَيَوْمُ الوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ** ألا إِنَّهُ مِنْ بَلدَةِ الكُفرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: وَمَا يَوْمُ الوِشَاحِ؟ قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي، وَعَلَيهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ، فَسَقَطَ مِنْهَا، فَانْحَطَّتْ عَلَيهِ الحُدَيَّا وَهيَ تَحْسِبُهُ لَحْماً، فَأَخَذَتْ، فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي، حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي، فَبَينَا هُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي، إِذْ أَقْبَلَتِ الحدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُؤُوسِنَا، ثُمَّ أَلقَتْهُ، فَأَخَذُوهُ، فَقُلتُ لَهُمْ: هذا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ.
أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ
وَكَادَ أُمَيَّةُبْنُ أَبِي الصَّلتِ أَنْ يُسْلِمَ».
3831 - قوله: (كان عَاشُورَاء يَوْماً تَصُومُهُ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيَّةِ) قلتُ: وكان ذلك عند أهل الكتاب أيضاً، وبقي إلى أوَّل الإِسلام، ثم نَسَخَهُ اللَّهُ تعالى برمضان.
---
3833 - قوله: (فَكَسَا ما بَيْنَ الجَبَلَيْنِ) أي دَفَنَهُ: صلى الله عليه وسلّمت ديا.
3841 - قوله: (كَلِمَةُ لَبِيدٍ) كان لبيدٌ، أو أُميَّةُ - والشك منِّي - يَزْعُمُ أن نبيَّ آخر الزمان يكون إمَّا نبيَّنا صلى الله عليه وسلّم أو عُتْبَةَ بن أبي رَبِيعة، لحسن أوصافه وأخلاقه. فلمَّا بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمحَسَدَ عليه وكَفَرَ به، وَوَصَلَ إلى دار البوار.(6/100)
3842 - قوله: (فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ في بَطْنِهِ)، فيه: أن الإِنسانَ إذا أكل شيئاً خبيثاً، فَلْيَفْعَلْ به هكذا.
باب ُ القَسَامَة فِي الجَاهِلِيَّة
وقد بيَّنَّا المذاهبَ في القَسَامَةِ فيما مرَّ، وحاصلُه: أن مالكاً يقول: إن الأيمانَ تتوجَّهُ فيها إلى أولياء المقتول أوَّلاً، فَيَحْلِفُ منهم خمسون على مَنْ لهم لَوْثٌ أنه قتله، فإن فَعَلُوا استحقُّوا القِصَاص، فيقتصُّ منه، وإرَّ يَنْصَرِفُ اليمينُ إلى أولياء المدَّعي عليهم. وأنكر الشافعيُّ القِصَاصَ رأساً، وذَهَبَ إلى هَدْرِ الدم مطلقاً، فيما لم يُحَلِّفْ أولياءَ المقتول، وحلَّف المدَّعى عليهم أنهم لم يَقْتُلُوه، ولا عَلِمُوا قاتلَهُ. وأمَّا إمامُنَا، فقد مرَّ على أصله، ولم يَقُلْ بابتداء اليمين على المدَّعِي، ولكنه عليه البينة، واليمينُ على من أَنْكَرَ. وبه قضى عمر في خلافته، وإليه مال البخاريُّ، لأنك قد عَلِمْتَ من دَأْبه أنه يتمسَّك من شرائع من قبلنا أيضاً. وهو المسألةُ عندنا فيما لم يَنْزِلْ فيه شَرْعُنِا، ولم يَنْقُضْه أيضاً. فإذا كانت القَسَامَةُ في الجاهلية، كما اختاره الحنفية، ولم يَنْزِلْ شرعُنا بخلافها، كانت حُجَّةً لنا. ولذا أَخْرَجَهَا المصنِّفُ، كأنه أَشَارَ إلى بقاء حُكْمِهَا بعد الإِسلام.
---(6/101)
أمَّا قصَّةُ حُوَيْصَة ومُحَيِّصَة، وقتل عبد الله بن سَهْل بخَيْبَرَ، فتلك لمَّا كانت مُخَالِفَةً له لم يُخَرِّجْهَا في القَسَامَةِ، وأخرجها في موضعٍ آخرَ. ثم إن القَسَامَةَ فيها، كما عند أبي داود، في باب ترك القود بالقَسَامَةِ، وَرَدَتْ على مَلْحَظ الحنفية أيضاً، هكذا: عن رافع بن خَدِيج، قال: «أصبح رجلٌ من الأنصار مقتولاً بِخَيْبَرَ، فانطلق أولياؤه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فَذَكَرُوا ذلك له، فقال لهم: شاهدان يَشْهَدَانِ على قتل صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله لم يَكُنْ ثَمَّةَ أحدٌ من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يَجْتَرِئُون على أعظم من هذا. قال: فاخْتَارُوا منهم خمسين، فاسْتَحْلِفُوهم، فَأَبُوا، فَوَدَاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن عنده». اه.
وفي رواية بُشَيْر بن يَسار عنده: «فقال لهم: تَأْتُوني بالبيِّنة على من قتل؟ قالوا: مالنا ببيِّنةٍ، قال: فَيَحْلِفُون لكم؟ قالوا: لا نَرْضَى بأيمان اليهود، فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمأن يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مئةً من إبل الصدقة» اه.
ففي تلك الرواية: أن القَسَامَةَ في خَيْبَرَ كانت على الصفة التي اخترناها، وفيها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَهْدِرْ دَمَهُ، وإنما أدَّاها مهن عنده، لِمَا في البخاريِّ: أنه كان يومئذٍ صُلْحٌ من خَيْبَرَ، فإذا أَخْبَرُوا أنهم لم يَقْتُلُوه، لم يُوجِبْ الدِّيَةَ عليهم، لئلاَّ تَثِير الفتنةُ. ولو كانت المسألةُ، كما ذَهَبَ إليه الشافعيةُ، لم يُودِهِ من عنده.
3845 - قوله: (أَوَّلَ قَسَامَةٍ كانت في الجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بني هَاشِمٍ)... إلخ، يعني به أن القَسَامَةَ لم تَكُنْ سُنَّةً فيما بين العرب، ولكن أبو طالب هو أول من سنَّها من سلامة فطرته.
3845 - قوله: (عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ)، أي الحبلُ الذي تُشَدُّ به الجُوَالق.
---(6/102)
3845 - قوله: (لا تَنْفِرُ الإِبلُ)، هاتِ بالعقل لأَعْقِلَهَا، فإنَّها تَنْفِرُ.
3845 - قوله: (قَدْ كَانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ)، أي ذاك كان المرجُو منك.
3845 - قوله: (أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا): مهربانى كرئى.
3845 - قوله: (ولا تَصْبُرْ يَمِينِي)، اليمينُ الصَّبْرُ: ما تَلْزَمُ المدَّعَى عليه من جانب الحكومة، وأما يُقَال لها: اليمينُ الصَّبْرُ، لأنه يُجْبَرُ عليها.
3845 - قوله: (عَيْنٌ تَطْرِفُ) أي: انكهه جهصلى الله عليه وسلّمنى والى.
3848 - قوله: (ولا تَقُولُوا: الحَطِيمُ) وإنَّما قيل له: الحَطِيم، لأنه حُطِّمَ من البيت، ولأنه كان من عادة العرب أنهم إذا حَلَفُوا بأمرٍ حَطَّمُوا شيئاً في هذا المكان، تذكاراً لأيمانهم، فلا يَرْفَعُونَهُ حتَّى يَبُرُّوا في أَيْمَانِهِمْ، فَسُمِّيَ حَطِيماً لذلك. وهذا الذي يُرِيدُهُ الراوي، ولذا مَنَعَ أن يُقَالَ له: حَطِيم. إلاَّ أن السلفَ لم يتَّبِعُوه على ذلك، وأَطْلَقُوه من غير نكيرٍ منهم: حدَّثنا نُعَيْم بن حمَّاد. واعلم أنَّهم قالوا: إن نُعَيْمْ بن حمَّاد من رجال تعليقات البخاري، لا من مسانيده، ويُرُدُّه هذا الإِسنادُ، فإنه وقع ههنا في المسهد أيضاً. على أن الحاكم صَرَّح في «مستدركه» في كتاب الجنائز: أن البخاريَّ احتجَّ بنُعَيْم بن حمَّاد، فطاح ما احْتَالُوا بكونه من رجال التعليقات. وقد تَكَلَّمْنَا في نُعَيْم بن حمَّاد هذا.
ثم إن ابن الجوزيِّ أَدْخَلَ هذا الحديثَ في الموضوعات، وكذا حديثين من صحيح مسلم. وقد صرَّح أصحابُ الطبقات: أن ابن الجوزيِّ راكبٌ على مطايا العَجَلَةِ، فيُكْثِرُ الأغلاط. ورَأَيْتُ فيه مصيبةً أخرى، وهي أنه يَرُدُّ الأحاديثَ الصحيحةَ كلَّما خَالَفَتْ عَقْلَهُ وفِكْرَهُ، كحديث الباب، فإنه لم يَعْقِلْ كيف تُرْجَمُ القردة - القردة الزانية - فإِنه من دَيْدَن الإِنسان دون الحيوان.
---(6/103)
قلتُ: وهذا مهملٌ، وقد ثَبَتَ اليومَ فيها أفعالٌ تَدُلُّ على ذكاوتهم. وقصصُها شهيرةٌ، يتعجَّب منها كل ذي أُذُنَيْن، وقد دوَّن اليوم أهل أمريكا لسانها أيضاً، فما الاستبعادُ في الرَّجْمِ، فإن اللَّهَ تعالى لو كان خَلَقَ فيها شهوراً لذلك، لم يَمْنَعْهُ منه مانعٌ.
وصرَّح السيوطي في «اللآلىء المصنوعة»: أن ابن الجوزيِّ غال في الحكم بالوضع، حتَّى اشتهر في شدَّته، كما اشتهر الحاكم بالتساهل في التصحيح، ومن ههنا لا يَعْبَأُ المحدِّثون بجرح ابن الجوزيِّ، وتصحيح الحاكم، إلاَّ ما ثَبَتَ عندهم.
باب ُ مَبْعَثِ النبي صلى الله عليه وسلّم
مُحَمَّدبْن عَبْدِ اللَّهِبْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِبْنِ هَاشِمِبْنِ عَبْدِ مَنَافِبْنِ قُصَيِّبْنِ كِلاَبِبْنِ مُرَّةَبْنِ كَعْبِبن لُؤَيِّبْنِ غَالِبِبْنِ فِهْرِبْنِ مَالِكِبْنِ النَّضْرِبْنِ كِنَانَةَبْنِ خُزَيمَةَبْنِ مُدْرِكَةَبْنِ إليَاسَبْنِ مُضَرَبْنِ نِزَارِبْنِ مَعَدِّبْنِ عَدْنَانَ.
باب ُ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ مِنَ المُشْرِكِينَ بِمَكَّة
تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيىبْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ: قُلتُ لِعَبْدِ اللَّهِبْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ: قِيلَ لِعَمْرِوبْنِ العَاصِ. وَقَالَ مُحَمَّدُبْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: حَدَّثَنِي عَمْرُوبْنُ العَاصِ.
باب ُ إِسْلاَمِ أَبِي بَكْرٍ الصّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
---(6/104)
قال العلماءُ: إن حفظَ نَسَبِهِ صلى الله عليه وسلّمإلى ثلاثة آباء فرضٌ على كلِّ مسلم، حتَّى أَكْفَرُوا من لم يَحْفَظْهُ، وهو مبالغةٌ عندي. نعم يَجِبُ بقدر ما تَحْصُلُ به المعرفة التامة. والفقهاءُ وإن ذَكَرُوا في الدعوى أنه يُشْتَرَطُ للتعريف بيان النسب، ولكنه عندي فيما لم يكن الرجل معروفاً، لا يُعْرَفُ إلاَّ بالآباء، أمَّا إذا كان معروفاً، تَعْرِفُه الغبراءُ والخضراءُ، ففي ذكر اسمه كفايةٌ عن بيان نَسَبَه. ومع ذلك الأَوْلَى أن يَحْفَظَ ثلاثةً، أو أربعةً من أجداده صلى الله عليه وسلّم فإن حَفِظَ كلَّهم، فهو أجودُ وأجودُ.
وذكر البخاريُّ من أجداده إلى عدنان فقط، لأن نَسَبَهُ فوق عدنان، ممَّا كَتَبَهُ آصف بن برخياء، وزير أرمياء عليه الصَّلاة والسَّلام. وقيل: وزيرُ سليمان عليه السلام، وهو المشهورُ. وذكر فيه نَسَبَ عدنان أيضاً، غير أنه أَخَذَهُ من كُتُب بني إسرائيل، ولا نقلَ فيه من النقول الإِسلامية. ثم إنَّهم قالوا: إن سلسلةَ الآباء من عندنا إلى إسماعيل عليه الصَّلاة والسَّلام على ما ذَكَرُوه غيرُ متَّصِلَةٍ، فَحَكَمُوا بسقطٍ من الوسط. وقد كان جلالةُ الملك - عَالِمْكِير - أَمَرَ العلماءَ بضبط نَسَبِهِ صلى الله عليه وسلّمفوق عدنان، إلى آدم النبيِّ عليه السلام، وسمَّاه: «نسب تامه مقبول»، وفيه منفعةٌ أخرى، وهي أنه نبَّه على كلِّ موضعٍ اتَّصل فيه نَسَبُ رجلٍ شهسرٍ منهم، بعمود من نَسَبِهِ صلى الله عليه وسلّم
أمَّا إن عدنان من هو؟ فهو أمرٌ تكفَّل به التاريخ، وأي اعتمادٍ به إذا لم يَخْلُصْ «الصحيحان» عن الأوهام، حتَّى صنَّفُوا فيها كُتُباً عديدةً، فأين التاريخ الذي يُدَوَّنُ بأفواه الناس؟ وظنونُ المؤرِّخين لا سندَ لها ولا مَدَدَ. وقد مرَّ أن جِدَّ اليمن قحطان معاصر عدنان، حارب بُخْتُ نَصَّر مِرَاراً، فلم يُقَاوِمْهُ حتَّى الْتَجَأَ باليمن، وسَكَنَ بها، وقد مرَّ من قبل.
---(6/105)
باب ُ إِسْلاَمِ سَعْدِبْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه
3858 - قوله: (وإني لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ) وهو خلافُ الواقع، ولكنَّهُ قال باعتبار عِلْمِهِ.
باب ُ ذِكْر الجِنِّ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ} (الجن: 1)
باب ُ إِسْلاَم أَبِي ذَرّ الغِفَاريِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
3860 - قوله: (قَالَ: هُمَا مِنْ طَعَامِ الجِنِّ)، علَّل النهي عن الاستنجاء بالرَّوْثَةِ ههنا، بكونها طعامَ الجِنِّ، وتارةً علَّله بكونها رِكْساً، أو رِجْساً، كما مرَّ. وهذا الآخر حُجَّةٌ للحنفية في مسألة نجاسة الأَذْبَالِ، وقد مرَّ تقريرها. فمن ذَهَبَ يَهْدِرُ أحد التعليلين للآخر، فقد حَادَ عن الصواب، فَلْيَأْخُذْ بها جميعاً. والوجهُ أنه علَّل بالأوَّل في زمن اختلاف الجِنِّ إليه، وعلَّل بالثاني في غيره. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقد تُكُلِّمَ في الأصول أنه هل يَصِحُّ تعدُّد العِلَلِ لحكمٍ واحدٍ، أو لا؟ وهو مهملٌ عندي، فإنه لا استحالةَ في تعدُّد العلل الشرعية، وإنما اشتبه عليهم الأمرُ، لأن المعقولين بَحَثُوا في تعدُّد العِلَلِ التامَّةِ. أمَّا العِلَلُ الناقصةُ، فقد ذَهَبُوا أيضاً إلى جوازها. ثم جاء علماؤنا، وقد مَارَسُوا هذا البحث، فَأَجْرُوه في العلة الشرعية أيضاً، مع أن موضعه المعقولُ، والعِلَلُ التامَّةِ.
باب ُ إِسْلاَم سَعِيدِبْنِ زَيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ إِسْلاَمِ عُمَرَبْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
باب ُ انْشِقَاق القَمَر
---
وَقَالَ أَبُو الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: انْشَقَّ بِمَكَّةَ. وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُبْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
باب ُ هِجْرَة الحَبَشَة(6/106)
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَينَ لاَبَتَينِ». فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ.
فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسى، وَأَسْمَاءَ، عَن النبي صلى الله عليه وسلّم
وَقَالَ يُونُسُ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَفَلَيسَ لِي عَلَيكُمْ مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ.
قال أَبو عبد الله: {بَلآء مِّن رَّبّكُمْ} ما ابتُلِيتم به من شدَّة. وفي موضع: البلاءُ الابتلاء والتحميص، من بَلَوتهُ ومحَّصتهُ أَي استخرجتُ ما عنده. يبلو: يختبر، مُبتليكم: مُختبِرُكم. وأَما قوله: {بلاء عظيم} النِّعَم. وهي مِن أَبليْتُه، وتلك من ابتليته.
باب ُ مَوْتِ النَّجَاشِي
باب ُ تَقَاسُم المُشْرِكِينَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلّم
باب ُ قِصَّة أَبِي طَالِب
وهو زوجُ أخت عمر.
3862 - قوله: (وإنَّ عُمَرَ لَمُوثِقي على الإِسْلاَمِ) أي كان عمرُ أجلسني في بيته، لأجل أنِّي كنتُ أَسْلَمْتُ، ولم يَكُنْ عمرُ أسلم يومئذٍ، فَلَقِيتُ منه ما لَقِيتُ. كأنَّه يتعجَّبُ من انقلاب الزمان في هذه المدَّةِ اليسيرةِ، حيث أن عُمَرَ كان حَبَسَهُ على الإِسلام إذ هو كافرٌ، وأنتم قَتَلْتُم عثمان وأنتم مسلمون، وهو على الإِسلام أيضاً، فكيف انْقَلَبَ الزمانُ ظهراً لبطن؟.
---
3866 - قوله: (لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي)... إلخ، يعني ياميرا ظن غلط هي يايه شخص زمانه جاهلية مين كاهن هواهى يا كافر هى هى.
3866 - قوله: (إِبْلاَسَهَا): نا كامى اورنا اميدى.
3866 - قوله: (بعد إنْكَاسِهَا): أوند هى هونى كى بعد.
3866 - قوله: (ولُحُوقَهَا بالقِلاَصِ وأَحْلاَسِهَا) يعني: اب بستيون مين أن كى آمد ورفت نه هوكى اونتنيون وغيره كيساته جنكل مين رهينكى.
3866 - قوله: (يا جَلِيح): جست جالاك آدمى.(6/107)
3866 - قوله: (أَمْرٌ نَجِيح): ايك امر كاميابى كاظاهر هوا.
3872 - قوله: (فَجَلَدَ الوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وأَمَرَ عَلِيّاً أن يَجْلِدَهُ)... إلخ، وقد مرَّ في «البخاريِّ»: «فأمره أن يَجْلِدَهُ. فجلده ثمانين». وإنَّما ذَكَرَ الراوي ههنا أربعين فقط، لأن عليّاً جلده أربعين، فتكلَّم كلاماً بعد ما جلده أربعين، ثم جلده أربعين، كما عند الطحاويِّ: «فقال عثمان لعليَ: أَقِمِ الحدَّ. فقال عليٌّ لابنه الحسن: أَقِمْ عليه الحدَّ. قال: فقال الحسن: ولِّ حارَّها، من تولَّى قارَّها. قال: فقال عليّ لعبد الله بن جعفر: أَقِمْ عليه الحدَّ، فأخذ السوطَ، فجعل يَجْلِدُه، وعليٌّ يَعُدُّ. حتى بَلَغَ أربعين، ثم قال له: أَمْسِكْ. ثم قال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمجَلَدَ أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سُنة. وهذا أحبُّ إلي»، والإِشارةُ عندي إلى الثمانين الذي فعله عمر.
3912 - قوله: (أَرْبَعَةَ آلافٍ في أَرْبَعَةٍ)، يعني: جار هزار مها جرين كيلئى جار قسطون مين.
3915 - قوله: (بَرَدَ لَنَا): مراد بج رهناهى جيساكه سنارلوهى كو كرم كركى صلى الله عليه وسلّمنى مين دالتا هي صلى الله عليه وسلّمر جواس؟ مين سى كياوه كيا باقى بج رهتا هى.
---
3916 - قوله: (ثم بَايَعْتُه) ذَكَرَ الراوي آنفاً أنه بَايَعَهُ أوَّلاً، وههنا يقول: إنه بَايَعَهُ بعده. والصوابُ هو الأوَّلُ، فإنه قد أَتَى به هناك أتمَّ. ويَدُلُّ على بيعته أوَّلاً، لأنه بصدد رفع غلطٍ وَقَعَ فيه الناس، وبيان منشئه، ولا يَتِمُّ إلاَّ إذا كانت بيعتُهُ أوَّلاً.Y
3917 - قوله: (أُخِذَ عَلَيْنَا بالرَّصَدِ): صلى الله عليه وسلّمر الكاركهاتها قريش نى.
3917 - قوله: (قَدْ رَوَّأْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم؟: مين نى اوسكوتيار كر ركهاتها.(6/108)
3919 - قوله: (فَغَلَفَهَا بالحِنَّاءِ والكَتَمِ) وسَهَا صاحبُ «مجمع البحار» في ترجمة الكَتَم بالنِّيلِ، فإن النيل بالحِنَّاء يَصِيرُ أسودَ حالكاً، بل هو نبتٌ، أو بَذْرٌ يُجْلَبُ من اليمن، يكون خُضَابُه أحمر. نعم الكَلْف، والوَسِمَة: النِّيل.
3921 - قوله: (ومَاذَا بالقَلِيبِ)، قَلِيبِ بَدْرٍ، مِنَ الشِّيزَى، تَزَيَّنُ بالسَّنَام، مقام بدركى كنوين كومين كيا كهون كه اوس نى همين درخت شيزى كى اول سيبنيون سبى محروم كرديا جو كبهى كوهان شتركى كوشت سى ميزن هوا كرتى تهين.
3921 - قوله: (ومَاذَا بالقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، من القَيْنَاتِ، والشَّرْبِ الكِرَامِ)، اوراسى طرح كانى والى باند يو نسى اور معزز باده نوشون سى.
3921 - قوله: (تُحَيِّي بالسَّلاَمَةِ، أُمُّ بَكْرٍ، وهَلْ لي بَعْدَ قَوْمِي من سَلاَمِ؟) أم بكر تو مجهى سلامتى كى دعائين ديتى هي. مكر ميرى قوم كى بربادى كى بعد بهلاميرى سلامتي كهان.
3921 - قوله: (يُحَدِّثُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا، وكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ؟) يه رسول همين دوبارى زند كى كايقين دلاتاهي حالا نكه الو نبجا نيكى بعد بهر زنده انسان هونا كيسى ممكن هي.
باب ُ حَدِيثِ الإِسْرَاء
---
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى} (الإسراء: 1)
باب ُ المِعْرَاج
باب ُ وُفُودِ الأَنْصَارِ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلّمبِمَكَّةَ، وَبَيعَةِ العَقَبَة
باب ُ تَزْوِيجِ النبي صلى الله عليه وسلّمعائِشَةَ، وَقُدُومِهَا المَدِينَةَ، وَبِنَائهِ بِهَا
باب ُ هِجْرَة النبي صلى الله عليه وسلّموَأَصْحَابِهِ إِلَى المَدِينَة(6/109)
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِبْنُ زَيدٍ، وَأَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «لَوْلاَ اْلهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ».
وَقالَ أَبُو مُوسى عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم «رَأَيتُ في المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلي إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ».
وَقالَ أَبَانُبْنُ يَزِيدَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ: أَخْبَرَتْني عائِشَةُ: مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا نَبيَّكَ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيشٍ.
---(6/110)
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُبْنُ الزُّبَيرِ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّملَقِيَ الزُّبَيرَ فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تِجَاراً قافِلِينَ مِنَ الشَّأْمِ، فَكَسَا الزُّبَيرُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّموَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ المُسْلِمُونَ بِالمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّممِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْماً بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ، لأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّموَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ العَرَبِ، هذا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمبِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِوبْنِ عوْفٍ، وَذلِكَ يَوْمَ الاِثْنَينِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمصَامِتاً، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ - مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم- يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَف النَّاسُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّمعِنْدَ ذلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمفِي بَنِي عَمْرِوبْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيلَةً،
---(6/111)
وَأُسِّسَ المَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِصلى الله عليه وسلّمبِالمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ - وَكَانَ مِرْبَداً لِلتَّمْرِ، لِسُهَيلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَينِ يَتِيمَينِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَبْنِ زُرَارَةَ - فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمحِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هذا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ». ثُمَّ دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمالغُلاَمَينِ فَسَاوَمَهُمَا بِالمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِداً، فَقَالاَ: لاَ، بَل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِداً، وَطَفِقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّميَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ، وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: «هذا الحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيبَرْ، هذا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ. وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ». فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّمتَمَثَّلَ بِبَيتِ شِعْرٍ تَامّ غَيرِ هذا البَيتِ.
تَابَعَهُ خَالِدُبْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عَلِيّبْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلّموَهيَ حُبْلَى.
* وَمَاذَا بِالقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ** مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
* وَمَاذَا بِالقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ** مِنَ القَينَاتِ وَالشَّرْبِ الكِرَامِ
---(6/112)
* تُحَيِّي بِالسَّلاَمَةِ أُمُّ بِكْرٍ ** وَهَل لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلاَمِ
* يُحَدِّثُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ** وَكَيفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
باب ُ مَقْدَمِ النبي صلى الله عليه وسلّموَأَصْحَابِهِ المَدِينَة
* كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِهِ ** وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
* أَلاَ لَيتَ شِعْرِي هَل أَبِيتَنَّ لَيلَةً ** بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
* وَهَل أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ** وَهَل يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قالَتْ عائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّمفَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُل حُمَّاهَا فَاجْعَلهَا بِالجُحْفَةِ».
تَابَعَهُ إِسْحاقُ الكَلبِيُّ: حَدَّثَني الزُّهْرِيُّ: مِثْلَهُ.
باب ُ إِقامَةِ المُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِه
باب مِنْ أيْنَ أَرَّخُوا التَّاريخ
تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ»
وَمَرْثِيَتِهِ لِمَنْ ماتَ بِمَكَّةَ.
---(6/113)
قالَ أَحْمَدُبْنُ يُونُسَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: «أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ، وَلَسْتَ بنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا في فِي امْرَأَتِكَ». قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمْلاً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفعَةً، وَلَعَلكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لكِنِ البَائِسُ سَعْدُبْنُ خَوْلَةَ». يَرْثِي لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّمأَنْ تُوُفيَ بمَكَّةَ.
وَقالَ أَحْمَدُبْنُ يُونُسَ وَمُوسى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: «أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ».
باب كَيفَ آخى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بَينَ أَصْحَابِه
وَقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِبْنُ عَوْفٍ: آخى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بَينِي وَبَينَ سَعْدِبْنِ الرَّبِيِع لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ.
وَقالَ أَبُو جُحَيفَةَ: آخى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بَينَ سَلمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ.
باب
وَقالَ سُفيَانُ مَرَّةً: قَالَ: قَدِمَ عَلَينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ وَنَحَنُ نَتَبَايَعُ، وَقالَ: نَسِيئةً إِلَى المَوْسِمِ، أَوِ الحَجِّ.
باب ُ إِتْيَانِ اليَهُودِ النبي صلى الله عليه وسلّمحِينَ قَدِمَ المَدِينَة
{هَادُواْ} (البقرة: 62) صَارُوا يَهُودَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {هُدْنَآ} (الأعراف: 156) تُبْنَا، هَائِدٌ تَائِبٌ.
---
واعلم أن الإِقامةَ بمكَّةَ كانت حراماً على من هَاجَرَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفوق ثلاث، وكأنَّهم كانوا يَعُدّونها نقصاً في هجرتهم، ونقصاً لعملهم.(6/114)
3941 - قوله: (لَوْ آمَنَ بي عَشَرَةٌ من اليَهُودِ، لآمَنَ بي اليَهُودُ) ظاهرُه مشكلٌ، فإنهم قد آمنوا به أضعافَ ذلك، ثم لم يُؤْمِنْ اليهودُ كلُّهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأجاب عنه الحافظُ، ولم يَنْجَحْ. قلتُ: وقد رُوِي فيه قيدٌ، وهو: «عشرةٌ من أَحْبَارِ اليهود»، فانحلَّ الإِشكالُ. وكثيراً ما تكون القيودُ مذكورةً في موضعٍ، وتَسْقُطُ عن الرواية، فَيَحْدُثُ الإِشكال، ويُورِثُ الإِملال. وذلك لأنَّهم بصدد نقل القصة فقط على ما سَنَحَ لهم بدون مراعاة الأحكام. وكيف يُمْكِنُ نقل الأخبار برعاية الأحكام الفقهية. وكذا الزيادةُ والنقصانُ من الرواة، أمرٌ لم يَزَلْ منذ وُجِدَ العالم إلى يومنا هذا، فأيُّ بُعْدٍ في حدف قيدٍ؟ والناسُ إذا يمشون في عُرْفهم، لا يَسْتَبْعِدُون هذه الأمور، وإذا جاءوا في باب الأحاديث اسْتَنْكَرُوها. فينبغي أن لا يُقْطَعَ النظرُ عن الواقع، بل العلمُ هو الذي يُؤْخَذُ من الواقع، لا أن يُهَيَّأَ أولاً علمٌ من هذا الجانب. ويقطع النظر عن الواقع، فإنَّ ذلك لجهلاً.
باب ُ إِسْلاَم سَلمَانَ الفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
3948 - قوله: (قال: فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى ومحمَّدٍ صلى الله عليه وسلّمسِتُّ مِئَةِ سَنَةٍ)... إلخ.
واعلم أن عمر سلمان كان ثلاث مئة وخمسين سنة، وقد أَدْرَكَ وصيُّ عيسى عليه الصلاة والسلام. وقد عَدَّ زمنَ الفَتْرَةِ ههنا ست مئة سنةٍ، والتحقيقُ أنها خمس مئة وخمسون سنةٍ. وهذا القدرُ من الفرق مما يُمْكِنُ أن يَقَعَ بين الحساب الشمسيِّ والقمريِّ. وإنما تعرَّض إلى زمان الفَتْرَةِ، ليقدِّر أن لقاءَه ممكنٌ من وصيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام.
---
كتاب المَغَازِي
باب ُ غَزْوَةِ العُشَيرَةِ، أَوِ العُسَيرَة
وقالَ ابْنُ إِسْحاقَ: أَوَّلُ ما غَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم الأَبْوَاءَ، ثُمَّ بُوَاطَ، ثُمَّ العُشَيرَةَ.(6/115)
واعلم أن الغزوةَ: ما شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبنفسه المباركة، وإلاَّ فهي سَرِيَّةٌ. ولا يَلْزَمُ فيها وقوعُ الحرب، بل يكفي الخروج لإِرادتها. ثم المرادُ بالمغازي ههنا أعمُّ من أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمشَهِدَهَا بنفسه الكريمة، أو كانت بجيشٍ من قِبَلِهِ فقط. وسواء كان إلى بلادهم، أو إلى الأماكن التي حلُّوها حتى دَخَلَ فيها، مثل: أحد، والخَنْدَق. ورُوِيَ عن أبي حنيفة: أن ما اشتمل على أربع مئة نفرٍ، فهو سَرِيَّةٌ، فإن زاد فهو جيشٌ. واخْتُلِفَ في عدد المغازي على أنحاءٍ، ولا تَنَاقُضَ فيه. فإن مفهومَ العدد غيرُ مُعْتَبَرٍ. نعم لا بُدَّ للتعرُّض إلى خصوص العدد من داعيةٍ. ثم اعلم أن محمدَ بن إسحاق من أئمة المغازي، وله سيرةٌ شهيرةٌ، إلاَّ أنها عزيزةٌ لا تُوجَدْ، وسيرةٌ لتلميذه ابن هِشَام، وهذه تُوجَدُ.
باب ُ ذِكْرِ النبي صلى الله عليه وسلّممَنْ يُقْتَلُ بِبَدْر
---(6/116)
واعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان أَخْبَرَهُمْ من قبلُ بأسماء من يُقْتَلُ فيها من الكفار، وحيث يُصْرَعُ، فوقع كما كان أَخْبَرَ به، حتَّى لم يَتَجَاوَزُوا عنه قيدَ شبرٍ. وكذلك أخبارُ الأنبياء تَحْكِي عن الواقع، ولا يتحمَّل فيها الخلاف بنحو شعر وشُعَيْرَة. نعم قد يجيء فيها الخبط من قبل الرواة. ومن ظَنَّ أن الثقاتِ براءٌ من الأغلاط، فلم يَسْلُكْ سبيلَ السداد. وإنما المعصومُ من عَصَمَهُ اللَّهُ، والجاهلُ لا يفرِّق بين أغلاط الرواة وبين أخبار الأنبياء عليهم السلام، فيحمل خبطَهم وأغلاطَهم على رقاب الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام. ما أضلُّه، وأجهلُه. وهذا الذي يَقْتَحِمُه لعين القاديان، وذلك لأنه لمَّا يَرَى أكثرَ أخباره تتخلَّف عن الواقع، وتُخَالِفُهُ، ولا يستطيع أن يركِّبَ له عُذْراً، جعل يَهْزَأُ بأخبار رسل الصدق، ويتتبع أغلاطهم. وأنَّى هي، فطاح سعيُه، وعاد عملُه رقماً على الماء: {وَمَا كَيْدُ الْكَفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَلٍ} (غافر: 25).
3950 - قوله: (وقَدْ أَوَيْتُم الصُّبَاةَ) والصابيءُ لم يُسْتَعْمَلْ في القرآن إلاَّ مهموزاً، وفي الحديث بالنحوين: مَهْمُوزاً، وناقصاً. وخَفِي على كثيرٍ من المفسِّرين عقائدهم، حتى زَعَمَ ابن تَيْمِيَة: أن هؤلاء أيضاً كانوا على دينٍ سماويَ في زمانٍ، وليس كذلك. وإنما كان هؤلاء يتعبَّدون بالنجوم من النماردة، يَسْكُنُون العراق، ويتكلَّمُون بالكلدانية. ولم يُدْرِكْ حقيقةً مذهبهم غير الرجلين فيما أعلم: الأول أبو بكر الجصَّاص في «أحكامه»، والثاني ابن النديم في كتاب «الفهرست».
---(6/117)
3950 - قوله: (أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ) كان أبو سفيان والد الأمير معاوية يجيء بركبٍ من الشام إلى المدينة، فَبَلَغَ خبرُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأراد أن يُغِيرَ عليهم بعدَّةٍ من أصحابه. ولمَّا لم يَكُنْ من إرادته الغزو، لم يتأهَّب لهم، ولم يهتمَّ بشأنهم، وخَرَجَ إليهم كما هو، غير مهتمَ. فلمَّا بَلَغَ أبا سفيان خبرُه، عَدَلَ عن الطريق، وأخذ ساحل البحر، فنجى. وأنجى. ثم بلغت هذه القصة أهل مكة، فتأهَّب أبو جهلٍ للحرب بألف نفرٍ منهم، وخَرَجَ على أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فاجتمعت الفئتان في بدرٍ من غير مُوَاعدةٍ، ثم كان من أمرهما ما كان.
3950 - قوله: (أَخَذَ لا يَنْزِلُ مَنْزِلاً إلاَّ عَقَلَ بَعِيرَهُ)، وأُمَيَّةُ، وإن كان كافراً لا يُؤْمِنُ بأخباره صلى الله عليه وسلّم لكنه كان قد جرَّب أن ما يُخْبِرَ به صلى الله عليه وسلّملا يكون إلاَّ حقّاً، فلمَّا سَمِعَ أنه قد أَخْبَرَ بِقَتْلِهِ، أخذ أمره من قبل، فاحْتَالَ لنفسه، بأن كان يَعْقِلُ بعيرَه قريباً منه لِيَفِرَّ عند الخطر. لكن أين كان يغنيه التدبير عن التقدير، فأتاه من حيث لم يَحْتَسِبْ. فلمَّا رأى انهزامَ الكفار، وأمرَهم مُدْبِراً، رَكِبَ على بعيره، وأَصْحَبَ ابنه، وجعل يَهْرُب. فلمَّا رآه بلالُ، نادى الأنصار: إن هذا أُمَيَّةَ، إن نجا اليوم، فلا حياةَ لي، أي حياة طيِّبة، فلا أزال أتململ لتخلُّصه اليومَ من أيدي المسلمين.
---(6/118)
وكان أُمَيَّةُ قد آذى بلالاً شديداً، فلمَّا سَمِعَ الأنصارُ تَعَاقَبُوه، فرمى أُمَيَّةُ ابنه لِيُشْغَلُوا في قتله حتَّى يَفِرَّ منهم، فلم يَلْبَثْ الصحابةُ حتَّى قتلوه، ثم تَعَاقَبُوهُ حتَّى أحاطوا بأُمَيَّةَ. فلمَّا رأى أنه قد أُحِيطَ به، رمى نفسَه من البعير. وكان عبد الرحمن بن عَوْف صديقه، فأراد أن يُنْقِذَهُ، فتجلَّله لئلا يَقْتُلُوه، فَأَبُوْا إلاَّ أن يَقْتُلُوه، فَطَعَنُوه من تحت عبد الرحمن وقتلوه. فرحل إلى دار البوار، وصدق اللَّهُ تعالى رسولَه سيدَ الأبرار.
فائدةٌ: ليس معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ}
باب ُ قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْر
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالآفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} (آل عمران: 123 - 127).
وَقالَ وَحْشِيٌّ: قَتَلَ حَمْزَةُ طُعَيمَةَبْنَ عَدِيِّبْنِ الخِيَارِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية (الأنفال: 7).
---(6/119)
قوله: ({وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ})، أي قليلون، لا عندكم كثيرَ سلاحٍ، ولا مراكب. وكانت عِدَّتُهم ثلاث مئة، وبضعةَ عشر، على عِدَّة أصحاب طالوت عليه السلام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين خَرَجَ لإِنقاذ لوط عليه السلام من أيدي الكفار، وكانوا ذَهَبُوا به. وتلك تكونُ عِدَّةَ أصحابُ المهدي عليه السلام، وهو عددُ الرُّسُلِ. فاللَّهُ يدري ما السِّرُّ في هذا العدد. ثم إن في الآية إشكالاً، فإنه تعالى وَعَدَ في آيةٍ بإِمداد الألف، وبثلاثة آلاف في آيةٍ أخرى، وفي أخرى بخمسة آلاف.
قلتُ: كان عِدَّةُ الكفار نحو ألف، فَأَرْجَفُوا أن كُرْزاً جاء بألفين، فَفَزِعَ الناسُ منه، فثبَّتهم الله تعالى، وقال: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ}... إلخ بالاستفهام، على نحو ما يجري في المخاطبات. وراجع الفرقَ بين صريح الخبر، والإِنشاء في صورة الخبر من شرح الشرح. فليس فيه وعدٌ، ولا إخبارٌ بإِنزالهم. ولمَّا لم يَجِىءْ كُرْز، لم يُحْتَجْ إلى إنزال ذلك العدد. ثم قال تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ}... إلخ، فَوَعَدَهُمْ بإِنزال خمسة آلاف، وعلَّقه بشرط الصبر والتقوى، كيلا يَنبِّئَهم بما هو فاعلٌ.
فالألفُ كانوا موعودين مطلقاً، وخمسةُ آلاف بشرط الصبر والتقوى، وثلاثة آلاف بشرط مجيء كُرْز. أو كان الأصلُ الإِمدادَ بخمسة آلاف، وإنَّما أخبرهم بها تدريجاً، لِيَفْرَحُوا به، وهو أيضاً سننُ بيانٍ، أي إلقاء المراد حصةً حصةً، كقوله صلى الله عليه وسلّم «أَلاَ تُحِبُّون أن تكونوا ثُلْثَ أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة»، الحديث. تدرَّج فيه من قليلٍ إلى كثيرٍ لهذا. وهو المرادُ عندي من نسخ الخمسين إلى الخمس في الصلوات، على ما مرَّ تقريره.
---(6/120)
أمَّا إنهم كم نَزَلُوا، فاللَّهُ تعالى أعلمُ به، فَيُمْكِنُ أن يكونوا خمسة آلاف، تفضُّلاً منه. وإنما وعدهم بالألف بلا شرطٍ، لأنه كان ذلك عدد الكفار. والمصنِّفُ جَمَعَ تلك الآيات في ترجمةِ الباب إشارةً إلى أن كلَّها نزلت في بدرٍ.s
وقد تصدَّى المفسِّرون إلى وجه التوفيق بين وعد إمداد الألف، وثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، فَذَكَرُوا وجوهاً. فَحَمَلَهُ بعضُهم على الغزواتِ المتعدِّدةِ، وجَعَلَهَا المصنِّفُ كلَّها في بدرٍ، وقد عَلِمْتَ ما عندي.
قوله: ({مُسَوِّمِينَ}): وردى صلى الله عليه وسلّمنى هوى، وذلك لإِلقاء الرُّعْب في قلوب الذين كَفَرُوا، فإنَّ للزيِّ الحسنِ تأثيراً في إلقاء المهابة على العدو. ولذا كانوا في القديم إذا خَرَجُوا للحرب لَبِسُوا قُمُصَ الحرير، ولأنها أنفعُ وأحصنُ. ثم إن اللَّهَ تعالى، وإن كان يَعْلَمُ حالَ كُرْز أنه يجيء أو لا، وأن الملائكةَ تَنْزِلُ فيه ألفاً، أو خمسة آلاف، لكن تلك من سُنَّة الله: أنه قد يُخْفِي أمراً، ولا يُظْهِرُهُ على رسله أيضاً لمصالح يَعْلَمُهَا. فَأَظْهَرَهُ بحيث يَذْهَبُ ذهنُ السامع كلَّ مذهبٍ، ولا يَقْطَعُ عن نفسه التردُّد. وهو معنى «لعل» في القرآن كما اختاره سيبويه، لا كما اختاره السيوطي: أنه في القرآٌّ لليقين. بل لأنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا أراد أن لا يُخْبِرَنا على حقيقة الأمر، استعمل في كلامه ما يُسْتَعْمَلُ له في كلامنا، لأن القرآنَ لم يَنْفَكَّ في موضعٍ عن محاورات الناس، فكلُّهم حسب عرفهم. فليس موضعه: أن الله سبحانه لا يَعْلَمُهُ - والعياذ بالله - ولكنَّ اللَّهَ سبحانه يريد أن لا يَنْكَشِفَ علينا الأمرُ على جليته، فيؤدِّيه بنحوٍ يبقى فيه الإِبهام.
---(6/121)
قوله: (ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ)، واللام فيه بدل كي تتقدَّمُه الواو، وتكون الجملةُ بعدها معطوفةً على جملةٍ مقدَّرةٍ. وقد توجَّه إليها الزمخشريُّ في «الكشاف»، وذَكَرَ له الشاه عبد القادر فائدةً على طريق الضابطة في «فوائد».
قوله: (وقال وَحْشِيٌّ: قَتَلَ حَمْزَةُ)... إلخ، ستجيء قصته في البخاريِّ.
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ لله وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 9 - 13).
باب
باب ُ عِدَّةِ أَصْحَابِ بَدْر
باب ُ دُعَاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمعَلَى كُفَّارِ قُرَيشٍ:شيبَةَ وَعُتْبَةَ وَالوَلِيدِ وَأَبِي جَهْلِبْنِ هِشَامٍ، وَهَلاَكِهِم
---
وفيه وعدٌ بالألف. وما ألطفُ كلامَ الزمخشريِّ. حيث قال: إن قوله: {مُرْدِفِينَ} يُشْعِرُ بكون الآخرين خلفهم أيضاً، فَيُمْكِنُ أن يكونَ الألف أمامهم، وألفان رِدْفَهُمْ.(6/122)
قوله: ({إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ})... إلخ، وكذلك النُّعَاسُ يُلْقَى عند الكيفيات الباطنية، كما كان يَطْرَأُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعند نزول الوحي. ويُرْوَى أن عيسى عليه السلام أيضاً رُفِعَ في تلك الحالة.
قوله: ({وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَنِ}): أي وَسَاوِسَه.
3953 - قوله: (فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ. فَقَالَ: حَسْبُكَ)... إلخ. وذلك لأنَّ أبا بكرٍ لم يكن زعيمَ هذا الأمر، فلم يَذُقْ من همِّه ما كان يَذُوقُه صلى الله عليه وسلّم ولم يَفْزَعْ كفزعه، وجعل يُسَلِّيه. وإنَّما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمصاحبَ الواقعة، فجعل يُلِحُّ على ربِّه حتَّى بُشِّرَ بالنصر. وإنَّما خَشِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّممع وعد النصر، لأن المتكلِّمَ قد تكون في كلامه شروطٌ وقيودٌ، ولا يُدْرِكُهَا المُخَاطَبُ. ومن طريق الخاشع أنه لا يتشجَّعُ نظراً إلى تلك القيود.
أَلاَ ترى إلى أصحاب بدرٍ كيف بُشِّرُوا بالجنة، ثم هل رأيت أحداً منهم جَلَسَ مُطْمَئِناً اعتماداً على البِّشَارة. وهل نَسِيتَ ما جرى بين أبي موسى، وعمر من الكلام. فإن عمر رَضِي بأن تكونَ أعمالُه بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكَفَافاً، يَخْرُجُ عنها رأساً برأس. فالمؤمنُ لا يَنْقَطِعُ عنه الخوفُ بحالٍ، وأمَّا الأنبياءُ عليهم السلام، فحالُهم أعلى وأرفعُ، وقد مرَّ تقريره ونظائره. ومن هذا الباب: كثرة ترداده صلى الله عليه وسلّم واضطرابه عند رؤية السحاب، مع كونه آمناً من العذاب.
---(6/123)
فائدةٌ مهمةٌ: واعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمسمَّاه ربه أحمد، ولذا وقعت البِّشَارة بذلك الاسم، وإليه أُشِيرَ في قوله تعالى: {وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6)، فأضاف لفظَ {اسْمُهُ} ولم يَقُلْ: ومبشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي أحمد، لِيَدُلَّ على أنه وإن اشتهر بين الناس بمحمدٍ، ولكن اسمه عند الله تعالى: أحمد. على نحو اسم يحيى عليه السلام، حيث سمَّاه به ربُّه، وكان يُدْعَى قبله: يوحنا، وكعيسى عليه الصلاة والسلام، حيث كان اسمُه بينهم: يَسُوع، أو أيشوع، فغيَّره إلى عيسى عليه الصلاة والسلام. فالمشهورُ عندهم من أسماء هذه الأنبياء عليهم السلام كان: يوحنا، ومحمد، وأيشوع، وهدى اللَّهُ سبحانه إلى أسمائهم، وعلَّمنا أنها: يحيى، وأحمد، وعيسى أيضاً، وأحمد وفارقليط بمعنى. ومن ههنا تبيَّن السِّرُّ في وجه البِّشَارة باسم أحمدغ دون محمد صلى الله عليه وسلّم
باب ُ قَتْلِ أَبِي جَهْل
قالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ، حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ، تَوْبِيخاً وَتَصْغِيراً ونَقِمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَماً.
3961 - قوله: (وبِهِ رَمَقٌ) ويُعْلَمُ من مقالته تلك أن حَوَاسَهُ كانت حاضرةً، وعقلُه صحيحاً، إلاَّ أنه لم يَكُنْ شَاهَدَ عالمَ الغيب بَعْدُ. والعلماءُ قد أَطْلَقُوا القولَ بعدم عبرة الإِيمان عند النزع، مع أن الحواسَ قد تبقى سالمةً في حال النزع، وخروج الروح عن بعض الأعضاء أيضاً. ولا يَنْكَشِفُ العالم الروحاني، فينبغي أن يُعْتَبَرَ في المسألة بانكشاف عالم الغيب وعدمه، لا بالنزع فقط. فإن آَمَنَ وقد انكشف له عالم الغيب، لا يُعْتَبَرُ بإِيمانه، وإلاَّ يُعْتَبَرُ. فالأَوْلَى أن يكونَ مناطُ العِبْرَةِ هو ذلك، ذون النزع فقط.
---
3968 - قوله: (هؤُلاَءِ الآياتُ في هؤُلاَءِ الرَّهْطِ) واعلم أن هؤلاء يَجِيءُ لغير ذوي العقول أيضاً، وكذلك أولئك.(6/124)
3973 - قوله: (فِيهِ فَلَّةٌ فُلَّهَا) بصيغة المجهول. والضميرُ فيه يَرْجِعُ إلى مصدره، كما في ضُرِبَ، أي أوقع الضرب.
3976 - قوله: (طَوِيَ): بى من كا كنوان.
قوله: (بئر) جِسصلى الله عليه وسلّم من هو (ركى) كرها.
3976 - قوله: (ما أَنْتُمْ بأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) وقد مرَّت مسألةُ سماع الأموات. وأمَّا قولُه تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} (فاطر: 22)، فلقائلٍ أن يقولَ: إنه محمولٌ على نفي سماعٍ يترتَّبُ عليه الإِجابة. أو على نفيه بحسب عالمنا، فإن السماعَ إن كان، فهو في عالمٍ آخر. وإمَّا في عالمنا فهو كالمعدوم، أو أنه على حدِّ قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} (البقرة: 18)، مع وجود السمع، والنطق، والبصر، كما أَجَهابَ به السيوطي في نظم:
*وآيةُ النفي معناها سماعُ هدى ** لا يَقْبَلُونَ، ولا يَصْغُونَ للأَدَبِ
واعلم أن التَّفْتَازَانيَّ نقل الإِجماع على علم الأموات، وإنَّما الخلافُ في سماعهم. وكذا نَقَلَ أن لا خلافَ في نفس سائر الصفات غير السماع، فالإِيابُ، والذهابُ، ونحوهما منفيٌّ عنهم رأساً. ونَقَلَ ابنُ حَجَرٍ في «فَتاواه»: أن الأموات يتحرَّكُون من مكانٍ إلى مكانٍ أيضاً، وَأَنْكَرَ الاتفاقَ فيه. قلتُ: كلامُ التفتازاني في حقِّ الأجساد دون الأرواح، وإثباتُ ابن حَجَر في حقِّ الأرواح، فَصَحَّ الأمران.
3976 - قوله: (قال قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حتَّى أَسْمَعَهُمُ)، ويُؤَيِّدُ هذا الراوي ما عند ابن كثير: «إذا مرَّ أحدُكم بقبر رجلٍ يعرفه، يَرُدُّ اللَّهُ تعالى عليه روحَهُ»... إلخ. فَدَلَّ على رَدِّ الروح عليه، فلا يَسْمَعُ في كلِّ وقتٍ.
باب ُ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرا
---
باب
* فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ** عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
* وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ وَإِنْ يَشَأْ ** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ(6/125)
ثُمَّ قَامَ إِلَيهِ أَبُو سرْوَعَةَ عُقْبَةُبْنُ الحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْراً الصَّلاَةَ، وَأَخْبَرَ - يَعْني النبي صلى الله عليه وسلّم- أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيشٍ إِلَى عَاصِمِبْنِ ثَابِتٍ - حِينَ حُدّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ - أَنْ يُؤْتَوْا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً عَظِيماً مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيئاً.
وَقَالَ كَعْبُبْنُ مَالِكٍ: ذَكَرُوا مَرَارَةَبْنَ الرَّبِيعِ العَمْرِيَّ، وَهِلاَلَبْنَ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيَّ، رَجُلَينِ صَالِحَينِ، قَدْ شَهِدَا بَدْراً.
تَابَعَهُ أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبِ، عَنْ يُونُسَ. وَقَالَ اللَّيثُ: حَدَّثَنِي يُونُس، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: وَسَأَلنَاهُ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُبْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِبْنِ ثَوْبَانَ، مَوْلَى بَنِي عَامِرِبْنِ لُؤَيّ: أَنَّ مُحَمَّدَبْنَ إِيَاسِبْنِ البُكيرِ، وَكَانَ أَبُوهُ شَهِدَ بَدْراً، أَخْبَرَهُ.
باب ُ شُهُودِ المَلاَئِكَةِ بَدْرا
باب
قالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: قالَ سُلَيمانُ: هَكَذَا قالَهَا أَنَسٌ، قالَ: أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ قالَ: وَهَل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلتُمُوهُ؟ قالَ سُلَيمانُ: أَوْ قالَ: قَتَلَهُ قَوْمُهُ. قالَ: وَقالَ أَبُو مِجْلزٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي.
---
وَعَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ محمَّدِبْنِ جُبَيرِبْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمقالَ في أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كانَ المُطْعِمُبْنُ عَدِيّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ».(6/126)
وَقالَ اللَّيثُ، عَنْ يَحْيى عَنْ سَعِيدِبْنِ المُسَيَّب: وَقَعَتِ الفِتْنَةُ الاولَى - يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمانَ - فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَداً، ثُمَّ وَقَعَتِ الفِتْنَةُ الثَّانِيَةُ - يَعْنِي الحَرَّةَ - فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ الحُدَيبِيَةِ أَحَداً، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ، فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ.
قالَ مُوسى: قالَ نَافِعٌ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ: قالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُنَادِي نَاساً أَمْوَاتاً؟ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «ما أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا قُلتُ مِنْهُمْ».
قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْراً مِنْ قُرَيشٍ، مِمَّنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، أَحَدٌ وَثَمَانُونَ رَجُلاً، وَكانَ عُرْوَةُبْنُ الزُّبَيرِ يَقُولُ: قالَ الزُّبَيرُ: قُسِمَتْ سُهْمَانُهُمْ، فَكانُوا مِائَةً، واللَّهُ أَعْلَمُ.
باب ُ تَسْمِيَةِ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، في الجَامِعِ الَّذِي وَضَعَهُأَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى حُرُوف المُعْجَم
---(6/127)
النَّبِيُّ مُحمدُبْنُ عَبْدِ اللَّهِ الهَاشِمِيُّصلى الله عليه وسلّم أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عليٌّ، ثُمَّ إِيَاسُبْنُ البُكَيرِ. بِلاَلُبْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ القُرَشِيِّ. حَمْزَةُبْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ اْلهَاشِمِيُّ. حاطِبُبْنُ أَبِي بَلتَعَةَ حَلِيفٌ لِقُرَيشٍ. أَبُو حُذَيفَةَبْنُ عُتْبَةَبْنِ رَبِيعَةَ القُرَشِيُّ. حارِثَةُبْنُ الرَّبِيِع الأَنْصَارِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ حارِثَةُبْنُ سُرَاقَةَ، كانَ في النَّظَّارَةِ. خُبَيبُبْنُ عَدِيّ الأَنْصَاريُّ. خُنَيسُبْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ. رِفَاعَةُبْنُ رَافِعٍ الأَنْصَارِيُّ. رِفاعَةُبْنُ عَبْدِ المُنْذِرِ أَبُو لُبَابَةَ الانْصَارِيُّ. الزُّبَيرُبْنُ العَوَّامِ القُرَشِيُّ. زيدُبْنُ سَهْلٍ أَبُو طَلَحْةَ الأَنْصَارِيُّ. أَبُو زَيدٍ الأَنْصَارِيُّ. سَعْدُبْنُ مالِكٍ الزُّهْرِيُّ. سَعْدُبْنُ خَوْلَةَ القُرَشِيُّ. سَعِيدُبْنُ زَيدِبْنِ عَمْرِوبْنِ نُفَيلٍ القُرَشِيُّ. سَهْلُبْنُ حُنَيفٍ الأَنْصَارِيُّ. ظُهَيرُبْنُ رَافِعٍ الأَنْصَارِيُّ وَأَخُوهُ. عَبْدُ اللَّهِبْنُ مَسْعُودٍ اْلهُذَلِيُّ. عُتْبْةُبْنُ مَسْعُودٍ اْلهُذَلِيُّ. عَبْدُ الرَّحْمنِبْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ. عُبَيدَةُبْنُ الحَارِثِ القُرَشِيُّ. عُبَادَةُبْنُ الصَّامِتِ الأَنْصَارِيُّ. عَمْرُوبْنُ عَوْفٍ، حَلِيفُ بَنِي عامِرِبْنِ لُؤَيّ. عُقْبَةُبْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ. عامِرُبْنُ رَبِيعَةَ العَنَزِيُّ. عاصِمُبْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ. عُوَيمُبْنُ سَاعِدَةَ الأَنْصَارِيُّ. عِتْبَانُبْنُ مالِكٍ الأَنْصَارِيُّ. قُدَامَةُبْنُ مَظْعُونٍ. قَتَادَةُبْنُ النَّعْمَانِ الأَنْصَارِيُّ. مُعَاذُبْنُ عَمْرِوبْنِ الجَمُوحِ. مُعَوِّذُبْنُ عَفرَاءَ وَأَخُوهُ. مالِكُبْنُ رَبِيعَةَ أَبُو أُسَيدٍ الأَنْصَارِيُّ.
---(6/128)
مُرَارَةُبْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ. مَعْنُبْنُ عَدِيّ الأَنْصَارِيُّ. مِسْطَحُبْنُ أُثَاثَةَبْنِ عَبَّادِبْنِ المُطَّلِبِبْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. مِقْدَادُبْنُ عَمْرٍو الكنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ. هِلاَلُبْنُ أُمَيَّةَ الأَنْصَارِيُّ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وفي الجمل عن الدَّرَّاني: أن وظيفةَ أسمائهم تجلو كل كَرْبٍ، وتُنْجِي من كلِّ ضيقٍ وبلاءٍ، واستمرَّ به العمل أيضاً.
3982 - قوله: (أَوَهَبِلْتِ) يعني: كياتيرى عقل مارى كئى هى.
3983 - قوله: (اعْمَلُوا ما شِئْتُم) وهو نحو مقالته لعثمان: «ما على عثمان لو لم يَعْمَلْ بعد اليوم» والعمومُ في مثله غيرُ مقصودٍ، والمرادُ منه فضائلُ الأمور ورغائبُها، دون الواجبات وفرائضها. وراجع له «المسوى»، و«المصفي» للشاه وليّ الله. ثم إن اللَّهَ تعالى يوفِّقُهم بأنهم لا يُسْرِفُونَ على أنفسهم، فلم يَبْقَ التخيير إذن، إلاَّ في اللفظ تشريفاً، وتكريماً لهم لا غير. فليميَّز بين الكلام الذي يَخْرُجُ على سنن المحاورات، والذي يُقْصَدُ به بيان المسألة، فليس فيه رفعُ التكليف، بل فيه مجردُ التشريف.
3987 - قوله: (بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ) الظرفُ مبنيٌّ على الضم، ويومُ بدرٍ بدلٌ منه. والمعنى: أن الخيرَ الذي أتانا اللَّهُ يومَ بدرٍ، لأنهم غَلَبُوا في تلك الحرب. وإن كان بالإِضافة، فالمرادُ ببدرٍ البدرُ الصغرى التي كانت بعد أُحُدٍ. أو يُرَادُ من البعدية بعديةٌ متراخيةٌ، حتى من الأُحُدِ أيضاً. وإلاَّ يَرِدُ عليه: أن بَعْدَ بدرٍ أُحُدَ. وقد انْهَزَمَ المسلمون فيها، فأين الخير فيها.
---(6/129)
3989 - قوله: (فَلَمْ يَقْدِرُوا أن يَقْطَعُوا منه شَيْئاً) وهذا من عجائب قدرته تعالى: حيث تَرَكَهُ أوَّلاً يقتله الأعداء، ثم حَمَى جِسْمَهُ. فلم يستطيعوا أن يَقْرَبُوا منه أيضاً. ونحوه ما رَقَعَ لزكريا عليه السلام: لَمَّا فرَّ من قومه انشقَّت له الشجرةُ، فاختفى فيها، فلمَّا طَلَبَهُ القومُ، ورأوا قطعةً من ثيابه بارزةً من الشجرة، قطعوها بالمِنْشَار، حتَّى بَلَغَ رأسَه كاد أن يتأوَّهَ، فَنَادَاهُ ربُّه أن اصبر، فإن تأوَّهت أَهْلَكَ الناسَ أجمعين. فحماه أوَّلاً، وأظلَّه في ظلِّه، ثم لم يَتْرُكْهُ حتى يَبُثَّ شكواه أيضاً. ونحوه ما وقع في قتل الحُسَيْن، حيث لم يَمْنَعْهُمْ حين قتلوه، فلمَّا فعلوه انتقم له، وقتل منهم أُلُوفاً، بل آلاف ألفٍ. فالله سبحانه يَفْعَلُ ما يشاء، ويَحْكُمُ ما يُرِيد.
3990 - قوله: (وتَرَكَ الجُمُعَةَ) وكان يومئذٍ بذي الحُلَيْفَةِ - موضع بستةِ أميالٍ من المدينة - فَدَلَّ على أن لا جُمُعَةَ في القرى عند ابن عمر.
4001 - قوله: (فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لا تَقُولي هَكَذَا) فالعجبُ على من يُثْبِتُون العلمَ الكليَّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلّممع مخالفة نصوص القرآن، وصرائح أقوله صلى الله عليه وسلّم فهداهم اللَّهُ إلى سواء الصراط. وما قَدَرُوا اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ، وما دُرُوا الرسولَ، ولا شيئاً من أمره.
---(6/130)
4004 - قوله: (فَقَالَ: إنه شَهِدَ بَدْراً) واعلم أن عليّاً كان يزيدُ أوَّلاً في عدد التكبيرات على البدريين، فضلاً لهم. ثم استقرَّ الأمرُ على الأربع في عهد عمر، وعُدَّ ذلك من إجماعيات عمر، وهي كثيرةٌ. وقد استدللت له بمرفوعٍ عند الطحاويِّ في كتاب «الزيادات»، وإسنادُه قويٌّ: «صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّميومَ عيدٍ، فكبَّر أربعاً أربعاً، ثم أَقْبَلَ علينا بوجهه حين انْصَرَفَ، فقال:لا تَنْسُوْا، كتكبير الجنائز، فأشار بإصابعه، وقَبَضَ إبهامه». ولم يطَّلِعْ عليه العينيُّ، ولا الزيلعيُّ، ولا ابن الهُمَامِ، وذلك لوقوعه في بابٍ أجنبيَ. وهذا يُفِيدُنا في تكبيرات العيدين أيضاً، فاحفظه.
4008 - قوله: (مَنْ قَرَأهُمَا في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) واعلم أنه ما مِنْ مسلمٍ إلاَّ وعليه حقُّ أن يَقْرَأَ شيئاً من القرآن كلَّ ليلةٍ، سواء كان حافظاً للقرآن أو لا، فمن قَرَأَ هاتين الآيتين كَفَتَاهُ عن ذلك الحقِّ. ولمن قرأهما في وِتْرِهِ فضلٌ عظيمٌ، كما في «مسند أبي حنيفة»، عن أبي مسعود.
4017 - قوله: (نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَّان البُيُوتِ) وعند الترمذي: «أنها حيَّةٌ، كأنها قضيبُ فضةٍ، لا تَلْتَوِي في مشيتها». وإنما نهى عن قَتْلِهَا، لأنها تكون جِنِّيّاً، إلاَّ أن في الحديث الإِطلاق. ثم الفصل: أن قتلها يَجُوزُ بدون التحريج أيضاً، ولا إثْمَ. نعم إن وَقَعَ منه ضررٌ. فذلك أمرٌ آمر، كما وقع للشاه أهلُ الله رحمه الله تعالى، وحكايتُهُ معروفةٌ.
4019 - قوله: (فإنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وإنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أن يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قَالَ) التشبيهُ الأول في عصمة الدَّمِ، الثاني في إباحته. يعني: كما أنَّك كُنْتَ محقوقَ الدَّمِ قبل قتله، كذلك صَارَ هو محقونَ الدَّمِ بعد إسلامه، وكما أنه كان مباحَ الدَّمِ قبل قوله كلمة الإِسلام، كذلك صِرْتَ أنت مباحُ الدَّمِ بعد قَتْلِهِ.
---(6/131)
4020 - قوله: (أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ) وهذا نظيرُ قول أبي حنيفة: ولو ضُرِبَ بأَبا قُبَيْس. وهذه لغةٌ في الأسماء الستة الكبَّرة مطردة. وجَهِلَ من طَعَنَ فيه على أبي حنيفة، ولم يوفَّقْ لحفظ مثله في البخاريِّ، كما وقع لأبي العلاء النحويِّ.
4022 - قوله: (كَانَ عَطَاءُ البَدْرِيِّينَ خَمْسَةَ آلافٍ)، وهو غَلَطٌ، والصواب: «خمسة آلافٍ، خمسة آلاف». مكرَّراً.
4026 - قوله: (فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرَاً مِنْ قُرَيْشٍ، مِمَّنْ ضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، أَحَدٌ وثَمَانُونَ رُجُلاً)، وهذا العدد لمن شَهِدُوا مطلقاً.
وأمَّا العددُ الذي مضى فيما سلف من البخاريّ: «أنهم كانوا نيِّفاً على ستين»، فللمهاجرين. وفيه: أن غَزْوَةَ بدرٍ ما كانت إلاَّ بعد الهجرة، فلا يكون فيها من قريشٍ إلاَّ مهاجرٌ. فقيل: إن العددَ المذكورَ كان لمن قَاتَلُوا، وهذا لِمَنْ كان معهم من الغلمان، وغيرهم. فافهم.
قوله: (النَّظَّارَةِ): تماشائى.
باب حَدِيثُ بَنِي النَّضِيرِ، وَمَخْرَجُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّمإِلَيهِمْ في دِيَةِ الرَّجُلَينِ،وَما أَرَادُوا مِنَ الغَدْرِ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم
قالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ عُرْوَةَ: كانَتْ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ أُحُدٍ.
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مِن دِيَرِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ} (الحشر: 2) ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا.
تَابَعَهُ هُشَيمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ.
* وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيَ ** حَرِيقٌ بِالبُوَيرَةِ مسْتَطِيرُ
قالَ: فَأَجَابَهُ أَبُو سُفيَانَبْنُ الحَارِثِ:
* أَدَامَ اللَّهُ ذلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ** وَحَرَّقَ في نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ
---
* سَتَعْلَمُ أَيُّنَا مِنْهَا بِنُزْهٍ ** وَتَعْلَمُ أَيُّ أَرْضَينَا تَضِيرُ
باب ُ قَتْلِ كَعْبِبْنِ الأَشْرَف(6/132)
باب ُ قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِبْنِ أَبِي الحُقَيق
وَيُقَالُ: سَلاَّمُبْنُ أَبِي الحُقَيقِ، كانَ بِخَيبَرَ، وَيُقَالُ: في حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الحِجَازِ. وَقالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ بَعْدَ كَعْبِبْنِ الأَشْرَفِ.
واعلم أن بني نَضِير، وبني قُرَيْظَة قبيلتان عظيمتان، وتحتهما بطونٌ، مثل بني قَيْنُقَاع، ويهود بني حارثة، وغيرهم. كان بينهم وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعهدٌ، فَغَدَرُوا فيه، فَأَجْلاَهُمْ إلى أريحاء، وتَيْمَاء، ووادي القُرَى.
قوله: (هُوَ الذي أخْرَجَ الذين كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ)... إلخ. وهذا اللفظُ مشيرٌ إلى أن لهم إجلاءً ثانياً أيضاً، كما أَجْلاَهُم عمر في زمنه من خَيْبَرَ، فَخَرَجُوا من جزيرة العرب إلى الشام، وقيل: إن ثاني الحشر يكون عند إبَّان الساعة إلى الشام - أرض الحساب - وذلك يَعُمُّ الناسَ كافةً. واعلم أن بيتَ الله كالديوان الخاص، وأَرْضُ الشام كالديوان العام، فالحسابُ يكون في أرض الشام.
---(6/133)
4028 - قوله: (فَقَتَلَ رِجِالَهُمْ، وقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وأَوْلاَدَهُمْ) اتَّفَقَ لي مرَّةً أن أُسْقُفاً من النَّصَارى سأل مسلماً: أن نبيكم لو كان صادقاً، فَلِمَ قتل ست مئة نفسٍ من اليهود؟ وأنا أَنْظُرُ ما يُجِيبُ، فرأيت المسلم عاجزاً عن الجواب، فَبَادَرْتُ إليه، وقلت له: وهل تُخْبِرُني أنه كم مرَّة عفا عنهم مع غدرهم، فما جزاهُ الغدر في شريعتكم؟ فسكت ثم قلتُ له: أخْرِجْ البابَ التاسعَ، أو السادسَ عشرَ من يوحنا، فَجَعَلَ يقرأ حتى إذا بَلَغَ على فارقليط، قلتُ له: من هو؟ قال: هو روحُ القُدُسِ. قلتُ له: وهل كان روحُ القُدُسِ يُقَارِقُهُ تارةً أو يلازمه كلَّ حينٍ، فما يقول عيسى عليه الصلاة والسلام: أن فارقليط لا يجيء ما لم أَذْهَبْ عنكم، فَبُهِتَ. ثم قلتُ: أنا أعلمُ بكتابكم منكم، فجعل يَسْتَفْسِرُني عن أشياءَ، وأنا أُجِيبُه. فلما دَنَا المنزل وانصرفت إليه، قام لي وأَكْرَمَنِي.
4033 - قوله: (هَلْ لَكَ في عُثْمَانَ)... إلخ، وقد سَمِعْتُ منَّا مِرَاراً أن الكلامَ في فَدَكٍ لم يَكُنْ إرَّ في التولية، كما حقَّقه السَّمْهُوديُّ، لا في التمليك، والتملُّك. وإنما أراد من توليته أن لا يَصِيرَ الوقف مِلْكاً. وقد جرَّبنا أيضاً أن الوقفَ بعد السِّبْطَين يَنْقَلِبُ مِلْكاً للناس، فَأَحَبُّ أن يتولَّى هو بنفسه، ويَحْكُمَ فيه بحكم الله. وفي فِقْهِ الحنفية: أن الأَوْلَى بتولية الوقف ذُرِّيةُ الواقف، ما لَمْ تَظْهَرْ منهم خيانةٌ.
---(6/134)
4033 - قوله: (فَاسْتَبَّ عَلِيُّ وعَبَّاسٌ): ولا غروَ في السِّبَاب بينهما، فإنه من طباع الناس منذ خُلِقَ الزمان: أن أحدَهما إذا خاصم صاحبه يَرْفَعُ الكلام، ويَخْفِضُ فيه، وتَحْدُثُ فيه شِدَّةٌ وغلظةٌ. وليس من الطريق الصحيح أن يُقْطَعَ النظرُ عن الخارج، فقد وَقَعَ بين الصحابة أيضاً ما يَقَعَ بيننا، فإنهم كانوا بشراً. نعم لم يكن نزاعُهم وسِبَابُهم لطمعٍ، أو هوىً، بل كان ابتغاءً لوجه الله تعالى، وتتبُّعاً لرضاه، بخلافُه فينا، وهذا هو الفرق.
وقد شَغَبَ الشيعةُ - خذلهم الله - في أمر فَدَكٍ، وطَعَنُوا في أبي بكرٍ، ولم يَهْتَدُوا أن أبا بكرٍ إن كان أَبَى على فاطمةَ أن يَرُدَّ إليها ميراثها من أبيها، لذلك لم يَكُنْ برأيه، بل كان عنده فيه حديثٌ قَبْلَهُ كلُّهم، فأيُّ ذنبٍ أَذْنَبَهُ؟ ثم اتَّبعه في ذلك عمر في خلافته. ثم ما أجابه على عليٌّ حين أنشده بالله: أعمل بالتقية عند ذلك أيضاً، أو حَالَ الجريضُ دون القَريض - والعياذ بالله - أم كان وَافَقَهُ. ثم ماذا عَمِلَ فيه إذا اسْتُخْلِفَ هو بنفسه؟ فماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال؟.
وأمَّا عدم كلام فاطمة إيَّاه حتَّى ماتت، فالمرادُ منه كلامها في أمر فَدَكٍ، أو أنه لم يتَّفِقْ له ذلك. فلو سلَّمنا مَوْجِدَتَهَا عليه، فلَهُ العذرُ أيضاً، كما عَلِمْتَ، على أنه لم يُهَاجِرْهَا. فإن هَاجَرَتْهُ، فقد هَاجَرَتْهُ هي، فلا طَعْنَ على أبي بكرٍ بحالٍ.
4034 - قوله: (أَفَاءَ اللَّهُ)، أي صَرَفَهُ اللَّهُ إليكم. وما أَوْجَفْتُم أنتم عليه رِكَابَكُم، ولا خيلكم، فالفيءُ يكون إلى الرسول يتصرَّفُ فيه بما أَرَاه الله، لا أنه يكون مِلْكاً له. وراجع للفَدَكِ «التحفة» للشاه عبد العزيز، و«الصواقع» لعالم من كابل.
---(6/135)
واعلم أنه قد صَعَبَ على الفرق بين الفيء والغنيمة، فإن الفيء عندهم: ما يَحْصُلُ بدون إيجافِ الخيل والرِّكَاب، وهم يَعُدُّون أموالَ بني النَّضِير فيئاً، مع ثبوت المُحَاصَرَةِ فيها. فإن قلتَ: إنهم نَزَلُوا إلى الصُّلْحِ، فذلك مُشْكِلٌ، إذ قد يُضْطَرُّ إلى الصلح في الحروب أيضاً. ولعلَّ الوجه: أن الصُلْحَ بعد الحرب لا يُعَدُّ صلحاً، بل حرباً، لأنهم جَنَحَوا إلى السلم بعد تنكيل المسلمين فيهم، فَيُعْتَبَرُ المال المأخوذ منهم غنيمةً. وإذا لم يَقَعْ قتالٌ وحربٌ، فَصُلْحُهم يُحْمَلُ على أن اللَّهَ سبحانه هو الذي قَذَفَ في قلوبهم الرُّعْبَ، إذ لا بُدَّ له من سببٍ ظاهريَ، فَصُلْحُهُمْ بدون تقدُّمٍ إلى المحاربة إمارةٌ على أن اللَّهَ تعالى قَذَفَ الرُّعْبَ في قلوبهم، بخلاف الصُّلْح بعد الحرب. وإذن صَحَّ أن ما أُخِذَ منهم يُعَدُّ فيئاً، لكونه لم تُوجِفْ عليه خيلاً، ولا ركَاباً، وإنما هو مالٌ أفاء اللَّهُ سبحانه على رسوله.
4037 - قوله: (فَإنِّي قَائِلٌ بِشَعَرِهِ فَأَشَمُّهُ) قال ابن جنيِّ: القول من حديث البحر، فحدِّث عنه ما شِئْتَ ولا حرج. وهو حنفيٌّ، قرَّر حديثَ: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»، على نظر الحنفية. ثم وَجَدْتُ في مذكرته أيضاً أنه حنفيٌّ.
4039 - قوله: (ثُمَّ عَلَّقَ الأَغَالِيقَ على وَدَ) كهونئى.
4039 - قوله: (وكَانَ في عَلاَلِيَّ لَهُ)، جمعُ عُلَيَّة.
باب ُ غَزْوَةِ أُحُد
وَقَوْلِ
---(6/136)
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ لله إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَفِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّبِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (آل عمران: 139 - 143). وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152). وقَوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوتاً} الآيَةَ (آل عمران: 169).
وكان لا بُدَّ من وقوعها، لأن الصحابةَ كانوا رَضَوْا في بدرٍ بالمفاداة، وأن يُقْتَلُ منهم سبعون من قابل.
قوله: (ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الذينَ آَمَنُوا)، وفسَّره السيوطي بقوله: وليميِّز اللَّهُ، وكذا الإِمام الراغب. وهذا لا يزيد عندي على أمرٍ عقليَ. ومرَّ عليه الزمخشريُّ، وصاحب «المدارك»، وقد أجادا. وفصَّله مولانا شيخُ الهند في «فوائده».
---(6/137)