في المحيط العقدي
(1)
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
alhzm@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
لا شك أن هذه الأمة هي أمة العقيدة الحقة، دل على ذلك النقل الصحيح والعقل الصريح، ولا يماري أحد في هذه الحقيقة إلا خاب وخسر، ونكص على عقبه.
ولأن للعقيدة المنزلة السامية في هذا الدين الحنيف فقد جاء القرآن والسنة بتوضيح معالمها وأسسها، واعتنى المسلمون منذ فجر الإسلام بنشرها وتبيينها للناس فألفت في ذلك الكتب الكبيرة والصغيرة، الجامعة وغير الجامعة.
وما هذه الرسالة إلا حلقة في هذه السلسلة الشريفة، نسأل الله تعالى أن يشرفنا برؤية وجهه الكريم يوم الدين والله المستعان.
(1)
الإيمان باليوم الآخر
إن الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان التي ورد ذكرها في حديث جبريل الشهير، والذي يعني ضرورة التعرف لهذا الركن وما يتعلق به من قضايا يجب الإيمان بها، وفي هذه الصفحات بيان لهذا الركن العظيم في عقيدة المسلم مبينا لمعناه وأهميته وأدلته وثماره وغيرها من القضايا المهمة.
أولا: معنى الإيمان باليوم الآخر:
معنى الإيمان باليوم الآخر أن نعتقد اعتقاداً جازما بكل ما أخبر به الله تعالى في القرآن الكريم أو ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث والحشر والصحف والصراط والحساب من الميزان والجنة والنار قال تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب )البقرة –177 (1).
واليوم الآخر يبدأ بفناء هذا العالم فيموت كل من فيه من الأحياء وتتبدل هذه الأرض بغيرها والسماوات ثم يبعث الله الناس جميعاً من أولهم إلى آخرهم ويرد إليهم الحياة مرة أخرى .
__________
(1) انظر العقيدة الإسلامية وما يضادها لابن باز(1/1)
وبعد البعث يحاسب الله كل فرد على ما عمل من خير أو شر فمن غلب خيره شره أدخله الله الجنة .. ومن غلب شره خيره أدخله الله النار إن شاء، وأما من كفر فمأواه النار لا محالة.
وتسبق قيام الساعة علامات تدل على قرب وقوع الساعة منها علامات صغرى وعلامات كبرى فمن العلامات الصغرى :
أ - بعثة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم . وختم النبوات والرسالات به .
ب - انتشار الزنى وشرب الخمر والمنكرات وكثرة النساء وقلة الرجال .
ت - حدوث الفتن والمصائب في المسلمين وكثرة الموت بالزلزال والأمراض وعقوق الأمهات .
ث - قلة البركة في الأوقات وقلة العلم الإسلامي الذي يدعوا إلى العمل .
ومن العلامات الكبرى :
أ - خروج المسيح الدجال :
ب - نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض .
ج - خروج الدابة التي تكلم الناس .
خ - خروج دخان كثيف يملأ ما بين السماء والأرض
هـ- طلوع الشمس من المغرب .
وسمي اليوم الآخر آخراً لأنه ليس بعده يوم.
ثانيا: أهمية الإيمان باليوم الآخر:
إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، ولا يمكن أن تستقيم للبشر حياة أو نظام أو علاقة أو أعمال إلا بالإيمان باليوم الآخر.
وإن مما يلفت الانتباه إلى خطر الإيمان باليوم الآخر وأهميته ومنزلته عند الله تعالى أنه عز وجل جعله قرين الإيمان به، سلبا وإيجابا في آيات كثيرة جدا من كتابه الكريم، وكذلك ورد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن الله تعالى خلق البشر في هذه الحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وخلق الآخرة ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجزي الذين أساءوا بالسوأى.
هذا وإن الإيمان باليوم الآخر من صميم معنى الإيمان بالله وقد اقترن الإيمان باليوم الأخر بالإيمان بالله في عدة مواضع من القرآن قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. البقرة: 62.(1/2)
وقال تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } . البقرة: 228.
وقال تعالى: { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } . البقرة 232.
وقال تعالى: { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } . آل عمران:113-114.
وقال تعالى: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما}. النساء: 162.
وغير ذلك من الآيات التي ورد فيها ذكر الإيمان باليوم الآخر مقترنا بالإيمان بالله في الإثبات.
ومن الآيات التي ذكر فيها الإيمان باليوم الآخر مقترنا بالإيمان بالله في النفي، قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } البقرة: 8.
وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } . البقرة: 26.
وقوله تعالى: { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } . النساء: 136.
وقوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } التوبة:5
وقال تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } التوبة: 44-45 [وفي هاتين الآيتين اجتمع النفي والإثبات في اقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله]
وأما الأحاديث فهي أيضا كثيرة، منها:(1/3)
حديث أبي شريح، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا)(1).
وحديث أبي هريرة، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا(2)(
وحديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)(3)
ثالثا: الأدلة على الإيمان باليوم الآخر:
- الأدلة النقليّة:
1- إخباره تعالى عن اليوم الآخر: ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدا ) [سورة النساء 336]
وقوله: ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) سورة يونس 7-8
وقوله سبحانه وتعالى: ( إنما توعدون لصادق * وإن الدِينَ لَوَاقع ) سورة الذاريات 5
وقوله: ( وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) سورة الحج 7
وقوله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قُل بلى وربي لََتبعَثُنّ ثم لتنبّؤنّ بما عملتم وذلك على الله يسير } سورة التغابن 7
وقوله: { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين } [سورة المطففين 5]
وقوله : ( لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة * أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن يسوي بنانه)سورة القيامة 1 – 4
وقوله: ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين * إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول كن فيكون ) سورة النحل 38 – 40
وغيرها من الآيات .
__________
(1) البخاري 2/35
(2) البخاري (6/145)
(3) مسلم 1/86(1/4)
2- إخباره صلى الله عليه وسلم لما قال له جبريل عليه السلام : أخبرني عن الإيمان قال: ( أن تُؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه، ورُسُله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ) رواه البخاري ومسلم ، ونحو ذلك كثير وكثير.
3- اتفاق جميع الأديان السماوية ، وإيمان الملايين من الأنبياء ، والمرسلين ، والحكماء ، والعلماء ، والصالحين من عباد الله ، باليوم الآخر وبكل ما ورد فيه ، وتصديقهم الجازم بذلك.
- الأدلة العقليّة:
1- صلاح قدرة الله الخالق على إعادة الخلائق بعد فنائهم ، لأن إعادتهم ليست بأصعب من خلقهم ، وإيجادهم على غير مثال السابق.
2- تأكدنا من صدق الرسول صاحب الآيات والمعجزات التي تشهد للعقول بصدق رسالته ، وعلمنا أن الله أسرى برسول الله ، فرأى الجنة والنار، وحمل إلينا كلام الله، الذي خلق الحياة الدنيا ، والحياة الأخرى ، وأخبرنا عن الحياة التي تنتظرنا بعد موتنا.
فعلمنا بالدار الآخرة جاءنا من أوثق المصادر ، من الذي خلق الدنيا والآخرة ، ومن رسوله الذي رأى الجنة والنار ، ذلك وعد الله والله لا يخلف الميعاد.
3- ولقد أخبرنا رسوله الله بأمارات ستقع في الدنيا ، تكون علامة على قرب الساعة فشاهدنا الكثير منها .
وما شاهدنا من علامات الساعة يؤكد لنا صدق ما أخبرنا الرسول به عن الساعة والآخرة ، وكما رأينا هذه العلامات في الدنيا حقاً بعد ألف وأربعمائة عام فسنرى الجنة والنار حقا ، يقول الله تعالى: ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) سورة الأعراف 44
4- خالق الإنسان أكمل من الإنسان ، والإنسان يُحب العدل ، ولا شك أن الله هو الذي خلق العدل في الأوليين والآخرين ، وما عدل الناس جميعا إلا قبس من عدل الله ، فالله هو العدل الحكيم.(1/5)
ومن العدل أن يثاب المُحسن ، ويعاقب المُسيء ، ولكن هذه الدنيا لا يتحقق العدل فيها – وقد علمنا عدل الله – لذلك تجزم العقول بأن الله لا بد أن يُقيم موازين العدل في حياة أُخرى ، قال تعالى : ( أفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون ) سور( ن ) 35 - 36
ويقول سبحانه: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلك نفس شيئا.. ) سورة الأنبياء 47
5- وإذا نظرنا إلى خلق السماوات والأرض نجد أن كل شيء قد وضع في مكانه اللائق به ، فالسماء وما فيها من نجوم وكواكب ، وليل ونهار ، والأرض وما فيها من نبات وحيوان ، وإنسان ، وجماد ، وكل شيء قد وضع في مكانه اللائق به بالحق.
فالقلب في مكانه والعين في مكانها والورقة في مكانها على الشجر، والزهرة في مكانها، وهكذا.
ولا نجد مُخالفة للحق في الأرض والسماء إلا في حال الإنسان ، فنجد الظالم في غير مكانه ، وقد نجد النبي المرسل مطارد يؤذيه السفهاء.
فلماذا لا نرى الحق قائماً في حياة الناس ، كما قام في خلق الأرض والسماء ؟؟
إن العقول تدلنا على أن الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، لا بد أن يقيم الحق في أحوال الناس ، وإذا كان هذا لا يكون في الدنيا نظراً لكونها دار ابتلاء وامتحان... فلا بد أنه يتحقق في الدار الآخرة ، قال تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون * وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) سورة الجاثية 21 – 22(1/6)
6- وإذا تأمل الإنسان كيف حَفِظَهُ الله وهو نطفة من ماء مهين، أو هو علقة كما تولى الله حِفْظَه سبحانه طوال حياته ، من تأمل هذا تأكد أن الله لا يضيع الإنسان بالموت، ويجعله يذهب سُدى ، فالحكيم الذي يحفظ الأجزاء الصغيرة لا يضيع الخِلْقَةَ التامة، قال تعالى: ( أيحسب الإنسان أن يترك سُدى * ألم يك نُطفة من منيٍ يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحْيِيَ الموتى) سورة القيامة 36 – 40(1)
رابعا: ثمار الإيمان باليوم الآخر:
1- الإيمان باليوم الآخر يدفع إلى طاعة الله:
إن المسلم حين يؤمن باليوم الآخر وأنه سيحاسب على ما كسبت يداه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، يدفعه هذا إلى عمل الطاعات والمسارعة فيها ومراقبة الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وهو في كل شؤون حياته مراع لحقوق الله في عبادته وحقوق الناس في تعامله ومعاملته.
والعكس عندما ينعدم هذا الإيمان فلن تجد إلا المسارعة في الباطل والطغيان والجحود للخالق والمخلوق والنزول بالمستوى الإنساني إلى الحضيض، فهل يستويان {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}. آل عمران: 113-114.
2- تسلية المؤمن عما يفوته من نعم الدنيا ومتعها:
الإيمان باليوم الآخر يجعل صاحبه هادئ البال إذا ما رأى غيره يتقلب في النعم الدنيوية ويتمتع بملذاتها إذ إنه يرى الدنيا دار ممر وأنم الآخرة هي دار الراحة والاستقرار، وأنه يرجو من الله نعيم الجنة والذي لا يدانيه أي نعيم دنيوي.
(2)
(2)
الإيمان بالكتب
__________
(1) الإيمان للشيخ عبد المجيد الزنداني(1/7)
لقد أرسل الله الرسل وأنزل على بعضهم الكتب والتي تضم شريعة الله سبحانه الواجبة التطبيق على عباده، وإن من أعلى الرسل مقاما النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أسمى الكتب المنزلة القرآن الكريم والذي جاء شاملا للكتب السابقة وناسخا لها.
كما أن العالم اليوم يموج بالديانات المختلفة والنحل المتنوعة والتي تختلف عن بعضها إما بصورة حادة أو دون ذلك ومن هذه النحل من يتبع كتابا سماوية ، ولهذا كله كان لزاما بيان موقف المسلم من هذه الكتب أو بالأصح موضع هذه الكتب من عقيدة المسلم، وفي هذه الوريقات ما يكشف كثيرا من القضايا المهمة لكل مؤمن.
أولا: تعريف الكتب لغة وشرعا، ومعنى الإيمان بها:
الكتب في اللغة : جمع كتاب بمعنى مكتوب ، مثل فراش بمعنى مفروش ، وإله بمعنى مألوه ، وغراس بمعنى مغروس .
ومادة ( كتب ) تدور حول الجمع والضم ، وسمى الكاتب كاتباً ؛ لأنه يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض(1)
أما في الشرع : فالمراد بها الكتب التي أنزلها الله - تعالى - على رسله ؛ رحمة للخلق ، وهداية لهم ؛ ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة .
والإيمان بالكتب معناه التصديق الجازم بأن جميعها منزّل من عند الله، وأن الله تكلم بها حقيقة.
ثانيا: حكم الإيمان بالكتب:
الإيمان بالكتب الإلهية هو أحد أصول الإيمان وأركانه، والإيمان بها هو التصديق الجازم بأنها حق وصدق، وأنها كلام الله عز وجل؛ فيها الهدى والنور والكفاية لمن أنزلت عليهم. نؤمن بما سمى الله منها، وهي القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وما لم يسم منها؛ فإن لله كتبا لا يعلمها إلا هو سبحانه. قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسله والكتاب الذي أَنزَلَ من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدا ) سورة النساء 136
__________
(1) انظر لسان العرب 1/698(1/8)
وفي حديث جبريل الطويل: " قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشر"(1).
قال في شرح الطحاوية: " وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه من التوراة والإنجيل والزبور ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتبا أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى.
وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به و اتباع ما فيه وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء"(2).
ثالثا: الحكمة من إنزال الكتب:
إنزال الكتب من رحمة الله بعباده لحاجة البشرية إليها؛ لأن عقل الإنسان محدود، لا يدرك تفاصيل النفع والضرر، وإن كان يدرك الفرق بين الضار والنافع إجمالا.
والعقل الإنساني أيضا تغلب عليه الشهوات، وتلعب به الأغراض والأهواء؛ فلو وكلت البشرية إلى عقولها القاصرة؛ لضلت وتاهت، فاقتضت حكمة الله ورحمته أن ينزل هذه الكتب على المصطفين من رسله؛ ليبينوا للناس ما تدل عليه هذه الكتب وما تتضمنه من أحكامه العادلة ووصاياه النافعة وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية.
قال تعالى حين أهبط آدم أبي البشرية من الجنة: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}البقرة38.
وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}الأعراف35(3).
رابعا: أسماء الكتب السماوية:
والكتاب التي سمّاه الله في القرآن هي :
القُرآن، والتوراة ، والإنجيل، والزبور، وصُحُفُ إبراهيم وموسى.
__________
(1) أخرجه مسلم 1/36
(2) شرح الطحاوية 297
(3) انظر الإيمان بالكتب للفوزان.(1/9)
- قال تعالى: ( الله لا إله إلا هو حي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) آل عمران 2-3
- وقال تعالى: ( وآتينا داوود زبورا) النساء 106
- وقال تعالى: ( أم لَمْ يُنَبَأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى ) النجم 63-37
وذكر الباقي منها جملة فقال: ( لقد أرسلنا رُسُلنَا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد 25
خامسا: انقسام الناس في الإيمان بالكتب:
وقد انقسم الناس حيال الكتب السماوية إلى ثلاثة أقسام:
- قسم كذب بها كلها، وهم أعداء الرسل من الكفار والمشركين والفلاسفة.
وقسم آمن بها كلها، وهم المؤمنون الذين آمنوا بجميع الرسل وما أنزل إليهم؛ كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}البقرة285.
- وقسم آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها، وهم اليهود والنصارى ومن سار على نهجهم، الذين يقولون: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}البقرة91، بل هؤلاء يؤمنون ببعض كتابهم ويكفرون ببعضه؛ كما قال تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}البقرة85.(1/10)
ولا شك أن الإيمان ببعض الكتاب أو ببعض الكتب والكفر بالبعض الآخر كفر بالجميع؛ لأنه لابد من الإيمان بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل؛ لأن الإيمان لابد أن يكون مؤتلفا جامعا لا تفريق فيه ولا تبعيض ولا اختلاف، والله تعالى ذم الذين تفرقوا واختلفوا في الكتاب؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.
وسبب كفر من كفر بالكتب أو كفر ببعضها أو ببعض الكتاب الواحد هو اتباع الهوى والظنون الكاذبة، وزعمهم أن لهم العقل والرأي والقياس العقلي، ويسمون أنفسهم بالحكماء والفلاسفة، ويسخرون من الرسل وأتباعهم، ويصفونهم بالسفه؛ كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}غافر83.
- وأما أتباع الرسل فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، لا يفرقون بينها.
سادسا: كيفية الإيمان بالكتب:
والإيمان بالكتب السابقة إيمان مجمل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه، وتحكيمه في كل كبيرة وصغيرة، والإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وقد اقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال معينة ولأوقات محددة، ووكل حفظها إلى الذين استحفظوا عليها من البشر؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}المائدة44.(1/11)
أما القرآن الكريم؛ فقد أنزله الله لكل الأجيال من الأمم في كل الأوطان إلى يوم القيامة، وتولى حفظه بنفسه؛ لأن وظيفة هذا الكتاب لا تنتهي إلا بنهاية حياة البشر على الأرض؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر9)، وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت42).
ويجب تحكيم هذا القرآن في جميع الخلافات، ويجب رد جميع النزاعات إليه.
وقد جعل الله التحاكم إلى غير كتابه تحاكما إلى الطاغوت؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}(النساء 60)، والطاغوت: فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد(1).
سابعا: الفرق بين القرآن والكتب السابقة:
إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرآن فإن كلا منهما كلام الله، أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم والتوراة حرفت وبدلت كما بيناه آنفا، والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل، لو حرف منه أحد حرفا واحدا فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفا أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلا عن كبار هم؟
فالجواب أن الله استحفظهم التوراة واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمدا، والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. وقوله: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}. الآية إلى غير ذلك من الآيات(2)
ثامنا: ما يتضمنه الإيمان بالكتب:
__________
(1) انظر الإيمان بالكتب للفوزان من موقع الفوزان (في موقع الفوزان)
(2) أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن (2/100)(1/12)
ويتضمن الإيمان بالكتب عدة أمور نذكر منها :
1/ الإيمان بأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقة كما شاء، وعلى الوجه الذي أراد .
2/ الإيمان بأنه كان واجباً على الأمم الذين نزلت عليهم تلك الكتب الانقياد لها ، والحكم بما فيها كما قال تعالى بعد ذكر إنزال التوراة : { وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِروُنَ } المائدة44 ، وقال : { ولْيحْكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الفاسقون } المائدة : 47 فدلت الآيتان على وجوب أن يحكم أهل كل ملة بما أنزل الله عليهم ، وذلك قبل أن يطرأ النسخ على تلك الكتب .
3/ اعتقاد أن جميع الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً ولا يكذبه ، فكلها من عند الله سبحانه ، قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } ( النساء الآية : 82 ) .
فالإنجيل مصدق لما تقدمه من كتب كالتوراة ، قال تعالى { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة } ( المائدة:46)
والقرآن مصدق لجميع الكتب السماوية السابقة قال تعالى : {والَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } (فاطر:31) ، وإنما حصل الاختلاف في التوراة والإنجيل بسبب التحريف الذي دخلهما .
4/ اعتقاد أن كل من كذّب بها أو بشيء منها فقد كفر ، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ( الأعراف:36)(1/13)
5/ الإيمان بأَنَّ نسخ الكتب السماوية اللاحقة لغيرها من الكتب السابقة حق ، كما نسخت بعض شرائع التوراة بالإنجيل ، قال الله تعالى : في حق عيسى عليه السلام { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ولأحلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } (آل عمران:50) ، وكما نسخ القرآن كثيرا من شرائع التوراة والإنجيل ، قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبي الأميَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون َ}( الأعراف:157) .
تاسعا: ثمرات الإيمان بالكتب:
العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به.
ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها. وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم، مناسباً لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة.
شكر نعمة الله تعالى على ذلك.
أن القرآن الكريم قد أخبرنا عنها، وخبره حق وصدق يجب الإيمان به، ومن كذبه فقد كفر.
معرفة أن هدى الله تعالى لم ينقطع عن البشر من وقت وجودهم على هذه الأرض إلى اليوم، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة، وذلك يدل على أن هذا القرآن ليس بدعا من الكتب الإلهية، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل.(1/14)
إقامة الحجة على أهل الكتب السابقة بما ثبت فيها من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
عاشراً: حكم من لم يؤمن بالكتب السماوية السابقة :
الذي لا يؤمن بأن الله أوحى إلى رسله وأنزل عليهم كتبه، لهداية خلقه قبل أن يأتي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يكون مسلما-ولو ادعى الإيمان بالقرآن الكريم- فإن القرآن الكريم قد أوجب الإيمان بكتب الله المنزلة على رسله عليهم السلام، قال تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}. النساء: 136(2)
(3)
أثر الاختلاف العقدي على وحدة الأمة
كثيرا ما أتساءل ويتساءل آخرون عن سبب التمزق والتفرق الذي عانت وتعاني منه الأمة قديما وحديثا، إذ مرت بالأمة المسلمة فترات عمل فيه التمزق عمله حتى أصبحت الأمة الواحدة أمما والشعب الواحد شعوبا، وكثر التفرق والتشرذم في العصور المتأخرة وخاصة عندما ضعفت الخلافة الإسلامية في العهد العثماني ثم ازداد الأمر سوءا مع انفراط عقد الخلافة فتناثرت حلقاته يمنة ويسرة وانتهى الأمر بالشتات والانفصال الذي أدخل الأمة في متاهات ومتاعب ومشكلات جسيمة عانت منها ولا زالت إلى اليوم، وأقضت مضجع علماء ودعاة الدين.
وعند التأمل في الأسباب التي أدت إلي ما نحن فيه نجد هناك جملة من الأسباب المترابطة والمتداخلة، بحيث قد يعجز البعض عن تحديد موضع الداء ومكمن الخلل.
يجعل البعض من الاختلاف العقدي في الأمة أهم سبب للفرقة، وأنه يمثل جذرا تفرع عنه الكثير من المشكلات والتي أصبحت بعد ذلك سوسا ينخر في جسد الأمة الواحدة، ليصيبها في مقتل في نهاية المطاف.
__________
(1) انظر أعلام السنة المنشورة 90وما بعدها، و شرح الأصول الثلاثة للشيخ ابن عثيمين 91 ، 92 .
(2) انظر الإيمان هو الأساس لعبد الله قادري الأهدل.(1/15)
وفي الأوراق القادمة سنحاول مناقشة هذه القضية الشائكة، والجواب على سؤال مفاده: هل الاختلاف العقدي أدى أو يؤدي إلى الفرقة والاختلاف، أم أن الأمر بخلاف ذلك؟
أولا: تحديد المفاهيم:
سنعرف أولا مفردات العنوان فنحدد مفهومها والمراد منها كي يتحدد وينضبط لنا مسار الموضوع ويتميز لنا إطار البحث وما نتكلم فيه.
أثر: للأثر ثلاثة معاني: الأول بمعنى النتيجة: وهو الحاصل من شيء، والثاني بمعنى العلامة، والثالث بمعنى الجزء(1)، والذي يعنينا من هذه المعني هو الأول، فنريد أن عرف أثر أي نتيجة الاختلاف...
الاختلاف: هو ضد الاتحاد وسواء كان الاتحاد فكريا أم سياسيا.
العقيدة: هي في اللغة من العقد والتوثيق والإحكام والربط بقوة، يقال اعتقد الشيء صلب واشتد(2).
وكلمة العقيدة لم ترد في القرآن الكريم وإنما وردت مادتها فقط في مثل قوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (النساء:33) ، وقوله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة:235).
أما العقيدة في اصطلاح علماء التوحيد فهي "الإيمان الذي لا يحتمل النقيض"(3).
الوحدة: هي ضد الافتراق ونعني بها هنا الوحدة السياسية بدرجة كبيرة.
__________
(1) التعريفات 23
(2) انظر لسان العرب 3/296
(3) المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية 8(1/16)
الأمة: وتعني في اللغة الطريقة والجماعة(1)، ونعني بها هنا أمة الإجابة وهي أمة الإسلام بصفتها أمة واحدة يجمعها كيان واحد.
ثانيا: أنواع الاختلاف:
ينقسم الخلاف في الإطار الإسلامي على قسمين: خلاف محمود، وخلاف مذموم.
أما المحمود فالمراد به الخلاف الذي هو ناتج عن اختلاف أنظار الفقهاء المجتهدين نظرا لظنية النصوص ثبوتا أو دلالة فهذا الخلاف محمود بل هو دليل على حيوية الدين الإسلامي، وأكثر ما يكون هذا في الفقهيات أي المسائل المستنبطة من النصوص والتي يغلب عليها الجانب العملي، ويندرج في هذا النوع الخلاف بين المدارس الفقهية المتنوعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم من المدارس التي اندثرت كالظاهرية والأوزاعية والإسحاقية، وفي هذا الخلاف قال علماء الإسلام: نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وقالوا: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وهذا قاعدة عظيمة اتفق عليها فقاء الإسلام.
أما الخلاف المذموم فالمراد به الخروج عن المسلمات الإيمانية من اعتقاد أو قول أو عمل والذي يوصف صاحبها بالكفر أحيانا وبالبدعة أحيانا أخرى، وهذا هو المراد في هذا البحث، فالخروج على ثوابت الدين بحيث يوصف الخارج بالكافر أو المبتدع هو الاختلاف المذموم الذي نهى عنه الشرع يقول سبحانه {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }آل عمران103، والمراد بحبل الله دينه، ولا شك أن الابتداع في الدين خروج عن الدين وعدم تمسك به، فكيف عندما تصبح البدعة أصلا يفارق صاحبها بسببها المسلمين بل ويشن عليهم الحروب الشعواء ويسفك دماءهم ويهتك أعراضهم ويفرق جماعتهم، لا شك حينئذ أننا أمام قوم نابذوا أهل الإسلام الحرب وأنهم أضر على الأمة من أعدائها التقليديين.
__________
(1) مختار الصحاح 20(1/17)
ويدخل في هذا النوع من الخلاف الكثير من الفرق التي تسمت بأسماء تخصها كالخوارج والجهمية والمعتزلة والشيعة وغيرهم ممن امتلأت كتب الفرق ببيان عقائدهم وأفكارهم التي خالفوا بها المسلمين والذين سماهم العلماء بأهل الأهواء، كما امتلأت بذكرهم كتب التاريخ مبينة الكثير من الفتن التي جرتها هذه الفرق من تضييع لحقوق الله وحقوق الناس، وشق للصف مما سيأتي بيان بعضه في سياق هذا البحث والذي يعتبر شيئا يسيرا مما ذكرته لنا كتب التاريخ والعقائد.
وتختلف هذه الفرق قربا وبعدا من الحق بحسب قربها وبعدها عن القرآن والسنة، الناتج عن مفارقتها ومباينتها لعلماء السنة من فقهاء ومحدثين، فبعضها يكون قريبا جدا من السنة، وبعضها تبعد حتى إنها لتخرج من ربقة الإسلام.
ثالثا: حتمية افتراق الأمة:
ثبت في السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"(1).
وفي مسند الشاميين للطبراني عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما كان عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم فغيركم من الناس أحرى أن لا يقوموا به"(2).
__________
(1) أبو داود 2/608، والترمذي 5/25وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجة 2/ 1321، وصححه ابن حبان14/140، وقد روى الحديث أبو هريرة وسعد وابن عمر وأنس وجابر وغيرهم، تكلهم عليها هذه الروايات الألباني في السلسلة الصحيحة 3/480، وانتهى إلى تصحيحه.
(2) 2/103(1/18)
فالأمة حتما ستفترق إلى هذا العدد ولكن لا يعني هذا ضياع الحق ولا يعني هذا العدد كثرة أتباع هذه الفرق، بل قد تكون الفرق أشخاص محصورين، أما أهل الحق فهم الغالبية ولا يزالون ظاهرين حتى يأتي وعد الله.
رابعا: أسباب الاختلاف العقدي:
يمكن أن نجمل باختصار أسباب الاختلاف العقدي فيما يلي:
اتباع المتشابه وهو ما لا يعلم معناه إلا الله، وترك المحكم من النصوص وقد حذر الله هذه الأمة من اتباع المتشابهات ، فقال تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } (1) فالواجب الإيمان بالمتشابه ورده إلى المحكم ، فقد روى الآجري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال عن الخوارج: "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به"(2).
اتباع الهوى: لا يقتصر اتباع الهوى على الكفر أو العصيان واقتراف الكبائر بل يشمل كذلك اعتقاد المعتقدات البدعية.
الجهل: فلا شك أن من فارق المسلمين في عقيدتهم وشق صفهم أنه جاهل بالدين وإن ادعى خلاف ذلك إذ لو كان كما قال لاتبع النور المبين.
التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق وهو إتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك وهو التقليد المذموم.
متابعة الأمم السابقة من اليهود والنصارى وقد ثبت في السنة لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتمو. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن"(3).
التأثر بالفكر الوافد من الفرس والهند واليونان فقد ترجمت الكثير من الكتب الأجنبية وتأثر بها الكثيرون.
كيد أعداء الإسلام ومن أشهر الأمثلة على هذا عبد الله بن سبأ اليهودي.
خامسا: تحديد مفهوم البدعة والفرق البدعية:
__________
(1) آل عمران، الآية7 0
(2) الشريعة للآجري 31
(3) البخاري 3/1274 ومسلم 4/2054(1/19)
بعيدا عن الجدل الدائر بين علماء الإسلام حول تعريف البدعة والتي في مجملها تدور حول الابتداع العملي، والذي نرمي إليه هنا هو الابتداع العلمي (العقدي) ويمكن أن نقول بأن البدعة العقدية هي المخالفة لماء جاء في القرآن وصحيح السنة وما ذكره السلف الصالح من القرون المفضلة مما هو من أصول الدين، يقول الشاطبي: " إن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية لأن الكليات تقتضي عددا من الجزئيات غير قليل ... واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلي فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال، ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا"(1).
إذا الفرقة هي الجماعة التي تجتمع حول أصل بدعي ويكون لها اسم خاص تفارق به جماعة المسلمين.
وفي هذا تندرج الفرق السابقة الذكر فالخوراج اجتمعوا على أصول فاسدة فارقوا بموجبها جماعة المسلمين وعرفوا باسم خاص، وكذلك الشيعة والمعتزلة وغيرهم.
ربما يسأل سائل فيقول وأهل السنة كذلك يقال فيهم ما قلت في غيرهم فهم قوم اجتمعوا على أصول معينة وفارقوا المسلمين ولهم اسمهم الخاص.
__________
(1) الاعتصام 439(1/20)
والجواب على ذلك أن أهل السنة هم الامتداد الطبيعي لجيل الصحابة ومن بعدهم فهم من حفظ علمهم ونقله إلى من بعدهم، فقراء القرآن وحفاظ الحديث وعلماء الفقه والأصول وغيرهم هم من أهل السنة، وهم في الأصل لا يعرفون بوصف ولا يرسمون برسم، وإنما سموا بأهل السنة لأنهم حفاظها ودعاتها،والعاملون بها بخلاف الآخرين ممن ردها وقعد القواعد لذلك، والجماعة لأنهم الداعون إلى وحدة الأمة، المحافظون عليها، ولحديث " فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي"(1) وللأحاديث الآمرة بالاجتماع وقد "جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله . قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي".
فهذه التسمية –إذن- لا ترتبط بأصل، فالخوارج سموا بهذا الاسم لخروجهم على الإمام ودعوة الناس إلى هذا الخروج مع ما انضاف إلى ذلك من بدع، والمعتزلة سموا بهذا الاسم لأنهم اعتزلوا الناس فجعلوا لهم دروسهم الخاصة مفارقين بذلك علماء الإسلام، كما أن هذه الفرق تنقم على من أثنى عليهم القرآن والسنة وهم صحابة رسول الله المبلغين دين الله، بل ويردون النصوص الصريحة في القرآن والسنة تبعا لأهوائهم بل يتمنى بعضه أن يحك آية من كتاب الله لأنها ترد عليه مذهبه السيئ وهذا كله بخلاف أهل السنة.
سادسا: الابتداع العقدي وتفريق الأمة:
قبل الخوض في هذه النقطة لا بد أن نبين كيفية إظهار أثر الاختلاف العقدي على وحدة الأمة، وقد اعتمدنا في محاولة معرفة هذا الأثر على معيارين أظن أنهما يجليان هذه المسألة وهما:
__________
(1) أبو داود 3/612، وصححه ابن حبان1/178(1/21)
المعيار التأصيلي وأعني به تأصيل الفرق لبعض الأصول المخالفة لعقيدة المسلمين، والتي تدعو إلى الفرق الثقافية والسياسية والتي من خلالها نستطيع معرفة مدى اهتمام هذه الفرق بالوحدة والألفة، ونعرف مدى انسجام بعض أفكارها مع هذه القاعدة العظيمة، بحيث إنه إذا كانت تحوي ما سبق يظهر أن الاختلاف العقدي لا يؤثر على وحدة الأمة أو أن الأمر بخلاف وذلك.
والمعيار الثاني هو المعيار التاريخي إذ إن الكثير من الاعتقادات لا بد وأن تجعل أصحابها ينصاعون لها ولو في فترات بحيث تظهر أثر هذه العقائد إما في جوانب السلب والإيجاب كما أن التاريخ يعكس الأفكار في وقائع.
- المعيار التأصيلي:
سأكتفي هنا بذكر شذرات نظرا لضيق المقام ذاكرا بعض الفرق مع بعض عقائدها:
الخوارج: فمن المسلم به أن الخوارج فرقة خرجت على الخليفة الثالث عثمان بن عفان وفعلت به ما فعلت(1)، ثم كفرت عليا ومعاوية وجلة من الصحابة بعد ذلك ودعت إلى الخروج على الخليفة الرابع، ولهذا من عقائدها تكفير السلطان وجيشه، كما تكفر أهل الكبائر، وتميل إلى الاستقلال وتدعو إلى تولية خارجي مثلهه يحمل أفكارهم وإلا فالحرب هو الحل الوحيد.
وفي سبيل تحقيق هذه العقيدة عاثوا في الأرض فسادا وعانت الأمة منهم الأمرين مدة طويلة من الزمن.
ومن الأصول التي قال بها الكثير من الخوارج الهجرة أي يتوجب على من يحمل عقيدتهم أن يهاجر من دار الكفر أي ديار المسلمين إلى دار الإسلام إي ديارهم، وأن من قعد عن الهجرة فهو كافر.
الشيعة:
__________
(1) انظر البداية والنهاية 7/195(1/22)
سميت الشيعة بهذا الاسم لمشايعتها عليا ضد معاوية رضي الله عنهم وهذه التسمية لا تدل على المعتقد الذي تحمله هذه الفرقة لأن التشيع لعلي والاعتقاد بأنه أولى بالحق من معاوية هو مذهب أهل السنة، ولما كان الأمر كذلك فأليق الأسماء بهم ما سماهم به الإمام زيد بن علي فـ"قد خرج وبايعه خلق من الكوفة وحضر إليه كثير من الشيعة فقالوا له ابرأ عن الشيخين ونحن نبايعك فأبى فقالوا إنا نرفضك فقال اذهبوا فأنتم الرافضة فمن حينئذ سموا الرافضة"(1).
وللشيعة أصول وتنظيرات تدعو إلى الفرقة من أهمها تكفير المخالف مع ما يجره هذا من تنظيرات تدعو للفرقة والخروج على أئمة المسلمين، كما أنهم يتفقون مع المعتزلة في كثير من أصولهم والتي سيأتي بيانها.
ومن الأصول الشيعية المؤدية للفرقة أصل الإمامة، ويعنون به عصمة الأئمة الإثني عشر وخلافتهم، ولا يعترفون بأي خليفة آخر مع أن معظمهم لم يكن خليفة قط بل كان شديد البعد عن الخلافة والمطالبة بها كجعفر الصادق رضي الله عنه.
المعتزلة:
بدأت هذه الفرقة مع واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري والذي خرج من حلقته عندما لم تعجبه عقيدة التوحيد في مرتكب الكبيرة، وللمعتزلة أصول خمسة هي:
التوحيد ويعنون به نفي صفات الباري سبحانه.
العدل، ويعنون به أن أفعال الإنسان من خلقه وأن الله لم يخلقها.
المنزلة بين المنزلتين، أي كفر مرتكب الكبيرة في الآخرة دون الدنيا.
الوعد والوعيد ويعنون به وجوب معاقبة الله للعاصي والكافر وإثابة المؤمن.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي الخروج على الحاكم الجائر
فبهذه الأصول فارق المعتزلة المسلمين من أول يوم خرج فيه واصل ابن عطاء عن حلق الحسن البصري التابعي الجليل، فبخروجه هذا وتفريقه لتلاميذ الحسن ولمن حضر معه أظهر حقيقة شق الصف المسلم وإحداث شرخ فيه زاد اتساعا مع قابل الإيام.
سابعا: قراءة في الأصول البدعية:
__________
(1) الصواعق المحرقة 157(1/23)
لو لم تفاصل هذه الفرق الأمة بتأصيل الأصول البدعية المخالفة لما كان عليه المسلمون من السلف الصالح فمن بعدهم لما صح أن تنقسم الأمة إلى فرق وشيع تخالف بعضها بعضا، وهذه المفارقة التنظيرية هي التي حددت معالم الفرق وما تحمله من أفكار ومعتقدات قد تكون في أحيان كثيرة مصدر قلق من بقية المسلمين.
والذي يلاحظ أن هذه الفرق البدعية كثيرا ما ترفع سيف التكفير على كل من يخالفها ولو في مسائل قد تكون أحيانا مسائل كونية لا علاقة لها بالعقيدة من قريب ولا بعيد، وهذا بخلاف ما عليه أهل السنة من الاحتياط فيه، والتفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين، واعتبار الأعذار كالجهل والخطأ والتأويل وغيرها، فأهل السنة لا يكفرون إلا وفقا لمعايير وضوابط تضيق دائرته، وهذا بخلاف الفرق البدعية التي كثيرا ما تكفر لأتفه الأسباب، كالتكفير –مثلا- بسبب إنكار إمامة إمام ونحو هذا من الغرائب والعجائب.
والمشكلة أن الأمر لا يتوقف عند ابتداع الأصول البدعية المفارقة للأمة وتكفير المخالف فيها بل يتعدى الأمر إلى ما هو أعظم إذ يفرعون عليه أحكام الكفار الأصليين بل يعتبرون المخالف أكفر من الأصليين فيحكمون بإباحة دماء المسلمين، وأموالهم وأعراضهم، وجواز اغتيابهم ونفاقهم، وقذفهم، ويحرم عليهم تغسيل موتى المسلمين من غيرهم والصلاة عليهم، وإذا صلوا عليه لعنوه بدل الدعاء عليه، والكذب عليهم بل وبالأيمان المغلظة.
فأنت تلاحظ أن تلك الأصول وما تفرع عليها قد جعلت كل فرقة تنابذ الأخرى العداء وتتربص بها الدوائر ولا مانع لديها أن تخون أمتها ودينها.(1/24)
ومن الأصول البدعية الداعية إلى الفرقة وتفرق الشمل أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي اشتهر به المعتزلة وتبعهم فيه الرافضة والذي يعنون به وجوب الخروج على الحاكم المسلم إذا كان جائرا وينبغي أن تعلم أن المراد بالجائر هنا من كان على مذهبهم أما من ليس كذلك فليس بمسلم أصلا، ومن هنا تعلم مقدار الكارثة الذي يعنيه هذا الأصل، إذ هو يدعو المعتزلة مثلا بوجوب الخروج وسفك الدماء لجور حاكم هم مختلفون على تحديد معالم هذا الجور مما ترك مجالا للأهواء لتلعب في هذا التحديد.
وقد جر هذا الأصل إلى ويلات كثيرة خاصة في المناطق التي كانت تعتنق هذه العقيدة كما في بعض جبال اليمن، إذ كان يجتمع في المنطقة الواحدة أئمة!! كل يدعو لنفسه ويرسل دعاته بحجة جور الحاكم أو غيرها من الحجج، مما سبب تشرذما وتفرقا مقيتا.
ومن الملاحظات المهمة في هذا الإطار هو التشرذم والتشظي الكبير لهذه الفرق وغيرها فتجد الفرقة الواحد أحيانا تنقسم انقساما بكتيريا لتصبح فرقا يصعب عدها أو حصرها،وتستغرب من أسماء هذه الفرق وكأنك تسمع رقيا العقرب، ويزداد الغلو ببعض هذه الفرق حتى تخرج من دائرة الإسلام، فالقدرية المعتزلة افترقت عشرين فرقة! كل فرقة منها تكفر سائرها! وهي: الواصلية والعمرية والهذيلية والنظامية، والأموارية، والعمرية، والثمامية والجاحظية، والحايطية، والحمارية، والخياطية والشحامية وأصحاب صالح قبة والمويسية والكعبية والجبائية والبهشمية فهي ثنتان وعشرون فرقة، ثنتان منها ليستا من فرق الاسلام وهما الحايطية والحمارية(1).
__________
(1) الفرق بين الفرق 18، والتنبيه والرد 165(1/25)
وافترقت الخوارج عشرون فرقة: المحكمة الاولى، الأزارقة، والنجدات، والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها: الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية وأصحاب طاعة لا يراد الله تعالى بها والصلتية والأخنسية والشيبية والشيبانية والمعبدية والرشيدية والمكرمية والخمرية والشمراخية والإبراهيمية والوافقة، والإباضية منهم افترقت فرقا معظمها فريقان حفصية وحارثية فأما اليزيدية من الأباضية والميمونية من العجاردة فانها فرقتنا من غلاة الكفرة الخارجين عن فرق الأمة(1).
وافترقت الرافضة بعد زمان علي رضي الله عنه أربعة أصناف: زيدية وإمامية وكيسانية وغلاة، وافترقت الزيدية فرقا، والإمامية فرقا، والغلاة فرقا وهذه الفرق تعد بالعشرات!!وكل فرقة منها تكفر سائرها، وجميع فرق الغلاة منهم خارجون عن فرق الإسلام(2).
فبين فرق المعتزلة والخوارج والرافضة من الاختلاف الكثير حتى إن بعضهم ليكفر الآخر بل قد يكفر التلميذ أستاذه
إذن يظهر لنا بجلاء أن الفرق البدعية قد تسبب في الإطار النظري بتفريق الأمة من ناحيتين: ناحية المفارقة والمخالفة لعقائد وأصول الدين كما بينه لنا الصحابة وتابعوهم، ومن ناحية تأصيل الخروج على جماعة المسلمين بالسيف وإن لم يكن فبالنفاق والمراوغة والتي يسمونها أحيانا بغير اسمها.
المعيار التاريخي:
بعد ظهور الجانب النظري نريد ان نعرف أثر هذا التأصيل في الواقع بمعنى هل كانت هذه الفرق مصدر أمن واطمئنان للأمة، أم كانت مصدر قلق ونكبة وشقاء، هل نتج عن تلك العقائد والأفكار التي اختزنتها السطور والصدور أفعال تعكس ما في هذه الكتب من أصول وفتاوى بدعية، وهل تسببت هذه الفرق في تفريق صف المسلمين وتشتيت شملهم أم أن الأمر مقصور على الجانب النظري فحسب.
__________
(1) المرجع السابق 55
(2) المرجع السابق 16، والتنبيه والرد 156(1/26)
لا شك -أولاً- أن التاريخ مدرسة كبيرة يستفيد منها الجميع لما يحمله من دروس وعبر والتي منها الدروس المتعلقة بأثر الفرق البدعية في مسيرة هذا التاريخ لهذه الأمة المحفوظة بحفظ الله سبحانه.
ومن المعلوم ثانيا أن من يحمل فكرا ولو لم يجد من يؤيده في حاضره فسيجد من يعتنق أفكاره ويروج لها وينظر لها ويسعى كل السعي لتطبيقها، وأن الأفكار مهما بقت حبيسة الأدراج والأذهان ومهما حاول أصحابها إخفاءها والتنصل منها إلا أنه سيأتي يوم إن لم تكن أيام تتجسد فيه كل الكلمات والمعتقدات.
ومن الضروري -ثالثا- ونحن نرجع إلى التاريخ لمعرفة تأثير هذه المعتقدات على اتباعها ومدي ضربها لوحدة الأمة في العمق أن نلاحظ معطيات الزمان والمكان والأفكار أيضا، يوضح هذا أننا لا يمكننا أن نقتطع فترة استقرار عمت هذه الفرقة أو تلك بحيث لم تضر بأحد بعيدا عن معرفة مدى ضعف وقوة هذه الفرقة، ومدى وجاهة وسلطة هذه الفرقة أو تلك سواء زمانيا أو مكانيا، إذ إن لفترات الضعف أحكامها وسياساتها الخاصة بخلاف فترة القوة والسلطة والتمكن والتي تظهر فيه العقائد المدفونة والأفكار التي لطالما انتظرت هذه الفرصة، وهذه الفترة هي الحرية بتسليط الضوء عليها.
ولضيق المقام سأكتفي بذكر وقائع تاريخية انطلقت من الأصول البدعية محاولة تطبيقها والتي أدت في نهاية المطاف إلى ضرب دولة الإسلام ووحدتها في العمق.(1/27)
بدأ الخوارج مآسيهم بشق عصا الطاعة والخروج على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وسبوه ولعنوه وكفروه ثم بعد ذلك كفروا الخارجين معه و"كانوا يخرجون بسيوفهم في الأسواق فيجتمع الناس على غفلة فينادون لا حكم إلا لله ويضعون سيوفهم فيمن يلحقون من الناس فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع أو يقتل فكان الناس منهم على وجل وفتنة"(1) ثم إنهم اعتزلوا الناس ونصبوا أحدهم أميرا عليهم وجيشوا الجيوش وقتلوا وسبوا نساء المسلمين وأفسدوا أيما إفساد الأرض.
خرج الخوارج على الأمة خروجات كثيرة شقوا فيها عصا الطاعة واستباحوا كل شيء منها المحكمة الأولى وبعد هزيمتهه خرج على علي بعد ذلك من الخوراج جماعة كانوا على رأي المحكمة الأولى منهم أشرس بن عوف وخرج عليه بالأنبار رجل من تيم عدى خرج عليه بماسيذان والأشهب بن بشر العرنى خرج عليه بحر جرايا وسعد بن قفل خرج عليه بالمدائن، وأبو مريم السعدى خرج عليه في سواد الكوفة.
فأخرج علي إلى كل واحد منهم جيشا مع قائد حتى قتلوا أولئك الخوارج ثم قتل على رضي الله عنه في تلك السنة 4 في شهر رمضان سنة ثمانى وثلاثين من الهجرة فلما استوت الولاية لمعاوية خرج عليه وعلى من بعده وهكذا(2)
__________
(1) التنبيه والرد للملطي 47
(2) الفرق بين الفرق 62(1/28)
كان القاضي ابن أبي دؤاد ممن نشأ في العلم وتضلع بعلم الكلام، وكان معظما عند المأمون، فدس له القول بخلق القرآن وحسنه عنده، فأجمع المأمون في 218هـ على الدعاء إليه وحينها بدأت المحنة المشهورة بمحنة خلق القرآن فأرسل المأمون إلى الولاة أن يمتحنوا الفقهاء والمحدثين ويرغموهم على القول بخلق القرآن فأجاب بعضهم خوفا من السيف كابن معين وغيره، وسجن في هذه الفتنة الكثير من الأئمة أشهرهم الإمام أحمد فقد سجنه المعتصم وعذبه والإمام صامد فلان المعتصم فهيجه ابن أبي دوءاد على الإمام أحمد فكان يأتي بأشد الجلادين ويأمر كل واحد أن يضرب الإمام سوطين ثم يتنحى ثم يأتي الذي يليه وهكذا، ولم يقتصر الأمر على التعذيب والسجن بل تعداه إلى القتل فقد جيء بالأستاذ أحمد بن نصر الخزاعي إلى الواثق وامتحنه بخلق القرآن فلم يجبه فقال أحد الحاضرين هو حلال الدم، فكفره الواثق في المجلس وأخذ سيفه وقطع عنق الأستاذ أحمد بن نصر الخزاعي في سبيل بدعة لا تمت إلى الإسلام بصلة(1).
هذا ما فعله المعتزلة حين تسنموا السلطة وأصبح لديهم شيء من الجاه الفاني.
لقد كان غزو التتر لبلاد المسلمين من النكبات العظمى التي حلت بالأمة إذ قضي على دولة الإسلام وقتل ما يقارب المليون شخص، وخربت المدينة عن بكرة أبيها ثم ما تبع ذلك من قتل وتخريب لبلاد الشام، وتستغرب كل الاستغراب عندما يظهر لك أن عقيدة بدعية حملها شخص ماكر تلبس بلبوس النصح والولاية كانت السبب في كل هذا الدمار والخراب، إنه ابن العلقمي الرافضي والذي كان وزيرا للمستعصم واستطاع إخفاء عقيدته الرافضية، والذي قام بمراسلة هولاكو ملك التتر وطلب منه المجيء إلى بغداد لخلع الخليفة العباسي، ولم يكتف بخيانته العظمى والتي عقابها القتل في التشريعات والقوانين .
__________
(1) انظر طبقات الشافعية للسبكي 2/50(1/29)
فقد اتخذ ابن العلقمي سياسة خبيثة – في إضعاف جيش الخلافة ساهمت في دخول التتر بغداد دون مقاومة تذكر، إذ اجتهد قبل مجيء التتر في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان وصرفهم عن إقطاعاتهم، ونجح في ذلك إذ كانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف – منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر – فلم يزل ابن العلقمي مجتهدا في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف في أواخر أيام المستعصم(1)، وبلغت حالة الجيش وعساكر الخلافة بالذات مبلغا من الذل والهوان، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد(2).
والحوادث والفواجع من هذا الطراز كثيرة، وتاريخنا مليء بنكبات من هذا النوع، ومن هنا يظهر لنا بجلاء مقدار الجنايات الكبرى والنكبات العظمى التي سببتها هذه الفرق سواء على الجانب الثقافي والفكر والانسجام العقدي للأمة أم على المستوى السياسي والوحدة الجغرافية للدولة الإسلامية.
ثامنا: أهل السنة وتوحيد الأمة:
إزاء هذه الدعوات البدعية التي أدت إلى تشظي الأمة لفترات قد تطول وقد تقصر، كان أهل السنة هم المنادون لتوحيد الأمة متبعين في ذلك أوامر الشرع الشريف الداعية إلى الوحدة والإتلاف والناهية عن الفرقة والاختلاف والتي جاءت بكيفيات متنوعة:
بالأمر بالاتحاد والنهي عن الفرقة كقوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } [آل عمران103].
جعل التفرق من سمات اليهود والنصارى ونهانا عن التشبه بهم فقال: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران105]
وقال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [الأنعام159]
__________
(1) انظر البداية والنهاية 13\192
(2) انظر المرجع السابق(1/30)
ووصف المختلفين فيما أنزل الله بأنهم بعيدين عن الحق كقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [البقرة176]
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك بالجماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية"(1).
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة"(2).
ويتجلى هذا في جانب التقعيد والتأصيل والذي أظهر فيه أهل السنة تسامحا واضحا مع المخالف، فهم لا يكفرون كل مبتدع، وإذا ما حكموا بالكفر فإنما يكفرون المطلق أما في تنزيله على الأشخاص فقد وضعوا له ضوابط ومعايير، ضيقت منه.
كما أن أهل السنة لم يبتدعوا البدع ثم يكفرون الناس بسببها، بل هم متبعون يشهد بهذا تراثهم العقدي المبني على المأثور، وهذا بخلاف الآخرين الذي يبتدعون البدعة ثم يكفرون مخالفيهم على أساسها.
كما يتجلى هذا في الجانب التاريخي فقد رأينا سابقا كيف أن بعض الفرق عندما وجدت متنفسا لها وشيئا من السلطة والجاه كيف لم تتورع في تفريق الأمة وفرض بدعها عليها، بل حملت بعض هذه الفرق السلاح عندما أكبروا أنفسهم وأحسوا بشيء من السطوة.
وهذا كله بخلاف أهل السنة فهم أرحم الناس بالناس وأرفق الخلق بالخلق، لم لا والرحمة والرأفة من صفات الله ورسوله فهم "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد، والجمع والأعياد مع الأمراء -أبرارًا كانوا أو فجارًا-، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة"(3).
فلم يعلم عنهم أنهم أعلنوا الخروج بالسيف على خلفاء المسلمين، ولم يتسببوا يوما فيهدم ديار المسلمين، وأيديهم بيضاء نقية عن أن تلامس يد عدو لخيانة المسلمين وولاتهم.
__________
(1) أبو داود1/205، وصححه ابن خزيمة2/371
(2) الترمذي4/466 وصححه ابن حبان 10/437
(3) مجموع الفتاوى 3/158(1/31)
لقد كان أهل السنة في طليعة الموحدين لهذه الأمة، رغم أن القوة والسلطة كانت لهم غالبا وأنت عندما تقرأ التاريخ تجد أن بعض الفرق البدعية بمجرد أن تستولي على بقعة من الأرض حتى تنفصل عن الخلافة وتكيد لها وتمارس التمييز والتفريق قولا وعملا، وتتولى كبر الإثم بإيذاء أهل الإيمان، في حين نجد العكس تماما عند أهل السنة فالدولة الأيوبية وحدت بلاد الشام ومصر وجعلتها تابعة للخلافة في بغداد بعد أن اختطف الباطنية بلاد الكنانة وأعلنوا خلافتهم الباطنية، وبالرغم من ضعف الخلافة في بغداد إلا أن هذا لم يمنع صلاح الدين أن يعلن تبعيته للخليفة العباسي، ومثل هذا الكثير من الدويلات التي كانت في بعض فترات الضعف كانت تحاول البقاء ضمن الدولة الإسلامية الكبيرة، والانتساب إليها، في حين نجد النكران للخلافة والوحدة، بل ويدعون إلى الخروج عليها بل والزعم بوجوب هذا الخروج من قبل بعض الفرق البدعية.
وأخيرا أختم بهذا الحديث العظيم: عن العرباض رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "(1).
نسأل أن يجمع شمل المسلمين على شرعه وأن يوحد قلوبهم على طاعته، وأن ينصرهم على أعدائهم.. آمين.
(4)
سكرة الهوى
إن للهوى سكرة لا يدرك معها الحق وإن كان جليا كالشمس،وكم كنت استغرب عندما أرى بعض أهل الأهواء يرى الحق باديا ظاهرا ثم لا يقتنع به ويحاول رده بأساليب وردود باردة واهية أوهى من بيوت العنكبوت.
__________
(1) أبو داود 2/610 وصححه الألباني(1/32)
وكمثال على ذلك ما يذكره الرافضة من سب ولعن لخير جيل عرفته البشرية وهم جيل الصحابة الذين زكاهم الله في كتابه فقال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ( وهذا الخطاب موجه للصحابة بالدرجة الأولى ثم لمن كان بعدهم ممن سار على نهجهم وطريقتهم.
وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً(
وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ(.
ومع هذا لا يستغرب الرافضة هذه البدعة التي هم عليها وهي سبهم للصحابة مع مدح الله لهم.
بل هناك ما هو أشنع وهو أن الله قد أخبر في القرآن مؤكدا أنه سيحفظ كتابه من أي تحريف وتبديل في أكثر من آية كما في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ومع هذا نجد بعض أهل الأهواء يطعن في القرآن ويقول بأنه قد نقص، ولا نجد من أتباعهم إلا التسليم، وهذا بعينه هو ما ذم الله به اليهود والنصارى من تركهم لكتب ربهم واتباعهم لأقوال ,وأهواء أحبارهم ورهبانهم قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله(.
إنها سكرة الهوى التي تعمي وتصم.
والحمد لله(1/33)