يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه، بل إن كان منكرًا للعلم القديم، فهو كافر كما تقدم، ولهذا روي عن بعض الأئمة القدرية الكبار بإسناد صحيح أنه قال لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "حدثني الصادق المصدوق ... ". الحديث: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا لأجبته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، وذكر كلمة بعدها. فهذا كفر صريح نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه.
وقد بين في الحديت كيفية الإيمان بالقدر: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى إن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه" 1. رواه الترمذي.
والمعنى: أن العبد لا يؤمن حتى يعلم أن ما يصيبه إنما أصابه في القدر، أي: ما قدر عليه من الخير والشر، لم يكن ليخطئه، أي: يجاوزه فلا يصيبه، وإنما أخطأه من الخير والشر في القدر، أي: لم يقدر عليه، لم يكن ليصيبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 2. وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3.
قوله:"إن أول ما خلق الله القلم"، قال شيخ الإسلام: قد ذكرنا أن للسلف في العرش والقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين، كما ذكر ذلك الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره.
أحدهما: أن القلم خلق أولاً، كما أطلق ذلك غير واحد، وهذا هو الذي يفهم من ظاهر كتب المصنفين في"الأوائل"للحافظ أبو
__________
1 الترمذي: القدر (2144) .
2 سورة الحديد آية: 22.
3 سورة التوبة آية: 51.(1/603)
عروبة الحراني ولد القاسم الطبراني، للحديث الذي رواه أبو داود في"سننه"عن عبادة ابن الصامت، وذكر الحديث المشروح.
والثاني: أن العرش خلق أولاً. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في تصنيفه في"الرد على الجهمية1": حدثنا محمد بن كثير العبدي، أنبأنا سفيان الثوري، ثنا أبو هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فكان أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن، وأن ما يجري على الناس على أمر قد فرغ منه" وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب"الأسماء والصفات"لما ذكر بدء الخلق، ثم ذكر حديث الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير،"عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 2. على أي شيء [كان الماء] ؟ قال: على متن الريح". وروى حديث القاسم بن [أبي بزة] ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول شيء خلقه الله القلم، وأمره فكتب كل شيء يكون" قال البيهقي: "وإنما أراد - والله أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش، وذلك في حديث عمران بن حصين الذي أشار إليه، وهو ما رواه البخاري من غير وجه مرفوعًا عنه: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" 3. ورواه البيهقي كما رواه محمد بن هارون الروياني في"مسنده"وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، من حديث الثقات المتفق على ثقتهم، عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز،
__________
1 وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي.
2 سورة هود آية: 7.
3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2941) , وأبو داود: الملاحم (4310) , وابن ماجه: الفتن (4069) , وأحمد (2/201) .(1/604)
عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات". وذكر أحاديث وآثارًا، ثم قال ما معناه: فثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولاً.
وقال ابن كثير: "قال قائلون: خلق القلم أولاً، وهذا اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما".
قال ابن جرير: "وبعد القلم السحاب الرقيق، وبعده العرش، واحتجوا بحديث عبادة".
والذي عليه الجمهور أن العرش مخلوق قبل ذلك، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في"صحيحه"يعني حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي تقدم. قالوا: وهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير، وقد دل الحديث أن ذلك بعد خلق العرش، فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم. انتهى بمعناه.
قوله:"اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". قال شيخ الإسلام: وكذلك في حديث ابن عباس وغيره، وهذا يبين أنه إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة، لم يكن حينئذ ما يكون بعد ذلك.
قوله:"من مات على غير هذا لم يكن مني". أي: لأنه إذا كان جاحدًا للعلم القديم فهو كافر، كما قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا كفروا. يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذب القرآن، فيكفر بذلك، كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد، وشاءها وأرادها بينهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور، وبالجملة فهم(1/605)
أهل بدعة شنيعة، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منهم، كما هو بريء من الأولين.
وقد بيض المصنف آخر هذا الحديث ليعزوه، وقد رواه أبو داود وهذا لفظه، ورواه أحمد والترمذي وغيرهما.
[من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه اللَّه بالنار]
قال: وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه اللَّه بالنار".
ش: قوله:"وفي رواية لابن وهب". هو الإمام الحافظ عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري الفقيه، ثقة إمام مشهور عابد، له مصنفات، منها"الجامع"وغيره، مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنان وسبعون سنة.
قوله:"أحرقه الله بالنار"، أي: لكفره أو بدعته إن كان ممن يقر بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد، فإن صاحب البدعة متعرض للوعيد كأصحاب الكبائر، بل أعظم.
قال: وفي"المسند"و"السنن""عن أبن الديلمي قال: أتيت أُبَيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي. فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم". حديث صحيح رواه الحاكم في"صحيحه".
ش: قوله: وفي"المسند"، أي"مسند الإمام أحمد"، و"السنن" أي"سنن أبي داود"وابن ماجة فقط، بمعنى ما ذكر المصنف، وفيه زيادة اختصرها المصنف، ولفظ ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت أبا سنان عن وهب بن خالد الحمصي"عن ابن الديلمي قال: وقع في(1/606)
نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري، فأتيت أُبَيَّ بن كعب، فقلت: يا أبا المنذر إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني. فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبًا أو مثل جبل أحد تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي يا أخي عبد الله بن مسعود فتسأل، فأتيت عبد الله فسألته، فذكر مثل ما قال أبي، وقال لي: لا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قال: ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان مثل أحد أو مثل جبل أحد ذهبًا تنفقه في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار". هذا حديث ابن ماجة. ولفظ أبي داود كما ذكره المصنف إلا أنه قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك.
قوله:"عن ابن الديلمي". هو عبد الله بن فيروز الديلمي. وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذاب. وعبد الله هذا ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة. والديلمي نسبة إلى جبل الديلم، وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن.
قوله:"وقع في نفسي شيء من القدر". أي: شك أو اضطراب يؤدي إلى شك فيه، أو جحد له.(1/607)
قوله:"لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك". هذا تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد، إذ لو فرض إنفاق ملء السموات والأرض كان ذلك.
قوله:"حتى تؤمن بالقدر". أي: بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ونفعها وضرها، وقليلها وكثيرها، وكبيرها وصغيرها بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وأمره، كما ذكر عن علي رضي الله عنه 1.
__________
1 إلى هنا قام المؤلف رحمه الله بشرح هذا الكتاب ولم يتيسر له إتمامه, وقد التمسنا من الأستاذ العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم بارك الله فيه أن يتمم شرحه, ولكن الوقت لم يسعفه, فلم نر بدا من إتمام هذا النقص بنقل ما تبقى من أبواب الكتاب مع الشرح من كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد "للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى وبالله التوفيق.(1/608)
[55- باب ما جاء في المصورين]
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1. أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله" 2.
ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم" 3.
ولهما عنه مرفوعًا "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 4.
ولمسلم عن"أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته" 5.
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله، لقوله:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي".
الثالثة: التنبيه على قدرته، وعجزهم، لقوله:"فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة".
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابًا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
ش: قوله: باب ما جاء في المصورين.
أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة، وهي المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 6. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيًا لخلق الله، فصار ما صور عذابًا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. فكان أشد الناس عذابًا، لأن ذنبه من أكبر الذنوب.
__________
1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527) .
2 البخاري: اللباس (5954) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2110) .
4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود: الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241 ,1/246 ,1/308 ,1/350 ,1/359 ,1/360) .
5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) .
6 سورة السجدة آية: 7- 9.(1/609)
فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟!
فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله، وأنزل كتبه، لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ولمسلم (969) عن أبي الهياج، قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "ألاّ تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته".
قوله:"ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي" - حيان بن حصين -.
قال: قال لي علي رضي الله عنه. هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله:"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".
فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا لذلك. أما الصور: فلمضاهاتها لخلق الله، وأما تسوية القبور، فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته.
ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت
__________
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الحج آية: 31.(1/610)
الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطًا لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محرّم محظور.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا، ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في"صحيحه"عن أبي الهياج الأسدي ... - فذكر حديث الباب - وحديث ثمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال:"كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها" 1. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في"صحيحه"عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه ونهى عن الكتابة عليها" 2.
كما روى أبو داود في"سننه"عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها" 3. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير
__________
1 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) , وأحمد (6/18 ,6/21) .
2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027 ,2028 ,2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339 ,3/399) .
3 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2028 ,2029) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339) .(1/611)
ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه" 1. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي: "ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام". قال: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" 2. متفق عليه. ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه"مناسك حج المشاهد"، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه.
ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره. فمنها:
تعظيم الموقع في الافتتان بها.
ومنها: اتخاذها أعيادًا.
ومنها: السفر
__________
1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339) .
2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) .(1/612)
إليها.
ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسندانتها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.
ومنها: النذر لها ولسدنتها.
ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنْزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها.
ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تغالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 1. وقال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ... } 3.وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 4.
ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير
__________
1 سورة الفرقان آية: 17-18.
2 سورة الفرقان آية: 19.
3 سورة المائدة آية: 116.
4 سورة سبأ آية: 40-41.(1/613)
البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام، والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبًا منه.
ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنْزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدًّا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرًا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً. وفي"صحيح مسلم"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت" 1. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه. فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر" 2. رواه أحمد والترمذي وحسنه.
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها. هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
__________
1 مسلم: الجنائز (976) , والنسائي: الجنائز (2034) , وأبو داود: الجنائز (3234) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1569 ,1572) , وأحمد (2/441) .
2 الترمذي: الجنائز (1053) .(1/614)
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا. ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره مرفوعاً: "الدعاء هو العبادة" 1. فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. وإسناده جيد، ورواته ثقات مشاهير.
وقوله: "ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا" 3. أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور، واتخاذها أعيادًا، من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن المفاسد: اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (2969 ,3247) والدعوات (3372) , وأبو داود: الصلاة (1479) , وابن ماجه: الدعاء (3828) , وأحمد (4/267) .
2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .
3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388) .(1/615)
والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا، يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانًا. فلغير الله - بل للشيطان - ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضًا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام. فيقول: لا ولا بحجك كل عام!!
هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم.
وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما(1/616)
يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. انتهى كلامه رحمه الله.(1/617)
[56 باب ما جاء في كثرة الحلف]
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" 2. أخرجاه.
وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" 3. رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. - قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" 4.
وفيه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 5.
وقال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف".
أي: من النهي عنه والوعيد. وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 6.
قال ابن جرير: "لا تتركوها بغير تكفير". وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد: لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا.
والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس; فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه.
قوله:"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة" 7. أخرجاه. أي: البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي.
والمعنى: أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب، وحلف طمعًا في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسًا، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي، فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب.
__________
1 سورة المائدة آية: 89.
2 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413) .
3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .
4 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) .
5 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277) .
6 سورة المائدة آية: 89.
7 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413) .(1/617)
قوله:"وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" 1. رواه الطبراني بسند صحيح.
و"سلمان"لعله سلمان الفارسي، أبو عبد الله، أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي، وشرحبيل بن السمط وغيرهما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليًّا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد" 2. أخرجه الترمذي وابن ماجة.
قال الحسن: كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفًا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي.
قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله" 3. نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه، وأن
__________
1 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .
2 الترمذي: المناقب (3718) , وابن ماجه: المقدمة (149) , وأحمد (5/351) .
3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .(1/618)
الكلام صفة من صفات كماله، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئًا فشيئًا ولم يزل متصفًا به، فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. فأتى بالحروف الدّالة على الاستقلال، والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضًا، وذلك في القرآن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قالوا لنا - يعني النفاة -: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به؟ ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟! ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله تعالى منَزه عن ذلك - ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلما إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة. اهـ.
قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى، قدرته عليها، وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم.
قوله: "ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" 2. لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات.
قوله:"أشيمط زان"، صغره تحقيرًا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله، وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب; فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع. وكذا العائل المستكبر ليس
__________
1 سورة يس آية: 82.
2 البخاري: المساقاة (2358) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .(1/619)
له ما يدعوه إلى الكبر، لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و"العائل"الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي.
قوله:"ورجل جعل الله بضاعته" بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدًا فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه.
قوله:"وفي"الصحيح"، أي:"صحيح مسلم". وأخرجه أبو داود والترمذي. ورواه البخاري بلفظ: "خيركم".
قوله: وفي الصّحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" 1.
ش: قوله:"وفي الصّحيح"، أي: صحيح مسلم.
قوله: "خير أمتي قرني" 2 لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلَّ الشر فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء.
"ثم الذين يلونهم"، فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام
__________
1 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) .
2 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) .(1/620)
فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت، فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب.
قوله:"فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ ". هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء. فقال:"ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون" لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم.
قوله:"ويخونون ولا يؤتمنون"، يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم.
قوله:"وينذرون ولا يوفون"، أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم.
قوله:"ويظهر فيهم السمن"، لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها.
وفي حديث أنس: "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم". قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم" 1. فما زال الشر يزيد في الأمة، حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف.
قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظمًا ونثرًا، فنعوذ بالله من موجبات غضبه.
__________
1 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/132 ,3/177 ,3/179) .(1/621)
قوله: وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 1.
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشّهادة والعهد، ونحن صغار.
قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا، ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء، لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك. وهذا هو الغالب على الأكثر، والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكبر بأضعاف، فكن من الناس على حذر.
قوله:"قال إبراهيم" - هو النخعي -: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به.
وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
__________
1 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277) .(1/622)
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[57- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه]
وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 1.
وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنْزلهم على حكم الله، فلا تنْزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ " 2. رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا.
الثالثة: قوله:"اغزوا باسم الله في سبيل الله".
الرابعة: قوله:"قاتلوا من كفر بالله".
الخامسة: قوله:"استعن بالله وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة، بحكم لا يدري: أيوافق حكم الله أم لا؟.
قوله:"باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله".
وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 3.
قال العماد ابن كثير: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا
__________
1 سورة النحل آية: 91.
2 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439) .
3 سورة النحل آية: 91.(1/622)
قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1. ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} 2. وبين قوله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 3، أي: لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى الله عليه وسلم في"الصحيحين": "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني" 4. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 5؛ لأن هذه الأيمان المراد بها: الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني: الحلف أي: حلف الجاهلية.
ويؤيده ما رواه الإمام احمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" 6. وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام حماية كفاية عما كانوا فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 7، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
__________
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة البقرة آية: 224.
3 سورة المائدة آية: 89.
4 البخاري: الأيمان والنذور (6680) , ومسلم: الأيمان (1649) , وابن ماجه: الكفارات (2107) , وأحمد (4/401 ,4/404 ,4/418) .
5 سورة النحل آية: 91.
6 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) .
7 سورة النحل آية: 91.(1/623)
قوله:"عن بريدة"، هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في"المفهم".
قوله:"قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى"، فيه من الفقه: تأمير الأمراء، ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش: ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.
قوله:"ومن معه من المسلمين خيرًا"، أي: ووصاه بمن منهم أن يفعل معهم خيرًا; من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.
وقوله:"اغزوا باسم الله"، أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له.
قلت: فتكون الباء في"باسم الله" هنا للاستعانة، والتوكل على الله.
قوله:"قاتلوا من كفر بالله"، هذا العموم يشمل جميع أهل(1/624)
الكفر المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد، والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به "ولا تقتلوا وليدًا"، وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان، لأنه لا يكون منها قتال غالبًا، وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا.
قلت: وكذلك الذراري والأولاد.
قوله:"ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا"، الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة.
قوله:"وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال - أو خصال"، الرواية بأل للشك وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد.
قوله:"فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب"أيتهن"على أن يعمل فيها"أجابوك"لا على إسقاط حرف الجر. و"ما"زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف الجر.
قلت: فيكون في ناصب"أيتهن"وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض.
قوله:"ثم ادعهم إلى الإسلام"، كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم"ثم ادعهم"بزيادة"ثم"والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم. كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد; لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال.
وقوله:"ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين"، يعني المدينة. وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة(1/625)
على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم.
قوله:"فإن أبوا أن يتحولوا"، يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئًا. وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئًا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله. وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمهما الله بين المالين، وجوزا صرفهما للضعيف.
قوله:"فإن هم أبوا فاسألهم الجزية"، فيه حجة لمالك وأصحابه، والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربيًا كان أو غيره، كتابيًا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع، إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، عربًا كانوا أو عجمًا، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس.
قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية، فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورِق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. وقال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله، والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهمًا، والوسط أربعة وعشرون درهمًا، والفقير اثنا عشر درهمًا وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله:
وقاتل يهودًا والنصارى وعصبة ال ... مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد.
على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن ... وأربعة منبعد عشر ينزيّد.
لأوسطهم حالاً، ومن كان موسرًا ... ثمانية مع أربعين لتنقد(1/626)
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين، لا ممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.
وقوله:"وإذا حاصرت أهل حصن"، الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره، ووجه الاستدلال به: أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكمًا معينًا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ.
قوله:"وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ... "، الحديث. الذمة: العهد، وتخفر: تنقض. يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد، كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد، كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم.
قوله:"وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال"، ذكر فيه: أن مذهب مالك يجمع فيه بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكًا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم.
وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح، لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين، فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد(1/627)
يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزيدون عتوًّا وبغضًا. والله أعلم.(1/628)
[58- باب ما جاء في الإقسام على الله]
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عزّ وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك" 1. رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة"إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ش: قوله:"باب ما جاء في الإقسام على الله".
ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله عزّ وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك" 2. رواه مسلم.
قوله:"يتألى"، أي: يحلف، والألية بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة.
قال البغوي في"شرح السنة"- وساق بالسند إلى"عكرمة بن عمار [نا ضمضم بن حوس]- قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر لك أبدًا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، قال: فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول: مذنب،
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2621) .
2 مسلم: البر والصلة والآداب (2621) .(1/628)
فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال فيقول: خلني وربي، قال: فوجده يومًا على ذنب استعظمه. فقال: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا، فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب. قال اذهبوا به إلى النار". قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيده، تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". رواه أبو داود في"سننه"وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: "كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر يجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا؟ قال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة. فقبضت أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" 1.
قوله:"وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد" يشير إلى قوله في هذا الحديث "أحدهما مجتهد في العبادة"، وفي هذه الأحاديث: بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ قلت: "يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ " 2. والله أعلم.
__________
1 أبو داود: الأدب (4901) , وأحمد (2/323 ,2/362) .
2 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237) .(1/629)
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[59- باب لا يستشفع بالله على خلقه]
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد" وذكر الحديث. رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال"نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرًا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله"نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.
ش: قوله:"باب لا يستشفع بالله على خلقه".
وذكر الحديث وسياق أبي داود في"سننه"أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك، أتدري ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب" 1. قال ابن بشار في حديثه: "إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته" 2.
قال الحافظ الذهبي [في العلو] : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في"الرد على الجهمية"من حديث محمد بن إسحاق بن يسار.
قوله:"ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه"، فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى،
__________
1 أبو داود: السنة (4726) .
2 أبو داود: السنة (4726) .(1/630)
ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ، [فاطر، من الآية: 44] . {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، [يّس: 82] . والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي.
قوله:"وسبح الله كثيرًا وعظمه"؛ لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، وإن شأن الله أعظم من ذلك.
وفي هذا الحديث: إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سمواته.
وفيه: تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه، من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنْزيهًا بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في"مفتاح دار السعادة"- بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته - قال بعد ذلك:
"والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير، والأمر ينَزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينْزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم(1/631)
وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها; من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها من سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران، من الآية: 6، و18] . فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عاليًا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله، وعجائب صنعه، فيا له من سفرٍ ما أبركَه وأروحه! وأعظم ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب" اهـ كلامه رحمه الله.
وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصًا به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة أو العامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: "لا تنسنا يا أخيّ من صالح دعائك" 1. وأما الميت، فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت.
وأما دعاؤه، فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
__________
1 الترمذي: الدعوات (3562) , وأبو داود: الصلاة (1498) , وابن ماجه: المناسك (2894) .(1/632)
قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1. فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي: ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة رضي الله عنهم، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب.
كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز أن يستسقى بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت، لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرًا، فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرًا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله، هلك. وبالله التوفيق.
__________
1 سورة فاطر آية: 13-14.
2 سورة الأحقاف آية: 6.(1/633)
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[60- باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض(1/633)
قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" 1. رواه أبو داود بسند جيد. وعن أنس رضي الله عنه أن أناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله عزّ وجل" 2. رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا
الثالثة: قوله:"لا يستجرينكم الشيطان"مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله"ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي".
قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك.
حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" 3.
وتقدم قوله: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل"، ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانًا: "ويلك قطعت عنق صاحبك ... " الحديث. أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "قطعت عنق صاحبك ثلاثًا". وقال: "إذا لقيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب" 4. أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة عن المقداد ابن الأسود.
وفي هذا الحديث نهى عن أن يقولوا: أنت سيدنا، وقال: "السيد الله تبارك وتعالى". ونهاهم أن يقولوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. وقال: "لا يستجرينكم الشيطان".
وكذلك قوله في حديث أنس أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا وسيّدنا وابن سيّدنا. فقال:"يا أيّها النّاس، قولوا: بقولكم، ولا يستهوينكم الشّيطان ... " إلخ. كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه - ولو بما هو فيه - من عمل الشيطان، لما تقضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد.
__________
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25) .
2 أحمد (3/249) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23) .
4 مسلم: الزهد والرقائق (3002) , والترمذي: الزهد (2393) , وأبو داود: الأدب (4804) , وابن ماجه: الأدب (3742) , وأحمد (6/5) .(1/634)
فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأنه لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها، والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له، خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب، دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها، وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة، كما في الحديث: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبته" 1. وفي الحديث: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" 2. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينْزل الممدوح منْزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرًا من أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه، من الشرك ووسائله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3. ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات.
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2620) , وأبو داود: اللباس (4090) , وابن ماجه: الزهد (4174) , وأحمد (2/442) .
2 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/399 ,1/412 ,1/416 ,1/451) .
3 سورة البقرة آية: 59.(1/635)
وأما تسمية العبد بالسيد، فاختلف العلماء في ذلك.
قال العلامة ابن القيم في"بدائع الفوائد": "اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول"النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا قال"السيد الله تبارك وتعالى"1. وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا إلى سيدكم" 2. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى، فهو في منْزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى.
قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} 3، أي: إلهًا وسيدًا، وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 4، إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السّؤدد. وقال أبو وائل: هو السّيد الذي انتهى سؤدده. وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا إلى سيدكم" 5، فالظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدًا به، فيكون في هذا المقام تفصيل. والله أعلم.
__________
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25) .
2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) .
3 سورة الأنعام آية: 164.
4 سورة الإخلاص آية: 2.
5 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) .(1/636)
باب ما جاء في قول الله تعالى: {_25d9_2588_25d9_2585_25d8_25a7 _25d9_2582_25d8_25af_25d8_25b1_25d9_2588_25d8_25a7 _25d8_25a7_25d9_042940fdc7
...
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[الخاتمة] [61- باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } 1]
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك.
__________
1 سورة الزمر آية: 67.(1/636)
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر. ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } الآية. متّفق عليه.
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الله" 1.
وفي رواية للبخاري: "يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" 2. أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " 3.
وروي عن ابن عباس قال: "ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم".
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس".
قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء. والله فوق العرش; لا يخفى عليه شيء من أعمالكم". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم بن زر عن عبد الله.
ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله.
قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة. وبين السماء السابعة والعرش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم". أخرجه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 4
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: كخردلة في كف أحدكم.
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السموات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة والله أعلم.
قوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5.
أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة.
قال العماد بن كثير رحمه الله تعالى: "يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره، حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته". قال مجاهد: "نزلت في قريش"، وقال السدي: "ما عظموه حق تعظيمه"، وقال محمد بن كعب: "لو قدروه حق قدره ما كذبوه"، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره".
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها من مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب، قال: ورواه البخاري في صحيحه في غير موضع ومسلم، والإمام أحمد والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم،
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457) .
3 البخاري: التوحيد (7413) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87) .
4 سورة الزمر آية: 67.
5 سورة الزمر آية: 67.(1/637)
عن علقمة عن عبد الله قال: "جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: وأنزل الله عزّ وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... } " الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: "مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه - وأشار بالسبابة - والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلائق على ذه؟ كل ذلك يشير بإصبعه، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ". وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به، وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك". تفرد به أيضًا من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.(1/638)
وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه:"أنا الجبار المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن1 به" اه.
__________
1 في الطبعة السابقة: ليخزن وهو تصحيف.(1/639)
قوله:"ولمسلم عن ابن عمر – الحديث"، كذا في رواية مسلم. قال الحميدي: وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه" 1. وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم.
قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف تدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل وتنْزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.
__________
1 البخاري: المزارعة (2324) , ومسلم: فضائل الصحابة (2388) , والترمذي: المناقب (3695) , وأحمد (2/245 ,2/382) .(1/640)
وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، أو أنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقًّا بلغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به، وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1. وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئًا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا إنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا كتاب الله
من أوله إلى آخره وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2 وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 3 وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4 وقوله تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5 وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ
__________
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 سورة فاطر آية: 10.
3 سورة آل عمران آية: 55.
4 سورة النساء آية: 158.
5 سورة المعارج آية: 4-3.(1/641)
السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 1 وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2 وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 5. فذكر التوحيدين في هذه الآية. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6 وقوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 7 وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 8 وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 9 وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 10 فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته، وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور ُأَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} 11 وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 12 وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 13 وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
__________
1 سورة السجدة آية: 5.
2 سورة النحل آية: 50.
3 سورة البقرة آية: 29.
4 سورة الأعراف آية: 54.
5 سورة يونس آية: 3.
6 سورة الرعد آية: 2.
7 سورة طه آية: 5-4.
8 سورة آية: 59-58.
9 سورة آية: 5-4.
10 سورة الحديد آية: 4.
11 سورة الملك آية: 17-16.
12 سورة فصلت آية: 42.
13 سورة الزمر آية: 1.(1/642)
صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 1. انتهى كلامه رحمه الله.
قلت: وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب"العلو". وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح [مختصر العلوّ 111] . قال: وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال:"لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
وقال ابن وهب:"كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء. وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ و"كيف"عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرجوه. رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضًا. ولفظه قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية. قال البخاري في"صحيحه": قال مجاهد: استوى: علا على العرش. وقال إسحاق ابن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في
__________
1 سورة آية: 37-36.
2 سورة طه آية: 5.(1/643)
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا وارتفع.
وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم. فمن ذلك قول عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال:"سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية". قال الدارمي: حدثنا حسن بن الصباح البزار، حدثنا علي بن الحسين ابن شقيق"عن ابن المبارك: قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه".
وقد تقدم قول الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة.
وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب"الأصول": أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضًا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب: أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1، ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء، وهذا لفظه في كتابه.
وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا، ولم
__________
1 سورة الحديد آية: 4.(1/644)
يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.
وقال الحافظ الذهبي: "وأول وقت سمعت مقالة مَن أنكر أن الله فوق عرشه: هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي، وأبي حنيفة ومالك، والليث بن سعد، والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، ومن بعدهم من أئمة الهدى، فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري - ببغداد - حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المصيصي"سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته" أخرجه البيهقي في"الصفات"ورواته أئمة ثقات".
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عنه نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 اه من فتح الباري.
قوله:"وعن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرًا". والذي في"سنن أبي داود":
عن"العباس بن عبد المطلب قال: "كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة، فنظر إليها، فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن قالوا: والمزن. قال: والعنان. قالوا: والعنان - قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدًا - قال: هل تدرون ما بعد بين السماء
__________
1 سورة الشورى آية: 11.(1/645)
والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عدد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله، وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش، وبين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك تعالى فوق ذلك". وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب1.
وقال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه "بعد ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام". ولا منافاة بينهما، لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد، لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه، هذا آخر كلامه.
قلت: فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وهذا الحديث له شواهد في"الصحيحين"وغيرهما، ولا عبرة بقول من ضعفه، لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها، وصرفها عن ظواهرها.
وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله، وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له، دون كل ما سواه. وبالله التوفيق.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
__________
1 هو حديث ضعيف في سنده عبد الله بن عميرة. قال الذهبي: فيه جهالة.(1/646)