فواتح الرّحموت
فيما حركه الريس من
مسلّم الثبوت
( وقفات علمية مع نقد عبدالعزيز الريس لـ "ظاهرة الإرجاء" في مسائل الإيمان )
عادل المرشدي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن مكارم الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بتكميلها هي زينة أهل الإسلام، وحلية أهل الاستقامة، وهي أصل من أصول الإسلام، وخصلة من خصال التقوى، وأكمل المؤمنين إيماناً، وأحسنهم إسلاماً هو أحسنهم أخلاقاً، وأكثرهم إحساناً.
وأهل السنة في أهل الإسلام هم أولى الناس بأخلاق المؤمنين، وأحقهم بهدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في علمه، وعمله ،وشأنه كله.
وإن " الثبات الذي هو صحة العقد ، والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق.
والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل، أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه وقد لاح له فساده ، أو لم يلح له صوابه ولا فساده ، وهذا مذموم وضده الإنصاف.
وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق ،أو على ما اعتقد المرء حقاً ،ما لم يلح له باطله وهذا محمود وضده الاضطراب ، وإنما يُلام بعض هذين لأنه ضيَّع تدبر ما ثبت عليه وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل " ().
وإن الأسى ليأخذ بنفس المسلم اليوم لحال كثير من المشتغلين بالعلم والدعوة والجهاد من ترك مكارم الأخلاق التي لا تزكو أعمالهم ولا يبارك لهم فيها إلا بإقامتها في معاملة الخلق ، وفي ترك الانتصار للنفس طمعاً في تكميل نقص فروض الكفاية من أبواب الدين فيهم.
وكم نقض كثير من المنتسبين إلى الصلاح والاستقامة حقوقاً قطعية في الشريعة عليهم لإخوانهم المسلمين بأمور ظنية لا ترقى المصلحة الموهومة فيها إلى عظيم النقص الذي أحدثوه في المصالح الشرعية القطعية حال مراعاتها.(1/1)
وأهل السنة الذين هم أعرف الناس بالحق وأرحمهم بالخلق قد أصبح بعضهم في أمرٍ مريج من الهجر والقطيعة والبغضاء والشحناء ومطل الحقوق وتتبع العورات ، لا على جهة الإقرار بالخطيئة والاعتراف بالذنب وسؤال الله العافية من غل القلب وسخيمة الصدر، بل على جهة الفرح بالنكاية والافتخار بالعداوة والتشبع بحوالق الدين.
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ
وإن فروض الكفاية من التعليم والدعوة والجهاد قد صارت كلها أو بعضها في كثير من بلاد الإسلام فرض عين على القادر من المسلمين ، لكون الكفاية لم تحصل فيها على الوجه الملحوظ اعتباره في مقاصد الشريعة.
وكل باب من هذه الأبواب محتاج إلى قدر واجب متفاوت من العلم الشرعي الذي لا يقوم الإصلاح ولا يتم المراد إلا بتحقيقه في نفس المكلف قبل بذل النفس في باب من هذه الأبواب التي وقع في كل واحد منها قدر من التفريط في هذا الواجب.
ولما كانت هذه الأبواب كلها من واجبات الدين وفروضه فقد اجتهد أهل كل باب من هذه الأبواب في تحقيق القدر الواجب من كفاية الناس فيه، وترك كثير منهم ما وجب عليه في الأبواب الأخرى، وبالغ في جر الناس كلهم إلى الباب الذي تكلف التنظير لكونه مخرج الأمة كلها من حالها، فحقت عليهم سنة الله تعالى في أسلافهم: ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون ).(1/2)
فترك بعضهم ما أمر به المؤمنون بينهم من التراحم والتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك الظلم بالحكم العام على كل أفراد المصلحين في هذا الباب بما يحكم به على كل فرد منهم ، وغلوا في توفير الرموز والمبالغة في النهي عن بيان أخطائهم على ما توجبه الشريعة من الحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أن مرقت مارقة على حين فرقة من المصلحين تركت أهل الأوثان والشرك والفساد في الأرض واشتغلت بهم عقوبة كونية من الله تعالى على ترك كل منهم للقدر الواجب عليه من أبواب الشريعة التي تركها.
فمسخت هذه الطائفة بعض محاسن الشريعة التي جاءت كل الشرائع بها وعدتها عيوباً تحكم الشريعة نفسها بتحريمها وتجعل فاعلها أشد خطراً من اليهود والنصارى وسائر المشركين.
ونزعت في المثالية غير الشرعية إلى مذهب الخوارج الذين فاصلوا أهل الطاعة المشوبة بمعصية مفاصلة تامة كما فاصلت هذه الطائفة أهل السنة المشوبة ببدعة مفاصلة تامة تشبه في صورتها الظاهرة ما يجب من المفاصلة التامة مع أهل الكفر والإلحاد والمروق من الملة.
وجعلت الإنصاف الذي هو ركن الرد على المخالف من سائر الطوائف عيباً وخروجاً عن السنة خلطاً من أفرادها بين منهج الموازنة حال الرد الخاص وموازنة المنهج عند الحكم العام.
وفهمت كلام السلف بفهم الخلف دون ما أجمع عليه السلف، كما فهم الخوارج كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بفهمهم دون ما أجمع عليه الصحابة فاحتكروا هم اسم السنة والسلفية كما احتكر الخوارج اسم الإسلام والإيمان.
وجعلت العاطفة الإيمانية الصادقة عاصفة على كل حال كالذين قتلوا صحابياً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبقروا بطن زوجته بدم بارد، فشابهوهم من جهة إسقاطهم لكل من كان له قدم صدق في أهل الإسلام في باب من أبواب الدين بمجرد الزلة والهفوة والبدعة تارة وبالقيام بالحق والنصح والإرشاد على مراد الشريعة تارة أخرى
.(1/3)
وجمعت هذه الطائفة من شعب الخوارج ما لا تُلحق من أجلها بهم من كل وجه كما لا يُلحق الراد عليهم فيها بأجر عليٍ وأصحابه في النهروان من كل وجه().
ثم أما بعد:
فهذه وقفات علمية مع الأستاذ عبدالعزيز بن ريس الريس وفقه الله في حواره مع الدكتور سفر الحوالي وفقه الله في مسائل الإيمان جعلتها على قسمين ، الأول منها مشتمل على ثلاث وقفات وخاتمة هي مادة هذه الأوراق:
الوقفة الأولى: في فهم الأستاذ وفقه الله لمسألة انقياد القلب وجنس العمل.
الوقفة الثانية: في خلط الأستاذ وفقه الله بين الإصرار على ترك الطاعة والإصرار على فعل المعصية.
الوقفة الثالثة: في فهم الأستاذ وفقه الله لمسألة ( الالتزام ) وارتباطها بانقياد القلب وجرأته على الإمام ابن تيمية ببتر النقول ونسبة أقوالٍ إليه وأقسامٍ ليست من كلامه.
والخاتمة وفيها ثلاث نقول عن الإمام ابن تيمية رحمه الله في التعامل مع الجماعات التي فيها سنة وبدعة وطاعة ومعصية وخير وشر.
وقد بينت في هذه الوقفات خطأ الأستاذ وفقه الله في الكلام على هذه المسائل دون تصور منه لأصلها ومدى ارتباط بعضها ببعض، ممهداً قبل بيان ذلك بالإشارة إلى أربع أمور مهمة:
أولها: أن هذه الأوراق التي كتبتها إنما هي نفثة مصدور في المحاكمة بين الأستاذ والدكتور دون تكلف الميل مع واحد منهما بمجرد الحمية والتحزب.
وقد أكثر الأخ عبدالعزيز الريس وفقه الله من وصف خصومه ونبزهم بالدكترة وفيهم جمع من الشيوخ الكرام الذين تشرف ( الدال ) بهم وتزكو فرأيت وصفه في هذه الأوراق بالأستاذ وقوفاً مع ظاهر أحكام المنازل العلمية في الدنيا!(1/4)
ثانيها: أني لا أزعم في هذه الأوراق أن الأستاذ عبدالعزيز الريس وفقه الله قد خرج من السلفية بأخطائه في فهم هذه المسائل وكثرة تخليطه فيها وإن كنت أجزم ببغيه على إخوانه السلفيين الذين لهم قد صدق في أهل الإسلام وإن اخطئوا وزلوا في أبواب من الدين لا يُعصم أحد من الزلل فيها كالدكتور سفر الحوالي وفقه الله.
ثالثها: أن الأستاذ عبدالعزيز الريس وفقه الله قد كتب ردوداً مشكورة في الجملة على أهل العلمنة والإلحاد خلطها بكثير من التقول على أهل السنة والصلاح فكان في ردوده هذه مشابها للمتكلمين في ردودهم على بعضهم من جهة وعلى الفلاسفة من جهة أخرى وذلك من وجوه كثيرة منها:
أن الأستاذ وفقه الله قد نصب أدلة ضعيفة في نصر السنة والسلفية جرّأت كثيراً من أهل الأهواء على أهل السنة ورموهم لأجلها بالاضطراب والتناقض كنصبه لأدلة واقعية عملية من دول وجماعات وجعلها ممثلاً صالحاً للسلفية الشرعية من كل وجه مع ما فيها من نقص ظاهر في هذا التمثيل وكنقل الإجماع عن محله الظاهر بغير قرينة معتبرة عند تقرير المسائل العلمية.
ومنها نسبة الأقوال إلى السلف بفهمه كما فعل الأشاعرة بنسبة التفويض إلى السلف بفهمهم كما في قوله في رده على الاعتراضات - وصورتها في الملحق - ص32: "وإلى عدم الحكم على من فعل شعيرة من شعائر الكفر بأنه كفر على الإطلاق ذهب جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري وكذا ابن رجب الحنبلي وابن حجر العسقلاني وأبو الحسين علي بن خلف بن عبدالملك العروف بابن بطال وبدر الدين محمود العيني والعسقلاني والكرماني في شروحهم لصحيح البخاري ، إذ قال البخاري في صحيحه : باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شئ مما يعبد وأراد به الله " أ.هـ !.
ومنها الإكثار من إيراد المصطلحات الجملة غير المحررة التي استفاد منها المفسدون كمصطلح
((1/5)
الحزبية ) و ( الحركية ) وغيرها مما هو شبيه في اشتماله على حق وباطل بمصطلح ( الحشو ) و
( التجسيم ) وغيرها من مصطلحات المتكلمين.
ومنها رده على أهل الباطل الملحدين بنفس الأدلة التي يرد بها على أهل البدعة من المسلمين دون معرفة منه بمصطلحات أهل الإلحاد وأصولهم التي التزموا لأجلها هذا الباطل وغيرها.
رابعها: أن عامة ما في هذه الأوراق هو محاولة لفك ارتباط صور المسائل في ذهن الأستاذ، وبيان وجه خطئه في فهم كلام العلماء، ومدى خطورة منهجه الذي يسير عليه في الدفاع عن السنة.
وليس المقصود بها تفصيل الأدلة والإكثار من النقول، ولا مجرد الخطأ في فهم مسألة الحكم بغير ما أنزل الله كما قد يتوهم الأستاذ أو غيره بل الأمر أكبر من ذلك وهو منهج عام في فهم مسائل والعلم وجرأة نادرة على نسبة القواعد الجديدة والتقسيمات الفريدة لأهل العلم بفهم حادث ناتج عن ردود الأفعال.
ولست أدعي في هذه الأوراق لنفسي مزيد علم ولا فهم وإنما هو شيء علمته فقلته وأقول في هذا المقام ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية ص47 ط ابن خزيمة:
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما ... بالحق في ذا الخلق ناظرتان
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على ... ... أحكامه فهما إذا نظران
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما ... ... من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم ... ... فالقلب بين أصابع الرحمن
واحذر كمائن نفسك اللاتي متى ... ... خرجت عليك كسرت كسر مهان
وكتبه,,
عادل المرشدي
الوقفة الأولى:
وقف الأستاذ على قول الدكتور الحوالي في ظاهرة الإرجاء (2/527) " فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك خاصة حين الفعل، لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل فمن هنا نفى الشرع عنه الإيمان تلك اللحظة لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان " أ.هـ.(1/6)
فبنى عليه الأستاذ أن الدكتور يرى أن ( عمل القلب إذا زال فإن الرجل لا يزال مسلماً ) كما في حواره معه ص5.
قال مقيده:
لم ينسب الأستاذ هذا القول الذي فهمه من عبارة الدكتور السابقة إلى شيء زبره الحوالي ببناه أو قاله بلسانه، وإنما هو فهم فهمه الأستاذ من الجملة السابقة واستنبط منه هذا المذهب الجديد للدكتور الذي بنى كتابه كله على أن عمل القلب ركن في الإيمان لا يصح الإيمان دونه، وفرَّع حكم ترك ( جنس العمل ) على حكم ترك عمل من أهم أعمال القلب وهو ( الانقياد )، وعقد فصلاً كاملاً في كتابه عن ( أهمية عمل القلب ) وآخر عن ( إثبات عمل القلب ) وثالثا عن ( أ ثر عمل الجوارح في أعمال القلب ) كما في ظاهرة الإرجاء ( 2/541-615 ).
وتوج هذا كله بقوله في ظاهرة الإرجاء( 2/522 ):
"فهذان الركنان ـ القول ـ والعمل ـ أو الأربعة أجزاء ـ قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح يتركب منها هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور ، هذه الهيئة والحقيقة هي الإيمان الشرعي.
ومما يوضح ذلك تشبيه الإيمان بالتركيب الكيمائي مثلما يتركب الملح مثلاً من الكلور والصوديوم أو يتركب جزئي الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين ـ بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقاً ، وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماماً " أ .هـ
فعمل القلب عند الدكتور ركن في الإيمان يزول الإيمان بزواله كما يزول اسم الماء عنه بزوال أحد أجزائه التي تركب منها وتنتفي حقيقته مطلقاً بانتفاء هذا التركيب عنها وتتحول أجزاؤه إلى أشياء مختلفة تماماً ، فأي تشبيه لارتباط عمل القلب باسم الإيمان الشرعي أبلغ من هذا ؟
وكيف يكون حاكماً بما نقله عنه الأستاذ مع أنه يرى أن فرع عمل القلب وهو ( جنس عمل الجوارح ) إذا زال فإن الرجل لا يكون مسلماً فضلاً عن زوال أصله وهو ( انقياد القلب ) الذي هو عمل من أهم أعمال القلب ؟!(1/7)
وقد قال الدكتور الحوالي في ظاهرة الإرجاء ( 2/656 ) "بهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة وسائر عمل الجوارح كفر ظاهراً وباطناً لأنه ترك لجنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان والتي لا وجود لها إلا به" أ هـ .
فمجرد ترك جنس العمل عند الدكتور هو كفر ظاهراً وباطناً ولا وجود للإيمان إلا به فضلاً عن ترك عمل القلب الذي هو أصل انبعاث الجوارح للعمل !
إذا علم هذا أمكن بعده فهم قول الدكتور الذي نقله عنه الأستاذ في حواره المذكور معه.
فإن الدكتور الحوالي وقفه الله قد أراد بقوله ( عمل القلب ) في ذلك الموضع ما يتعلق بالخشية والنور والخشوع الذي فيه قبل مقارفة الكبيرة وهي أعمال من أعمال القلب لا ينتفي الإيمان بانتفاء كمالها كما هو معلوم ومقرر في مكانه من كتب أهل السنة بل ومن كتب الدكتور نفسه.
وقارن قول الدكتور السابق في نقل الأستاذ بقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان ص 29 "ومن أتى الكبائر مثل الزنا أو السرقة أو شرب الخمر وغير ذلك فلا بد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور وإن بقي أصل التصديق في قلبه ، وهذا من الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ... " فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي والشيطان يمده في غيه وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب فذلك النور والإبصار وتلك الخشية والخوف يخرج من قلبه ، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى شيئاً وإن لم يكن أعمى فذلك القلب بما يغشاه من دين الذنوب لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر" أ. هـ.
فهل كان الإمام ابن تيمية رحمه الله يرى أن من لم يكن في قلبه أصل الخوف من الله والخشية فإنه لا يزال مسلماً كما فهمه الأستاذ من كلام الدكتور بهذا المسلك ؟(1/8)
بل مراد الدكتور في إثباته لقول القلب وجعله سبباً لعدم الخروج من الإيمان ومراد شيخ الإسلام قبله في إثباته لتصديق القلب مع ذهاب ما في القلب من الخشية والخوف هو ( قول القلب وتصديقه التام )، لا مطلق التصديق الذي لا يستلزم شيئاً من أعمال القلب فإن أعمال القلب تدخل في مسمى ( قول القلب وتصديقه ) تارة وتخرج تارة أخرى كما قال إمام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان ص 101: " التصديق التام القائم مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه لوازم الإيمان التام ، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ، ونقول: إن هذا اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى " أ. هـ.
فقوله: ( إن هذه اللوازم ) أي أعمال القلب والجوارح.
وقوله ( تدخل في مسمى اللفظ ) أي لفظ التصديق وهو رديف لفظ ( قول القلب ) كما هو معلوم.
فهل فهم الأستاذ هذه المباحث قبل انتقاده لجملة الدكتور السابقة أم لا يزال كلامه وفقه الله في مسألة ( انقياد القلب ) مشوشاً تشويشاً عظيماً ومتأرجحاً بين تقرير أهل السنة في الظاهر وعقيدة غيرهم في الباطن.
كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 7/364 ) وهو في كتاب الإيمان ص 286:
"وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف" أ.هـ.(1/9)
وكم في هذه الجملة من موضع يحتاج الأستاذ وفقه الله إلى تأمله كما أمر الدكتور الحوالي في حواره المذكور أن يتدبر نصاً آخر زعم الأستاذ أنه منطبق على حال الدكتور تماماً كما في الصفحة السادسة والثلاثين منه ، خاصة وأن الأستاذ وفقه الله يقرر أن انقياد القلب ركن لا يصح الإيمان دونه ويزعم في الوقت نفسه أن الذبح لبوذا والسجود للشمس والأوثان والتمسح بالصلبان لا يخرج العبد من الإسلام إلا بشرط التقرب القلبي لهذه الطواغيت المعبودة من دون الله !.
وقد ذكر هذا هو بخط يده في حواره مع سني آخر لم تفلح مراوغات الأستاذ هداه الله في الإفلات من حجه السلفية عليه وإن أكثر الأستاذ من اللت والعجن بالفرق بين السجود ( لها ) والسجود ( إليها ) فإنه قد صرح في أوراقه تلك بأن مناط التكفير في هذه الأفعال المنافية منافاة تامة لانقياد القلب بإجماع أهل السنة هو ( التقرب القلبي ) لها فحسب !.
فأين هذه النسبة الثابتة عليه هداه الله بخط بنانه ممن ينسب إلى الناس ما لم يقرروه بفهم يفهمه هو من كلام إخوانه ؟
وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن الأستاذ لم يفهم مسألة انقياد القلب فهماً مستقيماً كما ينبغي أن يكون عليه أهل السنة المعظمون للسلفية والذابون عنها.
بل إن الأستاذ الريس لم يفهم مسألة ( جنس العمل ) أيضاً وهو قد كتب فيها رسالة كاملة يدافع فيها عن العلامة الألباني ويرد فيها على خطأ الغالين في هذه المسألة وقد قال فيها وفي حواره هذا ما يؤكد أن تصوره للمسألة من أصلها في غير محله فضلاً عن تحقيقه لكلام أهل العلم فيها فقد قال في حواره هذا ص 12: " وخلاصة مسألة جنس العمل كالتالي : أولاً: أن ينطق الرجل بالشهادتين ويجلس دهره وعمره لا يعمل شيئاً من أعمال الجوارح وهذه صورة نظرية أكثر منها عملية إذ لا يستطيع أحد أن يحكم على معين بأنه لم يعمل شيئاً من أعمال الجوارح فهي إذا لا يمكن تطبيقها في أحكام الدنيا" أ .هـ.(1/10)
فأهل العلم إذا ومن أخصصهم الإمام ابن تيمية رحمه الله قد أضاعوا أوقاتهم وأعمارهم في تقرير مسألة نظرية لا يمكن تطبيقها في أحكام الدنيا ولا يستطيع أحد أن يحكم على معين أنه لم يعمل شيئاً من أعمال الجوارح كما قرره الأستاذ في جملته هذه !.
وموجب هذا التقرير المخالف منه لهذه المسألة هو أنه ظن أن مراد أهل العلم رحمهم الله بقولهم ( جنس العمل ) أي كل عمل من أعمال الجوارح التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى.
وليس الأمر كذلك بل مرادهم هو الأعمال الواجبة التي اختصت شريعة الإسلام بإيجابها وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الأعمال التي بهذه الصفة كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 7/621 ) "فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم" .
وليس مرادهم بـ( جنس العمل ) كل الأعمال الصالحة بجميع درجاتها في كل الشرائع كما فهمه الأستاذ!
فهل قول الأستاذ في حواره ص 13 عن الدكتور: "كان الأجدر به أن يعرف المسألة ويضبطها حق الضبط حتى لا يقع فيما وقع فيه من الغلو في تصويرها" في محله المناسب أم يستحقه الأستاذ ؟
فائدة:
قال الحافظ محمد بن علي القصاب في كتابه النافع " نكت القرآن الدالة على البيان ( 1/ 480-481): "ولا أعلم بين الأمة خلافاً في أن الخارج من الكفر إلى الإيمان لو قال أؤمن بالله، وأؤمن بأن الصلاة والزكاة حق ،ولكن لا أقيمهما ،وأقتصر على القول بالشهادة أنه لا يقبل منه ، وأنه كافر كما كان، حلال الدم والمال، وأن الذي حرم دمه بالشهادة هو الذي يحمل عليه في الحرب فيظهر القول بها، أو يجئ متبرعا فيقولها ويسكت ليؤمر بالصلاة والزكاة على الأيام ولا يَشترط ترك الصلاة والزكاة في وقت إسلامه" أ.هـ.
وكتابه هذا نافع جدا في ربط مباحث عمل القلب بالقرآن.
الوقفة الثانية:(1/11)
قال الأستاذ الريس في حواره ص 6 "جعل الدكتور إصرار الرجل على فعل المعصية كفراً، بل صرَّح بهذا في عدة صور ! يقول الدكتور ... ( ولما احتيج للاستدلال على كفرهم إلى قياس ولا غيره وإنما جحدوا الالتزام بها أي أصروا على ألا يدفعوها مع الإقرار بها من الدين ) لاحظ - والكلام للأستاذ - جعل الإصرار على عدم فعل الطاعة جحوداً وأنه بهذا لا يكون ملتزماً للحكم، بل يكون قد ضيع من قلبه الالتزام فمن ثمّ وقع في الجحود أسأل الله أن يعافيني وإياكم ! فمعنى هذا أن الرجل إذا أصرّ على المعصية فإنه يكون جاحداً لهذه الطاعة وغير ملتزم لها ! ومن لم يكن ملتزماً لها فيكون كافراً لذا سأذكر لكم كلمات للدكتور في تكفير بعض أهل المعاصي" انتهى كلامه !
قال مقيده:
لم أقف على نص للأستاذ أصلحه الله يدل على قلة معرفته بمذهب أهل السنة والجماعة وكتبهم كهذا النص الملئ بالمغالطات العلمية والعجن الاصطلاحي مع الإصرار على عدم الرغبة في الإنصاف والفهم الصحيح، وذلك أن الأستاذ هداه الله قد خلط في هذه الجملة بين كلام أهل العلم عن الإصرار على فعل المعصية وكلامهم عن الإصرار على ترك الطاعة وبينهما عند أهل السنة والجماعة السلفيين كما بين السماء والأرض والإسلام والكفر. وكلام الدكتور الحوالي وفقه الله في النقل الذي نقله الأستاذ عنه صريح في أن مراده هو الإصرار على ترك الطاعة - وهي أداء الزكاة - لا الإصرار على فعل المعصية كما زعم الأستاذ . والإصرار على ترك الطاعة كفر أكبر خلافاً للإصرار على فعل المعصية فهو كبيرة لا تخرج من الإسلام بإجماع أهل السنة في الأمرين.(1/12)
وقد روى عبد الله بن أحمد رحمه الله في كتابه السنة ( 1/347-348 ) "قال: حدثنا سويد بن سعيد قال سألن سفيان بن عيينة عن الأرجاء فقال: يقولون الإيمان قول، ونحن نقول الإيمان قول وعمل والمرجئة أجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارب وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود أما آدم فنهاه الله عز وجل عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمداً ليكون ملكاً أو يكون من الخالدين فسمي عاصياً من غير كفر وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً فسمي كافراً. وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسماهم الله عز وجل كفاراً. فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء وأما ترك الفرائض جحوداً فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله وتركها على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود" أ. هـ.
ففرق هذا الإمام بين الإصرار على فعل المحارم وبين الإصرار على ترك الفرائض فجعل الأول معصية ما لم يقترن بالاستحلال، وجعل الثاني كفراً وإن اقترن بالإقرار.
أما الأستاذ فقد جمع بين الصورتين وساق الكلام عليهما سياًقا واحداً دالاً على قلة التمييز بين صور المسائل بل والبغي على من فهم كلام أهل العلم فهماً صحيحاً فكان كمن قال عنهم الإمام سفيان بن عيينة في النقل السابق: ( وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم ).(1/13)
وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى ( 7/ 615-616 ): "ولا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة ملتزماً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم. وما جاء به يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط لا يكون إلا كافراً، ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها كان القول مع هذه الحال كذباً منه. .. فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه فإنه دخلت عليه الشبهة في هذا الباب التي دخلت على المرجئة والجهمية والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل" أ. هـ.
فالإمام ابن تيمية لا يتصور وجود هذه الصورة والأستاذ وفقه الله ينكر على من كفر المصر على ترك الطاعة بل ويعد هذا من جنس التكفير بالمعاصي !
وقول الأستاذ في النقل السابق: "جعل الإصرار على عدم فعل الطاعة جحوداً وأنه بهذا لا يكون ملتزماً للحكم بل يكون قد ضيع من قلبه الالتزام فمن ثم وقع في الجحود أسأل الله أن يعافيني وإياكم" أ. هـ .
يُفهم منه أن الأستاذ ينكر أن يكون الإصرار على عدم فعل الطاعة يسمَّى جحوداً ويظن أن الجحود في لسان السلف هو التكذيب القلبي فقط وأن من ظن أن الإصرار على عدم فعل الطاعة يسمى جحوداً فإنه يجعل من أصر على فعل المعصية كافراً في الشريعة ويكفر المسلمين العصاة بالمعاصي !.
وهذا من دلائل عدم فهم الأستاذ لكلام أهل العلم في هذه المسائل الجليلة ، فإن الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله قد عبر عن ترك الطاعة وهي السجود لآدم بالجحود - كما في النقل السابق - فقال: ( أما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً فسمي كافراً ).(1/14)
والذي يعرفه الخاصة والعامة هو أن إبليس لم يكذب أمر الرب له بالسجود لآدم وإنما أبى السجود واستكباراً وأصر على ترك هذه الطاعة فكان كافراً بذلك لا لتكذيبه وإنكاره وإنما لإصراره على ترك هذه السجدة .
الوقفة الثالثة:
قال الأستاذ في حواره ص 6: "فإنه - أي الإمام ابن تيمية - إذا كفر فعلاً! وقرنه بعدم الالتزام فهو يريد عدم التزام الاعتقاد لا عدم التزام الفعل ، وإليكم الدليل من كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: ( وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها )" أ. هـ.
ومعنى ( أقر بوجوبها ولم يفعلها ) - والكلام للأستاذ - : لم يقع منه عمل الجوارح وإنما وقع منه التزام القلب لفعلها ، وهذه المسألة هي مورد النزاع بين أهل العلم ، فابن تيمية يفرق بين الالتزام الفعلي والالتزام الإعتقادي ، والأمر الذي يكفر به بالإجماع ترك الالتزام الإعتقادي وأما ترك عمل الصلاة بالجوارح فهو محل النزاع .إذا في كلام ابن تيمية صراحة التفريق بين عدم التزام الفعل وعدم التزام الاعتقاد ! وأن الكفر بالإجماع في عدم الالتزام الإعتقادي" انتهى كلام الأستاذ.
قال مقيده :
لست في حاجة إلى الوقوف الطويل عند الاستدلال من كلام الأستاذ في هذا الموضع وفي غيره من المواضع على جرأته النادرة وقدرته الفائقة على استحداث القواعد الجديدة والتقسيمات الفريدة ، ونسبتها بفهمه إلى الكتاب والسنة وأهل العلم من غير تعزيز لها ببرهان بين من المصادر المقدمة عند أهل الإسلام فضلاً عن خاصتهم من أهل السنة.(1/15)
بل إن هذا الموضع وحده كافٍ في كشف طرف من هذا التلبيس الذي يوجب وقفة جادة من أهل العلم المعروفين، ومن المغترين بالأستاذ الآخذين لأقواله بالتسليم دون تمحيص ولا نظر فيما أدخله على مذهب أهل السنة من القواعد والتقسيمات الباطلة. والعاقل يعلم تقصير هذه الجمل في وصف حقيقة الحال وتركها لإعطاء المقام حقه من الإنصاف والعدل.
وسأنقل قبل التعليق على كلامه السابق كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله بتمامه لتحصيل اليقين بخطأ الأستاذ في فهمه لكلام الإمام ومدى جرأته على نسبة هذا التقسيم إليه بمجرد فهمه مع بتر النقل واختصاره ليحسن له الاحتجاج به.
قال رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى ( 20/97 ): " و تكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومورد النزاع هو فيمن اقر بوجوبها والتزام فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم ، وليس الأمر كما يُفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام :
أحدها: إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
الثاني: أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً أو حسداً أو بغضاً لله ورسوله فيقول:
أعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن لكنه ممتنع عن التزام الفعل استكباراً أو حسداً للرسول أو عصبية لدينه أو بغضاً لما جاء به الرسول فهذا أيضاَ كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحداً للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكارين وكذلك أبو طالب كان مصدقاً للرسول فيما بلغه ولكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفاً من عار الانقياد واستكباراً عن أن تعلوا أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له .(1/16)
ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولاً للتكذيب بالإيجاب ومتناولاً للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى: ( فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ )وقال تعالى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق .
الثالث: أن يكون مقراً ملتزماً ، لكن تركها كسلاً وتهاوناً أو اشتغالاً بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلاً أو تهاوناً" انتهى كلامه رحمه الله .
فعلم أن الإمام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم يريدون بمصطلح الالتزام في هذا الموضع وفي غيره ما يُرادف: القبول، لا ما يرادف التصديق كما زعم الأستاذ وسماه ( الالتزام الإعتقادي ).
ومن نطق بالشهادتين وأقر بها ظاهراً فهو معلن لقبوله جميع ما تضمنته الشهادتان من أحكام وإن لم يعمل بعضها تهاوناً أو كسلاً - حاشا الصلاة على الصحيح - فإن قال أو فعل ما يدل على انتفاء قبوله لأحكام الشهادتين فهو كافرا بالاتفاق لامتناعه عن التزام الشهادتين أي قبول ما تضمنتاه من أحكام فظهر أن معنى قول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "والتزام فعلها ولم يفعلها" أي: قبل إيجاب فعلها عليه وأذعن له في الظاهر وما طل في فعلها تهاوناً أو كسلاً، وليس معناه كما فهم الأستاذ: أعتقد وجوبها ولم يعمل بها بجوارحه.(1/17)
بل جملة شيخ الإسلام هذه في تحرير محل النزاع في تكفير تارك الصلاة أوسع مما فهمه من جعل صور ترك الصلاة الثلاث صورتين فقط : إما جاحد لوجوبها فيكفر بالاتفاق وعبر عنه بعدم الالتزام الإعتقادي أو مقر بوجوبها فهو مورد النزاع ، بل إن هذا الفهم بعينه هو الذي أنكره الإمام على من فهم هذا الفهم واستدرك عليهم قسماً ثالثاً ، قال فيه إن صاحبه يقول: ( أعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن الفعل ).
فكتم الأستاذ هذه الصورة في نقله جهلاً أو خيانة في النقل وأكبر علمي والذي يغلب على ظني أن الأستاذ لم يقف على هذا النقل في محله وإنما أخذه مبتوراً من بعض مصادر الإرجاء التي رد عليها أعضاء اللجنة الدائمة من أهل العلم الكبار في هذه البلاد.
والحاصل من هذا كله هو أن ترك المأمور ينقسم إلى ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يتركه ويجحد وجوبه فهذا كافر بالاتفاق.
الصورة الثانية : أن يتركه ويقر بوجوبه ويظهر القبول لهذا المأمور والالتزام لفعله ، وأقرب مثال لهذه الصورة هو ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من قوله في الموضع السابق: ( كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلاً أو تهاوناً ).
فهذا حكمه يختلف بحسب المأمور المتروك فإن كان هو الصلاة ففي تركها على هذه الصفة نزاع مشهور مورده هذه الصورة .
الصورة الثالثة :
أن يتركه ويقر بوجوبه ويأبى قبول إيجابه عليه في الظاهر فيصرح بلسانه أنه لن يفعل واجباً من الواجبات حتى يموت ، أو يفعل فعلاً دالاً دلالة ظاهرة على عدم قبوله لإيجاب هذا الفعل عليه وعقد قلبه على عدم فعله كالإصرار على ترك الصلاة حتى يقتل دونها أو ترك الزكاة على هذه الصفة .
فصاحب هذا كافر باتفاق أهل العلم وعليه إجماع الصحابة في قتال المرتدين وهم أصناف كثيرة منها هذا الصنف.(1/18)
وهذه الصورة الأخيرة هي محل كلام الدكتور الحوالي في تقريره لكفر من سن القوانين الوضعية المبطلة للأحكام القطعية الشريعة التي يدل مجرد تقنينها على عدم التزام فاعلها لحكم الله تعالى في المسألة الشرعية التي سن هذا القانون الوضعي مكانها وأعلن بهذا الفعل ترك قبوله لحكم الله تعالى فيها وأنه لن يفعل ما أوجب الله عليه من الحكم بها وإن اقر بأن هذه المسألة من عند الله تعالى وأن الحكم بها واجب .
وقد كبرُ على الأستاذ الريس أن يسلم بأن ما قرره بعض أهل العلم الكبار من كون الحكم بغير ما أنزل الله على وجه التقنين وإبطال أحكام الشريعة كفراً أصغر إنما هو زلة عالم لا يتابع عليها فضلاً عن التنظير لها، لأن من تكلف هذا فإن مآله عاجلاً أو آجلاً إلى تفريغ مذهب أهل السنة والجماعة من محتواه وحشوه بما حقيقته راجعة إلى أصول المرجئة.
وأما العالم الذي زل في هذه المسألة فإنه برئ من هذا المذهب ومعذور عند الله تعالى بإذنه سبحانه لأجل ما بذله من الوسع في استخراج حكم الله تعالى عليها.
ولا أعرف في واقعنا هذا دليلاً عملياً على خطورة التنظير لزلات العلماء والمبالغة في الانتصار لهم على حساب التسليم للحق والخضوع له وإن جاء ممن تكره النفس قبول قوله من المخالفين أبلغ مما وقع للأستاذ في عامة ما نشره في الناس من أقوال تنادي على نفسها بالإبطال ومجرد تصور لوازمها كاف في البراءة من مذهب قائلها فضلاً عن السكوت عنه.(1/19)
فكان أول أمره أن فرق في رسالة له سماها ( مهمات في التكفير ) بين الأعمال التي تضاد الإيمان من كل وجه والأعمال التي لا تضاد الإيمان من كل وجه فالأولى كفر مطلقاً والثانية لا يكفر صاحبها إلا بعد الإستفصال عن قصده لوجود الاحتمال في إرادة الكفر من عدمه، وعليه فإن ( التكفير لا يكون بأمر محتمل ) وهو في هذه الجمل لم يأت بجديد من عنده إذ لا نزاع في صحة هذه القاعدة في الجملة، وإنما الجديد عند الأستاذ فيها هو حمل ( الاحتمال ) وعدمه على الواردات القلبية دون غيرها من أعمال الجوارح فليس الاحتمال عنده هو وقوع فاعل الكفر المجمع عليه في الكفر من عدمه بل الاحتمال هو في مراده بهذا الوقوع - المجزوم به عنده - من عدمه.(1/20)
فعاد إلى اشتراط معنى في الباطن لتكفير فاعله في الظاهر. وذلك كله لإدخال سن القوانين الوضعية في الأفعال المحتملة للكفر وعدمه فلا يكفر بها إلا بعد الإستفصال عن قصد فاعلها ، فأراد بعض أهل السنة التحقق من مراده بهذه القاعدة الصحيحة في الجملة والتي تحتمل هي نفسها إرادة معنى صحيح فيها وآخر باطل فاستفصل منه عن مراده بالمحتمل في هذه القاعدة فعاد إلى تفسيره بما حاصله اشتراط مناط قلبي للتكفير بعمل الظاهر فسأله عن أمر أجمع أهل العلم عن كفر فاعله دون استفصال عن قصده وهو ( السجود للشمس والأصنام ) طمعاً في شيء من الدنيا مع بغضه في الباطن لهذا الفعل واعتقاده بطلان عبادته فأجاب - طرداً لأصله - بأن من فعل هذا فإنه يستفصل عن قصده من هذا السجود لغير الله فإن كان فعله على وجه التقرب والعبادة القلبية كفر وإن فعله طمعاً في الدنيا مع إيمان قلبه فإنه مسلم ، ولما رأى تشنيع المسلمين وإنكارهم لقوله عاد للتفريق بين السجود ( لها ) والسجود ( إليها ) الأول كفر والثاني محتمل، وهو إن سئل عن قصده بالسجود ( لها ) فسره بالتقرب القلبي و( إليها ) بعدمه، إذا لا يختلف المسلمون أن من قصد القبلة فوقع الصنم في طريقه ليس كمن يدور مع الصنم حيث دار ويزعم السجود إليه ويأخذ على هذا مالاً !
بل حتى هدهد سليمان يعرف أن السجود للشمس والسجود إليها والسجود تحتها شرك بالله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض.(1/21)
وسبب اضطراب الأستاذ في هذه المسألة هو أنه أقر بالتلازم بين الظاهر والباطن ظاهراً وإن لم يفهم حقيقة هذا التلازم فهماً يهديه إلى الحق في هذه المسألة التي اجمع على التكفير بها أهل السنة في أحكام الدنيا والآخرة بل والأشاعرة والجهمية في أحكام الدنيا مع اختلاف موجب التكفير عند أهل السنة عن غيرهم من الفرق في هذه المسألة وهي السجود للأوثان طمعاً في الدنيا ، وذلك أن من استقر الإيمان في قلبه فإنه يمتنع عليه التظاهر بشيء من أفعال الكفر طوعاً واختياراً من غير إكراه ولا موجب إلا استحباب الحياة الدنيا على الآخرة خاصة وأن السجود للأوثان هو سجود للطواغيت المعبودة من دون الله وهو بمجرده مناف منافاة تامة للكفر بالطاغوت الذي لا يصح الإيمان إلا به كما قال تعالى: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ).
فضلا عن مناط صرفه لعبادة السجود إلى غير الله ،بل ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله في رسالته الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك أدلة كثيرة زادت على عشرين دليلاً على أن من أظهر الموافقة للمشركين على دينهم خوفاً منهم أو مداهنة لهم فإنه كافر مثلهم وإن كان يكره دينهم ويبغضه، فبقي الأستاذ على الإقرار بالتلازم بين الظاهر والباطن مع التناقض في الحكم بإسلام من اظهر فعلاً لا يجتمع أبداً مع إيمان الباطن تارة والحكم بكفر من فعل نظير هذا الفعل ومثيله تارة أخرى ، وهذا كله لأنه يرى أن التلازم بين الظاهر والباطن هو نتيجة مقدمة نظرية لا يمكن تطبيقها في أحكام الدنيا وهي مسألة ( جنس العمل ) كما سبق نقل هذا عنه من كلامه.(1/22)
بل وزاد على هذا كله فزعم أن الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الرضا بحكمه، ووجود الحرج في نفس المحكوم عليه بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا ليس بكفر يخرج صاحبه من الملة كما في كتابه قواعد ومسائل في توحيد الإلهية في الصفحة العاشرة بعد المائة من هذا الكتاب المليء بالاعتراض على الكليات بالجزئيات وضرب القطعيات بالظنيات ونقص الإجماعات بالساقط من أوجه الاحتمالات.
فقال: "الأنصاري البدري - الذي خاصم الزبير في شراج الحرة - لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه حرجاً ولم يكفر بذلك ويؤكد عدم كفره أن الرجل بدري .... والبدريون معصومون من الكفر الأكبر نص عليه ابن تيمية" !
وقال في الرجل الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم: "هذا الرجل اعترض على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرض به ويسلّم ووجد في نفسه حرجاً ولم يكفره الرسول صلى الله عليه وسلم" !
فليت شعري هل يبقى للعبد إيمان وإسلام إذا اعترض على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرض به ولم يسلم ووجد في نفسه حرجاً وقد أقسم الله تعالى بنفسه بانتفاء إيمان فاعل هذا بقوله ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) وهل يفهم هذا الظالم لنفسه الفرق بين العصمة من الموت على الكفر والعصمة من الوقوع في الكفر ؟
وهل يلتزم أصله هذا فيمن اعترض على حكم الله تعالى أيضاً أم يفرق بين حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ؟
وهل الاعتراض على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخصومات العلمية داخل في حكم الاعتراض عليه في الخصومات العملية ؟
وهل الاعتراض عليه في دعوى النبوة هو كحكم الاعتراض عليه في دعوى العدل، وهل سيزيد تقسيماً جديداً عند كل اعتراض على أصل فاسد ؟(1/23)
وهل هذا كله إلا من أثر التزام الأصول الفاسدة وطردها قديماً وحديثاً ؟
وهل يعرف الأستاذ معنى النص حين قال :" نص عليه ابن تيمية " ؟ وأن النص هو اللفظ الدال في محل النطق إذا أفاد معنى لا يحتمل غيره كما قال في المراقي:
نص إذا أفاد ما لا يحتمل غيرا وظاهر إن الغير احتمل
ولو أنه فرق في مناقشة مخالفيه بين مقام تأصيل المسألة ومقام تنزيلها على الواقع، فوافقهم في الأول دون الثاني أو خالفهم في المقامين والتزم تقليد من تابعه في هذه المخالفة دون تنظير لزلة لم يلتزم من وقع فيها كل هذه اللوازم الباطلة في الدين لكان هذا خيراً له وللمسلمين وأقوم.
لكنه كان على التزام هذه اللوازم كلها أجرأ فاستحق من اسم الإحداث في الدين ما لم يستحقه من زل في أصل المسألة وسيخرج من ضئضئه العلمي - جرياً على السنن الكونية - من يكون أجرأ منه على العودة إلى أصول المرجئة الأوائل ويجعله جسراً يسير عليه فوق أهل السنة إلى البدعة ما لم يتداركنا الله وإياه برحمته.
والحاصل هو أن الحكم بغير ما أنزل الله يطلق ويُراد به حالان:
الحال الأولى: الحكم بغير ما أنزل الله مع التزام حكم الله تعالى وإعلان القبول له سواء قل حكمه بغير ما أنزل الله على هذا الوجه أو كثر.
فهذه الصورة هي التي روُي فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "كفر دون كفر".
ومن كانت هذه حاله فإنه لا يكفر إلا باستحلال ما فعله من الحكم بغير ما أنزل الله أو اعتقاد أنه أفضل من حكم الله تعالى أو مساوٍ له،ومن غير هذا الاعتقاد مع التزامه لحكم الله تعالى فإنه لا يكفر ما لم ينقض هذا الالتزام بقول أو عمل.(1/24)
الحال الثانية: الحكم بغير ما أنزل الله تعالى بسن القوانين الوضعية المبطلة للأحكام القطعية الشرعية في مسألة واحدة أو في تبديل كامل سواء أضاف هذا إلى ربه أو إلى نفسه أو إلى غيره فهذا كافر كفراً أكبر سواء أقر بحكم الله تعالى بلسانه أو أنكره وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم لأنه تارك لالتزام الحكم بما أنزل الله بفعله هذا وهو أشد من المصر على ترك الصلاة حتى يقتل، وهذه الحالة الثانية هي محل كلام الإمام ابن كثير رحمه الله في نقله الإجماع على كفر الحاكمين بالياسق والمتحاكمين إليه اختياراً وهي محل كلام العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته " تحكيم القوانين" والعلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان.
ومن جعل أثر ابن عباس رضي الله عنهما محتملاً لدخول هذه الحالة فيه فقد زل في هذه المسألة زلة لا يتابع عليها كما قرره أهل العلم جميعاً في زلة العالم.
وأظهر الأمثلة المقربة للفرق بين الصورتين هي تمثيل ذلك بقضاة وضع بين أيديهم كتاب الله تعالى وكتاب آخر فيه الحكم بغير ما أنزل الله كالقانون الفرنسي أو الياسق المشتمل على الأديان المنسوخة وشيء من أحكام الإسلام ، ثم قيل لكل منهم ضع يدك على الكتاب الذي ستحكم به بين الناس فوضع بعض القضاة يده على كتاب الله تعالى ووضع بعضهم يده على القانون الوضعي .(1/25)
فالأولون التزموا حكم الله تعالى وقبلوه وإن حكموا بعد ذلك في أفراد المسائل بغير حكم الله تعالى لهوى أو طمع في شيء من الدنيا وهي صورة الحالة الأولى التي ينطبق عليها حكم أثر ابن عباس رضي الله عنهما ويتحقق فيها، وإن جاء صاحب هذه الحال بعد ذلك بما ينقض التزامه بحكم الله تعالى كأن يعلن للناس بقوله أو بقانون يسنه ويسير عليه أنه لن يحكم بحكم الله تعالى في مسألة من الشريعة أو في مسائل مع إقراره بكونها من أحكام الله تعالى، فهذا هو تارك الفرائض الذي جاء فيه وفي أمثاله كلام السلف وهو تارك الالتزام لحكم الله تعالى لأن سن القانون هو إلغاء لعقد القلب على القيام بهذه الفريضة من فرائض الله وإعلان لعدم قبول حكم الله تعالى فيها وهو بمنزلة من يقول: قبلت أحكام الله كلها إلا قطع يد السارق فإني لا أقبله أو جلد الشارب أرفضه أو حال إبليس الذي أطاع الله تعالى إلا في سجدة واحدة لآدم تركها وقال ( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ).
وأما الآخرون الذين أعلنوا قبولهم لحكم الطاغوت وأعرضوا عن حكم الله تعالى على هذه الصفة فإنهم تاركون لالتزام حكم الله تعالى وهم مرتدون عن الإسلام بفعلهم هذا وإن حكموا بحكم الله تعالى في كل المسائل ما دام الحاكم منهم بحكم الله تعالى قد استفاد هذا الحكم ونفذ أمره فيه بقوة القانون الوضعي الذي إلتزمه مكان شرع الله تعالى وهو حال التتار الذين حكموا بالياسق وحال أصحاب القوانين الوضعية العصرية الذين يجادل عنهم الأستاذ كما جادل أعداء الدعوة عن المشركين العاكفين على القبور والمشاهد واحتجوا بمثل حجج الأستاذ أو أحسن منها في تقسيم دعاء الأموات إلى أقسام هي في تماسكها مع ظهور بطلانها أمتن من تقسيماته التي يمهد بها الطريق لكل مبطل باسم السنة والطريقة.(1/26)
وإن كان الكلام في هذا الموضع إنما هو على أصل المسألة دون تحقيق لشيء من مناطاتها في أحد بعينه، لكون تحقيق المناطات الخفية وظيفة من وظائف العلماء الراسخين.
وأما المناطات الظاهرة في أصل المسألة وفي تلبس الفاعل بها وانتفاء عوارض الأهلية عنه فإنها غير مقصودة في هذا السياق ولا يجادل عن أهلها إلا جاهل بالشريعة والخلط بين المناطات الظاهرة والخفية في الأسماء والأحكام هو أحد موجبات وجود التنازع وترك التوازن بين توقير العلماء وحفظ هيبتهم من جهة وبين تقديسهم وانتزاع شعبة من شعب التشيع في التعامل معهم من جهة أخرى .
وما يقال في هذه المسألة فإنه يقال أيضاً في حكم إعانة الكفار على المسلمين حال الحرب فإنه راجع إلى منافاة ذلك منافاة تامة لانقياد القلب لله ومحبته له ولدينه فإن من كان منقاداً لله تعالى فإنه يمتنع عليه أن يكون عوناً لأهل الكفر في كسر شوكة أهل الإسلام وإعلاء أحكام الكفر في بلادهم كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 8/350 ) في كلامه عن أهل الغناء في توحيد الربوبية: "فهم من غلب كانوا معه لأن من غلب كان القدر معه والمقدور عندهم هو محبوب الحق فإذا غلب الكفار كانوا معهم وإذا غلب المسلمون كانوا معهم وإذا كان الرسول منصوراً كانوا معه وإذا غُلب أصحابه كانوا مع الكفار الذين غلبوهم. وهؤلاء الذين يصلون إلى هذا الحد غالبهم لا يعرف وعيد الآخرة فإن من أقر بوعيد الآخرة وأنه للكفار لم يمكنه أن يكون معاوناً للكفار موالياً على ما يوجب وعيد الآخرة".
فإعانة الكفار حال الحرب راجعة إلى ما يتنافى مع انقياد القلب لله ومحبته له ولطهور دينه من أفعال لا تقدر من أحد هذه حاله.(1/27)
وليس هذا محل بيان وجه الغلط في الاستدلال بحديث حاطب رضي الله عنه وما فرع عليه من حكم الجاسوس مما هو راجع إلى تحقيق مناط الإعانة لا إلى تفريع حكمها عليه، وإنما المقصود من هذا الكلام هو رد فروع المسائل إلى أصولها وفك ارتباط المسائل في أذهان المختلفين مما هو ناتج عن تخريج الفروع على الفروع وترك الكليات للجزئيات كما قال الشاطبي في الموافقات ( 3/235 ) في الفصل الرابع من عوارض الأدلة: "وهذا الموضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي فثبت في حقه المعارضة ورمت به أيدي الإشكالات في مهاوٍ بعيدة وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين لأنه أتباع للمتشابهات وتشكك في القواطع المحكمات ولا توفيق إلا بالله".
فصل
لما كان الأستاذ قد كتب رسالة كاملة بناها على نقل واحد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سماها "ابن تيمية وجماعة التبليغ" وبالغ فيها ما شاء الله له أن يبالغ في حال هذه الجماعة ورماهم جميعاً لا بالشرك وحده بل بالدعوة إلى الشرك بالله تعالى وبالخبث والمكر الذي تصور وقوعه منهم مع العلماء لتغييبهم عن واقعهم كما ذكر الأستاذ في هذه الرسالة ولم يقبل تصور المتسرعين عنده في وصف الحكام بالخبث والمكر مع العلماء وتغييبهم عن واقعهم من غير فرق ظاهر بين تغييب الأستاذ الذي زعمه وتغييب مخالفيه الذي زعموه.(1/28)
ولست مدافعاً هنا عن جماعة التبليغ ولا عن غيرها من الجماعات التي فيها خير وشر وسنة وبدعة ولن أشرح أسباب خطأ فهم الأستاذ الذي فهمه من فتوى شيخ الإسلام التي نقل فيها عنه أنه يدعو إلى ترك الدخول مع كل جماعة فيها بدعة ولو إلى غير شيء يؤون إليه من السنة الخالصة بل ولو إلى الفسق والفجور الظاهر كحال أصحاب المسكرات والمنكرات الذين هم عند الأستاذ خير من الجماعة المذكورة من كل وجه.
ولكني سأنقل في هذا الفصل عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ثلاث نقول في التعامل مع مثل هذه الصورة الموجودة في الدعوة الجماعية إلى الله تعالى وأنه لم يدعُ الناس إلى إخراج من تاب إلى الله على يدي الشيخ الجاهل من بين يديه حال دعوته لهم ولا حكم عليهم هم بشيء مما حكمه على هذا الواقع في بدعة ، بل فصل في حال هؤلاء المهتدين بهذه الطريقة تفصيل العلماء الراسخين في أبواب الدين دون غيرهم من النازعين في المثالية غير الشرعية إلى مذهب الخوارج الذين فاصلوا أهل الطاعة المشوبة بمعصية مفاصلة تامة كما فاصل هؤلاء أهل السنة المشوبة ببدعته مفاصلة مشابهة في صورتها الظاهرة لما يجب من المفاصلة التامة مع أهل الكفر والمروق من الملة بل ويقنع الواحد منهم بتقاطع مصالحه ضد خصومه مع المذاهب الهدامة كالقومية والعلمانية بما لا يقنع بمثله أو بأقل منه مع إخوانه في الإسلام الواقعين في بدعة أو ما دونها من شبهة بدعة ومعصية بل ومن السلفيين المخالفين لهم في تحقيق مناط أو أكثر من مناطات الأحكام الشرعية ولن أمتشق أسماً من كنانة الهوى واحتكار الفهم فأنعتها بـ ( الإمام ابن تيمية وفلان ) أو ( الإمام ابن تيمية والجماعات الإسلامية ).
ولكني أظنها نافعة في هذا الباب لمن شاء الله له الهداية من عباده.
النقل الأول:(1/29)
قال رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى ( 10/364 ): "وتجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة قال هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب كتب التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وكتب الحديث والآثار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه حتى قال في رسالته إلى خليفة وقفه " المتوكل " لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود.
وكذلك في ( الزهد ) و ( الرقاق ) و ( الأحوال ) فإنه اعتمد في كتاب الزهد على المأثور عن الأنبياء صلوات الله عليهم من آدم إلى محمد ثم على طريق الصحابة والتابعيين ، ولم يذكر من بعدهم ، وكذلك وصفه لآخر في العلم أن يكتب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة ثم عن التابعين - وفي رواية أخرى - ثم أنت في التابعين مخيرّ.
وله كلام في ( الكلام الكلامي ) و ( الرأي الفقهي ) وفي ( الكتب الصوفية ) و ( السماع الصوفي ) ليس هذا موضعه يحتاج تحريره إلى تفصيل وتبين كيفية استعماله في حال دون حال.
فإنه يبني على الأصل الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات أما مغفورة أو غير مغفورة وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية إذا خرج غيره عن ذلك لما رآه في طرق الناس من الظلمة" أ.هـ.(1/30)
فإن كان كلام الإمام أحمد رحمه الله في الصوفية والمتكلمين ومتعصبة المذاهب يحتاج إلى تحرير وتفصيل قبل نقله خشية من خروج بعض السالكين من طريق فيها نوع من المحدث والظلمة إلى طريق كلها ظلمة ، فكيف بمن يأخذ أقوال من كان دون الإمام أحمد رحمه الله من السلف ويلصقها مباشرة بمن شاء من عباد الله دون فقه للدعوة إلى السنة ولا مراعاة لحال الناس في بيئتهم الأصيلة أولا فهم لكلام السلف بفهم السلف بل بفهم الخلف الذين شابهوا أهل البدع في فهم الكتاب والسنة بفهمهم دون فهم الصحابة وتأمل في فقه الإمام رحمه الله تعالى عند قوله: "وله كلام في الكلام والرأي الفقهي والكتب الصوفية والسماع الصوفي يحتاج تحريره إلى تفصيل وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال".
فإنه مخالف لمن ينقلون عن السلف قولهم: "من خفيت علينا بدعته لم تخف علينا إلفته" وقولهم: "من طعن في فلان فاتهمه على الإسلام" وقولهم: "من فعل كذا فهو على غير السنة والسبيل" دون تفصيل وتبين كيفية استعماله في حال دون حال ودون نظر في هدي السلف وفهمهم هم لمثل هذه الجمل التي أطلقوها وفعلوا في مقامات أخرى ما ينافي عمومها الكلي التام.
النقل الثاني:
قال رحمه الله في كتابه الاستقامة ص 456 ط . دار الفضيلة:(1/31)
"لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل إما يفعلوهما. جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه بل يكون النهي حينئذ من باب العبد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله وسلم وزوال فعل الحسنات .وإن كان المنكر أغلب نهي عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعنية الواقعة. وأما جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا وفي الفاعل الواح والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. إذا اشتبه الأمر استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية وإذا تركها كان عاصياً فترك الأمر الواجب معصية وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله" أ.هـ.
فانظر كيف فرق رحمه الله بين الكلام عن نوع المنكر والكلام عن فاعله وسائر كلامه ظاهر لا يحتاج إلى تعليق وإنما هي إشارة.
النقل الثالث:(1/32)
قال رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ( 2/616 ): "اعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع ...وشر بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين وهذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة فعليك هنا بأدبين أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالنسبة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يعطيك وأعرف المعروف وأنكر المنكر الثاني: أن تدعوا الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذا النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلى مثله أو إلى خير منه فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروهاَ والتاركون أيضاً للسنن مذمومون فإن منها ما يكون واجباً على الإطلاق ومنها ما يكون واجباً على التقيد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية وما يجب على من كان إماماَ أو قاضيا أو مفتياً أو والياً من الحقوق وما يجب على طالبي العلم أو نوافل العبادة من الحقوق" أ.هـ
والله الموفق(1/33)