في تقريره أن الذي يشاهد تلك الأمور عن طريق الكشف يراها كلها صادرة عن فاعل واحد هو الله تعالى، وأنها عبارة عنه على ما فيها من خير وشر.
قوله: لا يرى في الوجود إلا واحداً، هذا هو عين القول بوحدة الوجود.
وعندما أورد استشكالاً قد يرد في الذهن، وهو قوله:
"فإن قلت كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً؟
ولا شك أن هذا الاستشكال وارد، وهو استشكال قوي جداً ويحتاج إلى جواب شاف، فبماذا أجاب الغزالي عن هذا؟ أجاب عن إيراد هذا السؤال بقوله:
"فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم، لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء الربوبية كفر".
وهذا الجواب فيه اتهام لله بالتقصير في بيان أمر التوحيد؛ حيث لم يبينه الله تمام البيان، ولا بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد إلا أرباب الكشف الصوفي الذين يعرفون كل تفاصيل التوحيد إلا أنهم لا يحبون إفشاء سر الربوبية؛ لأنه يؤدي إلى الكفر حسب هذا الزعم، والواقع أنه قد صدق، فإن هذا التوحيد الذي لا يعرفه إلا أصحاب الكشف هو نفسه التوحيد الذي لا يفرق بين الخالق والمخلوق وهو أمر لا يقر به أحد من المسلمين.
أما الجواب الثاني فهو مثل ضربه يفيد أنه قد يحصل تعدد أشياء في شيء واحد دون فارق بينهما؛ وذلك كالإنسان وأعضائه فهو إنسان واحد ولكن له أعضاء كثيرة؛ روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشاؤه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد أي إنسان.
وهذا الجواب أردأ من الذي قبله، يريد أن يثبت لنا القول بوحدة الوجود قياساً على الوحدة المتكاملة بين الإنسان وأعضائه، وأراد من هذا أيضاً جعله هذه الأوصاف هي نفسها الفناء في التوحيد حسب ما أورده عن موقف جرى بين الحلاج والخواص.(3/96)
حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: في ماذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين – الحلاج-: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث فطالبه بالمقام الرابع.
أي أن الحلاج كان في المقام الثالث أو الرتبة الثالثة في التوحيد، وهي أنه يرى الأشياء هي نفسها "الله"، ولكن بطريق الواسطة والكشف فطالبه الخواص – والغزالي لإقراره كلام الخواص – بأن يرتقي إلى الدرجة الرابعة( ) في تحقيق التوحيد، وهي أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي (الفناء في التوحيد) بدون واسطة ولا كشف وبها يتحقق التوحيد.
وفي كتابة مشكاة الأنوار للغزالي تصريح بوحدة الوجود في أكثر من موضع( )، وقد فندها الشيخ عبد الرحمن الوكيل وأظهر عوارها( ).
ومن كبار القائلين بوحدة الوجود عامر بن عامر أبو الفضل عز الدين حيث قال محاكياً الفارض في تائيته وفي معتقده أيضاً:
تجلى لي المحبوب من كل وجهة
فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائر
تعالت عن الأغيار لطفاً وجلت( )
فقال أتدري من أنا قلت أنت أنا
منادى أنا إذ كنت أنت حقيقتي
نظرت فلم أبصر محض وحدة
بغير شريك قد تغطت بكثرة
تكثرت الأشياء والكل واحد
صفات وذات ضمناً في هوية
فأنت أنا لا بل أنا أنت وحدة
منزهة عن كل غير وشركة( )
وقد اختار نقل هذه الأبيات من تائية ابن عامر الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهي صريحة لا لبس فيها على ما يذهب إليه أهل وحدة الوجود الذين يرون أنه لا يكتمل إيمان العبد ولا يصل إلى الله إلا إذا تلاشت "أنا" من نفسه فأصبح في لجة جمع الجمع ورفع الاثنينية.(3/97)
وقد سلك هذا المسلك في الاعتقاد بوحدة الوجود جماعة أخرى من الصوفية يمكن إحالة القارئ للاطلاع على كلامهم إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن الوكيل، حيث ذكر نصوصاً كثيرة عنهم نثراً ونظماً، ومن أولئك محمد بن إسحاق المشهور بالقونوى( )، وعبد الغني بن إسماعيل المشهور بالنابلسي( )، وعبد السلام بن بشيش أو مشيش وهو من كبار شيوخ الشاذلية، ومحمد الدمرداش المحمدي( )، وأحمد بن عجيبة الإدريسي( )، وحسن رضوان( ).
وكل واحد من هؤلاء قد أدلى بدلوه وخاض فيما ليس له بحق وحاول تثبيت عقيدة وحدة الوجود بكل ما أمكنه من الكلام نثراً ونظماً مما قد يطول نقله وتثقل قراءته، إذ إنهم لا يختلفون إلا في الألفاظ فقط والمورد واحد.
4- وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود:
وحدة الشهود هو ما يسمونه في بدء أمره مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، أي لا يصل إلى درجة الحلول ولاتحاد في أول الأمر إلا بعد أن يترقى درجات ثم يصبح كما يقول على حرازم ناقلاً جواب شيخه التجاني: "اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً"( ).
وهذه نهاية الفناء في الله ووحدة الشهود فيه.
وأما العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود:
فإنه يرى بعض العلماء أن بين وحدة الوجود ووحدة الشهود فارقاً بعيداً، وذلك أن وحدة الوجود هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات، بينما وحدة الشهود عند بعضهم هي بمعنى شدة مراقبة الله تعالى بحيث يعبده كأنه يراه.(3/98)
ومن هنا ظن هذا البعض أن وحدة الشهود لا غبار على من يقول بها، ومنهم من يؤكد على أن وحدة الشهود هي الدرجة الأولى إلى وحدة الوجود، والواقع أن التفريق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود ليس له أساس ثابت بل هو قائم على غير دليل إلا دليلاً واحداً هو الذوق الصوفي، وذلك أن خير البشر لم يستعمل هذه الحالة ولا نطق باسمها في عبادته لربه، ولا كان أصحابه أيضاً يقولون بها.
فكان شأنهم أنهم يعبدون الله وهم على أشد ما يكونون من الوجل والخوف أن ترد عليهم أعمالهم مع وجود أشد الطمع في نفوسهم لعفو ربهم وتجاوزه عنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، ووحدة الشهود ووحدة الوجود لم تعرف إلا بين الفئات الذين امتلأت نفوسهم إعجاباً وتيهاً بأعمالهم وقلت هيبة الله تعالى في نفوسهم.
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في أثناء رده على الغزالي وبيان خطر أفكاره على الإسلام والمسلمين، ومدى تعلق الغزالي بوحدة الوجود أو الشهود:
"أرأيت إلى من صنمَّته( ) الصوفية باللقب الفخم( ) لتفتن به المسلمين عن هدى الله تعالى؟ أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود أو الشهود – سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان لا تقل إن وحدة الوجود أنشودة من البداية ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية فكلتاهما بدعة صوفية، بيد أنها غايرت الاسمين وخالفت بين اللونين ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج والأخرى في كأس من ذهب"( ).(3/99)
فينبغي أن نبتعد عن هذه الكلمة – وحدة – أشد البعد فإن الله تعالى هو الواحد القهار لم يشرك أحد في خلقه ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوَاً أَحَدْ (( )، ولنا في العبارات الطيبة التي تربطنا بربنا مجال واسع كالإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث جبريل؛ حيث سأله عن تلك الأمور ولم يسأله عن وحدة الوجود أو وحدة الشهود ولا وحدة الوجود ولا الحلول ولا الكشف، ولا غير هذا مما هو اختراع الصوفية تبعاً لأفكار ضالة ليس بينها وبين الإسلام أي صلة أو تقارب.
إن وحدة الشهود تؤدي في النهاية إلى القول بالحلول رغم ما زخرفوه من الكلام والتدليس.
وقد وضح علي حرازم الأمر وجلاه في بيانه لأقسام مراتب المحبة التي هي محبة الإيمان، ومحبة الآلاء والنعماء، ومحبة الصفات، ومحبة الذات، ثم بين هذه المراتب إلى أن قال عن القسم الرابع من المحبة:
"ومتى وصل إلى محبة الذات أعني أنه يشم رائحة منها فقط انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة، فيكون أمره أولاً ذهولاً عن الأكوان ثم سكراً ثم عينية وفناءً مع شعوره بالفناء، ثم إلى فناء الفناء وهو لم يحس بشيء شعوراً وتهمماً وحساً واعتباراً، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكمه فلم يبق إلا الحق بالحق للحق في الحق، وهو مقام الفتح والبداية يعني بداية المعرفة، وصاحبه إذا أفاق من سكرته يأخذ في الترقي والصعود في المقامات إلى أبد الأبد بلا نهاية"( ).
وقوله: إنه لا نهاية لترقية لا يتفق مع ما قدمه مما يدل على نهاية الترقي، وهو الوصول إلى وحدة الوجود كما في قوله:
"إلى أن ينتقل إلى المشاهدة وهي الاستهلاك في التوحيد وغاية المشاهدة ينمحق الغير والغيرية، فليس إلا الحق بالحق للحق عن الحق فلا علم ولا رسم ولا عقل ولا وهم ولا خيال ولا كيفية ولا كمية ولا نسبه انتفت الغيرية كلها"( ).
إلى أن قال عن دخول الحضرة الإلهية:(3/100)
"فإن من دخلها غاب عن الوجود كله فلم يبقى إلا الألوهية المحضة حتى نفسه تغيب عنه، ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا عقل ولا هم ولا حركة ولا سكون ولا رسم ولا كيف ولا أين ولا محدود ولا علم، فلو نطق العبد في هذا الحال لقال: لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني؛ لأنه مترجم عن الله عز وجل"( ).
وهذا هو الحلول والاتحاد، مع هذا سماه علي حرازم"غاية الصفاء" ونسي أو تناسى أو جهل – وهو الصحيح – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته قد قال: سبحاني ما أعظم شأني أو قال: لا إله إلا أنا؛ لأن قائل هذه الألفاظ لا دين له إلا دين المجوسية، ومن هنا استشهد علي حرازم بعد الكلام السابق على صحة هذا الصحو في الله بقول الحلاج: سبحاني ما أعظم شأني. ومن حسن الحظ لم يستدل بقول أحد من المسلمين.
وتتضح صورة القول بوحدة الوجود عند التجانية كما هي عند سائر أقطاب الغلاة في قول علي حرازم في صراحة تامة زفي مواضع كثيرة في كتابه جواهر المعاني نأخذ منها قوله في أثناء بيانه لمنزلة الخلق من الحق تبارك وتعالى وأنهم صور تنبئ عن الله تماماً فقال في ذلك: "ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل فإن الوجود عين واحدة ولا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها،ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بأحكام الخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن كثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة"( ).(3/101)
ومن العجيب أنهم يستدلون على هذا المسلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب…" إلى أخر الحديث( )، والحديث حسب مفهومهم معناه أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق – تعالى الله عن ذلك – وأنه يفنى عن نفسه جمله حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج( )، وينسى العبد نفسه في الله وأن الله يحل بجوارحهم، فهو في سمعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم قد اتحدت ذاته بذواتهم.
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد ما ذهب إليه زعماء الصوفية؟ والجواب سيكون بالنفي قطعاً. وقد أجاب العلماء عن معنى هذا الحديث بعدة أجوبة ذكرها كلها ابن حجر رحمه الله، ومنها أن معناه أن العبد يحب طاعة الله ويؤثر خدمته ومحبته، وأنه لا يستعمل هذه الجوارح إلا وفق ما شرعه الله له فلا يستعملها إلا في ما أحبه الله ويبعدها عن كل ما يغضب الله تعالى( )، لا أن الله يحل في تلك الجوارح، والرسول صلى الله عليه وسلم لعظم وأجل من أن يتصور ربه على هذه الصفات.
وتلك المعاني الباطلة لمعنى الحديث موضحة في جمهرة الأولياء للمنوفي فيه مقال تحت عنوان "دور الكمال" ذكر فيه أن الصوفية قد تطورت فشاركت في أبحاث كثيرة فقهية وفلسفية إلى أن قال: "وقد خطى الجنيد في هذا السبيل الخطوات الأولى الفاصلة فانتقل من حال الفناء التي قال بها البسطامي إلى فكرة الاتحاد، وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة يتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بخالقها عن طريق الشهود" ( ).(3/102)
ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول.
لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها – بزعمهم – بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور – حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية – فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره( ).
وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون:
1- أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش – والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني( ).
2- وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة… الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية"( ).(3/103)
3- أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته.
4- كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في الكون( )، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون و كل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني و رماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا،وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية:
لله در القائل:
من رحمة تصعد أو تنزل
ما أرسل الرحمن أو يرسل
من كل ما يختص أو يشمل
في ملكوت الله وملكه
نبيه المختار المرسل
إلا وطه المصطفى عبده
بعلم هذا كل من يعقل( )
واسطة فيها واصل لها
أي أن كل من يعقل ـ و لو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني.
ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله:"جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة"( )
ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل.
وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني.
يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية( ).(3/104)
ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال:"خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله"( ) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئاً عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين.
6 - الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية:
تطلق كلمة ولاية في اللغة العربية( )، على عدة معان منها التابع، المحب والصديق والناصر.
أما معناها في مفهوم الصوفية فهي تنتهي أخيراً في مصب وحدة الوجود، فقد عرفها المنوفي( ) تحت عنوان "أولياء الله"بقوله: "اعلم أن الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً"، ثم زاد الأمر وضوحاً حينما بين التجليات الإلهية والفيوضات التي تقع على السالك وأفعاله وأفعال كل المخلوقات ثم "لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله".
وعرفها الجرجاني بقوله:
الولي: هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.
وقال أيضاً: الولاية: هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه( ).
وقد ذكر السهروردي الولاية وقسمها إلى أقسام باعتبارات مختلفة ثم ذكر بعض الكرامات للأولياء التي لا يخلو من ذكرها كتاب صوفي، وأكثر تلك الكرامات التي يروونها محض خرافات وقصص باطلة. ثم خلص السهروردي إلى أن الصالحين الذين يتولاهم الله ويتولونه ليس المراد بهم: "الذي يقصده أهل الطريق عند تفصيل المراتب ويقولون: فلان صالح وشهيد وولي، بل الصلاح هنا المراد به: الذين صلحوا لحضرته بتحقيق الفناء عن خليقته" ( ).(3/105)
وأما القطب الكبير عند الصوفية وهو القشيري فقد ذكر تعريفات كثيرة للولاية، ونقل عن أكابر مشائخهم آراءهم في الولاية وأهميتها وعلاماتها وكيفية الحصول عليها ومسائل أخرى( )، وهكذا فإن نظرة الصوفية إلى الولي والولاية ليست هي تلك المنزلة الطيبة في مفهوم الإسلام، لأن الولي الصوفي لا حد لصلاحياته في هذا الكون.
وقد جاءت الولاية في القرآن الكريم مراداً بها المدح، وأحياناً مراداً بها الذم، فهي تستعمل في الخير وفي الشر حسب إطلاقها، لأن صاحبها إما أن يكون ولياً لله تعالى أو ولياً للشيطان، وبين الولايتين من البعد والانفصال ما يعرفه كل مسلم سليم الفطرة صافي العقيدة.
وجاءت في السنة النبوية مراداً بها وصف من ساروا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزموا طريق الخير ونصروا الدين ووالوه.
ثم توسع الصوفية والشيعة في إطلاقها وخرجوا بها عن حقيقتها ومدلولها الصحيح، فأطلقت على الرجل المتصوف أو من ينتسب إلى آل البيت، ثم أسبغوا على أئمتهم وكبار دعاتهم هذه الكلمة وأنواعاً أخرى من التهويلات لمطامع اجتماعية وسياسية.
ثم أخذها الصوفيين بعد ذلك وأخرجوها في مذاهب الحلول والاتحاد وحدة الوجود، وهناك صفة ثانية أضيفت إلى مفهوم الولاية عند الشيعة والصوفي، وهي صفة العلم اللدني الذي أخذه علي بن أبي طالب عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعموا، ثم ورثة إياهم ببركة تلك الولاية، وبلغ الغلو بالصوفية في أوليائهم إلى أن اتخذوهم بين الله وبين خلقه وسطاء على طريقة النصارى واليهود والمشركين تماماً.(3/106)
فكما اتخذ هؤلاء المسيح وعزيراً والملائكة أرباباً لهم من دون الله، اتخذ الصوفية وسطاء إلى الله عز وجل أسموهم القطب والغوث والولي ونسبوا إليهم النفع والضر، لأن الله بزعمهم جذبهم إليه واختصهم ثم ساووهم مع الله تعالى في كل صفاته، بل أصبح من شرط الولي أن يكون متصفاً بصفات الله-كما يزعمون- ومن هنا نشأ تنطعهم وتنقصهم للأنبياء على حد ما ورد عن أبي يزيد البسطامي في قوله: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله".
ثم اخترعوا مفهوماً كاذباً للولاية، فهي عندهم مجرد هبة من الله عز وجل لبعض خلقه دون أن يكون لها سبب، بل وبغض النظر عن صلاح الشخص أو فجوره، واستدلوا بقول الله عز وجل: {يختص برحمته من يشاء}( )، أي دون سبب حسب مفهومهم.
ومعنى هذا أنهم يجعلون مفهوم للولاية كمفهوم النبوة، الكل بلا سبب ظاهر، وهذا خلاف ما قرره الإسلام بالنسبة لولاية التي تنتج عن طاعة الله تعالى والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد قسموا الولاية والأولياء إلى أقسام يطول شرحها بدون فائدة فيها( ).
إلا ما نستثنيه مما ذكره المنوفي حين قسمهم إلى:
1- الملامتية:
وهم الذين لا يظهرون للخلق أعمالاً وأسراراً، بل يخفون أسرارهم لكمال ذوقهم وقوة شهودهم لربهم.
2- الغوث الأكبر:
وهو أكبر الأولياء والأقطاب، وهو ذات الحق باعتبار تجريدها من الاسم والصفة".
3- الأوتاد الأربعة:
وهم حفظة العلم كل واحد منهم في ركن من أركان العالم، وهم على قدم بدل من الأبدال، أي أقل رتبة من الأبدال، لأن الأبدال يكونون على قدم قطب من الأقطاب.
4- الأقطاب السبعة:(3/107)
لحفظ القارات السبع، والقطب هو الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان. والقطبانية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والأبدال زعموا أنهم أربعون وهم مكلفون بحفظ العالم والكون، وقد عّرفهم المنوفي بأنهم: "أبدال الأقطاب من الأولياء، فإن مات قطب أحل الله محله بدلاً منه، ومنهم الخلفاء الأربعة".
5- النجباء:
وهم الأربعون القائمون بإصلاح شئون السالكين.
6- الأفراد:
وهم المفردون والغرباء لتفردهم عن الخلق بشهود الحق، وغربتهم في أهل زمانهم، وهم غير منحصرين في رتبة أو منزلة، ولهم كشف خاص وعلوم إلهية غريبة على الناس.. وهم على قدم النبي صلى الله عليه وسلم( ).
وأخيراً وصلوا بالولاية إلى أنها مثل النبوة تماماً فلها ختم كما للنبوة ختم، فختم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم الأولياء عند الصوفية مجموعة من الكذابين مختلفون فيما بينهم على ادعائها.
وأول من ادعى ختم الولاية به هو محمد بن علي بن الحسين، ويسمونه "الحكيم الترمذي"، وقد ظهر في القرن الثالث الهجري- في آخره- وهو غير الترمذي صاحب السنن.
وحين صنف الحكيم الترمذي كتابه"ختم الولاية" مضاهياً بذلك القول بختم النبوة شهدوا عليه الكفر ثم نفي من ترمذ.
ثم جاء ابن عربي المتوفي سنة 638 هـ فادعى أنه خاتم الأولياء، ثم جاء محمد بن عثمان الميرغني السوداني المتوفي سنة 1268 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، ثم جاء أحمد التجاني من فاس بالمغرب المتوفي سنة 1230 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، وأن من سبقه أو يلحقه ممن يدعي ختم الولاية فإنه كاذب مفتر.
وكل واحد ممن يدعيها له مزاعم وادعاءات وكرامات ومزايا لا يصدقها شخص له أدنى معرفة بالدين الإسلامي.(3/108)
وكلما جاء رجل منهم ادعى أنه هو خاتم الأولياء وأن غيره كاذب والكل-والله يشهد- كاذبون، ثم بلغ بهم الغلو أن فضلوا خاتم الأولياء المزعوم على خاتم النبيين لأمور لا فائدة من التطويل بذكرها، فإنهم مهما تفننوا في الاستدلال على ذلك ومهما زخرفوا القول فيه فهو مردود جملةً وتفصيلاً.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث عشر
الكشف الصوفي
من أصول الدين الإسلامي وقواعد الإيمان في الشريعة الإسلامية أن الله تعالى وحده هو علام الغيوب، وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم لا يصل إلى معرفة الغيب، إلا من شاء الله أن يطلعه على ما أراد من ذلك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً.
ولقد تعدى المتصوفة على هذه الصفة لله عز وجل فأقاموا أمراً سموه "الكشف الصوفى"، ويعنى عندهم رفع الحجب من أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم بعد ذلك كل ما يجرى في هذا الكون.
وبالغوا في هذا الإدعاء بما لا يجرؤ على القول به إلا عتاة الزنادقة، كما هو مسطر في كتبهم بأقلامهم، وكما تبين ذلك من خلال ما قدمنا من الإشارات الكثيرة إلى حقيقة الكشف من خلال نظرتهم إلى أقطابهم في حالة رفع الحجب عنهم واتحادهم بالله ورفع الأنية بينهم وبين الله، ويبدوا أنهم ترقوا في هذه الدعوى على النحو التالى:
1- ادعوا أن الصوفي يكشف له عن معان جديدة في القرآن والسنة والآثار والرسوم لا يعلمها علماء الشريعة، الذين سموهم علماء الظاهر والقراطيس؛ لأنهم أي علماء الشريعة إنما يعتمدون في نقل تلك المعاني من القرآن والسنة على موتى، وأما هم فإنهم يأخذونها عن الله تعالى مباشرة.
ومن هنا تجد أقطاب التصوف حين يشرحون بعض الآيات والأحاديث يأتون فيها بمعان من نسج أخيلتهم ويزعمون فيها مزاعم هي عين الأكاذيب التي لا يسندها أي دليل لا من الشرع، بل ولا من العقل في أكثر ما جاءوا به في شروحاتهم.(3/109)
2- ثم ترقوا فقالوا: إن لهم علوماً لا توجد في الكتاب ولا في السنة يأخذونها جديدة عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن حسب زعمهم.
وهذه الفرية هي التي استباحوا بموجبها كثيراً من الفواحش والمحرمات إذ أن النصوص التي يفيد ظاهرها التحريم قد يفيد باطنها الإباحة، والخضر يؤكد لهم ذلك، فإذا بتلك النصوص ظاهرها في واد وباطنها في واد آخر لا صلة بينها إلا تلك الروايات التي صدرت عن الخضر، أو بعض المنامات التي حدثت لأقطابهم الكبار الذين استباحوا كل محرم من الفواحش.
3- وهناك فرية أيضاً اقترفوها، وهي قولهم: أنهم يتلقون علومهم عن ملك الإلهام كما تلقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي مباشرة.
4- وآخرون منهم يزعمون أنهم يتلقون علومهم عن الله رأساً وبلا واسطة؛ حيث تنطبع هذه العلوم في نفوسهم، وبموجبها يأتون ما يأتون من أمور.
5- وآخرون منهم يدَّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم بأذكارهم وعبادتهم يقظة لا مناماً.
6- ثم زعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن وقصص الأنبياء على حقيقتها، وأنهم يجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم، وخرافات كثيرة ذكرها الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" يمجها السمع وينفر عنها الذوق.
وكذا الغزالي حين دخل التصوف ولم يستطع الخروج منه رغم أنه كان من علماء الشريعة، فقد ذكر أشياء كثيرة عن الكشف الصوفي وخرافاتهم فيه مؤيداً له.
وعتاة هذه الدعوى ابن عربي وعبد العزيز الدباغ والبسطامي والتجاني والمرسي وغيرهم( )، لقد كانت دعوى الكشف هي المقدمة الأولى في نظري إلى الادعاء بوحدة الوجود والحلول، فإن دعوى الكشف مبالغة فاحشة، ولكنها تعتبر من باب التمهيد لما هو أفحش منها، وهو ادعاء الاتصاف بالله والأخذ عنه مباشرة.(3/110)
ولذلك ترى كثيراً من المؤلفين من علماء التصوف زعموا أنهم لم يأتوا بما ذكروه في كتبهم إلا عن طريق الكشف الصريح يتلقونه عن الله مباشرة، رغم ما يحمل من كفر وفجور وزندقة وإباحية.
كما زعم ابن عربي في فصوصه، والجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" الذي يقصد به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتصف حسب تقرير الجيلي بصفات الله تعالى، وبصفات أقطاب التصوف أحياناً؛ حيث يظهر في صورة أى شيخ منهم كالشبلي والجبرتي وغيرهما في زمنهم وفي غير زمنهم.
وكتاب الجيلي "الإنسان الكامل" مملوء بالعبارات التي تؤدي إلى إحياء الخرافات والزندقة، فقراءة عابرة له تجعلك لا تتوقف في هذا الحكم عليه ولا فيما كتبه عتاة التصوف كالدباغ وتلميذه أحمد بن مبارك والشعراني وعلي حرازم، وغيرهم ممن لا يلتزم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة.
ثم دخلوا على عوام المسلمين عن طريق الكشف الإلهي والوصول إلى الحقيقة وصفاء القلب والولاية، وغير ذلك من أنواع الشبكات الصوفية التي يصطادون بها الناس عن طريق دعوى الكشف والتظاهر بالزهد، وإكرام الله لهم بمعرفة ما لم يعرفه غيرهم، وفى كل ذلك تساعدهم الشياطين، وأكثر هؤلاء الذين يخبرون بالمغيبات عن طريق الكشف إنما يستعينون بالسحر والطلاسم.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع عشر
الشطحات الصوفية
لقد وصل الصوفية في شطحاتهم إلى حد لا يقدم عليه إلا من تزندق وألحد وخرج عن الدين، ولقد فاضت كتبهم بذلك وتواتر النقل عنهم، وهو أمر لا يدع مجالاً للشك في إلحاد من يعمل ذلك منهم، وفي إعراضه عن الخلق الفاضل والعقل السليم، فضلاً عن الدين.(3/111)
ومما يلحظه القارئ أنهم بعد أن أوردوا أنفسهم تلك الموارد الوخيمة أرادوا أن يجدوا مخرجاً منها، فلم يجدوا لهم مخرجاً فادعوا أنهم إنما قالوا تلك الكلمات الكفرية في حال سكرهم بالله تعالى وغيبوبة عقولهم عن الإحساس بأى شيء غير الله، وما أقبح هذا العذر وأسمجه فهل هم أحب لله من الأنبياء ومن كثير من أتباعهم الذين لا يقاس بهم غيرهم، ولم يعثر عن أحد منهم أن تلفظ بما تلفظ به هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم زندقة وحقداً على الإسلام والمسلمين.
ومما يدركه طالب العلم أن الشطحات الصوفية كثيرة جداً، لا يمكن حصرها إلا بدراسة وافية( )، غير أننا سنعرض هنا بعض الامثلة لتكون نموذجاً لبقية شطحهم وغلوهم ومقدار جرأتهم على اقتحام الامور العظيمة في الإلحاد.
ونبدأ ببعض ما ذكر عن أبي يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى.
1- قال أبو يزيد عن الله تعالى: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعنى إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا".
ومعناه أنه يطلب أن يصوره الله على صورته عز وجل تماماً، فإذا شاهده الناس قالوا: شاهدنا الله.
والرواية عنه هي كما تقدم إلا أني أرى أن هذه العبارة: "إن خلقي يحبون أن يروك" ليست هكذا – ولم أر أحد بين هذا – ولكن لعل الصواب فيها "إن خلقي يحبون أن يروني"، ولهذا بين أبو يزيد كيفية الطريقة التي يمكن أن يرى الخلق فيها ربهم، وذلك بأن يرقى البسطامي إلى حد النيابة التامة عن الله تعالى صفة وشكلاً – تعالى الله.
2- وقال مرة: "سبحاني سبحاني".
وقال: ضربت خيمتي بإزاء العرش أو عند العرش.
3- واجتاز بمقبرة لليهود فقال:"معذورون" ومر بمقبرة للمسلمين فقال: "مغرورون".
4- وقال: يخاطب الله: كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
5- وقال: لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة.(3/112)
6- وقال: إلهي أن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي فيه – أى النار – حتى لا يسع معي غيري.
7- وقال: ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلنى لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان.
8- تلك بعض شطحات البسطامي، وهناك الكثير يوردها علماء الصوفية عنه بين مستحسن لها وبين مراوغ في معانيها( ).
أما الشبلي فهو الأخر له من الشطحات ما نذكر بعضه فيما يلي:
1- أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها فقال: "إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق".
2- وقال لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشتركاً.
3- وقال: أيش أعمل بلظى وسقر؟ عندي أن لظى وسقر فيها تسكن يعني في القطيعة والإعراض – لأنه من عذبه الله بالقطيعة فهو أشد عذاباً ممن عذبه بلظى وسقر.
4- وسمع قارئاً يقرأ هذه الآية: (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) ( )، فقال الشبلي: ليتني كنت واحداً منهم.
5- وقال: إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفؤها فصعب ذلك على جماعة ممن كان يسمع ذلك.
6- وقيل له: لم تقول: "الله"، ولا تقول "لا إله إلا الله"؟ فقال: استحى أن أواجه إثباتاً بعد نفي.. أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار( ).
وقال أبو الحسن النوري وقد سمع المؤذن طعنه وشم الموت وسمع نباح كلب فقال: لبيك وسعديك.
وسمع أبو حمزة الصوفي شاة مرغياً فقال:"لبيك يا سيدي".
وقيل للتلمسانى وقد أشاروا له إلى كلب أجرب ميت: هو ذات الله أيضاً؟ فقال: "وهل ثم شيء خارج عنها"( ).
وهذه العبارات إنما هي أمثلة قليلة وهناك آلاف الشطحات في حال سكرهم بالله كما يزعمون، والحقيقة أنها صادرة عن أناس يدعون الحلول والاتحاد وهم في كامل وعيهم وشيطنتهم، وعندهم تمام الجرأة على الكذب على الله لجهلهم به عز وجل وهوانهم عليه.(3/113)
وإذا رجع القارئ إلى كتاب الطبقات الكبرى للشعراني فسيرى العجائب والغرائب مما ينقله الشعراني عن أسياده الذين ترجم لهم مبتدئاً بقوله:"فقال سيدى.. رضي الله عنه – ثم ملأ كتابه بأخبار هؤلاء في شطحاتهم وفي تصرفاتهم بما يستحي الإنسان أن يقرأه أو ينظر فيه، شطحات تصل إلى عمق الكفر، وتصرفات من أولئك الأقطاب تصرخ بالعار والفجور، وقد ترجم لعدد كثير، فارجع إليه إن أحببت أن ترى مهازل الصوفية وسقطاتهم التي لا تقال".
وقد ترجم الشعراني لعدد كثير منهم، وزعم أنهم كلهم أقطاب التصوف، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنه حشر خيرة الصحابة رضوان الله عليهم بل جعل الخليفة الأول للمسلمين أبا بكر رضي الله عنه هو أول هؤلاء الأقطاب ثم عمر، إلى أن ذكر أيضاً كثيراً من خيار التابعين وعلماء الأمة الذين لا صلة لهم بخرافات الصوفية وخزعبلاتها، بل إن حشره لهؤلاء مع الحلاج والبسطامي والشاذلي والمرسي وغيرهم من عتاة التصوف يعتبر إهانة لهم.
وقد سار على نفس المنهج كثير من مؤلفي الصوفية، كما فعل نفس المسلك الذي سلكه الشعراني، المنوفي في جمهرة الأولياء، وقبلهم القشيري، وكل من جاء بعد هؤلاء سلك نفس ذلك المسلك الخاطئ.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس عشر
التكاليف في نظر الصوفية
يعتقد غلاة الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة أو خاصة الخاصة، ولذلك فإن لهم عبادات خاصة، ومناهج وطرق خاصة، ومفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيم العامة، خصوصاً بعد وصول أحدهم درجة اليقين – كما يزعمون – وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم، في الذكر والخلوة والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة.(3/114)
وقد يتفقون في بعضها وقد يختلفون، إلا أن كل صاحب طريقة يجعل على أتباعه أغلالاً وحواجز شديدة، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يغير طريقته بطريقة أخرى، وحتى مجرد الذكر إلا بإذن الشيخ وكل ذلك إنما يفعلونه كما يزعمون من أجل ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، ولاستمداد العلوم والمعارف عن الله رأساً على يد شيخ خوله الله ومنحه القدرة على ذلك.
وأما بالنسبة للتحريم والتحليل فأهل وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ إذ كان منهم الزناة واللوطية والملاحدة، ثم لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة.
وأيضاً لا يفعل هذه الأمور التي يعتبرها الناس فواحش بجسمه وروحه بل بجسمه فقط، وأما روحه فهي أجل من أن تتدنى إلى فعل هذه الأمور الجسيمة، وقد وجدوا من الناس الذين هم أضل من البهائم من يصدقهم في كل ما يصدر عنهم، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالي عن ما يفعله سائر الناس، والعقل من أجل نعم الله على الإنسان.
ثم اخترعوا مفهوماً ضالاً وهو أنه قد يصل الأمر أحياناً إلى حد أن للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقي شريعته الخاصة فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام.
ولذلك تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة من الفواحش والخروج عن تعاليم الإسلام ما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته.(3/115)
وما دام الشيخ الصوفي قد وصل إلى حد التلقي عن الله مباشرة واطلعه على كثير من أسرار هذا الكون وعرف الكثير من المغيبات فإنه والحال هذه ليس عنده طمع في جنة ولا خوف من النار، ومن هنا تنشأ الاستهانة التامة بجميع التكاليف الشرعية.
وقد تبجح الكثير منهم بأنه لا يعبد الله طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار؛ لأن هذه العبادة معاوضة والصوفي قد اتحد بالله وفني فيه لأجله لا لغرض آخر، والخوف من النار أيضاً طبع العبيد لا طبع الأحرار كما تبجح البسطامي بقوله السابق:"ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها، ما الجنة؟ لعبة صبيان"، وقول الشبلي: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفئوها".
فهم يزعمون أنهم يعبدون الله حباً في الله لا كما يعبده الخائفون من النار الطامعون في الجنة فإن عبادتهم إنما هي على سبيل العوض لا حباً في الله – وعلى هذا فإن من سبقهم من صالحي المؤمنين والأولياء من الصحابة وغيرهم بل والأنبياء كانت همتهم قاصرة عن إدراك هذا المعنى الذي اهتدى إليه هؤلاء!!
ومما يدل على تقدم ما نذكره فيما يلي من كلام الصوفية، حيث قسم المنوفي الناس بالنسبة لمراتبهم وقربهم وبعدهم عن الله تعالى ثلاثة أقسام تحت عنوان "حقيقة الطريق" فقال:
"إن هذا الطريق وهو السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى عند قطع المنازل والترقي في المقامات ينقسم بحسب اختلاف أحوالهم إلى ثلاثة أقسام لكل قسم منها طريقة:(3/116)
فالقسم الأول ذوو الامزجة الكثيفة والأفهام الضعيفة الذين يعسر عليهم محاولة التعلم من طريق التعليم , فطريقهم يستقيم بالعبادة والتنسك والزهادة والصلاة والصوم وتلاوة القرآن والحج والجهاد وغيرها من الأعمال الظاهرة، لأن هذه الطائفة لصلابة أبدانها وقوة أركانها تتحمل مشاق العبادة … والسالكون بهذا الطريق لا يزالون على هذه المناهج حتى يرقوا لأرفع المعارج ويقربون من مواطن تنزلات المعارف – وإذا وصلوا إلى هذا الحد –"، فحينئذ يكشف لهم عن سبحات المحبوب ويرون عجائب الغيوب ويتلقون عرائس الأسرار، وهذه الطرق صعبة جداً والواصل بها على خطر عظيم.
أما الثانية وهى طريقة أهل الخصوص وهم من ذوى الأفهام اللوذعية والأخلاق الرحبة والهياكل النورانية والنفوس الأبي، أولئك الذين قد لا يملكون نفوسهم في حال النزوات فطريقهم المجاهدات.. والسالكون بها لا يزالون يرتاضون في قلع ما انطبع في نفوسهم من الأخلاق الذميمة إلى أن تذهب تلك الطباع المكتسبة وترجع إلى فطرتها السليمة.
والقسم الثالث هم ذوو النفوس الرضية والعقول الزكية والفطرة الصديقية التي أبدان أصحابها في نهاية الاعتدال واللطافة، وطريقهم طريق المطلوبين إلى الله والطائرين إليه، وهي طريق المحبوبين المخطوبين من رب العالمين، وملاك السير بها صفاء القلب، وصدق الحب، والتحقق ظاهراً وباطناً جهراً وسراً بشعائر التصديق، فيخرج عن حوله وقوته وعقله وفطنته إلى حول الله وقوته"( ).
وقال أيضاً:"وبما أن التصوف هو زبدة الديانات ولبها وليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية كان لكل ديانة تصوفها"( ).وهذا الكلام فيه التصريح بأن التصوف لم يكن نبعه الإسلام فقط، وإنما هو زبدة الديانات أي أنه ملفق من ديانات شتى، وفيه أيضاً التصريح بأنه ليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية.(3/117)
والإسلام كما هو معلوم فيه بيان شامل لكل ما يحتاجه المسلم وهو نظام كامل، ولا يجوز تسميته مجرد تقاليد وطقوس، على أن القواعد الظاهرية نسبة إلى الظاهر يقصد بها قواعد الشريعة الذين يسميهم الصوفيون أهل الظاهر.
وقد فرق أيضاً بين الزاهد والصوفى:
بأن الزاهد هو الذي ينصرف عن الملاذ الدنيوية وينكر على نفسه جميع شهواته وإن أحلها الشرع، ويتحمل مرارة الجوع والعطش بصفة مستمرة وصوم دائم.. لا يفعل كل ذلك إلا طمعاً في ربح الآخرة والمكافأة بجنات النعيم.
وأما الصوفي فلا يرجو من ذلك شيئاً وإنما همة الوقت الحاضر وهدفه أن زهد وأن عبد معرفة الله والاتصال برضوانه"( ).
ومعنى هذا أن الجنة والنار لا قيمة لها في نظر الصوفي:
"لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء والشجاعة وذمهم أنفسهم عند أنفسهم"( )، وهذا الكلام فيه الاستهانة بشرائع الإسلام حيث فضل السخاء والشجاعة وذم النفس على الصوم والصلاة.
وقال أيضاً: "إن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي"( )، وهذه دعوى صريحة إلى التكاسل في الطاعات وتعريض بقلة فضل الصلاة.
وتتضح منزلة التكاليف عند بعض أولياء الصوفية عند الشعراني في تراجمه لكثير من أعلامهم بما لا يدع مجالاً للشك في إلحاد وزندقة هؤلاء الذين يسميهم أولياء ويترضى عنهم أيضاً.
وكمثال على ذلك ما أورده في ترجمته للشريف المجذوب حيث قال:
"وكان أصله جمالاً عند بعض الأمراء ثم حصل له الجذب … وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ويقول: أنا معتوق أعتقنى ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال، وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش فوجدوها حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار"( ).(3/118)
ومن أولئك الأولياء أيضاً بركات الخياط رضى الله عنه، كان رضي الله عنه من الملامتية … وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيدي أبي السعود الجارحي رضي الله عنه، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضو بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة , فقالوا له: نصلي الجمعة فقال: مالي عادة بذلك.
فأنكروا عليه فقال: نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر منها، ثم وقع في مشخة حمير ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ الذي جاء بهم إلى هذا الرجل، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبداً … وله وقائع مشهورة رضي الله عنه"( ).
وأمثلة أخرى كثيرة يوردها الشعراني تدل على مدى استهتار هؤلاء الأولياء – حسب زعمه – بالأخلاق والدين والتكاليف، فقد ذكر عن علي وحيش ما يخجل القلم من كتابته ويتلعثم اللسان من النطق به( )؛ من الأعمال الفاحشة والزنا وفعله بالبهائم وصاحبها قائم أمامه، وإن لم يرض تسمر في مكانه كما يذكر الشعراني.
ويبدو أن للكشف الصوفي علاقة قوية بترك التكاليف على حد ما أورده عنهم الشيخ سعيد حوى في قوله:
"يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب – وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن – سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأتِيَكَ الْيَقِنُ ( ( )"( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس عشر
الأذكار الصوفية
أم الأذكار الصوفية فحدث ولا حرج عن خرافتهم فيها، وقد قدمنا من الأمثلة ما يوضح حال هؤلاء ومدى ما وصلوا إليه من الجهل بربهم والبعد عن هدى خير الأنام، هذا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(3/119)
لقد اخترعوا أذكاراً وشرعوا أوراداً ما أنزل الله بها من سلطان، بل اشتملت على الكفر والزندقة في كثير منها والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما اشتملت على كلمات سريانية غير معروفة المعنى وعلى رموز وحروف مقطعة لا يعرف المراد منها.
وكل صاحب طريقة له أذكار هي أفضل من كل ذكر، وأجرها أعظم من كل أجر، وما عداه باطل حسب تخرصاتهم في كل ذلك، ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيءٍ}( )، فهم متفرقون قد لا يجمعهم إلا الاتفاق على الرقص وادعاء الوصول إلى الله ومكالمته ورفع الغير والغيرية بينة وبينهم.
مع أن كل صاحب طريقة يدعى أنه يأخذ تلك الأذكار مباشرة عن الله عز وجل أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقظة لا مناماً كما يزعمون، وفضلوها تفضيلاً عالياً ليرفعوا شأنها في نفوس أتباعهم ومريديهم على القرآن والسنة والأدعية المأثورة، ويطول البحث لو أردنا ذكر نماذج من تلك الطرق المختلفة والأذكار المتباينة فيما بينها.
فمنها الأذكار التجانية التي سبق ذكرها، ومنها أذكار البسطامي والرفاعي والجيلاني والشبلي وأبو العباس المرسي وآخرين كثيرين، ومنها أذكار الطريقة الشاذلية التي زعم أصحابها أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخضر هما اللذان علما الشيخ أحمد الإدريسي، حيث ذكر تلميذه صالح محمد الجعفري ذلك في كتابه مفاتيح كنوز السموات والأرض المخزونة التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة( ).
وهي أذكار في غاية الركاكة والكذب على الله وعلى الرسول والاعتداء في الدعاء على حق الله ورسوله، ولم يكتف هؤلاء بادعائهم أنهم يأخذون أذكارهم عن الله ورسوله فقط، بل هناك كما يذكرون بعض الأولياء الذين قد ماتوا هم أيضاً يلتقون ببعض المشائخ الأحياء ويعلمونهم أدعية وأوراداً لا حد لأجر من يقولها.(3/120)
ولو كان الذكر كلاماً لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة من مثال ما ذكروه عن الدسوقي أنه علمهم هذا الدعاء: "بسم الله الخالق يلجمه بلجام قدرته أحمى حميثاً أطمي طميثاً وكان الله قوياً عزيزاً حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا... "( ) إلى آخر الذكر الذي يدل على مدى ضحالة معرفتهم بالله ورسوله و عدم التفاهم إلى ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الدعاء الواضح المثمر في قلب العبد إذا دعا ربه بإخلاص وتوجه.
وقد ذكروا من الأجر لقائل أذكارهم الجوفاء ما لا يحد ولا يعد ولا يتصور في الذهن، وقد يبدو على تلك الأدعية حرارة الإيمان وصدق الالتجاء إلى الله تعالى، ولكنه في الحقيقة ليس موجهاً إلى الله فقط بل إلى أوليائهم الأحياء أو الأموات أيضاً.
ومدار أذكارهم على الإثبات كما يزعمون، فهم يقتصرون على لفظة "الله" بدلا عن لا إله إلا الله يعللون لهذا المسلك بما لا مقنع فيه حتى للجهال العامة فضلاً عن أهل العلم، حيث يقولون: إن اقتصارهم على لفظة "الله" وتكرارها خوفاً أن يموت الشخص عند ذلك النفي في قول "لا إله".
ولا ندري كيف يقرءونها في القرآن {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، وماذا يفعل المؤذن، وماذا يفعل الداخل في الإسلام عندما ينطق الشهادتين، وأمور أخرى لا يستطيع العقل أن يتصور مدى التخبط الذي حل بهؤلاء.
ومن غريب أمر الصوفية في أذكارهم أنهم رتبوها على طريقة شيطانية من وحي شياطينهم، حيث جعلوا لكل اسم من أسماء الله تعالى ذكراً خاصاً به، ولطبقة خاصة به، فمن ذلك زعمهم أن اسم الله العفو يليق بأذكار العوام، لأنه يصلحهم وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره.(3/121)
أما اسمه تعالى الباعث فإنه يذكره أهل الغفلة ولا يذكره أهل طلب الفناء، وأما اسمه الغافر فيلقن لعوام التلاميذ وهم الخائفون من عقوبة الذنب، وأما من يصلح للحضرة الإلهية فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة، وأما اسمه تعالى المتين فإن ذكره يضر أرباب الخلوة وينفع أهل الاستهزاء بالدين.
وهكذا استمر السكندري في وصف أسماء الله وخواصها، وكأنما هو طبيب يصف العلاج ومنافعه، وقد تقدم ذكر الطريقة التجانية، ونضيف هنا ما استخلصه الشيخ عبد الرحمن الوكيل في بيانه لكيفيات الذكر الصوفي ومراحله، فنوجز ذلك فيما يلي (بتصرف):
إذا جاء وقت المولد - الأعياد الوثنية - يجتمع الرجال والنساء أو الدراويش والدرويشات كما يحبون تسميتهم بذلك.
بعد أن يتخموا بطونهم بأنواع المأكولات التي تقدم في هذه المناسبة يقوم الشيخ الكبير ويصفق بيديه اللامعتين من "دسم الحرام" إيذاناً ببدأ الذكر.
يخرج من شفتيه ومنخريه اسم الله ملحداً في حروفه وفي النطق به.
يقوم المتغزلون بإنشاد قصائد غزلية تلهب المشاعر، ويصاحبهم المطبلون وأصحاب الآلات المطربة.
ثم يهب الشيخ ويهب معه المريدون يتمايلون يمنة ويسرة في حركات مثيرة صاخبة كل ينوح على ليلاه _ والآهات والزفرات والقبل، كما رأيتهم بعيني( )- هي الشعار العام لهم،وكل واحد من الحاضرين يبذل أقصى جهده في إظهار أقوى الحركات والحماس ليلفت الأنظار إليه.
على الحاضرين أن يستحضر كل واحد منهم صورة شيخه أمامه إن لم يكن موجوداً، أو يستمد منه العون في بدء قيامه بهذا الذكر قائلاً: مددك يا أستاذي، ثم يستأذن أصحاب الطريق والقدم فيقول: دستور يا أصحاب الطريق والقدم.
ينبغي على كل واحد أن يلتزم بطريقة الذكر، وهي كما يلي:
أن يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه.
أن يبدأ بـ (لا) يميناً ويرجع بـ (إله) فيتوسط، ثم يختم (إلا الله) يساراً قبلة القلب.
إذا ذكر اسماً مفرداً مثل الله، أو هو، أو حيّ لابد أن يضرب بذقنه على صدره.(3/122)
في كل ذلك يجب أن ينتع الكلمة من سرته إلى قلبه ثم يستمر هكذا في هذه الصور البهلوانية التي هي أقرب إلى الجنون والعربدة منها إلى أقل التفات إلى الله تعالى أو ثوابه وعقابه.
يجب ملاحظة أن المريد لا يدعو بأي اسم لله إذا سمح له به الشيخ وإلا حصل عليه ضرر شديد.
ثبت أن تلك الطريقة الصوفية في الدعاء أخذت بتمامها عن اليهود، حيث جاء ذلك في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة في العهد القديم وهو:
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود ليرنموا، هللوا يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوع الهتاف"( )
ولقد ذكر ابن عطاء الله السكندري أدعية عن مشائخه وأسياده في الطريقة طويلة مملة ممجوجة، مملوءة بالتنطع والتعدي في الدعاء والإشعار بكبريائهم وعتوهم وطلبهم الحلول والاتحاد به، منه دعاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وفيه:
"يا عزيز يا رحيم... وأسقط البين بيني وبينك حتى لا يكون شيء أقرب إلي منك... اللهم هب لي النور الذي أرى به رسولك صلى الله عليه وسلم ما كان ويكون، اللهم ارزقني من كنز لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، واضربني بها ضرباً تمحق بها من قلبي كل قوة. باسم المهيمن العزيز القادر أجل كل شيء وهو ناصري ق.ج ن ص انصرني"( ).
ونفس الدعاء السابق أيضاً كان يدعو به القطب الكبير أبو العباس أحمد المرسي، بل وزاد عليه أشياء أخرى ومنه:
"اللهم اهدني لنورك... وهب لي علماً يوافق علمك... وارفع الحجاب فيما بيني وبينك، وأسقط البين عني حتى لا يكون شيء بيني وبينك، واكشف لي عن الحقيقة الأمر.."، إلى أن قال: "كيف يكون ذنبي عظيماً مع عظمتك أم كيف تجيب من لم يسألك وتترك من سألك؟
إلهي جذبك لي أطمعني فيك...قاف جيم سران مع سرك هب لي من نورك ما أتحقق به حقائق ذاتك"( ) الخ.
ثم أورد السكندري دعاء حزب شيخه الشاذلي، وفيه:(3/123)
"لا إله إلا الله نور عرش الله، لا إله إلا الله نور لوح الله، لا إله إلا الله نور قلم الله، لا إله إلا الله نور رسول الله"، ثم كرر الدعاء على الصفة إلى أن قال:
"وتالله لئن لم ترعني بعينيك وتحفظني بقدرتك لأهلكن نفسي ولأهلكن أمة من خلقك.. يا من به ومنه وإليه يعود كل شيء أسألك بحرمة الأستاذ، بل بحرمة النبي الهادي، بل بحرمة السبعين والثمانية.. اللهم صلني باسمك العظيم الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، وهب لي من سراً لا تضر منه الذنوب شيئاً.. واجعلني خزانة الأربعين"( ).
إلى آخر ما ورد من أذكار لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي سراب يحسبه الظمآن ماءً.
ومنهم من يدعو بهذا الدعاء بدلاً عن سبحان الله وبحمده، لا إله إلا الله، بدلاً عن ذلك يدعو بهذا الذي تقشعر منه الجلود وتشمئز منه النفوس وهو من أدعية الطريقة الشاذلية.
"سقفاطيس، سقاطيم آمون قاف آدم حم هأ آمين كد كد كردد ده بها بهيا بهيا بهيهات لمقفنجل يا أرض خذيهم"( )، نعم يا أرض خذيهم إنها مأساة حقيقية حين توجد تلك الأذكار الجوفاء ثم يتبعها الوجد والرقص والطبول والزغاريد كما نبينه فيما يلي:
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع عشر
الوجد والرقص عند الصوفية
لقد كان للغرام العارم والرقص والتمايل عند الصوفية مكانه ثابتة بل هذا النوع صار من أقوى الشبكات التي يصطادون بها من قلت معرفتهم بالدين الإسلامي الحنيف، وحقاً إنه نوع من الخلل في السلوك والاضطراب الذهني حين يعبدون الله بالرقص والحركات التي لا تمت إلى عبادة الله بأية صلة إلا كما تمت إليها عبادة اليهود من قبل حين حثتهم التوراة _ المحرفة _ العهد القديم _ المزامير على وجوب التسبيح لله بالدف والمزمار والعود والربابة.(3/124)
وعند الصوفية في أوقاتهم الخاصة مجالس يجتمعون فيها على الرقص والغناء والتصفيق والصياح بأصوات منكرة يمزقون فيها ثيابهم ويتمايلون حين يأخذ منهم الطرب مأخذه في حركات بهلوانية لا يفهم منها أي إشارة إلى الخوف من النار أو الرغبة في الجنة.
وقد أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بمولد بعض كبارهم أو في أية مناسبة من مناسباتهم الكثيرة، يحضر عازفون وموسيقيون ويختلط بعضهم ببعض رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ويجلس في هذه المناسبة كبار الأتباع يتناولون ألواناً من شرب الدخان، وكبار أئمتهم يقرءون عليهم بعض الخرافات المنسوبة لمقبوريهم( ).
والغناء الذي يترنمون به يشتعل حباً وعشقاً وغراماً وقصائد وجد وحزن، فإذا سئلوا عن ذلك زعموا أنها من الطرق التي توصلهم إلى ربهم، أو هو الحب الإلهي كما يسمونه لترغيب الناس فيه. وهذه الصور البهلوانية الرعناء هي صورة الذكر.
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة يفعلون مثل هذا التنطع المذموم، وهل مثل تلك الحركات تشير إلى الخشوع لله تعالى والسكينة في العبادة من قريب أو من بعيد، وهل ذلك الاختلاط والتمايل يمكن أن يكون بعيداً عن الشيطان. إنها مهازل وسخرية بدينهم ومع ذلك فهم يتلمسون لهم الأدلة التي يجادلون بها مهما كان سقوطها.
أدلتهم على جواز ذلك والرد عليها:
وهكذا لم يكتف هؤلاء بتلك المسالك التي غلوا فيها إلى أن أخرجوا بعض عباداتهم في صور غنائية ورقص، بل حاولوا كذلك أن يجدوا لتلك الأفعال أدلة لمشروعيتها، ومن ذلك:
زعمهم أن سلمان رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين)( ) صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هارباً ثلاثة أيام.
ومن ذلك أيضاً احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب عليه السلام: (اركض برجلك)( ).(3/125)
ومنها قول الرسول( لعلي: "أنت مني وأنا منك" فحجل، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" فحجل.
ومنها احتجاجهم لسماع الرسول ( جاريتين تغنيان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى بثوبه، فجاء أبو بكر فانتهرهم، فنهاه الرسول ( وقال: "دعهما فإنها أيام عيد".
ومنها أن الحبشة زفنت والنبي ( ينظر إليهم.
واحتج أبو عبد الرحمن السلمي على جواز الرقص بما روي عن الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى في دار العاص بن وائل بهذين البيتين:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة عطرات
فلما رأت ركب النميري أعرضت وهن من أن يلقينه حذرات
قال فضرب برجله الأرض زماناً وقال: هذا مما يلذ سماعه.
ومنها أن عمر رضي الله عنه كان ربما مر بآية في وردة فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضاً.
ومنها أن الرسول ( قال في حق أبى موسى: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود " ومنها استحسان الرسول شعر النابغة حتى قال له: "لا يفضض الله فاك"، ووضعه أيضاً المنبر لحسان يقول عليه الشعر في هجاء المخالفين للرسول (.
ومنها أن بعض الصالحين رأى الخضر وسأله عن السماع الصوفي فقال له: ذلك هو الصفاء الزلال.
ورأى أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن سماع الصوفية فقال له الرسول: ما أنكره، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختتمون بعده بالقرآن..
ومنها أن الخضر تواجد حتى سقط على جبهته وصار الدم يقطر منها ولا يقع على الأرض، حين سمع أبياتاً من الشعر قالها شخص بحضرته، ذكرها السهروردي.
ومن أدلتهم أن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهو يقول له كلاماً والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع يده على صدره كالمتواجد بذلك.(3/126)
ثم أورد السهروردي أدلة كثيرة عن بعض الصوفيين في حال تواجدهم؛ بعضهم مشى على الماء، وبعضهم لم يحترق بالنار، وبعضهم يرتفع أذرعاً عن الأرض، إلى أن، ختم السهروردي أدلته – وهى كثيرة بزعمه – بهذه القصة، وهي أن أعرابياً أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد لسعت حية الهوى كبدى فلا طيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، ثم قسم رداءه بينهم، حيث مزقه إلى أربعمائة قطعة( ).
تلك أهم الحجج التي يتمسك بها الصوفيون في مشروعية لهوهم وتواجدهم، فما مدى صحة استدلالهم، وهل ما ذكروه من تلك الروايات كلها صحيحة، أو هل كان فهمهم لها فهماً صحيحاً؟
والجواب عن هذه الاحتجاجات يحتاج إلى دراسة ووقت، ولكن أكتفى هنا بإيجاز الرد عليهم في دفع حججهم وأدلتهم بأنها احتجاجات واهية وتلفيق غير مقبول ومزاعم لا صحة لها:
*فأما ما رووه عن سلمان فإنه كذب، ومحال كذلك، فقد رويت هذه القصة بلا سند. ثم إن الآية نزلت بمكة بالاتفاق كما قال القرطبي، وسلمان إنما أسلم بالمدينة كما هو معلوم.
ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي أشد النهي عن مثل هذه الأمور المنافية للوقار والخشوع، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبغض الصياح أو إظهار التخشع عند سماع القرآن أو المواعظ إلا في الحدود المشروعة، ومن ذلك ما رواه أنس قال: "وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فإذا برجل قد صعق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذا الملبس علينا ديننا إن كان صادقاً فقد شهر نفسه وإن كان كاذباً فمحقه الله"( ).
وقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يخشعون تمام الخشوع، فتذرف عيونهم وتخاف قلوبهم، ولم يصعق أحد منهم وهم أعرف بالله من غيرهم وأتقى له وأكثر انقياداً وقبولاً للحق تمسكاً به، ولو كان ذلك الوجد والهيام والصعق خير لما سبقهم أحد إليه.(3/127)
*واما احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب: (اركض برجلك) ( ) فهذا احتجاج يدل على جهل صاحبه بحقيقة حال أيوب المبتلى بما لا يصبر عليه أحد إلا من أعانه الله وقوى يقينه، فإنه يقال لهذا المحتج: إن الله لم يأمر أيوباً بضرب رجله فرحاً وطرباً.
وإنما أمر بضرب رجله من باب فعل الأسباب إكراماً من الله تعالى له، ثم إنه لم يركض برجله ابتداء وإنما تنفيذاً للأمر، وكذلك لإشعاره بتغير الحال، ولحكم أخرى لا يعلمها إلا الله تعالى ليس منها جواز الرقص، ولم يك حاله يستدعي أن يضرب برجله الأرض تواجداً وطرباً إلا عند الجفاة.
*وأما احتجاجهم بحجل على و جعفر وزيد، فإن الحجل هو نوع من المشي يفعل عند الفرح وارتياح النفس أحياناً ليعبر الشخص به عن فرحه دون قصد الرقص والتمايل، والصحابة هؤلاء لم يكن منهم رقص ولا تمايل ولا إنشاد قصائد الغزل المهيجة، فليس فيه دلالة على ما يريد المتصوفة، وما فعله هؤلاء الصحابة إنما كانت حالة عارضة لا قصد لهم فيها لإظهار الطرب والتواجد.
*وأما احتجاجهم بزفن الحبشة فإن الزفن أيضاً نوع من المشي مع الرقص ويشير كذلك إلى الاعتداد بالنفس، وأكثر ما يفعل عند اللقاء في الحرب إظهاراً للشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، وليس المقصود منه الرقص والطرب كما يرى الصوفية.
*وأما ما ذكروه عن سعيد بن المسيب – رحمه الله – فإنه مكذوب عليه، وليس هذا شعره، وهو أوقر من أن يصل إلى هذا الحد.
*وهذه الأبيات فيما يذكره الأدباء قالها محمد بن عبد الله بن نمير الشاعر الثقفي، يتغزل فيها بزينب بنت يوسف الثقفي أخت الحجاج. وقد هرب بعد ذلك إلى عبد الملك خوفاً من الحجاج، فسأله عبد الملك بن مروان عن الركب ماذا كان؟ فقال له: كانت أحمرة عجافاً حملت عليها قطراناً من الطائف، فضحك عبد الملك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه.(3/128)
ثم لو قدرنا أن ابن المسيب ضرب برجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص، ولا أنه ضرب بها وهو يريد الرقص، فإن الإنسان قد يضرب برجله الأرض أو يدقها لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصاً منه، بل إن الإنسان قد يضرب برجله الأرض إما فرحاً وإما غضباً وإما غيظاً( ).
*وأما احتجاجهم بسماع الرسول للجاريتين فهو استدلال غريب منهم على جواز الرقص والتمايل والتواجد؛ ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسجي بثوبه، وهم حينما يتواجدون لا يتدثرون بثيابهم، بل تعلو همتهم ويشتد عراكهم ويمزقون ثيابهم، فأين فعلهم من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟.
*كذلك فإن الجاريتين كانتا تنشدان كلاماً ليس فيه غزل أو تشبيب أو خروج عن حد الوقار والأدب، وكان الحال يستدعي الترويح عن النفس، خصوصاً وأنه يوم عيد وعائشة رضي الله عنها كانت جارية شابة.
*وأما استدلالهم بما ينسبونه إلى عمر رضي الله عنه من أنه كان يلزم البيت اليوم واليومين حينما يسمع بعض الآيات في ورده؛ فإنه لم يعرف أن الصحابة كانت لهم أوراد يرددونها على طريقة الصوفية، بل ولم يعرف عنه أنه يمرض اليوم واليومين بسبب ما يسمعه من بعض الآيات، لا هو ولا غيره من الصحابة.
*وأما استدلالهم بحسن صوت أبى موسى فليس فيه دليل على الوجد الصوفي، وإنما هو إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك النعمة التي أعطيها أبو موسى، فهل كان الصحابة يرقصون على سماع قراءته أو يصعقون أو يمزقون ثيابهم؟ كلا.
*وكذلك استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الكلام أو الشعر ليس فيه دلالة للصوفية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحسن أشياء ويستقبح أشياء، وهذا أمر طبيعي في النفوس.
*وأما ما يحشده أقطاب التصوف من الأدلة بالرؤى المنامية أو بمقابلتهم للخضر، فإنها أدلة باطلة، حتى ولو كان الرائي ثقة، فإنه لا يتعبد برؤياه فما بالك وتلك الرؤى الصوفية عن مجهولين، إضافة إلى التكليف الظاهر في رواياتهم.(3/129)
*وزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطرب ويتواجد ويضرب بيده على صدره ويمزق ثيابه ويعطيها لأصحابه كله كلام يدل على عدم احترامهم للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم معرفة قدرة العظيم. فهل كان يصل به التواجد إلى حد أن يسقط رداءه عن منكبيه من سماع تلك الأبيات الفارغة: قد لسعت حية الهوى كبدي …؟
*وما ذكره السهروردي من أن بعض أقطاب التصوف يكاد أن يطير أو يرتفع من الأرض أذرعاً أو يدخل الشمعة في عينه أو يطأ النار ولا يحس بها أو يمشي على الماء أو غير ذلك من الحركات البهلوانية العشوائية التي يفعلها هؤلاء، فلا ريب أنها من أقوى الدلائل على تلاعب الشياطين بهم وإخراجهم عن حد الاعتدال الذي أقل ما يوصف به أنه ينافي الخوف من الله تعالى والرغبة في المغفرة.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن عشر
الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية
للأولياء الحقيقيين كرامات لا تنكر، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من الكرامات ما هو جدير بهم، وكان لغيرهم من الأولياء والعلماء كرامات كثيرة، وهدفنا هنا من ذكر الكرامات وخوارق العادات هو بيان تلك الكرامات والخوارق التي تتم على أيدي أناس ليسوا من أولياء الله، وليس لهم صلاح يؤهلهم لذلك.
وبيان أن ذلك من مكائد الشيطان وتلبيسه على الناس بأن يظهر لبعضهم أموراً غيبية تبدو كأنها كرامات من الله للشخص فيتخيل أنه بلغ منزلة عالية فاق فيها غيره من الناس، وأنه أصبح يماثل الأنبياء في كراماتهم وقربه من الله. وهذه الحال كثيرة الوقوع لمن يدعون أنهم أولياء لله، وأكثرهم في الحقيقة أعداء له وموالين لشياطينهم.(3/130)
ومن تلاعب الشياطين بهؤلاء: أن يسمع أحدهم صوتاً من حجر أو شجر أو صنم يأمره وينهاه بأمور في بعضها الشرك بالله فيظن المغرور أن الله خاطبه أو , الملائكة على سبيل الكرامة، ومعلوم أن الله لا يأمر بالفحشاء، والملائكة لا تأمر بالشرك بالله وإنما أولئك هم الشياطين يلبسون عليهم أمورهم كما كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام أيضاً.
وقد يظن هؤلاء أن ذلك وحى من الله عليهم كما حصل لكثير من الذين قلت معرفتهم بالله كالمختار بن أبى عبيد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذاب ثقيف وغيره ممن استهوتهم الشياطين.
ومنها: أن الشياطين قد تتمثل بصورة المستغاث به من الناس فيظن المشرك بالله أن هذه الصورة هي الشيخ الفلاني أو الولي الفلاني، أو أن ملكاً جاء على صورته، وإنما هو في الحقيقة شيطان تمثل له ليضله.
ومنها: أن تخاطب الشياطين بعض العبَّاد الجهال، ويوهمونه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغرونه بزخرف القول وشتى الوساوس حتى يصدق نفسه فيدعي المهدية وغير ذلك.
بل يبلغ الحال ببعضهم أن يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة وأنواراً وأشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة بين يدي الله تعالى وأن الله كشف له النظر إليه.
وهذا يتطلب من المؤمن العاقل التنبه لمثل المكائد الشيطانية بلجوئه إلى الله والاهتداء بهدية، وسوء الظن بنفسه الأمارة بالسوء، وأن ينظر إلى نفسه من باب الذل والاحتقار والحاجة إلى ربه، ويزن أعماله بامتثاله أوامر الله واجتنابه نواهيه، فيحكم على نفسه عند ذلك بالتقصير أو القرب من الله تعالى.
ويكبح جماح نفسه الأمارة بالسوء، وأن لا يصدق ما يتراءى له من كرامات تنافي الإسلام، مثل أنواع الكرامات التي تبجح بها بعض غلاة الصوفية لأنفسهم كما ذكرها المناوي، وهي:(3/131)
إحياء الموتى. وقد مثل بأبي عبيد اليسري الذي أحيا دابته بعد ما ماتت، ومفرج الدماميني الذي أحيا الفراخ المشوية، والكيلانى وأبو يوسف الدهمانى الذي أحيا لتلميذه ولده بعد ما مات.
ومن الكرامات التي يزعمونها أن الأولياء من الصوفية لهم القدرة على المشي على الماء وكلام البهائم وطي الأرض وظهور الشيء في غير موضعه والمشي على السحاب وتحويل التراب إلى خبز وإبراء الأكمه والأبرص.
ويذكر علي حرازم منهم أن الولي يملك كلمة التكوين فإذا أراد شيئاً فإنه يقول له كن فيكون. وقد ذكر أمثلة كثيرة في كتابه جواهر المعاني لمثل هذا الخلط والكذب على الله وعلى الناس.
ومن المعجزات والكرامات التي يملكها الأولياء من الصوفية – حسب زعمهم – سماع نطق الجمادات، كما يزعم ابن عربي الذي ملأ كتبه بأنواع الأكاذيب حول تلك المعجزات والكرامات الصوفية.
ضمانة الجنة لمن أطعم صوفياً أو قضى له حاجة؛ كما ضمن ذلك التجاني لكل من أحبه أو أطعمه أو أحسن إليه بأي شيء كما يذكر التجانيون في كتبهم افتخاراً بكرامات سيدهم التي منها هذه الكرامة التي أكدها علي حرازم والفوتي نقلاً عن التجاني.
وكل تلك الكرامات أشبه ما تكون بأحلام الصبيان أو صراعات المجانين، وتكذيبها والسخرية بها لا تحتاج إلى ضياع الوقت في الاشتغال بالردود عليها وبيان سخافتها ودجل من يدعيها ممن جرؤ على الكذب على الله وعلى الناس وضللوا أتباعهم وأخرجوهم عن الإسلام من حيث لا يشعر أولئك الأتباع، لأنهم أصبحوا كما قال الله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) ( ).
وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة من كلام أقطاب التصوف في الكرامات التي يزعمونها لأنفسهم أو لأوليائهم لترى مدى بعد تلك العقول عن الحق والأفكار الرديئة التي انطوت عليها الزعامات الصوفية.(3/132)
يقول عبد الكريم القشيري عن كرامات أبى الحسين النوري أنه قال: "كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي، قال فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال"( ).
فهذا جاهل بحق ربه وأراد أن يقتل نفسه: وقد صادف ما قدره الله له – أو كان بفعل الشيطان ليغويه – أن خرجت له تلك السمكة، ومهما كان فإن هذا المسلك لم يكن من مسلك الأولياء على هذا النحو، وقال عنه:
"وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق".
وقد فسر ذلك العروسي فقال: "أي التقى له الشطان بحيث لو مد رجله كان على الشط الآخر، فانصرف وقال تأدباً واعترافاً بتوالي نعم الله عليه في كل خارق: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق كسائر الناس"( ).
فكيف يكون الأدب مع الله أن ترد مكرمته إلا عند القشيري والنوري، وقال أبو الحارث الأولاشي: "مكثت ثلاثين سنة ما يسمع – أي ينطق – لساني إلا من سري ثم تغيرت الحال فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي".( )
"وكان يحيى بن سعيد يتعبد في غرفة ليس إليها سلم ولا درج، فكان إذا أراد أن يتطهر يجيء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويمر في الهواء كأنه طير ثم يتطهر فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته"( ).
وقال أبو يعقوب السوسي: "جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفِّنِّي بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد وطاف بالبيت ثم تباعد ومات، فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه فقلت أحياة بعد موت؟ فقال أنا حي وكل محب لله حي"( ).(3/133)
وأما بالنسبة للخضر فحدث ولا حرج لقد ملأ الصوفيون كتبهم بحكايات عن الخضر لا حد لها ولا حصر إذ لا يخلو كتاب من كتبهم من نسج القصص والأساطير عليه، ومفادها أن الخضر يجيب كل من يستغيث به في أي بلد كان.
ويذكر القشيري أنه حدث ابن أبى عبيد اليسري عن أبيه أنه غزا سنة من السنين فخرج في السرية فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعنى قريته فإذا المهر قائم … إلى آخر القصة.
ومثل هذه القصة قصة أخرى وقعت لأحد الأولياء ذكرها أبو سبرة النخعي( )، وذكر السكندري أنواعاً من الكرامات التي تحصل للولي فقال:
"ثم إن هذه الكرامات قد تكون طياً للأرض ومشياً على الماء وطيراناً في الهواء واطلاعاً على كوائن كانت وكائن بعد لم تكن من غير طريق العادة وتكثير الطعام أو الشراب أو إتياناً بثمرة في غير إبانها، وإنباعاً ماء من غير حفر أو تسخير حيوانات عادية، أو إجابة دعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبر عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة، أو إثمار لشجرة يابسة ما ليس عادتها أن تكون مثمرة له"( ).
ونقل عن المرسي قوله: "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: جلت في ملكوت الله فرأيت أبا مدين متعلقاً بساق العرش وهو رجل أشقر أزرق العينين.. الخ"( ).
وذكر السكندري عن الصوفي القرشي أنه جاءه الخضر بزيتونه من نجد وكان به مرض الجذام فقال له: كل هذه الزيتونة ففيها شفاؤك، فقال له: اذهب أنت وزيتونتك لا حاجة لي بها( ).
ثم شرع السكندري كغيره من علماء الصوفية في ذكر فضائل الخضر وأفعاله مع الأولياء الصوفية وأورد قصصاً في ذلك كثيرة ورد على الذين ينكرون وجوده بدليل أن إبليس موجود الآن فلا ينبغي جحد وجود الخضر وهذا الدليل من أبعد ما يكون عن الصواب، لأن وجود إبليس بنص القرآن والسنة، وجود الخضر إلى الآن لا دليل عليه لا عقلاً ولا نقلاً.(3/134)
وكرامات كثيرة يذكرها السكندري لمشائخه لا يصدقها عاقل نترك ذكرها هنا، ومن أراد الإطلاع عليها فليرجع إلى كتاب السكندري "لطائف المنن"؛ حيث ملأه بكرامات وبشطحات أولئك المشائخ بما لا يجرؤ أي مسلم يخاف الله أن يتطاول على الله وعلى رسله ولو بأقل من تلك الشطحات الخرقاء من دعوى علم الغيب بكل شيء في هذا الكون مهما كان حقيراً في ليل أو نهار، ومن دعوى الاتحاد بالله ومجالسته، ومن دعوى مصاحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ومن دعوى مشاهدة الجنة دائماً، وأشياء أخرى حين يقرأها المسلم يقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
ومثل ما خاض فيه السكندري خاض فيه أيضاً الشعراني، ولا أرى أن المقام يسمح بذكر نماذج من تلك الكرامات الخيالية التي زعمها الشعراني لأقطاب التصوف الذين ترجم لكل واحد منهم وجاء في تراجمهم بما لا يقوله إنسان سليم الفترة سليم العقل عنده أدنى معرفة بالدين الإسلامي.
إنها جرائم حشدها الشعراني في طبقاته على أنها كرامات لأولئك الذين زعم كذباً أنهم أولياء أقل ما فيها الاستهانة بجرائم اللواط والزنا والشذوذ الجنسي _ كما يسمى في عصرنا _ ومن غريب أمره أنه يذكر الشخص منهم ثم يأتي في ترجمته وكراماته بما ينكس الرأس حياء ثم يختمها بقوله عنه _ رضي الله عنه _.
ولو أن هؤلاء الصوفية من أمثال ابن عربي والمنوفي والسهروردي والشعراني والسكندري وعلي حرازم والفوتي ذكروا كرامات قليلة وفيها نوع من التعقل لكنت نقلتها هنا ولكن لا حيلة في ذلك وكتبهم كلها مملوءة بكرامات كل واحدة تعلن أختها( )، ومن هنا أعرضت عن ذكر ذلك وكنت مثل خراش الذي قال فيه الشاعر:
تكاسرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
على أن بعض تلك الكرامات لا تستحق أن تذكر لأحد؛ إذ فيها الاستهانة بالأخلاق والآداب العامة، وفيها التشجيع على اللهو والفسق.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع عشر
تراجم زعماء الصوفية(3/135)
للصوفية زعماء كثيرون ليس من السهل حصرهم وذكر تراجمهم غير أننا نحيل من أراد التوسع في تراجمهم إلى كتب الصوفية أنفسهم.
وقبل إيراد بعض تلك الكتب أحب التنبيه إلى أن بعض علماء الصوفية حينما كتبوا تراجم لمشاهيرهم وأسلافهم ارتكبوا جرماً في حق الصحابة رضوان الله عليهم وفي حق غيرهم من خيار المسلمين وعلمائهم، حيث حشروهم في سلسلة واحدة مع كبار غلاة وفساق الصوفية الذين وصل بهم الاستهتار بأخلاق وبأمور الدين الشرعية وبالآداب الإسلامية، بل والعرفية إلى حد يستحي الإنسان من ذكرها، وأعمال لا يتصور وقوعها من جهال المسلمين، فما الظن بطلاب العلم، بل وما الظن بأولياء الله؟
وكنت قد جمعت عدة أوراق في تراجم أقطاب التصوف، ولكني رأيتها أليق بكتب التاريخ وتطول بها هذه الدراسة فاكتفيت بذكر بعض المراجع التي اهتمت بدراسة شخصيات علماء التصوف ونقل أخبارهم وشطحاتهم وكشوفاتهم ومنزلتهم عند الله وعند الناس، وما آل إليه أمر كل واحد منهم، ومن أهم تلك الكتب:
الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي 471-465هـ،وهي مجلدان، خصص المجلد الأول من ص61 إلى آخره لتراجم مشائخ التصوف، ابتدأه بهذا العنوان: "فصل في ذكر مشائخ هذه الطريقة وما يدل من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة"( )، ثم ذكر تراجم لثلاثة وثمانين شخصاً من كبار زعماء التصوف.
الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار تأليف عبد الوهاب ابن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني. ظهر في القرن العاشر الهجري.
والطبقات مجلدان خصصهما لتراجم كبار علماء الصوفية من رجال ونساء،
وقد ترجم لأربعمائة وأربعة وعشرين شخصاً، بإضافة مشائخه وعددهم 87 شخصاً، وقد بدأ تراجم هؤلاء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وختمهم بعلي بن شهاب جده الأدنى، ثم ابتدأ بمحمد المغربي الشاذلي وختمهم بالشيخ علي العياشي.(3/136)
جمهرة الأولياء أعلام أهل التصوف، تأليف محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. مجلدين، خصص الجزء الثاني لترجمة كثير من الأعلام، أعلام الصحابة وأهل الصفة، ثم ترجم لعدد من أعلام التصوف تحت عنوان: "طبقة التابعين وتابعيهم ذكر التابعين من الأولياء"( ).
ثم ترجم لسبعة وثمانين شخصاً، حشر بعض الفضلاء من أعلام الإسلام مع كبار الغلاة من الصوفية دون تمييز.
كتاب عوارف المعارف لأبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد عموية الصديقي القرشي التميمي اليكري الشافعي الملقب بشهاب الدين السهروردي 539-632هـ، ولم يبرز التراجم لرجال الصوفية في هذا الكتاب إلا أنه ذكر كثير من أعلام التصوف في ثنايا أبواب الكتاب.
لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، وطريقته مثل طريقة السهروردي.
جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني- تأليف/علي حرزام ابن العربي برادة المغربي.
كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم-تأليف/عمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوي.
و"جواهر المعاني" مجلدان، وكذا"الرماح" مجلدان بهامش كتاب جواهر المعاني، اهتم المؤلفان ببيان الطريقة التجانية، وذكر التجاني وكبار أتباعه بتوسع تام.
وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة عن شخصيات الصوفية مثل ابن عربي والبسطامي والتجاني والنقشبندي وابن سبعين والغزالي وابن الفارض والحلاج والجيلاني.
* * * * * * * * * * * * * *
بعض المراجع عن الصوفية
كتب الصوفية
1- الرسالة القشيرية-للقشيري.
2- عوارف المعارف. للسهروردي.
3- لطائف المنن. للسكندري.
4- جمهرة الأولياء. للمنوفي.
5- جواهر المعاني. علي حرازم.
6- رماح حزب الرحيم. الفوتي.
7- الطبقات الكبرى. الشعراني.
8- الفتوحات الربانية. ابن العربي.
9- فصوص الحكم. ابن العربي.
10- تائية ابن الفارض. ابن الفارض.
11- تخريج الأربعين السلمية في التصوف. للسخاوي، تحقيق علي حسن.(3/137)
12- الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية. محمد السيد التجاني.
13- الغنية لطالبي طريق الحق. عبد القادر الجيلاني.
14- رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات. لجنة جماعة الصوفية في ألورن.
* * * * * * * * * * * * * *
ومن الكتب التي ألفها علماء الإسلام من غير الصوفيين
1- الصوفية والفقراء. شيخ الإسلام ابن تيمية.
2- الجزء11 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
3- هذه هي الصوفية. عبد الرحمن الوكيل.
4- الفكر الصوفي. عبد الرحمن عبد الخالق.
5- التصوف معتقداً ومسلكاً. صابر طعيمة.
6- التصوف المنشأ والمصدر. إحسان إلهي ظهير.
7- التصوف والاتجاه السلفي في العصر الحديث. مصطفى حلمي.
8- إلى التصوف يا عباد الله. الجزائري.
9- التجانية. علي بن محمد الدخيل الله.
10- رسائل وفتاوى في ذم ابن العربي الصوفي. جمع وتحقيق موسى الدويش.
11- النقشبندية عرض وتحليل. عبد الرحمن دمشقية.
12- كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق. عبد القادر حبيب الله السندي.
13- الهداية الهادية إلى الطائفة التجانية. محمد تقي الدين الهلالي.
14- الصوفية نشأتها ونطورها. محمد العبدة، طارق عبد الحليم.
15- نظرات في معتقد ابن عربي. كمال محمد عيسى.
16- الرفاعية. عبد الرحمن دمشقية.
17- نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام. سارة عبد المحسن السعود.
* * * * * * * * * * * * * *
تتمة المنهج
لقد استحسن بعض أعضاء العقيدة إضافة بعض الجوانب عن المرجئة، وبعض المسائل عن الفرق الإسلامية كان لها دور بارز في قيام مفاهيم جديدة على العقيدة الإسلامية التي عليها أهل السنة والجماعة.(3/138)
ومما أحب التنبيه عليه أن تلك الفرق التي سنأخذ بعض الفقرات عنها تعتبر من الفرق الأساسية في تقسيم الأمة الإسلامية وتفرقهم، وقد حظيت تلك الفرق بالدراسة الواسعة من قبل علماء الفرق ومؤلفي العقائد الإسلامية، وقد ألفت فيها مؤلفات لا تكاد تحصر، كما أنها قد مرت دراستها بصفة عامة على طلاب هذه المرحلة من الدراسة، ولا يزالون أيضاً يدرسونها في مادة التوحيد.
ومن هنا فإنني سأكتفي بذكر الفقرات المستحسن إضافتها إلى المنهج تاركاً ماعدا ذلك من أخبار تلك الفرق سواء تاريخية منها أو عقدية، فهي كما تقدم تحتاج إلى مؤلفات لدراستها وبيان ما قاله علماء الإسلام عنهم، ولعل ما أكتبه هنا يصح أن يوصف بأنه من باب التذكير بالمعلومات السابقة، أسأل الله أن ينفعني وإخواني طلاب العلم بما نقرأ ونسمع، وأن يرزقنا حسن النية والرغبة في خدمة الإسلام والمسلمين فهو القادر على ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * * * * * * * * * * * * *
الباب الحادي عشر
دراسة المرجئة
أولاً: تمهيد:
المرجئة من أوائل الفرق التي تنسب إلى الإسلام في الظهور، وقد احتلت مكاناً واسعاً في أذهان الناس وفي اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم بين مدافع عنهم ومحاج لهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها، ومن هنا نجد أن المقصود بالإرجاء بالذات لم يتفق علماء الفرق والمقالات على تعيينه دون اختلاف، كما أن قضية الإرجاء قد جرّت كثير من علماء الأمة الإسلامية المشهورين إلى الركون إليها على تفاوت في المواقف والمفاهيم حيالها، ووجد بعض علماء السلف طريقاً إلى انتقاد مسالك آخرين، ووجد لهؤلاء مدافعين عنهم ومؤيدين لفكرتهم دفاعاً قد يصل إلى درجة التعصب وليّ أعناق النصوص لتوافق ما يذهبون إليه، كما وجد قسم من المدافعين حاولوا جهدهم لتقريب وجهات النظر بين القائلين بالإرجاء وبين مخاليفهم فيه.(3/139)
ولقد أخذت تلك الخصومات أشكال من العنف واللين، كما التهمت كثيراً من الأوقات والجهود التي لو كانت قد بذلت في خدمة ودراسة العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة ومعتقد السلف لكان لها من النفع والخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
ولكنها ذهبت حول تقرير حقيقة الإرجاء والرد عليه وجمع أدلته والوقف عندها، واستنتاج مفاهيمها ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، وكان يكفي للانتهاء عن الخوض في هذه القضية وقفة واحدة متأنية، ومواجهة الحقيقة التي طالما أغفلها هؤلاء وأولئك ألا وهي الإرجاء الذي هو بمعنى ترك الأعمال وعدم الاهتمام بها لا مكان له في الواقع إلا عند المتأخرين الذين يريدون التحايل والانفلات بأي وسيلة، ذلك أن الذين قرروا الإرجاء في بدء أمرهم عند التحقيق من أكثر الناس عبادة وعملاً، بدليل أنك تجد الشخص منهم يحث على الإرجاء بكلام قد ألفه وحفظه، ولكن إذا جاء إلى ميدان العمل تجده من المحرضين على اغتنام الفرص، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فلم يبق للإرجاء عنده إلا ذلك الجزء من الكلام المردد في إيقاظ الخصومة( ).
ومن هنا نجد أن شيخ الإسلام رحمة الله – وقد قدم دراسة وافية للمرجئة- يذكر أن السلف كانوا يصلون خلفهم ويترحمون عليهم، وإنما يشنعون عليهم مسلكهم الخاطئ في تأخير العمل عن الحقيقة الإيمان، وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء بخلاف مرجئة الجهمية الغلاة.
وقبل البدء بتفاصيل فكر المرجئة وبيان نشأته وما آل إليه، قبل أن نذكر على سبيل الإيجاز التعريف بالمرجئة لغة واصطلاحاً.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحاً
وبيان أقوال العلماء في ذلك
الإرجاء في اللغة:(3/140)
يطلق على عدة معاني منها: الأمل والخوف والتأخير وإعطاء الرجاء، وقد يهمز وقد لا يهمز. قال تعالى: {وترجون من الله ما لا يرجون}( )، أي لكم أمل في الله لا يوجد عندهم، وقال تعالى: {ما لكم ترجون لله وقاراً}( )، أي ما لكم لا تخافون من عذاب الله تعالى؟
أما الإرجاء بمعنى التأخير فمثل قول الله تعالى: {قالوا أرجه وأخاه}( )، قرئ أرجه وأرجئه أي أخره، وقال تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله}( ).
ويذكر الأزهري حال استعمال الجاء بمعنى الخوف بقوله: إنما يستعمل الرجاء في موضع الخوف إذا كان معه حرف نفي، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} المعنى مالكم لا تخافون لله عظمة. قال الفراء: وقد قال بعض المفسرين في قول الله: {وترجون من الله ما لا يرجون}: إن معناه تخافون( ) والإرجاء يهمز ولا يهمز، قال ابن السكيت: يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته، قال الله عز وجل {وآخرون مرجون لأمر الله} وقرئ مرجئون، وقرئ أرجه وأخاه، وقرئ أرجئه وأخاه. قال: ويقال هذا رجل مرجئ، وهم المرجئة، وإن شئت قلت: مرج وهم المرجية... وقال غيره: إنما قيل لهذه العصابة مرجئة، لأنهم قدموا القول وأرجوا العمل، أي أخروه"( ).
تعريف الإرجاء في الاصطلاح:
اختلفت كلمة العلماء في المفهوم الحقيقي للإرجاء، مفاد ذلك نوجزه فيما يلي:
1- أن الأرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي؛ أي بمعنى التأخير والإمهال – وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله في منزلة ثانية بالنسبة للإيمان لا أنه جزء منه، وأن الإيمان يتناول الاعمال على سبيل المجاز، بينما هو حقيقة في مجرد التصديق، كما أنه قد يطلق على أولئك الذين كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
كما أنه يشمل أيضاً جميع من أخر العمل عن النية والتصديق.
2- وذهب آخرون إلى أن الأرجاء يراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه في الدنيا حكم ما( ).(3/141)
وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي رضي الله عنه من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة( )، أو إرجاء أمره هو وعثمان إلى الله ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر، وخلص بعضهم من هذا المفهوم إلى وصف الصحابة الذين اعتزلوا الخوض في الفتن التي وقعت بين الصحابة وخصوصاً ما جرى بين علي ومعاوية من فتن ومعارك طاحنة، خلصوا إلى زعم أن هؤلاء هم نواة الإرجاء، حيث توقفوا عن الخوض فيها واعتصموا بالسكوت، وهذا خطأ من قائليه؛ فإن توقف بعض الصحابة إنما كان بغرض ريثما تتجلى الأمور، واستندوا إلى مفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت – أو وقعت – فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال:"يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة"( ).
ومن هؤلاء الصحابة الذين امتنعوا عن الخوض في تلك الأحداث المؤسفة: سعد بن أبى وقاص، وأبو بكرة راوي الحديث السابق، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين؛ حيث توقفوا ثم أرجئوا الحكم في تلك الفتن وفوضوا أمر المختلفين فيها إلى الله سبحانه وتعالى فلم يحكموا بتخطئة أحد أو تصويبه مع اعترافهم بفضل الجميع، فكيف يعتبر هؤلاء هم أساس الإرجاء، فإن موقفهم لا يعد التوقف عن الدخول عن نصرة أحد بالسيف، وهم في توقفهم كانوا يستندون إلى النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، والتي تحذر من الدخول في الفتن، فقد كان هؤلاء يودون لو أن الأمور تمت معالجتها بالصبر والصلح بين المتقاتلين، بدلاً عن التسرع في القتال ابتداء قبل بذل أسباب الوفاق.
وهذا الموقف منهم هو عين الصواب؛ فإن السلامة من قتل المسلم خير من التعيير بالتريث لعدم قتاله.(3/142)
وليس إرجاء حكم هؤلاء الصحابة في علي ومعاوية هو أساس الإرجاء البدعي، فالواقع أن إطلاق اسم الإرجاء على كل من يقول عن الإيمان: إنه قول أو تصديق بلا عمل، أو القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة – هو الأغلب في عرف العلماء حينما يطلقون حكم الإرجاء على أحد؛ بل هو المقصود بالإرجاء.
وفي كل ما تقدم يقول الشهرستاني:"الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه)" أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء.
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر× فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار( )، إلى أن قال: وقيل: الإرجاء تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة( ).
الفصل الثاني
الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة
الأساس الذي قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف في حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ أي والعمل غير داخل في حقيقته، وبالتالي لا يزيد الإيمان ولا ينقص؛ إذا التصديق واحد لا يختلف أهله فيه، هذه أهم ميزات بحوث هذه الطوائف المرجئة،وإلى كل قسم من تلك الأقسام ذهب فريق من المرجئة.
إلا أن أكثر فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما في القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر، حتى وإن كان كفراً وزندقة، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، ولا عبرة عنده بالإقرار باللسان ولا الأعمال أيضاً؛ لأنها ليست جزءاً من حقيقة الإيمان.(3/143)
وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أي معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمة الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى إحداهما عن الآخر؛ أي فمن صدق بقلبه و أعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمناً. وعلى هذا قام مذهب الحنفية وهو أقرب مذاهب المرجئة إلى أهل السنة لموافقتهم أهل السنة في أن العاصي تحت المشيئة، وأنه لا يخرج عن الإيمان. وخالفوهم في عدم إدخال العمل في الإيمان يزيد وينقص، فلم يقولوا بذلك. هذا هو المشهور عن أهل الفقه و العبادة من المرجئة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله من فقهاء الكوفة الذين أخروا العمل عن حقيقة الإيمان وماهيته.
على أن في نسبة الإرجاء إلى أبى حنيفة من الخلاف الكثير بين العلماء ما لا يخفى، هل كان أبو حنيفة من المرجئة كما وصفه كتاب المقالات والفرق، أم كان ضد الإرجاء كما يصفه المدافعون عنه؛ لأن الإرجاء يتميز بالتساهل في الأعمال وتأخيرها من منزلة الإيمان، وأبو حنيفة رحمة الله تعالى بلغ حداً كبيراً في الاهتمام بالفروع، مما يدل على أنه يهتم بالعمل، وهذا عكس الإرجاء، فكيف يوصف بالإرجاء حسب هذا الدفاع عنه!!
وأما ماجاء في الكتاب المنسوب إليه الفقه الأكبر، من عبارات تدل دلالة واضحة على إرجائه – فقد شكك هؤلاء المدافعون عنه في صحة نسبة هذا الكتاب إليه، بل كذبوا نسبته إليه.
ودافع عنه الشهرستاني وذهب إلى أن نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة إنما كان سببه في رأيه-المعتزلة والقدرية- عن سوء فهم منهم لرأي أبي حنيفة الذي يرى بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان، إضافة إلى أن المعتزلة-كما يرى الشهرستاني- كانوا يسمون كل من خالفهم مرجئاً( ).(3/144)
والواقع أن النقول بإرجاء أبي حنيفة كثيرة، وعلماء الفرق أغلبهم يقرنسبة الإرجاء إليه بالمعنى الذي قدمنا ذكره. وهذا هو الثابت، ولا يقال: إن أبا حنيفة كان من غلاة المرجئة بالجهمية مثلاً، وذلك لموافقته أهل السنة والاعتقاد السليم في جوانب كثيرة في باب الإيمان وإن خالفهم فيما ذكر.
ولقد بذل كثير من علماء الأحناف جهدهم ليجعلوا الخلاف بينهم وبين أهل السنة في حقيقة الإيمان لفظياً، فلم يتم لهم ذلك مع أنهم يستندون إلى جعل الخلاف لفظياً على الاتفاق الحاصل فعلاً بينهم وبين أهل السنة في مرتكب الكبيرة عند الله؛ إذ لا يسمى كافراً ولا يحكم له بالخلود في النار يوم القيامة، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عفى عنه بفضله وإن شاء عاقبه بعدله.
وكذلك اتفاقهم على أن الأعمال لا بد منها، وأن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ولكن امتنع عن العمل فلم يقم به-أنه يستحق اللوم والعقوبة، وأنه من العصاة. إلا أن كل هذه الحجج لا تجعل الخلاف لفظياً؛ وذلك أن أهل السنه لايخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، فالتفرقة بين الأعمال والإيمان لا يقول بها السلف.
كما أن السلف لا يرون أن الناس على درجة واحدة في الإيمان والتوحيد، كذلك حكم الأحناف للعصاة بالإيمان الكامل لم يوافقهم فيه السلف، كما أن السلف لا يوافقونهم في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه.
والحاصل: أن المرجئة أقسام كثيرة وأنهم يختلفون في بعض أسس الإرجاء، كما سيتضح ذلك إن شاء الله.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب
عرفنا مما سبق في التعريف بالمرجئة أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض اطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصاً ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم.(3/145)
وما جرى بين علي ومعاوية من أحداث- كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن جاء على طريقته- إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان رضي الله عنه وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجياً.
فظهر الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولاتنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملاً لايتزعزع. وهذا بلا شك غلو وتطرف مذموم.
وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة الإسلامية.
ولقد احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته- كما يقول السلف- أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار- كما تقول الخوارج- لأنه أخل بالعمل فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار- كما تقول المعتزلة-؟
أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقاً- كما تقول المرجئة- لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه؛ لأن الإيمان عندهم- على هذا المفهوم- لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملاً إذا كان التصديق موجوداً في قلبه. وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلاً.(3/146)
فبينما الخوارج يرون أن مرتكب الذنب كافرا مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجياً، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزلياً، فضاقت نظرتهم إلى غيرهم، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم من أهل الإيمان الكامل.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة
تطورت فكرة الإرجاء حتى وصلت في دورها المتأخر إلى الحد الذي يصدق عليها أنها ظاهرة بدعية خطيرة بعد أن تضاربت الأفكار، وتعصب كل فريق لفكره ولرأيه من خوارج وشيعه ومعتزلة وجهمية وأشعرية وغيرهم كما تقدم، ولكن من الذي بدأ بهذه الفكرة التي تطورت بعد ذلك إلى أن وصلت على ما هي عليه اليوم.
يذكر العلماء أن الحسن بن محمد بن الحنفية هو أول من ذكر الإرجاء في المدينة بخصوص علىّ وعثمان وطلحة والزبير، حينما خاض الناس فيهم وهو ساكت ثم قال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا يتبرأ منهم( ). ولكنه ندم بعد ذلك على هذا الكلام وتمنى أنه مات قبل أن يقوله، فصار كلامه بعد ذلك طريقاً لنشأة القول بالإرجاء، وقد بلغ أباه محمد بن الحنفية كلامُ الحسن فضربه بعصا فشجه، وقال: لاتتولى أباك عليّا؟ ولم يلتفت الذين تبنوا القول بالإرجاء إلى ندم الحسن بعد ذلك، فإن كتابه عن الإرجاء انتشر بين الناس وصادف هوى في نفوس كثيرة فاعتنقوه( ).
ولكن ينبغى معرفة أن إرجاء الحسن إنما هو في الحكم بالصواب أو الخطأ على من ذكرهم، ولم يتعلق إرجاؤه بالإيمان أم عدمه كما هو حال مذهب المرجئة أخيراً.(3/147)
فأصبح هذا الموقف يناقض ما عليه الخوارج من تكفيرهما والبراءة منهما، وما عليه الشيعة من الغلو في عليّ والحط من شأن عثمان وتكفيره، ويخالف أيضاً موقف أهل السنة والجماعة منهما من وجوب موالاتهما والترضي عنهما والشهادة لهما بالجنة، كما هو مذهب السلف فيهما إلا أنه يعتبر كالخطوة الأولى إلى مذهب الخوارج والتمهيد له.
وقيل: إن أول من قال بالإرجاء على طريقة الغلو فيه هو رجل يسمى ذر بن عبد الله الهمداني وهو تابعي، وقد ذمه علماء عصره من أهل السنة، بل كان بعضهم- مثل إبراهيم النخعي- لايرد عليه إذا سلم، وكذلك سعيد بن جبير.
والجمع بين هذا القول والذي قبله يتضح باختلاف حقيقة الإرجاء عند الحسن وعند ذر بن عبد الله؛ إذ الإرجاء عند الحسن ترك الحكم على أولئك الأشخاص. وأما الإرجاء عند ذر فهو إخراج العمل عن مسمى الإيمان.
وهناك أقوال أخرى في أول من دعا إلى الإرجاء فقيل: إن أول من أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضري.
وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان وهو شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم انتشر في أهل الكوفة، وقد عاصر حماد بن ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قال فيهم حماد بن أبي سليمان( ).
وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لاتباعد بينها؛ لأن هؤلاء كانوا في عصر واحد، وكانوا أيضاً على اتفاق في إرجائهم.(3/148)
ولقد نسب الإرجاء إلى علماء مشاهير، وقد عد الشهرستاني جماعة من هؤلاء ومنهم: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وذكر أنه أول من قال بالإرجاء، ولكنه لم يجزم بذلك فيما يبدو من تعبيره، حيث ذكر ذلك بصيغة التمريض"قيل"، ثم ذكر أنه كان يكتب فيه الكتب إلى الأمصار ثم قال: "إلا إنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها".
كما عدّ منهم سعيد بن جبير( )، وطلق بن حبيب وعمر بن مرة ومحارب ابن زياد ومقاتل بن سليمان وذر، وعمرو بن ذر، وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر، ثم قال: "وهؤلاء كلهم أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة، ولم يحكموا بتخليدهم في النار؛ خلافاً للخوارج والقدرية".
إلا أنه ذكر عن مقاتل قوله: "ويحكى عن مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان، وأنه لا يدخل النار مؤمن" ثم قال: " والصحيح من النقل عنه أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة، ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار"( ).
ومن كبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحى، ويونس السمري، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومني، وبشر المريسي، ومحمد بن كرام، ومقاتل ابن سليمان المشبه لله عز وجل بخلقه ومثله الجواربي وهما من غلاة المشبهة( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
أصول المرجئة
تكاد فرق المرجئة تتفق في أصولها على مسائل هامة هي:
تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار.(3/149)
وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا هو جزء منه، مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه في غلوه.
وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق بالشيء والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان.
وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملوا الإيمان بكمال تصديقهم وأنهم حتماً لا يدخلون النار في الآخرة.
ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد تأثروا في هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم في أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أي جنس كان ولو كان غير قرشي، وقد تأثروا بهذا الرأي من الخوارج الذين كانوا ينادون به ولم يطبقوه.
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جهم -، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.
وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، ومنهم من أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنهم من نفاها كالمعتزلة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
واختلفوا في القول بالقدر فبعضهم نفى القدر وقال بأقوال المعتزلة، وبعضهم أثبته، واختلفوا في أسماء الله وصفاته، فبعضهم قال بأقوال عبد الله ابن كلاب، ومنهم من قال بأقوال المعتزلة( ).
وفيما يلي تفصيل واضح لأقسام اتجاهات الناس في حقيقة الإيمان كما رتبها الدكتور/ سفر الحوالي:
أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
1- أهل السنة 2- الخوارج 3- المعتزلة
أنه بالقلب واللسان فقط:
مرجئة الفقهاء الحنفية.(3/150)
ابن كلاب، وكان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وقد انقرض مذهبه.
أنه باللسان والجوارح فقط:
الغسانية.
فرقة مجهولة لم يصرح العلماء بتسميتها، ولعلها الغسانية.
أنه بالقلب فقط:
1- الجهمية 2- المريسية 3- الصالحية
4- الأشعرية 5- الماتريدية.
أنه باللسان فقط:
الكرّامية: وقد انقرضوا، وقد ذكر عنهم شيخ الإسلام أنهم يقولون:
المنافق مؤمن وهو مخلد في النار؛ لأنه آمن ظاهراً لا باطناً ويدخل الجنة من آمن ظاهراً وباطناً.
أ- الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح:
1- الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة:
1-الخوارج؛ مرتكب الكبيرة عندهم كافر.
2-المعتزلة؛ مرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين؛ يعني في الدنيا، وأما في الآخرة فقد وافقوا الخوارج في الحكم.
2- الذين قالوا: الإيمان قول وعمل – أي عمل القلب والجوارح – وكل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه.
والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصانها، لكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه؛ ومنها ما ينقص بذهابه.
فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها،ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها، ومنها كمالات يرتقي صاحبها إلى أعلى درجاته. "وتفصيل هذا كله بحسب النصوص". كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
ب- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط:
الذين يدخلون أعمال القلب – يعنى في حقيقة الإيمان – وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء، وبعض محدثي الحنفية المتأخرين.
الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط، وهم عامة الحنفية "الماتريدية".
ج- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط:
الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً، وهم سائر فرق المرجئة: كاليونسية والشمرية والتومنية.
الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد – المعرفة – الجهم بن صفوان.(3/151)
الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد – التصديق – الأشعرية والماتريدية
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
أقسام المرجئة
انقسمت المرجئة في اعتقاداتها إلى أقسام كثيرة وفرق كثيرة وفرق يطول ذكرها، ويمكن الإشارة هنا إلى رؤوس تلك الفرق، وهى كما يذكرها علماء الفرق:
مرجئة السنة: وهم الأحناف: أبو حنيفة وشيخه حماد بن أبى سليمان ومن أتبعهما من مرجئة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء أخروا العمل عن حقيقة الإيمان.
مرجئة الجبرية: وهم الجهمية أتباع جهم بن صفوان، وهم الذين اكتفوا بالمعرفة القلبية وأن المعاصي لا أثر لها في الإيمان، وأن الإقرار والعمل ليس من الإيمان.
مرجئة القدرية: الذين تزعمهم غيلان الدمشقي، وهم الغيلانية.
مرجئة خالصة: وهم فرق اختلف العلماء في عدهم لها.
مرجئة الكرامية: أصحاب محمد بن كرام، وهم الذين يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب.
مرجئة الخوارج: الشبيبية وبعض فرق الصفرية الذين توقفوا في حكم مرتكب الكبيرة.
وعدّ الأشعري في مقالاته المرجئة وأوصالهم في اثنتي عشر فرقة( ).
ولهم فروع كثيرة، وبين العلماء اختلافات كثيرة أيضاً في عدّهم لأقسام وطوائف المرجئة، وفي أي الفرق أصلية وأيها فرعية، وأيها يصدق عليه الإرجاء وأيها لا يصدق عليه.
ولا ضرورة تدعوا إلى تفصيل الكلام هنا في كل طائفة من هذه الفرق الفرعية وذلك لاتحادهم العام في مذهبهم وقيامه على الإرجاء.
ولما حصل أيضاً من رجوع بعض فرقهم إلى الفرق الأخرى واندماجهم بعد ذلك في فرقة واحدة، ولدقة الخلاف في بعض المسائل الفرعية، وموضع استقصاء ذلك كله الكتب المطولة في التاريخ والفرق.
الفصل السابع
أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها(3/152)
تلمس المرجئة في الاستدلال لمذهبهم نصوصاً وشبهات، أوّلوا النصوص ونصروا الشبهات بتكلفات غير صحيحة، وخرجوا بنتيجة،هي أن العمل ليس من حقيقة الإيمان، وأخّروا جميع أعمال الجوارح عن الإيمان، وقالوا: يكفي في دخول الإيمان والفوز برضى الله أن يحتوي القلب على المعرفة والتصديق كما سبق، وفتحوا بذلك باباً واسعاً لأهل البطالة والكسل والمغرمين بالأماني دون العمل، والذين يحبون التفلت عن ما تقضيه النصوص الشرعية، ولهذا تجد المرجئة الغلاة منهم أكسل الناس في العبادة وأضعفهم في الالتزام، وقد تلمسوا لما يذهبون إليه بعض الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وزعموا أنها تدل على مذهبهم.
فمن القرآن الكريم: استدلوا بقول الله تعالى:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}( ).
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}( ).
كما اهتمت الجهمية بجمع النصوص التي تجعل الإيمان أو الكفر محله القلب. كما في قول الله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}( ).
{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}( ).
{ختم الله على قلوبهم}( ).
إلى غير ذلك من الآيات التي يوحي ظاهرها بهذا المفهوم المتكلف للمرجئة.
أما من السنة النبوية: فقد استدلوا بما يلي:
بعض الأحاديث والآثار التي يدل ظاهرها على الاكتفاء بالبعد عن الشرك ووجود الإيمان في القلب للفوز برضى الله، مثل:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار".قال ابن مسعود: "وقلت أنا من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ثبت قلبي على دينك"( ).(3/153)
وكذا حديث الجارية التي سألها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: "أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال لمولاها: اعتقها فإنها مؤمنة"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات"( ).
ومن أدلتهم كذلك ما جاء في أحاديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقوام فيخرجهم الله من النار حتى لا يبقى من في قلبه ذرة أو برة أو شعيرة من الإيمان، وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل إلى أن قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه"( ).
وقد استدل بهذا الحديث لإرجائهم من العبارات السابقة:
لم يعملوا خيراً قط.
هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه.
فقالوا: إذا لم يكن لهم عمل خير قط فما الذي بقي معهم؟ والجواب –كما يزعمون- أنه بقي معهم التصديق فقط ونفعهم دون النظر في العمل، لأن حقيقة الإيمان –كما يزعمون- لم تتوقف على العمل.
ومن الشبهات التي تعلق بها المرجئة أيضاً على أن العمل ليس من الإيمان قولهم:
إن الكفر ضد الإيمان فحيثما ثبت الكفر نفي الإيمان، والعكس.
ومنها ما جاء في نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان.
ومن أدلة الأحناف على أن الإيمان قول واعتقاد فقط، وأن الأعمال ليست داخلة فيه وإنما هي شرائع الإسلام فإذا عمل معصية نقص من شرائع الإسلام وليس من التصديق بالإسلام – من أدلتهم على ذلك قولهم:
إن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق فقط، والعمل بالجوارح لا يسمى تصديقاً فليس من الإيمان.(3/154)
لو كانت الأعمال من الإيمان والتوحيد لو جب الحكم بعدم الإيمان لمن ضيع شيئاً من الأعمال، وفي ذلك يقول أبو حنيفة في كتابه الوصية: ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ولا يجوز أن يقال يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة، ولا يجوز أن يقال: ارتفع عنها الإيمان، إلى غير ذلك من النصوص التي استدل بها المرجئة عموماً والأحناف بخصوصهم، والتي فهموا منها ما يدل على صحة مذهبهم، ثم نتج عن صنيعهم هذا تضارب الأدلة في مدلولاتها-أمامهم- لعدم وقوفهم على ما تقتضيه من الفهم السليم الذي هدى الله إليه أهل السنة، بل ذهبت كل طائفة من طوائف المرجئة الكثيرة إلى الاستدلال لما تزعمه بنصوص قد لا تستدل بها الطوائف الأخرى.
قال ابن أبي العز الحنفي: "فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمة الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: ( وما أنت بمؤمن لنا (( ) أي بمصدق لنا، ومنهم من أدعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي- وهو التصديق بالقلب-هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى. والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم.
ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما، وقوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان (( ) يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركب من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، قال الله تعالى: {آمنوا وعملوا الصالحات}( )، وغيرها في مواضع من القرآن"( ).
الرد على أدلة المرجئة:(3/155)
والواقع أن تلك النصوص التي تقدمت في استدلال المرجئة على إخراج العمل عن حقيقة الإيمان لا يسلم لهم فهمهم لها من أنها على إخراج الأعمال الظاهرة عن أعمال القلب، فإن إيمان القلب وإن كان الأساس وعليه الاعتماد الأول ولكن لا ينفي هذا أثر إيمان القلب يظهر على الجوارح بل هو الحق، والنصوص كما هو الواضح منها لا تدل على تصديق القلب وحده، وإنما تدل على أن الإيمان له دلالات لا تتضح إلا بالأعمال الظاهرة، والذين أحجموا عن إدخال الأعمال الظاهرة في حقيقة الإيمان نتج عن ذلك تساهل عندهم في الحكم حتى على الفجار الذي لا شك في ظهور فجورهم.
فتجد منهم من لا يكفر بالأعمال الظاهرة حتى وإن كانت توحي بكفر صاحبها علانية، فهم لا يجرءون على تكفيره حتى يتأكدوا من مصداقية قلبه بالإيمان، لأنه لو صدق بشعائر الإسلام فلا يكفر مهما عمل إلا إذا ارتفع التصديق عن قلبه فهنا يجرءون على تكفيره.
وهذه نتيجة طبيعية بالنسبة لهم بعد أن أغفلوا ارتباط الأعمال بإيمان القلب.
والحق أن الفعل المكفر يكفر به صاحبه إذا كان الفعل نفسه يوحي الشرع في الكتاب أو السنة أو إجماع علماء الأمة بكفر فاعله، إذ لو لم يكفر قلبه أولاً لما كفرت جوارحه، فمن سبّ الله أو رسوله أو فضل القوانين الوضعية على الشرعية الإسلامية وقدمها عليها أو غير ذلك من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة-فإنه لا يحتاج لتكفيره إلى مساءلته هل هو مصدق بالإيمان أم لا، لأن فعله شاهد عليه بعدم التصديق، أو أن تصديقه مثل تصديق إبليس بربه وباليوم الآخر، فهل نفعه ذلك؟ فكذلك هؤلاء، إلا أن يأتي أحدهم بمخرج له في ذلك معتقداً صحته.(3/156)
قال شيخ الإسلام –رحمة الله- عنهم: "فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر- ليس هو كفر في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على كفره، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليه الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطني، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك"( ).
ومن استند منهم إلى إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان بما استنبطه مما جاء في القرآن الكريم من إسناد الإيمان إلى القلب فقط، كقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}( ).
وقوله تعالى: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}( ).
وقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}( ).
وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}( ).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين منزلة الإيمان وضده من القلب، من استند منهم إلى ذلك فقد أخطأ الفهم، فليس المراد منها إخراج العمل وإغفاله عن إيمان القلب، فإن من أنكر تلازم الأعمال الظاهرة بأعمال القلوب وقال: إن الإيمان هو المعرفة فقط فهو جهمي، وكذا من قال: إنه التصديق فقط مثل الأشاعرة فقد تجهم، إذ لا فرق بين دعوى المعرفة ودعوى التصديق فقط-وكلاهما من دون عمل، وما ذكره بعض الأشاعرة من التفريق بينهما فإنه نصرة لمذهبهم فإن كلتا الطائفتين تلتقي على إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فيبقى النزاع في التفرقة بين المعرفة والتصديق المجرد عن العمل غير واضح، فإن المعرفة والتصديق موضعهما القلب، والعمل الظاهر دليل ذلك ولازم له.
وقد كفر أئمة العلم من قال بقول جهم: إن الإيمان هو التصديق فقط.(3/157)
فظهر أن تلك الآيات لا تدل على نفي دخول الأعمال في حقيقة الإيمان، بل غاية ما فيها التركيز على أهمية الإيمان القلبي الذي بدوره يثمر الإيمان بالقيام بأعمال الشرع الظاهرة، أو أنها أسندت إلى القلوب باعتبار أنها هي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وأما ما استدل به المرجئة من النصوص التي تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة-سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك:
"إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع في الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه-أن الله يغفر له الذنوب التي هي دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف في أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة.
كما أنه لا يقع من شخص عرف التوحيد وأخلص لربه أنه لا يأتي بالأعمال الأخرى التي أوجبها الإسلام، بحيث يكتفي بابتعاده عن الشرك ثم يركن إلى ذلك لدخوله الجنة، فاتضح أن هذه الآيات لا تدل عن إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو التصديق بالقلب أن هذه الآيات لا تدل على إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو القلب كما يرى المرجئة، بل هي واردة في حكم من مات تائباً أو لم تكن عليه معاص، أو كانت عليه معاص ومات على التوحيد، بحيث كان آخر كلامه في الدنيا: لا إله إلا الله".
وما فهموه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"التقوى ها هنا" بأن الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا عبرة بعمل جارح- فهو فهم غير سديد من جهة نفي دخول الأعمال الظاهرة إذا لم تثمر القيام بأعمال الإيمان الظاهرة فهي ليست تقوى صحيحة. وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن الإيمان هو مجرد التصديق والإقرار بالقلب فقط دون أن يرى أثر ذلك في الأعمال كلها.(3/158)
وقد جرهم إلى هذا الفهم أمر لم يتقبلوه وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة يعبر عن الإيمان بأعمال القلب ومرة بأعمال الجوارح ومرة بكليهما، فمن وقف على جانب دون آخر من هذه المراتب فقد قصر ولم يلتزم الحق واختلط الأمر عليه، وأما حديث الجارية الذي استدل به المرجئة على مذهبهم أن ترك العمل لا ينافي الإيمان، فإن المراد من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالإيمان-أي الإيمان الظاهر- الذي تجري بموجبة الأحكام الدنيوية لا الإيمان الحقيقي الكامل.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن إيمان هذه الجارية ليس مثل إيمان كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة السابقين، وإنما أراد الإيمان الظاهر الذي يميز المسلم عن الكافر ابتداءً في المعاملات الدنيوية، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بسؤالها عن الإيمان فقط بأن قال لها: هل أنت مؤمنة وسكت لكان فيه نظر للمرجئة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم سألها عن أشياء أخرى فقد قال لها: "أتشهدين أن لا إله إلا الله. قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أعتقها"( ).
وهذه كلها من أعمال الإيمان الباطنة والظاهرة أيضاً. قال شيخ الإسلام عن تمسك المرجئة بهذا الحديث: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة"( ). فظهر أن هذه الأسئلة يريد الرسول صلى الله عليه وسلم من ورائها معرفة منزلة هذه الجارية من أحكام الإسلام، وهل تستحق أن يطلق عليها اسم الإيمان أم لا. وليس المقصود أنها بلغت في إيمانها إلى حد إيمانه أو إيمان كبار أصحابه.(3/159)
وعلى الفرض أن الجارية قالت للرسول صلى الله عليه وسلم أنا مؤمنة بكل شرائع الإسلام بمعنى مصدقة بها، ولكني لا أرى فرضية الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك من شرائع الإسلام. أي لا أرى لزوم عملها بالجوارح على أنها حقيقة الإيمان، بل تطلق عليه مجازاً، فهل كان صدر الرسول صلى الله عليه وسلم سينشرح منها ويأمر مولاها بعتقها ويشهد لها بالإيمان( ).
وأما حديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أولئك فالجواب عنه: أنه لابد من النظر إلى الأحاديث الكثيرة التي صرحت بأنها من أهل الإيمان وعليهم أثر السجود الذي هو عبارة عن عمل الصلاة وأن الجهنميين يعرفون بذلك.
وفي بعض الروايات أن المؤمنين يشفعون فيمن عرفوه بأنه من أهل الإيمان والعمل في الدنيا، وهذا لا يمنع أن فيه جماعة من الناس لهم أعمال لا يعلم بها إلا الله أخرجهم الله بسببها من النار، حيث ظهرت عليهم علامات إيمانهم وأعمالهم التي قدموها.
وقوله: "لم يعملوا خيراً قط" لا ينفي العمل مطلقاً بل قد يكون لهم عمل وإن كان قليلاً إلى جانب إيمانهم وحسناتهم الأخرى فينفعهم ذلك، وهذا مثل أن تقول لشخص: أنت ما عملت شيئاً بعد إتمامه للعمل الذي هو فيه، فإنك لا تنفي وجود عمل ما، ولكن حيث كان العمل غير كامل ولا دقيق ولا يعتبر به-ولو من وجهة نظرك- اعتبرته في عداد من لم يعمل شيئاً وهو أسلوب من أساليب العرب في كلامهم.(3/160)
ثم إن هؤلاء معهم إيمان وعمل، ولولا ذلك لكانوا كسائر الكفار والمشركين يخلدون في النار، فلا مزية لخروجهم منها إلا ذلك، وربما أن الله أخرجهم أو أدخلهم الجنة لعزمهم على العمل ومباشرتهم الدخول فيه كما حصل لبعضهم حين أسلم صادقاً مخلصاً ثم دخل المعركة فقتل فشهد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة، مع أنه لم يظهر منه إلا حسن قبوله للإسلام ودخوله المعركة، ولكن الله اطلع على إيمانه القوي وأوله بذله نفسه للقتل مع المسلمين في سبيل نصرة الإسلام، ولقصر وقته عن أداء الواجبات الأخرى فغفر الله له.
وكقصة الرجل الذي قتل مائة نفس ثم تداركته رحمة الله فدخل الجنة، ومثله ما وقع للرجل الذي أوصى أن يحرق بعد موته فغفر الله له، فمثل هؤلاء في عزمهم وقوة إيمانهم كمثل الذي عمل، وفرق بين من له رغبة وعزم على العمل وبين من تركه اتكالاً وتكاسلاً.
وأما احتجاجهم بقولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحينما ثبت الكفر انتفى الإيمان والعكس.
فإنه يقال لهم: إطلاق القول بأن كل كفر هو ضد الإيمان ويخرج من الملة مطلقاً ليس صحيحاً على إطلاقه هكذا إلا عند الخوارج في حكمهم على أصحاب المعاصي بالكفر المخرج من الملة، فإن الإيمان درجات، وهو اسم مشترك يقع على معان كثيرة، منها ما يكون الكفر ضداً له، كأن يعتقد الكفر ويعمل به ويدعو إليه فكفره اعتقادي وهو ضد الإيمان ولا نزاع في هذا.
ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر، كترك بعض الأعمال المفروضة مع الاعتراف بوجوبها. ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق، كترك بعض الأعمال التي هي تطوع إذ لا يصح تسمية التارك لها كافراً ولا فاسقاً وإنما يسمى تاركاً ومفرطاً في حق نفسه لعدم قيامه بتلك الأعمال التي تزيد في إيمانه( ).(3/161)
وقد يطلق السلف التسمية بالكفر على بعض من يعمل أعملاً جاء الشرع بإطلاق الكفر عليها ولكنهم يسمونه كفراً عملياً لا اعتقادياً حتى تقام الحجة على صاحبه، كالذنوب التي وردت النصوص بإطلاق الكفر على أهلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر في حق من لم يجحد النصوص الواردة في تحريمها قبل إقامة الحجة عليه ببيانها، فإن السلف يطلقون عليه الكفر تمشياً مع النصوص، ثم يفصلون بعد ذلك فإذا استحلها ولم يعترف بوجوبها وردَّ النصوص فهو كافر كفراً اعتقادياً ظاهراً وباطناً.
وأما ما استدلوا به من ورود نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان، وأن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة وفرق وإلا لما عطف عليه، فالواقع أن النصوص كما يتضح منها، أحياناً يرد فيها ذكر الإيمان في حالة العطف بمعنى الدين وذلك في حال إطلاق الإيمان وحده، فإنه يدخل فيه الأعمال، فإذا أطلق لفظ الإيمان فقط تبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك الإيمان القلبي وعمل الجوارح والنطق باللسان ولا يفهم منه التصديق فقط أو الإقرار فقط إلا عند المرجئة، حيث تكلفوا دعوى وقوع ذلك.
وأما في حال ذكر الإيمان والعمل معاً فلا مغايرة بينهما في الحكم الذي ذكر لهم، بل يكون ذلك من جنس عطف الخاص على العام مثل قوله تعالى: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى( ( ). فإن الصلاة الوسطى من ضمن بقية الصلوات وإنما أفردت بالذكر الخاص بعد الذكر العام لمزيد العناية والاهتمام بها، وأحياناً إذا ذكر العمل الصالح والإيمان معاً يكون المقصود بذلك إظهار وتوكيد حقيقة الإيمان بالعمل الصالح، إذ لا يكون العمل صالحاً مقبولاً إلا بعد إيمان صاحبه، فذكر الإيمان والعمل معاً من باب التوكيد أو عطف الخاص على العام. والحاصل أن الإيمان المطلق يستلزم الأعمال كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية( ).(3/162)
وأما ما استدل به الأحناف من أن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق، والعمل لا يسمى تصديقاً فيقال لهم: إنه لم يسم التصديق بالقلب دون التصديق باللسان والعمل إيماناً في اللغة، ولم يعرف عن العرب أنهم يحكمون للشخص بالتصديق والإيمان بشيء صدقه بقلبه ثم أعلن التكذيب به بلسانه، كذلك لم يعرف في اللغة أن التصديق باللسان فقط دون التصديق بالقلب يعتبر إيماناً.
إذاً فلا يسمى مؤمناً بالشيء إلا إذا توافق التصديق بالقلب واللسان معاً ونتج عنهما حصول أثر ذلك وهو العمل.
ويرد على من ذهب مذهب الإمام أبى حنيفة في إخراج العمل عن الإيمان، واستدل باللغة على أن الإيمان هو التصديق – يرد عليهم بما ذهبوا إليه هم أيضاً من عدم جواز إطلاق الإيمان على الشخص إلا إذا صدق بالله عز وجل وبرسوله، وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة، وغير ذلك.
ومعلوم أن هذا الإيمان قد اشتمل على أعمال، فكيف يحق لهم بعد ذلك عدم اعتبار الأعمال من الإيمان، وهم يشترطون لثبوت إيمان الشخص ما ذكر.
ويقال لهم أيضاً: لو كان ما تقولون صحيحاً من أن الإيمان هو التصديق فقط – لوجب أن يطلق اسم الإيمان على كل من صدق بشيء ثم كذب بلوازمه، فقد أخبر الله بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض الرسل ومع ذلك سماهم الله كفاراً مع تصديقهم بالله. قال تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً (( ).
فهؤلاء مصدقون بالله وبرسوله، لولا أنهم يريدون أن يأخذوا من كل ديانة ما يوافق هواهم.
نعم إن أصل الإيمان في اللغة هو التصديق بالقلب واللسان معاً بأي شيء كان إلا أن الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء.(3/163)
وأوقعها أيضاً سبحانه على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها.
وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط. والله عز وجل هو خالق اللغة وأهلها، فلا يجوز لأحد مخالفة الله عز وجل فيما أنزله وحكم به والتعلل باللغة في دفع الحق.
وقد أنزل في القرآن أن الأعمال من الإيمان قال تعالى: ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم(( ).
ومعلوم أن التصديق بالشيء حقيقة لا يقع إلا إذا وجد التصديق الكامل بذلك الشيء وازداد فيه رغبة وعملا. فالمصدق بالله تعالى و بأنبيائه و بما جاء عن الله تعالي هو الذي صدق بذلك ظاهرا وباطنا فصح وصفه بالتصديق.
والآية فيها الأخبار بزيادة الإيمان لا بالتصديق فإنه قد حصل في قلوب المؤمنين، والزيادة هنا هي ما يحصل من الزيادة بالأعمال والتقرب بها إلى الله تعالى.
فإن أساس التصديق لا يتبعض في الشيئ الواحد و إن كان الناس يتفاضلون فيه؛ لأنه لو تبعض لكان صاحبه شاكاً.
فلو أن شخصاً صدق بالقرآن كله إلا آية واحدة لما كان مؤمناً بالقرآن ولكان تصديقه مشابهاً لتصديق بعض أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم وكفرهم بذلك، كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان الذين صدقوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نبي الله حقاً ولكنه إلى العرب خاصة لا إليهم، ولكان أيضاً مشابهاً لتصديق إبليس بربه، وهو مع ذلك كافراً بلا خلاف مخلد في النار لم ينفعه تصديقه ومعرفته بربه دون الإذعان الكامل لما أمر الله واجتناب ما نهي عنه قولاً وعملاً واعتقاداً.(3/164)
ولشيخ الإسلام ردود مطولة في إبطال تعلق المرجئة بقوله تعالى: ( وما أنت بمؤمن لنا ( أي بمصدق – على أن الإيمان هو التصديق، والعمل خارج عن التصديق، وفي أن الإيمان هو التصديق في اللغة وفي الشرع أيضاً( )، ثم إن إطلاق الإيمان على الأعمال أو الأعمال على الإيمان أمر مقرر عند السلف وثابت لا يمارون في صحته لورود ذلك في نصوص كثيرة.
فالجهاد والصوم والصلاة وغيرها من الإيمان،كما أنهم يسمون الإيمان عملاً لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور"( ).
وقال الأوزاعي: "لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيل الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيل الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل"( ).
فالصلاة مثلاً من أعمال الجوارح، وقد قال تعالى: ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( ( ) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لا كما ذهب إليه المرجئة من أن المعنى أي تصديقكم بالنبي صلى الله عليه وسلم والدين.
قال شيخ الإسلام: وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا … فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو, العمل كان دالاً على الباطن فقط.
… وإن أُفرد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص.
وأما إذا قُرن اسم الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ( ( ) وقوله تعالى ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين( ( ) فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة( )، أي والإيمان الأعمال الباطنة، وهذا هو مذهب السلف أما الإيمان أخص من الإسلام.(3/165)
وأما استدلالهم بقولهم: لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد الإيمان كله، فلا يكون مؤمناً أو لا يقال له مؤمن.
يقال لهم: إن هذا الاستدلال تحكم وخروج عن ما يقتضيه الحق، فلا يجوز أن نسمى الشخص مؤمناً ولا كافراً إلا بنص واضح عن الله أو عن رسوله، فمن سماه الله مؤمناً نسميه مؤمناً، ومن سماه كافراً نسميه كافراً، بل نقول:أن من ضيع شيئاً من ما أمر بالإيمان به فقد ضيع بعض الإيمان ولم يضيع الكل، فلا يخرج عن الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه بالكلية( ).
وأما بالنسبة لارتفاع العمل عن الحائض وعدم ارتفاع الإيمان عنها فإن هذا الاستدلال غير صواب، ذلك أنها في حالة ارتفاع العمل عنها لم يكن من قبلها، وإنما ذلك من قبل خالقه، وهي في تلك الحال في حكم العامل؛ ولهذا لا يتوجه إليها الذنب بترك الصلاة والصوم في تلك الحال وهى لا زالت على الإيمان والعمل لم تخرج بتركهما في تلك الحال عن الإيمان ولا عن مواصلة العمل فإن تلك الفترة الطارئة لا تجعلها في عداد من خرج عن الإيمان وضيع العمل لكي يصدق عليها ترك الإيمان بسبب ترك العمل كما استدل هؤلاء.
وأما ما ذهب إليه المرجئة من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، كما أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، فهو قول من أبطل الأقوال وهو قياس على أمر غير مسلم، فالتصديق لا يصح لهم ما زعموه فيه من أنه لا يتفاضل الناس فيه، بل يتفاضلون تفاضلاً ظاهراً في التصديق بقضاياً تمر بالناس يومياً في حياتهم، فضلاً عن تصديق بقضايا المغيبات من أخبار اليوم الآخر والجنة والنار وأسماء الله وصفاته، فمن زعم أن تصديق أقل الناس إيماناً بالله مثل تصديق أكمل الناس إيماناً به بتلك الأمور المغيبة – فلا شك في بطلان قوله بما لا يحتاج إلى سرد الأدلة عليهم.(3/166)
وأما زيادة الإيمان ونقصانه فيكفي في ثبوته إخبار الله عز وجل بذلك في كتابه الكريم وإخبار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة بما لا يخفى على طلاب العلم معرفته، فإن أدلته واضحة تمام الوضوح، ومعتقد السلف فيه من أوضح الأمور، وهو الاعتقاد الجازم أن الإيمان يزيد وينقص في قلب كل شخص.
وكل إنسان يلمس هذا من نفسه ولا ينكره إلا مكابر، على أنه بعد ثبوت ذلك في كتاب الله وفي سنة نبيه وفي إجماع علماء السلف – بعد ثبوت هذا كله لا يحق لمسلم أن يتشكك في ذلك، بل يجب الإيمان والجزم به.
وينبغي التنبيه إلى أمر هام، وهو وجود عدة أحاديث كلها موضوعة يذكر فيها أن الإيمان في القلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ونضيف هنا ما ذكره العلماء من أنه كلما عثرت على حديث من هذا النوع فهو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا يقول ابن القيم رحمه الله:
"وكل حديث فيه أن الإيمام لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق"( ) ومن تلك الأحاديث:
حديث: "من قال: الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فليس له في الإسلام نصيب"، قال الشوكاني: رواه محمد بن تميم، وهو واضعه( ).
ومنها الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف أولئك أعداء الرحمن فارقوا دين الله تعالى واستحلوا الكفر وخاصموا الله، طهر الله الأرض منهم ألا فلا صلاة لهم ألا فلا زكاة لهم ألا فلا صوم لهم ألا فلا حج لهم ألا فلا دين لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم"، وقال السيوطي: موضوع، آفته الطالقاني كذاب خبيث من المرجئة كان يضع الحديث لمذهبه( ).(3/167)
ومثله أيضاً الحديث المروى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن وفد ثقيف جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص فقال: "لا، زيادته كفر ونقصانه شرك" وهو حديث موضوع وضعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وهو من رؤساء المرجئة.
قال السيوطي نقلاً عن الحاكم: "اسناده فيه مظلمات، والحديث باطل والذي تولى كبره أبو مطيع"( ).
وكأن الذين وضعوا أمثال هذه الأحاديث كانوا يجهلون أو يتجاهلون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول الله تعالى: ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ( ( )، وآيات أخرى كثيرة تثبت زيادة الإيمان، فكيف ينفي الرسول صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله في القرآن. لأن ما قبل الزيادة – كما هو معروف – قبل النقصان، وقول المرجئة بعدم زيادته ونقصانه إنما حملهم على ذلك زعمهم أن التصديق شيء واحد، وبالتالي فهو لا يختلف حسب مفهومهم ولا يتفاضل الناس فيه.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان
مذهب أهل السنة المتمسكين بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم السائرين علي وفق ما كان عليه المصطفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في أسماء الله وصفاته، وفي مجانبة البدع وأهلها – مذهبهم في الإيمان أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".
هذا هو منهجهم واعتقادهم في الإيمان. أن العمل داخل في حقيقة الإيمان وأنه لا إيمان بدون عمل، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حسب ما حل بالقلب من ذلك.
وهذا هو الواضح من النصوص الكثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، إلا أنه قد تختلف تعبيرات أهل السنة عن حقيقة الإيمان فيعرفونه بصيغ مختلفة( )، ولكن القصد واحد، وهو إدخال العمل في حقيقة الإيمان كما يدل عليه كلام الله تعالي وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/168)
ومنه قوله تعالي في بيان جملة من صفات المتقين أهل الإيمان: ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (( ).
وقال تعالي مبيناً الخصال التي يكون بها الشخص مؤمناً إذا طبقها على نفسه وعمل بما دلت عليه:( قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم علي صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( ( )، وقال تعالي: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون(( ).
وهذه الآيات واضحة الدلالة علي مذهب أهل السنة في حقيقة الإيمان المكون من القول والعمل والاعتقاد. وهي حجة على من فرق في الإيمان بين الاعتقاد والعمل، أو غالط في بعض تعريفات السلف للإيمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله – في بيان أقوال السلف حقيقة الإيمان:"ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية: وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام"( ).(3/169)
وقال أيضاً: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل الجوارح والقلب، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية. قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع فلان كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة ".
وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل وإنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال ولكن كان مقصودههم الرد علي المرجئة الذين جعلوه قولا فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة"( ).
واستدل أهل السنة على ما يذهبون إليه من دخول العمل في مسمى الإيمان بأحاديث كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"( )
وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم:"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخيارهم خيارهم لنسائهم"( )
وأحاديث أخرى كثيرة جعل فيها العمل من الإيمان.
وعلى هذا مضى السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم.
وعليه أيضاً مضى علماء الإسلام، ومنهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد، حيث فسروا الإيمان بأنه التصديق والقول والعمل، وأنه يقبل الزيادة ويقبل النقص، وأن أهله يتفاوتون فيه.(3/170)
ومما ينبغي فهمه أن السلف حينما يعرفون الإيمان بأنه قول وعمل؛ لا يقصدون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح دون النظر إلي إيمان القلب وتصديقه وعمله، فإن السلف ما كانوا يريدون ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل القلب وتصديقه الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع شرائع الإسلام.
فإن السلف يعتبرون إيمان القلب أمراً أساسياً في الإيمان وصلاح العمل، وإنما لم يصرحوا به لظهوره، إذ إنهم لم يتصوروا أن تلك الثلاثة الأمور في التعريف بالإيمان منفصلة عن بعضها. وحينما يعرف السلف الإيمان بأنه الإقرار والتصديق أو تصديق وعمل، لا يريدون من التصديق مجرد التصديق بالخبر فقط دون الالتفات إلي ثمرة التصديق وهو الإذعان والامتثال للأمر، الذي يتبعه العمل حتماً بل يريدون التصديق الذي يتبعه العمل كأثر للتصديق، وإلا فلا فائدة من التصديق إن لم يثمر العمل.
وهذا التفسير هو ما دل عليه الكتاب والسنة واللغة قال تعالي: ( وناديناه أن يا إبراهيم(140) قد صدقت الرءيا ( ( ) أي قد امتثلت الأمر وحققته فعلاًُ لو لا أن الله فدى ولدك بذبح غيره، وليس المقصود إنك صدقت الرؤيا كما تصدق سائر الأخبار أو تكذب، بل صدقتها وجزمت بالعمل القلبي الذي يتبعه العمل الظاهر وهو إرادتك ذبح ابنك، ولو كان المقصود بذلك مجرد المدح على تصديق الرؤيا لما كان له فضيلة فيها.
ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهى، والفرج يصدف ذلك كله ويكذبه"( ).
وتصديق الفرج وتكذيبه كناية عن الفعل نفسه أو عدمه، وعلي هذا فالتصديق الذي يريده السلف هو ما يتبعه العمل، وبهذا يتبين خطأ من ذهب إلى أن مراد السلف هو التصديق المجرد بالقلب دون الالتفات إلى عمل القلب وإذعانه.(3/171)
كما أن السلف يفسرون الإقرار هنا بمعنى حصول الالتزام والإذعان لا مجرد الإقرار بمعنى الاعتراف أو التصديق بالشيء، قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (( ).
والإقرار هنا ليس مجرد الاعتراف بل لابد من الإقرار المستلزم للعمل إذ الإقرار وحده لا يكفي.
أما مذهب المرجئة؛ فإن مجرد التصديق بالشيء يعتبر إيماناً به ظاهراً وباطناً، بغض النظر عن العمل – على حسب منهجهم-، فإذا تلفظ الشخص عندهم بكلمة الإخلاص – لا إله إلا الله –أصبح بمجرد تلفظه، إضافة إلي تصديقه مؤمناً كامل الإيمان ظاهراً وباطناً.
فإذا امتنع عن قولها فحكمه عندهم أنه كافر في الظاهر، وقد يكون مؤمناً في باطنه كما يزعمون، والسلف يحكمون بكفره ظاهراً وباطناً إذا امتنع عن قولها مع القدرة، مع أن مجرد التصديق قد لا يكون به الشخص مؤمناً، فإن بعض اليهود كان مصدقاً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله، ولكنهم لم يدخلوا الإسلام إما حسداً وإما خوفاً وإما استكباراً.
وبعضهم يزعم أنه رسول الله حقاً ولكن إلى العرب بخصوصهم( )، فلم ينفعهم هذا التصديق في الحكم لهم بالإيمان مع جمعهم بين الإقرار والتصديق كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان – كما قدمنا.
وإن الإنسان ليعجب حقاً ممن تجاهل منزلة العمل من الإيمان وهو يقرأ كتاب الله وسنة نبيه، ويسمع الأحاديث التي تجعل الإيمان والعمل قرينين لا يغني أحدهم عن الآخر، فقد قرن الله تعالى العمل بالإيمان في مواضع عديدة من كتابه الكريم، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أحاديث كثيرة.
قال تعالى: ((وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار (( ).(3/172)
وقال تعالي: (والعصر (1) أن الإنسان لفي خسر(2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر(( )، ومرة يذكر الله في القرآن الكريم العمل ثم يذكر بعده الإيمان.
ومما يدل علي أنه لا فرق بين العمل والإيمان أو الإيمان والعمل في إطلاق كل منها علي الآخر أيضاً قوله تعالي: ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً(( ).
فمن فرق بين الإيمان والعمل بالجوارح فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع إلي هدي القرآن الكريم، وأن يترك الفلسفيات التي أنتجت هذه الخلافات العقيمة في قضية الإيمان التي كانت في تمام الوضوح عند الصحابة ومن بعدهم، حتى نبغت هذه الفئام من الناس ليشرحوا الإيمان بأغمض مما يتصور العقل كما هي عادة أولئك.
فإنهم يشرحون المسألة الواضحة حتى يجعلوها ألغازاً وطلاسم لا يعرف منها أحياناً إلا الحروف التي كتبت بها فتجد شروحات وكلاماً كثيراً لا فائدة من ورائه، وصدق ابن العز في قوله عن كثرة كلام المتأخرين وقلة كلام المتقدمين قال: "كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة بخلاف كلام المتقدمين فإنه قليل كثير البركة"( )، فهل يوجد أوضح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حقيقة الإيمان حين قال لجبريل في سؤاله عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"( )؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"( ).(3/173)
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى الذي يوضح حقيقة الإيمان في أنه مركب من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن زعم أنه مؤمن ومصدق بقلبه ولكن لا يؤمن بعمل تلك الأمور الظاهرة للإيمان فقد رد الحديث مهما ادعى من تعليلات، كما أن مجرد الإقرار لا يكفي للدخول في الإسلام عند السلف، فإذا أقر الشخص لكنه رفض العمل متعمداً فهو دليل علي كذبه في إقراره.
فمن أقر بالإسلام ثم امتنع عن الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك من شعائر الإسلام وأصر على الامتناع، فإن المرجئة لا يتجاسرون على الحكم عليه بالكفر لجواز أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، وفاتهم أن الذي يطمئن قلبه بالإيمان تكون شعائر الإسلام أحب إليه من كل فعل، وأن قرة عينه تكون دائماً في القيام بتلك الأعمال والاستزادة منها متقرباً بعملها إلي ربه.
هذا ويدل علي بعد فكر المرجئة عن الحق، فلو أن شخصاً صدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أبى أن يعمل بجوارحه ما أمر به كالصلاة مثلاً، وأصر على إبائه حتى قدم لضرب عنقه وهو مصر على إبائه، فإنهم يزعمون بأنه قد يكون مؤمناً في الباطن، ونحن لا ندري حتى وإن كان ظاهره الكفر الصريح.
وهذا افتراض كاذب لا وجود له إلا في الذهن؛ إذ لو كان مصدقاً بقلبه لما فضل أن تضرب عنقه على الامتثال لأمر ربه، وهو يعلم أن الأحكام في الدنيا إنما تجري على حسب ما يظهر من أفعال الإنسان، ثم رضي أن يموت كافراً في نظر المسلمين وراضياً بالأحكام التي سيعامله بها المسلمون بعد موته من عدم الصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، وأنه لا يورث إلى غير ذلك( ).(3/174)
يقول شيخ الإسلام رحمة الله: "ومن هنا يظهر خطأ جهم بن صفوان ومن اتبعه؛حيث ظنوا أن الإيمان، مجرد تصديق القلب وعمله، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة.
قالوا: وهذه كلها معاصي لا ينافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما يثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر. كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود"( )
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع
منزلة مذهب المرجئة عند السلف
مذهب المرجئة المتأخرين منهم مذهب رديء وخطير، يهون المعصية، ويدعو إلي الكسل والخمول، ولذا تجد السلف يحذرون منه كثيراً ويذمونه لما اشتمل عليه من فساد وإخمال لشعلة الإيمان في القلوب، وتمييع لمنزلة العمل في النفوس. وهذا المذهب ومذهب القدرية من المذاهب الرديئة.
ويذكر بعض العلماء روايات في ذمهم والتنفير من معتقداتهم، ومن تلك الروايات.
1-"صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب؛ المرجئة والقدرية"( ).
2-"صنفان من هذه الأمة لا تنالها شفاعتي؛ المرجئة والقدرية"( ).
3-"ألا وإن الله لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً "( ).
4-"صنفان من أمتي لا يردان على الحوض ولا يدخلان الجنة؛ القدرية والمرجئة"( ).
5-"لكل أمة مجوس ولكل أمة نصارى ولكل أمة يهود، وإن مجوس أمتي القدرية، ونصاراهم الحشوية، ويهودهم المرجئة"( ).
6- وفي رواية عن أنس بن مالك مرفوعة: "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم"( )(3/175)
وهذه الروايات ظاهرة في ذم المرجئة والقدرية لو كانت صحيحة بالرغم من تعدد طرقها، وبالرغم من كثرة احتجاج العلماء بها على القدرية والمرجئة.
وهناك من ضعفها لضعف أسانيدها، وإن ذكرها فمن باب تنوع الردود علي ذم القدرية والمرجئة، ويتلخص من كلام العلماء أنها دائرة بين الصحة والضعف والحسن، وفيها أن القول بالقدر والإرجاء لم يختص به هذه الأمة، بل إنها نزعة شريرة في الأمم السابقة، فالشيطان هو الذي يمليها لأتباعه في كل أمة وفي كل عصر ومع دعوة كل نبي.
ومهما كان فإن علماء السلف قد أدوا ما عليهم من النصح بوقوفهم في وجه هذه الطائفة، وتبيين ضلالها والخطر الذي يكمن في دعوتهم، ونصحوا للمسلمين بالابتعاد عن أقوالهم، ومن ذلك:
قال الإمام أحمد رحمة الله حين قيل له: من المرجئ؟ قال: المرجئ الذي يقول: الإيمان قول. وقيل له: المرجئة من هم؟ قال: من زعم أن الإيمان قول.وسئل عن من يقول: إنما الإيمان قول؛ فأجاب: هذا قول أهل الإرجاء قول محدث لم يكن عليه سلفنا ومن يقتدى به، وقال أيضاً: لا يصلي خلف مرجئ.
وذكر سعيد بن جبير المرجئة فقال: إنهم يهود أهل القبلة، أو صابئة هذه الأمة، ولعله لمشابهتهم اليهود حينما قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، أو قد يكون قال هذا عنهم لا تكالهم على غفران ذنوبهم دون النظر إلي أهمية العمل.
وقال فضيل بن عياض: "يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول لا عمل. ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة لا قول ولا عمل. ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل. فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالتونقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.
وقال منصور بن المعتمر في شئ: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة.
وقال شريك، وذكر المرجئة فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون علي الله.
وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري.(3/176)
وقال إبراهيم النخعي: الإرجاء بدعة؛ وقال أيضاً: لفتنتهم عندي أخوف علي هذه الأمة من فتنة الأزارقة.
وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من الإرجاء.
وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.
وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك.
وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه.
وقال أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة( ).
ونكتفي بما تقدم ذكره عن هذه الطائفة التي ازداد شرها وانتشارها في عصرنا الحاضر لموافقة هذه الأفكار لما في نفوس كثير من الناس الذين يريدون التفلت عن القيام به، فوجدوا في مذاهب المرجئة سنداً قوياُ وعذراً واضحاً في ذلك، وهم يغالطون أنفسهم، على معرفة تامة بأن منهجهم هذا لم يتحروا فيه النهج الذي بينه الله لعباده، والسيرة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وما من ناصح لهم عن تفريطهم إلا وأجابوه بأن الإيمان في القلب لا في المظاهر التي هي أقرب إلي الرياء بزعمهم. وهي حجة شيطانية كاذبة، إذ لو صحت لقلنا لكل من يعمل عملاً صالحاً: أنت مراء، وبذلك أفسدوا قلوب كثير من عامة المسلمين الذين يتأثرون بمثل هذه الأفكار الخبيثة التي ينفرون بها الناس عن مجالس العلم وسماع طريق الخير من أهل الصلاح والتقوى.
ولذلك تجرأ هؤلاء- وأكثرهم ممن لا يحسن فاتحة القرآن- علي ذم العلماء والمصلحين الذين يدعونهم إلي العمل الصالح وإلي الالتزام بمنهج الله وتطبيقه قولاً وفعلاً واعتقاداً، زاعمين أن إيمانهم يعدل إيمان هؤلاء الذين إيمانهم في هذه المظاهر كما يسمونها، بل ويجزم بعضهم أنهم أقرب إلي الله من هؤلاء الكادحين في رضى ربهم وطلب مغفرته وعفوه.(3/177)
نكتفي بهذا الموجز عن الإرجاء ومن أراد التوسع فعليه بكتب الفرق والمقالات؛ إذ لا يخلو كتاب من ذكر هذه الطائفة، ويرجع كذلك إلي ما كتبه الأخ سفر الحوالي في كتابه طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم، وقبل ذلك كله ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عنهم كما تجد ذلك في كتابه الإيمان الذي أصبح ضمن الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمة الله. وغير ذلك من كتب علماء السلف الذين عنوا بدراسة هذه الطائفة.
* * * * * * * * * * * * * *
أهم المراجع لهذه الفرقة
1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين / لأبي الحسن الأشعري.
2- الملل والنحل / للشهر ستاني.
3- الفرق بين الفرق/ للبغدادي.
4- الفصل في الملل والأهواء والنحل / لابن حزم.
5- مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي في الجزء (7) منها، وفي كتابه "الإيمان".
6- ظاهرة الإرجاء قي الفكر الإسلامي / د.سفر الحوالي.
7- طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم / د. هادي طالبي.
8- شرح العقيدة الطحاوية / لابن أبي العز.
* * * * * * * * * * * * * *
الباب الثاني عشر
الجهمية
هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟
تمهيد:
لقد كان لهذه الطائفة التي قامت على مبدأ التعطيل والجبر صولة وجولة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولقد تمكنوا وعلا شأنهم وقتاً من الزمن، واهتم علماء الفرق وأصحاب التاريخ والعقائد بأخبارهم وبيان عقائدهم وذكر أشهر رجالاتهم.
وآراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، ولا يزال الخصام بينهم وبين أهل الحق قائماً على أشده، كما كان سابقاً في الزمن القديم حتى وإن اختلفت في بعض الأحيان المسميات، خصوصاً بعد ظهور العصريين الجدد بمفاهيمهم الباطلة، الذين لم يقفوا عند حد في إثارة كل ما يمت إلي هواهم ولو بأدنى صلة، فهم جادون في إحياء تلك المفاهيم الجهمية الباطلة باسم التجديد حيناً والتطور أحياناً أخرى.(3/178)
فمثلاً الاكتفاء بمعرفة وجود الله عن العمل، أو الاعتقاد بعدم وجود الجنة الآن، وكذا النار، أو قولهم أو زعم أن الله لا يوصف بوصف، أو ليس في جهة. وغير ذلك من الآراء التي يعتقدها بعض الناس اليوم هي نفسها آراء الجهمية قديماً.
وإذا كان المثال للانفلات من الالتزام بالعقيدة الصحيحة والسير لهدمها تحت شعارات براقة في دعوى التجديد والتطوير، وأحياناً في صورة تمجيد للعقل والعلم أو التراث مما اهتم به كثير من الكتاب والكاتبات قديماً وحديثاً؛ فإنه يتوجب على كل طالب علم أن يحذر هؤلاء ويحذر منهم، وألا يركن إلي كتاباتهم، بل ولا ينبغي الاهتمام بقراءة كتبهم قبل أن يطلع على ما عندهم من الباطل؛ فإن تلك الكتب مملوءة بالدس والانحراف تحت زخرف من القول.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
التعريف بالجهمية وبمؤسسها
الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلي الإسلام، وهي ذات مفاهيم وآراء عقدية كانت لها آراء خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالي وأسمائه.
وترجع في نسبتها إلي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، الذي كان له ولأتباعه في فترة من الفترات شأن وقوة في الدولة الإسلامية حيناً من الدهر، وقد عتوا واستكبروا واضهدوا المخالفين لهم حينما تمكنوا منهم، ثم أدال الله عليهم فلقوا نفس المصير الذي حل بغيرهم على أيديهم. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلاً.
لقد كان هؤلاء الجهمية العقبة الكئود في طريق العقيدة السلفية النقية وانتشارها؛ حيث صرفوا علماء السلف عن نشرها بما وضعوا أمامهم من عراقيل شغلتهم وأخذت الحيز الأكبر من أوقاتهم في رد شبهات الجهمية ومجادلاتهم لهم وخصامهم معهم، وكانت العاقبة الحسنة – ولا تزال – لأهل السنة والجماعة ولله الحمد.
من هو الجهم بن صفوان:(3/179)
هذ1 الرجل هو حامل لواء الجهمية، واسمه الجهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة سنة 2هـ،ويكني بأبي محرز، وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته.
وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلي أن قتلاً سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130، وقيل سنة 132هـ. وتاريخه طويل، وكتبت فيه مؤلفات عديدة ورسائل جامعية.
كان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، وإلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن تلك، وقد نبذ علماء السلف أفكار جهم وشنعوا عليه ومقتوه أشد مقت مع ما كان يتظاهر به من إقامة الحق، قال عنه الأشعري بعد أن ذكر جملة من آرائه الاعتقادية التي تفرد بها، قال: "وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"( ).
إلا أن الشيخ جمال الدين القاسمي ذهب إلي أ ن جهماً كان من أحرص الناس على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن قتله إنما كان لأمر سياسي، وذلك لخروجه في وجه بني أمية، ولم يكن قتله لأمر ديني يوجب ذلك فيما يرى القاسمي"( ). وهو بهذا قد خالف ما ذكره جمهور العلماء من أن قتله إنما كان لأمر ديني، وقد أقر الناس قتله في وقته لضلاله.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه:"وكذلك الجهم وشيعته دعو الناس إلي المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدوا الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام"( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
نشأة الجهمية
نشأة الجهمية:
قامت أفكار الجهم بن صفوان على البدع الكلامية والآراء المخالفة لحقيقة العقيدة السلفية متأثراً بشتى الاتجاهات الفكرية الباطلة.(3/180)
وكانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، ووجد لها رجال يدافعون عنها، وظهرت لها مؤلفات وتغلغلت إلي عقول كثير من الناس على مختلف الطبقات. وقد ذكر شيخ الإسلام درجات الجهمية ومدى تأثر الناس بهم، وقسمهم إلي ثلاث درجات:
الدرجة الأولي: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز.
الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته.
الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.
ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه.
وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلي السنة المحضة أقرب منهم إلي الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائف هم إلي الجهمية أقرب منهم إلي أهل السنة المحضة"( )
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
بيان مصدر مقالة الجهمية(3/181)
يذكر شيخ الإسلام أصل مقالة التعطيل وأنها ترجع في نهايتها إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، يذكر ذلك في قوله: "ثم أصل هذه المقالة – التعطيل للصفات – وإنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أعني أن الله سبحانه وتعالي ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعني استولى ونحو ذلك...
أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم "( ).
ولهذا كان التجسيم والتشبيه هو أظهر سمات الديانة اليهودية المحرفة التي ملئت بها التوراة من وصف الله تعالي بصفات البشر من الندم والحزن وعدم العلم بالمغيبات، وغير ذلك من المعتقدات الباطلة.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً
للجهمية آراء وعقائد كثيرة تحتاج في دراستها إلي غير هذه العجالة. ومن أهم تلك الآراء للجهم ما نوجزه فيما يلي:
1 - مذهبهم في التوحيد؛ هو إنكار جميع الأسماء والصفات لله عز وجل ويجعلون أسماء الله من باب المجاز.
2 - القول بالجبر والإرجاء.
3 - إنكار كثير من أمور اليوم الآخر مثل:
1- الصراط.
2- الميزان.
3- رؤية الله تعالي.
4- عذاب القبر.
5- القول بفناء الجنة والنار.
4- ومنها نفي أن يكون الله متكلماً بكلام يليق بجلاله، والقول بأن القرآن مخلوق.
5- وأن الإيمان هو المعرفة بالله.
6- ونفي أن يكون الله تعالي في جهة العلو.
7- والقول بأن الله قريب بذاته، وأن الله مع كل أحد بذاته عز وجل، وهذا هو المذهب الذي بنى عليه أهل الاتحاد والحلول أفكارهم.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري آراء جهم التي تفرد بها فقال:(3/182)
"الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك، كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولوناً كان به متلوناً…
ويحكي عنه أنه كان يقول: لا أقول: إن الله سبحانه شيء؛ لأن ذلك تشبيه له بالأشياء( )، وكان يقول: إن علم الله سبحانه محدث – فيما يحكى عنه، ويقول بخلق القرآن، وأنه لا يقال: إن الله لم يزل عالماً بالأشياء قبل أن تكون"( ). إلي غير ذلك من آراء الجهمية الكثيرة.
وقد استفاض النقل عن العلماء في ردودهم على آراء جهم وأتباعه وفندوها وبينوا مصادرها، وعلى حسب ما قيل قديماً: "ما لا يدرك كله لا يترك كله"، ولهذا فإنني سأقتصر على إيضاح أهم الجوانب الاعتقادية لهذه الطائفة، وأبرز سماتها فيما يلي:
1- إنكار جميع الأسماء والصفات.
2- القول بالجبر والإرجاء.
3- إنكار الصراط.
4- إنكار الميزان.
5- القول بفناء الجنة والنار
1 - إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات:
تنكر الجهمية جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التي وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة، وقد عرفنا فيما سبق مصدر هذه الأفكار التي يعتنقها الجهمية القدماء والجدد.
وهذه المسألة كتب عنها العلماء كتابات مستفيضة ومؤلفات عديدة، دحضوا فيها كل ما يتعلق به الجهمية في نفي الأسماء والصفات، وقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وسائر علماء الفرق من رد وخصام وجدال مع هؤلاء.
شبهات الجهمية في نفي الصفات:
لقد أقدم الجهمية علي نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها:(3/183)
1-أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.
2-إرادة تنزيه الله تعالى.
3-أن وصف الله تعالي بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلي الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله – بزعمهم – بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات.
الرد عليهم:
مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث.
وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلي وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص في كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعه، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة؛ لأنهم على معرفة تامة أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها؛ لأن هذا هو القول على الله بغير علم.
إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك في الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أي شخص من الصحابة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من الصفات التي أخبر الله بها في القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وهذه دلالة على قوة ذكائهم و صفاء عقولهم لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل.(3/184)
وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإن عقلاء الناس حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أي تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالي. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، ولم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات، كما حصل عند من اتبع هواه ممن عطل أولاً ثم شبه ثانياً ثم زعم أنه ينزه الله تعالي.
ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال: ( الرحمن علي العرش استوى (، وهم يقولن: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعني استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة.
وحينما قال تعالى عن نفسه: ( وهو السميع البصير (، قالوا: يجب نفي مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله؛ إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلي آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء.
لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلي ظلمات الجهل، ومن اليقين إلي الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها و لا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.(3/185)
إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به: (قل أأنتم أعلم أم الله (( ).
إن التنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي.
وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلي آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم.
إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال.
ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة في تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أن كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة.
إن الجسمية التي يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلي هذا المفهوم الذي تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه.
إن كلمة الجسمية لله تعالي نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلي بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد.(3/186)
فهناك من ينفي لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفي ما يهدف إليه من نفي ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفي ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه؛ وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمة الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال:
"واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً،وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.
والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً".
إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلي السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.(3/187)
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (من وإلى)( ). فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة…" إلى أن قال:
"وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه"( ).
فينبغي للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان.
2-قول الجهمية بالإرجاء والجبر:
لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات في الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت في نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية في تلك الآراء التي نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العلم من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته في نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة للعمل في الإيمان؛ ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب؛ لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصي التي يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبري والإرجائي،فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التي أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم.
قال ابن أبي العز رحمة الله:(3/188)
"والجبرية أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه، وهم عكس القدرية نفاة القدر فإن القدرية إنما نسبوا إلي القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمي الجبرية قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب وكما لا يجزم لمعين"( ).
وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفي مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صله له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة،، وأن الذنوب لا تعلق لا بالإعتقاد وإنما هي تابعة للأعمال، وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب فهونوا المعاصي وشجعوا علي الركون إلي الكسل والخمول في العبادات.
ومع ذلك فهم يزعمون أن إيمان أي واحد منهم هو مثل إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لا تفاقهم في المعرفة بالله التي بنى الجهميون عقيدتهم في الإيمان عليها، وهم أجهل الناس بمعرفته عز وجل إذ نفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلا، إضافة إلي ما أحدثوه من الآراء والبدع الفاسدة.
وأما الجبر- بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلي الله عز وجل، وأن العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته في الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة.
قال الإمام ابن القيم عنهم:
بل فعله كتحرك الرجفان
وتحرك الأشجار للميلان
أفعاله حر الحميم الآن
فيه تعالى الله ذو الإحسان
أنى ينزه عنه ذو السلطان
هذا بمقبول لدى الأذهان(3/189)
والعبد عندهم فليس بفاعل
وهبوب ريح أو تحرك نائم
والله يصليه على ما لم ليس من
لكن يعاقبه على أفعاله
والظلم عندهم المحال لذاته
ويكون مدحاً ذلك التنزيه ما
والمقصود بهذا بيان مذهب الجهم الذي قرر فيه أن العبد مسلوب الإرادة والاختيار لأفعاله، مثله مثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح، ثم زعموا ما لا يعقله أحد إلا هم ومن قال بقولهم؛ وهو أن الله عز وجل مع أنه هو الذي جبر الإنسان على فعله ورغماً عنه، ومع ذلك فإن الله يعذبه بنار جهنم مع أن الفعل هو نفسه فعل الله فيه.
وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ لأن الظلم في مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه( )، وهذا تكذيب لقول الله: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (( )، وقوله تعالي: ( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (( )، إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى الذي يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد مدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات؛ لأن موجدها إنما الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق.
وقد أخبر الله تعالي بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها (( )، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزاني: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلي: إنه مصل … الخ؛ لأن هذه الأفعال هي أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقفوا ما ليس لهم بحق!!
3- إنكار الجهمية الصراط:(3/190)
الصراط من الأمور الغيبية التي أعدها الله في يوم القيامة، وقد ثبت في الشرع بأحاديث صحيحة إضافة إلي قول الله عز وجل: ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما ًمقضياً(( )
وفي الصراط تفاصيل طويلة وأخبار كثيرة، وقد حاولت حصر أكثر ما تيسر من أخباره في "الحياة الآخرة ما بين البعث إلي دخول الجنة أو النار"( ).
ونكتفي بإيجاز ما يهمنا ذكره هنا من أخبار هذا الأمر.
الصراط المراد به: ما ثبت في السنة النبوية أنه جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، يعبره الخلائق بقدر أعمالها إلي الجنة فمنهم من يجتازه ومنهم من يقع فيه.
وقد ورد في القرآن الكريم لفظة الصراط في تسعة وأربعين موضعاً-علي معان مختلفة لكنها متقاربة في المعنى- مراداً بها الطريق أو طريق الهداية والرشاد. هذا في اللغة، ولكن السلف ما كانوا يغفلون حقيقته الشرعية من أنه جسر ممدود على متن جهنم، ولم يأت التصريح بذكره في القرآن الكريم.
غير أن هناك آيات بعض العلماء جعلها في ذكر الصراط وبعضهم يجعلها إشارة إليه، ومن ذلك:
قول الله تعالى: (فاهدوهم إلي صراط الجحيم (( )، وهذه الآية ليس فيها التصريح التام بذكر الصراط في اصطلاح الشرع، إلا أن يقال: إن طريق الجحيم هو أخذهم إلي الصراط ومنه إلي النار.
ومنه قوله تعالى: ((فلا اقتحم العقبة (( )،ورد في تفسير العقبة أقوال كثيرة منها أن العقبة هنا هي الصراط.
وكذا قوله تعالي: ( وإن منكم إلا واردها… ( الآية؛ أي بالمرور على الصراط.
أما في السنة النبوية فقد ورد ذكره ووصفه وكيفية المرور عليه في عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب جسر جهنم))0 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ:اللهم سلم، وبه كلابيب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق ومنهم المخردل ثم ينجو"( ) إلى آخر الحديث.(3/191)
وللصراط أوصاف كثيرة؛ فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ولا ينجو عليه إلا من كتبت له السعادة، ولا صحة لأقوال المتأولين له فإنها في مقابلة النصوص، وفي مرورهم عليه يعطون أنواراً كل شخص نوره على قدر عمله.
ثم يقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملاً0 وقد نصبه الله لحكمة فلو شاء لاجتاز الخلق بغير نصبه، وقد تلمس بعض العلماء حكماً كثيرة لذلك إلا أنه ينبغي الإيمان التام بأن لله حكمة قد تظهر وقد لا تظهر حقيقتها لأحد، ولسنا مكلفين باستخراج الحكمة وقد كلفنا بالإيمان بكل ما صح ثبوته.
كما أنه ورد في تحديد مسافة الصراط أقوال كثيرة تفتقر إلى دليل من الشرع، فهي من اجتهادات العلماء واستنباطاتهم، وينبغي معرفة أن المسافة وطولها أو قصرها تعود إلى العمل، فالاجتياز عليه إنما هو بقدر العمل كما ثبت ذلك في عدة نصوص.
وإنكار الجهمية وغيرهم للصراط ليس لهم ما يتمسكون به إلا شبهات باطلة واستبعاد له، ظانين أن استبعاده في عقولهم يصح أن يكون دليلاً على إنكاره، وبغض النظر عن سرد تلك الشبهات فإن النتيجة واحدة وهي إنكار الصراط، ويكفي في الرد عليهم أن يقال لهم: إنكم تردون أقوال نبيكم صلى الله عليه وسلم بمحض الهوى والشبهات، وليس لكم أي دليل، ومن رد أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بعد صحة ثبوتها، فلا ريب في خسرانه ومفارقته طريق المؤمنين0
وإذا أردت أيها القارئ الكريم تفاصيل الصراط كاملة فارجع إلى ما سبق ذكره في المراجع التي ترشدك إلى أماكن أقوال العلماء وخلاصة آرائهم..
4_ إنكار الجهميه للميزان:(3/192)
الميزان من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها وقد أنكرته الجهمية، والمراد به في الاصطلاح الشرعي: الميزان الذي أخبر الله تعالى عنه في الأحاديث الشريفة في أكثر من مناسبة تنويهاً بعظم شأنه وخطورة أمره.
وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد خيرها وشرها، وقد أخبر الله عنه في القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته، وجاءت السنة النبوية فبينته. يظهره الله في يوم القيامة لإظهار مقادير أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على القول به واعتقاده.
وجاء ذكره في القرآن الكريم في أكثر من آية تنويهاً بعظمه وأهميته، قال تعالى: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين (( )، وآيات أخرى كثيرة لا تخفى على طلاب العلم، ودلالتها على إثبات الميزان أمر ظاهر، وقد وصف الله فيها الموازين عدل وأن من ثقل ميزانه، فقد أفلح وعاش عيشة راضية، ومن خف ميزانه فقد خسر وهوى إلي جهنم.
كما وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة فيها بيان ثبوت الميزان وصفاته وما الذي يوزن فيه، هل هو العامل فقط أو العمل فقط أو العامل والعمل، أو صحف الأعمال، وما الذي يثقله وما الذي يخففه ومن تلك الأحاديث وهي كثيرة:
قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"( ).
وأنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (( ) "( ).
وثبت أن العمل يوزن ويوزن أيضاً العامل، وتوزن صحائف الأعمال، وروي أن أشد ما يكون الناس خوفاً في يوم القيامة عندما يأتي دور الوزن.(3/193)
وقد تلقى المسلمون أخباره بالقبول والتصديق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع( )، ولم يخالف في ثبوته أي شخص من السلف.
وقد ذهبت الجهمية وغيرهم من أهل البدع إلى إنكاره بلا دليل، لأنه في زعمهم – يستحيل وزن الأعراض، كما أنكروا أن يكون هناك ميزان حقيقي له كفتان ولسان، معرضين عن النصوص الثابتة بذلك كما قدمنا بعضها.
وإذا أراد القارئ المزيد من أخبار الميزان والإطلاع على المناقشات الموسعة فيه فليقرأ – إن أحب – "الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار ". فسوف يجد فيه إن شاء الله كل ما يطلبه من تفصيل لأخبار الميزان ومواقف علماء السنة وعلماء البدع منه، وما الذي يوزن؟ وهل توزن أعمال الجن؟ وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر.
5- قول الجهمية بفناء الجنة والنار:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد الجنة وأن تكون دار أوليائه إلى الأبد، وأن يوجد النار وتكون دار أعدائه إلى الأبد، خلقهما الله وكتب لهما البقاء الأبدي بإبقاء الله تعالى لهما وهذا هو الثابت في الشريعة الإسلامية.
وخالفت الجهمية وجاءوا بأفكار ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، قال شمس الدين ابن القيم:
"والجهم أفناها وأفنى أهلها تبا لذاك الجاهل الفتان " (1)
ولم يكن لهم ما يستدلون به على إنكارهم ذلك إلا مجرد الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وصاروا يشنعون على السلف أهل الحق ما يعتقدونه في وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل.(3/194)
قال ابن أبي العز رحمه الله (2): " وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به وصاحوا به وباتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصلة الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فداوم الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي ".
لقد زعم الجهم وأتباعه أن الجنة والنار ستفنى بحجة أن ما لا نهاية له من الأمور الحادثة المتجددة بعد أن لم تكن يستحيل – حسب زعمه – أنها تبقى إلى ما لا نهاية، ولم يتصور أن بعض الأشياء التي شاء الله البقاء أنه يمتنع فناؤها.
ولا يوجد له من الأدلة إلا ما قاله أهل الكلام حينما أرادوا الاستدلال حسب عقولهم على حدوث الأجسام حين قالوا: كل جسم حادث لا بقاء له، فالأجسام حادثة وكل ما قبل الحدوث فهو حادث، والعالم قبل الحدوث فهو حادث.
ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا أخر لها لأن الله وحده هو الأول والآخر.
وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أرا د الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد.(3/195)
قال تعالى: ?وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( (1) أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: ?ومن أصدق من الله قيلا (.
وقال تعالى: ?وما هم منها بمخرجين ( (2)، " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " (3)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم.
وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ?من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ( (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ?ينادي مناديا يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا ( (5).
وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: ?يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ( (6)، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى.
وعن دوام النار يقول الله تعالى: " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (7)، وقال تعالى: (خالدين فيها أبدا ( (8)، ?وما هم بخارجين من النار ( (9)، ?لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ( (10)(3/196)
فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار، وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي جليل أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة، ولئن نازع هؤلاء في دوامهما فقد نازعوا في وجودهما الآن، حيث نفوا ذلك وأصروا على عدم وجودهما الآن بدليل أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس لصاحبها شجر في الجنة، ونسوا أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن، لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزيده جمالاً وحسناً.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفي إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: ?أعدت للمتقين ( (1).
وقال عن النار كذلك: ?أعدت للكافرين ( (2)، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما.
وقد جاء في السنة النبوية ما يؤكد وجودهما الآن كما جاء ما يؤكد بقاءهما أبدا – كما تقدم.
ومن الأحاديث التي تؤكد وجودهما الآن ما جاء في حديث الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترا بها المسك " (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (4).
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: رأى الجنة وتناول منها عنقودا، وقال لهم " ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا"(5).
إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد وجودهما الآن، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم، ولكن أهل البدع لا ينظرون إلى الحق إلا من زاوية هواهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
الحكم على الجهمية(3/197)
يتورع السلف كثيرا عن إكفار أي جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق المبطلة في تكفير الناس أو في تكفير بعضهم بعضا أيضا، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفارا، عملا بالنصوص ووقوفا عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات في التكفير، من لا يفطن لها وقع – ولابد – في الخطأ سواء أكان خطأ شرعيا أم خطأ في مفهومه للتكفير عند السلف.
ولهذا نجد أن كثير من العلماء يقعون في الخطأ حينما يحكون مذاهب السلف وهم على غير دراية كافية بمفاهيمهم ومصطلحاتهم.
أما بالنسبة لتكفير الجهمية بخصوصهم، فإنك ستجد أيها القارئ الكريم أن كلام الناس مختلف في إطلاق الكفر على الجهمية، فهناك من يهاجمهم ويحكم بكفرهم ويسوق المبررات لذلك، وهناك من يدافع عنهم ويأتي أيضا بمبررات.
ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، فقد جعل في كتابه – " كتاب الرد على الجهمية " (1) – بابا سماه باب الاحتجاج في إكفار الجهمية "، وبابا أخر سماه " بابا قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم ".
وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصلة أن الجهمية كفار للأمور الآتية:
بدلالة القرآن الكريم، حيث أخبر عن قريش قالوا عن القرآن: ?إن هذا إلا قول البشر ( (2) أي مخلوق، وهو نفسه قول الجهم بخلقه، ثم أورد كثيرا من الآيات في هذا.
ومن الأثر ما ورد عن علي وابن عباس في قتلهم الزنادقة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " (3)، والجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا منهم.(3/198)
قال الدارمي: " ونكفرهم أيضا بكفر مشهور "، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليما، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزله الأصنام التي لا تتكلم، ثم بكفرهم في عدم إثباتهم لله تعالي ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم في أنهم لا يدرون أين الله تعالى ولا يصفونه بإين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ".
كما أورد الدارمي جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبي مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبي سليمان، ويحي بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس.
* * * * * * * * * * * * * *
الباب الثالث عشر
المعتزلة
الفصل الأول
نشأتهم
المعتزلة أسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين سنة 105 وسنة 110هـ، بزعامة رجل يسمي واصل بن عطاء الغزال. نشأت هذه الطائفة متأثرة بشتى الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر، وقد أصبحت المعتزلة فرقة كبيرة تفرعت عن الجهمية في معظم الآراء، ثم انتشرت في أكثر بلدان المسلمين انتشارا واسعا، وعن كثرتهم وانتشارهم يقول الشيخ جمال الدين القاسمي:
" هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالا وأكثرها تابعا، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن، فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول كما قاله العلامة المقبلي في " العلم الشامخ "، وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين. بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة، فضلا عن أن يظن أنهم انقرضوا وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها " (1).
وهناك روايات يذكرها الباحثون في كيفية نشأة المعتزلة:(3/199)
إذ يرى بعض العلماء أن أصل بدء الاعتزال كان في زمن الخليفة الراشد علي رضى الله عنه، حينما اعتزل جماعة من الصحابة كانوا معه السياسة، وتركوا الخوض في تلك الخلافات التي نجمت بين علي ومعاوية رضى الله عنهما، وهذا القول باطل لا صحة له، وقد أيده الشيخ محمد الطاهر النيفر (2).
ويرى أكثر العلماء أن أصل بدء الاعتزال هو ما وقع بين الحسن البصري وواصل بن عطاء من خلاف في حكم أهل الذنوب.
وقد ظهر قرن الاعتزال بمبادئه المعروفة من البصرة التي كانت مسكنا للحسن البصري ثم انتشر في الكوفة وبغداد، ومنها إلى شتى الأقطار والآفاق.
ومما يذكر للمعتزلة أنهم كانوا شوكة قوية في صد مبادئ الزندقة، وقاموا بجهود كثيفة لنشر الإسلام، إلا أنهم لم يحسنوا التصرف إزاء القول بخلق القرآن وغيره من المبادئ التي عجلت باضطهادهم بعد قوتهم وشدة جانبهم.
وقد تفرقت المعتزلة فرقا كثيرة، واختلفوا في المبادئ والتعاليم، ووصلوا إلى اثنين وعشرين فرقة، نترك ذكر تفاصيلها هنا، ونحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتب الفرق (3).
إلا أنه يجمعهم إطار عام وهو الاعتقاد بالأصول الخمسة:
التوحيد على طريقة الجهمية والعدل على طريقة القدرية، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طريقة الخوارج.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات
يجد الباحث عن أسماء المعتزلة أن العلماء لم يتفقوا على تسمية واحدة للمعتزلة، ولم يقتصر كذلك المعتزلة على تسمية واحدة لهم.
ومن أقوال العلماء في تسميتهم:(3/200)
المعتزلة : ويرجع سبب التسمية إلى اعتزال أول زعيم لهم وهو واصل ابن عطاء الغزالي إلى حلقة الحسن البصري حينما ألقي رجل سؤالا عن مرتكبي الذنوب فبادر واصل إلى الجواب قبل أن يجيب الحسن (1)، ومن هنا تطور الأمر إلى اعتزال واصل ومن معه حلقة الحسن البصري فسموا معتزلة على سبيل الذم من قبل المخالفين لهم، على أن هذا التعليل لتسميتهم ليس أمرا متفقا عليه بل هناك عدة تعليلات واعتراضات وأجوبة أخرى (2).
وقد أخذت المعتزلة مبادئ كثيرة عن الجهمية، فقد أخذت القول بنفي رؤية الله تعالى ونفي الصفات والقول بخلق القرآن.
تسمية المعتزلة جهمية : ولهذا الاتفاق بين المعتزلة والجهمية في تلك المسائل العقدية، ولسبق الجهمية في الظهور، أطلق العلماء اسم الجهمية على المعتزلة، وذلك لأن المعتزلة هم الذين احيوا آراء الجهمية في مبدأ ظهورهم، حيث جاء المعتزلة ونفخوا في رمادهم وصيروها جمرا من جديد، ومن هنا استحق المعتزلة أن يطلق عليهم جهمية. فالجهمية أعم من المعتزلة فكل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزليا(3).
تسميتهم بالقدرية: بسبب موافقتهم القدرية في إنكار القدر وإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم، وهم لا يرضون بهذا الاسم ويرون أنه ينبغي أن يطلق على الذين يقولون بالقدر خيره وشره من الله تعالى لا عليهم، لأنهم لا يقولون بذلك، بل يقولون بان الناس هم الذين يقدرون أعمالهم. ولكن ابن قتيبة يرد عليهم ويرى أن نفي المعتزلة للقدر من الله تعالي وإضافته إلى أنفسهم يوجب أن يسموا قدرية، لأن مدعي الشيئ لنفسه أحق أن ينسب إليه (4)، وكان أول المتكلمين في القدر والمقررين له معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
ومن أسمائهم الثنوية والمجوسية: وهم ينفرون من هذا الاسم، والذي حمل المخالفين لهم على تسميتهم به هو مذهب المعتزلة نفسه، الذي يقرر أن الخير من الله والشر من العبد، وهو يشبه مذهب الثنوية والمجوس الذي يقرر وجود إلهين: أحدهما للخير والآخر للشر.(3/201)
الوعيدية: وهو ما اشتهروا به من قولهم بإنفاذ الوعد والوعيد لا محالة، وأن الله تعالى لا خلف في وعده ووعيده، فلابد من عقاب المذنب إلا أن يتوب قبل الموت.
المعطلة : وهو اسم للجهمية أيضا ثم أطلق على المعتزلة لموافقتهم الجهمية في نفي الصفات وتعطيلها وتأويل ما لا يتوافق مع مذهبهم من نصوص الكتاب والسنة ,
وإذا كانت تلك الأسماء لم يرتاحوا إليها ولا يحبون التسمية بها,فإن هناك أسماء أخر اختاروها لأنفسهم وأخذوا يدللون على الأفضل.
وتلك الأسماء هي:
المعتزلة : وقد سبق أنه اسم ذم وهو كذلك إلا أن المعتزلة حينما رأوا ولع الناس بتسميتهم به أخذوا يدللون على أنه اسم مدح بمعنى الاعتزال عن الشرور والمحدثات واعتزال الفتن والمبتدعين على حد قوله تعالى:? واهجرهم هجرا جميلا ? (1).
أهل العدل والتوحيد أو "العدلية ": والعدل عندهم يعنى نفي القدر عن الله تعالى، أو أن تضاف إليه أفعال العباد القبيحة، والتوحيد عندهم يعنى نفى الصفات عن الله تعالى، وتسميتهم بالعدلية اسم مدح اخترعوه لأنفسهم.
أهل الحق: لأنهم يعتبرون أنفسهم على الحق ومن عداهم على الباطل.
الفرقة الناجية: لينطبق عليهم ما ورد في فضائل هذه الفرقة.
المنزهون الله : لزعمهم حين نفوا الصفات أنهم ينزهون الله، وأطلقوا على من عداهم وخصوصا أهل السنة أسماء جائرة كاذبة مثل: القدرية – المجيزة – المشبه – الحشوية – النابتة.
سلطان المعتزلة:
ومهما كان، فلقد عظم أمر المعتزلة – الجهمية – واشتدت شوكتهم وقوى ساعدهم حينما استطاعوا اختطاف الخليفة العباسي المأمون إلى جانبهم، وحجبوا عنه كل فكر يخالف فكرهم، ووقع – رغم حبة للعلم والإطلاع – في يد أحمد بن ابي دؤاد، ومن ثم ناصر المعتزلة بكل ما لديه من قوة، بلا وأراد حمل كافة الناس على اعتناق المذهب المعتزلي، ورغب الناس فيه ورهبهم من تركه.(3/202)
ولقي المسلمون عنتا شديدا منه، وفتن كثير من الناس، وأوذي الكثير من العلماء الأجلاء وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله. " وتسمى هذه الفترة بمحنة خلق القرآن، وقد بلغوا الذروة ثم أخذوا ينحدرون عنها، فلما جاء المتوكل وجد نارا تتقد في كل مكان وامتحانات وضربا وتشريدا ونفيا، كل ذلك جلب السخط العام على رجال الدولة، فأبطل المتوكل القول بخلق القرآن وأبطل المحاكمات ليكتسب تأييد الرأى العام، وبذلك نصر المحدثين نصرا مؤزرا، فأصبح القول بالاعتزال يتحدث به سرا بعد أن كان جهرا " (2).
الاتفاق بين المعتزلة والقدرية:
ومن الجدير بالذكر أنه قد اتفقت مفاهيم المعتزلة مع القدرية في مسألة من أهم مسائل العقيدة، ألا وهى القدر وموقف الإنسان حياله، فذهبت المعتزلة والقدرية إلى القول بأن الله تعالى غير خالق لأفعال الناس، بل الناس هم الذين يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وليس لله تعالى أي صنع في ذلك ولا قدرة ولا مشيئة ولا قضاء. وهذا تكذيب لله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام.
وقد حملهم على ذلك قلة علمهم وعدم تصورهم أن يكون الله تعالى يأمر أو ينهى عن شيء وهو يعلم عاقبة ما سيئول إليه ذلك الشيء، فإن إثبات علم الله السابق ينافي أمره بالامتثال، وعلمه بالعصاة ينافى خلقه لهم وأمرهم بالطاعة كما يرى هؤلاء.(3/203)
وكل هذا باطل، فإن الله تعالى يقول: ?والله خلقكم وما تعملون ( (1)، ويقول سبحانه وتعالى في نفاذ مشيئته: ?وما تشاءون إلا أن يشاء الله ( (2)، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة عن مشيئة الله تعالى، والعبد مأمور بالامتثال ومنهي عن العصيان، وهو غير مسئول عن معرفة ما في القدر والأمور المغيبة، وإثبات علم الله تعالى لا ينافى الأمر بالامتثال، وعلمه بالعصاة لا ينافى خلقه لهم وأمرهم بطاعته، فقد علم الله كل ما سيفعله إبليس، ولكنه أمره بطاعته وبالسجود لآدم، وعلم أن الناس سيكون منهم الطائع والعاصي ولكنه أمر الجميع بطاعته، والعباد أعجز من أن يخلقوا أفعالهم بأنفسهم دون قدرة الله ومشيئة وقضائه.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثالث
مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية
ظهر في المعتزلة الجهمية رجال كان لهم أثر بارز في انتشار أفكارهم وذيوعها بين الخاصة والعامة، فكان منهم المناظرون الخصمون والمؤلفون، بل ووصلوا إلى أخذ السلطة، واستجلاب الخلفاء إلى مبادئهم، كما سبق. ومن رجالهم المشاهير.
1- بشر بن السري 2- ثور بن زيد المدني
3- ثور بن يزيد الحمصي 4- حسان بن عطية المحاربي
5- الحسن بن ذكوان 6- داود بن الحصين
7- زكريا بن إسحاق 8- سالم بن عجلان
9- سلام بن عجلان 10- سلام بن مسكين
11- سيف بن سليمان المكي 12- شبل بن عاد.
13- شريك بن أبي نمير 14- صالح بن كيسان
15- عبد الله بن عمرو 16- عبد الله بن أبي لبيد
17- عبد الله بن أبي نجيح 18- عبد الأعلى بن عبد الأعلى
19- عبد الرحمن بن إسحاق المدني 20- عبد الوارث بن سعيد الثوري
21- عطاء بن أبي ميمونة 22- العلاء بن الحا رث
23- عمرو بن أبي زائدة 24- عمران بن مسلم القصير
25- عمير بن هانيء 26- عوف الأعرابي
27- كهمس بن المنهال 28- محمد بن سواء البصري
29- هارون بن موسى الأعور النحوي 30- هشام الدستوائي
31- وهب بن منبه 32- يحيى بن حمزة الحضرمي(3/204)
قال السيوطي: "هؤلاء رموا بالقدر وكلهم ممن روى له الشيخان أو أحدهما " (1)
وإضافة إلى ما ذكره السيوطي رحمه الله هنا، فإنه لم يقتصر خطأ المعتزلة الفاحش في مسألة القدر، إنما كان لهم خبط واضطراب في أهم قضية على الإطلاق ألا وهى توحيد الله عز وجل، في مذهبهم أن التوحيد هو نفى جميع الصفات التي وصف الله بها نفسه المقدسة، واستبدلوها بصفات يتنزه الله عن الاتصاف بها، وزعموا أنها هي الحق.
وقد أورد الأشعري جملة اعتقاد المعتزلة في التوحيد وسرد عنهم عدة جمل يصفون بها الله عز وجل، زعموا أن ذلك هو توحيد الله تعالي وهو في الحقيقة إلحاد يؤدي إلى إنكار وجود الله تعالي، فقد وصفوة بصفات مبنية كلها على النفي المجرد، مملوءة بالتناقض والمستحيلات التي لا يمكن أن يوجد لها محل خارج الذهن لا تمت إلى توحيد الله بأى صلة، بل هي خيالات محضة وكذب على الله بغير دليل ولا أثاره من علم، ويمكن للقارئ أن يقف عليها في كلام الأشعري الآتي:
" أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم ولا شبح، ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم ولا شخص، ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال، وأمام وخلف، وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن " (1).
إلى أخر تلك الأوصاف التي ملئوا بها كتبهم وحشوا بها أذهان الناس، والتي لا يخرج القارئ منها بثمرة ولا يستفيد السامع فائدة تنفعه في دينه أو في دنياه لأنها جهل وخبط واضطراب فكري أدى إليه علم الكلام الذي جر على المسلمين الفتن وأنواع الشرور.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الرابع(3/205)
ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا
وللمعتزلة - كغيرهم من الفرق الكلامية – آراء وأفكار ومعتقدات كثيرة تحتاج دراستها إلى مجلدات، غير أنه يمكن عرض أهم آرائهم بإيجاز في المسائل الآتية:
1 - اختلفوا في المكان لله تعالي:
1- فذهب بعضهم – وهم جمهورهم – إلى أن الله تعالى في كل مكان بتدبيره، وهذا قول أبي الهذيل والجعفرين، والإسكافي، ومحمد بن عبد الوهاب الجبائي.
2- وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا في مكان، بل هو على ما لم يزل عليه، وهذا هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر
2- ذهبوا إلى أن الاستواء هو بمعنى الاستيلاء في قول الله تعالي: ?الرحمن على العرش استوى ( (1).
3- اجمعوا على أن الله لا يرى بالأبصار.
4- اختلفوا في صفة الكلام لله تعالى:
1- فذهب بعضهم إلى إثبات الكلام لله تعالي.
2- وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك.
ولهم اختلافات كثيرة في مسائل دقيقة من مسائل الصفات والعقائد (2)، لا يستدعي المقام الدخول في تفاصيلها ,
وأهم ما أود التنبيه عليه هو أن أبرز سمات هذه الطائفة في باب الأسماء والصفات تظهر في:
إنكارهم الصفات وتعطيلها.
أنهم بنوا آراءهم ومعتقداتهم في أصول خمسة، لا يسمي الشخص معتزلياً إلا إذا حققها واعتقد صحتها، وسوف نبين هذه الأصول مع الرد عليها، حسب ما يقتضيه المقام من الإيجاز المفيد إن شاء الله تعالى.
وقبل بيان تلك الأصول أجدني على يقين من أن إنكار الصفات وتعطيلها في مفهوم الفكر المعتزلي أمر لا يجهله طلاب العلم، فقد استفاضت كتب الفرق والمقالات وكتب التاريخ والعقائد في بيان هذا الموقف الخاطئ للمعتزلة، وسموه مع ذلك توحيد الله تعالي، وتنزيها له.(3/206)
لقد لبس الشيطان عليهم " حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن"، لانسياقهم في فلك أهل الكلام المذموم والفلسفة الدخيلة الممقوتة، فسموا ذمهم لله تعالى بإنكارهم لصفاته تعالى باسم ظاهره فيه الرحمة وباطنة من قبله العذاب، أي أن ظاهرة التنزيه ولكن باطنه تمام التشبيه والتعطيل، ولكن التسمية لا تغير الحقيقة عند عقلاء بني أدم في المسائل الاعتقادية التي يتوجب بسببها الطاعة والمعصية والحق والباطل. وكل هذه المواقف إنما جرتها كتب اليونان الفلسفية، التي وصفها أحد علماء اليونان بأنها ما دخلت بلدا إلا وأفسدت أهله.
لقد أساء المأمون الخليفة العباسي إلى الإسلام والمسلمين حين شجع ترجمة تلك الكتب ونشرها في ديار المسلمين، وحينما تضلع منها المعتزلة بدأت أفكارهم في الاضطراب، ولا أدل على هذا من إقدامهم على إنكار صفات الله تعالى الذي نتج عن جمعهم بين التشبيه والتعطيل ثم نفي تلك الصفات وسنذكر مزيدا من الرد عليهم إن شاء الله تعالي في دراسة أصول المعتزلة في الأصل الأول.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الخامس
الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها
الأصول الخمسة هي إجمالا:
1- التوحيد.
2- العدل.
3- الوعد والوعيد.
4- القول بالمنزلة بين المنزلتين.
5- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ويذكر العلماء أنه لا يسمى الشخص معتزلياً حتى يقول بهذه الأصول الخمسة.
أ - أما الأصل الأول وهو التوحيد: فإنهم يقصدون به البحث حول صفات الله عز وجل وما يجب لله تعالي وما لا يجب في حقه.
وقد حرص المعتزلة على إنكار صفات لله تعالى بحجة أن إثباتها يستلزم تعدد القدماء وهو شرك على حد زعمهم، لأن إثبات الصفات يوحي بجعل كل صفة إلها، والمخرج من ذلك هو نفى الصفات وإرجاعها إلى ذات الباري تعالي فيقال: عالم بذاته قادر بذاته.. الخ، وبذلك يتحقق التوحيد في نظرهم.
الرد عليهم(3/207)
إن الرد على المعتزلة في نفى صفات الله عز وجل مما لا يجهله أي طالب علم، كما أن مذهب السلف في تقرير صفات الله عز وجل في أتم وضوح وأجلى حقيقة، فإن السلف رحمهم الله يثبتون صفات الله عز وجل كما جاءت في الكتاب والسنة دون تحريف أو تأويل، مع معرفتهم بمعانيها وتوقفهم في بيان كيفياتها، لأنهم يؤمنون بأن الكلام في صفة كل شيء فرع عن تصور ذاته، والله عز وجل له ذات لا تشبه الذات ولا يعلم أحد كيفيتها، وصفاته كذلك ثابتة على ما يليق بذاته جل وعلا.
وهكذا ينبغي أن يكون معتقد المسلم، يصف الله بما وصف به نفسه في كتابه الكريم، وبما وصفه به رسوله الأمين نفيا وإثباتا. ولا يقف ما ليس له به علم، وقد علم أن طريقة السلف تتلخص في إثبات أسماء الله وصفاته على وجه لا يوحي بأي نوع من المماثلة والمشابهة على ضوء قول الله عز وجل: ?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير((1) المتضمن رد التشبيه والتمثيل ورد الإلحاد والتعطيل.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه حينما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل: " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا " (2).
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها - يعني قوله تعالى: ?سميعا بصيرا ( (3) ويضع أصبعيه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينية (4)،
وهذا زيادة تأكيد في إثبات صفات الله تعالي، قال البيهقي " وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله بيان محلهما من الإنسان " (1)
وصفاته عز وجل قديمة قائمة بذاته زائدة على الذات (2)، على التفضيل الصحيح عند السلف، لا كما ترى الفرق المخالفة للحق بأنها ذاته وليست بزائدة على الذات، لكي يتم لهم نفي الصفات مطلقا بزعم نفي التجزؤ أو التركيب أو تعدد القدماء وهو زعم باطل.
2- الأصل الثاني للمعتزلة: العدل:(3/208)
يقول القاضي عبد الجبار في بيانه لمعنى العدل ودلالاته، وفى سبب تأخيره الكلام عليه بعد إيراد بحث التوحيد – يقول:
" وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة وهو الكلام في العدل. وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم جل وعز وما يجوز عليه وما لا يجوز، فذلك أو جبنا تأخير الكلام في العدل عن الكلام في التوحيد " (3).
والذي يهمنا هنا هو بيات المراد بالعدل عندهم، حيث اتضح أنهم يريدون بالعدل ما يتعلق بأفعال الله عز وجل التي يصفونها كلها بالحسن ونفي القبح عنها – بما فيه نفي أعمال العباد القبيحة عن الله عز وجل رضاء وخلقا، لأن ذلك يوجب نسبة الفعل القبيح إلى الله تعالى وهو منزه عن ذلك لأن الله تعالى يقول: ?والله لا يحب الفساد((4)، (وما الله يريد ظلما للعباد ( (5)،
ويقول تعالى: ?إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم.. ( (5) الآية.
وفى هذا الفهم الخاطئ يقول القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: " أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم هم المحدثون لها " (6).
وقال في كتابه " المغني في أبواب العدل والتوحيد " تحت عنوان " الكلام في المخلوق ": " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم. وأن من قال: إن سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه (7).
فاتفق المعتزلة على أن الله تعالى غير خالق لأفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لأفعالهم، مع أنهم يؤمنون بأن الله تعالي عالم بكل ما يعمله العباد وأن الله تعالي هو الذي أعطاهم القدرة على الفعل أو الترك.
ولهم في هذا الباب شبه كثيرة وجدال عقلي.
ومن تلك الشبه:
أن إثبات خلق الله تعالي لأفعال العباد فيه نسبة الظلم والجور إليه تعالى والله منزه عن ذلك.
ومنها آيات كثيرة في القرآن الكريم يستدلون بها، منها قول الله تعالي:(3/209)
?ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت( (1)، ومأخذهم من هذه الآية كلمة "تفاوت"، وقد أخطأوا المراد منها حيث فسرها القاضي عبد الجبار بقوله:
" نفى الله التفاوت عن خلقه، فلا يخلو: إما أن المراد بالتفاوت من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة، لأن في خلقه المخلوقات من التفاوت ما لا يخفي، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالي، لاشتمالها على التفاوت وغيره " (2).
الرد عليهم:
مما لا شك فيه أن أفعال الله كلها حسنة لا قبيح فيها، إلا أن المعتزلة ارتكبوا مغالطات واضحة في فهم النصوص.
ذلك أن الظلم الذي نفاه الله عن نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه أو وضع سيئات شخص على أخر، أو أن ينقص من حسنات المحسن، وهذا ظلم بلا شك والله منزه عنه.
والخلاف إنما هو في حقيقته في خلق كل الأشياء وكل الأفعال، وأنها لا تخرج عن خلق الله وإرادته لها، قال تعالي: ?والله خالق كل شيء ( (3)، وقال تعالى: ?والله خلقكم وما تعملون ( (4)، وهؤلاء يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله فرارا – بزعمهم – من نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالي وإرادتها بزعمهم.
ولم ينظروا إلى أن الله عز وجل هو الخالق للعباد وأعمالهم، ولا يوجب ذلك أن يكون الله تعالي هو الفاعل لأعمالهم، فخلق الظلم والكذب والطاعة والمعصية، فمن فعل الظلم بأن غش الناس أو غصبهم أموالهم يقال له: غاش ومغتصب ومنتهب وسارق وفاجر.. إلى أخر الصفات، ولا ينسب إلى الله تعالى إلا باعتبار أقدار الله تعالي للعبد وشمول مشيئة لها لا أن الله هو الفاعل الحقيقي لتلك الجرائم، ولذلك حين جئ بسارق إلى عمر رضى الله قال له: لم سرقت؟ فقال السارق: قدر الله علي، فقال عمر: وأنا قدر الله على أن أقطع يدك " (5).(3/210)
" ذلك أننا لسنا مطالبين بالوقوف على ما عند الله من الأقدار، إنما نحن مطالبون بالقيام بالأعمال التي يريدها الله والاجتناب عن مالا يريده، ورتب الله الحدود ومصالح الناس على هذا القدر ".
فالله تعالى خلق ظلما من اتصف به من الناس كان ظالما، وخلق كذبا من اتصف به كان كاذبا، وخلق طاعة من اتصف بها كان مطيعا، وقد ورد في الحديث:إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم " (6).
وأما بالنسبة لاستدلالهم بالآية الكريمة: ?ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ((1).
فقد فسروا التفاوت هنا بالحكمة، بينما الصحيح أن التفاوت المنفي هنا هو التفاوت في الخلقة، أي لا يوجد في خلق السموات والأرض من تفاوت، أي من عيب أو خلل، لقلة استوائهما بل هما في أدق تناسب وإتقان، فالمقصود بنفي التفاوت في الخلقة وليس في الحكمة كما فسروه.
وهناك آيات أخرى استدلوا بها ذكرها القاضي عبد الجبار في كتابه شرح الأصول الخمسة (2).
ويلتحق بمسألة العدل مسائل من أهمها:
الصلاح والصلح، واللطف من الله تعالى، وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام.
والصلح: كلمة محببة إلى النفوس، لأنها ضد الفساد.
والأصلح: كلمة توحي بأعمق من الصلاح، وقوة القرب من الخير والنفع.
والمعتزلة تؤكد أن الله تعالي لا يفعل بعبادة إلا الصلاح وما فيه نفعهم وجوبا عليه جلا وعلا، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان ظلما لهم ونقصا مما فيه صلاحهم، بل وخلاف الحكمة في إيجاده لهم إذا لم يعنهم على ما كلفهم به، حسب ما يرى المعتزلة من الواجبات التي افترضوها على الله تعالى.
الرد عليهم:
أمر الله وأرشد عبادة إلى أن يفعلوا كل ما فيه صلاحهم، وأن مرد ذلك يعود إليهم هم، وأن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وقد كتب الله على نفسه الرحمة تفضلا منه، وحرم الظلم عدلا منه.(3/211)
والله تعالى يفعل بعباده الأصلح لهم، ولكن لا يجوز القول بالوجوب عليه جل وعلا على سبيل المعاوضة كما هو الحال بين المخلوقين.
فإن العباد لا يوجبون عليه شيئا وإنما هو الذي أوجب على نفسه تفضلا منه وكرما، لا أنه يجب عليه فعل الصلاح والأصلح بمفهوم المعتزلة الذي فيه إقامة الحجة عليه إن لم يفعل بهم ذلك، فإنه حسب معتقد هؤلاء يحق للكافر أن يقول: يا رب أنت خلقتني وزقتني ومكنتني من الكفر حتى مت كافرا، فلم أقدرتني على ذلك، ولم تعاملني بالأصلح كغيري من الناس الذين ماتوا على الإسلام؟
ويحق كذلك لمن كانتا درجته نازلة في الجنة أن يقول: لما لم تمكني من الأعمال التي توصلني إلى ما وصل إليه غيري من الدرجات العلى؟
ومذهب أهل السنة هو الحق، فلا إيجاب على الله إلا ما أوجبه على نفسه تفضلا منه وكرما، لأن العباد يستحقون عليه شيئا بإيجاب أحد من خلقه عليه.
وكذلك مسألة اللطف من الله تعالى هي من الأمور الثابتة، لكن ليس على سبيل الإيجاب على الله تعالى كما ترى المعتزلة.
بل اللطف من الله بمحض تفضله جل وعلا وكرمه ومنه عليه بالتوفيق إلى فعل الخيرات وترك المحذورات، ولا يجوز القول بوجوب فعل اللطف على الله تعالى.
قال تعالي: ?ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ( (1)
فقد لطف الله بعباده إذ لم يتبعوا الشيطان جملة، حيث بصرهم بعواقب طاعة الشياطين وبين لهم أضرار ذلك، ثم لطف بهم وقوى عزيمتهم على عصيان الشيطان تفضلا منه تعالي وليس بإيجاب أحد عليه.
وأما إرسال الرسل فإنه من جملة ما توجيه المعتزلة على الله تعالى، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان مخلا بما هو واجب عليه، لأن صلاح العباد يتعلق بإرسال الرسل لتعريف الناس، وما دام صلاح العباد يتوقف على إرسالهم فإن إرسالهم يكون واجبا عليه، لأن إرسالهم هو مقتضى العدل الذي يتم به صلاح الخلق.
الرد عليهم:(3/212)
قد عرفنا فيما سبق أنه لا يجوز لأحد أن يوجب على الله تعالي شيئا، فهو رب العباد وخالقهم ومالكهم يتصرف فيهم كما يشاء فلا موجب عليه إلا ما أوجبه هو على نفسه تفضلا وكرما.
وقد اقتضت حكمته تعالى أن يرسل الرسل وأن يعذر إلى الخلق فلا يعذب أحدا إلا على مخالفته لرسله قال تعالى: ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( (2)، وقال تعالى: ?ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ( (3)، وهذا من تفضله وكرمه على عباده ولطفه بهم، لا أن أحدا أوجبه عليه كما ترى المعتزلة.
3- الأصل الثالث: الوعد والوعيد:
1 - الوعد:
الوعد في مفهوم المعتزلة عرفه القاضي عبد الجبار بقوله:
"أما الوعد فهو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا وبين ألا يكون كذلك، ألا ترى أنه كما يقال: أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب، فقد يقال: وعدهم بالتفضل مع أنه غير مستحق، وكذلك يقال: فلان وعد فلانا بضيافة في وقت يتضيق عليه الصلاة مع أنه يكون قبيحا " (4)
قال: " ولابد من استقبال الحال في الحدين (5) جميعا، لأنه إن نفعه في الحال أو ضره مع القول لم يكن واعدا ولا متوعدا " (6).. إلى أن قال في بيان علوم الوعد والوعيد في مفهومهم: " وأما علوم الوعد والوعيد فهو أنه يعلم أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب " (7).
هذا هو مذهب المعتزلة، يوجبون على ربهم أن ينفذ وعده وأن يعطي العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقا منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده.(3/213)
وقد أورد المعتزلة لتأييد مذهبهم هذا بعض النصوص التي فهموا منها وجوب إنفاذ الله وعده، وهى آيات من القرآن الكريم وبعض الشبه العقلية، منها قول الله عز وجل: ?ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( (1).
وموضع الشاهد من الآية هو قوله تعالى: (فقد وقع أجره على الله (، حيث فسروا هذا الوقوع بمعني الوجوب، أي فقد وجب ثوابه على الله استحقاقا، لأن العمل في رأيهم من موجبات الثواب.
واستدلوا أيضا على ذلك من العقل بأن الله مادام قد كلف عباده بالأعمال الشاقة فلابد أن يكون لها مقابل من الأجر، وإلا لكان ذلك ظلما، والله منزه عن الظلم، فلا يجوز على الله تعالي – في نظرهم – أن يوجب العمل ولا يوجب له جزاء.
والواقع أن ما استدلوا به من الآية والشبهة العقلية إنما بنوه على مسألة وجوب دخول الجنة بالعمل وهى من المسائل الهامة، وقد أورد الحافظ ابن حجر فيها عدة معاني للعلماء حول مفهوم الحديث الذي روته عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سددوا وقاربوا وابشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " (2).
وحول مفهوم الآيات التي تفيد أن دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل لقوله تعالى: ?يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( (3).
وبين الآيات التي تفيد أن دخولها إنما هو تفضل من الله تعالى لقوله عز وجل في إخباره عن كلام أهل الجنة وغبطتهم بما هم فيه: ?الذي أحلنا دار المقامة من فضله ( (4).
فهل يكون دخول الجنة استحقاقا بالعمل كما ترى المعتزلة، أم إن دخولها إنما هو بفضل الله مضافا إليه العمل؟(3/214)
والحق أن دخول الجنة إنما هو بفضل الله أولا وأخيرا، وليس للعبد على ربه أي استحقاقا غير أن الله تعالي أوجب على نفسه أنه لا يظلم عمل عامل من ذكر أو أنثي، فجعل العمل من الأسباب دخول الجنة، والسباب نفسها إنما هي تفضيل من الله تعالى.
فاتضح أن استدلال المعتزلة بالآية السابقة وغيرها في وجوب الثواب – بمعني أن الله تعالى يجب عليه شيء لم يوجبه هو على نفسه – استدلال خاطئ، فإن الله تعالي لا يستطيع أحد من خلقه أن يوجب عليه شيئا لم يوجبه هو على نفسه.
فالخلق عبيده وله عليهم من النعم ما لا يقومون بشكر أقلها، ومع ذلك فإن الله تعالى لا يخلف وعده، فإنه يعطي العبد ما وعده به من الخير بحكم وعده وكرمه، وفرق بين وقوع ذلك على هذه الصفة وبين وقوعه استحقاقا.
هذا الجواب يدفع كذلك شبهتهم العقلية التي بنوها على المعارضة بينهم وبين الله عز وجل وقد علمت خطأ هذا التصور (1)، وأن نعمة واحدة لا تفي بها أعمال العبد مهما كثرت، ولكن الله تعالي جعل العمل مع رحمة الله تعالى من أسباب دخول الجنة.
2 - الوعيد:
والوعيد في مفهوم المعتزلة سبق بيانه في كلام القاضي عبد الجبار من أن الله يفعل ما وعد به توعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب ".
والمقصود بالوعيد هنا هو ما يتعلق بأحكام المذنبين من عصاه المؤمنين إذا ماتوا من غير توبة، وقد أوضح المعتزلة رأيهم في هذا وهو أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا من غير توبة فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار (2)
شبههم:
للمعتزلة شبهات في تأييدهم لمذهبهم بإنفاذ الوعيد لا محالة، وقد استدلوا من القرآن الكريم بكل آية يذكر فيها عقاب العصاة بالنار والخلود فيها، وهى آيات كثيرة مثل قوله عز وجل: ?إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ( (3).(3/215)
وقوله تعالى: ?بلي من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( (4).
وآيات أخرى كثيرة يدل ظاهرها على هذا المفهوم.
والواقع: أن مسألة تخليد أصحاب الذنوب في النار من المسائل التي بحثها المعتزلة وأهل السنة، وأطالوا فيها الكلام وكثر فيها الخصام، وأود إيجاز النتيجة في ما يلي:
إن استدلال المعتزلة لما يذهبون إليه من إنفاذ الوعيد لا محالة، وأن أصحاب الكبائر والذنوب من المؤمنين مخلدون في النار حتما قول غير مسلم، وهو خطأ في فهم النصوص وحمل لها على غير معانيها الصحيحة، فإن الآيات لا تدل على خلود أصحاب المعاصي من المؤمنين خلودا أبديا حتميا، ذلك أن الله عز وجل قد يعفو عنهم ابتداء وقد يعذبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم الله بتوحيدهم وإيمانهم، لأنه لا يخلد في النار إلا من مات على الشرك الذي أخبر عز وجل أنه لا يغفر لصاحبه، وأما ما عدا الشرك فإن الله تعالي يغفره.
ومن ناحية أخرى، فإن خلف الوعيد من فعل الكرام وهى صفة مدح، بخلاف خلف الوعد فإنها صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حق نفسه، وهذا هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة. وما ذهب إليه المعتزلة من منع إخلاف الوعيد وزعمهم أنه من الكذب فهو إلى سوء الظن أقرب، وهو تحكم على الله عز وجل، والله تعالى يفعل ما يشاء.(3/216)
وقد أجمل الطحاوي مذهب أهل السنة في كلامه الآتي: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين (1) وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: ?ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( (2)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالي تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته (3).
وهذه الشفاعة التي أشار إليها الطحاوي رحمه الله للمعتزلة فيها موقف مخالف لموقف أهل الحق.
وذلك أن المعتزلة لا ترى الشفاعة لأحد في الآخرة إلا للمؤمنين فقط دون الفساق من أهل القبلة، فلا شفاعة لأهل الكبائر، لأن إثبات ذلك يؤدي إلى خلف وعيد الله، وخلف الوعيد عندهم يعتبر كذبا والله يتنزه عن الكذب.
ثم استدلوا بالآيات الواردة في نفي الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين كقوله تعالى: ?واتقوا يوما لا تجرى نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ( (4).
وكذا قوله تعالي: ?ولا يشفعون إلا لمن ارتضي ( (5)، أي والفساق غير راضي عنهم فلا تصح الشفاعة فيهم.
وقوله تعالى: ?ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ( (6).. إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى.
ولا ريب أن المعتزلة جانبوا الصواب في الحكم بنفي الشفاعة في العصاة، فإن القول بإثبات هذه الشفاعة مما هو ثابت متواتر عن السلف، لثبوت الأحاديث المتواترة بذلك وإجماع علماء الإسلام عدا المعتزلة.
والذي جر المعتزلة لهذا الخطأ خطأ أخر، وهو أن من عقائدهم أن السيئات يذهبن الحسنات, فلو أتى الشخص بحسنات كالجبال , ثم جاء بعدها بسيئة , فإن تلك الحسنات تحبط بمجرد صدور المعصية.(3/217)
ومذهب السلف أنه لا شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة عن الإسلام والرجوع إلى الكفر، كما أن تكفير جميع السيئات عن المذنب لا يكون إلا بالتوبة.
وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والتحقيق أن يقال: إن الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط، لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة، لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين، فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، إلى أن قال: " فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة " (1).
4 - الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين
تدور هذه المسألة حول الحكم على مرتكب الكبيرة، حينما طلب إلى الحسن البصري أن يبين الحكم في صاحب الكبيرة، وما تلا ذلك من جواب واصل بن عطاء، ثم اشتداد الخلاف بعد ذلك واعتزال واصل وجماعته حلقة الحسن البصري.
وقد قدمنا أن قضية مرتكبي الذنوب كانت هي الحصيلة الحتمية عند المعتزلة لمواقف الفرق الأخرى من خوارج ومرجئة وأهل السنة أيضا، بسبب ما استجد بين المسلمين من أحداث خطيرة سياسية، ابتداء من قتل عثمان رضي الله عنه وانتهاء بأصحاب المعاصي أيا كان عصيانهم.
وقد أجمعت المعتزلة على قضية المنزلة بين المنزلتين واعتبروها أصلا من الأصول الثابتة.
وتلقب هذه المسألة حسب ما يذكره القاضي عبد الجبار " بمسألة الأسماء والأحكام " (2).
وقد بين اصطلاح المتكلمين في معنى المنزلة بين المنزلتين بقوله:(3/218)
" والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه. هذا في أصل اللغة، وأما في اصطلاح المتكلمين فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسما بين الاسمين وحكما بين الحكمين على ما يجئ من بعد " (3).
وما أحال إليه هنا في قوله: " على ما يجئ من بعد " قد شرحه تحت عنوان: " الأصل الرابع: وهو الكلام في المنزلة بين المنزلتين "، قال فيه: " أعلم أن هذا الفصل كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالنزلة بين المنزلتين، ومعنى قولنا: إنه كلام في أسماء الأحكام، هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن وإنما يسمى فاسقا وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما " (4).
والمقصود أن المعتزلة يريدون بالمنزلة بين المنزلتين المؤمن صاحب المعاصي، فهو عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل يفرد له حكم ثالث وهو تسميته " فاسقا" في الدنيا، والحكم بخلوده في النار في الآخرة، فاختلف اسمه وحكمه في الدنيا فاستحق أن يكون في منزلة بين المنزلتين.
والذي حيرهم في أمر الفاسق هو أنه من جهة ليس بمؤمن، لأن حكم المؤمن لا ينطبق عليه في الواقع لمجيئه بأعمال غير المؤمنين في بعض أموره، وهو كذلك ليس بكافر تماما لمجيئه بأعمال المؤمنين في بعض أموره، إذا فهو فاسق، والفسق اسم ذم، وما ثبت له اسم الذم انتقى عنه اسم المدح، وقد توعد الله الفساق بالنار فحكمه في الآخرة الخلود فيها.
ويرد عليهم: ببيان حكم مرتكب الكبيرة في الشرع، هل حكم بكفره وإخراجه من الملة أو حكم بإيمانه الإيمان الكامل، أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.(3/219)
الواقع: أن العاصي غير خارج من الملة بفسقه بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولم تخرجه النصوص عن الإيمان لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه، ولا في إجماع الأمة، وفى هذا يقول الطحاوي: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " (1).
وقد أجاب الشارح ابن أبي العز الحنفي حول ما ورد من تسمية الشارع لبعض الذنوب كفرا مثل قول الله تعالى: ?ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(3).
وأمثلة أخرى كثيرة يفيد ظاهرها إطلاق كلمة الكفر على من اقترف ذنبا من تلك الذنوب.
ثم أجاب عن ذلك كله فقال:
" والجوانب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية – كما قالت الخوارج – إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولا القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين – كما قالت المعتزلة – فإن قولهم باطل أيضا، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ( (4) إلى أن قال: ?فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف (، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخا لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب، وقال تعالى: ?وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ( إلى أن قال: ?إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ( (5)(3/220)
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار " (6) فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه "، ثم أورد حديث المفلس (7) وقول الله تعالى: ?إن الحسنات يذهبن السيئات ( (8)، ثم قال: " فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته " (9).
وهذا جواب نفيس جامع لفوائد عظيمة وفيه بيان جلي لمذهب السلف في هذه القضية التي أخطأ فيها المعتزلة وجعلوا العصاة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وحكموا بخلودهم في النار في الآخرة، ولم يلتفتوا إلى مشيئة الله تعالى في أولئك وهو الفعال لما يريد جل وعلا – فقطعوا عنه المشيئة، ثم زادوا الخطأ بآخر حينما حكموا بخلوده في النار مع من مات على الشرك ولم يسجد لله سجدة، ولا شك أن العقل يأبى هذا الحكم مع أنهم ممن يقدر العقل ويقدمه على النقل، ولكن الهوى يغطي على العقل والفهم إلا من وفقه الله تعالي.
5- الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا هو الأصل الأخير من أصول المعتزلة الخمسة.
وقد بين القاضي عبد الجبار حقيقة الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر، فقال: " أما الأمر: فهو قول القائل لمن دونه في الرتبة: أفعل، والنهي هو قول القائل لمن دونه: ولا تفعل.
وأما المعروف: فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى: معروف، لم يعرف حسنها ولا دل عليها.
وأما المنكر: فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه، ولو وقع من الله تعالي القبيح لا يقال: أنه منكر، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه " (1).(3/221)
ومعنى التعريف أن المعروف والمنكر لابد أن يتضح أمرهما عند الشخص بأن يرى حسن المعروف ويدلل عليه، ويرى قبح المنكر ويستطيع أن يدلل عليه، وهذا بخلاف ما لو وقع من الله – افتراضا – فعل القبيح فإنه لا يستطيع أن يدلل عليه، ولذا فلا يوصف بالمنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبران من فروض الكفايات عند المعتزلة إذا قام بهما من يكفي سقط عن الباقين، وحكمها عموما الوجوب الكفائي.
وقد استدل المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كثيرة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية والإجماع.
فمن القرآن الكريم قوله تعالى: ?كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ((2)، قال عبد الجبار: " فالله تعالى مدحنا على ذلك فلولا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك " (3).
قال عبد الجبار: " وأما من السنة فهو قول النبي: " ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل"(4).
قال: " وأما الإجماع فلا إشكال فيه، لأنهم اتفقوا على ذلك " (5)، وقد توافق أهل السنة والمعتزلة في حكم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كونه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره الله تعالي في كتابه الكريم حيث قال: ?ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ((1)، وإلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلي:
1- طريقة تغيير المنكر.
2- أوجبوا الخروج على السلطان الجائر.
3- حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصي من أهل القبلة.
فأما طريقة تغيير المنكر: فقد ساروا فيها عكس الحديث الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسلم إزاء تغيير المنكرات.
عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(3/222)
إذ إن تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى ثم باللسان ثم باليد ثم بالسيف، بينما الحديث يرشد إلى العكس، وهو ما يذهب إليه أهل الحق، من أن تغيير المنكر يبدأ بالفعل باليد إذا لم يترتب عليه مفاسد، والتغيير باليد هنا لا يكون بالسيف، وإنما هو إزالة المنكر بدون قتال ولا فتح باب فتنة أكبر من المنكر المراد إزالته.
فإن لم يتمكن الشخص من التغيير باليد انتقل إلى التغيير باللسان، فإن وصل الحال إلى عدم الاستطاعة من التغيير باللسان بأن كان الشر هو الغالب على الخير، فليكتف بالتغيير بالقلب من كراهة المنكر وتمنى زواله وبغضه وبغض أهله، ومع هذا فلا مكان للسيف هنا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشد إليه، ولما فيه كذلك من جر الأمة إلى ما هو أكبر من تغيير ذلك المنكر، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يرون حرجا في حمل السلاح لتغيير المنكر.
وأما الخروج على السلطان الجائر فقد أوجبه المعتزلة، والواقع أن جور السلطان وارتكابه المعاصي لا يوجب الخروج عليه لما يترتب على ذلك من المفاسد ومن سفك الدماء وتفريق كلمة الأمة، فإن الإسلام لا يبيح الخروج عليه إلا عندما يظهر الكفر منه صراحة.
وأما حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم من أهل القبلة فلا دليل لهم على ذلك، ولا يجوز أن يستحيل دم المسلم إلا بما حدده الشرع، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فلا يجوز قتاله واستحلال دمه ولم يأمر الشرع بذلك، فيجب على المسلم الالتزام وترك تنطع الخوارج والمعتزلة.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب الرابع عشر
" الأشاعرة أو السبعية "(*)
وفيه المطالب الآتية:
1- ظهور الأشاعرة:
ظهرت الأشعرية بعد أن تنفس الناس الصعداء من سيطرة المعتزلة في القرن الثالث الهجري.
وهى في الأصل نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة وكان أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تركه واستقل عنهم، ولقد أصبح الانتساب إلى الأشعري هو ما عليه أكثر الناس في البلدان الإسلامية.(3/223)
بعضهم على معرفة بمذهبه الصحيح وآرائه التي استقر عليها أخيرا، وبعضهم على جهل تام بذلك وبعضهم يتجاهل ويصر على مخالفته مع انتسابه إليه.
وانتساب الأشاعرة إليه إنما هو بعد تركه للاعتزال وانتسابه إلى ابن كلاب، وهى المرحلة الثانية من المراحل التي مر بها الأشعرية، ولم يدم فيها إذ رجع إلى مذهب السلف، ولكن بعض الأشاعرة ينتسبون إليه ولكن في مرحلته الثانية، ومن انتسب إليه في مرحلته الثالثة فقد وافق السلف، ونذكر فيما يلي نبذة موجزة عنه.
2 - أبو الحسن الأشعري:
هو علي بن إسماعيل الأشعري ينتسب إلى أبي موسى الأشعرية، وهو أحد علماء القرن الثالث، تنتسب إليه الأشعري، ولد في البصرة سنة 250 هـ وقيل: سنة 270 هـ وتوفى سنة 330 هـ على أحد الأقوال.
تعمق أولا في مذهب المعتزلة وتتلمذ على أبي علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب أحد مشاهير المعتزلة، إلا أن الله أراد له الخروج عن مذهبهم والدخول في مذهب أهل السنة والجماعة، وتوج ذلك بما سجله في كتاب " الإبانة عن أصول الديانة ".
ومما يذكر عن سيرته أنه كان دائما يتململ من اختلاف الفرق في وقته وينظر فيها بعقل ثاقب، فهداه الله إلى الحق واقتنع بما عليه السلف من اعتقاد مطابق لما جاء في القرآن والسنة النبوية فكان له موقف حاسم في ذلك.(3/224)
ومما يدل على ذكائه وطلبه للحق وإفحامه لخصمه في المحاجة أنه سأل أستاذه (1) أبا علي الجبائي عن ثلاثة أخوة كان أحدهم مؤمنا برا تقيا. والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيرا، فماتوا فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال: ذلك التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارئ جل وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالي فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي.
لقد كان الأشعري إماما فذا كثير التأليف واسع الإطلاع محببا إلى الناس، ولهذا تجد أن كل طائفة تدعي نسبته إليها " فالمالكي يدعي أنه مالكي، والشافعي يزعم أنه شافعي، والحنفي كذلك " (2).
3 - عقيدة الأشعري:
علمنا فيما مضى أن الأشعري كان على مذهب المعتزلة ومن العارفين به، وأنه أقام عليه مدة أربعين سنة ومما يذكره العلماء عن سيرته ورجوعه عن الاعتزال ومذهب ابن كلاب إلى المذهب الحق، أنه مكث في بيته خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الناس وفى نهايتها خرج في يوم جمعة، وبعد أن انتهى من الصلاة صعد المنبر وقال مخاطبا من أمامه من جموع الناس:
" أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.(3/225)
معاشر الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا "، وانخلع من ثوب كان عليه. ودفع الناس ما كتبه على طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين (1).
وحينما أنضم إلى أهل السنة والجماعة، فرحوا به فرحا شديدا، واحترموه وعرفوا قدرة وإخلاصه وتوجهه إلى الحق بيقين ثابت، وصارت أقواله حجة وآراؤه متبعة، بينما ثار عليه أهل الاعتزال وذموه بأنواع الذم غيظا عليه، لوقوفه في وجوههم وإبطال آرائهم المخالفة للحق وتركه لمذهبهم، خصوصا وأنه كان من المتعمقين في مذهبهم والعارفين بعواره.
ومما ينبغي ملاحظته أن ينتبه طالب العلم إلى تمويه المغرضين ممن يزعم أن الأشعري لم يتب عن الاعتزال، وأن الإبانة مدسوسة عليه، وهو كذب ليس له ما يسنده، بل الصحيح الذي عليه عامة علماء السلف أن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة وتاب من كل ما يخالفه، كما صرح بذلك في كتبه كالإبانة وغيرها من مؤلفاته النافعة (2).
وعلى هذا فإن الأشعري مر بثلاثة أحوال في عقيدته:
الحال الأول: حال الاعتزال.
الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبع: وهى الحياة – والعلم – والقدرة – والإرادة – والسمع – والبصر – والكلام. وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك.
الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف كما في الإبانة التي نوه بها أحد معاصري الأشعري فقال بمدحه:
غير الإبانة واللمع
تفنن في العلوم بما جمع
مما قد صنع
أخذا بأحسن ما استمع
ين ومن تصفحها انتفع
فوق المنابر في الجمع
أهل الكنائس والبيع
ترك المحجة وابتدع(1)
لو لم يصنف عمره
لكفي فكيف عمره
مجموعة تربي على المئين
لم يأل في تصنيفها
فهدى بها المسترشد
تتلى معاني كتبه
ويخاف من إفحامه
فهو الشجا في حلق من(3/226)
وفى كتابه الإبانة توضيح تام لعقيدته السلفية ومتابعته لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، فارجع أيها القارئ الكريم إلى هذا الكتاب واقرأة، وخصوصا الباب الذي عنوانه " باب في إبانة قول أهل الحق والسنة " تجد فيه العقيدة السلفية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
وأرى أنه من باب تيسير الإطلاع على ما في هذا الباب أن أنقله بطولة لعظيم نفعه وعموم فائدته، في كلام عذب وعبارات جميلة لا يمل القارئ من قراءته، فإليك مضمون ما فيه بحروفه، أسأل الله النفع للجميع.
عقيدته كما بينها في كتابه " الإبانة":
قال رحمه الله تعالى:
باب في إبانة قول أهل الحق والسنة
فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قبل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته – قائلون ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين.(3/227)
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسوله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبه ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: ?الرحمن على العرش استوى ( (2)، وأن له وجها كما قال: ?ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( (3)، وأن له يدين بلا كيف كما قال: ?خلقت بيدي ( (4)، وكما قال: ?بل يداه مبسوطتان ( (5)، وأن له عينا بلا كيف كما قال: ?تجري بأعيننا ( (6)، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: ?أنزله بعلمه ( (1)، وكما قال: ?وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه((2).
ونثبت له السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت أن لله قوة كما قال: ?أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة( (3)، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له: كن فيكون كما قال: ?إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( (4) وإنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وإن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا نستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل، وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة كما قال: ?خلقكم وما تعملون ( (5) وإن العباد ولا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: ?هل من خالق غير الله ( (6)، وكما قال: ?لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ((7)، وكما قال: ?أفمن يخلق كمن لا يخلق ( (8)، وكما قال: ?أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( (9)، وهذا في كتاب الله كثير.(3/228)
وإن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: ?من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون( (10)، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونبث الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال الله عز وجل: ?كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون( (11)، وإن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وإن الله سبحانه وتعالي تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا.
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمان، وندين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (1)، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع (2) كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/229)
وندين بألا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.
ونقول: عن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.
وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحية في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وندين (3) بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونثني عليهم بما أثني الله به عليهم ونتولاهم أجمعين.
ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه وأن الذين قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين لله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.(3/230)
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه واثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عز وجل يجئ يوم القيامة كما قال: ?وجاء ربك والملك صفا صفا ( (4)، وإن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد( (5)، وكما قال: ?ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى( (1)، ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وغيره، كما روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج.
وإن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ولإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة.
وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسائلتهما المدفونين في قبورهم (2)، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيرا، ونرى الصدقة عن موتي المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحره وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم.(3/231)
ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها عبادة حالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: ?الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ( (3)، وكما قال: ?من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ( (4)، ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم.
وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا ثم يقول لهم: اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية، وندين لله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما كان يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى (5).
4 - أشهر زعماء الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري:
لقد انتسب إلى الأشعري جماعة من المشاهير كان لهم الباع الطويل في تحرر المذهب الذي ينتسبون إليه. إلا إنهم لم يكونوا على طريقة أبي الحسن الأشعري والمتقدمين من أصحابه في إثبات الصفات.
ومن كبار أولئك الرجال:
أبو بكر الباقلاني المتوفي سنة 403 هـ.
البيضاوي المتوفي سنة 701 هـ.
الشريف الجرجاني المتوفي سنة 816 هـ.
وكذا الإمام الجويني (الأب)، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438 هـ.
وكذا ابنه إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 478 هـ. والجويني نسبة إلى بلدة في فارس تسمى " جوين" وقد سمى إمام الحرمين، لأنه مكث أربع سنوات ثم عرج على المدينة المنورة وكان يدرس فيهما ويناظر.(3/232)
ومن أولئك أيضا: الغزالي – أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الملقب حجة الإسلام، توفى سنة 505 هـ وهو ينسب إلى طوس.
ومنهم: أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني ولد سنة 467 هـ وتوفى سنة 548 هـ.
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني، الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي.
وأما قدماء الأشاعرة الذين كانوا على مذهب أبي الحسن الأشعري في إثبات صفات الله تعالي فمنهم: الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد، وهؤلاء مشوا على الطريقة السلفية في باب الصفات (1)، ولكن من جاء بعدهم ممن ينتسب إلى الأشعري تركوا طريقتهم وأولوا الصفات تأويلات باطلة، ومنهم من رجع أخيرا إلى مذهب السلف وذموا ما كانوا عليه من الانحراف وهم بعض من قدمنا أسماءهم فيما يذكر عنهم عند وفاتهم.
5 - موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى
وقف الأشاعرة بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى موقفا مضطربا مملوءا بالتناقض، ولم يتمكنوا من الدخول في المذهب السلفي كاملا، إذ وافقوا السلف في جانب وخالفوهم في جانب آخر، ونفس المسلك هذا أيضا تم مع مذهب المعتزلة، فقد وافقوهم في جانب وخالفوهم في آخر.
ومن هنا وقفوا بين خصمين، فألزمهم السلف بإلزامات كثيرة تنقض ما ذهبوا إليه بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى، كما ألزمهم المعتزلة أيضا وشنعوا عليهم، ولو رضوا بمذهب الأشعري وساروا في طريقة تماما لما وجد أحد طريقا إلى ذمهم في باب صفات الله تعالى كما هو حالهم اليوم.
وموقف الأشاعرة في باب الصفات حاصله ما يلي:
ذهب الأشاعرة إلى تقسيم الصفات الإلهية إلى: صفات نفسية راجعة إلى الذات أي إلى وجود الله تعالى ذاته، وإلى صفات سلبية، واختاروا لها خمسة أقسام:(3/233)
وحدانية الله تعالى، والبقاء، والقدم، ومخالفته عز وجل للحوادث، وقيامه عز وجل بنفسه. وسموها سلبية، لأن كل صفة منها تسلب في إثباتها كل ما يضادها أو كل ما لا يليق بالله تعالى.
كما يقسمون الصفات كذلك إلى سبعة أقسام يسمونها " صفات المعاني " وهى: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، وهذه الصفات يثبتونها لله تعالى صفات ذاتية لا تنفك عن الذات يؤمنون بها كما يليق بالله تعالى. ويسمونها أحيانا الصفات الذاتية والوجودية.
وقد يجمع الأشاعرة تبعا للكلابية بين المتناقضات في صفات الله تعالى، فهم يقرون أنه لا يقال: إن صفات الله تعالى عين ذاته، ولا يقال: أنها غير ذاته، والذي حيرهم فيها هو أن الصفة للشيء ليست هي ذاته وليست هي غيره، لأنها لا تنفك.
وأقسام الصفات الثابتة لله تعالى هي كما يلي:
صفات ذاتية: وهى التي لا تنفك عن ذات الله تعالى، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر.. الخ.
وصفات فعلية: وهى التي تتعلق بمشيئته وقدرته بمعنى إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش والنزول والمجيء: إلى أخره.
وبعض الصفات تجمع الأمرين، فتكون ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار آخر، مثل صفة الكلام فهي ذاتية باعتبار أن الله تعالي لم يزل ولا يزال يتكلم لا تنفك عن ذاته هذه الصفة، وهى فعلية باعتبار أن الله يتكلم حسب مشيئته.
ومن جهة أخرى تنقسم الصفات الثابتة لله تعالى إلى:
صفات عقلية: ثبتت بالنص وبالعقل أيضا، كالعلم، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والبقاء، والحياة، والقدرة، والوجود، والوحدانية.
صفات خبرية: وهى التي ثبتت بالخبر – السمع – دون النظر إلى ثبوتها بالعقل، كالاستواء، والنزول، والوجه، واليدين.
وهذه الصفات تشمل: الصفات الفعلية الاختيارية، المتعلقة بمشيئة الله تعالى، كالنزول، والاستواء، والرضى، والغضب، والإتيان، والمجيء، والفرح والسخط.(3/234)
وهذه الصفات يقال لها: قديمة النوع، باعتبار أن الله تعالى لم يزل متصفا بها، حادثة الآحاد، باعتبار تجدد وقوعها.
وقد ذهبت الكلابية وتبعهم الأشعرية إلى نفي الصفات الفعلية عن الله تعالى ويؤولون ما ورد منها بزعم أنها لا تليق بالله تعالى، لإشعارها بالأعراض التي لا تقوم إلا بالجسم، ومع هذا فهم يثبتون له تعالى الصفات الذاتية اللازمة له. وأنكروا قيام الصفات الفعلية الاختيارية به، وأوهموا الناس أن الحامل لهم على هذا هو تنزيه الله تعالى عن قيام الحوادث به.
بخلاف قدماء الأشاعرة كالباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد الذين كانوا يثبتون الصفات الخبرية على ظاهرها ويؤولونها، تبعا لأبي الحسن الأشعري وعلى طريقة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث.
وفى ترجمة العلماء لأبي الحسن الأشعري وبيان رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة من النصوص التي تثبت ذلك ما لا يخفي على طلاب العلم.
ولكن المتأخرين من الأشاعرة كالغزالي، والجويني، والرازي، والتفتازاني، والجرجاني – كانوا يذهبون إلى تأويل الصفات الخبرية ونفي معانيها الحقيقية وأنها مجازات، فالاستواء بمعنى الاستيلاء، واليد: القدرة أو النعمة، والنزول: نزول الملائكة، والوجه: الذات والعين والحفظ، وزعموا أن إثبات هذه الصفات على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وتركوا ما قرره الأشعري في وجوب إثبات هذه الصفات كما يليق بجلال الله وعظمته. وهو أمر ينافي انتسابهم إليه وإلى أصحابه المتقدمين كالباقلاني وابن مجاهد والطبري الذين ساروا على طريقة شيخهم السلفي.(3/235)
وينبغي الحذر مما درج عليه بعض الكتاب من زعم أن الأشعري قد ترك المذهب السلفي ورجع عنه، وكون مذهبا وسطا ليس هو على طريقة المعتزلة ولا هو على طريقة أهل السنة أصحاب الحديث، وأن كتابه الإبانة كان على طريقة هؤلاء بينما اللمع هو آخر ما كتبه، وقد استقر عليه كما يزعم هؤلاء. تجد هذا القول عند الدكتور حمودة غرابة في كتابه " أبو الحسن الأشعري " وفى مقدمته لكتاب اللمع، كما تجده أيضا عند الدكتور عبد العزيز سيف نصر في رسالته " العقيدة الإسلامية بين التأويل والتفويض ". ولعلهما تأثرا بما قرره قبلهما زاهد الكوثري.
وقد رد عليهما الشيخ عثمان بن عبد الله آدم (1) ودفع تصورهما وأنهما أخطآ الحقيقة، ولم يطلعا على ما قرره علماء الاسم والحقائق التي أوردوها على رجوع الأشعري، وعلى أن كتابه الإبانة هو آخر ما كتب وآخر ما استقر عليه.
وحينما يذهب الأشاعرة إلى إثبات السبع الصفات، وهى: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة – حينما يثبتون هذه الصفات كما يليق بالله تعالى من أنه حي بحياة وعليم بعلم وقدير بقدرة.. الخ، ثم يردون بقية الصفات الأخرى ويؤولونها تأويلات بعيدة عن حقيقتها إنما يسلكون مسلكا متناقضا لا مبرر له، إذ يقال لهم:
يلزمكم من إثبات الصفات السبع على ما يليق بالله أن تقولوا كذلك في بقية الصفات الخبرية، من الرحمة، والغضب، والفرح، والضحك، والمجيء، والنزول.. الخ، إنها ثابتة لله تعالى كما جاء في كتابه الكريم على ما يليق بالله تعالي دون أن يلحظ فيها المشابهة بخلقه، لا في علمه ولا في رحمته، فإن الذي يلحظ في إثبات صفة الفرح أو الرحمة بخلقه، يلزمه أن يلحظ المماثلة بخلقه في إثبات السمع والبصر والحياة أيضا، وإلا كان تفريقا بلا دليل، فيجب أن يثبتوا كل الصفات السمعية على حد سواء، وأن ينزهوا بعد ذلك في كل صفة.(3/236)
وأما إجابتهم لمن نازعهم وألزمهم بالإلزام السابق بأن تلك الصفات السبع دل عليها العقل بخلاف ما عداها فهو قول غير صحيح وحجة غير مقبولة، وهو قول في مقابلة النصوص، وتقديم العقل على النقل ليس بتسليم للنصوص ورضى بها وإذعانا لله تعالى فيها.
وإثبات الأشعرية لسبع صفات ونفي ما عداها بالتأويلات، جعلهم بين المعتزلة وأهل السنة " فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا " (2)، وقال شيخ الإسلام عن طرق الأشعرية:
" ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض، الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ – قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح " (3) بل جوابهم إما أن يلجؤوا إلى التأويل الباطل، وإما أن يدعوا عدم العلم بمعانيها وتفويض ذلك، وكلاهما جواب باطل فإن التأويل الباطل مرفوض والتفويض في المعاني ليس من مذهب السلف.
كما أنهم وقعوا في التناقض حينما ينفقون بعض الصفات على أساس أن إثباتها يستلزم مشابهة الله بخلقه، لأن المخلوق هو الذي يوصف بتلك الصفات، ولكنهم لا يجعلون هذه قاعدة عامة، إذ ينقضونها بإثبات السبع الصفات على ما يليق بالله، حتى وإن وجد مفهوم الاشتراك فيها بين الله وبين خلقه فإن هذا الاشتراك لا يوجب المماثلة.
وقولهم: إن الاشتراك في تلك الصفات لا يوجب المماثلة كلام صحيح، لكنهم لا يجرونه في كل الصفات، فلزمهم التناقض والتفريق بين المتماثلات، من هنا ألزمهم المعتزلة أن ينفوا الصفات كلها، لأنها تدل على التشبيه فأجابهم الأشاعرة بأن إثبات تلك الصفات السبع إنما هو على وجه لا يستلزم المشابهة، فألزمهم أهل السنة أن يقولوا هذا القول في كل الصفات وهو ما يدل عليه العقل والشرع.(3/237)
وقد هدى الله السلف فآمنوا بكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فنفوا عنه كل ما نفاه وأثبتوا له كل ما أثبته، بلا تنطع ولا تأويلات باطلة، وقد علموا أن كل ما أخبر الله به فليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه فهو أعلم بنفسه، وما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، من أن كل صفة وردت في القرآن لله تعالي فهي صفة كمال، وقولهم في كل صفة الجواب المأثور عن السلف: " هذه الصفة معلومة وكيفيتها مجهولة والسؤال عنها بدعة " توفيق ظاهر من الله تعالي لهم، فمن لم يرضى بما رضيه الله لنفسه فقد نازع الله تعالى وقال عليه بلا علم وسلك سبيل غير المؤمنين.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب الخامس عشر
الماتريدية
وفيه المطالب الآتية:
1 - التعريف بمؤسس الماتريدية:
تنتسب هذه الطائفة إلى أحد علماء القرن الثالث الهجري وهو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأي منصور الماتريدي، ولد في ما تريد وهى من بلدان سمرقند فيما وراء النهر، ولا يعرف على وجه اليقين سنة مولده، وقد توفى سنة 333 هـ على أرجح القوال (1).
تلقى علوم الفقه الحنفي والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر وهو نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة 368 هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياض وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام.(3/238)
لقد كان لأبي منصور مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة في الأمور التي خالفهم فيها، وقد اتحد في الهدف مع الأشعري في محاربة المعتزلة وكان معاصرا له، وأما في العقائد فكان على اتفاق مع ما قرره أبو حنيفة في الجملة، مع مخالفته في أمور وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون، منها: بيان وهم المعتزلة تأويلات أهل السنة – الدرر في أصول الدين – الرد على تهذيب الكعبي في الجدل – عقيدة الماتريدية – كتاب التوحيد وإثبات الصفات – كتاب الجدل – مأخذ الشرائع في أصول الفقه – المقالات.
وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى (2)، وقد وقف في وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم في النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدرا أخر إضافة إلى المصدر الأساسي وهو النقل، مع تقدم النقل على العقل عند الخلاف بينهما (3) إلا أنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة.
وقد أوجز الشيخ أحمد عصام الكاتب عقيدة الماتريدي، من خلال كتاب الماتريدي في التوحيد المسمى "كتاب التوحيد " الذي حققه الدكتور فتح الله خلف عن نسخة مخطوطة يتيمة في مكتبة جامعة كمبردج بإنجلترا، وقد عرضه الدكتور المذكور في مجلة تراث الإنسانية المجلد 9 العدد 2، كما أن تحققه لكتاب التوحيد نشر في بيروت سنة 1970م.
ثم قال أحمد عصام عن كتاب التوحيد للماتريدي بتحقيق الدكتور فتح الله خلف: " وسنعتمد عليه في كلامنا على عقائد الماتريدية، لأنه أفضل مصدر لهذه العقائد وأصدقها وأقربها، ولا عبرة بما فعله المتأخرون منهم ومن خطط الحابل بالنابل ".
وأنا بدوري سوف أختصر أيضا ما ذكره الشيخ أحمد عصام بقصد الاختصار والإشارة إلى عقيدة الماتريدي، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب التوحيد المذكور أو لمجلة تراث الإنسانية.
2 - أهم آراء الماتريدي إجمالا:(3/239)
1- لا يرى الماتريدي مسوغا للتقليد، بل ذمة وأورد الأدلة العقلية والشرعية على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال.
2- يذهب في نظرية المعرفة إلى لزوم النظر والاستدلال، وأنه لا سبيل إلى العلم إلا بالنظر، وهو قريب من آراء المعتزلة والفلاسفة في هذا، ثم يذكر أدلة كثيرة على وجود الله، مستخدما أدلة المعتزلة والفلاسفة في حدوث الأجسام وأنها دليل على وجود الله.
3- يوافق في الاعتقاد في أسماء الله السلف، ويرى أن أسماء الله توقيفية، فلا نطلق على الله أي اسم إلا ما جاء به السمع، إلا أنه يؤخذ على الماتريدية أنهم لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله وبين باب التسمية فأدخلوا في أسمائه ما ليس منها كالصانع والقديم والشيء، والسلف يخالفونهم في هذا وقد عطل الماتريدية كثير من أسماء الله تعالى وأولوها.
4- يرى أن المؤمنين يرون ربهم والكفار لا يرونه، ويخالف الأشعري هنا في أن الماتريدي يرى أن الأدلة على إمكان رؤية الله تعالى عقلا غير ممكنة، بينما يستدل عليها أبو الحسن الأشعري بالعقل، إلا أنهم خالفوا السلف فنفوا المقابلة والجهة مطلقا، وذلك بسبب نفيهم عن الله علو الذات كما أن إثباتهم للرؤية ونفى الجهة والمقابلة فيه تناقض فإن الله تعالى يرى في جهة العلو.
5- هو أقرب ما يكون إلى السلف في سائر الصفات، فهو يثبت الاستواء على العرش وبقية الصفات دون تأويل لها ولا تشبيه، أي في الصفات التي تثبت عند الماتريدية بالعقل لكنهم يؤولون ما عداها، كما أنهم يعتقدون أن صفات الله لا هي هو ولا غيره وهو تناقض منهم.
6- في القضاء والقدر هو وسط بين الجبر والاختيار، فالإنسان فاعل مختار على الحقيقة لما يفعله ومكتسب له وهو خلق لله، حيث يخلق للإنسان عندما يريد الفعل قدرة يتم بها، ومن هنا يستحق الإنسان المدح أو الذم على هذا القصد، وهذه القدرة يقسمها إلى قسمين:
قدرة ممكنة: وهى ما يسميها: لسلامة الآلات وصحة الأسباب.(3/240)
وقدرة ميسرة، زائدة على القدرة الممكنة: وهى التي يقدر الإنسان بها على الفعل المكلف به مع يسر، تفضلا من الله تعالى.
يقول الماتريدي بخلق أفعال العباد، وهو يفرق بين تقدير المعاصي والشرور والقضاء بها وبين فعل المعاصي، فالأول من الله والثاني من العبد بقدرته واختياره وقصده. ويمنع أبو منصور من إضافة الشر إلى الله فلا يقال: رب في الأوراث والخبائث ولو أنه خالق كل شيء، وهذا الشق الأخير معروف عن السلف، أما تقسيمه القدرة وجعل العبد فاعلا باختياره وقصده وقدرته من وجه، ولو كان الله هو الفاعل من وجه آخر، فيه حيد عن مذهب السلف في ذلك، ونسبة الماتريدية الفعل إلى العبد يقصدون به أن الله لا يخلق فعل العبد إلا بعبد أن يريده العبد ويختاره فيصبح ذلك العمل كسبا له يجازي به حسب اختياره له وإرادته المستقلة له.
فى مسائل الإيمان: لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام. ويرى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، دون الإقرار باللسان، ومن هنا يفترق الماتريدي عن السلف. وعنده لا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأن الاستثناء يستعمل في موضع الشكوك والظنون. وهو كفر، وأهل السنة قالوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأنه يقع على الأعمال لا على أصل الإيمان أو الشك في وجود الإيمان.
وبين الماتريدي والأشعري مسائل كثيرة اتفقوا فيها وأخرى اختلفوا فيها، فمما اختلفوا فيه (1):
مسألة القضاء والقدر: فقال الماتريدية: إن القدر هو تحديد الله أزلا كل شيء بحده الذي سيوجد به من نفع، وما يحيط به من زمان ومكان، والقضاء: الفعل عند التنفيذ.
وقال الأشاعرة: إن القضاء هو الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها المخصوصة أي أن الأشاعرة يرون أن المحبة والرضى والإرادة بمعني واحد، بينما يرى الماتريدية أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة.(3/241)
واختلفوا في أصل الإيمان، فذهب الماتريدية إلى أنه يجب على الناس معرفة ربهم، ولو لم يبعث فيهم رسولا بينما ذهب الأشعرية إلى أن هذه المعرفة واجبة بالشرع لا بالفعل كما تعتقد الماتريدية.
وذهب الأشاعرة إلى عدم وجوب الإيمان وعدم تحريم الكفر قبل بعثه الرسل.
اختلفوا في صفة الكلام، فترى الماتريدية أن كلام الله لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه بينما يرى الأشاعرة جواز سماع كلام الله تعالى.
كما اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصانه وشرطه.. الخ.
واختلفوا في المتشابهات كما أسلفنا.
كما اختلفوا في النبوة هل يشترط فيها الذكورة؟ فجعلها الماتريدية شرطا، ونفى ذلك الأشاعرة عنها، واحتج هذا الفريق بقوله تعالي: ?وأوحينا إلى أم موسى ( (2)، ورد الفريق الأول بأن الإيحاء هنا بمعناه الواسع وهو الإلهام.
وهذه المسألة الأخيرة وهى نبوة النساء وعدمها مما وقع فيه الخلاف بين العلماء إلا أن الحق أن النبوة مختصة بالرجال، وليس هنا موضع بحث هذه القضية بالتفضيل، وأرجو أن يتم الله ما قمت به من دراسة حول المتنبئين وبيان خطرهم في الفكر والمجتمع، حيث بينت فيما يتعلق بنبوة النساء وعدمها أقوال العلماء والراجح منها.
اختلفوا في التكليف بما لا يطاق، فمنعه الماتريدية وجوزه الأشاعرة.
اختلفوا في الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي فأثبتتها الماتريدية ونفتها الأشاعرة.
اختلفوا في التحسين والتقبيح، فقال به الماتريدية وأن العقل يدركهما، ومنع الأشاعرة ذلك، قالوا: إنما يتم التحسين والتقبيح بالشرع لا بالعقل.
اختلفوا في إيمان المقلد، فجوزته الماتريدية بينما منعه الأشاعرة واشترطوا أن يعرف المكلف كل مسألة بدليل قطعي عقلي (3).(3/242)
اختلفوا في معنى كسب العباد لأفعالهم، بعد اتفاقهم جميعا على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فعند الماتريدية يجب التفريق بين المؤثر في أصل الفعل والمؤثر في صفة الفعل فا لمؤثر في صفة الفعل قدرة الله تعالى والمؤثر في صفة الفعل قدرة العبد وهو كسبه واختياره.
وعند الأشاعرة: إن أفعال العبد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها وليس للعبد تأثير فيها، بل أن الله يوجد في العبد قدرة واختيارا يفعل بهما إذا لم يوجد مانع فالفعل مخلوق لله والعبد مكتسب له.
وأما الاختلاف بين الماتريدية والمعتزلة فهو:
اختلفوا في مصدر التلقي هل هو العقل أو النقل؟ فذهب المعتزل إلى أنه العقل، وتوسط الماتريدية فقالوا بالعقل فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات وأما فيما يتعلق باليوم الآخر فمصدره السمع، كذا سموا هذه المسائل ونحوها بالسمعيات.
الأسماء: أسماء الله عند المعتزلة ثابتة، ولكن بلا دلالة على الصفات، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.. إلى آخره.
وعند الماتريدية هي ثابتة بدلالاتها على الصفات الثابتة عندهم إلا اسم "الله" فليس له دلالة على شيء من الصفات. وقولهم باطل لا معنى له.
الصفات: نفي المعتزلة جميع الصفات القائمة بذات الله تعالي.
بينما أثبت الماتريدية ثمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين.
القرآن: يعتقد المعتزلة أنه كلام الله محدث مخلوق. ويعتقد الماتريدية أنه كلام الله النفسي وأنه قديم أزلي غير مخلوق.
أفعال العباد. نفت المعتزلة خلق الله لها وإرادته لها، وإنما هي من العباد، وأثبتت الماتريدية أنها خلق لله تعالى. وكسب من العباد لها.
الاستطاعة: نفي المعتزلة أن تكون مع الفعل بل هي قبلة، بينما أثبتتها الماتريدية قبل الفعل ومع الفعل.
الرؤية: نفتها المعتزلة وأثبتتها الماتريدية.(3/243)
الجنة والنار: غير مخلوقتين ولا موجودتين الآن عند المعتزلة، بل تنشأ في يوم القيامة، وقالت الماتريدية بخلقهما الآن.
ينفي المعتزلة نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر. وأثبتت الماتريدية كل ذلك لورود السمع به.
نفت المعتزلة كرامات الأولياء وأثبتتها الماتريدية.
الإيمان عند المعتزلة قول واعتقاد وعمل، وعند الماتريدية هو التصديق بالقلب، ومنهم من زاد الإقرار باللسان.
مرتكب الكبيرة في منزله بين المنزلتين عند المعتزلة في الدنيا، وأما في الآخرة فهو في النار , وعند الماتريدية هو مؤمن كامل الإيمان مع أنه فاسق بمعاصية , وفي الآخر هو تحت المشيئة.
لا يصح إيمان المقلد عند المعتزلة، وذهب الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال.
عند المعتزلة الإيمان يزيد وينقص، لإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وأما المسائل التي وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهى كما يلي:
القول بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل.
الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.
الاستدلال على وحدانية الله تعالى بدليل التمانع.
القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد.
نفي الصفات الخبرية والاختيارية.
القول بعدم إمكان سماع كلام الله.
القول بالحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
عدم جواز التكليف بما لا يطاق.
منع الاستثناء في الإيمان.
القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد (1)
وفيما سبق يتضح أن فرقة الماتريدية لم تنهج منهج السلف فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية، وأن من وصفهم بأهل السنة أو العقدية السلفية فقد بالغ في ذلك وجانب الحكم الصحيح.(3/244)
ولكى تتضح المقارنة بين عقيدة الماتريدية وبين العقيدة السلفية أحب أن تطلع أخي القارئ على هذا الملخص المفيد الذي تتضح به الفوارق بين عقيدة الماتريدية وبين عقيدة السلف بإيجاز، أكتفى به عن إطالة الردود لإيفائه بالغرض لموافقته القصد من تقديم هذه العجالة عن الماتريدية.
وقبل إيراد هذا الملخص إليك بيان الأسس والقواعد التي قام عليها مذهب الماتريدية:
مصدرهم في التلقي في الإلهيات والنبوات هو العقل.
معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
القول بالمجاز في اللغة والقرآن والحديث.
التأويل والتفويض.
القول بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد.
وأما بالنسبة لآرائهم التي خالفوا فيها السلف فمن أهمها ما يلي:
خلاف الماتريدية في مفهوم توحيد الألوهية، إذ هو عندهم بمعنى أن الله واحد في ذاته لا قسم له ولا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وأهل السنة يخالفونهم في هذا المفهوم لتوحيد الألوهية.
اعتمدت الماتريدية في إثبات وجود الله تعالي على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وهى طريقة باطلة لا اعتبار لها عند السلف، وإنما هي طريقة غلاة الفلاسفة وأهل الكلام المذموم.
يستدل الماتريدية على وحدانية الله تعالى بقوله عز وجل: ?لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( (2) وهو ما يسميه البعض بدليل التمانع، وقد خطأهم السلف في هذا المفهوم، مع إقرار السلف بأن دليل التمانع صحيح في دلالته على امتناع صدور العالم عن إلهين، لكن ليس هذا هو المقصود من الآية الكريمة.(3/245)
تثبت الماتريدية جميع الأسماء الحسنى لدلالة السمع عليها، إلا أنهم غلوا في الإثبات ومدلول السماء لعدم تفريقهم بين ما جاء في باب التسمية وبين ما جاء في باب الإخبار عن الله، فمدلول الاسم عندهم هو الذات وهذا خاص في اسم "الله" فقط، وأما ما عداه فمدلوله يؤخذ عندهم من الصفات التي أثبتوها فلم يقفوا على ما ثبت بالسمع فقط.
وقف الماتريديون في باب الصفات على إثبات بعض الصفات دون غيرها، فأثبتوا من الصفات: القدرة، العلم، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين، وذلك لدلالة العقل عليها عندهم، وهم تحكم باطل، وقد ألزمهم السلف بإثبات ما نفوه بنفس الدليل الذي أثبتوا به تلك الصفات الثمانية.
نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، لأن في إثباتها – بزعمهم – مخالفة للعقل الذي يرى في إثباتها ما يدعو إلى وصف الله تعالي بالتشبيه والتجسيم.
ولقد دحض السلف هذا المفهوم الباطل والاعتقاد الخاطئ، وكذلك نفوا ثبوت الصفات الاختيارية لله تعالى التي هي صفات الفعل اللازمة لله تعالي، لأنها كذلك تؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وقد أبطل السلف هذا المفهوم وفندوا شبههم.
يعتقد الماتريديون أن كلام الله تعالي معنى واحد قديم أزلي، ليس له تعلق بمشيئة الله تعالي وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، بل هو كلام نفسي لا يسمع، بل المسموع منه إنما هو عبارة عنه، وهو اعتقاد باطل مخالف للكتاب والسنة ولما عليه السلف.
حصر الماتريديون الدليل على صدق الأنبياء في ظهور المعجزات على أيديهم، لأنها تفيد العلم اليقيني وحدها بزعمهم.
والسلف لا يختلفون في أن المعجزات دليل صحيح معتبر لصدق الأنبياء، ولكنهم يخالفونهم في حصر أدلة صدق الأنبياء في المعجزات فقط دون النظر إلى الأدلة الأخرى.(3/246)
يرى الماتريديون أن كل المسائل المتعلقة باليوم الآخر لا تعلم إلا بالسمع، والسلف يخالفونهم في هذا، ويقولون: إن تلك المسائل علمت بالسمع ودل عليها العقل أيضا.
أثبت الماتريديون رؤية الله تعالي، ولكنهم نفوا الجهة والمقابلة، وخالفهم السلف واعتبروا قول الماتريدية تناقضاً واضطراباً في مفهومهم للرؤية، ويؤدي إلى إثبات ما لا يمكن رؤيته، وإلى نفي جهة العلو المطلق الثابت لله تعالي.
اعتبر السلف ما ذهب إليه الماتريديون في خلق أفعال العباد اعتقادا خاطئا لما فيه من إثبات إرادة للعباد مستقلة – عن مشيئة الله تعالى، وأن خلق الله لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة، والسلف يعتقدون أن لله تعالى وحده المشيئة وأن للعباد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى.
ذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وقال بعضهم: إنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومنعوا زيادته ونقصانه وحرموا الاستثناء فيه ومنعوا التفريق بين مفهوم الإيمان والإسلام.
وخالفهم السلف في كل ذلك فإن الإيمان عندهم هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وأنه يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه لعدم جواز تزكية النفس. وأما الإسلام والإيمان فإنهما متلازمان، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما هو الحال في مفهوم الفقير والمسكين ونحو ذلك.
13- يرى الماتريديون أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، بينما يرى السلف أنه مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته، فلا يسلبون منه الإيمان ولا يثبتون له الكمال فيه. (1)
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب السادس عشر
دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام
من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية
1 - تقديم العقل على النقل:(3/247)
من المساوئ التي ابتلى بها بعض المنتسبين إلى الإسلام تقديس العقل واعتماده مصدراً أعلى من كلام خالق العقل. وقد لبس عليهم إبليس فرأوا أنهم على صواب، وقويت في نفوسهم شبه الملاحدة أعداء الدين، فارتكبوا هذا الجرم الشنيع، ورأوا أنه إذا تعارض النقل والعقل في شيء فإن العقل هو المقدم، وذلك عند الجمهية والمعتزلة وجمهور الأشعارة المتأخرين، ظانين أنه يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنص الصحيح – حسب زعمهم – ولهم حجج في تقديم العقل على النقل وهى شبه لا تسلم لهم، ومنها:
أن العقل هو الأصل والأساس للنقل وإلا لم يرد النقل.
أن الدلالة العقلية قطعية بينما الدلالة النقلية ظنية.
أن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل وهى أصل وما عداها فرع، وهذا الأصل إنما قام على العقل، فلو قدمنا النقل لكان من باب تقديم الفرع على الأصل فالعقل هو الأساس، فلو حكم باستحالة الشيء وحكم السمع بخلافه فيجب تأويل السمع، ليتوافق مع العقل، فإن هو الذي شهد بصدق الشرع ولم يعرف الشرع إلا بالعقل، فمن كذب العقل فقد كذب الشرع والعقل معاً سواء كان في الصفات أو في غيرها من الأخبار، وما ورد من آيات الصفات في القرآن الكريم ينبغي عرضها على العقل، فإذا عارضها وجب تأويلها لتوافق العقل أو تفويض عملها إلى الله.
إن صدق الأنبياء في إخبارهم عن الله لا يتوقف على النقل بل يتوقف على العقل، لأن النقل لا يقبل إلا أن يكون عن الأنبياء فلو توقف صدق الأنبياء على النقل للزم الدور.
ما ثبت بالتواتر وخالفه العقل إما أن يؤول أو يفوض، وما ثبت بأخبار الآحاد فإنه لا يقبل بأي حال في العقائد
الرد عليهم:(3/248)
مهما حاول دعاة تقديم العقل على النقل من سرد المبررات لقبول ذلك، فإن تلك المحاولات والاحتجاجات والجداول والخصومة، غير مقبولة عند من وفقه الله لمعرفة دينة، وابتعد عن الوساوس التي جاء بها علم الكلام، وهذه المسألة على بساطة الرد عليها قد أخذت حيزاً واسعاً من الجدال والخصومة بين المثبتين والنافين، إلا أنه يمكن إيجاز الرد عليهم فيما يلى:
هل يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح؟
الجواب: لا يوجد تعارض بين العقل والنقل، فإن النقل وهى النصوص الشرعية إذا صحت من كتاب الله عز وجل أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يعارضها العقل السليم الخالي عن الشهوات والبدع، فإنه لا يمكن أن يحصل التعارض بين دليل عقلي قطعي وآخر نقلى قطعي، أما إذا كان الدليلان ظنيين فإنه يقدم الراجح منهما سواء كان عقلياً أو نقلياً، إن كان أحدهما ظنياً والآخر قطعياً، فإنه يقدم الدليل القطعي بغض النظر عن كونه نقلياً أو عقلياً، إذا القطعي هو الذي يمكن الاعتماد علية حتى وإن كان عقلياً، فالمزية إنما هي لكونه قطعياً لا لأجل لأنه عقلي.
وأما ما ذهبوا إليه من إسقاطهم أخبار الآحاد في العقد، فهو من المساوئ التي وقع فيها هؤلاء، كما زعموا أن المتواتر حتى وإن كان قطعي السند فهو غير قطعي الدلالة، وذلك لأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين حسب مفهومهم (1).
وأخبار الآحاد – حسب زعمهم – لا تفيد العلم وهو من جملة أقوالهم البدعية العارية عن الأدلة الشرعية، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال علماء الأمة الذين يعتبر كلامهم في هذه القضية، ذلك أن الحق هو قبول خبر الآحاد في باب الاعتقاد وفى غيره مادام ثابتاً (2).
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( (3).(3/249)
ولولا أن خبر الواحد مقبول، لما توجه الأمر بالتثبت فيما يخبر به مما يحتاج إلى تثبيت خصوصاً إذا جاء من فاسق، ومعناه أنه إذا كان غير فاسق فإن خبره يقبل.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بخبر الواحد ويأمر بالاكتفاء به، حيث كان يرسل الشخص الواحد إلى مجموعة من الناس ويأمره بتبليغ ما يأمره به، ويطلب إلى الناس قبول ما يأمرهم به والانتهاء عما ينهاهم عنه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن وأمره بتعليمهم الدين وسائر شعائر الإسلام، وكان يرسل من أصحابه الواحد والاثنين أو الثلاثة أو أكثر – حسب ما يتيسر له – بغض النظر عن قضية خبر الآحاد التي ابتدعها أهل الكلام، وقد حصل ذلك منه في وقائع كثيرة، وعلى قبول خبر الآحاد جميع الأمة خلفاً وأعرض عن النصوص الشرعية من الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج ومن سار عليهم طريقتهم.
وكان السلف من الصحابة فمن بعدهم، لا يشترطون لقبول رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به، سوى عدالة الراوي وثقته وتقواه، وكانوا إذا روى الثقة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقوه بالقبول والعمل، ولم يخطر في أذهانهم
أنه خبر آحاد، وأن أخبار الآحاد غير مقبولة كما هي حجة من أراد رد النصوص وتعطيلها والتشويش على عقول عامة المسلمين.
وهنا أمر جدير بالذكر، وهو أن السلف حينما يقدمون النقل على العقل، ليس مقصودهم احتقار العقل وأنه لا يستفاد به المعرفة، بل يقدرون دور العقل في المعرفة والاهتداء به إلى الحق، ولكنهم لا يوصلونه إلى درجة التقديس التام وتقديمه على كلام الله عز وجل وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم.
فكل ما في القرآن الكريم وكل ما صح في السنة النبوية، لا يستجيز مسلم يؤمن بالله رباً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، أن يعارضه بعقلة أو باجتهادات العلماء، وهو يعلم ثبوت النص، اللهم إلا أن يكون من باب(3/250)
الاجتهاد وتنوع المفاهيم في معاني النصوص وتوجيهها، فإن الشخص حينئذ إن اجتهد فأصاب له أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده ونيته.
أما إذا قدم عقله فلاسفة اليونان، فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله، وحسن رد ما جاءت به الأنبياء واستبدال مفاهيم الفلاسفة السقيمة بها، التي يسميها بالأدلة والبراهين اليقينية، تهويلاً لأمرها ورفعاً لشأنها، ليتم له ما يريد من رد النصوص الشعرية وتأويلها – فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله.
إن الهداية لم تأتنا إلا عن طريق الوحي وعلى أيدي رسل الله الكرام، فبأي مسوغ نترك طريق الهداية ونرجع إلى تقديم العقل، فلو كان العقل يكفى للوصول إلى الحق مجرداً عن النقل، لما عاش هؤلاء المعرضون عن الله في متاهات الكفر والضلال، ولما احتجنا إلى الأنبياء، فمن الإجرام أن نترك طريق الهداية واضحاً مشرقاً، ثم نتعلل بتقديس العقل في مقابل نصوص الكتاب والسنة، فالعقل حد إذا تجاوزه صاحبه انقلب إلى الجهل والخزعبلات.
فمثلاً المشبهة حينما أبوة الوقف عند حدود الشرع، بحثوا وتعمقوا في الصفات إلى أن وصلوا دإلى تشبيه الله بخلقة تماماً، ووصفوه إنساناً واقفاً أمامهم، وظنوا أن عقولهم أوصلتهم إلى علم غزير، فهل ذلك صحيح؟ كلا.
وقابل هؤلاء نفاة الصفات فقد أوصلتهم عقولهم حينما تجاوزت الوقوف عند النصوص الشرعية إلى حد أن وصفوا ربهم بصفات، نتيجتها أن الله لا وجود له حتى وإن لم يصرحوا بنفي وجود الله لكن تلك الأوصاف السلبية لا نتيجة لها إلا هذه النتيجة، وظنوا أنهم اهتدوا بعقولهم إلى الوصول إلى الحق وزين لهم الشيطان ذلك.
فقارن بين مواقف هؤلاء ومواقف أهل الحق أهل السنة والجماعة، الذين يسيرون وراء النصوص مستعملين عقولهم إلى الحد الذي تنتهي عنده، وبالتالي فالقائد هو النص إلى أن يصلوا إلى غاية ما يريدون أو يطلب منهم.(3/251)
فأمنوا العثار واهتدوا إلى سواء السبيل، ورضوا بما جاء به كتاب ربهم وسنة نبيهم، وما كان علية سلفهم الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعلموا أن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح، فأراحوا أنفسهم عناء التأويلات والتكلفات التي ابتلى بها غيرهم، حين بحثوا كثيراً وأتبعوا أنفسهم طويلاً وخرجوا عن الحق الذي طلبوه بتلك التأويلات والتكلفات وهم لا يشعرون.
لأن السلف يعلمون أن النقل حينما جاء مخاطباً للعقل ومبيناً له الطريق الصحيح يعلمون أن بينهما توافقاً تاماً، فالخطاب إنما جاء لأهل العقول لا للمجانين ولا للحيوانات البهيمية، فكيف يتصور بعد ذلك أن العقل أعلى من النقل بحجة أن العقل هو الأصل وإلا لم يرد النص، فالنقل هو الموجه لمحل قابل للتوجيه وهو العقل، ولم تأت العقول لتوجه النقول في أي زمن من عمر البشر.
وزعمهم أن الدلالة النقلية ظنية بينما الدلالة العقلية قطعية (1)، هذا كلام اخترعوه وأرادوا أن يؤصلوه، وإلا فإن السلف من الصحابة فمن بعدهم لا يعرفون هذه المسالك، بل كانوا يعتبرونها من وساوس الشيطان ومن نقص الإيمان وزعمهم هذا هو مثل زعمهم أن صدق الأنبياء إنما يتوقف على العقل، ولو كان هذا صحيحاً لآمن قوم نوح وسائر أمم الأنبياء، إذا إن لهم عقولاً، ولما احتاجوا إلى سماع النقل منهم عن الله تعالى
والواقع خلاف ذلك فإن كلام الأنبياء وإخبارهم عن الله تعالى هو في حد ذاته الطريق إلى الإيمان بالأنبياء، فكل رسول كان يأتي لقومه ويقول لهم:
?إني رسول الله إليكم ( (2)، ثم يخبرهم عن الله تعالى ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً، دون التركيز على الأدلة العقلية، فهي تأتى عرضاً ويستفاد منها كثيراً، لكن ليست هي الدليل الوحيد على صدق الأنبياء، فدلائل صدقهم كثيرة جداً.
2-التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة:(3/252)
لقد جرت التأويلات الفاسدة فتناً عظيمة على الإسلام والمسلمين، وأخرجت الكثير منهم عن عقيدتهم السليمة إلى عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولقد عبر عن بعض مضار التأويلات الفاسدة العلامة ابن أبى العز، في معرض رده على الذين يؤولون رؤية الله تعالى في قوله عز وجل: ?وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة ( (1)
فقال: ((وهى من أظهر الأدلة، وأما من أبى تحريفها بما يسميه تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟، وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة. وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد)) (2)
لقد كثر الجدال والخصام بين أهل السنة من جانب، وبين المخالفين لهم ممن تأثر بعلم الكلام والفلسفات من جانب آخر في قضية التأويل.
فما هو التأويل، وما المراد به عند هؤلاء الفرق من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة وغيرهم ممن اقتحم التأويلات الفاسدة
حقيقة التأويل في أساس إطلاقه يشمل أمرين:
الأمر الأول: تطلق كلمة التأويل ويراد بها ما تؤول إليه حقيقة ذلك الشيء ومصيره وعاقبته.
الأمر الثاني: تطلق هذه الكلمة ويراد بها معرفة ذلك الشيء ومفهم تفسيره وبيانه، سواء وافق ظاهره الصواب أو خالفه، وكثير من المفسرين يستعمل كلمة التأويل بمعنى التفسير فيقول: تأويل هذه الآية كذا أي تفسيرها، فإن وافق الحق فهو مقبول وصحيح، وإن خالفه فهو باطل.(3/253)
وقد ورد ذكر كلمة التأويل في القرآن الكريم في عدة آيات، قال تعالى:
?ذلك خير وأحسن تأويلا ( (3) أي عاقبة التحاكم إلى الله ورسوله عند التنازع هو أحسن مآلاً وعاقبة، ومنه قوله تعالى: ?هل ينظرون إلا تأويله ( (4)، أي عاقبة تأويله، وجميع ما ورد في القرآن الكريم من معاني التأويل فهي تطلق بهذا المعنى.
وورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى (5) حيث روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ?قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم من تحت أرجلكم ((6)، فقال:
((أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد))، أي لم يأت وقت ظهور حقيقة العذاب ومصير المخاطبين وما تؤول إليه عاقبتهم.
وورد في السنة النبوية أيضاً استعمال التأويل بمعنى التفسير والمعرفة كما في دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقولة: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (7)، أي فهمه معرفة الدين.
وهذه المعاني للتأويل هي التي كانت معروفة عند السلف قبل ظهور أهل الكلام والفلسفات العقيمة، وقبل ظهور الخصام والجدال في معاني التأويل.
قال ابن القيم:
((وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل:
صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل والتأويل. وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها، كأبي بكر بن فورك وابن مهدى الطبري وغيرهما، وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال ذلك التأويل، كالقاضي أبى يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة، وهو الذي حكى عن غير واحد، إجماع السلف على عدم القول به)) (1)(3/254)
وقد بين ابن القيم رحمه الله انقسام التأويل إلى صحيح وباطل وأنه ينحصر في هذين القسمين فقال: ((وعلى هذا يبنى الكلام في الفصل الثاني، وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل.
وذكر أن كل ما ورد من الروايات عن الصحابة وفيها ذكر التأويل، أن المراد به حقيقة المعنى وما يئول إليه في الخارج أو المراد به التفسير، وذكر أمثلة كثيرة على هذا، وأن تأويلهم من جنس التأويل الذي يوافق الكتاب والسنة أو أن لهم وجهة نظر قوية لا تخرج عن الحق (1)
وأما التأويل الباطل فقد ذكر له عدة أنواع منها:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع رب العزة عليها رجله)) (2) بأن الرجل جماعة من الناس، فإن هذا لا يعرف في شيء من لغة العرب ألبته.
الثاني: ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله مفرداً كتأويل قول
?لما خلقت بيدي ( (3) بالقدرة.
الثالث: ما لم يحتمله سياقه وتركيبة وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله: ?هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ( (4) بأن إتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء.
الرابع: ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث، وذكر أن هذا النوع لم يؤلف استعماله في لغة العرب وإن كان معهوداًَ في اصطلاح المتأخرين، ومثل لهذا بتأويل الجهمية والفلاسفة والمعتزلة لقول الله تعالى: ?ثم استوى على العرش ( (5) بأن المعنى أقبل على خلق العرش، فإن هذا لا يعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأمم، أن من أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، فلا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه ولا لمن أقبل على الأكل: قد استوى على الطعام.(3/255)
الخامس: ما ألف استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله، وهذا من أقبح الغلط والتلبيس، ومثل لهذا بتأويل اليد بالنعمة، والنظر إلى الله بانتظار الثواب.
السادس: كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل، كتأويل
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) (1)، بحمله على الأمة، فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ يرجع على أصل النص بالإبطال وهو قولة: ((فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)) ومهر الأمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتبة، وهذا يرجع على أصل النص بالإبطال من وجه آخر، فإنه أتى بأي الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم، وأتى بالنكرة في سياق الشرط وهى تقتضي العموم، وعلق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضى لوجود الحكم بوجوده وهو نكاحها نفسها، ونبه على العلة المقتضية للبطلان وهي افتياتها على وليها، وأكد الحكم بالبطلان مرة بعد مرة ثلاث مرات، فحمله على صورة لا تقع في العالم إلا نادراً يرجع على مقصود النص بالإبطال (2) إلى آخر الأوجه التي ذكرها للتأويل الباطل.
وكان السلف يدركون الفرق بين التأويل بمعنى التفسير وفهم المراد من الكلام الذي هو باستطاعة الإنسان الوصول إليه – وهذا هو التأويل المقبول عند السلف – وبين التأويل بمعنى معرفة ما يؤول إليه المراد من الكلام سواء كان في الدنيا أو في الآخرة من الأمور الغيبية، الذي ليس باستطاعة الشخص معرفته إلا بعد ظهوره ووضوح حقيقته.
وأمثلة هذا النوع كثيرة يمثلها الإخبار بالمغيبات التي ستحدث في الدنيا أو في الآخرة، ويمثلها كذلك معرفة صفات الله عز وجل حقيقتها وكيفياتها.
وأهل السنة لا يتعدون هذه المفاهيم الواضحة المشرقة البعيدة عن التكليفات والتأويلات الباطلة.(3/256)
ولو وقف الخلف عند المكان الذي وقف فيه السلف لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ولكنهم تجاوزوا النصوص وقدموا عليها عقولهم ومفاهيمهم القاصرة وتأويلاتهم الباطلة، فجاءت خليطاً مشوهاً.
والتأويل في عرف هؤلاء المتأخرين يراد به: ((صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهرة تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون)) (3).
فالمتأخرون يريدون بالتأويل عدم إجراء النص على ظاهره والإتيان له بمعنى يحتمله، ليتوافق مع تأويلهم الذي حرفوه عن معناه الصحيح، وهذا هو التأويل الباطل.
وقد رفض السلف تأويل الخلف بالمعنى الذي قرره هؤلاء، لأنه تحريف للنصوص وإبعاد للمراد منها، خصوصاً وأن تلك النصوص ظاهرة الدلالة لا خفاء فيها ولا احتمال، فإن كل ما جاء في القرآن والسنة من الوضوح وتحديد المراد ما لا يحتمل التلاعب به ولا بمعاينة، لأنه نزل على قوم أدركوا المراد به وآمنوا به وأطمأنت قلوبهم، ولم يحتاجوا إلى التأويلات التي اخترعها زعماء التعطيل.
فإنه على حسب مفهومهم ما من نص إلا وهو يحتمل التأويل، وبالتالي فلا تتم الثقة بأي نص على ظاهره، فإذا ورد النص بقول: ?وجاء ربك ( (1)
قالوا: جاء أمره، وإذا ورد النص ?إن الله سميع بصير ( (2)، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر بل بذاته ورحمة الله إرادة الثواب، واليد النعمة.. إلى غير ذلك من تلك التأويلات التي ملئوا بها كتبهم، استناداً إلى أن العقل
هو الفاصل والمقدم على النقل، فلا حرج بعد ذلك أن تؤول نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الذين يقتدي بهم
على حسب ما تراه العقول، فصار هؤلاء المؤولة أشر من المعطلة، قال ابن القيم رحمة الله: ((فصل في بيان أن التأويل شر من التعطيل)).(3/257)
وتحت هذا العنوان قال عن التأويل: ((فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفى حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرة الضلال والإضلال)) (3).
وقال ابن أبى العز:
((فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه صرف اللفظ عن ظاهرة، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً، تزييناً له وزخرفة ليقبل)) إلى أن قال:
((فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدله الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً)) (4).
وما زعمه المؤولة من أن نصوص الصفات في القرآن والسنة لا تعرف إلا بالتأويل زعم مردود، إذا أريد أن معاني تلك الصفات معروفة، أما إذا أريد بأنها لا تعرف بمعنى أننا لا نعرف كيفيتها فهذا حق، ولكنهم لا يريدونه.
وعموما ً فكل تأويل يوافق دلالة الكتاب والسنة فهو مقبول وصحيح، وكل تأويل يخالفهما فهو تأويل فاسد فاتح لباب الزندقة، مهيئ للتفلت من قبول الشرع، ومسبب للحيرة والاضطراب، ويمثل علماء السلف للتأويل الصحيح بمسألة شفعة الجار في حديث ((الجار أحق بسقبه)) (5)، أي من حق الجار أن يشفع حق جاره ويكون أحق بشرائه من غيره، ولفظ الجار يشمل الجار الملاصق ويشمل أيضاً الشريك المقاسم على احتمال مرجوح.
لكن هذا الاحتمال المرجوح هو الصحيح المقبول، وذلك لموافقة السنة النبوية في الحديث الثابت وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
((فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) (6) فثبت من الحديث أن المعنى المرجوع هو المراد، لنسخة ظاهر المعنى الراجح وهو الجار عموماً، وهذا ليس من التأويل المذموم في شيء بل هو من باب الجمع والترجيح.(3/258)
ومما ينبغى ملاحظته أن التأويل المذموم وإنما وجد حين ظهرت الفرق من خوارج ومعتزلة وشيعة وجهمية وباطنية وصوفية، حيث أراد هؤلاء أن يوجدوا لأفكارهم غطاء مقبولاً، فلم يجدوا أفضل من التستر بالتأويل، وإظهار أنه علم غزير توصلوا إليه، وهو في حقيقته نقلة إلى القول بأن للنصوص ظاهراً وباطناً وأن الظاهر غير مراد وأن الباطن هو المراد وهو بمنزلة اللب وتشويش مفاهيمهم بما أدخلوه من تلك المصطلحات الجوفاء، التي نرجو من الله عز وجل أن يبطلها ويعيد ذلك الصفاء الذي كان عليه سلف هذه الأمة الإسلامية فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
وإذا رجع القارئ إلى ما كتبة الإمام ابن القيم في موضوع التأويل في كتابه الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، فسيجد فيه من أنواع الجدال لأصحاب التأويلات الفاسدة ومن الفوائد ما لا يتسع البحث هنا لذكره.
فليرجع من أحب التوسع في دراسة قضية التأويل إلى هذا الكتاب والمكون من جزئين بعد تحقيقه (1)فلقد أزاح كل الشبهات التي يتعلق بها دعاة التأويل، وبين المضار التي جلبها على الإسلام والمسلمين، مع سعة المناقشة وعمقها وإفحام الخصوم ودخص كل ما يتعلقون به.
3 – جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بمعنى توحيد الألوهية:
التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
هذا هو تقسيم – أهل السنة والجماعة – لأنواع التوحيد، وهذه الأنواع كانت معروفة بالبداهة عند السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان حتى ولو لم يفصلوا هذا التفصيل في وقتهم.
فإنهم كانوا يعلمون أن توحيد الألوهية يتعلق بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخضوع والإنابة وحده جل وعلا، والابتعاد عن الاشتراك مع الله آلهة أخرى.(3/259)
وأما توحيد الربوبية فهم يعلمون أن الله هو رب كل شيء وملكية، وهو خالق الخلق ورازقهم ومدبر أمورهم كلها، وان هذا النوع من التوحيد داخل في مضمون توحيد الألوهية إلا عند الخلف من المتكلمين الذين عكسوا الحقائق.
وأما توحيد الأسماء والصفات فلقد كانوا على معرفة بأن الله عز وجل من الصفات ما أخبر به عز وجل في كتابه الكريم وما أخبر به نبيه العظيم، يؤمنون أن الله تعالى له ذات لا تشبه الذوات وله صفات الخلق إلا مجرد الاشتراك في التسمية.
ودراسة هذه الأقسام وتفصيلها تفصيلاً كاملاً يحتاج إلى مجلدات، بل هو الحاصل بالفعل، فإن كتب علماء السنة تبلغ المئات في بيان هذه الأنواع والواجب على الناس تجاهها، وكيفية الإيمان بها، وغير ذلك مما لا يكاد يحصر إلا بالكلفة وليس الغرض هنا هو الخوض في ذكر كل تلك التفاصيل، وإنما الغرض هو بيان خطأ أهل الكلام في مفاهيمهم لتوحيد الألوهية الذي كان أكثر النزاع بين الأنبياء وأممهم فيه، بل وبين علماء السنة وغيرهم من علماء الطوائف الضالة.
فمن حقق توحيد الألوهية قولاً واعتقاداً فاز، ومن حاد عن الحق الواجب فيه كان ذلك أكبر دليل على خسارته وضلاله.
والمتكلمون حينما يقررون الكلام في التوحيد يقسمونه إلى ثلاثة أقسام، فيقولون: ((هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له))، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الفعال وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع)) (2).(3/260)
هكذا يقرر المتكلمون أنواع التوحيد، فيجعلون توحيد الربوبية – الذي لم يوجد فيه نزاع بين الأنبياء وأممهم – هو أهم أقسام التوحيد وأوجبها معرفة، مع أن الله تعالى أخبر في كتابة الكريم أن كفار قريش وغيرهم عند بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانوا يعرفون توحيد الربوبية ويعتقدون أن الله هو الخالق لكل شيء، فإذا وجه لأحدهم سؤال: من خلق السموات والأرض؟ فإنه على الفور يجيب: الله هو الذي خلقهما. وكانوا يعرفون أن معنى لا إله إلا الله نفى ألوهية أي كائن كان، لا أصنامهم ولا غيرها مع الله تعالى، ولهذا وقفوا في وجوه رسلهم شعارهم:
(أجعل الآلهة إلها واحداً ( (1)، فكانوا في فهمهم وهم على شركهم أحسن من فهم علماء الكلام – وهم يدعون الإسلام – حينما قرروا أن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع والخلق والإيجاد إلا الله، وهو معنى باطل يرده كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله عليه عامة أهل الحق، فإن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله وحده.
وهذه هي دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى:
?وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( (2) وقال تعالى حاكياً عن دعوة الرسل لأممهم:
?وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( (3).
فالإله هو الذي يستحق العبادة والخضوع له وهذا هو التفسير الحق، وأما تفسير الإله بأنه القادر على الخلق فهو باطل، وأول ما يدل على بطلانه: أنه لو حقق شخص مفهوم هذا التوحيد، فأقر بأن الله هوالخالق الرازق المدبر لكي يشهد الشهادتين، معترفاً بأن الله هو الإله المستحق للعبادة لا يشرك به أحداً.(3/261)
والبشر كلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق، حتى الذين عاندوا وجحدوا الربوبية يعترفون في قرارة أنفسهم بانفراد الرب بخلق كل شيء، وما تقوله نفاة الصفاة، من أن الله واحد لا قسيم له، يريدون من وراء هذه العبارة إثبات ذات مجردة عن كل الصفات، التي يسمونها انقساماً للبارئ وتركيباً في ذاته، وبالتالي يلزم من ذلك – حسب أكاذيبهم – تعدد الآلهة، فتكون العين والسمع واليد وغير ذلك من الصفات آلهة معه وحينما تصوروا وقوع هذا المفهوم وشبهوا الله تعالى، ثم عطلوه عن صفاته بتلك الحجة الباطلة. وحينما جعلوا توحيد الألوهية نفس توحيد الربوبية استدلوا على ذلك بدليل التمانع فقالوا في تقريره: لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر يريد سكونه، أو كان أحدهما يريد أن يكون ذلك الجسم حياً والآخر يريد أن يكون ميتاً، أو غير ذلك من الأمور المتضادة، فإنه حينئذ إما أن تتحقق إرادتهما معاً، وهو مستحيل، إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين لأمر واحد.
أو يتحقق إرادة واحد منهما ويمتنع تحقيق إرادة الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزاً ليس بإله.
أو لا يمكن أن تتحقق إرادتهما معاً لعجز كل واحد عن قهر الآخر، فتسقط ألوهيتهما معاً.
وبهذا التقرير نتج عندهم أن الله هو وحده الخالق لكل شيء، وأنه رب كل شيء.
وهذا وإن كان حقاً أن الله هو رب كل شيء وخالقه، لكنه ليس هو مضمون توحيد الألوهية الذي هو بمعنى إفراد الله بالألوهية وحده لا شريك له، وإفراده أيضاً بالعبودية التي هي معنى الألوهية.(3/262)
وليس هو مضمون جحد أسماء الله وصفاته كما يزعمون حين يؤكدون نفيها وتعطيلها عن الله، ويسمون ذلك توحيدا، ويزعمون أن من أثبت لله الأسماء والصفات الواردة في كتاب الله وفى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مشبه ومجسم، وهم على حد قول القائل: ((رمتنى بدائها وانسلت))، فهم أهل التشبيه والتجسيم، كما هي سمة أهل التعطيل والإلحاد، وهم يسترون باطلهم بأوصاف لله تعالى مجملة، مثل قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، ولا جزء له، ولا بعض له … إلخ.
فهو يحتمل معنى صواباً إذا كانوا يقصدون به أن الله واحد لا يجوز علية الانقسام ولا التجزؤ ولا التبعض، مع أنها ألفاظ مخترعة لم ترد في أي نص شرعي ويحتمل معنى باطلاً وهو نفى صفات الله تعالى تحت هذه الأوصاف وقد اتضح من إنكارهم وتعطيلهم لأسماء الله وصفاته، أنههم لا يريدون إلا هذا المعنى الموافق لتأويلاتهم التي يسمونها توحيداً، ويسمون من يردها مشبها ً ومجسماً وحشوياً.. الخ لأنه لم يقر بأن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد ويستدل المؤولون من الخلف على دليل التمانع من القرآن الكريم بقول الله عز وجل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( (1)
على اعتقادهم أن معنى الآية: لو كان في السموات والأرض إله يخلق غير الله عز وجل لفسدتا، فثبت أنه لا خالق إلا الله، وأن هذا هو توحيد الربوبية الذي بينه القرآن الكريم ودعا إلى تحقيقه وأنه هو دعوة الرسل. فهل أصابوا في هذا الفهم؟ الجواب: لا، وقد بينه ابن أبى العز رحمة الله فقال:
((وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: ?لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ((3/263)
لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له(2) ثم قال: "فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية)) (3)
فدليل التمانع قائم على أن الله هو خالق الخلق لا رب سواه، والخطأ إنما هو المتكلمين الذين جعلوه هو التوحيد الخالص، وقدموه على توحيد الألوهية استغناء به، مع إغفال توحيد الألوهية الذي خلق الله الجن والإنس لتحقيقه، وجعله احب شيء إليه،ة وبه يثيب وبه يعاقب.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله عن هذا التوحيد:
((وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والتعظيم وجميع أنواع العبادة، ولآجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار..)) إلى أن قال: ((وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك في الله،كما هو أقوال من لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة)) (4).
ثم أورد السؤال الآتي وأجاب عنه وهو قوله: ((0 فإن قيل: قد بين معنى الإله والإلهية (5) فما الجواب عن قول من
قال بأن معنى الإله: القادر على الاختراع، ونحو هذه العبارة؟
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا باطلاً)).
وإشارته إلى ما تقدم، يريد ما ذكره من تفسير العلماء لمعنى الإله بالمعبود الذي يجب له وحده العبودية والذل والخضوع، ثم قال:(3/264)
((وهذا كثير جداً في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافاً لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله، أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات..))، إلى أن قال: ((ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته ويلبون دعوته، إذا يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا، قال الله تعالى: ?ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ( (1))) (2).
الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقاً قادراً على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمى إلها، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام، وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين (3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على المفهوم الخاطئ لأهل تجاه المراد بالتوحيد: ((وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا اثبتوا ذلك فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد..))
إلى أن قال:
((فإذا فسر المفسر (الإله) بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد – ما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية – وهو الذي يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه
لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع ذلك مشركين)) (4)
4 – تعطيل النصوص عن مدلولاتها:(3/265)
من الأمور الواضحة بعد عرض ما تقدم، أن كل الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة لم يلتزموا بالمفاهيم الواضحة للنصوص، وإنما كان حالهم فيها مثل حال من يفسر الواضح حتى يجعله غامضاً، فهؤلاء تعمقوا – كما يظنون – في استخراج الحق الكامن خلف النصوص ثم خرجوا بعلم غزير لم يهتد إليه أحد قبلهم، لا الصحابة ولا من جاء بعدهم، بل لم يهتد إليه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهم وإن لم يصرحوا بذلك، لكن عباراتهم ومواقفهم تدل على هذ1 دلالة لا تخفى على من عرف ألغازهم في كلامهم، والمصطلحات التي تستروا بها، لدس أفكارهم الضالة حيال التلاعب بالنصوص، وإظهارها بالمظهر الذي يريدونه.
وقد كانوا بحق أذكياء جدا في عرض شبهاتهم وتأويلاتهم، حيث جاءوا بزخرف من القول والدعاية، واختيار الأسماء المنفرة لما لا يريدونه، وإلقاء الأسماء التي ظاهرها يخدمهم ولها رونق وبريق، فانخدع بذلك كثير من عوام المسلمين، بل من طلاب العلم، وسموا أنفسهم بأحسن الأسماء، مثل: أهل التوحيد، أهل العدل، أهل الاستقامة، الفرقة الناجية، أهل السنة، محققين، حكماء. إلى غير ذلك من الألقاب التي اصبغوها على أنفسهم واتباعهم.
وبالتالي أطلقوا أسماء أخرى على أهل السنة والجماعة تنفر السمع عنهم وتجعله يمتلئ غيظا عليهم، كارها لمذهبهم وعقيدتهم الحنيفية، فأطلقوا عليهم ظلما وعدوانا: أهل التشبيه والتجسيم، الحشوية، خوارج، نوابت، وفى هذا يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته، حكاية عن معطل يحذر أصحابه من مذهب أهل السنة:
تسمع مقال مجسم حيوان
قد دان بالآثار والقرآن
أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان
قالوا مشبهة مجسمة فلا قال أيضا
وقال أيضاً:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم
وقال أيضا في تسميتهم لأهل السنة حشوية، أي من حشو الناس وسقطهم:
بالوحي نمن اثر ومن قرآن
وفضلة في أمة الإنسان
رب العباد بداخل الأكوان
الرب ذو الملكوت والسلطان
حمن محوي بظرف مكان(3/266)
ومن العجائب قولهم لمن اقتدى
حشوية يعنون حشوا في الوجود
ويظن جاهلهم بأنهم حشوا
إذ قولهم فوق العباد وفى السماء
ظن الحمير بأن في للظرف والر
أي ظن هؤلاء أن أهل السنة يقولون: إن الله في السماء، أي هي ظرف له وتحويه، وهو كلام باطل لا يقوله أهل السنة
وهناك اسم أخر يسمون به أهل السنة وهو: " النوابت "، أي نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية بعد اختلاطهم بالأعاجم، بل وسموا أهل السنة: عابدي أوثان، لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء وفوق العرش بذاته، والروافض أيضا يسمون أهل السنة – كذباً – " نواصب"، ومن الغرائب أنهم يسبون أهل السنة بما ينطبق عليهم هم، وفيهم يقول ابن القيم رحمه الله:
أولى ليدفع عنه فعل الجاني
ولذاك عند الغر يشتبهان
ومجسمين وعابدي أو ثان
وهم الروافض أخبث الحيوان
سموا بالنواصب شيعة الرحمن(1)
بالمعدوم فاجتمعت له الوصفان
حتى نفاه وذان تشبيهان
سماه تشبيها فيا إخوان
هذا الخبيث المخبث الشيطان
أم مثبت الأوصاف للرحمن
فرموهم بغيا بما الرامي به
يرمي البرئ بما جناه مباهتا
سموهم حشوية ونوابتا
وكذاك أعداء الرسول وصحبه
نصبوا العداوة للصحابة ثم
وكذا المعطل شبه الرحمن
وكذا شبه قوله بكلامنا
وأتي إلى وصف الرسول لربه
وبالله من أولى بهذا الاسم من
فمن المشبه بالحقيقة أنتم
والله عز وجل يعلم أن أهل السنة براء من تلك الألقاب الظالمة، فإن الذي يثبت لله ما أثبته لنفسه لا يجوز أن يسمي مشبها أو مجسما، والذي يقول: الله في السماء، أي في جهة العلو المطلق، وأن السماء ليست ظرفا له عز وجل، وإنما المقصود جهة العلو بغير تحديد مكان – لا يصح أن يسمى حشويا.
والذي يأخذ بظواهر النصوص ويفهم معانيها فهما جيدا ويقول عن الكيفية: لا علم بها، لأن الله لم يخبرنا بذلك، لا يصح أن يسمي خارجيا يقف على ظواهر النصوص دون فهم لمعانيها.
والذي نبت على معرفة الحق وما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لا يصح أن يسمي نابتا جديدا خارجا عن الحق.(3/267)
والذى يحترم أهل البيت وينزلهم المنزلة التي تليق بهم فلا يرفعهم إلى مرتبة العصمة أو الألوهية، ولا ينزلهم عن قدرهم فيذم بعضهم ويمدح البعض الآخر، كالرافضة، لا يصح أن يسمى رافضيا.
إن تلك الأسماء كلها في إطلاقها على أهل الحق ظلم وكذب وزور، فهي في الحقيقة أسماء لأهل الباطل، لكن الجاني يسمى نفسه بريئا ويسمي البريء مجرما، والله عز وجل يفصل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
إن تسلط علماء الخلف على النصوص وتحريفها عن معانيها الصحيحة لتوافق ما جاءوا به من عقائد ما أنزل الله بها من سلطان – أمر معلوم لطلاب العلم.
فإن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تخبطات في فهم النصوص وبناء عقائدهم، إلا على لي أعناق النصوص وزخرف الأقاويل في تأويلها، وإيراد الشبهات الكثيرة تحت اسم الأدلة القاطعة والبراهين الواضحة، وهى أسماء تخفي وراءها خداعهم لمن يعرف ما يهدفون إليه، إحياء أفكار أساطين الملاحدة والفلاسفة من اليونانيين وغيرهم.
وقد ذكرنا من خلال ما تقدم دراسته – بيان مذاهب الفرق الباطلة وأقوالهم المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ابتداء بالخوارج وانتهاء بهذه الفرق الكلامية أتباع الفلاسفة.
ومجمل الاعتقاد فيما تقدم في باب الأسماء والصفات، هو أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، وأن ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم على حسب ما يأتي:
نثبت لله تعالى كل الأسماء الحسنى كما قال عز وجل: ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ( (1)
نثبت له كل الصفات الواردة في القرآن الكريم.
نثبت أن لله في كل صفة المثل الأعلى والأكمل.
الإيمان بكل ما جاء من صفات الله تعالي إلى التفصيل الذي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية.(3/268)
أن نثبت معاني كل أسماء الله وصفاته، ونتوقف عن الخوض في كيفياتها، لأن الله لم يخبرنا بذلك. وأن نردد في كل صفة عبارة السلف: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة ".
* * * * * * * * * * * * * * * * **
5- جدول مختصر لبيان صفات الله تعالى
وتأويل الخلف لها (وما من صفة من الصفات إلا وللسلف
دليل على ثبوتها لله تعالى) كما في الجدول الآتي
الصفحة
دليل ثبوتها
تعطيل الخلف لها
نفس الله
?كتب ربكم على نفسه الرحمة( ( ).
?ويحذركم الله نفسه ( ( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإن ذكرني في ملأ خير منهم " إلى آخر الحديث ( ). فلله تعالى نفس لا تعرف كيفيتها، وليست كسائر النفس المركبة في أبدان المخلوقات.
زعموا أن الله لا يصح وصفه بذلك، وإنما أضاف النفس إليه مثل إضافة سائر الخلق إليه، وهو تعطيل لتلك النصوص وغيرها مما لم نورده هنا.
علم الله
?يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ( ( ).
?ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس: ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت ( ( ).
لا يؤمنون بصفة العلم على أنها من صفات ذاته عز وجل مضافة إليه، ومن الغريب أنهم يقولون: إن الله هو العالم وينكرون أن لله علماً مضافاً إليه من صفات الذات " يعني أنهم يثبتون الاسم وينكرون الصفة التي يدل عليها، وهو تناقض، فإنه لا يعقل عالم بلا علم ".
الوجه لله تعالى: صفة ذاتية لله تعالى
?ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( ( ).(3/269)
?كل شيء هالك إلا وجهه ( ( )، ولله وجه لا تعلم كيفيته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر ( ). كله " الحديث. والسلف رحمهم الله يثبتون الوجه لله تعالى حقيقة مع تنزيهه عن مشابهة خلقه، ولا يلزم من المشاركة في التسمية الاتحاد في الذات فالله أعلى وأجل من ذلك.
نفوا أن يتصف الله بالوجه وأولوه بمعنى نفس الذات. أي ويبقي ذات ربك أو يبقى ثوابه أو هو بمعنى القبلة، أو هو كما تقول العرب: وجه الدار ووجه الكلام، وهذا تكذيب لله ورسوله وتأويل باطل لا مبرر له، وهو من تلاعب الشياطين بهؤلاء المعطلة النفاة، والسلف يؤمنون بأن لله تعالى وجهاً من غير تشبيه وجه يليق به، وهذا هو الحق الموافق لكتاب الله وسنة نبيه.
عين الله
{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.
{ولتصنع على عيني}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال "إنه أعور وإن الله ليس بأعور" وفى رواية أخرى ((أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية ( ).
لا يثبتون هذه الصفة ويؤولونها بحجة أنها مرة جاءت بلفظ الإفراد ومرة بلفظ التثنية متجاهلين أنها أسلوب من أساليب العرب في لغتهم. والسلف يثبتونها صفة ذاتية لله تعالى ولا يكيفونها، والخلف أولوها بمعنى حفظ الله أو العلم، وان الحديث فيه تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له صفة تشبه صفات خلقه وهذا تأويل.
السمع والبصر
?لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ( ( ).
?إننى معكما أسمع وأرى ( ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالتكبير: ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه سميع قريب)) ( ).
وفى رواية: ((إن الذي تدعون هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) ( ).(3/270)
ينفون إثبات السمع والبصر على أنهما صفتان على حقيقيتان لله تعالى ويزعمون أن اثباتهما يقتضى تشبيه الله بخلقه، لأنه على حسب زعمهم لا يوجد خارج من يتصف بالسمع والبصر إلا المخلوقات، والسلف يثبتونهما صفتان حقيقيتان لله عز وجل من غير تكييف لهما تمشياً مع الأدلة.
اليدان
?ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ( ( ).
?بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( ( ).
?يد الله فوق أيديهم ( ( )، والآيات والأحاديث في إثبات اليد واليدين لله عز وجل كثيرة جداً، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل إلا الطيب. فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم قلوه حتى تكون مثل الجبل)) ( ). وفى رواية أبى هريرة رضي الله عنه: ((إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو قلوصه حتى مثل الجبل أو أعظم)) ( ).
وعن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء الليل الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) ( ).
نفوها وقالوا: إن اليد من صفات المخلوقين، وزعموا المخلوقين، وزعموا أن اليد النعمة واليدين النعمتان أو القوة.
والسلف يثبتونها صفة حقيقية ذاتية لله عز وجل لا تشبه أيادي ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات المخلوقة.
الأصبع
عن عبد الله قال: جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ( ) ( ).(3/271)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء" ( ).
ذهب بعضهم إلى نفى ما جاء من النصوص في ما جاء من النصوص في إثبات الأصابع، وزعموا أن إثباتها إنما هو من أكاذيب اليهود، لأنهم من غلاة المشبهة وأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان كراهة وبغضاً لذلك، وهذا رد سافر للنص، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يضحك عندما توجه ألفاظ الإهانة إلى الله تعالى.
وبعض هؤلاء لم يجد بداً من تصحيح الحديث، فذهب يؤول الأصابع إلى أنها بمعنى شيء يخلقه الله يحمل السماوات وكل ما ذكر في الحديث كما تحمل الأصابع الشيء الثقيل، إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة التي يردها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، ومنهم الصحابة رواة الحديث
الرجل والقدم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة" ( ). وفي رواية: "فيضع فيها رجله" ( ).
أهل السنة يثبتون أن لله قدماً لصريح الحديث في إثبات الرجل والقدم لله عز وجل، ولا يعلم مقدار عظمة ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، وتكلف القول في بيان كيفيتها أو الإقدام على نفيها من الباطل المنهي عنه.
وقد أول المعطلة ما ورد من إثبات القدم لله تعالى في الحديث بمعنى أن النار حين يضع فيها الجبار المتعالي على الله؛ تقول: قط قط، وهو تأويل بعيد لا تدل عليه النصوص ولا اللغة، وأول المعطلة الرجل إلى معنى الجماعة من الناس.
الساق(3/272)
قال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } ( ). ورد لفظ الساق هنا منكراً، ومن هنا وقع خلاف بين علماء السلف هل الساق صفة ذاتية لله أم لها معنى آخر على قولين إلا أنه قد جاء حديث صحيح يفصل هذا النزاع وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: "فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم" الحديث ( ).
للسلف وغيرهم مفاهيم مختلفة حول ثبوت صفة الساق لله، فيروى أن الساق هو الشدة، وقيل: الساق هو النور العظيم، وقيل: هو ما يقع للمؤمنين من لطف الله. فمن أثبته صفة لله تعالى فمستنده حديث أبي سعيد الخدري ومن نفاه عن الله ذهب إلى تلك التأويلات.
والحق هو إثبات الساق صفة لله تعالى بدون تكييف ولا تأويل؛ لثبوت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري. وفي قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}
الاستواء
استواء الله على عرشه كثرت أدلته من القرآن والسنة، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}( )، وفي الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات"( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي" ( ).
نفوا الاستواء وزعموا أن معنى النصوص الواردة باستوائه أي بمعنى استيلائه على العرش، أو بمعنى الإقبال على خلق العرش وغيره، وهي تأويلات باطلة خلاف ما جاءت به النصوص الواضحة من كتاب الله وسنة نبيه، بل وخلاف ما عرف في اللغة العربية من أن الاستواء هو غير الاستيلاء، وأن الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
النزول والإتيان والمجيء
يوم القيامة
كل ليلة(3/273)
1- النزول والمجيء والإتيان في يوم القيامة: قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ}( ) وقال تعالى: { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }( ).
ومن السنة: ما جاء في أحاديث القيامة وفصل القضاء بين العباد,وهي أحاديث كثيرة , منها قوله صلى الله عليه وسلم قال: "فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم , فيقولون: هل بينكم وبينه آية تعرفونه , فيقولون: الساق , فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن , ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة.." الحديث( ).
2- في الدنيا: ينزل ربنا كل ليلة كما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" ( ).
لا يؤمنون بالنزول ولا المجيء ويؤولون ذلك إلى معنى نزول أمره أو نزول الملائكة أو نزول رحمته.
وهو تأويل باطل وتعطيل ظاهر للنصوص , والسلف يؤمنون بنزول الله عز وجل , وهو من الصفات العلية , ينزل ربنا تعالى نزولاً يليق به.
كل هذه الصفات الاختيارية لا يؤمن بها الخلف فلا يثبتون ما دل عليه كل نص.
الرضى,
الغضب,
الضحك.
الفرح,
السخط,
التعجب,
المحبة,
الكراهة,
الرحمة.
هذه الصفات يؤمن بها السلف كما جاءت بها النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه على ما يليق بجلال الله وعظمته , وأدلتها على الترتيب: قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}( ) وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم}( ) وفي الصحيح أن آخر رجل يدخل الجنة يتوسل إلى الله كلما قدمه درجة طلب أخرى , قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك منه قال له: أدخل الجنة " ( ).(3/274)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه , فطلبها فلم يجدها , فنام تحت شجرة ينتظر الموت , فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه , فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته"( ).
وقال تعالى:{ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} ( ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" ( ).
وقال تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }( ).
وقال تعالى: { ولكن كره الله انبعاثهم }( ) وقال تعالى:{ورحمتي وسعت كل شيء }( ).
بل جاءوا لها بمعان مختلفة عطلوا بها معاني تلك النصوص فالرضى عندهم إرادة الثواب أو العطاء أو الإنعام , والغضب إرادة الانتقام , والضحك إرادة الثواب أو الرضى , والفرح قبول التوبة وإرادة الثواب , ومحبة الله للعبد بمعنى إحسانه إليه وإنعامه , والرحمة إرادة الله الخير والنعم لعبده.
وكل تلك التأويلات باطلة ومخالفة للحق الذي قررته الشريعة الإسلامية , ولا يلزم من إثباتها أي محذور , وليس فيه أي تشبيه لله بخلقه , خصوصاً وقد مدح الله نفسه بها , ولا يتصور التشبيه إلا من لم يعرف الحق ولم يطلع على مذهب السلف , ذلك أنها صفات تليق بالله عز وجل وكما ل نعرف ذاته فكذلك لا نعرف كيفية صفاته.
الكلام صفة ذات وفعل
قال تعالى: { فأجره حتى يسمع كلام الله }( ), عن ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم" الحديث( ).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض"( ).(3/275)
لا يؤمنون بأن الله تعالى يتكلم متى يتكلم متى شاء ولا يثبتونها صفة لله تعالى , وأولوا النصوص الواردة بإثباتها وعطلوها عن مدلولاتها , ومن هنا زعموا أن القرآن الكريم مخلوق لم يتكلم به الله , وأن نسبة الكلام إلى الله مجاز , وهو قول الجهمية. أو هو معنى قائم بذات الله خلقه في غيره , وهو قول الماتريدية , أو أنه ألفاظ ومعان , فلألفاظ مخلوقة والمعاني قديمة قائمة بالنفس , وهو معنى واحد يختلف حسب التعبير به إن عبر عنه بالعربية صار قرآناً وإن عبر عنه بالعربية صار توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.
ولا تعلق له بالمشيئة الإلهية وهذا قول الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة الذين لا سثبتون لله تعالى إلا كلاماً نفسياً لله قائماً بذاته من غير حرف ولا صوت.
أو أن القرآن متعلق بالمشيئة والقدرة , وأنه قائم بذات الرب إلا أنه حدث بعد أن لم يكن , وهذا قول الكرامية.
أو أن كل كلام طيباً أو خبيثاً هو كلام الله , وهذا قول الاتحادية , إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
ومذهب السلف أن الله يتكلم متى شاء بما شاء على وجه لا نعرف كيفيته , وأن نوع الكلام قديم وآحاده حادثة.
الرؤية الرؤية ليست من صفات الله تعالى , والغرض هو بيان تعطيل الخلف للنصوص
لا يختلف السلف في أن الله يرى بالأبصار في يوم القيامة , قال تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }( ).
وفي السنة: عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضمون في رؤيته, فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا "( ).(3/276)
ينفي المخالفون رؤية الله في الدار الآخرة , ويزعمون أنها تؤدي إلى القول بأن الله مثل الحوادث وأنه متحيز في مكان , وزعموا أن قول الله: { وجوه يومئذ ناضرة } أي منتظرة لفضله ونعمه , وأن "لن" في قول الله تعالى لموسى: { لن تراني } على التأبيد , وهو كذب على اللغة وعلى الحق.
وأهل السنة يثبتون رؤية الله في الدار الآخرة يرونه بأبصارهم رؤية لا تعرف كيفيتها , بعيدة عن التشبيه وعن ما يتوهمه أهل التعطيل , وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا خلاف مشهور بين الصحابة ومن جاء بعدهم.
العلو
علو الله أمر معلوم من الدين بالضرورة قال تعالى: { بل رفعه الله إليه }( ). وقال تعالى: { أأمنتم من في السماء }( ). عند أهل السنة كلمة السماء المراد بها مطلق العلو , وتكون "في" بمعنى "على"قال تعالى: { يخافون ربهم من فوقهم }( ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟ قالت: في السماء "( ).
ينكر المعطلة صفة العلو , ويزعمون أن الله في كل مكان بذاته , وأولوا الفوقية أنها بمعنى فوقية القدر والعظمة , وهو تعطيل للنصوص ورد لها وجحد للحق الثابت
هذا وأسأل الله عز وجل أن يكون فيما تقدم ما ينفع وأن يجزل لي الأجر , فإنه يجزي على العمل الحقير الأجر الكثير , وكل ما أطمع فيه هو عفو الله وثوابه في جمع تلك المعلومات وكتابتها , وجمع شتات ما تفرق في كتب العلماء حول الطوائف المخالفة للحق الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنني مدين في نهاية هذا البحث بالشكر العظيم لله عز وجل أولاً , ثم لأصدقائي من مشائخ فضلاء وطلاب علم , وموظفين في مكتبات الجامعة الإسلامية وغيرها من تيسير كثير من المراجع التي لم تتوفر لدي واحتسابهم ذلك عند الله تعالى , ولم يرغبوا في ذكر أسمائهم أو الإشادة بهم ولهم في قلبي أعمق الود والإجلال.
أسأل الله لي ولهم ولكل طالب علم ولكل المسلمين عموماً الهداية والتوفيق.(3/277)
وهو حسبنا ونعم الوكيل..
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
ومن المراجع المفيدة في دراسة أقوال علماء أهل الكلام
والرد عليهم
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
- القصيدة النونية للإمام ابن القيم مع شرحها للهراس.
- الصواعق المنزلة لابن القيم مع تحقيقها للدكتور أحمد عطية الغامدي، والدكتور علي بن ناصر فقيهي.
- بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لابن خزيمة.
- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار.
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم.
- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم.
- رد الإمام الدارمي على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي.
- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز.
- مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين لأبي الحسن الأشعري.
- الفرق بين الفرق للبغدادي.
- الملل والنحل للشهر ستاني.
- الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم.
- الإبانة لأبي الحسن الأشعري.
- كتاب الإيمان لابن منده تحقيق الدكتور علي بن ناصر.
- المعتزلة عواد بن عبد الله المعتق.
- تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة.
- فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
- تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
- الصفات الإلهية للدكتور محمد أمان الجامي.
- أبو الحسن الأشعري للشيخ حماد الأنصاري.
- عقيدة التوحيد في فتح الباري شرح صحيح البخاري للشيخ أحمد عصام الكاتب.
- تاريخ الجهمية والمعتزلة للشيخ جمال الدين القاسمي.
- العصريون معتزلة اليوم يوسف كمال.
- المعتزلة بين الفكر والعمل علي الشابي / أبو لبابة حسين / عبد المجيد النجار.
- خلق أفعال العباد للإمام البخاري محمد بن إسماعيل.
- المواقف للعضد الإيجي.
- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.(3/278)
- التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي.
- درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل للشيخ عثمان بن عبد الله آدم.
ومئات المراجع التي كتبها العلماء في دراستهم لهذه الفرق مما لا يخفي على طلاب العلم، وقد ذكرت فيما تقدم مراجع قديمة ومراجع عصرية.
وأرغب في نهاية دراسة هذه الفرق أن أتقدم بنصيحة إلى كل محب من طلاب العلم ألا يزهد عن كتابة المتأخرين، فإن فيها صفوة كثير من المعلومات لإطلاع هؤلاء على ما كتبه السابقون واستخلاص زبدة أفكارهم ثم تدوينها في كتاباتهم.
وليس من الإنصاف الإعراض عنها بحجة أنهم عالة على ما كتبه القدامى فهذا خطأ يفوتك فوائد قد تجتنيها بدون عناء مع أنه لا يبعد عن الصدق في أن علماء هذا العصر عالة في كثير من الأمور على ما كتبه القدامى لمعايشتهم الأحداث وصفاء عقولهم وإخلاصهم في نفع الناس.
ولكن هذا لا يمنع أن توجد فوائد قد لا نجدها في بعض كتابات القدامى، ومن قال بخطأ هذا فقد زعم انحصار فضل الله عز وجل على عباده، فإن الله تعالى هو الوهاب وهو الفتاح العليم. غفر الله لعلمائنا من تقدم منهم ومن تأخر، ونسأله عز وجل أن يلحقنا بهم صالحين غير خزايا ولا مفتونين.
?ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم( (1).
* * * * * * * * * * * * * * * * **
فهرس
لمجلد الثالث
الباب العاشر
الصوفية
الفصل الأول: تمهيد في بيان انحراف الصوفية
الفصل الثاني: التعريف بالصوفية
في اللغة
في الاصطلاح
الفصل الثالث: العلاقة بين المتصوفة وأهل الصفة
الفصل الرابع: أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها، وبيان مفهوم الملامية أو الملامتية
الفصل الخامس: متى ظهر المذهب الصوفي
الفصل السادس: حقيقة التصوف(3/279)
الفصل السابع: أقسام المتصوفة وذكر طرقهم، واختيار الطريقة التجانية نموذجا ودراستها دراسة شاملة من واقع كتبهم
الفصل الثامن: الخلوات الصوفية
الفصل التاسع: مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة ألورن
في نيجيريا
الفصل العاشر: كيفية الدخول في المذهب الصوفي
الفصل الحادي عشر: أصول الصوفية
الفصل الثاني عشر: إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية
عقيدتهم في الإله عز وجل
الحلول
وحدة الوجود
وحدة الشهود أو الفناء، وبيان العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود
اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم
الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية
الفصل الثالث عشر: الكشف الصوفي
الفصل الرابع عشر: الشطحات الصوفية
الفصل الخامس عشر: التكاليف في نظر الصوفية
الفصل السادس عشر: الأذكار الصوفية
الفصل السابع عشر: بيان الوجد والرقص عند الصوفية
الفصل الثامن عشر: الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية
الفصل التاسع عشر: زعماء الصوفية
بعض المراجع عن الصوفية
الباب الحادي عشر
المرجئة
تمهيد
الفصل الأول: التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحا، وبيان أقوال العلماء في ذلك
الفصل الثاني: الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة
الفصل الثالث: كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب
الفصل الرابع: أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة
الفصل الخامس: أصول المرجئة
الفصل السادس: أقسام المرجئة
الفصل السابع: أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها
الفصل الثامن: مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان
الفصل التاسع: منزلة مذهب المرجئة عند السلف
أهم المراجع لهذه الفرقة
الباب الثاني عشر
الجهمية
الفصل الأول: التعريف بالجهمية وبمؤسسها
من هو الجهم بن صفوان
الفصل الثاني: نشأة الجهمية
الفصل الثالث: مصدر مقالة الجهمية
الفصل الرابع: ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالا
إنكار الجهمية لجميع السماء والصفات
شبهاتهم والرد عليهم
قول الجهمية بالإرجاء والجبر
إنكار الجهمية الصراط(3/280)
إنكار الجهمية للميزان
قول الجهمية بفناء الجنة والنار
الفصل الخامس: الحكم على الجهمية
الباب الثالث عشر
المعتزلة
الفصل الأول: نشأتهم
الفصل الثاني: أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات
الفصل الثالث: مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية
الفصل الرابع: ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا
الفصل الخامس: الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها والرد عليها
الأصل الأول: التوحيد
الأصل الثاني: العدل – الصلاح والأصلح
الأصل الثالث: 1- الوعد والوعيد
2- الوعيد
الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين
الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الباب الرابع عشر
الأشاعرة أو السبعية
ظهور الشاعرة
أبو الحسن الأشعري
عقيدة الأشعري
" عقيدته كما بينها في كتابه الإبانة "
أشهر زعماء الأشعرية
موقف الأشاعرة من صفات الله تعالي
الباب الخامس عشر
الماتريدية
التعريف بمؤسس الماتريدية
أهم آراء الماتريدي إجمالا
الباب السادس عشر
دراسة أهم المسائل التي اتفق
عليها أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية
والمعتزلة والجهمية وتشمل ما يأتي
تقديم العقل على النقل
التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة
جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية
بمعنى توحيد الألوهية
تعطيل النصوص عن مدلولاتها
جدول مختصر لبيان ثبوت صفات الله تعالي
وتأويل الخلف لها
نفس الله – علم الله
الوجه لله تعالى
عين الله تعالى
السمع والبصر
اليدان
الأصبع
الرجل والقدم
الساق
الاستواء
النزول والإتيان والمجيء
يوم القيامة
كل ليلة
الرضى – الغضب – الضحك – الفرح – السخط – التعجب – المحبة – الكراهة – الرحمة
الكلام
الرؤية
العلو
بعض المراجع(3/281)