وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث.
السابعة: أن الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به. وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/493)
باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 1.
__________
قوله: "باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الآية".
قال العماد ابن كثير: وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} 2، وبين قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا
__________
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة البقرة آية: 224.(1/493)
أَيْمَانَكُمْ} 1 أي لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: " إني والله "-إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية -: وكفرت عن يميني " 2. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا، وهي {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني الحلف أي حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حلف في الإسلام، وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " 3. وكذا رواه مسلم. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه; فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 4 تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
قوله: "عن بريدة" هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم.
قوله: "قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم.
قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.
اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال-: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف
قوله: "ومن معه من المسلمين خيرا" أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.
قوله: "اغزوا باسم الله" هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في "بسم الله" هنا للاستعانة والتوكل على الله.
قوله: " قاتلوا من كفر بالله " هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم. وقد
__________
1 سورة المائدة آية: 89.
2 البخاري: كفارات الأيمان (6721) , ومسلم: الأيمان (1649) , وابن ماجه: الكفارات (2107) , وأحمد (4/401) .
3 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) .
4 سورة النحل آية: 91.(1/494)
خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلا به: " ولا تقتلوا وليدا ". وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالبا. وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا.
قلت: وكذلك الذراري والأولاد.
قوله: " ولا تغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ". الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة.
قوله: " وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال -أو خصال- ". الرواية بالشك وهو من بعض الرواة. ومعنى الخلال والخصال واحد.
قوله: " فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ". قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب "أيتهن" على أن يعمل فيها "أجابوك" لا على إسقاط حرف الجر. و "ما" زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم. كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف جر.
قلت: فيكون في ناصب "أيتهن" وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض.
عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم. "ثم ادعهم" بزيادة "ثم" والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم، كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال.
وقوله: "ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين" يعني المدينة. وكان في أول(1/495)
الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم 1.
قوله: "فإن أبوا أن يتحولوا" يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعطى من الخمس ولا من الفيء شيئا. وقد أخذ الشافعي -رحمه الله- بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده; ومصرف كل مال في أهله. وسوّى مالك -رحمه الله- وأبو حنيفة -رحمه الله- بين المالين، وجوّزا صرفهما للضعيف.
قوله: " فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ". فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر: عربيا كان أو غيره; كتابيا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما. وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس. قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم. وقال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " 2.
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون
__________
1 في قرة العيون: وكذلك إذا ظهرت المعاصي في بلدة. نص عليه الفقهاء في كتبهم اهـ. يعني إذا غلبت المعاصي وأهلها ولم يقدر ولا يجد سبيلا للإنكار عليهم. أما إذا وجد السبيل لإقامة الحجة، فإن بقاءه يكون واجبا لتبليغ الدين خصوصا إذا كان يدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك والبدع، ويجد من يسمع له ويصغي إليه وينتفع بدعوته. والله الموفق.
2 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجه: الطلاق (2039) . رواه مالك في الموطأ (1/ 278) في الزكاة: باب جزية أهل الكتاب والمجوس. وله شواهد تقويه، وراجع جامع الأصول (2/ 660 , 661) بتحقيق الأرناؤوط.(1/496)
درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما. والفقير اثنا عشر درهما. وهو قول أحمد بن حنبل -رحمه الله-.
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله:
وقاتل يهودا والنصارى وعصبةالمج ... وس فإن هم سلموا الجزية أصدد
على الأدون اثني عشر درهما افرضن ... وأربعة من بعد عشرين زيد
لأوسطهم حالا ومن كان موسرا ... ثمانية مع أربعين لتنقد
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فان وأعمى ومقعد
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم..
قوله: "وإذا حاصرت أهل حصن" الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد. وهو المعروف من مذهب مالك وغيره. ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكما معينا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطئ.
لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ "1. رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.
الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله ".
الرابعة: قوله: " قاتلوا من كفر بالله ".
الخامسة: قوله: " استعن بالله وقاتلهم ".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
قوله: " " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ". الحديث". الذمة العهد، وتخفر تنقض يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته أجرته، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد، كجملة الأعراب. فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم.
قوله: "وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال2 ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع
__________
1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/358) , والدارمي: السير (2439) .
2 ليس في نسخ المتن التي بأيدينا قول نافع هذا فليحرر.(1/497)
بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يُدْعَوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم. وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا.
أمكن أن يكون ذلك سببا مميلا لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتوا وبغضا. والله أعلم.(1/498)
باب: " ما جاء في الإقسام على الله"
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " 1. رواه مسلم.
__________
قوله: "باب ما جاء في الإقسام على الله".
ذكر المصنف فيه حديث "جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ". رواه مسلم".
__________
1 440- مسلم: كتاب البر والصلة (2621) (137) : باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى.(1/498)
قوله: "يتألى" أي يحلف. والألية بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة- وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار- قال: " دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه; قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال: فيقول: خلّني وربي، قال: فوجده يوما على ذنب استعظمه فقال: اقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدا. قال: فبعث الله إليهما ملكا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده; فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ". ورواه أبو داود في سننه، وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: " كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت عليّ رقيبا؟ قال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يدي قادرا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار ".
قوله: " وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد" يشير إلى قوله في هذا الحديث: "أحدهما مجتهد في العبادة". وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ: " قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك
__________
1 حسن: البغوي في شرح السنة (4187) من طريق عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة, وحسن إسناده الأرناؤوط في تخريجه لشرح السنة هناك. وأبو داود كتاب الأدب (4901) : باب في النهي عن البغي وأخرجه أيضا أحمد (2/ 323 , 363) .(1/499)
أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم " 1 2. والله أعلم. فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شِراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة" إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
__________
1 صحيح: رواه أحمد (5/ 231 , 237) . والترمذي: كتاب الإيمان (2616) : باب ما جاء في حرمة الصلاة. وابن ماجة: كتاب الفتن (3973) : باب كف اللسان في الفتنة. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5012) .
2 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي قرة العيون: وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ".(1/500)
باب: لا يستشفع بالله على خلقه
عن جُبير بن مطعم رضي الله عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نُهِكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! فما زال
__________
قوله: "باب لا يستشفع بالله على خلقه".
وذكر الحديت1 وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف -رحمه الله- ولفظه:
"عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على
__________
1 يعني أن المصنف ساق حديث جبير بن مطعم ناسبا له إلى أبي داود ولكنه اختصره.(1/501)
الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له، ودلت عليه من إثبات صفات الله –تعالى- التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: " نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرا عُرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مفتاح دار السعادة - بعد كلام سبق فيما يُعرّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك:
" والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء; فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين; وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، وإغناء فقير; وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيئته خاشعا لعظمته عانيا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه! وأعظم(1/502)
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.
ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب". اهـ كلامه رحمه الله.
وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصا به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: " لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك " 1 2. وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، وأما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه; كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 3. فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة -رضي الله عنهم-، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب، كما وقع لعمر رضي الله عنه 5 لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يستسقي؛ لأنه حي حاضر يدعو ربه6. فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا. فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك. وبالله التوفيق.
__________
1 ضعيف: جزء من حديث ابن عمر أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له فقال ... الحديث. أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة (1498) : باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3562) : باب رقم (121) ، وابن ماجة: كتاب المناسك (2894) : باب فضل دعاء الحاج وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (2248) ، وضعيف الجامع (6292) .
2 رواه أبو داود وأحمد في المسند (ج 1 ص 29 وج 2 ص 59) عن عبد الله بن عمر "أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة, فأذن له. فقال: يا أخي أشركنا في صالح دعائك; ولا تنسنا". قال عبد الرزاق في حديثه: فقال عمر: "ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس" لقوله: يا أخي.
3 سورة فاطر آية: 13-14.
4 سورة الأحقاف آية: 6.
5 صحيح البخاري: كتاب الاستسقاء (1010) : باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. من حديث أنس رضي الله عنه.
6 رواه البخاري. وقد حصل ذلك في عام الرمادة سنة ثمان عشرة, ودام القحط تسعة أشهر. قال الحافظ في الفتح (ج 2 ص 339) : وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقعت فيه. فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب, ولم يكشف إلا بتوبة; وقد توجه القوم إليك بي لمكاني من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة, فاسقنا الغيث". فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.(1/503)
باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك"
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه1 قال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله -تبارك وتعالى -. قلنا: وأفضلنا
__________
"قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك".
حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل
__________
1 قال في أسد الغابة: عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وفدان بن الحريش.. العامري ثم الكعبي ثم من بني الحريش، وهو بطن من بني عامر بن صعصعة، له صحبة. سكن البصرة- ثم ساق بسنده إلى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر; فقالوا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت والدنا، وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا, وأنت الجفنة الغراء, وأنت وأنت. فقال: قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان". وقولهم: "أنت الجفنة الغراء". كانت العرب تدعو السيد المطعام (جفنة) ؛ لأنه يضعها ويطعم الناس فيها, فسمي باسمها. و (الغراء) البيضاء أي أنها مملوءة بالشحم والدهن. قاله أبو السعادات في النهاية.(1/504)
معها التوحيد أو ينقص1، وكذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 2وتقدم. وقوله: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل " 3ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانا: " ويلك قطعت عنق صاحبك " 4 الحديث. أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه: " أن رجلا أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قطعت عنق صاحبك - ثلاثا " 5 وقال: " إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " 6 أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود.
وفي هذا الحديث: "نهى عن أن يقولوا: أنت سيدنا. وقال: السيد الله -تبارك وتعالى-". ونهاهم أن يقولوا: "وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا" وقال: " لا يستجرينكم الشيطان ".
وكذلك قوله في حديث أنس: " أن ناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا " إلخ. كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة
وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله7، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ". رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية:: ما ينبغي أن يقول مَنْ قيل له: أنت سيدنا.
المادح للممدوح بمدحه- ولو بما هو فيه- من عمل الشيطان؛ لما تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد؛ فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثما، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح
__________
1 في قرة العيون: وقد اشتمل هذا الكتاب- على اختصاره- على أكثر ذلك، والنهي عما ينافي التوحيد أو يضعفه، يعرف ذلك من تدبره وعرف ما تضمنه بابا بابا.
2 تقدم تخريجه برقم (160) .
3 447- تقدم تخريجه برقم (135) .
4 البخاري: الشهادات (2662) , ومسلم: الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود: الأدب (4805) , وابن ماجه: الأدب (3744) , وأحمد (5/45 ,5/47) .
5 البخاري: الشهادات (2662) والأدب (6061) , ومسلم: الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود: الأدب (4805) , وأحمد (5/41) .
6 مسلم: كتاب الزهد (2002) (69) : باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط والترمذي: كتاب الزهد (2393) : باب ما جاء في كراهية المدحة والمداحين. وابن ماجة: كتاب الأدب (3742) : باب المدح. والحديث أخرجه أبو داود أيضا: كتاب الأدب (4804) : باب في كراهية التمادح.
7رواه مسلم من حديث أبي سعد وأبي هريرة, ورواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان.(1/505)
رأسا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد. وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئا منهما عذبته " 1 2. وفي الحديث:
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2620) , وأبو داود: اللباس (4090) , وأحمد (2/442) .
2 رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (*) بإسناد رجاله رجال الصحيح. (*) قوله: (رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص) إلخ. أقول: وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ".(1/506)
الثالثة: قوله: " لا يستجرينكم الشيطان "، مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ".
" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " 1 2. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح، صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله. " {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3، ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات!
وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: " اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر. فمنعه قوم، ونقل عن مالك. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: "يا سيدنا" قال: " السيد الله تبارك وتعالى " 4. وجوّزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم " 5 6. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كِندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر؛ فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق". انتهى.
قلت: فقد صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في معنى قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} 7: "أي إلها وسيدا". وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 8: " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد ". وقال أبو وائل: " هو السيد الذي انتهى سؤدده ". وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم ". فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم.
__________
1 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/412 ,1/416) .
2 في قرة العيون: فأعلى مراتب العبد هاتان الصفتان: العبودية الخاصة والرسالة. وللنبي صلى الله عليه وسلم أكملهما. وقد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأثنى عليه بأحسن ثناء وأبلغه, وشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، فلا يذكر في الأذان والتشهد والخطب إلا ذكر معه. صلوات الله وسلامه عليه.
3 سورة البقرة آية: 59.
4 تقدم تخريجه برقم (450) .
5 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) .
6 قال هذا حين رأى سعد بن معاذ آتيا على حمار قد أسندوه؛ لأنه كان مريضا من جرح أصابه من المشركين في الخندق. وقد دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة بعد أن حاصرهم، وقبلوا أن ينزلوا على حكم سعد, فكان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مريض ولا يستطيع أن ينزل عن الحمار وحده، فأمرهم أن يقوموا لينزلوه، ولأنه جاء لهذه القضية, فأراد أن يجعل له من التعظيم ما يناسب هذه الواقعة. وكان سعد بن معاذ سيد الأوس ورئيسهم -رضي الله عنهم-.
7 سورة الأنعام آية: 164.
8 سورة الإخلاص آية: 2.(1/507)
باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع،
__________
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ
__________
1 سورة الزمر آية: 67.(1/507)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} " أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السُّدِّي: " ما عظموه حق عظمته ". وقال محمد بن كعب: " لو قدروه حق قدره ما كذبوه ". وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره ".
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية1، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف ... وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف -رحمه الله- في هذا الباب قال: ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه. والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران، وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.
__________
1 البخاري: كتاب التفسير (4811) : باب وما قدروا الله حق قدره كتاب التوحيد: (7414 , 7415) : باب قول الله تعالى: لما خلقت بيدي (7451) باب قول الله تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا (7513) باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم: كتاب صفات المنافقين (2786) (69) : كتاب صفة القيامة والجنة والنار. وأحمد (1/ 457) . والترمذي: كتاب التفسير (3238) : باب ومن سورة الزمر.(1/508)
والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا المالك أنا الله " 2.
وفي رواية للبخاري: " يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع " 3. أخرجاه.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أبَلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. قال: وأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 4 الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة5 عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: " مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه - وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 6. وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به. وقال: " حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " 7. تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4811) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/429 ,1/457) .
2 البخاري: التوحيد (7414 ,7415) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/378) .
3 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/457) .
4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/378) .
5 اسمه يحيى بن المهلب البجلي الكوفي. قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: صدوق من السابعة روى له الترمذي والنسائي أيضا.
6 الترمذي: تفسير القرآن (3240) , وأحمد (1/251) .
7 البخاري: الرقاق (6519) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه: المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي: الرقاق (2799) .(1/509)
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " 1.
وروي عن ابن عباس قال: " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم ".
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك "2 تفرد به أيضا من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3 ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به " 4 اهـ.
قوله: "ولمسلم عن ابن عمر - الحديث" كذا في رواية مسلم. قال الحميدي وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه " 5. وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم.
قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس ".
قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض " 6.
وعن ابن مسعود قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله 7.
مخلوقاته. وقد تعرف -سبحانه وتعالى- إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته8، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.
__________
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) .
2 البخاري: التوحيد (7415) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378) .
3 سورة الزمر آية: 67.
4 صحيح: أحمد (2/ 72) وابن خزيمة في التوحيد ص (71) وابن أبي عاصم في السنة (546) وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (546) .
5 أحمد (1/195) .
6 صحيح: رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (رقم 58- الكويت) ، والذهبي في العلو (150- مختصر الألباني) ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص (510) من حديث أبي ذر. وصححه الألباني في الصحيحة (109) ، ومختصر العلو (ص 130) .
7 حسن: رواه ابن خزيمة في التوحيد ص (105 , 106 , 376 , 377) . ورواه الذهبي في العلو (64) ، والبيهقي في الأسماء (ص 401) وإسناده حسن, وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص (100) الذهبي في العلو أيضا. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 86) : " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ". اهـ.
8 في قرة العيون: وأن العبادة لا تصلح إلا له سبحانه وبحمده، ولا يصلح منها شيء لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا لمن دونهما.(1/510)
وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقا بلّغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة فبلّغ
ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-. قال: وله طرق.
البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة -رضي الله عنهم- عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1. وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-: " وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه، مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 3. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4. وقوله تعالى:
__________
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 سورة فاطر آية: 10.
3 سورة آل عمران آية: 55.
4 سورة النساء آية: 158.(1/511)
{ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 1 وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 2. وقوله تلى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 3. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 4. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5. وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 6 الآية. فذكر التوحيدين في هذه الآية. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 7. وقوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 8. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 9. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 10. وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 11. فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} 12.
__________
1 سورة المعارج آية: 3-4.
2 سورة السجدة آية: 5.
3 سورة النحل آية: 50.
4 سورة البقرة آية: 29.
5 سورة الأعراف آية: 54.
6 سورة يونس آية: 3.
7 سورة الرعد آية: 2.
8 سورة طه آية: 4-5.
9 سورة الفرقان آية: 58-59.
10 سورة السجدة آية: 4-5.
11 سورة الحديد آية: 4.
12 سورة الملك آية: 16-17.(1/512)
وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 2. وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 3". انتهى كلامه -رحمه الله-.
قلت: وقد ذكر الأئمة -رحمهم الله تعالى- فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4. قالت: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر ". رواه ابن المنذر
واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح. قال: وثبت عن سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى- أنه قال: لما سئل ربيعة ابن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ; وعلينا التصديق ". وقال ابن وهب: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: " يا أبا عبد الله "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى؟ فأطرق مالك -رحمه الله- وأخذته الرّحضاء وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ و"كيف" عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه". رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب. ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا، ولفظه: قال: "" الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد "استوى" علا على العرش. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 اي ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي علا وارتفع.
__________
1 سورة فصلت آية: 42.
2 سورة الزمر آية: 1.
3 سورة غافر آية: 36-37.
4 سورة طه آية: 5.
5 سورة طه آية: 5.(1/513)
وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم. فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية ". قال الدارمي: حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك: قيل له: " كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه ".
وقد تقدم قول الأوزاعي: " كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله -تعالى ذكره- بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة ".
وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. ثم ساق بسنده عن مالك قوله: " الله في السماء وعلمه في كل مكان ". ثم قال في هذا الكتاب: " أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء". وهذا لفظه في كتابه.
وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.
وقال الحافظ الذهبي: وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه: هو
__________
1 سورة الحديد آية: 4.(1/514)
الجعد بن درهم. وكذلك أنكر جميع الصفات. وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة، ومالك والليث بن سعد والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى. فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة: ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري- ببغداد- حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول: " كنا- والتابعون متوافرون- نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ". أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات.
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: " لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل،
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكِثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم " 1. أخرجه أبو داود وغيره.
ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 ". اهـ من فتح الباري.
قوله: "عن العباس بن عبد المطلب" ساقه المصنف -رحمه الله- مختصرا، والذي في سنن أبي داود: عن العباس بن عبد المطلب قال: " كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله
__________
1 ضعيف: أبو داود: كتاب السنة (4723) , (4724) , (4725) : باب في الجهمية والترمذي: كتاب التفسير (3320) : باب ومن سورة الحاقة. وابن ماجة في المقدمة (193) : باب فيما أنكرت الجهمية. وأحمد (1/ 206 , 207) وغيرهم. وضعفه الذهبي في العلو ص (49 , 50) . وضعفه الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (577) .
2 سورة الشورى آية: 11.(1/515)
صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: "ما تسمون هذه؟ " قالوا: السحاب. قال: "والمزن" قالوا: والمزن. قال: و"العنان". قالوا. والعنان- قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدا- قال: "هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ " قالوا: لا ندري. قال: "إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك" 1. وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: " حسن غريب ". وقال الحافظ الذهبي: " رواه أبو داود بإسناد حسن" 2. وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: " ما بين
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وابن ماجه: المقدمة (193) .
2 في إسناده الوليد بن أبي ثور لا يحتج بحديثه. وقد ساقه أبو داود من غير طريق الوليد. وقال العلامة ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود: أما رد الحديث بالوليد بن أبي ثور ففاسد؛ فإن الوليد لم ينفرد به بل تابعه عليه إبراهيم بن طهمان كلاهما عن سماك. ومن طريقه رواه أبو داود. ورواه أيضا عمرو بن أبي قيس عن سماك. ومن حديثه رواه الترمذي عن عبد بن حميد أخبرنا عبد الرحمن بن سعد عن عمرو بن أبي قيس. اهـ. ورواه ابن ماجة من حديث الوليد بن أبي ثور عن سماك. وأي ذنب للوليد في هذا; وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه روايته ما يخالف قول الجهمية وهي علته المؤثرة عند القوم اهـ.(1/516)
سماء إلى سماء خمسمائة عام ". ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد. وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه 1.
__________
(1) في قرة العيون: قلت: وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما مع ما يدل عليه صريح القرآن، فلا عبرة بقول من ضعفه. وقد ابتدأ المصنف -رحمه الله تعالى- هذا المصنف العظيم ببيان توحيد الإلهية؛ لأن أكثر الأمة ممن تأخر قد جهلوا هذا التوحيد, وأتوا بما ينافيه من الشرك والتنديد, فقام ببيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونهوهم عما كانوا عليه من الشرك المنافي لهذا التوحيد. فالدعوة إلى ذلك هي أهم الأمور وأوجبها لمن وفقه الله لفهمه, وأعطاه القدرة على الدعوة إليه, والجهاد لمن خالفه ممن أشرك بالله في عبادته، فقرر هذا التوحيد كما ترى في هذه الأبواب، ثم ختم كتابه بتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن أكثر العامة ليس لهم التفات الى هذا العلم الذي خاض فيه من ينتسب إلى العلم. وأما من ينتسب إلى العلم فهم أخذوا عمن خاض في هذه العلوم, وأحسنوا الظن بأهل الكلام, وظنوا أنهم على شيء, فقبلوا ما وجدوه عنهم, فقرروا مذهب الجهمية, وألحدوا في توحيد الأسماء والصفات، وخالفوا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمة الحديث والتفسير من المتقدمين، وما زال أهل السنة متمسكين بذلك لكنهم قلوا، فهدى الله هذا الإمام إلى معرفة أنواع التوحيد فقررها بأدلتها, فلله الحمد على توفيقه وهدايته إلى الحق حين اشتدت غربة الإسلام، فضل عنه من ضل من أهل القرى والأمصار. وغيرهم. وبالله التوفيق. فقد اجتمع في هذا المصنف أنواع التوحيد الثلاثة التي أشار إليها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- بقوله:.
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعل ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
وصلى الله على سيد المرسلين, وإمام المتقين, محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/517)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.
الثانية: إن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم، لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين وأن السماوات في اليد اليمنى. والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: " كخردلة في كف أحدكم ".
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
قلت: فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول مَن ضعّفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها.
وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كمل مقابلة وتصحيحا وقراءة على يد شيخنا العلامة المحقق الفهامة، بقية أهل الاستقامة: الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن آل الشيخ - متع الله بحياته - سنة 1362.
نبذة مختصرة من ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن
مؤلف فتح المجيد
قال الشيخ ابن بشر في كتاب "عنوان المجد" في حوادث سنة 1241: وفيها أقبل من مصر الشيخ العالم النحرير، البحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وارث العلم كابرا عن كابر، الذي صارت الأصاغر بإفادته شيوخا أكابر، قاضي قضاة الإسلام والمسلمين مفتي فِرق الأنام الموحدين، وناصر سنة سيد المرسلين، الموفق للصواب في الجواب; الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدم على الإمام تركي بن عبد الله -قدس الله روحه-، ففرح وأكرمه غاية الإكرام، واغتبط بطلعته خاص المسلمين والعام، فعظموه وقاموا بما يستحقه من الإعظام، وبذل نفسه للطالبين وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين - ثم ذكر العلماء الأفاضل من آل الشيخ وغيرهم الذي استفادوا من الشيخ وانتفعوا بعلمه وتخرجوا عليه، وهم جملة كثيرة. ثم قال: فضربت إليه آباط الإبل من أقطار نجد والأحساء، وظهرت آثار البركات من تعليمه وفشا. كيف لا وهو من شجرة مباركة أضاء نور طالعها للمسلمين وفشا، ولاح وميض برقه حين غشى، فكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يهدي الله لنوره من يشاء. اللهم يا سميع الدعاء، يا إله الأرض والسماء، نسألك بأسمائك الحسنى أن تجزيهم عنا وعن المسلمين أحسن ما جزيت من دعا إلى توحيدك، وأن تجعل العلم النافع فيهم وفي عقبهم باقيا إلى يوم لقائك وشهودك.
وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن مصنفات في الأصول والفروع، أكثرها ردا على أهل المقالات، ومن غلط منهم في الصفات، وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه دله على علمه الغزير، ردا على من أباح لبس المحرمة الروغان التي ابتلي الناس بلبسها في هذا الزمان، واختصر شرح التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام الذي سبق ذكره؛ لأنه مات قبل أن يتمه.
وكان كثيرا ما يتعهده أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح، ويعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم، ويذكرهم نعمة هذا الدين; واجتماع شمل أهل الإسلام عليهم; وما منّ الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان. والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
__________
1 سورة الزمر آية: 67.(1/518)