فتح الواحد العلي
في الدفاع عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
لفضيلة الشيخ
عبدالله بن عبدالرحمن السعد
مكانة الصحابة في الإسلام
لفضيلة الشيخ
عبدالله بن عبدالرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
... إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهصلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
... فإن من المعلوم الذي يعرفه الخاص والعام، وهو مما عُلم بالضرورة من دين الإسلام فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلوّ مكانتهم، ورفعة درجتهم، رضي الله عنهم.
... وهذا لما تكاثرت به الأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة، وليس هذا موضع استيفائها، وهي معلومة بحمد الله تعالى وفضله، ولكن لعلي أذكر بعضاً منها:
... قال الله تعالى:{مُحَمدٌ رَسُولُ الله والذين معه أشداء على الكُفارِ رُحماءُ بينهم تراهم رُكعاً سُجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهُم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكُفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماًْ} [محمد:29].
... وهذه الآية الكريمة تشمل كل الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
... وقال تعالى: {لايستوي مِنكُم من أَنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظمُ درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكُلا وعد الله الحُسنى والله بما تعملون خبير} [الحديد: 10] .
... وهذه الآية أيضاً شاملة (1) لكل الصحابة رضي الله عنهم، لمن أنفق قبل فتح مكة وقاتل، ولمن أنفق من بعد الفتح وقاتل، كلهم وعدهم الله بالحسنى.
__________
(1) لأن هناك من ينازع في فضل بعض الصحابة رضي الله عنهم ، لذلك ذكرت النصوص التي تشمل الصحابة كلهم من حيث الفضل.(1/1)
والحسنى هي الجنة، كما قال الله تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذِلةٌ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [ يونس: 26] .
... ولذلك فسّر السلف الحسنى بالجنة(1)، كما قال ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيره.
قال أبو جعفر ابن جرير في «تفسيره» (11/108): وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وعد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى، وأن يجزيهم على طاعته إياه الجنة ا.هـ.
... والذي قاله ابن جرير واضح، يشهد له ما تقدم، وما سيأتي إن شاء الله تعالى.
... وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100] .
وهذه الآية أيضاً شاملة لكل الصحابة رضي الله عنهم.
... ويؤيد ما تقدم ما جاء في السنة:
فقد أخرج البخاري (3673) ومسلم (2541) كلاهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبّه خالد، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «لاتسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» وهذا لفظ مسلم(2).
... وهذا الحديث شامل لكل الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لاتسبوا أحداً من أصحابي» .
... ولذلك بوّب عليه أبو حاتم ابن حبان في «صحيحه» - كما في «الإحسان» (16/238) - : ذكر الخبر الدالِّ على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم ثقات عدول.
__________
(1) أي في تفسير آية {للذين أحسنوا }.
(2) وأخرجه مسلم (2540) أيضاً من حديث أبي هريرة.(1/2)
... وأما توجيه هذا الخطاب لخالد بن الوليد ولغيره فهذا لا يفيد خروجه من الصحابة، بل هو بالإجماع صحابي، وإنما المقصود الصحبة الخاصة كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه عند ما وقع خلاف بينه وبين الصديق رضي الله عنه: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» مرتين. أخرجه البخاري (3661) من حديث أبي إدريس عن أبي الدرداء.
... وأخرج البخاري (3649 ) ومسلم (2532) كلاهما من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، يقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم» وهذا لفظ مسلم.
... وأخرجه مسلم (2523) من طريق أبي الزبير عن جابر قال: زعم أبو سعيد قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم : «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث، فيقولون: هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم به ، ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم ؟ فيفتح لهم ، ثم يبعث البعث الثالث، فيقال: انظروا، هل ترون فيهم أحداً رأى أحداً رأى أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به».
وهذا شامل أيضاً لكل الصحابة رضي الله عنهم.(1/3)
... ومن فضل الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمنة للأمة ، أخرج مسلم (2531) من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه(1)قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهب النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون».
... وهذا أيضاً يشمل كل الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الحديث عام في الصحابة ولم يخص أحداً منهم دون أحد.
... ويؤيد ما تقدم ما رواه أحمد (4/363) والطبراني في «الكبير» (2438) ، والحاكم (4/80) وصححه ، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (10/145) كلهم(2)من طريق الثوري عن الأعمش(3)عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «الطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة »(4).
__________
(1) أي: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2) وقع في إسناد أحمد خطأ، وهو: نسبة موسى بن عبد الله إلى هلال العبسي وجعلهم واحداً، وقد نبه على هذا الهيثمي وابن حجر كما في «إتحاف المهرة» (4/56) .
(3) رواه شريك كما عند أحمد (4/363) والطبراني ( 2456) فخالف فيه الثوري، فرواه عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير، ولا شك أن رواية الثوري أصح.
(4) إسناده قوي، ورجاله كلهم ثقات، وموسى بن عبد الله ثقة بالاتفاق، خرج له مسلم في «صحيحه»، وعبد الرحمن بن هلال العبسي وثقه النسائي والعجلي، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وقد خرّج له مسلم ثلاثة أحاديث عن جرير، وهي: ( 989 ، 1017، 2592).
وفي معجم الطبراني «الكبير» ( 2448) من طريق مجالد ثني عبد الرحمن بن هلال قال: أرسلني أبي إلى جرير بن عبد الله ... قال: فأتيته وسألته ...
وهذا فيه إثبات سماع عبد الرحمن من جرير.
... ولكن لم أقف للأعمش على تصريح بالسماع في هذا الحديث من موسى بن عبد الله مع أن له رواية عنه في مسلم (1017)، على أن يعقوب بن سفيان قال في «المعرفة» (2/637): وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلّس يقوم مقام الحجة ا.هـ. وفي هذا الخبر لا يعلم أن الأعمش دلّس فيه.
وأما عنعنة الثوري فلا تضر لأنه معروف بالرواية عن الأعمش وأغلب تدليسه إنما هو من تدليس الشيوخ، وأما تدليس الإسناد فقليل، قال البخاري: ولا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور ... وذكر مشايخ كثيرة لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه. ا.هـ . من «العلل» للترمذي (2/966).
... وقد جاء هذا الخبر من طرق أخرى: فقد أخرجه أبو داود الطيالسي ( 706 ) وأحمد (4/363) وابن حبان ( 7260 ) والطبراني في «الكبير» ( 2302 ) , (2310 ) ، ( 2311 ) ، ( 2314 ) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» ( 1/145-146) ، وابن عدي في «الكامل» ( 3/1122) والخطيب في «التاريخ» ( 13/44 ) من طرق عن أبي وائل عن جرير به، وأبو وائل وإن كان قديماً وقد أدرك الجاهلية ولكنه يرسل، ولا أعرف أنه سمع من جرير، وليس له في «الكتب الستة» رواية عن جرير إلا حديث واحد، أخرجه النسائي (7/147) وبينَّ أن بينهما رجلاً.
... وقد خرج الطبراني في «الكبير» عدة أحاديث من رواية أبي وائل عن جرير (2302 – 2317) ولم يصرح في شيء منها بالتحديث عن جرير.
... ومن الطرق التي رويت عن أبي وائل – أي: في حديث الطلقاء - طريق عاصم بن أبي النجود عنه، وقد اختلف عليه:
فرواه أبو بكر بن عياش وشريك وعمرو بن قيس وسليمان بن معاذ كلهم عن عاصم عن أبي وائل عن جرير.
وخالفهم إسرائيل، فرواه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله به، أخرجه البزار (1726) وقال: وهذا الحديث أحسب أن إسرائيل أخطأ فيه، إذ رواه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله؛ لأن أصحاب عاصم يروونه عن عاصم عن أبي وائل عن جرير. ا.هـ.
... وتابعه عكرمة بن إبراهيم، أخرجه أبو يعلى (5033) والطبراني في «الكبير» (10408)، وعكرمة بن إبراهيم ضعيف.
... وقال الدارقطني في «العلل» (5/103): يرويه عاصم بن بهدلة، واختلف عنه، فرواه عكرمة بن إبراهيم عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، ووهم فيه، والصواب عن عاصم عن أبي وائل عن جرير بن عبد الله.
... قيل له: يحيى بن آدم رواه عن إسرائيل بن عاصم عن شقيق عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... قال: كذلك قال يحيى بن آدم عن إسرائيل، رواه الحسين بن واقد عن الأعمش عن شقيق بن عبد الله موقوفاً.ا.هـ.
وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه البزار من تخطئة إسرائيل لأمرين:
1- ... أنه خالف الأكثر.
2- ... أنه سلك الجادة في حديث أبي وائل، فجعله عن ابن مسعود، والحفاظ يقدمون من خالف الجادة؛ لأن هذا يدل على حفظه.
وأذهب أيضاً إلى ما ذهب إليه الدارقطني من الحكم على رواية عكرمة بن إبراهيم بالخطأ؛ لما تقدم ولشدة ضعفه.
وأما رواية حسين بن واقد عن الأعمش ففيها نظر أيضا, وذلك لما تقدم.
وأيضاً قد رواه أبو حذيفة – تقدمت هذه الرواية وأخرجه الطبراني وأبو نعيم - عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي وائل عن جرير.
... ورواه الحجاج عن الحكم بن عتيبة عن أبي وائل عن جرير، أخرجها الطبراني, وحجاج هو ابن أرطأة وإن كان فيه ضعف ويدلس, ولكنها معتضدة بما تقدم.
هذا بالإضافة إلى رواية عاصم عن أبي وائل، فرواية هؤلاء تقدم على رواية حسين بن واقد، على أن فيه بعض الكلام، مع وقفه لهذا الحديث، وهذا مخالفة لكل من رواه.
... ويؤيد أن هذا الحديث من مسند جرير رواية سفيان الثوري عن الأعمش عن موسى بن عبد الله عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير كما تقدم، ولا شك أن رواية الثوري عن الأعمش تقدم على رواية حسين بن واقد.
... طريق آخر: أخرج الطبراني في «الكبير» (2284) من طريق الحسن بن عطية ثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن قيس عن جرير به، وهذا إسناد ضعيف، قيس لا يحتج به ، وأما الحسن بن عطية فهو القرشي ، قال أبو حاتم: صدوق.
والحديث بمجموع طريقيه حديث حسن ثابت، وقد صححه ابن حبان والحاكم، والله أعلم.(1/4)
... قلت: وفي هذا الحديث ذكر الصحابة كلهم: المهاجرين والأنصار والطلقاء والعتقاء ، وأنه صلى الله عليه وسلم أثبت لهم الولاية بعضهم مع البعض الآخر في الدنيا والآخرة.
... وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «والآخرة» تفيد صحة إسلامهم وإيمانهم، وذلك أنه لم يثبت لهم الولاية في الدنيا فقط بل وفي الآخرة، والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث عمل بما جاء في كتاب الله تعالى في قوله: { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم [74] والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم[75]} [الأنفال:74،75] .
... فتبين مما تقدم ثناء الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على الصحابة كلهم رضي الله عنهم، ولا شك أن الله تعالى بعلمه للغيب اختار أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم.
... أخرج أحمد (3600) والبزار (1816) والطبراني في «الكبير» (8582) وابن الأعرابي في «المعجم» (860) والحاكم (3/78) وقال: صحيح الإسناد، والقطيعي في «زوائد فضائل الصحابة» (541) والبيهقي في «المدخل» - كما في «نصب الراية» (4/133) - كلهم من طريق أبي بكر بن عياش ثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خيرقلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء(1).
* * *
__________
(1) هذا الأثر وقع فيه اختلاف، وقد ساق الدارقطني في «العلل» (5/66_ 67) الاختلاف، وطريق أبي بكر بن عياش من أحسنها، قال ابن القيم في «الفروسية» (ص:82) عن هذا الأثر: وإنما هو ثابت عن ابن مسعود قوله. ا.هـ.(1/5)
فصل في حد الصحبة
قد يقول قائل: بما أن الصحابة أثنى الله عليهم ورسوله فمن هو الصحابي؟
... فأقول وبالله التوفيق: قيل في حد الصحبة أقوال متعددة، ولكن الذي دلّ عليه الدليل منها هو: أن الصحابي كل من لقي الرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على ذلك، سواء أطال هذا اللقاء أم قصر، والدليل على هذا من كتاب الله تعالى وسنة رسولهصلى الله عليه وسلم واللغة العربية.
... أما من الكتاب: فقال تعالى: {والنجم إذا هوى [1] ما ضل صاحبكم وما غوى [2]} [النجم: 1 ، 2] .
يقسم ربنا في هذه الآية بالنجم إذا هوى أن صاحبكم ـ أي الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ما ضلّ، ووجه الشاهد أن الله تعالى سماه صاحباً لقومه، ومعلوم أن قومه منهم من صحبه المدة الطويلة، ومنهم من صحبة المدة القصيرة.
... وبمعنى هذه الآية قوله تعالى: {ما بصاحبكم من جنة} [سبأ: 46]، وقوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22]، وقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان: 15].
وهذا شامل لكل مصاحبة، سواء كانت قصيرة أو طويلة.
... وقال تعالى: {كما لعنا أصحاب السبت} [النساء: 47] فسماهم الله تعالى أصحاب السبت؛ لأنهم فعلوا هذا المنكر في يوم السبت.
وقال تعالى:{فأنجيناه وأصحاب السفينة} [العنكبوت: 15]، وهم لم يجلسوا مدة طويلة في السفينة، وإنما مدّة السفر، فسماهم أصحاب السفينة.
... وقال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه} [عبس: 34-36] ، وهذا شامل لكل زوج سواء طالت مدة الزواج أو قصرت، فتسمّى صاحبة.
وقال تعالى: {وأصحاب اليمين} [الواقعة: 27]، وقال تعالى: {وأصحاب الشمال} [الواقعة: 41]، فسماهم الله تعالى أصحاب اليمين؛ لأنهم يأخذون كتابهم بيمينهم، والعكس بالنسبة لأصحاب الشمال، ولم يقل أحد ـ فيما أعلم ـ أن هذا الكتاب يبقى معهم لمدة كذا وكذا.(1/6)
... وأما من السنّة: فما رواه مسلم في «صحيحه» (249) من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك؟! قال: « أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد .. ».
فهذا الحديث يدل على أن أصحابه كل من التقى به وكان مؤمناً، وأنّ من لم يأت بعد إنما هم إخوانه، وأما من جاء إليه وآمن به فهو صاحبه، سواء طال هذا اللقاء أم قصر.
... ومن الأدلة على أن الصحبة تثبت باللّقية مع الإيمان والموت على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة(12/178): ثنا زيد بن الحباب ثنا عبد الله بن العلاء بن عامر عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني».
... وأخرجه ابن أبي عاصم (1522) في «السنة» والطبراني في «الكبير» (22/85) كلاهما من طريق ابن أبي شيبة به.
وأخرجه ابن أبي عاصم (1523) والطبراني (22/86) من طرق عن الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن العلاء به نحوه.
... وأخرجه الطبراني في «الكبير»(22/85) وفي «مسند الشاميين» (799) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن العلاء عن أبيه به.
وهذا الحديث صحيح، وقد جاءت أحاديث أخرى بمعناه، منها:
ما رواه يعقوب بن سفيان في «التاريخ» (2/351): ثنا آدم ثنا بقية بن الوليد ثنا محمد بن عبد الرحمن اليحصبي سمعت عبد الله بن بسر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طوبى لمن رآني ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ، وطوبى له وحسن مآب».(1/7)
... وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (1527) عن يعقوب به، لكن وقع عنده: «محمد بن زياد» بدل: «محمد بن عبد الرحمن»، ولكن هذا لا يؤثر كثيراً، فمحمد بن زياد ثقة، ومحمد بن عبد الرحمن قال عنه دحيم: ما أعلمه إلا ثقة، وذكره ابن حبان في «الثقات«(1)وقال: لا يعتد بحديثه، ما كان من حديث بقية ويحيى بن سعيد العطار ودونه، بل يعتبر بحديثه من رواية الثقات عنه.
... قلت: جعل ابن حبان العلّة في بقية وليس في محمد بن عبد الرحمن؛ لأن ابن حبان لا يحتج ببقية، ولذلك لم يذكره في «الثقات» بل ذكره في «المجروحين»، والراجح أن بقية صدوق يحتج بحديثه إذا اجتمعت فيه خمس شروط:
1- إذا صُرِّح بينه وبين شيخه بالتحديث.
2- إذا صُرِّح بالتحديث بين شيخه وشيخ شيخه؛ لأنه أحياناً يدلّس تدليس التسوية، كما في «العلل» لابن أبي حاتم فقد نقل عن أبيه حديثاً سواه بقية.
3- إذا كان شيخه ثقة، قال أحمد: إذا حدث عن قوم ليسو بمعروفين فلا تقبلوه. وقال ابن سعد: كان ثقة في روايته عن الثقات، ضعيفاً في روايته عن غير الثقات.
4- أن يكون شيخه شامياً، قال ابن المديني: صالح فيما روى عن أهل الشام، وأما عن أهل الحجاز والعراق فضعيف جداً. وقال ابن عدي: إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت، وإذا روى عن غيرهم خلّط. وقال ابن رجب في «شرح العلل» (ص: 428) : وهو مع كثرة رواياته عن المجهولين الغرائب والمناكير فإنه إذا حدث عن الثقات المعروفين لم يدلّس؛ فإنما يكون حديثه جيداً عن أهل الشام، وأما رواياته عن أهل الحجاز وأهل العراق فكثيرة المخالفة لروايات الثقات، كذا ذكره ابن عدي وغيره.
ثم ذكر مثالاً على هذا في حديث رواه عن المسعودي وأخطأ فيه، وقال أبو زرعة: إذا نقل بقية حديث الكوفة إلى حمص يكون هكذا. اهـ . وهذا موجود في «سؤالات البرذعي لأبي زرعة » (2/449).
__________
(1) وقال ابن حجر في «التقريب»: صدوق.(1/8)
5- أن يكون الراوي عنه ثقة متيقِّظاً، ويستحسن أن لا يكون حمصياً، وذلك أن بقية قد يروي عن آخر ولا يصرح بالتحديث، فيرويه الراوي عنه على أن بقية صرح بالتحديث بينه وبين شيخه وبقية لم يفعل ذلك، وهذا إما أن يفعله الراوي عن بقية تعمّداً أو غفلة، قال أبو زرعة -بعد سؤال عن حديث رواه أبو تقي- قال: ثني بقية قال: حدثني عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تبدءوا بالكلام قبل السلام، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه». قال أبو زرعة: هذا حديث ليس له أصل، لم يسمع بقية هذا الحديث من عبد العزيز، إنما هو عن أهل حمص، وأهل حمص لا يميزون هذا. ا.هـ . من «العلل» (2/331 ـ 332) .
قلت: يعني أبو زرعة بقوله: «إنما هو عن أهل حمص» أن الراوي عن بقية هنا هشام بن عبد الملك أبو تقي، وهو حمصي.
ويعني بقوله: «أهل حمص لا يميزون هذا» أي: لا ينتبهون إلى صيغ التحمل، فيجعلون بدل العنعنة التحديث، كما حصل في هذا الحديث، فبقية لم يسمع هذا الحديث من عبد العزيز، فيبدوأنه رواه بالعنعنة أو نحو ذلك، ولم ينتبه لهذا الراوي عنه، فرواه عن بقية بالسماع من شيخه.
وقال أبو حاتم ابن حبان(1): وامتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه، فالتزق ذلك كله به ا.هـ .
__________
(1) وقال أيضاً في مقدمة «المجروحين» (1/94): الجنس السادس: أقوام من المتأخرين يسوقون الأخبار، فإذا كان بين الثقتين ضعيف واحتمل أن يكون الثقات رأى أحدهما الآخر، أسقطوا الضعيف بينهما حتى يتصل الخبر، فإذا سمع المستمع خبر أسام رواته ثقات اعتمد عليه، وتوهم أنه صحيح، كبقية بن الوليد قد رأى عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج، وسمع منهم، ثم سمع عن أقوام ضعفاء عنهم، فيروي الرواة عنه أخباره ويسقطون الضعفاء من بينهم، حتى يتصل الخبر، في جماعة مثل هؤلاء يكثر عددهم. اهـ.(1/9)
فوصل الأمر ببعض تلاميذه أنهم يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه، وقد يدخل في كلام ابن حبان ما قاله أبو زرعة فيما تقدم.
وما قاله أبو زرعة وابن حبان معروف عن أهل الشام، فهم قد يسووّن الأخبار ويسقطون الضعفاء أحياناً من أحاديث شيوخهم، كما كان الوليد بن مسلم يفعله في حديث الأوزاعي، ومثله بقية - كما تقدم -، وصفوان بن صالح، ومحمد بن المصفى(1)، وهؤلاء كلهم من أهل الشام .
وقد اشتهر هذا النوع من أنواع التدليس عن أهل الشام، وإن كان قد وصف به غيرهم، ومعروف عن أهل الشام التساهل حتى في إسناد الأخبار، قال الوليد بن مسلم: خرج الزهري فقال: يا أهل الشام، ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزمَّة ولا خطم؟! قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ(2).
... وهذه الشروط إذا توفرت في حديث بقية فهذا يكون من أقوى حديثه، وقد يُتساهل في بعضها.
وهذا الحديث قد اجتمعت فيه هذه الشروط ، فآدم الراوي عنه في هذا الحديث ثقة جليل معروف بالإتقان والضبط، وهو ليس بحمصي، وإنما نشأ في بغداد وسكن عسقلان.
... والخلاصة أن هذا الحديث بهذا الإسناد حسن، ويشهد له الحديث السابق، وهناك أحاديث أخرى بمعنى هذا الحديث خرّجها ابن أبي عاصم في «السنة» وغيره.
... وقد تقدم في الحديث السابق حديث جابر عن أبي سعيد وفيه: «فيقال لهم: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..» وإحدى الروايتين تفسر الأخرى.
... وأما كلام أهل اللغة:
__________
(1) قال أبو زرعة الدمشقي: كان صفوان بن صالح ومحمد بن المصفى يسويان الحديث. اهـ. من «لمجروحين» لابن حبان (1/94) .
(2) «السير» (334) والوليدلم يسمع من الزهري.(1/10)
فقال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» (3/335) في مادة (صحب) قال: الصاد والحاء والباء أصل واحد، يدلُّ على مقارنة شيء ومقاربته من ذلك الصاحب، والجمع الصحب، كما يقال: راكب وركب، ومن الباب: أصحب فلان إذا انقاد، وأصحب الرجل إذا بلغ ابنه، وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه .اهـ .
... وقال ابن سيده في «المحكم» (3/119) : وصاحبه عاشره ، والصاحب المعاشر .اهـ .
... وقال ابن منظور في «اللسان» (1/519) بمثل ما جاء في «المحكم».
وفيهما(1)أيضاً: وصحب المذبوح: سلخه ـ في بعض اللغات ـ اهـ.
وقال صاحب «القاموس» بمثل ما تقدم (1/91).
... وفي «المعجم الوسيط» (1/507): صاحبه رافقه، واستصحب الشيء لازمه، والصاحب: المرافق، ومالك الشيء، والقائم على الشيء، ويطلق على من اعتنق مذهباً أو رأياً، والصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام .ا.هـ .
... وفي «الإفصاح في فقه اللغة» (ص: 708) : الصحبة المعاشرة .اهـ.
... فهذا كلام أهل اللغة ليس فيه اشتراط(2)طول الملازمة في الصحبة، أو ذكر حد معين لها سوى الملازمة والمرافقة، وهذا يطلق على القليل والكثير، ولذلك بيَّن ابن فارس أصل الصحبة أنها تدل على المقارنة والمقاربة.
ولذلك قال ابن تيمية- كما في «مجموع الفتاوى» (4/464)- : والصحبة اسم جنس يقع على من صحب النبيصلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك، فمن صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمناً، فله من الصحبة بقدر ذلك.
__________
(1) أي: «اللسان» و«المحكم».
(2) سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر من خالف في ذلك والجواب عنه.(1/11)
... كما ثبت في «الصحيح» عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه قال : «يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب النبيصلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم».
... فقد علق النبيصلى الله عليه وسلم الحكم بصحبته، وعلقه برؤيته، وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به، وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابهصلى الله عليه وسلم .
... وقال الفيومي في «المصباح» (ص: 333) في مادة (صحبته): والأصل في هذا الإطلاق لمن حصل له رؤية ومجالسة، ووراء ذلك شروط للأصوليين . اهـ .
... قلت: بيَّن الفيومي أن الأصل في الصحبة هو لمن حصل له رؤية ومجالسة، وأن هذا معناه في اللغة، وأن الأصوليين شرطوا شروطاً أخرى ولم تكن موجودة في اللغة، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذه المسألة.
وهذا ما ذهب إليه الجمهور(1)، وهو المشهور عند أهل الحديث(2)، قال الإمام أحمد: كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه.اهـ(3).
... وقال البخاري في «صحيحه» (5/2) : ومن صحب النبيصلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.
__________
(1) «الإصابة» لابن حجر (1/11) و«إرشاد الفحول» للشوكاني (ص :70) و«مذكرة الأصول» للشنقيطي (ص: 124،125).
(2) وينظر: «الإصابة» لابن حجر (1/8) ، و«مقدمة ابن الصلاح» (ص: 146).
(3) رواه ابن أبي يعلى في «الطبقات» (1/243) بإسناده عن أحمد، والخطيب في «الكفاية» (ص: 51)، وجاء عن الإمام مالك أنه قال مثل ذلك، كما في «مجموع الفتاوى» (20/298) .(1/12)
وقال الواقدي: رأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أدرك الحلم وأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبيصلى الله عليه وسلم، ولو ساعة من نهار، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام. اهـ . من «الكفاية» (ص:50) .
... وأما من قال: إن مذهب الأصوليين هو: اشتراط طول الصحبة والملازمة(1)، حتى يطلق عليه اسم الصحبة، أو نحو هذا، فهذا الكلام باطل من أوجه :
1- تقدم أن الذي دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية هو خلاف هذا القول .
2- أننا لو أردنا قولاً بلا دليل ـ ونعوذ بالله من ذلك ـ لقلنا بقول أهل الحديث؛ لأنهم أعلم بهذه المسألة من غيرهم، وتقدم أنهم يذهبون إلى خلاف هذا القول.
3- أن الأصوليين لم يتفقوا على هذا القول، بل ذهب كثير منهم إلى خلافه، قال الآمدي في «الإحكام» (2/130) : اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبيصلى الله عليه وسلم وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه، ولا طالت مدة صحبته.
قلت: ثم ذكر القول الآخر، ثم قال: ويدلّ على ذلك ثلاثة أمور:
الأول: أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة، والصحبة تعم القليل والكثير، ومنه يقال: صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً، وأكثر من ذلك، كما يقال: فلان كلمني وحدثني وزارني، وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني: أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر، أو ليصحبنه، فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث: أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً، فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر من ذلك، ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور، ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام. اهـ .
__________
(1) وممن ذهب إلى هذا القول بعض المعتزلة، كأبي الحسين البصري وغيرهم من أهل البدع، وسيأتي إن شاء الله تعالى الرد عليهم.(1/13)
... وقال القاضي أبو يعلى في «العدة في أصول الفقه» (3/988) : الصحبة في اللغة من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً وصحبته ساعة، ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبة، وذلك يقع على القليل والكثير، كالضارب مشتق من الضرب، والمتكلم مشتق من الكلام، وذلك يقع على القليل والكثير، كذلك هاهنا. اهـ .
... وقال أبو محمد ابن حزم في كتاب «الإحكام» (5/89) : أما الصحابة رضي الله عنهم، فهو كل من جالس النبيصلى الله عليه وسلم ولو ساعة، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها، أو شاهد منه عليه السلام أمراً بعينه، ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهرحتى ماتوا على ذلك، ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه، فمن كان كما وصفنا أولاً فهو صاحب، وكلهم عدل وإمام فاضل رضي، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم، وأن نستغفر لهم ونحبهم، وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقه أحدنا بما يملك، وجلسة من الواحد منهم مع النبيصلى الله عليه وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله.
... وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيراً أو بالغاً، فقد كان النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل إذ مات النبيصلى الله عليه وسلم، وأما الحسين فكان حينئذ ابن ست سنين إذ مات النبيصلى الله عليه وسلم، وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين إذ مات النبيصلى الله عليه وسلم، وهو يعقل مجةً مجها النبيصلى الله عليه وسلم في وجهه من ماء بئر دارهم، وكلهم معدودون في خيار الصحابة، مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول، وسواء في ذلك الرجال والنساء والعبيد والأحرار...(1/14)
... ثم قال: وأما من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن لقيه، ثم راجع الإسلام وحسنت حاله، كالأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب وغيرهما، فصحبته له معدودة، وهو بلا شك من جملة الصحابة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أسلمت على ما سلف لك من خير»، وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة...
... ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك، ثم قال: وقد قال قوم: إنه لا يكون صاحباً من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، لكن من تكررت صحبته.
... قال أبو محمد: وهذا خطأ بيقين؛ لأنه قول بلا برهان، ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر، وعن مدة الزمان الذي اشترط، فإن حدَّ في ذلك حداً كان زائداً في التحكم بالباطل، وإن لم يحد في ذلك حداً كان قائلاً بما لا علم له به، وكفى بهذا ضلالاً.
وبرهان بطلانه قوله أيضاً: إن اسم الصحبة في اللغة إنما هو لمن ضمته مع آخر حالة ما، فإنه قد صحبه فيها، فلما كان من رأى النبيصلى الله عليه وسلم وهو غير منابذ له ولا جاحد لنبوته قد صحبه في ذلك الوقت، وجب أن يسمى صاحباً. اهـ .
... وقال محمد بن إبراهيم الوزير في «العواصم والقواصم» (1/389): الصحبة تطلق كثيراً في الشيئين إذا كان بينهما ملابسة، سواءً كانت كثيرة أو قليلة، حقيقية أو مجازية، وهذه المقدمة تُبين بما ترى من ذلك في كلام الله ورسوله، وما أجمع العلماء عليه من العبارات في هذا المعنى.
... أما القرآن، فقال الله تعالى: {قال لصاحبه وهو يحاوره} [الكهف:34] فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من ملابسة الخطاب للتقدم، وقد أجمعت الأُمة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي، فلا يُسمّى من لم يسلم صحابياً إجماعاً ، وقد ثبت بالقرآن أن الله سمّى الكافر صاحباً للمسلم، فيجب أن يكون اسم الصحابي عرفياً، وإذا كان عرفياً اصطلاحياً كان لكل طائفة أن تصطلح على اسم كما سيأتي تحقيقه.(1/15)
... قال تعالى: {والصاحب بالجنب} [النساء:36] وهو المرافق في السفر، ولا شك أنه يدخل في هذه الآية الملازم وغيره، ولو صحب الإنسان رجلاً ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفار لدخل في ذلك؛ لأنه يصدُق عليه أن يقول: صحبت فلاناً في سفري ساعة من النهار؛ ولأن من قال ذلك لم يردّ عليه أهل اللغة ويستهجنوا كلامه.
... وأما السنة فكثير غير قليل، ومن أوضحها ما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «إنكن صواحب يوسف»، فانظر أيها المنصف ما أبعد هذا السبب الذي سُمّيت به النساء صواحب يوسف، وكيف يستنكر مع هذا أن يسمى من آمن برسول الله ووصل إليه وتشرَّف برؤية غرّته الكريمة صاحباً له ؟! ومن أنكر على من سمّى هذا صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلينكر على رسول الله حيث سمّى النساء كُلهُنَّ صواحب يوسف.
... ومن ذلك الحديث الذي أُشير فيه على النبيصلى الله عليه وسلم أن يقتل عبد الله بن أُبيّ - رأس المنافقين - فقال عليه السلام : «إني أكره أن يُقال: إن محمداً يقتل أصحابه»، فسماه صاحباً - مع العلم بالنفاق- للملابسة الظاهرة، مع العلم بكفره الذي يقتضي العداوة، ويمحو اسم الصحبة في الحقيقة العرفية.
... ومما يدل على التوسع الكثير في اسم الصحبة إطلاقها بين العقلاء وبين الجمادات، كقوله تعالى: {يا صاحبي السجن} [يوسف: 39]، ومثل تسمية ابن مسعود: صاحب السواد ، وصاحب النعلين والوسادة.(1/16)
... وأما الإجماع فلا خلاف بين الناس أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لاقى المشركين في الحرب، فقُتِل من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، ومن المشركين جماعة، أن يُقال: قُتِل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا، وبذا جرى عمل المؤرخين والإخباريين يقولون في أيام صفين: قُتِل من أصحاب علي كذا، ومن أصحاب معاوية كذا، ولا يعنون بأصحاب علي من لازمه وأطال صحبته، بل من قاتل معه شهراً أو يوماً أو ساعة، وهذا شيء ظاهر لا يستحق من قال بمثله الإنكار(1).
... ومن ذلك أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة ... يقال هذا لمن لم ير الشافعي ولا يصحبه قليلاً ولا كثيراً؛ لملابسة ملازمة المذهب، ولو دخل في مذهب الشافعي في وقت لقيل له في ذلك الوقت: قد صار من أصحابه من غير إطالة ولا ملازمة للقول بمذهبه.
وكذا تسميته عليه السلام: «صاحب الشفاعة» قبل أن يشفع، هذه ملابسة بعيدة .
وكذا أصحاب الجنة قبل دخولها وأمثال ذلك ، وكذلك سائر هذه الأشياء مما أجمع على صحته ، كل هذا دليل على أن اسم الصحبة يطلق كثيراً مع أدنى ملابسة والأمر في هذا واسع. اهـ .
... نقلت هذه النصوص على طولها لأن فيها رداً واضحاً على من اشترط في الصحبة طول الملازمة.
... فتبين مما تقدم أن كثيراً من أهل الأصول يذهب إلى قول الجمهور في الصحابة، ولذلك قال العراقي في «التقييد والإيضاح» (ص: 256) - متعقباً قول أبي المظفر السمعاني أن طريقة الأصوليين يشترطون في الصحابي طول الصحبة وكثرة المجالسة - قال: إن ما حكاه عن الأصوليين هو قول بعض أئمتهم، والذي حكاه الآمدي عن أكثر أصحابنا أن الصحابي من رآه، وقال: إنه الأشبه، واختاره ابن الحاجب. اهـ . ثم ذكر بعض من يذهب إلى قول الأصوليين.
__________
(1) المقصود بذلك: علي بن محمد بن أبي القاسم الذي أنكر على أهل الحديث ذهابهم إلى هذا القول.(1/17)
... وينظر أيضاً: «الواضح في أصول الفقه» لابن عقيل( 5/59 ـ 64)، و«الروضة» لابن قدامة (ص: 119)، و«شرح مختصر الروضة» للطوفي( 2/185-187)، و«إرشاد الفحول» (ص: 70)، و«مذكرة الأصول» للشنقيطي (ص: 124، 125).
... وقال بعضهم: إن الممدوح من الصحابة هو من كان من أهل الجهاد والإنفاق دون غيره.
... فأقول: هذا قول مخترع، وقد قال الله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] .
فهذه الآية الكريمة فيها إبطال لهذا القول، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : « لاتسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه».
... ولذلك قال ابن عمر: لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره(1).
... وأما ما رواه(2)محمد بن سعد عن علي بن محمد عن شعبة عن موسى السنبلاني: أتيت أنس بن مالك فقلت: إنك آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قد بقي قوم من الأعراب، فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي.
... وقال ابن الصلاح في «علوم الحديث »(ص 146) : وروينا عن شعبة عن موسى السيلاني ـ وأثنى عليه خيراً ـ قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد غيرك ؟ قال: بقي ناس من الأعراب وقد رأوه، فأما من صحبه فلا. إسناده جيد، حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة. اهـ .
فالجواب عنه من وجوه:
__________
(1) أخرجه أحمد في «الفضائل» (15 ، 20) وابن ماجه (162) وابن أبي عاصم في «السنة» (1040) كلهم من طريق الثوري عن نسير بن ذعلوق قال: سمعت ابن عمر ، وإسناده صحيح.
(2) كما في «تهذيب الكمال» (1/295) .(1/18)
الوجه الأول: إسناد هذا الخبر ليس بالقوي تماماً، وذلك أن موسى السيلاني ـ وقيل السنبلاني ـ ليس بالمشهور تماماً، بل هو مقل، وترجم له ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» ( 8/169) ونقل عن يحيى بن معين أنه قال عنه: ثقة. وتقدم أن شعبة أثنى عليه .
وفي «تاريخ واسط» (ص: 64) من طريق شعبة عن موسى السيلاني قال: دخلت على أنس بن مالك منزله فرأيت في بيته مرافقاً صفواً.
وفيه أيضاً عن شعبة: موسى السيلاني من أهل الفاروث. اهـ .
وليس لموسى رواية عن أنس في الكتب الستة، ولا في العشرة، ولا في «المختارة» للضياء - وقد توسع في ذكر مرويات أنس -، ويظهر أنه ليس له خبر مسند عن أنس، وإنما له ما تقدم، ويؤيد هذا أن صاحب «تاريخ واسط» قال في مقدمة ترجمة أنس عندما ترجم له في كتابه (ص: 58) : الذي اتصل بنا ممن حدث عن أنس بن مالك من أهل واسط، أُخرِّج لكل رجل حديثاً ليعرف موضعه، وبالله التوفيق . اهـ .
... ثم ذكر من روى عن أنس من أهل واسط وذكر لهم أحاديث ـ في الغالب ـ ، وعندما ذكر موسى لم يذكر له شيئاً مسنداً عن أنس، وإنما ذكر له ما تقدم، وهذا يدل -والله أعلم- على أنه لم يقف له على خبر مسند رواه عن أنس.
... فمن كان بهذه الصفة ليس له رواية وإنما حكاية عن أنس، ولعل شعبة تفرّد بالرواية عنه، ولم يترجم له البخاري في «تاريخه»، ولا ابن حبان في «ثقاته»، لا يكون مشهوراً، خاصة أنه لم يذكر اسم أبيه، واختلف في نسبه، وأما توثيق يحيى بن معين فلعله لثناء شعبة عليه، وإلا فإنه ليس له من المرويات ما بيّن حاله.
... على أن الراوي عن شعبة وهو علي بن محمد - أحسبه المدائني، فإن ابن سعد مكثر عنه، وهو مذكور بالرواية عن شعبة_ فهو وإن كان صدوقاً وعالماً بالأخبار، وقال عنه ابن معين: ثقة، ثقة، ثقة ، فقد ذكره ابن عدي في «الكامل» (5/1855) وقال: ليس بالقوي في الحديث، وهو صاحب الأخبار.(1/19)
الوجه الثاني: ويؤيد ما تقدم أنه جاء عن أنس بإسناد صحيح ما قد يخالف ما رواه موسى السيلاني، روى البخاري في «صحيحه» (4489): ثنا علي بن عبد الله ثنا معتمر عن أبيه عن أنس قال: لم يبق ممن صلى القبلتين غيري. اهـ .
... قلت: هذا الخبر قد يخالف ما رواه السيلاني؛ لأنه يفيد أن هناك من الصحابة من كان موجوداً(1)عندما ذكر أنس ذلك، فكلام أنس يفيد إثبات الصحبة لهم، ولكن يبين أنه لم يبق أحد من الصحابة ممن صلى القبلتين سواه، فظاهر هذا يخالف ما رواه عنه موسى السيلاني، والله أعلم.
ولا شك أن سليمان التيمي وهو من الحفاظ المشاهير من أصحاب أنس مقدم على موسى السيلاني(2).
الوجه الثالث: يحمل كلام أنس هذا لو ثبت عنه على الصحبة الخاصة كما تقدم في قصة خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف، وقصة أبي بكر مع عمر.
الوجه الرابع: أنه قد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ما قد يخالف هذا.
وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: الصحابة لا تعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. رواه الخطيب في «الكفاية» (ص: 50) من طريق ابن سعد عن الواقدي أخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب عن أبيه عن سعيد به.
... قلت: هذا لا يصح عن سعيد، لا من جهة الإسناد، ولا من جهة المتن.
... أما الإسناد: ففيه محمد بن عمر الواقدي، والكلام فيه معروف.
وفيه أيضاً: محمد بن سعيد بن المسيب وفيه جهالة، ترجم له البخاري (1/92) وابن أبي حاتم (7/262) وسكتا عليه، وذكره ابن حبان في «الثقات» كعادته (7/421).
__________
(1) انظر: «الفتح» (8/173) .
(2) يمكن الجمع بين خبر سليمان التيمي وخبر السيلاني، لكن يذهب إلى هذا لو كان خبر السيلاني ثابتاً ثبوتاً واضحاً، والله أعلم.(1/20)
وأما طلحة بن محمد بن سعيد فهو مجهول لا يعرف ، قال أبو حاتم كما في «الجرح والتعديل» (4/476) : لا أعرف طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب إلا أن يكون أخاً لعمران، والذي عرفت عمران بن محمد بن سعيد روى عنه الأصمعي. اهـ . ولم يترجم له البخاري في «تاريخه» ولا ابن حبان في «ثقاته».
... وأما من حيث المتن: فيبعد جداً أن يقول سعيد بن المسيب مثل هذا الكلام؛ لأنه تحكّم لا دليل عليه، ولم يشترط أحد فيما أعلم مثل هذا الشرط، وهو أن لا يكون الواحد صحابياً حتى يقيم مع الرسول صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، أو يغزو غزوة أو غزوتين، فعلى هذا من كان من القاعدين ممن لا يستطيع الجهاد لا يكون صحابياً!
والنساء أيضاً هل يدخلن في هذا الحد أو لا يدخلن؟ إن كن لا يدخلن فالرجال كذلك؛ لأن الصحبة لا علاقة لها بالقتال، حتى يميّز بالرجال عن النساء، وإن كن يدخلن فكفى بهذا إبطالاً لهذا القول.
... فتبين بطلان هذا الخبر إسناداً ومتناً، وقد رد العراقي هذا الخبر، فقال في «التقييد والإيضاح» (ص: 257) : لا يصح عنه، فإن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي، وهو ضعيف في الحديث. اهـ .
... وأما ما قاله الراغب الأصفهاني في «المفردات» (ص: 275) في مادة (صحب)، قال: الصاحب: الملازم، إنساناً كان أو حيوناً أو مكاناً أو زماناً، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن - وهو الأصل والأكثر - أو بالعناية والهمة، ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع؛ لأجل أن المصاحبة والاصطحاب تقتضي طول لبثه، فكل اصطحاب اجتماع، وليس كل اجتماع اصطحاباً.(1/21)
... وإلى هذا ذهب أبو حامد الغزالي في كتابه «المستصفى» (1/165) فقال : فمن الصحابي: من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من لقيه مرة، أو من صحبه ساعة، أو من طالت صحبته، وما حد طولها؟ قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه، ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة، ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته. اهـ .
... فالجواب عن هذا: أن الراغب الأصفهاني والغزالي وغيرهما ممن يقول بذلك بيّنوا أن هذا القيد في الصحبة - وهو طول الملازمة - إنما أُخذ من العرف، والعرف لا يرجع إليه إلا بعد أن لا يوجد حد من الشرع أو اللغة ، فالحقائق ثلاث: الحقيقة الشرعية، ثم اللغوية، ثم العرفية، فلا يرجع إلى الحقيقة العرفية إلا بعد أن لا يكون هناك شرعية أو لغوية، وفي هذه المسألة - وهي الصحبة - بين الشرع واللغة حقيقتها، وحقيقتها كما تقدم تكون بمطلق الصحبة.
... ثم أيضاً لا يُسَلّم أن العرف يشترط في الصحبة طول الملازمة، وتقدم أن أكثر أهل العلم يذهبون إلى أن الصحبة تطلق على صحبة الشخص حتى ولو كانت لمدة قصيرة، والله أعلم.
* * *
شبهة وجوابها
بعد بيان فضل الصحابة وثناء الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم هناك شبهة يحتج بها الجهال وأهل الضلال، وهي: أن من الصحابة من جاء النص بذمِّهم، أو الشهادة لهم بالنار، وأن منهم من شارك في الفتن التي جرت في عهد علي رضي الله عنه، وبالتالي لا يشملهم المدح والثناء الذي جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
... قلت: الجواب عن هذا وبالله التوفيق من وجهين: إجمالاً وتفصيلاً:
... فأما إجمالاً: فالله تعالى أثنى عليهم، وهو يعلم تعالى ما سوف يقع منهم، ومع ذلك أثنى ربنا عليهم.
... وأما تفصيلاً: فهؤلاء الذين تقدم ذكرهم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: من جاءت النصوص بذمهم أو الشهادة لهم بالنار.
الثاني: من لابس الفتن التي وقعت في عصرهم.
... فأما القسم الأول: فالذين جاء النص بذمهم أو الشهادة لهم بالنار ستة وهم:(1/22)
1- الحكم بن أبي العاص الأموي.
2- الرجل الذي كذب على الرسولصلى الله عليه وسلم وزعم أن الرسولصلى الله عليه وسلم كساه حُلّة، وأنه أمره أن يحكم في حي من بني ليث في دمائهم وأموالهم.
3- الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
4- أبو الغادية الجهني.
5- كركرة غلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غلّ الشملة.
6- الرجل الذي تزوج زوجة أبيه.
* * *
1_ فأما الحكم بن أبي العاص فثبت أن الرسولصلى الله عليه وسلم لعنه ، فقد أخرج أحمد (2/163) قال: ثنا ابن نمير ثنا عثمان بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عمرو قال: كنا جلوساً عند النبيصلى الله عليه وسلم، وقد ذهب عمرو بن العاص يلبس ثيابه ليلحقني، فقال صلى الله عليه وسلم ونحن عنده: «ليدخلن عليكم رجل لعين»، فوالله ما زلت وجلاً أتشوّف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان ـ يعني: الحكم - .
... وأخرجه البزار - كما في «كشف الأستار» (1625)- : ثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ثنا ابن نمير به، وعنده: الحكم بن أبي العاص. وقال: لا نعلم هذا بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو بهذا الإسناد. اهـ .
... قلت: وهذا إسناد صحيح، وقال الهيثمي (1/112) : رجاله رجال الصحيح.
... وأخرجه ابن عبد البر في «الاستيعاب» (1/318) من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا عثمان بن حكيم ثنا شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو به.
... والأول أصح؛ لأن ابن نمير أتقن من عبد الواحد بن زياد، مع أن هذا الاختلاف لا يؤثر كثيراً على ثبوت الخبر؛ لأن شعيباً صدوق، وقد سمع من جده عبد الله بن عمرو.
... ويظهر أن هذا الحديث جاء من طريق آخر، فقد ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/243) بنحوه، ثم قال: رواه كله الطبراني(1)، وحديثه مستقيم، وفيه ضعف غير مبين، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ .
__________
(1) سقط اسم الرجل الذي تحدث عنه الهيثمي، والجزء الموجود من مسند عبد الله بن عمرو غير موجود فيه هذا الحديث.(1/23)
وذكره أيضاً في الموضع الأول (1/112)، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه رجلاً لم يسم.
وذكره بلفظ آخر بنحو الأول، وقال: رجاله رجال الصحيح.
... وأخرجه أحمد (4/5) قال: ثنا عبد الرزاق ثنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير - وهو مستند إلى الكعبة -، وهو يقول: ورب هذه الكعبة، لقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاناً وما ولد من صلبه.
... وأخرجه البزار (2197) - وهو في «كشف الأستار» (1623) -: ثنا أحمد بن منصور ثنا عبد الرزاق به: لعن الحكم وما ولد له.
قال البزار: لا نعلمه عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد، ورواه محمد بن فضيل أيضاً عن إسماعيل عن الشعبي عن ابن الزبير ثنا به علي بن المنذر.
... وأخرجه الطبراني في «الكبير» (13/121) من طريق محمد بن فضيل وأحمد بن بشير وأبي مالك الجنبي كلهم عن إسماعيل به.
... وأخرجه أيضاً (13/221) : ثنا أحمد بن رشدين المصري ثنا يحيى بن سليمان الجعفي ثنا ابن فضيل عن ابن شبرمة عن الشعبي به .
وأخرجه أيضاً (13/118): ثنا الحسن بن العباس الرازي ثنا محمد بن حميد ثنا هارون بن المغيرة عن عمرو بن أبي قيس عن يزيد بن أبي زياد عن البهي عن ابن الزبير به بنحوه.
... وقال الحاكم (4/481): ثنا ابن نصير الخلدي ثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين ثنا إبراهيم بن منصور ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن سوقة عن الشعبي به.
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه . اهـ .
... قال الذهبي: الرشديني ضعفه ابن عدي.
... قلت: أحمد بن رشدين مختلف فيه ، والإسناد الأول صحيح وصححه الذهبي في «تاريخ الإسلام- عهد الخلفاء الراشدين» (ص: 368) .(1/24)
... وجاء هذا الحديث من طرق أخرى لكنها لا تخلو من كلام (1) ، فمثله مع ثبوت اللعن من الرسول صلى الله عليه وسلم له يُشك في إسلامه، فضلاً عن صحبته.
قال ابن الأثير في «أسد الغابة» (2/34) : وقد روي في لعنه ونفيه(2)أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبيصلى الله عليه وسلم مع حلمه وإغضائه على ما يكرهه ما فعل ذلك الأمر إلا لأمر عظيم . اهـ .
... قلت: ويؤيد ما قاله ابن الأثير أن الرسولصلى الله عليه وسلم لم يلعن أحداً من المنافقين بعينه ـ فيما أعلم ـ، ولم ينف أحداً بعينه خارج المدينة إلا المخنثين عندما أمر بإخراجهم خارج المدينة، والله أعلم.
ولذلك قال أبو محمد بن حزم في «الإحكام» (6/83) : وكان بها(3)أيضاً من لا يرضى حاله كهيت المخنّث الذي أمر عليه السلام بنفيه، والحكم الطريد، وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة.ا.هـ.
... وقد ذكر الهيثمي حديث لعنه تحت: باب منه في المنافقين كما في «مجمع الزوائد» (1/109)، ولم يذكره البخاري في «التاريخ الكبير» مع الصحابة فيمن اسمه الحكم، بل لم يذكره مطلقاً تحت هذا الاسم، وعندما ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/120) لم ينص على أن له صحبة كما يفعل ذلك كثيراً فيمن كانت له صحبة، وإنما نقل عن أبيه: أنه أسلم يوم الفتح، وقدم على النبيصلى الله عليه وسلم فطرده من المدينة، فنزل الطائف حتى قبض في خلافة عثمان. اهـ .
__________
(1) ينظر: «مسند البزار» - «كشف الأستار» (1624) -، و«المستدرك» (1/481)، و«مجمع الزوائد» (1/112) و (5/242 ـ 243)، و«تاريخ الإسلام» في وفيات سنة 31هـ (ص: 366 ـ 368) .
(2) أي خارج المدينة، ولم يثبت أن عثمان رضي الله عنه استأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إعادته إلى المدينة فأذن له.
(3) يعني المدينة.(1/25)
... ونص آخرون على صحبته، وهذا فيه نظر كما تقدم، ومن يستدل بهذا على أن الصحابة ليسوا كلهم عدول لا شك أنه مخطئ في هذا الخطأ البيّن.
* * *
2_ وأما الرجل الذي كذب على النبيصلى الله عليه وسلم وزعم أنه كساه حلّة، فالجواب عنه: أن خبره لا يصح، وعلى فرض صحته فيقال: إن هذا الرجل الذي فعل ذلك لم يثبت إسلامه فضلاً عن صحبته.
... قال أبو العباس ابن تيمية في «الصارم المسلول» (ص: 171) : وللناس في هذا الحديث قولان:
... أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك، قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني... ووجه هذا القول أن الكذب عليه كذب على الله، ولهذا قال: «إن كذباً علّي ليس ككذب على أحدكم»... ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه، كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين، فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله، ويبيِّن ذلك أن الكذب بمنزلة التكذيب له، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لمّا جاءه} [العنكبوت: 68] .
... بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذِّب له، ولهذا بدأ الله به... فالكاذب على الرسول كالمكذب له...
وأيضاً فإن تعمّد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السَّفه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذه نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح.
... وأيضاً فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان ... عالماً بكذب نفسه كفر بالاتفاق، فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب شيئاً لم يوجبه، أو حرّم شيئاً لم يحرمه، فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول، وزاد عليه بأن صرح بأن الرسول قال ذلك...(1/26)
... فإذ كذب الرجل عليه متعمداً، أو أخبر عنه بما لم يكن، فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه، إذ لو كان كمالاً لوجد منه، ومن انتقص الرسول فقد كفر.
... واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرّق بين الذي يكذب عليه مشافهة، وبين الذي يكذب عليه بواسطة، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فهذا إنما كذب على ذلك الرجل، ونسب إليه ذلك الحديث.
... فأما إن قال: هذا الحديث صحيح أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالماً بأنه كذب، فهذا قد كذب عليه ... وعجّل عقوبته ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول من ليس منهم من المنافقين ونحوهم.
... وأما من روى حديثاً يعلم أنه كذب فهذا حرام، كما صح عنه أنه قال: «من روى عني حديثاً يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين»، لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر...
... القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلّظ عقوبته، لكن لا يكفر ولا يجوز قتله؛ لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلابد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيب ظاهر، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة - مثل: حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات - فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً، ولا ريب أنه كافر حلال الدم.
... وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث: بأن النبيصلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك لا للكذب، وهذا الجواب ليس بشيء...
... قلت: ثم بيَّن ضعفه، ثم قال: لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا، وهو أن هذا الرجل كذب على النبيصلى الله عليه وسلم كذباً يتضمن انتقاصه وعيبه؛ لأنه زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكّمه في دمائهم وأموالهم، وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ، ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها، ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكّماً في الدماء والأموال.(1/27)
... ومعلوم أن النبيصلى الله عليه وسلم لا يحلل الحرام، ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه، ونسب النبيصلى الله عليه وسلم إلى أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خالياً بها، وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين، وهذا طعن على النبي صلى الله عليه وسلم وعيب له.
... وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة، وهو المقصود في هذا المكان، فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين.
... ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه، ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لما تعارض وجوب طاعة الرسول، وعظم ما أتاهم به هذا اللعين.
... ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم، ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء، وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه، وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به، والأغراض في الغالب إما مال أو شرف، كما أن المسيء إنما يقصد ـ إذا لم يقصد مجرد الإضلال ـ إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم، أو تحصيل الشهوات الظاهرة، وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله. اهـ .
... وقال المعلمي في «الأنوار الكاشفة» (ص: 273) : وراويه عن ابن بريدة صالح بن حيان وهو ضعيف، له أحاديث منكرة، وفي السند غيره، وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى، وفي كل منهما ضعف، راجع: «مجمع الزوائد» (1/145).(1/28)
وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردوه، فلما أسلم أهلها سوّلت له نفسه أن يظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة، لعله يتمكن من الخلوة بها، ثم يفر، إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أنه ليس بينه وبين النبيصلى الله عليه وسلم سوى ميلين، فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأوا أن ينزلوا الرجل محترسين منه، ويرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه... ، وحدوث مثل هذا لا يصلح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبيصلى الله عليه وسلم غير متهم بالنفاق، ثم استمر على الإسلام بعد وفاة النبيصلى الله عليه وسلم . اهـ .
... فتبيّن أن إسلامه لم يثبت فضلاً عن صحبته، والله أعلم.
* * *
3- وأما الوليد بن عقبة وأنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] ، فهذا لم يثبت بإسناد صحيح بيّن وإن كان ذهب إلى هذا جمع من المفسرين، وخالفهم في ذلك بعض أهل العلم، وقد جاء ما يعارض هذا.
... أخرج أبو داود في «السنن» (4181): ثنا أيوب بن محمد الرقي ثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رؤوسهم، قال: فجيء بي إليه وأنا مخُلَّق، فلم يمسني من أجل الخلوق .(1/29)
... وأخرجه أحمد (4/32): ثنا فياض بن محمد الرقي عن جعفر به، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/100) من طريق أحمد(1)به، وقال قبله: وأما الوليد بن عقبة فإنه ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل إليه فحرم بركتهصلى الله عليه وسلم، ثنا بصحة ما ذكرته .. ثم ذكر الحديث السابق.
... وأخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (564): ثنا علي بن ميمون العطار ثنا خالد بن حيان عن جعفر ، والطبراني في «الكبير» (22/151): ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي به، وثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا علي بن معبد الرقي ثنا خالد بن حيان به، وثنا مقدام بن داود ثنا أسد بن موسى ثنا زيد بن أبي الزرقاء عن جعفر عن ثابت عن عبد الله الهمداني(2)أبي موسى عن الوليد بن عقبة، وأبو نعيم في «المعرفة» (6511): ثنا محمد بن محمد ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أحمد بن حنبل ثنا فياض بن محمد الرقي، وثنا محمد بن محمد ثنا الحضرمي ثنا عبيد بن يعيش ثنا يونس بن بكير قالا: ثنا جعفر(3)به.
... وأخرجه البخاري في «التاريخ الأوسط» (1/116): ثنى محمد بن عبد الله العمري ثنا زيد بن أبي الزرقاء ثنا جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عن الوليد به.
ثنى عبيد بن يعيش ثنا يونس عن حفص عن ثابت به.
ثنا الوليد بن صالح عن فياض الرقي عن جعفر ثنا ثابت به. اهـ .
__________
(1) ووقع عنده: (فياض بن زهير) وهو خطأ، والصواب: (فياض بن محمد), وأخرجه من طريق أحمد: الطحاوي في «مشكل الآثار» (239) والبيهقي في «السنن» (9/55) وفي «الدلائل» (6/397) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (17/870)، ومن طريق غيره (ص: 871 ، 872).
(2) كذا، وهو خطأ كما نبه على ذلك الطبراني.
(3) ووقع في الأصل: (عن عبد الله أبي موسى الهمداني عن الوليد به) فجعله المحقق: (عبد الله (بن) أبي موسى) فأخطأ.(1/30)
... كذا وقع في طبعتين(1): (عن حفص)، ولعل الصواب: (جعفر) كما تقدم عن أبي نعيم في «المعرفة».
وأخرجه البيهقي في «السنن» (6/55) من طريق يونس بن بكير به.
... وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (2/319): ثنا علي بن الحسن الحراني ثنا عمر بن أيوب عن جعفر عن ليث(2)بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن أبي موسى عن الوليد به.
ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي به.
... وقال: فلم يذكر له موسى في هذه الرواية أصلح. اهـ .
... كذا، والمطبوعة فيها أخطاء كثيرة، والمقصود من هذا الكلام مفهوم، وهو عدم ذكر موسى في الإسناد أصح، كما تقدم في الأسانيد السابقة، وقد نبه على هذا الطبراني(3)كما تقدم.
وفي «تهذيب الكمال»: عبد الله أبو موسى الهمداني، روى عن الوليد بن عقبة، وقيل: عن أبي موسى الأشعري عن الوليد بن عقبة وهو وهم .اهـ .
... فإن كان المقصود بأبي موسى الأشعري هو الهمداني فهذا ممكن، وأشعر وهمدان يلتقون في زيد بن كهلان، وإن كان المقصود بأبي موسى الأشعري هو الصحابي فهذا خطأ، ولعله تصحيف أو سبق قلم، وتقدم ذكر الاختلاف، ولم أقف على وقوع الأشعري في أسانيد هذا الخبر.
__________
(1) الثانية: الهندية (ص: 50) ، والأولى التي نقلت منها ط. دار المعرفة.
(2) وقع تصحيف في الإسناد والصواب: ثابت.
(3) ولذلك قال أبو حاتم الرازي - كما في «الجرح والتعديل» (9/8) - عن الوليد بن عقبة: روى عنه أبو موسى الهمداني المسمّى عبد الله . اهـ . وقال ابن أبي خيثمة - كما في «تاريخ ابن عساكر» - (17/872): أبو موسى الهمداني اسمه: عبد الله. وقال ابن عساكر (17/871): وعندي أن عبد الله الهمداني هو أبو موسى، فأبو موسى هو عبد الله الهمداني، وليس رجلين.(1/31)
... وإسناد هذا الخبر رجاله ثقات خلا الهمداني، فجعفر بن برقان ثقة خرّج له مسلم والأربعة والبخاري في «الأدب المفرد»، وإنما تكلم في حديثه عن الزهري، وهذا ليس منها، وثابت بن حجاج وثقه ابن سعد وأبو داود، وروى عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وعوف بن مالك من الصحابة، وروى عن بعض التابعين، ومنهم عبد الله بن سيدان وهو من كبار التابعين.
... وأما عبد الله بن الهمداني أبو موسى فذكره البخاري (5/224) وقال: لا يصح حديثه. وذكره في «الضعفاء الصغير» (199) ، وقال أيضاً: لم يصح حديثه. وقال في «التاريخ الأوسط» ـ المطبوع باسم الصغير ـ (1/116) بعد أن ذكر حديثه: وقال بعضهم: أبو موسى الهمداني وليس يعرف، أبو موسى ولا عبد الله(1)، وقد خولف: ثني محمد بن الحكم ثنا ابن سابق ثنا عيسى بن دينار ثني أبي سمع الحارث بن ضرار قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بَعثُه الوليد، فنزلت: {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات:6] . اهـ .
... وذكره العقيلي في «الضعفاء» (2/319) وذكر قول البخاري، ثم ذكر حديث الباب، ثم قال: وفي هذا الباب رواية من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. اهـ . وذكره ابن عدي في «الكامل» (4/1550) ، وذكر قول البخاري فيه ثم قال: وعبد الله الهمداني لم ينسب ولا أعرفه إلا هكذا . اهـ .
__________
(1) ... وفي «اللسان» (7/112) قال: قال البخاري في «التاريخ الأوسط»: اسمه عبد الله، لا يعرف، ولا يتابع عليه. ا.هـ.(1/32)
... وقال أبو عمر ابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/631): وقالوا: وأبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صبياً ، يدل أيضاً على فساد ما رواه أبو موسى المجهول أن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة بني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة .. ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: (إن جاءكم) نزلت في الوليد... ا.هـ
قلت: ثم ذكر بعض ما جاء في ذلك من الآثار.
وقال في كتابه «الكنى» (2/1250) : أبو موسى الهمداني روى عنه عبد الله الهمداني، وعبد الله وأبو موسى الهمداني ليسا بمعروفين، ومنهم من يقول الهمداني في أبي موسى . اهـ .
... وقال أبو القاسم ابن عساكر في «تاريخه» (17/872) : هذا حديث مضطرب الإسناد، لا يستقيم عند أصحاب التواريخ أن الوليد كان يوم فتح مكة صغيراً، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ساعياً.
... قلت: عبد الله الهمداني أبو موسى من التابعين، إما من كبارهم - وهو الأقرب؛ لأن الراوي عنه من الطبقة الوسطى من التابعين - أو من الوسطى، وأما ما جاء من الاضطراب في اسمه، أو ما وقع في بعض الأسانيد: عن عبد الله الهمداني عن أبي موسى، فهذا خطأ، وتقدم كلام العقيلي والطبراني في ذلك، وهذا هو الصحيح كما وقع في أكثر الأسانيد.(1/33)
... وعبد الله الهمداني ترجم له ابن أبي حاتم في «الجرح» (5/208)، ونقل عن أبيه أنه قال عنه: لا بأس به. اهـ . وترجم له في قسم الكنى من «كتابه» (9/438)، وسكت عنه: وتقدم أن أبا داود أخرج حديثه وسكت عنه، وقد قال: وما سكت عنه فهو صالح ، وصحح له الحاكم هذا الحديث كما تقدم، وأما ذكر العقيلي(1)وابن عدي له فالذي يبدو أنهما تابعا البخاري في ذلك؛ لأنهما لم ينقلا سوى قول البخاري كما تقدم.
... وأما البخاري فيظهر من كلامه أنه أعلّ هذا الخبر بعلتين هما: جهالة عبد الله الهمداني، وأن هذا الخبر جاء ما يخالفه، وهو ما ذكره كما تقدم.
... والخبر الذي ذكر فيه دينار والد عيسى فيه جهالة، ولم يوثقه إلا ابن حبان كما في ترجمته، وقال ابن المديني: عيسى معروف، ولا نعرف أباه . اهـ .
وتفرد بالرواية عنه ابنه ، وفي هذا الخبر أنه سمع الحارث بن ضرار، وهذا عندي فيه شيء من النظر وذلك أن ديناراً كأنه يصغر عن هذا، وهو مولى عمرو بن الحارث ولد الحارث وليس الحارث ، والحارث قديم، ولعله مات في عهد الرسولصلى الله عليه وسلم، أو في صدر عهد الخلفاء الراشدين؛ لأنه لم يذكر له خبر سوى هذه القصة ـ فيما أعلم ـ، فلعله مات قديماً، فيبعد أن ديناراً سمع منه، وإلا يكون دينار من كبار التابعين، وهذا بعيد.
__________
(1) وأما ما قاله العقيلي بعد أن ذكر الخبر السابق، قال: وفي الباب رواية من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. اهـ. فلا أدري ما ذا يقصد بالضبط؟ هل يقصد ما ذكر البخاري أن هناك ما يخالف هذا الخبر كما تقدم، أو يقصد أن هناك رواية تؤيد ما جاء في رواية عبدالله الهمداني. فالله أعلم.(1/34)
ومما يدل على صِغَر دينار أن أبا داود (2322) روى من طريق عيسى بن دينار عن أبيه عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار عن ابن مسعود .. فلعل هذا يدلّ على تأخره؛ لأنه روى عن ابن مسعود بواسطة، فلو كان من كبار التابعين لروى عنه مباشرة، مع أن ابن مسعود تأخر قليلاً، فقد توفي في خلافة عثمان، وإن كان هذا لا يلزم ولكن يُستأنس به هنا.
... وأيضاً أن عيسى ابنه متأخر، فقد روى عنه وكيع وابن المبارك وأبو نعيم؛ لأن وكيعاً وابن المبارك توفيا قرب المائتين، وأما أبو نعيم فتوفي سنة 217هـ .
... ومما يؤيد هذا أن الخبر الذي رواه عن الحارث فيه مواضع كأن ديناراً لم يسمع منه، وذلك أن فيه: فلما جمع الحارث الزكاة .. فظن الحارث .. فالله أعلم.
... ثم أيضاً هذا الحديث رواه أحمد وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2353) وابن أبي حاتم - كما في «تفسير ابن كثير» (7/371) - والطبراني في «الكبير» (3395) ومطين(1)- كما في الإصابة (1/281) - وأبو نعيم في «المعرفة» (2081)، كلهم من طريق محمد بن سابق ثنا عيسى به.
ولعل محمد بن سابق تفرد به، وهو إن كان خرّج له الشيخان ولكن فيه بعض الكلام، قال يعقوب بن شيبة: كان شيخاً صدوقاً وليس ممن يوصف بالضبط للحديث، وضعفه ابن معين وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وذكر في ترجمته حديثاً أخطأ فيه، وقد تفرد به، وقال ابن المديني عن هذا الحديث: منكر.
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله الحضرمي، وقد روى الطبراني وأبو نعيم في «المعرفة» هذا الخبر من طريقه، وعزاه الحافظ ابن حجر أيضاً إلى ابن السكن وابن مردويه، ويبدو أنه من طريق ابن سابق، والله أعلم.(1/35)
... فإن كان ابن سابق تفرد به فهذا الخبر فيه نظر، وتكون هذه علة أخرى، ولذلك قال ابن منده - كما في «تاريخ ابن عساكر» (17/873) - : هذا حديث غريب، لم نكتبه إلا من هذا الوجه، وقد روي من وجوه أخر . اهـ . والوجوه الأخر يقصد بها الشواهد التي جاءت بمعنى هذا الحديث، ولا يصح منها شيء.
... ولعل خبر عبد الله الهمداني عن الوليد(1)أقوى من هذا الخبر وحده، وإن كان جاء ما يشهد لهذا الخبر، ولكن كلها لا تصح، وهذا الخبر من أحسنها، كما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (7/370) .
... وأما ما قال أبو عمر ابن عبد البر من كون هذا الحديث مضطرب، فهذا فيه نظر كما تقدم، وأنه ليس بمضطرب ، وأما جهالة أبو موسى الهمداني فتقدم الكلام عليها.
... وأما قوله: إن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم ، فهذا من كلام أهل السير، وليس له إسناد فيما أعلم.
... وأما قوله: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن آية {إِن جَاءكُم فَاسِقٌ} نزلت فيه، فالجواب عن ذلك: أن أهل العلم مختلفون في ذلك، وإن كان أكثرهم ذهب إلى ذلك، ولكن خالفهم غيرهم، ومنهم: أبو عبد الله الحاكم -كما تقدم نقل كلامه-، وأبو بكر الخطيب، فقال - كما في «تاريخ ابن عساكر» (17/870) ترجمة الوليد - : أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وهو طفل صغير، وكان أبوه من شياطين قريش. وقال أبو نصر بن ماكولا نحو ذلك . اهـ .(2)
... فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والله تعالى أعلم.
__________
(1) الوليد بن عقبة ليس له إلا هذا الخبر، وخبر آخر رواه الطبراني في «الكبير»، وفي إسناده من هو متهم.
(2) وينظر: «العواصم من القواصم» لابن العربي (ص: 290) الطبعة الكاملة.(1/36)
... وقد أخرج عبد بن حميد في «تفسيره» - كما في «الدر المنثور» (7/557) - عن الحسن أن رجلاً أتى النبيصلى الله عليه وسلم، فقال: إن بني فلان ـ حياً من أحياء العرب، وكان في نفسه عليهم شيء ـ قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله، فلم يعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا خالد بن الوليد .. وذكر قصة طويلة.
وهذا الخبر لا يصح أيضاً، والشاهد منه أن في الخبر لم يذكر من الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم .
* * *
4- وأما أبو الغادية الجهني، فثبت أنه قتل عمار بن ياسر رضي الله عنهما ، فقد أخرج عبد الله بن أحمد (4/76) من طريق ابن عون عن كلثوم بن جبر قال: كنا بواسط عند عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، فإذا عنده رجل يقال له: أبو الغادية، فذكر قصة قتله لعمار.
... وأخرجه البخاري في «الأوسط» (1/189) من طريق ابن عون به ، وأخرج ابن سعد في «الطبقات» (3/260) قال: أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي الغادية بالقصة .
وأخرج الطبراني في «الكبير» (22/363): ثنا علي بن عبد العزيز وأبو مسلم الكشي قال: ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا ربيعة بن كلثوم ثنا أبي قال: كنت بواسط... فذكر قصة قتله لعمار(1).
... وأخرجه أيضاً (22/364): ثنا أحمد بن داود المكي ثنا يحيى بن عمر الليثي ثنا عبد الله بن كلثوم بن جبر قال: سمعت أبي، فذكر القصة بنحو ما تقدم.
... أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1120): ثنا إبراهيم بن الحجاج السامي ثنا مزيد(2)بن عامر الهنائي نا كلثوم بن جبر قال: كنت بواسط ... فذكر ما تقدم.
... وأخرجه البخاري في «الأوسط» (1/188): ثنا حرمي بن حفص ثنا مرثد بن عامر به، و(1/271): ثنا قتيبة ثنا مرثد به.
__________
(1) وأخرجه الدولابي (1/47): حدثنا هلال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ربيعة به، وليس فيه قصة القتل.
(2) كذا، والصواب: مرثد.(1/37)
... قلت: هذه القصة تدور على كلثوم بن جبر، وقد وثقه الجمهور، وقال النسائي عنه: ليس بالقوي، والإسناد إلى كلثوم صحيح، وقد جاء من طرق عنه كما تقدم.
وتابعه عند ابن سعد أبو حفص، ولا أدري من هو؟ وهناك جمع ممن يكنّى بهذه الكنية، ولكن لم أقف على أحد منهم، وذُكر أنه يروي عن أبي الغادية، وعنه حماد بن سلمة(1).
... وأما الشهادة له بالنار: فقد أخرج أحمد (4/198): ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي الغادية قال: قتل عمار فأُخبر عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قاتله وسالبه في النار». فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله، قال: إنما قال: قاتله وسالبه.
... أخرج هذا ابن سعد في «الطبقات» بنفس الإسناد كما تقدم، وهذا صحيح إلى أبي الغادية كما تقدم، لكن قوله: فأخبر عمرو بن العاص ... هل يرويه أبو الغادية عن عمرو أو هو من رواية كلثوم بن جبر عن عمرو بن العاص؟ فإن كان الأول فهو صحيح كما تقدم، وإن كان الثاني، وهو الأقرب؛ لأن فيه: فأُخبر عمرو، وفيه أيضاً: قيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله، كأن هذا يفيد أن أبا الغادية لا يرويه عن عمرو، ولذلك قال الذهبي في «السير» (2/544): إسناده فيه انقطاع.
__________
(1) أخرج ابن سعد في «الطبقات» (3/259): أنا محمد بن عمر أنا عبد الله بن جعفر عن ابن عون قال: قتل عمار ... أقبل إليه ثلاثة: عقبة بن عامر الجهني وعمر بن الحارث الخولاني وشريك بن سلمة المرادي .. فحملوا عليه جميعاً فقتلوه، وزعم بعض الناس أن عقبة هو الذي قتله، ويقال: الذي قتله عمرو بن الحارث ا.هـ، وهذا غير صحيح، وهو منقطع، عبد الله بن عوف من كبار أتباع التابعين، ومحمد بن عمر هو الواقدي.(1/38)
... ولعله يقصد بالانقطاع هو ما تقدم؛ لأن كلثوم بن جبر لا يعرف له سماع من عمرو، وإنما يروي عن صغار الصحابة، ومن تأخرت وفاته منهم، بل يروي عن التابعين، وأبو الغادية يظهر أنه ممن تأخرت وفاته؛ لأن البخاري في «تاريخه» ذكر أبا الغادية فيمن مات ما بين السبعين إلى الثمانين، وذكره أيضاً فيمن مات ما بين التسعين إلى المائة، ولذلك قال أبو الفضل ابن حجر في «تعجيل المنفعة» (2/520) : وعُمِّر عمراً طويلاً . اهـ . وكلثوم صرح بسماعه من أبي الغادية كما تقدم.
... طريق آخر: قال ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (803): ثنا العباس بن الوليد النرسي ثنا معتمر بن سليمان سمعت ليثاً يحدث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أتى عمرو بن العاص رجلان يختصمان في أمر عمار وسلبه، فقال: خلياه واتركاه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهم أولعت قريش بعمار، قاتل عمار وسالبه في النار».
... وأخرجه الطبراني في «الكبير» من طريق ليث كما في «مجمع الزوائد» (9/297) فقد قال الهيثمي: وقد صرح ليث بالتحديث، ورجاله رجال الصحيح. اهـ .
... وليث هو ابن أبي سليم، وهو ضعيف، وقد اختلط، وضعفه أكثر أهل العلم، ولكن يكتب حديثه.
... أما من جهة المتن فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
... وقد أخرج هذا الحديث الحاكم في «المستدرك» (3/387) عن محمد بن يعقوب الحافظ ثنا يحيى بن محمد بن يحيى ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن مجاهد به.
... قال الحاكم: تفرد به عبد الرحمن بن المبارك، وهو ثقة مأمون، عن معتمر عن أبيه، فإن كان محفوظاً فإنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وإنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد . اهـ .
... قلت: الصواب هو أنه من رواية ليث عن مجاهد، وأما رواية عبد الرحمن بن المبارك فهي خطأ من جهتين:(1/39)
1_ أن الأكثر رووه عن معتمر عن ليث كما قال الحاكم(1).
2_ أن عبد الرحمن سلك الجادة في حديث معتمر، فرواه عن أبيه لأن كثيراً ما يروي معتمر عن أبيه، ومن المعلوم عند الحفاظ أن من خالف الجادة يقدم على من سلكها؛ لأن هذا يدل على حفظه.
وأما من حيث المتن: فقد جاءت هذه القصة من طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو من روايته هو، ومن رواية أبيه وليس فيها: قاتل عمار وسالبه في النار.
فقد أخرج أحمد (2/164، 206): ثنا يزيد أنا العوام ثني أسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد العنبري(2)قال: بينما أنا عند معاوية، إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار، يقول كل منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتله الفئة الباغية ..».
وأخرجه ابن سعد (3/253) والبخاري في «التاريخ» (3/39) والنسائي في «الخصائص» (164) كلهم من طريق يزيد به.
وقال الذهبي في «المعجم المختص بالمحدثين من شيوخه» (ص: 96) - بعد أن رواه -: إسناده جيد؛ فإن الأسود هذا وثقه ابن معين. اهـ .
__________
(1) قلت: عبد الرحمن وعباس يكاد يتقاربان من حيث الثقة، فقد وثق عبد الرحمن: أبو حاتم والعجلي والبزار، وخرّج له البخاري، وأما العباس فقد وثقه: ابن معين، وقال في رواية: صدوق، ووثقه ابن قانع والدارقطني، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وخرّج له الشيخان، ولكن يقدم عبد الرحمن؛ لأنه لم يتكلم فيه – فيما وقفت عليه –، وأما العباس فقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه ، وكان علي بن المديني يتكلم فيه، ولكن الظاهر أن العباس تُوبع في هذا الخبر، كما قال الحاكم: إنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد.
(2) كذا والصواب: (العنزي)، وقد اختلف فيه اختلافاً آخر.(1/40)
ورواه البخاري في «التاريخ» (3/39) والنسائي في «الخصائص» (165) وأبو نعيم في «الحلية» (7/198) كلهم من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن العوام عن رجل من بني شيبان عن حنظلة بن سويد به.
قلت: الإسناد الأول أقرب لأمرين:
1ـ شعبة قد يخطئ في الأسماء كما هو معروف.
2ـ أن يزيد بن هارون معه في هذا الخبر زيادة علم؛ لأنه سمّى شيخ العوام بخلاف شعبة، مع أن هذا الاختلاف ليس بالكبير، والرجل الذي من شيبان هو العنزي السابق، وشيبان وعنزة يلتقيان في أسد بن ربيعة بن نزار، وشيبان داخلة في عنزة الآن ـ فيما أعلم ـ؛ لأن أكثر ربيعة داخلة الآن تحت عنزة، ولعل هذا من قديم جداً، كما قد يدل عليه قول شعبة: رجل من بني شيبان(1)، وجاء منسوباً إلى عنزة في رواية يزيد بن هارون، مع أن هذا المكان ليس موضع الكلام على هذا الإسناد وتحقيقه، وإنما المقصود بيان مخالفة الروايات لرواية ليث بن أبي سليم.
... وأخرج ابن سعد في «الطبقات» (3/253): أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن الحارث قال: إنني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص، فقال عبد الله بن عمرو: يا أبت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: «ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية»، فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا ؟.
... وأخرجه أحمد (2/206) من طريق الأعمش به، والنسائي في «الخصائص» (166- 168)، وذكر الاختلاف في هذا الحديث، وجاء نحو هذه القصة من طرق أخرى (2) .
__________
(1) ولعل هذا أولى من قول المعلمي في جمعه بين النسبتين فيما علّقه على «التاريخ الكبير».
(2) ينظر: «الطبقات» (3/253) والحاكم (3/386،387) و«مجمع الزوائد» (9/297) وغيرها.(1/41)
... والشاهد مما تقدم أن هذه الطرق ليس فيها ما جاء في رواية ليث، إلا ما جاء في رواية أخرجها الطبراني في «الكبير» من حديث عبد الله بن عمرو، وفيها مسلم الملائي، وهو ضعيف قاله الهيثمي في «المجمع» (9/297) .
... حديث آخر: قال ابن سعد في «الطبقات» (3/251) : أخبرنا إسحاق بن الأزرق أخبرنا عوف بن الأعرابي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: سمعت النبيصلى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمارا الفئة الباغية». قال عوف: ولا أحسبه إلا قال: وقاتله في النار. اهـ .
... قلت: هذه الزيادة لا تصح، بل هي منكرة لأمرين:
1ـ أن هذا الحديث جاء من طرق كثيرة من غير طريق عوف الأعرابي من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة، عند مسلم وأحمد والطيالسي وابن سعد والبيهقي في «السنن» و«الدلائل» والنسائي في «الكبرى» والطبراني في «الكبير» وأبو يعلى وابن حبان والبغوي في «مسند علي بن الجعد» والبغوي صاحب «شرح السنة» وليس فيها هذه الزيادة.
بل أخرج الطبراني في «الكبير» (23/363) من حديث عثمان بن الهيثم وهوذة بن خليفة كلاهما عن عوف به، وليس فيه هذه الزيادة.
... والحديث أيضاً جاء عن صحابة آخرين، ولا أعلم أنه جاء فيه هذه الزيادة.
2ـ أن عوفاً شك في هذه الزيادة كما تقدم، فكل هذا مما يبين نكارة هذه الزيادة وعدم صحتها.
... طريق آخر: أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/259) والحاكم في «المستدرك» (3/385،386) من طريق محمد بن عمر - وهو الواقدي - ثني عبد الله(1)بن الحارث عن أبيه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عمرو بن العاص أنه قال لمن اختصم في قتل عمار: والله إن يختصمان إلا في النار. اهـ .
... وهذا موقوف، ومحمد بن عمر كما تقدم هو الواقدي.
... والخلاصة أن الحديث المرفوع وهو «قاتل عمار في النار» في ثبوته نظر، والله أعلم.
__________
(1) في «الطبقات»: (عبد الحارث) وهو خطأ.(1/42)
... وأما قصة قتل عمار من قبل أبي الغادية فهذا ثابت، ولا شك أن هذا ذنب كبير، ولكن لم يقل أحد إن الصحابة لا يذنبون ولا يقعون في الكبائر، بل قال تعالى عن آدم عليه السلام: {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121] ، وقال تعالى عن الأبوين: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]، إلى غير ذلك.
* * *
5_ وبهذا يجاب عن كركرة الذي كان على ثُقل النبيصلى الله عليه وسلم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو في النار». فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلّها. أخرجه البخاري في «صحيحه» (2074).
... وكذلك من وقع منهم في الزنى أو شرب الخمر أو أصحاب الإفك يجاب عنهم بما تقدم .
* * *
6_ وأما الرجل الذي تزوج بامرأة أبيه فهذا لم يثبت أنه مسلم، قال أبو العباس بن تيمية - كما في «مجموع الفتاوى» (20/91) - : حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبيصلى الله عليه وسلم إلى من تزوج امرأة أبيه، فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله، فإن تخميس المال دل على أنه كان كافراً لا فاسقاً، وكفره بأنه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله ا.هـ .
* * *
وأما ما يتعلق بصفين وما جرى بين علي رضي الله عنه ومن معه ومعاوية رضي الله عنه ومن معه. فأقول وبالله التوفيق:
... إن الله تعالى بين كل شيء نحتاج إليه في ديننا. قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] .(1/43)
... وأخرج أحمد (4/126) وابن ماجه (43) وابن أبي عاصم في «السنة» (33) و (48) و (56) و (1078) والطبراني في «الكبير» (18/619) وفي «مسند الشاميين» (2017) والآجري في «الشريعة» (88) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/181) ، كلهم من حديث معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك .. » وهو حديث صحيح.
... وأخرج مسلم في «صحيحه» (2892) من حديث علباء بن أحمد ثني أبو زيد قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا.
... وأخرج البخاري (6604) ومسلم (2891) كلاهما من حديث الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه. هذا لفظ مسلم.
... ومن هذه الأشياء التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لن أذكر إلا ما جاء عن الرسولصلى الله عليه وسلم في بيان هذه القضية، وحكم من وقع فيها، بإذن الله تعالى، ولن أذكر قال فلان أو فلان، إلا ما كان تعليقاً على الأحاديث، فأذكر ما جاء عن أهل العلم مما يبين الحديث.(1/44)
... فأقول: لا شك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه أولى بالحق من غيره، أخرج مسلم (1065) وغيره من حديث القاسم بن الفضل الحداني ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق».
... وأخرج أيضاً من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد به، ولفظه: «تكون في أمتي فرقتان، فتخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهم بالحق».
... وأخرج أيضاً من حديث حبيب بن أبي ثابت عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد به، ولفظه: «يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق».
... قال أبو زكريا النووي في «شرحه على مسلم» (7/168): هذه الروايات صريحة في أن علياً رضي الله عنه كان هو المصيب المحق، والطائفة الأخرى أصحاب معاوية رضي الله عنه كانوا بغاة متأولين، وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون، لا يخرجون عن الإيمان ولا يفسقون، وهذا مذهبنا. ا هـ .
... وقال أبو العباس ابن تيمية - كما في «الفتاوى» المجموعة له (4/467) - : فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين: علي وأصحابه، ومعاوية وأصحابه، على حق ، وأن علياً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه. ا هـ . وذكر نحو هذا ابن العربي في «العواصم» (ص: 307) الطبعة الكاملة .(1/45)
... وقال أبو الفداء ابن كثير في «البداية»(1)(10/563): فهذا الحديث من دلائل النبوة؛ لأنه قد وقع الأمر طبق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما تزعمه فرقة الرافضة، أهل الجهل والجور من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أن علياً هو المصيب، وإن كان معاوية مجتهداً في قتاله له، وقد أخطأ، وهو مأجور إن شاء الله، ولكن علياً هو الإمام المصيب إن شاء الله تعالى، فله أجران. ا هـ .
... قلت: ويوضح الحديث السابق ما رواه البخاري (3609) ومسلم (2214) كلاهما عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة».
... وأخرج البخاري (3608) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، ولفظه: «لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان، دعواهما واحدة» ، وأخرجه أيضاً (7121) من طريق أبي الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة به.
... فهذا الحديث يبين الحديث السابق.
قال أبو الفداء ابن كثير في «البداية» (9/192): وهاتان الفئتان، هما: أصحاب الجمل وصفين، فإنهما جميعاً يدعون إلى الإسلام، وإنما يتنازعون في شيء من أمور الملك ومراعاة المصالح العائد نفعها على الأمة والرعايا، وكان ترك القتال أولى من فعله، كما هو مذهب جمهور الصحابة ا. هـ .
... وقال أبو الفضل ابن حجر في «الفتح» (6/616): والمراد بهما من كان مع علي ومعاوية لما تحاربا بصفين، وقوله «دعواهما واحدة» أي: دينهما واحد؛ لأن كلاً منهما يتسمى بالإسلام، أو المراد كلاً منهما كان يدعي أنه المحق. ا هـ .
__________
(1) بتحقيق: عبد الله التركي، وقد ذكر -وفقه الله تعالى- بعض الاختلاف الذي وقع بين النسخ في الكلام الذي تقدم نقله، وهو اختلاف يسير.(1/46)
... قلت: قوله: «أو المراد أن كلاً منهما ..» هذا بعيد جداً، وذلك لأنه ما من طائفتين يقتتلان في قديم الدهر وحديثه إلا وكل واحدة من الطائفتين تدعي أنها على الحق، فعلى هذا القول لا يكون للحديث فائدة(1)؛ لأن هذا شيء واضح لا يحتاج إلى توضيح، وإنما الصواب ما قاله ابن كثير كما هو ظاهر.
... ومما يؤيد الحديث السابق(2)ما رواه البخاري (2812) من حديث خالد عن عكرمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية»(3).
وأخرجه مسلم (2915) من حديث أبي سعيد عن أبي قتادة، و(2916) من حديث أم سلمة، وجاء من طرق أخرى خارج الصحيح.
... ومما يوضح ما تقدم أيضاً ما رواه البخاري (2704) من حديث الحسن البصري قال: لقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي إلى جنبه ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» وأخرجه أيضاً (3629) و(3746) و(7109) .
__________
(1) ونعوذ بالله تعالى أن يكون كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغواً.
(2) أي حديث أبي سعيد.
(3) هذه اللفظة موجودة في كل نسخ البخاري، وإنما في بعضها كما في «النسخة اليونينية» (6/25) فقد ذكر هذا في الأصل، ونفى هذا المزي كما في «الأطراف» (3/427)، وقبله البيهقي كما في «دلائل النبوة» (2/546)، ولكنها ثابتة في بعض النسخ كما تقدم، وقد نسبها إلى البخاري: ابن تيمية كما في «المنهاج» (4/414) و«الفتاوى» (4/433)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (10/538).(1/47)
وهذا الحديث فيه منقبة كبيرة للحسن، وأنه سيد ومن سيادته تنازله عن الخلافة، وفيه أيضاً وصف للطائفة الذين مع الحسن، ومع معاوية بالإسلام، وهذا الحديث يتضمن منقبة وثناء على معاوية، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدح فعل الحسن وتنازله عن الملك لمعاوية، ولو كان معاوية ليس أهلاً للملك لما مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصلح الذي فيه تنازل الحسن عن الملك.
... قال أبو الفضل ابن حجر في «الفتح» (6613) تعليقاً على هذا الحديث: وفي هذه القصة من الفوائد: علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي، فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله، لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة، وفيها رد على الخوارج الذي يكفرون علياً ومن معه، ومعاوية ومن معه، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب. ا هـ .
... وقول ابن حجر: ودلالة على رأفة معاوية .... إلى آخر هذا، أخذه من ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الحسن عند ما تنازل عن الملك لمعاوية كما تقدم.
... وسيرة معاوية رضي الله عنه، عندما تولى الملك تشهد بقوة نظره في تدبير الملك، وحسن سياسته.
... ومما يؤيد هذا ما رواه البخاري (7222 و7223) ومسلم (1821) من حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً»، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش، وهذا لفظ مسلم.
وأخرجه أيضاً (1821) من طريق حصين عن جابر ولفظه:«إن هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة».(1/48)
وفي لفظ عنده من طريق سماك عن جابر: «لايزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلهم من قريش»، وفي لفظ عنده من طريق الشعبي عن جابر: «لايزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة».
... وأخرج أيضاً (1822) من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لايزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».
... فظاهر هذا الحديث يدخل فيه معاوية رضي الله عنه، وذلك أنه قرشي، وتولى الملك، وكان الدين في زمنه عزيزاً منيعاً، فهذا الحديث ينطبق عليه، خاصة في رواية الشعبي وسماك عن جابر «لايزال هذا الأمر ـ وفي رواية: الإسلام ـ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» فظاهر هذه الرواية أن هذه العزة والمنعة من أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو بكر رضي الله عنه إلى اثني عشر خليفة، فيكون معاوية داخلاً فيهم، وخاصة أن معاوية بويع من جميع المسلمين، وسمي هذا العام بعام الجماعة كما هو معلوم.
... فعلى هذا الحديث أن معاوية خليفة شرعي، وأن الدين كان في زمنه عزيزاً منيعاً، وهذا لحكمه بالشرع وتطبيقه للسنة، وإلا لما كان الدين عزيزاً منيعاً، والله تعالى أعلم.
... وأقول أيضاً:إن معاوية هو أكبر طائفته ومعه عمرو بن العاص ومع ذلك فقد أثنى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم ثناء خاصاً، فقال عن معاوية: «اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به»، والأصل في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مستجاب .(1/49)
وأخرج البخاري (2924) من طريق عمير بن الأسود العنسي عن أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا»، وأول جيش غزا البحر من المسلمين كان بقيادة معاوية، وهذه منقبة عظيمة له، ومعنى «أوجبوا» أي وجبت لهم الجنة.
... ومن مناقبه اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم له كاتباً.
... وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه: فأخرج أحمد (4/203) والنسائي في «الكبرى» (8301) وابن حبان (7092) وابن عساكر في «تاريخه» (13/502 و503) وابن أبي عاصم في «الآحاد» (796) كلهم من طريق موسى بن علي قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص يقول: فزع الناس بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فتفرقوا، فرأيت سالماً احتبى سيفه فجلس في المسجد، فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني وسالماً وأتى الناس، فقال: «أيها الناس، ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟».
وهذا إسناد صحيح، وقد جاء له شاهد:
أخرج أحمد في «المسند» (2/304 و327 و353 و354) والنسائي في «الكبرى» (8300) وابن سعد في «الطبقات» (4/191) وأبو نعيم في «المعرفة» (4997 و6535) والجورقاني في «الأباطيل» (171) وابن عساكر في «تاريخه» (13/502) والطبراني في «الكبير» (22/177) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (795)، كلهم من حديث حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابنا العاص مؤمنان: عمرو ، وهشام».
هذا الإسناد لا بأس به وفيه غرابة، وقد صححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم، وقال الجورقاني: هذا حديث حسن مشهور. ا هـ .
... وجاءت نصوص أخرى بهذا المعنى، ولا شك أن هذه منقبة كبيرة بالشهادة له من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان.(1/50)
... فهذا بعض ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القضايا، ولا شك أن الواجب على المسلم أن يقبل ويسلم بكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا مقتضى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ولا يكون مؤمناً إلا بذلك، ومقتضى هذا(1)ولازمه محبة أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، والثناء عليهم، والاستغفار لهم، وعدم مسبتهم، لا العكس، وهو الكلام في بعضهم، والتفتيش عن بعض عيوبهم، والقدح في نفر منهم، والتقليل من مكانتهم، والتنزيل من علو مرتبتهم، ويكون هذا ديدنه، وهذا الفعل هو هجيراه ومطلبه، ويبدي ويعيد في هذه المسألة، ويرى الصغير كبيراً، ويتبع هواه، ويعمل بما دل عليه الباطل ويرضاه.
... ولذلك قال محمد بن إبراهيم بن الوزير في «العواصم» (3/221) : والكلام فيما شجر بين الصحابة مما كثر فيه المراء والعصبية، مع قلة الفائدة في كثير منه.
... فنعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن الطغيان بعد الإيمان، وأسأله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا محبة صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، والاستغفار لهم، والإقرار بعلو مكانتهم، آمين ا.هـ.
* * *
... وأما ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم في الجمل: فالأمر فيهم أوضح، وأبين مما جرى في صفين، وذلك أن الزبير وطلحة رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة، وعائشة هي أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين، وهم لم يخرجوا لطلب الملك أو المشاقة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وإنما خرجوا من أجل المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، والإصلاح بين الناس.
__________
(1) أي النصوص التي جاءت في الثناء على الصحابة.(1/51)
... أخرج الإمام أحمد في «المسند» (6/97): ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح كلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «أيتكن تنبح عليها الكلاب الحوأب»، فقال لها الزبير: ترجعين ! عسى الله أن يصلح بك الناس.
... وأخرجه أحمد (6/52): ثنا يحيى عن إسماعيل به، ولفظه : فقالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون، فيصلح الله عز وجل ذات بينهم.
وهذا إسناد صحيح، وقال ابن كثير في «البداية» (9/187) عن الإسناد الأول: على شرط الشيخين، ولم يخرجوه .(1/52)
... ولذلك قال أبو محمد ابن حزم في «الفصل» (4/158) عن الذين خرجوا إلى البصرة، وهم من تقدم: قد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي، ولا خلافاً عليه، ولا نقضاً لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبينوا(1)عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدافع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم، وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بُدئ بها بالقتال، واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامه، فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها، ورجع الزبير وترك الحرب بحالها، وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط، فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف، ومات من وقته رضي الله عنه، وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة، فهكذا كان الأمر ا.هـ .
* * *
فصل
... كثر كلام أهل العلم بالأمر بالسكوت عما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم، بل نُقل الإجماع على ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار - حجازاً وعراقاً ومصر وشاماً ويمناً- فكان من مذهبهم ...الترحم على جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، والكف عما شجر بينهم. اهـ .
ورواه اللالكائي في «السنة» (321) وأبو العلاء الهمداني في «ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف» (ص:90 ، 91) .
__________
(1) هكذا وهو تطبيع، والصواب: (فبيتوا).(1/53)
... قلت: ودليل هذا هو قوله تعالي: {والذين جآؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا أصحابي ..»، وقد تقدم .
... وأخرج عبد الرزاق في «الأمالي» (51): ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذ ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا».
وهذا إسناد صحيح إلا أنه مرسل، وقد جاء من طرق أخرى:
فأخرجه الطبراني في «الكبير»( 10448): ثنا الحسن بن علي الفسوي ثنا سعيد بن سليمان ثنا مسهر بن عبد الملك الهمداني عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود به.
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (4/108) وقال: غريب من حديث الأعمش، تفرد به مسهر ا.هـ .
... وهذا لا يصح، مسهر اختلف فيه، قال أبو داود: أما الحسن(1)بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه، وأما أصحابنا لا يحمدونه، وذكره ابن حبان في «الثقات» (9/197) وقال: يخطئ ويهم. وقال ابن عدي في «الكامل» (6/2449): أخبرنا أبو يعلى ثنا الحسين بن حماد الوراق ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع ثقة. ا.هـ .
وقال النسائي: ليس بالقوي. قال البخاري: فيه بعض النظر. وذكره ابن عدي في «الضعفاء» (6/2449)، وبعد أن ذكر له خبرين قال: ولمسهر غير ما ذكرت وليس بالكثير ا.هـ .
... قلت: مسهر فيه ضعف، وهذا الضعف ليس بالشديد؛ لأن من تكلم فيه كالبخاري قال: فيه بعض النظر، والنسائي قال: ليس بالقوي، فكيف وهناك من قوّاه؟ ولذلك حسن العراقي هذا الإسناد، فقال: رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن. ا.هـ . من المغنى ( ص: 78) .
... قلت: ولكن تفرده بهذا الخبر عن الأعمش مع الكلام فيه يضعف هذا الخبر.
__________
(1) هو من الحفاظ، ووصف بالعلم بالرجال.(1/54)
وقد جاء هذا الحديث من طريق آخر عن ابن مسعود ولكنه ضعيف جداً، وجاء أيضاً من حديث ابن عمر وثوبان، ولكنها ليست بشيء، وروى أبو موسى المديني - كما في «أسد الغابة» (3/200) - من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن عبد الغافر ـ وكان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القرآن فقولوا: كلام الله عز وجل غير مخلوق، ومن قال غير هذا فهو كافر».
وذكر ذلك ابن حجر في «الإصابة» (2/337) وعزاه إلى أبي موسى من طريق علي بن محمد المنجوري عن حماد به، وقال: في إسناده محمد بن علي الحناحاني، ذكره الحاكم فقال: أكثر أحاديثه مناكير، وأخرجه ابن منده من غير طريقه مختصر، لكنه قال: عبيد بن عبد الغافر. اهـ .
... قلت: علي بن محمد(1)ذكره ابن حبان في «الثقات» (8/466) ونسبه: المنجوراني، وقال: يروي عن شعبة وأبي جعفر الرازي، روى عنه عبد الصمد بن الفضل وأهل بلده. اهـ .
وذكره السمعاني في «الأنساب» وذكر أن ابن حبان ذكره وسكت.
... وآخر هذا الخبر قطعاً لا يصح، وإنما هو من كلام أهل العلم، ولكن كما تقدم أنه جاء من غير طريق محمد بن علي كما ذكر ابن حجر.
وروى الإمام أحمد في «الفضائل» (19): ثنا وكيع ثنا جعفر ـ يعني: ابن برقان ـ عن ميمون بن مهران قال: ثلاثة ارفضوهن: سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والنظر في النجوم، والنظر في القدر.
وهذا إسناد صحيح، وميمون تابعي، وإن كان هذا من كلامه، ولكن مثل هذا الكلام من حيث الأصل لا يقال من قبل الرأي.
وهذه الأخبار لعل بعضها يقوي بعضاً، وإن كانت لا ترقى إلى درجة الثبوت، ولذلك قال أبو الفرج ابن رجب في «فضل علم السلف على الخلف» (ص: 26)- بعد أن ذكر حديث ابن مسعود- : وقد روي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال. اهـ .
__________
(1) وهو غير محمد بن علي الذي ذكره الحافظ.(1/55)
ولكن معناها صحيح، وتقدم ذكر النصوص التي تدل على هذا مما سبق، ويقويها الإجماع الذي ذكره أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وهما من كبار أهل العلم في زمانهما، كما هو معلوم.
... ومعنى «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ..» وقول أهل العلم بهذا معناه: عدم الكلام والقدح فيهم، وليس معناه عدم ذكر ما جرى مثلاً في صفين أو الجمل، فإن هذا أولاً أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم هو تاريخ، ولذلك ذكره ودونه أهل العلم، بل وألفت المؤلفات الخاصة في ذلك، وأطال الكلام في ذلك ابن جرير وابن كثير وابن حجر وغيرهم من أهل العلم، ولكن لم يبنوا على هذا القدح في الصحابة والطعن فيهم، والله تعالى أعلم.
وكتب
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
16/3/1421هـ
الدفاع عن معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنه
لفضيلة الشيخ
عبدالله بن عبدالرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
... إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
... أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ؛ ولذا كل ما نحتاج إليه في ديننا أو دنيانا فإن بيانه في كتاب ربنا أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } .(1/56)
قال محمد بن أبي حاتم - وراق البخاري - : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة . فقلت له: يمكن معرفة ذلك كله ؟ قال : نعم (1) . ا.هـ .
وقال الشاطبي في «الإعتصام» (1/64) : ( إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان ؛ لأن الله تعالى قال فيها : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } .
وفي حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب , فقلنا : يا رسول الله ! إن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا ؟
قال : « تركتكم على البيضاء ؛ ليلها كنهارها , ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ,ومن يعش منكم ؛ فسيرى اختلافاً كثيراً , فعليكم ما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ... » الحديث .
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتي ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا , وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .
فإذا كان كذلك ؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله : إن الشريعة لم تتم , وإنها بقي منها أشياء يجب أن يستحبُّ استدراكها (2) ؛ لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه ؛ لم يبتدع , ولا استدرك عليها , وقائل هذا ضالٌّ عن الصراط المستقيم ) ا.هـ .
فعلى كل شخص إذا أراد معرفة مسألة أو قضية ما , الرجوع إلى الكتاب والسنة , ومن ذلك ما يتعلق بمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وما قيل فيه .
__________
(1) من سير أعلام النبلاء ( 12/412 ) ، ومحمد بن أبي حاتم – وراق البخاري – له كتاب «شمائل البخاري» وصفه الذهبي في السير(12/412) بأنه جزء ضخم ، وقد ساق الحافظ ابن حجر إسناده لهذا الكتاب في «تغليق التعليق» (5/386).
(2) كذا بالأصل.(1/57)
وإن هذه المسألة مسألة عظيمة ودقيقة، وقد تكلم فيها أناس فجرهم ذلك إلى النصب, وتكلم آخرون فوقعوا في التشيع والرفض, والسلامة من هذا وذاك بالرجوع إلى السنة, ففيها البيان الشافي، والأمر الكافي، لمن أراد الحق والنجاة.
ولو رجع المتكلم في هذه المسألة إلى ما أخرجه البخاري (2704) من حديث أبي موسى إسرائيل عن الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن ابني هذا سيد, ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ».
لكان كافيا، وسوف يأتي بيان وجه دلالة هذا الحديث على ذلك إن شاء الله تعالى.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين حاله وهو شاب - وذلك بعد إسلامه بقليل- , ثم بعد أن أصبح كهلا, ثم بعد أن صار شيخا إلى أن توفي، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد اطلعت على ما كتبه الابن الشيخ/ سعد بن ضيدان السبيعي, فيما يتعلق بمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه والدفاع عنه, فوجدته قد أجاد وأفاد فيما كتب, فقد ذكر الأدلة التي تدل على فضل معاوية رضي الله عنه, وذكر كلام أهل العلم في الدفاع عنه, فجزاه الله خيرا وبارك فيه.
* * *
فصل
في فضائل ومناقب معاوية رضي الله عنه
وبيان ذلك في النقاط التالية:
أولاً : إسلامه .
لا خلاف بين أهل العلم في إسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما, وإنما اختلفوا في وقت إسلامه, فقيل: عام الحديبية، وقيل: في عام القضية، وقيل: كان ذلك في فتح مكة وهو شاب، كان عمره يناهز ثمانية عشر سنة، أو نحو ذلك (1) .
قلت : والإسلام أساس الفضائل، والميزان الذي يوزن به الإنسان، كما لا يخفى, وقد قال الله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام } وقال تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } , وقال عز وجل: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .
__________
(1) ينظر ترجمة معاوية في تاريخ ابن عساكر فقد ذكر أقوال أهل العلم في ذلك .(1/58)
فإن قال قائل: إن هذا الإسلام غير صحيح، وإنه أسلم نفاقاً .
فأقول : الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: ما جاء من النصوص المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والتي فيها النص على إسلام معاوية رضي الله عنه, وهذه النصوص على قسمين:
أ) نصوص خاصة . ب) ونصوص عامة.
أ) فأما النصوص الخاصة: فقد أخرج مسلم ( 1480 ) من طريق مالك بن عبدالله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ـ فذكر قصة - وفيها : قالت : فلما حللت ذكرت له صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه , وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ».
ففي هذا الحديث : بيان فضل معاوية رضي الله تعالى عنه , وردٌّ على من اتهمه رضي الله عنه بالنفاق ؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر لفاطمة بنت قيس أنه لا مال له، ولو كان في دينه مغمز أو مطعن لذكره الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة ولم يكتمها ذلك, وهذا فيه ثناء على معاوية في دينه رضي الله عنه، وكان ذلك في أول حياته وإسلامه .
ثم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مجاهداً وغازياً إلى بلاد الشام , وكان ذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه , وقد ولاه أبو بكر على بعض المدد الذي أرسله إلى بلاد الشام.
ثم ولاه عمر رضي الله تعالى عنه بعد وفاة أخيه يزيد- كما سوف يأتي إن شاء الله تعالى (1) - وبقي على ذلك حتى تولى عثمان رضي الله تعالى عنه فولّاه على الشام كلها , وبقي على ذلك حتى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وهذا بيان لحاله في وقت شبابه .(1/59)
وأما في حال كهولته : فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ( 2704 ) من حديث الحسن البصري قال : ولقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي إلى جنبه ويقول : « إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » .
وأخرجه أيضاً في مواضع أخرى ( 3629 ) و ( 3746 ) و ( 7109 ) .
وهذا الحديث فيه منقبة كبيرة للحسن رضي الله عنه , وأنه سيد , ومن سيادته تنازله عن الخلافة .
وفيه أيضاً وصف للطائفة التي مع الحسن ومع معاوية رضي الله عنهما بالإسلام ، وهذا الحديث يتضمن منقبة وثناء على معاوية رضي الله عنه ؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدح فعل الحسن رضي الله عنه وتنازله عن الملك لمعاوية، ولو لم يكن معاوية رضي الله عنه أهلاً للملك لما مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصلح الذي فيه تنازل الحسن رضي الله عنه عن الملك له.
قال سفيان بن عيينة : قوله: « فئتين من المسلمين » يعجبنا جداً (1) .
قال أبو بكر البيهقي : وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهما جميعاً مسلمين.
وهذا خبر (2) من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان .
وقال الحسن (3) في خطبته : أيها الناس، إن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو حق لامرئ كان أحق به مني، أو حق لي تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (4)ا.هـ.
__________
(1) أخرجه يعقوب بن سفيان في «تاريخه» , وسعيد بن منصور كما قال ابن حجر في «الفتح» (13/66) .
(2) أي حديث الحسن عن أبي بكرة السابق.
(3) أي: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
(4) «الإعتقاد» للبيهقي (ص:533-535).(1/60)
وقال أبو سليمان الخطابي في كتابه «معالم السنن» (7/37) – تحت شرحه لهذا الحديث - : وقد خرج مصداق هذا القول فيه بما كان من إصلاحه بين أهل العراق وأهل الشام وتخليه عن الأمر, خوفا من الفتنة, وكراهية لإراقة الدم, ويسمى ذلك العام سنة الجماعة, وفي الخبر دليل على أن واحدا من الفريقين لم يخرج بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام, إذا قد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين, وهكذا سبيل كل متأول فيما تعاطاه من رأي ومذهب دعا إليه, إذ كان قد تأوله بشبهة وإن كان مخطئا في ذلك, ومعلوم أن إحدى الفئتين كانت مصيبة والأخرى مخطئة ا.هـ (1) .
وقال أبو العباس ابن تيمية - كما في «الفتاوى» ( 35/70 ) - : وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه، وسماه سيداً بذلك ، لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله ، ويرضاه الله ورسوله ، ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك، بل يكون الحسن قد ترك الواجب، أو الأحب إلى الله، وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود، مرضي لله ورسوله ا.هـ .
__________
(1) وقد ذكر البغوي في «شرح السنة» (14/136) قريبا من كلام الخطابي.(1/61)
... ومما يستفاد من الحديث أيضا ترك الكلام في هذه الفتنة وعدم الطعن في معاوية ومن كان معه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على هذا الصلح ومدح الحسن رضي الله عنه الذي تم هذا الصلح على يده, فعندما يطعن بمعاوية ومن معه يكون هذا منافيا لهذا الصلح الذي أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم, ولكي يبقى هذا الصلح قائما مستمرا فلا بد من عدم إثارة الأسباب التي أدت إلى النزاع, ومن ذلك ترك الطعن في معاوية رضي الله عنه ومن معه, والاقتصار على ما جاءت به النصوص حسب حتى تتم المحافظة على هذا الصلح, وقد بوب أبو داود على هذا الحديث في «سننه» (5/211): ( باب ترك الكلام في الفتنة ) , وكأنه - والله أعلم – يشير إلى ما تقدم, ولا شك أن هذا من فقهه رحمه الله .
وأما حاله في وقت شيخوخته: فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، وذلك فيما رواه البخاري ( 7222ـ 7223 ) ومسلم ( 1821 ) من حديث عبدالملك بن عمير , عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً ». ثم تكلم بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كلهم من قريش». وهذا لفظ مسلم .
وأخرجه أيضاً (1821) من طريق حصين عن جابر ولفظه: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة».
وفي لفظ عنده من طريق سماك عن جابر: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة». ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلهم من قريش».
وفي لفظ عنده من طريق الشعبي عن جابر: «لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة».(1/62)
وأخرج أيضاً ( 1822 ) من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع : أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليّ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشرة خليفة كلهم من قريش».
فظاهر هذا الحديث يدخل فيه معاوية رضي الله عنه، وذلك أنه قرشي وتولى الملك، وكان الدين في زمنه عزيزاً منيعاً، فهذا الحديث ينطبق عليه خاصة في رواية الشعبي وسماك عن جابر: «لا يزال هذا الأمر ـ وفي رواية: الإسلام ـ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»، فظاهر هذه الرواية أن هذه العزة والمنعة من أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر رضي الله عنه، إلى اثني عشر خليفة، فيكون معاوية داخلاً فيهم، وخاصة أنه بويع من جميع المسلمين، وسمي هذا العام بعام الجماعة كما هو معلوم.
فعلى هذا الحديث فمعاوية رضي الله عنه خليفة شرعي، والدين في زمنه كان عزيزاً منيعاً، وهذا لحكمه بالشرع وتطبيق السنة، وإلا لما كان الدين عزيزاً منيعاً، والله أعلم.
قال أبو زرعة: حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم نا الوليد عن الأوزاعي قال: أدركتْ خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: سعد وأسامة وجابر وابن عمر وزيد بن ثابت ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج وأبو أمامة وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويله.
ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم، لم ينزعوا يداً عن مجامعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم )(1) .
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (ص: 42-43) .(1/63)
وقال الذهبي في «السير» (3/132): (حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم – وهو ثغر – فيضبطه ويقوم به أتم قيام, ويرضي الناس بسخائه وحلمه, وإن كان بعضهم تألم مرة منه, وكذلك فليكن الملك, وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا منه بكثير وأفضل وأصلح, فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد, وكان محببا إلى رعيته, عمل نيابة الشام عشرين سنة, والخلافة عشرين سنة, ولم يهجه أحد في دولته, بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين ومصر والشام والعراق وخراسان وفارس والجزيرة واليمن والمغرب وغير ذلك) ا.هـ .
ب) وأما النصوصة العامة:
فمنها ما يلي:
1_ أخرج البخاري في «صحيحه» ( 3608 ) : حدثنا الحكم بن نافع حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان دعواهما واحدة».
2_ وأخرج مسلم (1065) من طريق القاسم بن الفضل الحداني حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمرق ما رقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق».
ففي حديث أبي هريرة بيان ما حصل بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه، ولا شك أن علي أولى بالحق من غيره، وعلي رضي الله عنه هو الذي قاتل الخوارج المارقة.
وفي هذا الحديث صحة إسلام معاوية رضي الله عنه، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعواهما واحدة». وقال: «أولى الطائفتين بالحق».
قال النووي رحمه الله في «شرحه على مسلم» ( 7/168 ): (وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون، لا يخرجون بالقتال عن الإيمان، ولا يفسقون، وهذا مذهبنا) ا.هـ .(1/64)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» (10/513): (وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما تزعمه فرقة الرافضة أهل الجهل والجور من تكفيرهم أهل الشام) ا.هـ .
* * *
ثانياً: صحبته:
أخرج البخاري في «صحيحه» (3746) قال: حدثنا الحسن بن بشر حدثنا المعافى عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : وصحبة معاوية رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم معلومة كما دل عليها هذا الخبر وغيره، وفضل الصحبة ومكانة الصحابة معلوم بالكتاب والسنة، ومن الأدلة الواضحة على ذلك ما جاء في قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل * أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير } .
وهذه الآية شاملة لكل الصحابة رضي الله عنهم، لمن أنفق قبل فتح مكة وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، كلهم وعدهم الله بالحسنى وهي الجنة، كما بين هذا في موضعه، وإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كما تقدم إما قبل الفتح، وإما بعده، فهو داخل تحت هذا النص.
* * *
ثالثا : كتابته للنبي صلى الله عليه وسلم .
أخرج الإمام أحمد في «المسند» (1/291) قال: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة قال: أخبرنا أبو حمزة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: كنت غلاماً أسعى مع الصبيان، قال: فالتفت، فإذا نبي الله خلفي مقبلاً، فقلت: ما جاء نبي الله إلا إليَّ. قال: فسعيت حتى أختبئ وراء باب دار. قال : فلم أشعر حتى تناولني، قال : فأخذ بقفاي فحطأني حطأة. وقال: «اذهب فادع لي معاوية» وكان كاتبه، فسعيت، فقلت: أجب رسول الله فإنه على حاجة .
ورواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (2746) من حديث هشام وأبي عوانة عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس بنحوه.(1/65)
وأصل هذا الحديث عند مسلم (2604) من طريق شعبة عن أبي حمزة به، وليس فيه: ( وكان كاتبه ) ولفظ مسلم أتم (1) .
وأبو حمزة هو عمران القصاب، والراجح أنه لا بأس به, فقد قال عنه أحمد: صالح الحديث, ورواية شعبة عنه مما يقويه, وأيضا قال عنه سفيان الثوري: وكان صاحب ابن عباس. وهذا مما يدل على شهرة اتصاله بابن عباس, وقد صرح في هذا الحديث بسماعه منه.
قلت: وكون معاوية رضي الله عنه كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مشهور عند أهل العلم, واتخاذ سيد الخلق له كاتبا لوحي الله عز وجل منقبة عظيمة لمعاوية رضي الله عنه.
وقد كان يكتب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أيضا, قال يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (3/373): ثنا سليمان ثنا عمر بن علي بن مقدم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: دخلت على معاوية فقال لي : ما فعل المسلول ؟ قال قلت: هو عندي. فقال :أنا والله خططته بيدي، أَقْطَعَ أبو بكر الزبير - رضي الله عنه - أرضاً فكنت أكتبها، قال :فجاء عمر، فأخذ أبو بكر - يعني الكتاب - فأدخله في ثني الفراش، فدخل عمر - رضي الله عنه - فقال: كأنكم على حاجة ؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : نعم، فخرج، فأخرج أبو بكر الكتاب فأتممته ا.هـ.
* * *
رابعا : ثناء الصحابة والتابعين عليه .
1ـ جاء في لفظ حديث ابن عباس السابق عند البخاري ( 3765 ) من طريق ابن أبي مليكه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة ؟ فقال رضي الله عنه : إنه فقيه .
2ـ وأخرج الخلال في «السنة» ( 442 ـ 680 ) من طريق هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر يقول: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية فقيل: ولا أبوك؟ فقال: أبي رحمه الله خير من معاوية، وكان معاوية أسود منه .
__________
(1) وجاء في حديث ابن عباس المشهور الذي خرجه مسلم ( 1501 ) ذكر اتخاذ النبي ? له كاتبا, والكلام في هذا الحديث مشهور.(1/66)
3 ـ وروى معمر في «جامعه» (20985-المطبوع مع «مصنف عبدالرزاق») عن همام بن منبه سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية, كان الناس يردون منه على أرجاء واد رحب, لم يكن بالضيق الحصر العصعص المتغضب.
4- وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/544): بسر بن سعيد عن سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب. يعني معاوية.
5- وقال أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (1/572): أخبرني عبدالرحمن بن إبراهيم قال: حدثنا كعب بن خديج أبو حارثة –قال أبو زرعة : وقد رأيت أبا حارثة وجالسته وكان شيخاً صالحاً – قال: حدثنا عبدالله بن مصعب بن ثابت عن هشام بن عروة قال: سمعت عبدالله بن الزبير يقول: كان والله –يعني معاوية- كما قالت ابن رقيقة ! يعني هذه :
ألا أبكيه , ألا أبكيه ألا كلا الغنى فيه
6ـ وأخرج الخلال أيضاً ( ص : 438 ) عن الأعمش عن مجاهد رحمه الله قال : لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي .
7ـ وقال الإمام أحمد في «مسنده» (4/93): حدثنا وكيع حدثنا أبو المعتمر عن ابن سيرين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تركبوا الخز ولا النمار». قال ابن سيرين: وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
8- وأخرج الآجري في «الشريعة» (5/2466 – رقم: 1955): أن رجلاً بمرو قال لابن المبارك: معاوية خير أو عمر بن عبد العزيز؟ قال: فقال ابن المبارك: تراب دخل أنف معاوية رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير - أو أفضل - من عمر بن عبد العزيز.(1/67)
9ـ وأخرج الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (1/209) من طريق: رباح بن الجراح الموصلي قال: سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال: يا أبا مسعود، أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا يقاس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله عز وجل . ا. هـ .
قلت : وقد تقدم أن عمر رضي الله عنه قد ولاه على بعض أعمال الشام بعد وفاة أخيه يزيد، ثم ولاه عثمان على الشام كلها، وهذا دليل على فضله عندهما.
ويدخل في ثناء الصحابة على معاوية رواية بعض الصحابة وبعض أئمة التابعين عنه، كما سيأتي في الفقرة التالية.
ذكر ثناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض كبار أصحابه:
قال محمد بن نصر في كتابه «تعظيم قدر الصلاة» (2/134): وقد ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتالَ أهل البغي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى، وسماهم مؤمنين، وحكم فيهم بأحكام المؤمنين، وكذلك عمار بن ياسر.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنا يحيى بن آدم ثنا مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال أهل النهروان، فقيل له: أمشركون هم ؟! قال: مِنَ الشرك فَرُّوْا، فقيل: منافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلاّ قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا، فقاتلناهم .
حدثنا إسحاق أنا وكيع عن مسعر عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: قال رجل: من دعا إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركين، فقال عليّ: من الشرك فروا، [ قال : المنافقون ؟ ] (1) قال : إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلاّ قليلاً، قال: فما هم؟! قال: قوم بغوا علينا، فقاتلناهم، فنصرنا عليهم .
__________
(1) هذه الزيادة زادها محقق الكتاب من «منهاج السنة» لابن تيمية (3/60).(1/68)
وحدثنا وكيع ثنا ابن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال : قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان : أمشركون هم؟! قال: من الشرك فروا، قيل : فمنافقون ؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً ، قيل: فما هم؟ قال: قوم حاربونا فحاربناهم، وقاتلونا فقاتلناهم.
حدثنا إسحاق أنا أبو نعيم ثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سمع عليّ [ يوم ] الجمل - أو يوم صفين - رجلاً يغلو في القول، فقال: لا تقولوا، إنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا، فقاتلناهم، فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح، فقال: ما كان أغناه عن ذلك (1).
حدثنا محمد بن يحيى ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن راشد عن مكحول أن أصحاب علي سألوه عن من قتل من أصحاب معاوية ما هم؟ قال: هم المؤمنون.
حدثنا محمد بن يحيى ثنا أحمد بن خالد ثنا عبد العزيز بن [ عبد الله ] بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن [ أبي ] عون، قال : مرَّ عليٌّ وهو متكئ على الأشتر على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول، فقال الأشتر : إنا لله وإنا إليه راجعون، حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين! عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمناً، فقال عليّ: والآن هو مؤمن، قال : وكان حابس رجلاً من أهل اليمن، من أهل العبادة والاجتهاد (2).
__________
(1) قلت: قال علي رضي الله عنه هذا في الخوارج, فوصف أهل الشام بالإيمان ونفي النفاق عنهم من باب أولى, كما سيأتي تصريحه رضي الله عنه بذلك .
(2) قال محقق الكتاب : وعبد العزيز هو ابن الماجشون ، والزيادة في اسمه من التهذيب ، والزيادة الأخرى في اسم شيخه من المنهاج والتهذيب ا.هـ .(1/69)
حدثنا محمد بن يحيى ثنا محمد بن عبيد ثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال: قال عليّ: متى ينبعث أشقاها؟ قيل: من أشقاها؟ قال : الذي يقتلني، فضربه ابن ملجم بالسيف، فوقع برأس عليّ، وهَمَّ المسلمون بقتله، قال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئتُ فالجروح قصاص، وإن متُّ فاقتلوه، فقال : إنك ميِّت، قال: وما يدريك؟ قال: كان سيفي مسموماً.
حدثنا محمد بن يحيى ثنا محمد بن عبيد ثنا الحسن ـ وهو ابن الحكم النخعي ـ عن رياح بن الحارث قال: إنا بوادي الظبي، وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر، فأتى رجل، فقال : كفر ـ والله ـ أهل الشام، فقال عمار: لا تقل ذلك، قبلتنا واحدةٌ، ونبيّنا واحد، ولكنهم قوم مفتونون، فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.
حدثنا محمد بن يحيى ثنا قبيصة ثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رياح بن الحارث عن عمار بن ياسر قال: ديننا واحد، وقبلتنا واحدة، ودعوتنا واحدة، ولكن قوم بغوا علينا، فقاتلناهم.
حدثنا محمد بن يحيي ثنا يعلى ثنا مسعر عن عبد الله بن رياح عن رياح بن الحارث قال: قال عمار بن ياسر: لا تقولوا: كفر أهل الشام، قولوا : فسقوا، قولوا: ظلموا.
.....
حدثنا هارون بن عبد الله ثنا محمد بن عبيد ثنا مسعر عن ثابت بن أبي الهذيل قال: سألت أبا جعفر عن أصحاب الجمل؟ فقال: مؤمنون ، أو قال : ليسوا كفاراً .
حدثنا هارون ثنا يعلى ثنا مسعر عن ثابت بن أبي الهذيل عن أبي جعفر نحوه.
حدثنا محمد بن يحيى ثنا يعلى ثنا مسعر عن ثابت بن أبي الهذيل قال: سألت أبا جعفر عن أصحاب الجمل؟ فقال: مؤمنون، وليسوا بكفار ا.هـ .
بيعة الحسن والحسين ومن معهما من أهل بيتهما وبقية الصحابة لمعاوية رضي الله عنه:
هذا الفصل تحته مسائل، وهي:(1/70)
أولا : أن الحسن رضي الله عنه بايع معاوية مختارا وليس مكرها, والدليل على ذلك أن الحسن كان معه الجيوش من أهل العراق وقد بايعوه بعد وفاة أبيه وناصروه, وإنما خذله منهم الدهماء وأوباش الناس, وهذا يحصل عادة في مثل هذه المواقف فتجد أن بعض الناس ينضم إلى المعسكر الآخر, وهذا يدل على أن الحسن لم يكن مكرها وإنما بايع مختارا رضي الله عنه, كراهية لسفك الدماء, والفرقة التي حصلت بين المسلمين, وإلا فقد كان يستطيع أن يستمر في القتال, أو على الأقل أن يختفي ولا يبايع معاوية, وقد استمر على هذه البيعة حتى توفي رضي الله تعالى عنه .
ويؤيد هذا أن الذين كانوا مع الحسن- كأخيه الحسين وبقية أهل بيته والصحابة رضي الله عنهم - قد بايعوا معاوية, فهل هؤلاء كلهم كانوا مكرهين؟! نعم بعضهم قد كره تنازل الحسن رضي الله عنه ولكنه مع ذلك عندما وجد تصميم الحسن رضي الله عنه على البيعة تابع الحسن رضي الله عنه وبايع معاوية رضي الله عنه, وقد سمي هذا العام بعام الجماعة لاجتماع الناس على بيعة معاوية رضي الله عنه.
ويؤيد هذا أيضا أن الحسين رضي الله عنه استمر على هذه البيعة إلى أن توفي معاوية وكانت مدة ذلك عشرين سنة, ولم يخرج إلا في عهد يزيد؛ لأنه أبى أن يبايع يزيد, وكان ذلك في نهاية خلافة معاوية رضي الله عنه عندما طلب من الناس أن يبايعوا ليزيد من بعده, فامتنع بعض الصحابة ومنهم الحسين رضي الله عنه, وصمم على ذلك حتى خرج في قلة من أصحابه, وكان أغلبهم من أهل بيته بعد أن خذله شيعة الكوفة الذين غروه بالمبايعة والنصرة, إلى أن حصل له ما حصل رضي الله تعالى عنه من القتل, فأين هذا من بيعة الحسن لمعاوية؟! وقد كانت الجيوش تحت أمرته وبين يديه, يقاتلون ويدافعون عنه, ولذا لم يقل الحسن رضي الله عنه لأحد من الناس - لا من أهل بيته ولا من غيرهم - أنه بايع مكرها, وهذا كله ظاهر لمن قرأ تاريخ تلك الأحداث.(1/71)
ثانيا: وفيما تقدم رد على الذين يطعنون في معاوية رضي الله عنه حتى كفروه, فهل يعقل أن الحسن والحسين ومن معهما يبايعون شخصا كافرا؟! هذا لا يعقل أبدا .
ثالثا: أن معاوية رضي الله عنه عندما تولى الخلافة بمبايعة الناس له واتفاقهم على ذلك, لم يتغير كبير شيء من أمر الناس فيما يتعلق بدينهم, فالشعائر الإسلامية كانت ظاهرة، والدين كان قائما، والأذان مرفوعا، والصلاة مقامة، والزكاة تجبى، والناس يصومون، وشعائر الحج تقام, وقد كان معاوية إذا لم يحج يرسل من يحج بهم, بل حتى الجهاد كان ماضيا, وبالذات قتال الروم, وقد اشترك معه جمع من الصحابة رضي الله عنهم في غزوة القسطنطينية، حتى أن أبا أيوب دفن تحت أسوار القسطنطنية بوصية منه عندما كان يقاتل الروم, وفي هذا أبلغ رد على من يطعن في معاوية رضي الله عنه, ولو كان الأمر كما يزعم هؤلاء لعطل معاوية رضي الله عنه هذه الشعائر ولمنع رفع الأذان وإقامة الصلاة والصيام, ولاستبدل الزكاة بالمكوس, ولم يقم الحج، ولما أرسل الجيوش للجهاد .
رابعا: أن معاوية رضي الله عنه في خلافه ونزاعه مع علي رضي الله عنه ومع استمرار القتال بينهما مدة لم يستعن بالروم, ولم يطلب منهم مناصرته على علي رضي الله عنه، والذي منعه من ذلك هو دينه وإسلامه, فكيف يستعين بالكافر على المسلم؟ وإلا فما الذي يمنعه مع حاجته لهذا الأمر سوى ذلك؟.
* * *
خامساً : فقهه وروايته للحديث .
لقد كان معاوية رضي الله عنه من أهل العلم من الصحابة، فقد وصفه حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس بأنه فقيه، كما سبق .
وأخرج الخلال في «السنة» (ص : 438) قال: أخبرنا محمد بن حطين قال: حدثنا محمد بن زنبور قال: قال الفضيل: أوثق عملي في نفسي حب أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح، وحبي أصحاب محمد عليهم السلام جميعاً، وكان يترحم على معاوية، ويقول: كان من العلماء من أصحاب محمد عليه السلام.(1/72)
قلت: وفضيل هو ابن عياض، وكان من أجلة الناس في زمانه، كان مشهوراً بالزهد والعبادة، وهو من طبقة أتباع التابعين.
ومما يدل على علمه وفقهه رضي الله عنه ما روي عنه من مسائل وفتاوى مشهورة منثورة في كتب أهل العلم، وسيأتي ذكر بعضها إن شاء الله، وقد ذكره ابن حزم ضمن مرتبة المتوسطين في الفتيا من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد كان رضي الله عنه صاحب رواية فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثون عنه .
فقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه «معرفة الصحابة» (5/2497) الصحابة والتابعين الذين روو عنه .
فقال رحمه الله: (حدث عنه من الصحابة: عبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وجرير والنعمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر وعبد الله بن الزبير (1) .
ومن التابعين : سعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعروة بن الزبير ومحمد بن الحنفية وعيسى بن طلحة وحميد بن عبد الرحمن وأبو سلمه بن عبدالرحمن وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد في آخرين ا. هـ.
وذكر ابن حزم أن له مائة وثلاثة وستين حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في رسالته «أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد» (277).
وذكر ابن الوزير اليماني في «العواصم والقواصم» أحاديث معاوية وتوسع في الكلام عليها ، وذكر خلاصة ذلك في كتابه «الروض الباسم»، وسوف يأتي بمشيئة الله ذكر كلامه .
ومن الأدلة التي تدل على علمه ما نقل عنه من فتاوى وقيامه بواجب الدعوة إلى الله تعالى وإنكار المنكر ، ومن ذلك:
__________
(1) رواية أبي سعيد الخدري وجرير كلتاهما عند مسلم, ورواية ابن عباس عنه في «الصحيحين» , وروى عنه أيضا من صغار الصحابة السائب بن يزيد, وروايته عنه عند مسلم.(1/73)
1- ما أخرجه البخاري ( 587 ) من طريق محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن أبي التياح قال سمعت حمران بن أبان يحدث عن معاوية رضي الله عنه قال : إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها ، ولقد نهى عنها . يعني الركعتين بعد العصر .
2- وقال البخاري (5932): حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عام حج وهو على المنبر وهو يقول - وقد تناول قصة من شعر كانت بيد حرسي - : أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا ويقول: «إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذا نساؤهم».
وأخرجه مسلم في «صحيحه» (2127).
3- وأخرج أحمد (4/96) من طريق ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة؟ فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم قمت في مقامي وصليت. فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، لا توصل بصلاة حتى تخرج أو تتكلم .
وأخرج مسلم (883) من طريق ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن عطاء به .
4- وأخرج الإمام أحمد في «المسند» (4/100) قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري حدثنا حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز، قال خرج معاوية فقاموا له فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار».
وأخرجه الترمذي (2755) من طريق قبيصة عن سفيان عن حبيب به. وقال: هذا حديث حسن.(1/74)
وقال الإمام أحمد في «مسنده» (4/93): حدثنا إسماعيل حدثنا حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز أن معاوية دخل بيتا فيه ابن عامر وابن الزبير, فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية: اجلس, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يمثل له العباد قياما, فليتبوأ بيتا في النار».
ورواه في موضع آخر (4/91) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن حبيب بنحوه.
5- وأخرج أبو داود في «سننه» (2074) قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبدالرحمن بن هرمز الأعرج أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخرجه أحمد في «المسند» (4/94) من طريق إبراهيم بن سعد به.
6_ وقال الإمام أحمد في «مسنده» (4/93): حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا حريز عن عبدالرحمن بن أبي عوف الجرشي عن معاوية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص لسانه – أو قال: شفته- يعني: الحسن بن علي صلوات الله عليه, وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7_ وقال الإمام أحمد في «مسنده» (4/94): حدثنا علي بن بحر حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبدالله بن العلاء عن أبي الأزهر عن معاوية أنه ذكر لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مسح رأسه بغرفة من ماء حتى يقطر الماء من رأسه أو كاد يقطر, وإنه أراهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما بلغ مسح رأسه, وضع كفيه على مقدم رأسه, ثم مر بهما حتى بلغ القفا, ثم ردهما حتى بلغ المكان الذي بدأ منه.
ذكر رواية بعض أهل البيت عن معاوية رضي الله عنه:(1/75)
وروايتهم عنه دالة على فضله وصدقهم عندهم, وقد سبق أن ابن عباس رضي الله عنهما ممن روى عنه رضي الله عنه, ومن الأحاديث التي رواها عنه:
قال عبدالله ابن الإمام أحمد في «زوائد المسند» (4/97): حدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
وأصل هذا الحديث رواه البخاري في «صحيحه» (1730) من حديث طاوس عن ابن عباس عن معاوية به.
وأيضا ممن روى عنه محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية), ومن الأحاديث التي رواها عنه:
قال الإمام أحمد (4/97): حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا عبدالله بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي ابن الحنفية عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العمرى جائزة لأهلها».
* * *
سادساً: جهاده رضي الله عنه.
لقد جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم وحضر معه بعض المشاهد.
قال ابن سعد في «الطبقات» (7/406): وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف.ا.هـ .
ومن أعماله الجهادية في فترة ولايته بالشام في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبعد توليه الخلافة ما يلي:
1ـ أنه طلب من عثمان رضي الله عنه أن يأذن له أن يغزو في البحر جهة قبرس، ففتح الله على يديه قبرس (1) .
وهذه الغزوة هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «أول جيش يغزو البحر قد أوجبوا».
__________
(1) وينطقها الناس الآن (قبرص) بالصاد .(1/76)
أخرج البخاري في «صحيحه» ( 2924 ) قال: حدثني إسحاق بن يزيد الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة أن عمير بن الأسود حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت رضي الله عنه- وهو نازل في ساحة حمص، وهو في بناءٍ له، ومعه أم حرام- قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا». قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا منهم؟ قال: «أنت منهم».
وقد جاء في البخاري (2799ـ 2800) من طريق الليث قال: حدثنا يحيى عن محمد بن حيان عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها... فذكره، وفيه: أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية. ا. هـ .
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/90): ومعاوية أول من ركب البحر من الغزاة وذلك في خلافة عثمان. ا.هـ .
وقد كان معاوية هو أمير هذا الجيش (1) .
2 ـ وقد كان في عهده أول حصار للقسطنطينية عام 49 هـ، وكان في الجيش الذي أرسله معاوية: ابن عباس وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري (2).
3 ـ وفي عام 54هـ كان الحصار الثاني للقسطنطينية بقيادة عبد الله بن قيس الحارثي التجيبي، وكان بمعونته فضالة بن عبيد، وقد استمر حصار المسلمين لها مدة سبع أو ست سنوات (3).
4 ـ وأما فتوحات شمال أفريقيا ، ففي عام 41هـ أمر معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه واليه على مصر بالغزو في شمال أفريقية ومناهضة البيزنطيين هناك، فجهز عمرو بن العاص رضي الله عنه عقبة بن نافع الفهري، فتمكن من فتح الكثير من البلاد هناك.
وفي عهده رضي الله عنه أسست مدينة «القيروان» قاعدة الفتح الإسلامي في شمال أفريقيا.
__________
(1) انظر: تاريخ ابن جرير (2/601)، وتاريخ دمشق لابن عساكر ( )، والبداية والنهاية (10/228) .
(2) انظر: تاريخ الأمم والملوك لابن جرير (3/206) .
(3) انظر: تاريخ الأمم والملوك لابن جرير (3/221 ) .(1/77)
5 ـ وفي عهده رضي الله عنه فتحت الكثير من بلاد خراسان وسجستان مثل: بست وخشك وكابل وغيرها .
وقد ابتدأ ذلك عام 42 ـ 43 هـ عندما عين عبد الله بن عامر بن كريز – وهو عامل معاوية رضي الله عنه - عين عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب على تلك النواحي، والجهاد لها.
وقد كانت مرو قاعدة الجهاد في تلك النواحي وكان عليها الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه.
* * *
سابعاً: إنكاره للمنكر رضي الله عنه.
لقد كان رضي الله عنه حريصاً على إتباع الكتاب والسنة، منكراً لما يخالفهما، ويبين ذلك ما روي عنه من مواقف تجلي هذا وتوضحه، وقد تقدم بعض ما ورد عنه في ذلك عند الحديث عن فقهه وروايته.
* * *
ثامناً: صدقه وتثبته.
ومما عرف به معاوية رضي الله عنه صدقه وعدم اتهامه فيما يرويه ويخبر به، وهذا أمر معروف عنه رضي الله عنه.
وأخرج الخلال في «السنة» ( ص: 447 ) : أن الإمام أحمد سئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له: رافضي؟ فقال رحمه الله: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء .ا.هـ .
وذكر الحافظ المزي في «تهذيب الكمال» (1/45): أن الحاكم أبو عبد الله قد روى بإسناد عن أبي الحسن علي بن محمد القابسي: قال سمعت أبا علي الحسن بن هلال يقول: سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن معاوية بن أبي سفيان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إنما الإسلام كدار لها باب؛ فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار. قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة.(1/78)
وقال أبو العباس ابن تيمية – كما في «الفتاوى» المجوعة له(35/66) - : وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان, ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ولا محاربيهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم, بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقين على أن هؤلاء صادقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم, مأمونون عليه في الرواية عنه, والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم, بل هو كاذب عليه, مكذب له. ا.هـ.
وقد كان رضي الله عنه يتثبت في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم, ومن الأمثلة على ذلك:
1_ قال الإمام أحمد في «مسنده» (4/99): حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن عبدالله بن عامر اليحصبي قال: سمعت معاوية يحدث وهو يقول: إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا كان على عهد عمر, وإن عمر رضي الله عنه كان أخاف الناس في الله عز وجل, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين».
وأخرجه مسلم في «صحيحه» (1037).
2_ وقال البخاري في «صحيحه» ( فتح- 13/333 ): وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.ا.هـ .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في «رده على المريسي» (364): (وادعى المعارض أيضا أنه سمع أبا الصلت يذكر أنه كان لمعاوية بن أبي سفيان بيت يسمى ببيت الحكمة , فمن وجد حديثا ألقاه فيه, ثم رويت بعد.(1/79)
فهذه الحكاية لم نعرفها ولم نجدها في الروايات, فلا ندري عمن رواها أبو الصلت, فإنه لا يأتي به عن ثقة, فقد كان معاوية معروفا بقلة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو شاء لأكثر إلا أنه كان يتقي ذلك, ويتقدم إلى الناس ينهاهم عن الإكثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى إنه كان ليقول: اتقوا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر, فإن عمر كان يخوف الناس في الله تعالى.
حدثناه ابن صالح عن معاوية بن صالح وساقه بإسناده.
وهذا طعن كثير من المعارض أنه كان يجمع أحاديث الناس عن غير ثبت, فيجعلها عن رسول الله, ولو استحل معاوية هذا المذهب لافتعلها من قبل نفسه ونحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان يقبل منه لما أنه عرف بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يكن ينحله قول غيره من عوام الناس!
ويدلك قلة رواية معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكان كاتبه – على تكذيب ما رويتَ عن أبي الصلت, فإن كنت صادقا فاكشف عن إسناده, فإنك لا تسنده عن ثقة) ا.هـ .
وقد ذكر العلامة ابن الوزير أحاديث معاوية رضي الله عنه وبين أنه لم ينفرد بها فقال في «العواصم والقواصم» (3/163): (وبعد هذه القواعد أذكر لك ما يصدقها من بيان أحاديث معاوية رضي الله عنه في «الكتب الستة» لتعرف ثلاثة أشياء: عدم انفراده فيما روى، وقلة ذلك، وعدم نكارته.(1/80)
ثم ذكر أحاديث معاوية رضي الله عنه، وبين من تابع معاوية من الصحابة على روايتها، ثم قال (3/207): (فهذا جميع ما لمعاوية في «الكتب الستة» و«مُسند أحمد» حسب معرفتي، وجملتها ستون حديثاً ما صح عنه وما لم يصح، المتفق على صحته عنه أربعة ...) إلى أن قال: (وهو مُقلٌّ جدا بالنظر إلى طول مُدّته، وكثرة مُخالطته، وليس فيما يصحُّ عنه بوفاق شيء يوجب الريبة والتهمة، ولا فيما رواه غيره من أصحابه، فبان أن الأمر قريب، من قبل حديثهم ، فلم يقبل منه حديثا منكراً ...) إلى آخر ما قال رحمه الله .
وقال رحمه الله في «الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (2/523 ـ 543): (الطائفة الثالثة: معاوية والمغيرة وعمرو بن العاص، ومن تقدم ذكره في الأوهام، فإن كثيراً من الشيعة ذكروا أنها ظهرت على هؤلاء الثلاثة قرائن تدلّ على التأويل، وقدحوا بتصحيح حديثهم في حديث الكتب الصّحاح كالبخاري ومسلم.
وأما أهل الحديث فمذهبهم أنهم من أهل التأويل والاجتهاد والصدق، لكونهم أظهروا التأويل فيما يحتمله، وعلم البواطن محجوب عن الجميع، وبين الفريقين في هذا ما لا يتسع له هذا «المختصر» ، والقصد : مجرد تصحيح الحديث الصحيح، والذب عنه لا غيره فيما بين أهل المذهبين، وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصحيح بالطرق التي يتفق الفريقان على صحتها أو يتفقون على قواعد تستلزم صحتها، كما يعرف ذلك من تأمل هذا الكتاب كله، وفي هذا الموضع لم أجد طريقاً قريبة مجمعاً عليها إلا طريقاً واحدة، وهي: بيان صدق هؤلاء المذكورين في روايتهم بشهادة من لم تجرحه الشيعة من الصحابة لهم بصحة الرواية في كل حديث على التعيين، خاصة في أحاديث الأحكام المعتمدة في معرفة الحلال والحرام.
فأما أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص ونحوهم ممن لم يصح عنه حرب لعلي ـ رضي الله عنه ـ ولا سب؛ فقد تقدم الجواب عما ذكر المعترض فيهم.(1/81)
وأما هؤلاء الثلاثة المذكورون فهم الذين أذكر هنا ما يدل على صحة حديثهم، وأقتصر على ما يتعلق بالأحكام من ذلك اختصاراً، وذلك يتم بذكر ما لهم من الأحاديث المتعلقة بالأحكام، وما لأحاديثهم من الشواهد المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونشير إلى ذلك على أقل ما يكون من الاختصار المفيد ـ إن شاء الله تعالى ـ فنقول :
المروي في «الكتب الستة» من طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثاً.
الأول: حديث تحريم الوصل في شعور النساء، رواه عنه البخاري ومسلم وغيرهما، ويشهد لصحته رواية أسماء لذلك وعائشة وجابر.
أما حديث أسماء فخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
وأما حديث عائشة فخرجه البخاري ومسلم والنسائي أيضاً.
وأما حديث جابر فخرجه مسلم.
الثاني: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» أخرجه عنه البخاري ومسلم.
وقد رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص.
ورواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان.
ورواه الترمذي عن معاوية بن قرة.
ورواه أبو داود عن عمران بن حصين.
الثالث: حديث النهي عن الركعتين بعد العصر، رواه البخاري عنه.
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أم المؤمنين أم سلمه.
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يضرب من يفعل ذلك، ولم ينكر ذلك من فعله فجرى مجرى الإجماع، وهو قول طوائف من أهل العلم.
الرابع: حديث النهي عن الإلحاف في المسألة، رواه عنه مسلم.
ورواه البخاري ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمر.
وأبو داود والترمذي والنسائي عن سمرة بن جندب.
والنسائي عن عائد بن عمرو.
والبخاري عن الزبير بن العوام.
والبخاري ومسلم ومالك في «الموطأ» والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
وأبو داود والنسائي عن ثوبان.
ومالك « في الموطأ » عن عبد الله بن أبي بكر.
والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن حكيم بن حزام.
وأبو داود والنسائي عن ابن الفراسي عن أبيه.
الخامس: «إن هذا الأمر لا يزال في قريش» رواه عنه البخاري.(1/82)
ورواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر.
وروى مسلم نحوه عن جابر بن عبد الله.
ورواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
السادس: حديث جلد شارب الخمر وقتله في الرابعة، رواه عنه أبو داود والترمذي.
وأما جلده فمعلوم من الدين ضرورة، والأحاديث فيه كثيرة مأثورة، وأما قتله في الرابعة فرواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة.
ورواه أبو داود عن قبيصة بن ذؤيب، وعن نفر من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ .
ورواه الإمام الهادي يحيي بن الحسين في «كتاب الأحكام» ولكن هذا الحكم منسوخ عند كثير من أهل العلم.
السابع: حديث: «النهي عن لباس الحرير والذهب، وجلود السّباع». رواه عنه أبو داود والنسائي، والترمذي بعضه بغير لفظه، فأما شواهد تحريم لباس الحرير والذهب فأشهر من أن تذكر.
وأما جلود السباع: فله عليه شاهد عن أبي المليح، خرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
الثامن: حديث افتراق الأمة إلى نيّف وسبعين فرقة، رواه عنه أبو داود.
وروى الترمذي مثله عن ابن عمرو.
وروى الترمذي وأبو داود مثله عن أبي هريرة.
التاسع: النهي عن سبق الإمام بالركوع والسجود، رواه عنه أبو داود وابن ماجه.
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، ومالك في الموطأ عنه ـ أيضاً ـ .
ومسلم والنسائي عن أنس.
العاشر: النهي عن الشِّغار، رواه عنه أبو داود.
وقد رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، وهو مشهور عن غير واحد من الصحابة، ومجمع على القول بمقتضاه.
الحادي عشر: أنه توضأ كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، وليس فيه ما يحتاج إلى شاهد إلا زيادة صبّ الماء على الناصية والوجه.
وقد رواه أبو داود عن علي ـ رضي الله عنه ـ .
الثاني عشر: النهي عن النّوح، رواه عنه ابن ماجه، وهو أشهر من أن يحتاج إلى ذكر شواهده.
الثالث عشر: النهي عن الرّضا بالقيام، رواه عنه الترمذي وأبو داود، وله شواهد: في الترمذي عن أنس، وفي سنن أبي داود عن أبي أمامة.(1/83)
وفي كتاب «الترخيص في القيام» للنووي عنهما، وعن أبي بكرة، وصحح حديث أنس.
الرابع عشر: النهي عن التمادح، رواه عنه ابن ماجه.
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي بكرة.
والبخاري ومسلم عن أبي موسى.
ومسلم والترمذي وأبو داود عن عبد الله بن سخبرة عن المقداد بن الأسود.
والترمذي عن أبي هريرة.
الخامس عشر: تحريم كل مسكر، رواه عنه ابن ماجه.
ورواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عمر.
ومسلم والنسائي عن جابر.
وأبو داود عن ابن عباس، والنسائي عنه أيضاً.
السادس عشر: حكم من سها في الصلاة، رواه عنه النسائي، وله شاهد في «سنن أبي داود» عن ثوبان.
السابع عشر: النهي عن القران بين الحج والعمرة، رواه عنه أبو داود.
وله شاهد عن ابن عمر، رواه مالك في «الموطأ» مرفوعاً.
وعن عمر وعثمان رواه مسلم موقوفاً عليهما.
الثامن عشر: أنه قصر للنبي صلى الله عليه وسلم بمشقص بعد عمرته صلى الله عليه وسلم، وبعد حجّه، رواه عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
وله شواهد عن علي خرجه مسلم.
وعن عثمان ـ رضي الله عنه ـ في مسلم أيضاً.
وعن سعد بن أبي وقاص رواه مالك في «الموطأ» والنسائي والترمذي وصححه.
ورواه النسائي عن ابن عباس عن عمر.
والترمذي عن ابن عمر.
والبخاري ومسلم عن عمران بن الحصين.
وروى الترمذي والنسائي: أن معاوية لما روى هذا الحديث، قال ابن عباس: هذه على معاوية؛ لأنه ينهى عن المتعة.
التاسع عشر: ما روى عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه، ما لم ير فيه أذى، رواه أبو داود والنسائي.
ويشهد لمعناه أحاديث كثيرة، منها:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان يصلي في نعليه ما لم ير بهما أذى، رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن يزيد، ورواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري.(1/84)
ويشهد لذلك حديث: «فلا ينصرفنّ حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً» وهو متفق على صحته، إلى أشباه لذلك كثيرة تدل على جواز الاحتجاج بالاستصحاب للحكم المتقدّم، وعلى ذلك عمل العلماء في فطر يوم الشك من آخر شعبان، وصوم يوم الشك من آخر رمضان.
الموفي عشرين حديثاً: نهى من أكل الثوم أو البصل عن دخول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من روايته عن أبيه، وله شواهد كثيرة:
فرواه البخاري ومسلم ومالك في «الموطأ» عن جابر بن عبد الله.
والبخاري ومسلم عن أنس.
ومسلم ومالك في «الموطأ» عن أبي هريرة.
وأبو داود عن حذيفة والمغيرة.
والبخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر.
والنسائي عن عمر.
ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد.
وأما النهي عن هاتين الشجرتين مطلقاً من غير تقييده بدخول المسجد، فرواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله، وأبو داود والترمذي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ .
الحادي والعشرون: حديث: «هذا يوم عاشوراء لم يكتب عليكم...» رواه عنه البخاري ومسلم ومالك والنسائي.
وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس ما يشهد لصحة معناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشار إليه، بعد سؤاله عن سبب صوم اليهود له: «فأنا أحق بموسى»، وقوله: صلى الله عليه وسلم «فنحن نصومه تعظيماً له» .
الثاني والعشرون: حديث: «لا تنقطع الهجرة» رواه عنه أبو داود، ولم يصح عنه، قال الخطابي: في إسناده مقال، وله شاهد رواه النسائي عن عبد الله بن السّعدي.
الثالث والعشرون: حديث النهي عن لباس الذهب إلا مقطعاً، رواه عنه أبو داود، وله شاهد عن جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي.
الرابع والعشرون: النهي عن المغلوطات، قال الخطّابي : الأغلوطات.
ولم يصح عنه، في إسناده مجهول، مع أنّ أبا السّعادات ابن الأثير، روى في «جامع الأصول» له شاهداً عن أبي هريرة.
وفي البخاري عن أنس: «نهينا عن التكلف»، وهذا يشهد لمعناه.(1/85)
الخامس والعشرون: حديث الفصل بين الجمعة والنافلة بعدها بالكلام أو الخروج، رواه عنه مسلم.
وله شاهد في البخاري ومسلم عن ابن عمر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن أبي مسعود الزرقي نحو ذلك في حق الإمام.
السابع والعشرون (1) : حديث: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الشرك بالله وقتل المؤمن», رواه عنه النسائي.
وله شاهد عن أبي الدرداء رواه أبو داود، وله شاهد في كتاب الله تعالى.
الثامن والعشرون: رواه عنه أبو داود حديث: «اشفعوا تؤجروا» وهو حديث معروف، رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى، وفي القرآن ما يشهد لمعناه، وهو مجمع على مقتضاه.
التاسع والعشرون: كراهة تتبع عورات الناس، رواه عنه أبو داود، وله شواهد:
في الترمذي عن ابن عمر وحسنه.
وفي «سنن أبي داود» عن أبي برزة الأسلمي، وعقبة بن عامر، وزيد بن وهب.
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة.
الموفي ثلاثين حديثاً: حديث: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» رواه عنه البخاري، وله شاهدان: عن ابن عباس وأبي هريرة، ذكرهما الترمذي في «الجامع»، وصحح حديث ابن عباس.
فهذه عامة أحاديث معاوية التي هي صريحة في الأحكام أو يستنبط منها حكم، وهي موافقة لمذهب الشيعة والفقهاء، وليس فيها ما لم يذهب إليه جماهير العلماء، إلا قتل شارب الخمر في الرابعة لأجل النسخ، وقد رواه إمام الزيدية كما قدمنا، وقد وافقه ثقات الصحابة فيما روى.
فأعجب لمن يشنع على أهل الصحاح برواية هذه الأحاديث، وإدخالها في الصحيح!!.
وله غير هذه أحاديث يسيرة شهيرة تركنا إيرادها وإيراد شواهدها اختصاراً، ونشير إليها إشارة لطيفة ليعرف ما هي، وذلك حديثه في فضل المؤذنين، وفضل إجابة المؤذن، وفضل حلق الذكر، وليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وفضل حب الأنصار وفضل طلحة، وتاريخ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة.
__________
(1) كذا في الأصل , وسقط ذكر الحديث السادس والعشرون.(1/86)
وحديث: «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» وقد رواه مسلم عن علي رضي الله تعالى عنه.
وحديث: «الخير عادة والشر لجاجة»، و «لم يبق في الدنيا إلا بلاء وفتنة»، و«إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه» .
وفيمن نزل: {والذين يكنزون الذهب والفضة} [ التوبة : 34 ] .
وأثران موقوفان عليه: في ذكر كعب الأحبار، وفي تقبيل الأركان كلها.
فهذا جملة ماله في جميع دواوين الإسلام الستة، لا يشذ عني من ذلك شيء، إلا ما لا يعصم عنه البشر من السهو، وليس في حديثه ما ينكر قط، على أن فيها ما لم يصح عنه أو ما في صحته عنه خلاف، وجملة ما اتفق على صحته عنه منها كلها في الفضائل والأحكام: ثلاثة عشر حديثاً؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة.
وهذا دليل صدق أهل ذلك العصر، وعدم انحطاطهم إلى مرتبة الكذابين خذلهم الله تعالى، ولو لم يدل على ذلك إلا أن معاوية لم يرو شيئاً قط في ذم علي ـ رضي الله عنه ـ ، ولا في استحلال حربه، ولا في فضائل عثمان، ولا ذم القائمين عليه، مع تصديق جنده له، وحاجته إلى تنشيطهم بذلك فلم يكن منه في ذلك شيء على طول المدة، لا في حياة علي ولا بعد وفاته، ولا تفرد برواية ما يخالف الإسلام ويهدم القواعد، ولهذا روى عن معاوية غير واحد من أعيان الصحابة والتابعين، كعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وأبي صالح السمان، وأبي إدريس الخولاني، وأبي سلمه بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، وخلق كثير.(1/87)
وروى عن هؤلاء عنه أمثالهم، وإنما ذكرت هذا ليعرف أن المحدثين لم يختصوا برواية حديثه، فإن من المعلوم أنهم لا يقبلون من الحديث إلا ما اتصل إسناده برواية الثقات، فلولا رواية ثقات كل عصر لحديثه عن أمثالهم لم يصح للمحدثين أنه حديثه، ولو لم يصح لهم أنه حديثه لم يرووه عنه في الكتب الصحيحة، وإنما ذكرت هذا على سبيل الاستئناس، والعمدة في الحجة ما قدمته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قبلت الشيعة المعتزلة ما هو أعظم من قبوله على أصولهم، وهو مرسل الثقة، فإنه مقبول عندهم على الإطلاق، فقبلوا بذلك أحاديث معاوية وهم لا يشعرون! بل فقبلوا موضوعات كثيرة رواها بعض ثقاتهم بسلامة صدر عن بعض من لم يعرف من المجاهيل، أو طبقات المجروحين.
ومن قبل مرسل الثقة على الإطلاق دخل ذلك عليه من حيث لا يدري، فإن من الثقات من يقبل المجاهيل، وفيهم من يقبل كفار التأويل، وفيهم من هو كافر تأويل عند جمهور المعتزلة والشيعة، وفيهم من يقبل الفاسق المصرح إذا عرف بالصدق والأنفة من الكذب، ولقد روي هذا عن الإمام الأعظم أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ كما قدمنا ذكر ذلك.
وقبول المرسل على هذه الصفة أعظم مفسدة، وأدخل في قبول الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للعاقل أن ينظر في عيب القريب وعيب الصديق، كما ينظر في عيب الخصم والبعيد ، نسأل الله التوفيق لذلك آمين آمين) ا.هـ.
* * *
فصل
في ذكر بعض الحكايات والأخبار
هذه بعض الحكايات والأخبار المنتقاة جاءت عن معاوية رضي الله عنه, وقد ذكرتها لأنه في الغالب عندما يذكر معاوية يقتصر على ذكر ما حصل في زمنه من الفتن، وتغفل الجوانب الأخرى في سيرته رضي الله عنه (1).
__________
(1) بعض هذه الأخبار لا تثبت من جهة الإسناد, ولكن من المعلوم أن مثل هذه الأخبار يتساهل فيها.(1/88)
1_ قال أبو عيسى الترمذي في «جامعه» (2414): حدثنا سويد بن نصر أخبرنا عبد الله بن المبارك عن عبد الوهاب بن الورد عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي. فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس»، والسلام عليك.
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية ...فذكر الحديث بمعناه، ولم يرفعه ا.هـ .
قلت: والراجح فيه الوقف.
2_ وقال معمر في «جامعه» – المطبوع مع «مصنف عبدالرزاق» (20717) -: عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن قال: حدثني المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية، قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال: سلمت عليه - ثم قال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ قال: قلت: ارفضنا من هذا، أو أحسن فيما قدمنا له. قال: لتكلمن بذات نفسك. قال: فلم أدع شيئا أعيبه به إلا أخبرته به. قال: لا أبرأ من الذنوب، فهل لك ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟! قال: قلت: نعم. قال: فما يجعلك أحق بأن ترجو المغفرة مني؟! فوالله لما ألي من الإصلاح بين الناس, وإقامة الحدود, والجهاد في سبيل الله, والأمور العظام التي تحصيها, أكثر مما تلي، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو فيه عن السيئات، والله مع ذلك ما كنت لأخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على ما سواه. قال: ففكرت حين قال لي ما قال، فوجدته قد خصمني! فكان إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.(1/89)
3_ وروى ابن عساكر في «تاريخه» (62/384) من طريق أبي زرعة عن يحيى بن معين عن غندر عن شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا، قال: فأرسل معي معاوية، فقال: أعطها إياه. أو قال: اعلمها إياه. قال: فقال لي معاوية: أردفني خلفك. فقلت: لا تكون من أرداف الملوك. قال: فأعطني نعلك. قلت: انتعل ظل الناقة. قال: فلما استخلف معاوية أتيته، فأقعدني معه على السرير، وذكرني الحديث. قال سماك: قال: فوددت أني كنت حملته بين يدي.
4_ وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (5/190) (1): (وقال ابن لهيعة: حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال:{وآتيناه من كل شيء سببا}.
__________
(1) وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (5/450) إلى «تفسير ابن أبي حاتم».(1/90)
وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب. يعني: فيما ينقله،لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه، ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير، وفساد عريض، وتأويل كعب قول الله:{وآتيناه من كل شيء سببا}، واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي في أسباب السماوات، وقد قال الله في حق بلقيس:{وأوتيت من كل شيء} أي: مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، - أي: الطرق والوسائل - إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي، وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا، والله أعلم) ا.هـ.
5_ وقال البخاري في «الأدب المفرد» (564): حدثنا فروة بن أبى المغراء قال: حدثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كنت جالسا عند معاوية، فحدث نفسه ثم انتبه، فقال: لا حلم إلا بتجربة. يعيدها ثلاثا.
وقد كان معاوية رضي الله عنه مضرب مثل في الحلم حتى أن ابن أبي دنيا ألف مصنفا في حلم معاوية، وكذا ابن أبي عاصم.
6_ وقال أبو بكر الدينوري في كتاب «المجالسة وجواهر العلم» (2140): حدثنا أحمد حدثنا محمد بن موسى حدثنا محمد بن الحارث عن المدائني قال: نظر معاوية إلى ابنه وهو يضرب غلاما له, فقال له: أتفسد أدبك بأدبه؟! فلم ير ضاربا غلاما له بعد ذلك.(1/91)
7_ وقال أبو بكر الدينوري في كتاب «المجالسة وجواهر العلم» (801): حدثنا محمد بن موسى البصري حدثنا أبو زيد عن أبي سفيان بن العلاء أخي عمرو بن العلاء قال: قال معاوية: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في «الحلم» (32) وفي «الإشراف في منازل الأشراف» (337) عن عمر بن عبدالملك البصري قال: سمعت العلاء قال: قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر النعم.
وأخرجه البلاذري في «أنساب الأشراف» (5/32) عن المدائني قال: قال معاوية ... وذكره.
8_ وقال أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (1/231): حدثني يحيى بن صالح قال: حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن أبي يوسف الحاجب قال: قدم أبو موسى الأشعري, فنزل بعض الدور بدمشق فكان معاوية يخرج ليلاً يستمع قراءته.
9_ وقال أبو زرعة أيضا في «تاريخه» (1/223): حدثنا أبو مسهر قال: حدثنا سعيد أن فضالة بن عبيد توفي في خلافة معاوية. قال : فحمل معاوية سريره, وقال لابنه عبدالله: أعقبني أي بني, فإنك لن تحمل بعده مثله.
10 _ وقال أبو زرعة أيضا في «تاريخه» (1/593): وحدثني أحمد بن شبويه قال: حدثنا سليمان بن صالح قال: حدثني عبدالله بن المبارك عن جرير بن حازم عن عبدالملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال: قدمت على معاوية فرفعت إليه حوائجي فقضاها, قلت: لم تترك لي حاجة إلا قضيتها, إلا واحدة فأصْدِرها مصدرها. قال: وما هي؟ قلت: من ترى لهذا الأمر بعدك؟ قال: وفيم أنت من ذاك؟ قلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ والله إني لقريب القرابة, وادُّ الصدر عظيم الشرف. قال: فوالي بين أربعة من بني عبد مناف. ثم قال: أما كرمة قريش: فسعيد بن العاص, وأما فتاها حياءً وحلماً وسخاءً فابن عامر, وأما الحسن بن علي فسيد كريم، وأما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وأما عبدالله بن عمر فرجل نفسه, وأما الذي يرد ورود كذا, ويروغ رواغ الثعلب فعبدالله بن الزبير.(1/92)
11_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (1/303): حدثني أبو يوسف حدثني عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن عثمان عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: سمعت معاوية سأل زيد بن أرقم: أشهدت مع رسول صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم.[قال ]: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: «من شاء أن يصلي فليصل».
12_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (1/338-339):حدثنا أبو يوسف حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد حدثنا أبي حدثنا ابن جابر حدثني ربيعة بن يزيد قال: قدم أبو كبشة السلولي دمشق في ولاية عبدالملك، فقال له عبدالله بن عامر: ما أقدمك؟ لعلك قدمت تسأل أمير المؤمنين شيئاً؟ قال: و أنا أسأل أحداً شيئاً بعد الذي حدثني سهل بن الحنظلية؟! قال عبد الله بن عامر: وما الذي حدثك؟ قال: سمعته يقول: قدم على رسول الله عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فسألاه, فدعا معاوية فأمره بشيء لا أدري ما هو, فانطلق معاوية فجاء بصحيفتين, فألقى إلى عيينة بن بدر أحدهما –وكان أحلم الرجلين – فربطها في يد عمامته، وألقى الأخرى إلى الأقرع بن حابس، فقال لمعاوية: ما فيها؟ فقال: فيها الذي أمر به. قال: بئس وافد قومي إن أنا أتيتهم بصحيفة أحملها لا أعلم ما فيها كصحيفة المتلمس, قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل على رجل يحدثه، فلما سمع مقالته أخذ الصحيفة ففضها فإذا فيها الذي أمر به فألقاها, ثم قام وتبعه حتى مر بباب المسجد فإذا بعير مناخ، فقال: أين صاحب البعير؟ فابتغي فلم يوجد، فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم، واركبوها صحاحاً وكلوها صحاحاً»، ثم تبعته حتى دخل منزله، فقال كالمتسخط آنفاً: «إنه من يسأل الناس عن ظهر الغنى فإنما يستكثر من جمر جهنم». فقلت: يا رسول الله وما ظهر الغنى؟ قال: «أن تعلم أن عند أهلك ما يغديهم أو يعشيهم». قال: فأنا أسأل أحداً شيئاً بعد هذا؟!(1/93)
13_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (1/367-368): حدثنا أبو اليمان أخبرني شعيب (ح)، وحدثنا الحجاج أخبرني جدي عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان -وهو بالمدينة- يقول في خطبته: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا اليوم: «هذا اليوم عاشوراء، ولم يكتب الله صيامه عليكم وأنا صائم, فمن أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر».
14_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (1/413): حدثني أبو سعيد عبدالرحمن وسليمان بن عبدالرحمن قالا: ثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبدالرحمن بن نمر عن الزهري أخبرني خالد بن عبدالله بن رباح السلمي أنه صلى مع معاوية يوم طعن بإيلياء ركعة، وطعن معاوية حين قضاها فما زاد أن يرفع رأسه من سجوده، فقال معاوية للناس: أتموا صلاتكم. فقام كل امرئ فأتم صلاته, لم يقدم أحداً ولم يقدمه الناس.(1/94)
15_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (1/458): حدثنا أبو بكر قال: حدثنا سفيان قال: حدثني طلحة بن يحيى قال: حدثتني جدتي سُعدى بنت عوف المُرية قالت: دخلت على طلحة بن عبيد الله يوماً وهو حائر، فقلت له: مالي أراك حائراً، أرابك شيء من أهلك فنعتبك؟ فقال: ما رابني منك ريب، ولنعم حليلة المرء المسلم أنت, إلا أنه اجتمع في بيت المال مال كثير غمني. قالت: فقلت: وما يمنعك منه؟! أرسل إلى قومك واقسمه بينهم. قالت: فأرسل إلى قومه فقسمه بينهم. قالت سعدى: فسألت الخازن: كم كان؟ قال: أربع مائة ألف. ثم رجع إلى حديث قبيصة بن جابر قال: وصحبت معاوية بن أبي سفيان فما رأيت رجلاً أثقل حلما، ولا أبطأ جهلا، ولا أبعد أناة منه, وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أنصع –أو قال: أبين – طرفاً، ولا أحلم جليساً منه, وصحبت زياداً فما رأيت رجلاً أخصب رفيقاً، ولا أكرم جليساً، ولا أشبه سريرة بعلانية منه، وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها.
16_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (2/380-381): حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر الخبائري: أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون, فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس, فأقبل يتخطى الناس، فأمر معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه, فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله, فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم, فما كان أوشك إن فارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقينا حتى كاد الناس ألا يبلغوا منازلهم.(1/95)
17_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (2/221): وحدثنا سعيد بن أسد حدثنا ضمرة عن علي بن أبي حملة قال: أصاب الناس قحط بدمشق، وعلى الناس الضحاك بن قيس الفهري، فخرج بالناس يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فلم يجبه أحد، ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟فم يجبه أحد، ثم قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ عزمت عليه إن كان يسمع كلامي إلا قام. فقام عليه برنس، واستقبل الناس بوجهه ورفع جانبي برنسه على عاتقيه, ثم رفع يديه، ثم قال: أي رب، إن عبادك قد تقربوا بي إليك فاسقهم. قال: فانصرف الناس وهم يخوضون الماء. فقال: اللهم إنه قد شهرني فأرحني منه. قال: فما أتت عليه إلا جمعة حتى قتل الضحاك.
وبه قال: حدثنا سعيد أن معاوية قضى عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار.
18_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (2/479): حدثني العباس قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي قال: كان معاوية بن أبي سفيان أول ما اعتذر إلى الناس في الجلوس في الخطبة الأولى في الجمعة, ولم يضع ذلك إلا لكبر سنه وضعفه.
19_ وقال يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (3/373): أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أبنا عبدالله بن جعفر ثنا يعقوب بن سفيان ثنا سليمان ثنا عمر بن علي بن مقدم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: دخلت على معاوية فقال لي: ما فعل المسلول؟ قال: قلت: هو عندي. فقال: أنا والله خططته بيدي، أَقْطَعَ أبو بكر الزبير - رضي الله عنه - أرضاً، فكنت أكتبها، قال: فجاء عمر، فأخذ أبو بكر مني الكتاب فأدخله في ثني الفراش، فدخل عمر - رضي الله عنه - ، فقال: كأنكم على حاجة؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : نعم. فخرج، فأخرج أبو بكر الكتاب فأتممته.(1/96)
... 20 _ قال أبو داود في «سننه» (2753): حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر – رجل من حمير – قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد, وكان يسير نحو بلادهم, حتى إذا انقضى العهد غزاهم, فجاء رجل على فرس - أو برذون - وهو يقول: الله أكبر, الله أكبر, وفاء لا غدر, فنظروا، فإذا عمرو بن عبسة, فأرسل إليه معاوية، فسأله, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها, أو ينبذ إليهم على سواء». فرجع معاوية.
ورواه أحمد (4/111) والترمذي (1580) وقال: حديث حسن صحيح ا.هـ.
ولكن قال أبو حاتم – كما في «المراسيل» لابنه (310)- : سليم بن عامر لم يدرك عمرو بن عبسة.
21_ وقال أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (1/199): حدثني عبدالرحمن بن إبراهيم عن الوليد بن مسلم عن خالد بن يزيد عن أبيه: أن أبا الدرداء كان يلي القضاء بدمشق, فلما حضرته الوفاة، قال له معاوية: من ترى لهذا الأمر؟ قال: فضالة بن عبيد, فلما مات أرسل معاوية إلى فضالة فولاه القضاء، فقال له: أما أني لم أحبك بها, ولكني أستترت بك من النار, فاستتر.
* * *
فصل
في ذكر الحديث الصحيح: «تقتل عمَّار الفئة الباغية»
والجمع بينه وبين النصوص الأخرى
قال البخاري في «صحيحه» ( ج3/ص : 103 ) رقم ( 2657) : حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عبد الوهاب حدثنا خالد عن عكرمة أن ابن عباس قال له ولعلي بن عبد الله: ائتيا أبا سعيد فاسمعا من حديثه، فأتيناه - وهو وأخوه في حائط لهما يستقيانه - فلما رآنا جاء فاحتبى وجلس، فقال: كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح عن رأسه الغبار، وقال:«ويح عمار تقتله الفئة الباغية! عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار!».(1/97)
وأخرجه مسلم (2915) من طريق أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمَّار - وجعل يمسح رأسه - ويقول: «بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية».
وروى مسلم ( 2916 ) قال: حدثني محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا محمد بن جعفر (ح)، وحدثنا عقبة بن مكرم العمي وأبو بكر بن نافع - قال عقبة: حدثنا، وقال أبو بكر: أخبرنا - غندر حدثنا شعبة قال: سمعت خالداً يحدِّث عن سعيد بن أبي الحسن عن أمِّه عن أمِّ سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية».
قلت: هذا الحديث حديث صحيح, بل هو متواتر كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم (1)، ومعنى هذا الخبر واضح لا يحتاج إلى شرح, وهو أن عليا رضي الله عنه هو الذي كان أقرب إلى الحق, وأن عمارا رضي الله عنه تقتله الفئة الباغية, كما هو نص الحديث, وهذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيب وأعلام نبوته, وقد وقع هذا الأمر كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم, ولكن لا بد من ضم هذا النص إلى النصوص الأخرى في هذا الباب التي تبين صحة إسلام معاوية وصحبته وفضله رضي الله عنه، وقد تقدم ذكر بعضها.
__________
(1) قال أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله تعالى في «الاستيعاب» (مع الإصابة 2/481): ( وتواترت الآثار عن النبي ? أنه قال: «تقتل عمار الفئة الباغية» وهو من أصح الأحاديث) ا.هـ , وقال ابن دحية في «أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهلي صفين» (82) – بعد أن ذكر هذا الحديث : (وقد تواتر الحديث) , وقال أبو عبدالله الذهبي في «السير» 1/421 – بعد أن ذكر طرق الحديث - : ( وفي الباب عن عدة من الصحابة فهو متواتر ) ا.هـ , وقال أبو الفضل ابن حجر في «الإصابة» 2/512: ( وتواترت الأحاديث ...)ا.هـ وقد ساق طرقه ابن عساكر في «تاريخه».(1/98)
وقد قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] .
وأخرج البخاري (2924) من طريق خالد بن معدان أن عمير بن الأسود حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت رضي الله عنه- وهو نازل في ساحة حمص، وهو في بناءٍ له ومعه أم حرام-، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا» قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا منهم؟ قال:«أنت منهم».
وقد جاء في البخاري ( 2799ـ 2800) من طريق الليث قال: حدثنا يحيى عن محمد بن حيان عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها، فذكره وفيه: «أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية» ا. هـ .
قال أبو الفضل ابن حجر في «الفتح» (6/18): كان ذلك في ثمان وعشرين في خلافة عثمان ا.هـ .
وقال أيضا ( 6/77 ): وروى ابن وهب في «موطآته» عن ابن لهيعة عمن سمع قال: ومعاوية أول من ركب البحر للغزاة, وذلك في خلافة عثمان ا.هـ .
وقال عبدالرزاق في «مصنفه» (9629): عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن امرأة حذيفة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: تضحك مني يا رسول الله؟! قال: «لا، ولكن من قوم من أمتي يخرجون غزاة في البحر، مثلهم كمثل الملوك على الأسرة». ثم نام، ثم استيقظ أيضا فضحك، فقلت: تضحك مني يا رسول الله؟! فقال: «لا، ولكن من قوم يخرجون من أمتي غزاة في البحر، فيرجعون قليلة غنائمهم، مغفورا لهم». قالت: ادع الله لي أن يجعلني منهم. قال: فدعا لها.
قال: فأخبرنا عطاء بن يسار، قال: فرأيتها في غزاة غزاها المنذر بن الزبير إلى أرض الروم وهي معنا، فماتت بأرض الروم .(1/99)
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات, ولا شك أن الذي في «الصحيح» أصح وإن كان بمعناه, وقد صححه ابن حجر على شرط الصحيح، ولكنه فرق بين القصتين وأطال في ذلك ( ينظر: الفتح6283)، والأقرب أنهما قصة واحدة.
قلت: وبضم النصوص بعضها إلى البعض الآخر اتضحت هذه المسألة, وقد تكلم بعض أهل العلم على هذه القضية وذكروا بعض ما تقدم (1):
1ـ قال يعقوب بن شيبة في «مسنده» - في المكيين، في مسند عمار بن ياسر، لما ذكر أخبار عمار -: سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار:«تقتلك الفئة الباغية»، فقال أحمد: قتلته الفئة الباغية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: في هذا غير حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا ا.هـ من «منهاج السنة النبوية» (4/414).
__________
(1) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (3/189) ط.دار المنهاج.(1/100)
2ـ وقال أبو محمد ابن حزم في «الفصل» (): (وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته؛ لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره، لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجبة طاعته، فعلي المصيب في هذا، ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان، والكلام فيه من ولد عثمان، وولد الحكم ابن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت، وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر، وروي: الكبر الكبر، فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابني مسعود، وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه، فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه، وأضاف في ذلك الأثر الذي ذكرنا، وإنما أخطأ في تقديم ذلك على البيعة فقط، فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة، كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجرين.
ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء، وفي الفروج، والأبشار، والأموال، والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وإيجاب، ويعذر المخطئين في ذلك، ويرى ذلك مباحا لليث، وأبي حنيفة، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وداود، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم، كزفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وابن القاسم، وأشهب، وابن الماجشون، والمزني، وغيرهم.
فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان، وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل، أو عمل عمل قوم لوط، وغير هذا كثير.(1/101)
وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه، كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها، وغير هذا كثير.
وكذلك في الشرائع والأموال والأبشار.
وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم، وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم.
ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل، والعلم والتقدم والاجتهاد، كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون، وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه، وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد، وفيهم من لا يراه، وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر، وفيهم من لا يراه.
فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما، لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم؟!
وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان متأولاً، وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله، ولا بموجب له فسقا، بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير، فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته، وأنه صاحب الحق، وأن له أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مأجورون أجرا واحداً.
وأيضا فالحديث الشريف الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته، يقتلها أولى الطائفتين بالحق، فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج، بين أصحاب علي وأصحاب معاوية، فقتلهم علي وأصحابه، فصح أنهم أولى الطائفتين بالحق، وأيضا الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عمارا الفئة الباغية».(1/102)
قال أبو محمد: المجتهد المخطئ إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصداً إلى الله تعالى بنيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية، وإن كان مأجوراً، ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود، وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه حدود المحاربة والقود، وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطئ، وبيان ذلك قول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله } إلى قوله: { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } .
فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل، ولا زوال عن موجب ظاهر الآية، وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باغين بعضهم إخوة بعض في حين تقاتلهم، وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم، ولم يصفهم الله عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل، ولا بنقص إيمان، وإنما هم مخطئون فقط باغون، ولا يريد واحد منهم قتل الآخر، وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي، شهد بيعة الرضوان، فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه، وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا، وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه؛ لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله؛ لأنه لم يقتل أحدا، ولا حارب، ولا قاتل، ولا دافع، ولا زنا بعد إحصان، ولا ارتد، فيسوغ لمحاربه تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل، على سبيل الظلم والعدوان، فهم فساق ملعونون.(1/103)
فإذا قد بطل هذا الأمر وصح أن عليا هو صاحب الحق، فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هي بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو؟ وهكذا نقول، فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن، وكذلك إن كانتا معا باغيتين، فقتالهما واجب؛ لأن كلام الله عز وجل لا يعارض كلام نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كله من عند الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، وقال عز وجل: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }، فصح يقينا أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل، وإذ هو كذلك فليس شيء مما عند الله تعالى مختلفا، والحمد لله رب العالمين.
فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه.
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
أما قولهم: إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه والمحاربين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم الساعين في الأرض بالفساد، والهاتكين حرمة الإسلام، والحرم والإمامة والهجرة، والخلافة والصحبة والسابقة فنعم.
وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البراءة منهم، ولكنهم كانوا عددا ضخما جماً لا طاقة له عليهم، فقد سقط عن علي رضي الله عنه مالا يستطيع عليه، كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق، قال الله تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، ولو أن معاوية بايع عليا لقوى به على أخذ الحق من قتلة عثمان، فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم، ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذوه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته.(1/104)
وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة، وعلي قد استقال ورجع وبايع بعد يسير، فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب، ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة، وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم، ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق للخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز وجل، سواء كان هنالك من هو مثله أو أفضل منه أو لم يكن، كما سبقت بيعة عثمان قبله فوجبت طاعته وإمامته على علي وغيره.
ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي، أو طلحة، أو الزبير، أو عبدالرحمن، أو سعد، لكان الإمام، وللزمت عثمان طاعته، وكذلك إذ قتل عثمان رضي الله عنه، فلو بدر طلحة أو الزبير أو سعد أو ابن عمر فبويع لكان هو الإمام، ولوجبت طاعته ولا فرق.
ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد، وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين، فربما رجع إذا استبان له، وربما لم يستبين له حتى يموت عليه، وما توفيقنا إلا بالله عز وجل، وهو المسئول العصمة والهداية لا إله إلا هو.
فطلب علي حقه فقاتل عليه، وقد كان له تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما، فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي»، فغبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء بعده، ومن قاتل عليه ولو أنه فلس فحقه طلب، ولا لوم عليه، بل هو مصيب في ذلك، وبالله تعالى التوفيق) ا.هـ .(1/105)
3ـ وقال ابن العربي في «العواصم من القواصم» (171ـ 174) : (والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الفتن وأشار وبين وأنذر الخوارج، وقال: «تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق»، فبين أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات : 10 ] ، فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم الأخوة بقوله بعده:{ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [ الحجرات : 10 ]، وقال صلى الله عليه وسلم في عمار: «تقتله الفئة الباغية»، وقال صلى الله عليه وسلم في الحسن: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه) ا.هـ .
4ـ وقال أبو العباس ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (4/467ـ 468): «مع أن الذي في الحديث أن عمارا تقتله الفئة الباغية قد تكون الفئة التي باشرت قتله هم البغاة، لكونهم قاتلوا لغير ذلك، وقد تكون غير بغاة قبل القتال ...».
إلى أن قال ابن تيمية: «وكان علي ومعاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين، لكن غلبا فيما وقع، والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها، وكان في العسكرين مثل: الأشتر النخعي، وهاشم بن عتبة المرقال، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وأبي الأعور السلمي، ونحوهم من المحرضين على القتال، قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار، وقوم ينفرون عنه، وقوم ينتصرون لعلي، وقوم ينفرون عنه.(1/106)
ثم قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية بل كان لأسباب أخرى، وقتال مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية) ا.هـ .
وقال في «منهاج السنة النبوية» أيضاً (4/498 ـ 499): (وأيضاً فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }، فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي، وأيضاً فقد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، وقال صلى الله عليه وسلم لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»، لم يقل الكافرة، وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث، وهي مروية بأسانيد متنوعة لم يأخذ بعضهم عن بعض، وهذا مما يوجب العلم بمضمونها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان، ومدح من أصلح الله به بينهما، وقد أخبر أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق) ا.هـ .
5ـ وقال أبو عبد الله الذهبي في «المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال» (1) (1/249ـ252): (قال - أي المخالف -: وقاتل عليا وعلي عندهم رابع الخلفاء، إمام حق، وكل من قاتل إمام حق فهو باغ ظالم.
قلنا: نعم، والباغي قد يكون متأولا معتقدا أنه على حق، وقد يكون بغيه مركبا من تأويل وشهرة وشبهة وهو الغالب.
__________
(1) وهذا الكتاب اختصار لكتاب «منهاج السنة» لابن تيمية, ولكن الذهبي يختصر الكلام بلفظ منه, ويضيف إليه بعض الكلمات .(1/107)
وعلى كل تقدير فهذا لا يرد، وإنا لا ننزه هذا الرجل ولا من هو أفضل منه عن الذنوب، والحكاية مشهورة عن المسور بن مخرمة أنه خلا بمعاوية فطلب منه معاوية أن يخبره بما ينقمه عليه، فذكر المسور أموراً، فقال: يا مسور، ألك سيئات؟ قال: نعم، قال: أترجو أن يغفرها الله؟ قال: نعم، قال: فما جعلك أرجى لرحمة الله مني، وإني مع ذلك والله ما خيرت بين الله وبين سواه إلا اخترت الله على ما سواه، ووالله لما أليه من الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عملك، وأنا على دين يقبل الله من أهله الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات....
فإن قيل: هؤلاء بغاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية».
قلنا: الخبر صحيح، وقد تكلم فيه بعضهم، وبعضهم تأوله على أن الباغي الطالب، وهذا لا شيء.
وأما السلف كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم فيقولون: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإن الله يأمر بقتالها ابتداء، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما، ثم إن بغت إحداهما قوتلت.
ولهذا كان هذا القتال عند أحمد ومالك: قتال فتنة.
وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتى يبدؤوا بقتال الإمام، وهؤلاء لم يبدؤوه.
ثم أهل السنة تقول: الإمام الحق ليس معصوما، ولا يجب على الإنسان أن يقاتل معه كل من خرج عن طاعته، ولا أن يطيعه الإنسان فيما يعلم أنه معصية وأن يتركه أولى.
وعلى هذا ترك جماعة من الصحابة القتال مع علي لأهل الشام، والذين قاتلوه لا يخلو إما أن يكونوا عصاة، أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين.
وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة بقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}، {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فسماهم إخوة) ا.هـ .(1/108)
6ـ وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (3/218): (وهذا الحديث من دلائل النبوة، حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين، وعمار مع علي وأهل العراق... وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم؛ لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحديث بعد: «تقتلك الفئة الباغية»: «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة» فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقلها، إذ لم تنقل من طريق تقبل، والله أعلم.
وأما قوله: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعاً على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه، والله أعلم) ا.هـ.
وما أحسن ما قاله أبو عبدالله الذهبي في «السير» (3/128): (فنحمد الله على العافية ا لذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا واستغفرنا وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ - إن شاء الله - مغفور, وقلنا كما علمنا الله:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا}[الحشر: 10].
وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق.(1/109)
وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا وكفروا الفريقين, فالخوارج كلاب النار, قد مرقوا من الدين, ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار, كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان).
* * *
فصل
في تخريج حديث أبي بكرة: «إن ابني هذا سيد»
... قال أبو عبدالله البخاري في «صحيحه» (2704): حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن أبي موسى قال: سمعت الحسن يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية - وكان والله خير الرجلين -: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟! من لي بنسائهم؟! من لي بضيعتهم؟! فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز- فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه. فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما، وقالا له، وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟! قالا: نحن لك به. فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به، فصالحه. فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - والحسن بن علي إلى جنبه - وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: « إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». قال لي علي بن عبد الله: إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.
قلت: هذا الحديث رواه الحسن البصري, وقد اختلف عليه فيه فبعضهم رواه عنه عن أبي بكرة, وبعضهم رواه عنه عن أنس, وبعضهم رواه عنه عن أم سلمة, وبعضهم رواه عنه مرسلا:
فأما من رواه عنه عن أبي بكرة فجاءت من طرق:
الطريق الأول: رواه إسرائيل أبو موسى البصري عنه قال: سمعت أبو بكرة.(1/110)
كذا رواه علي بن المديني عند البخاري (7109)(1) وعبدالله بن محمد عند البخاري أيضا (2704)(2) وصدقة – هو ابن الفضل المروزي - عند البخاري أيضا (3746)(3).
والإمام أحمد في «مسنده» (5/37-38)(4) وفي «فضائل الصحابة» (1354)، ومحمد بن منصور عند النسائي في «الكبرى» (171،1008) و«الصغرى» (3/107) ومحمد بن عباد عند البيهقي (6/165) والحميدي – وهو في «مسنده» (2/348) – وسعيد بن منصور عند البيهقي (8/173) وإبراهيم بن بشار الرمادي عند الطبراني في «الكبير» (3/33).
كلهم (5) عن سفيان بن عيينة عن إسرائيل أبي موسى قال: سمعت الحسن يقول: سمعت أبا بكرة يقول... وذكر الحديث.
ورواه أيضا عبدالله بن سعيد عند النسائي في «الكبرى» (8156) ، وخلف بن خليفة عند البزار في «مسنده» (9/109), وأبو خيثمة عند البيهقي (7/63).
كلهم عن ابن عيينة عن أبي موسى عن الحسن عن أبي بكرة, ولكن لم يذكروا التصريح بالسماع.
وقال البزار عقبه: حديث إسرائيل أبي موسى لا نعلم رواه إلا ابن عيينة عنه.
__________
(1) ورواه من طريقه في "التاريخ الأوسط" أيضا (1/637) وقال عقبه: قال علي: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث .
(2) قال البخاري بعد هذه الرواية : قال لي علي بن عبدالله : إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث .
(3) قال الحافظ ابن حجر في الفتح 7/95: زاد أبو ذر هنا: أبو موسى اسمه إسرائيل بن موسى من أهل البصرة نزل الهند, لم يروه عن الحسن غيره.
(4) قال الإمام أحمد بعد أن ذكر تصريح الحسن بالسماع من أبي بكرة , وقال سفيان مرة : عن أبي بكرة .
(5) قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/62: وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية سبعة أنفس عن سفيان بن عيينة وبين اختلاف ألفاظهم ا.هـ .(1/111)
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (13/63)– بعد أن نقل كلام البزار هذا -: وتعقبه مغلطاي بأن البخاري أخرجه في علامات النبوة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى - وهو إسرائيل هذا - وهو تعقب جيد، ولكن لم أر فيه القصة وإنما أخرج فيه الحديث المرفوع فقط ا.هـ .
ورواه أيضا عبدالله بن محمد عند البخاري (3629) عن يحيى بن آدم عن الحسين الجعفي عن أبي موسى عن الحسن عن أبي بكرة بالعنعنة.
ورواه ابن أبي شيبة (6/376) عن الحسين بن علي عن أبي موسى عن الحسن مرسلا.
الطريق الثاني: رواه مبارك بن فضالة عنه قال: أخبرني أبو بكرة.
رواه الإمام أحمد في «مسنده» (5/44) قال: حدثنا هاشم ثنا المبارك ثنا الحسن ثنا أبو بكرة ... وساق الحديث.
ورواه البزار في «مسنده» (9/109) عن أحمد بن منصور الرمادي عن أبي داود عن أبي فضالة – وهو مبارك بن فضالة – عن الحسن قال: حدثني أبو بكرة.
وقال البزار عقبه: هذا الحديث يروى عن جابر وعن أبي بكرة، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا, وحديث جابر أغرب (1), فذكرناه عن أبي بكرة.
ثم رواه أيضا (9/111) عن أحمد بن منصور، ورواه ابن حبان في «صحيحه» (6964) عن أبي خليفة الفضل بن الحباب، كلاهما عن أبي الوليد الطيالسي عنه به بالتصريح بالسماع.
ورواه الطبراني في «الكبير»(3/34) عن أبي خليفة ومحمد بن محمد التمار عن أبي الوليد الطيالسي عنه به, ولكن ذكره بالعنعنة.
وقال البزار عقبه: هذا الحديث قد روي عن أبي سعيد (2) وعن أبي بكرة, ومبارك بن فضالة ليس بحديثه بأس, وقد روى عنه قوم كثير من أهل العلم ا.هـ.
الطريق الثالث: رواه أشعث بن عبد الملك (3) عنه عن أبي بكرة.
__________
(1) نقل هذا النص ابن حجر في «الفتح» (13/66) وعنده: (وحديث جابر غريب).
(2) حديث أبي سعيد رواه البزار في «مسنده» – كما في «كشف الأستار» (2638) – ولكن ليس فيه محل الشاهد.
(3) ورد تعيينه عند الطبراني في «الكبير».(1/112)
رواه محمد بن عبدالله الأنصاري عنه به عند أبي داود (4629)والترمذي (3773) والطبراني في «الكبير» (3/34) والحاكم (3/174).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
الطريق الرابع: رواه علي بن زيد بن جدعان عنه عن أبي بكرة.
رواه مسدد عند أبي دواد (4629)، ومسلم بن إبراهيم عند أبي داود (4629) والطبراني في «الكبير» (3/33)، وعارم عند الطبراني في «الكبير» (3/33)، ويحيى بن حبيب بن عربي عند البزار في «مسنده» (9/109), وعفان بن مسلم وسليمان بن حرب عند الحاكم (3/174) .
كلهم عن حماد بن زيد عن علي بن زيد به .
وقال البزار عقبه: حديث علي بن زيد عن الحسن عن أبي بكرة لا نعلم رواه عن علي إلا حماد بن زيد ا.هـ.
الطريق الخامس: رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبي بكرة.
رواه الطبراني في «الكبير» (3/34) عن عبد الرحمن بن سلم عن سهل بن عثمان عن أبي معاوية عن إسماعيل به.
وإسماعيل بن مسلم هو المكي، وهو وإن كان من أهل العلم إلا أنه متروك.
الطريق السادس:رواه أبو الأشهب جعفر بن حيان عن الحسن عن أبي بكرة.
رواه الطبراني في «الأوسط» (2/147) و«الكبير» (3/35) عن أحمد بن محمد بن صدقة نا عبيدالله بن يوسف الجبيري عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبي الأشهب به .
الطريق السابع: رواه داود بن أبي هند عن الحسن عن أبي بكرة.
رواه الطبراني في «الأوسط» (3/245) عن أسلم بن سهل الواسطي عن عبدالرحمن بن علي الشيباني عن عبد الحكم بن منصور عن داود به, وقال: لم يرو هذا عن داود إلا عبدالحكم بن منصور.
الطريق الثامن: رواه يونس بن عبيد ومنصور بن زاذان عن الحسن عن أبي بكرة.
رواه الطبراني في «الصغير» (766) و«الكبير» (3/34) عن الربيع بن سليمان عن عبدالرحمن بن شيبة الجدي عن هشيم به, وقال: لم يروه عن يونس إلا هشيم، ولا رواه عنه إلا ابن شيبة, تفرد به الربيع.
وعبدالرحمن بن شيبة قال عنه أبو حاتم: لا أعرفه, وحديثه صالح.
وذكره النباتي في «ذيل الضعفاء».(1/113)
قلت: يبدو أن النباتي ذكره في كتابه بسبب عدم شهرته, والله أعلم.
الطريق التاسع: رواه معمر قال: أخبرني من سمع الحسن يحدث عن أبي بكرة .
وهو في «الجامع» لمعمر (11/452) من طريق عبدالرزاق به, ومن طريقه رواه الإمام أحمد في «المسند» (5/47).
وبهذا يكون حديث الحسن عن أبي بكرة روي من تسعة طرق, ووقع التصريح بسماع الحسن من أبي بكرة في الطريقين الأولين, وأما بقية الطرق فهي بالعنعنة.
* * *
وأما من رواه عنه عن أنس:
قال النسائي في «سننه الكبرى» (5/49): أخبرنا إسماعيل بن مسعود أنا خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يعني أنسا – قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب, والحسن على فخذه فيتكلم ما بدا له, ثم يقبل عليه, فيقبله فيقول: «اللهم إني أحبه فأحبه» قال: ويقول: «إني لأرجو أن يصلح به بين فئتين من أمتي».
وقال أيضا (5/49) : أخبرنا محمد بن عبدالأعلى أنا خالد ثنا أشعث عن الحسن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : يعني أنس بن مالك – قال: دخلت – أو: ربما دخلت – على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين يتقلبان على بطنه, قال: ويقول: «ريحانتي من هذه الأمة».
وأخرجه أيضا في «خصائص علي» (144).
وقال في «عمل اليوم والليلة» (253): أخبرنا محمد بن عبدالأعلى ثنا خالد ثنا أشعث عن الحسن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يعني أنسا – قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب, والحسن بن علي على فخذه, ويقول: «إني لأرجو أن يكون ابني هذا سيدا, وإني لأرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي».
ورواه البزار في «مسنده» - كما في «كشف الأستار» (2634)- من طريق يحيى بن حبيب عن خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن - قال: وأظنه عن أنس – رفعه ....وساق الحديث.
* * *
وأما من رواه عنه عن أم سلمة:(1/114)
فهذه الرواية لم أقف عليها, ولكن ذكرها المزي في «تحفة الأشراف» (9/39) قال: روي عن الحسن عن أم سلمة ا.هـ
* * *
وأما من رواه عنه مرسلا:
رواه نعيم بن حماد في «الفتن» (423) عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا.
وسبق أن ابن أبي شيبة رواه في «مصنفه» (6/376) عن الحسين بن علي عن أبي موسى إسرائيل عن الحسن مرسلا.
وأيضا رواه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (4/131) من طريق ابن مهدي عن سهل بن أبي الصلت عن الحسن مرسلا.
وقال أبو عبدالرحمن النسائي – بعد أن ذكر الحديث من طريق علي بن زيد بن جدعان, ومن طريق أبي موسى إسرائيل, ومن طريق الأشعث -: أرسله عوف وداود وهشام:
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا خالد قال: حدثنا عوف عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي ... نحوه مرسل.
أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن داود عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن: «إن ابني هذا سيد ...» نحوه.
أخبرنا محمد بن العلاء أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس عن هشام(1) عن الحسن مرسلا ا.هـ .
* * *
فصل
في الكلام على هذا الحديث
هذا الحديث لا شك في صحته عن الحسن, فقد رواه عنه جمع غفير, ولكن اختلفوا عنه - كما تقدم في التخريج - على أربعة أوجه:
الأول: عن الحسن عن أبي بكرة.
الثاني: عن الحسن عن أنس.
الثالث: عن الحسن عن أم سلمة.
الرابع: عن الحسن مرسلا.
فأما الوجه الثاني: فالذي يظهر أنه خطأ, وأن خالد بن الحارث هو الذي قال: (يعني أنسا), فالذي يبدو أن رواية أشعث عن الحسن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حسب, فيبدو أن خالدا هو الذي قال: (يعني أنسا), بدليل أن محمد بن عبدالله الأنصاري قد رواه عنه فقال: عنه عن الحسن عن أبي بكرة (2).
__________
(1) هو ابن حسان .
(2) ويؤيد ذلك أنها رواية الجماعة عن الحسن.(1/115)
أو يكون هذا القول لأشعث نفسه اجتهادا منه في تعيين هذا الصحابي, فيكون قد نسي أنه قد حدث به عن الحسن عن أبي بكرة؛ لأنه رواه جمع عن الحسن عن أبي بكرة.
وقال الحافظ ابن حجر في «مختصر زوائد مسند البزار» (1976): أخطأ فيه أشعث وإنما هو عن الحسن عن أبي بكرة ا.هـ .
وأما الوجه الثالث: فلم أقف على إسناده, وقد يكون وهم؛ لأن ابن راهويه – كما سبق - قد روى هذا الحديث في «مسنده» تحت مسند أم سلمة, ولكنه رواه من مرسل الحسن, والله أعلم.
وبقي الوجه الأول والأخير, والراجح هو الوجه الأول لأمرين:
الأمر الأول: أنه رواه جمع على الحسن هكذا, وهم:
1- إسرائيل بن موسى, أبو موسى البصري, وهو قد روى عن بعض أجلة التابعين, وهم: الحسن البصري وأبي حازم الأشجعي ومحمد بن سيرين (1), وقيل: إنه روى عن وهب بن منبه, ورد ذلك الأزدي, وقال: إنه غيره, وروى عنه بعض الأجلة, منهم: ابن عيينة والقطان, وهو ليس بالمكثر, وهو ثقة على القول الراجح, فقد وثقه ابن معين وأبو حاتم, وزاد: لا بأس به, وذكره ابن حبان في «الثقات», وقال الأزدي وحده: فيه لين.
قلت: هذا لا يلتفت إليه, فلا يعتبر بكلام الأزدي إذا خالف الأئمة كما هنا, وذلك لتشدده البالغ, والأزدي قد تكلم فيه أيضا.
ومما يدل على ثقة وقوة إسرائيل احتجاج البخاري به, ورواية القطان عنه.
2 - مبارك بن فضالة, وهو فيه خلاف, والراجح أنه لا بأس به.
3 - أشعث بن عبدالملك الحمراني, وقد اختلف فيه:
قال يحيى بن معين: خرج حفص بن غياث إلى عبادان, فاجتمع إليه البصريون, فقالوا له: لا تحدثنا عن ثلاثة: أشعث بن عبدالملك وعمرو بن عبيد وجعفر بن محمد, فقال: أما أشعث فهو لكم وأنا أتركه لكم.
وقال يحيى القطان: هو عندي ثقة مأمون. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد وبشر بن المفضل يثبتون أشعث الحمراني .
__________
(1) ولم يذكر له شيوخ غيرهم.(1/116)
وقال أحمد: هو أحمد في الحديث من أشعث بن سوار, روى عنه شعبة, وما كان أرضى يحيى بن سعيد عنه, كان عالما بمسائل الحسن, ويقال: ما روى يونس؟ فقال: نثبت عن الحسن إنما أخذه عن أشعث بن عبدالملك.
وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح. وقال أبو حاتم: لا بأس به, وهو أوثق من الحداني, وأصلح من ابن سوار.
وقال ابن عدي: أحاديثه عامتها مستقيمة, وهو ممن يكتب حديثه ويحتج به, وهو في جملة أهل الصدق, وهو خير من أشعث بن سوار بكثير.
ومما يقويه رواية شعبة والقطان عنه, والذي يترجح لي أنه ثقة, وأما القصة التي ذكرها يحيى بن معين عن حفص بن غياث فالجواب عنها من ثلاثة أوجه:
1_أن هؤلاء البصريين لا ندري من هم؟ وهل هم من الحفاظ أم من عامة الرواة؟
2_أن قولهم معارض بقول كبار الحفاظ المتقدم, وبالذات ما قاله يحيى بن سعيد, وهو رأس البصريين في زمانه.
3_أن إعراضهم عنه ليس صريحا في إعراضهم عن حديثه, بل قد يكون بسبب أنه من بلدهم ومعروف عندهم, فيريدون حديث غيره ممن لم يكن ببلدهم.
وأشعث مقدم في الحسن البصري وابن سيرين, قال القطان: لم ألق أحدا يحدث عن الحسن أثبت منه. وقال أيضا: لم أدرك أحدا من أصحابنا أثبت عندي منه, ولا أدركت أحدا من أصحاب ابن سيرين بعد ابن عون أثبت منه. وقال أحمد: كان عالما بمسائل الحسن. وذكر عنه أنه إذا أتى إلى الحسن قال له: يا أبا هانئ انشر بزك. أي: هات مسائلك. وقد قال: كل شيء حدثتكم عن الحسن قد سمعته منه إلا ثلاثة أحاديث: حديث زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه ركع قبل أن يصل إلى الصف, وحديث عثمان البتي عن الحسن عن علي في الملاص, وحديث حمزة الضبي عن الحسن أن رجلا قال: يا رسول الله متى تحرم علينا الميتة؟(1/117)
4 - وأبو الأشهب جعفر بن حيان, وهو ثقة خرج له الجماعة, وروايته عند الطبراني كما سبق من طريق أحمد بن محمد بن صدقة عن عبيد الله بن يوسف الجبيري, وعبدالله بن يوسف الجبيري البصري من ولد جبير بن حية, ذكره ابن حبان في «الثقات», وقال: حدثنا عنه ابنه أحمد (1).
قلت: ومما يقويه أنه روى عنه جمع من الحفاظ، منهم: ابن ماجه وابن خزيمة وابن أبي داود وأبو عروبة وابن صاعد وحرب بن إسماعيل وغيرهم, والذي يظهر أنه مكثر, لأنه روى عن جمع كبير وروى عنه جمع كبير, ولذا قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق.
قلت: والذي يبدو أنه إما أن يكون ثقة أو صدوقا لما تقدم.
5 - وعلي بن زيد بن جدعان, وهو من أهل العلم, ولكن فيه ضعف, والإسناد إليه صحيح
6 - وإسماعيل بن مسلم , ولكنه متروك.
7 - ومن سمع الحسن بدون أن يسمى, كما في رواية معمر.
الأمر الثاني: أنه زيادة, والزيادة حكمها القبول إذا كانت من ثقة يعتمد عليه فحكمها القبول؛ لأن من علم حجة على من لم يعلم, وهذه الزيادة رواها جمع كما تقدم, وهم بين الثقة والصدوق الذي لا بأس به ومن فيه ضعف.
* * *
فصل
في سماع الحسن من أبي بكرة
اختلف في سماع الحسن البصري من أبي بكرة الثقفي على قولين:
القول الأول: أنه لم يسمع منه، وهو قول يحيى بن معين والدارقطني (2)
__________
(1) وابنه أحمد وثقه الدارقطني.
(2) قال الدارقطني – كما في سؤالات الحاكم له (320) - : ( الحسن لم يسمع من أبي بكرة ) ا.هـ . وقال في «التتبع» (323): ( وأخرج البخاري أحاديث الحسن عن أبي بكرة, منها: الكسوف, ومنها: «زادك الله حرصا ولا تعد», ومنها: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» , ومنها: «ابني هذا سيد», والحسن لا يروي إلا عن الأحنف عن أبي بكرة ) ا.هـ .
قلت: لم أجد له إلا حديثا واحدا ذكر فيه الأحنف, حسب ما في «تحفة الأشراف» و«إتحاف المهرة» , والحسن معروف بكثرة الشيوخ حتى إنه قد يروي عن تلاميذه, فسماعه من الأحنف عن أبي بكرة لا ينافي سماعه من أبي بكرة.(1/118)
وغيرهما.
والقول الثاني: أنه سمع منه، وهو قول بهز بن أسد العمي البصري وعلي بن المديني والبخاري والبزار, وهو قول الترمذي فيما يظهر لأنه صحح له حديثين من روايته عن أبي بكرة (1), ثم إن هؤلاء انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: من أطلق السماع, فقال إنه سمع, ولم يقيده بشيء.
والقسم الثاني: من أثبت له السماع, ولكن قيده بقوله: سمع شيئا.
والصحيح هو القول الثاني , ويدل لذلك أمور:
الأول: ما وقع في عدة أحاديث من تصريح الحسن بالسماع من أبي بكرة, كما في رواية:
1-إسرائيل بن موسى البصري, وهو ثقة, قد أخرج له البخاري وغيره.
وسبق تخريج روايته.
2- زياد بن حسان الأعلم الباهلي البصري, قال عنه أحمد: ثقة ثقة. وقال أبو حاتم: هو من قدماء أصحاب الحسن.
وروايته عند أبي داود (683) – من رواية ابن داسة والرملي (2) – والنسائي (2/118)، كلاهما من طريق حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن زياد الأعلم قال: حدثنا الحسن أن أبا بكرة حدثه أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع, فركع دون الصف, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصا ولا تعد».
والحديث رواه البخاري في «صحيحه» (783) من طريق موسى بن إسماعيل عن همام عن الأعلم به, وليس فيه التصريح بالسماع.
وقال الشافعي – كما في «المعرفة» للبيهقي (2/381)-: سمعت من يروي بإسناد حسن أن أبا بكرة ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ركع وراء الصف, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصا ولا تعد».
3- مبارك بن فضالة البصري (3) .
__________
(1) ينظر : (2262 ، 3773) .
(2) ورواه البيهقي في سننه (3/106) من طريق ابن داسة عن أبي داود .
(3) وهو وإن كان قد قال فيه أحمد : كان مبارك بن فضالة يرفع حديثا كثيرا, ويقول في غير حديث عن الحسن: قال حدثنا عمران, قال حدثنا ابن مغفل, وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك غيره ا.هـ لكن روايته يعتضد بها مع رواية الآخرين.(1/119)
وروايته عند البخاري (1048) معلقة, قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا حماد بن زيد عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله, لا ينكسفان لموت أحد, ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده».
... وتابعه أشعث عن الحسن, وتابعه موسى عن مبارك عن الحسن قال: أخبرني أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يخوف بهما عباده».
وقد روى هذا الوجه الإمام أحمد في «مسنده» (5/37) من طريق خلف بن الوليد عن المبارك عن الحسن عن أبي بكرة أنه حدثه.
وسبق أيضا ذكره التصريح بالسماع بينهما في روايته للحديث الذي معنا «إن ابني هذا سيد» عند أحمد والبزار.
وأيضا قال الإمام أحمد (5/41-42): حدثنا أبو النضر وعفان قالا: حدثنا المبارك عن الحسن عن أبي بكرة – قال عفان في حديثه: حدثنا المبارك قال: سمعت الحسن يقول: أخبرني أبو بكرة – قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتعاطون سيفا مسلولا, فقال:«لعن الله من فعل هذا, أوليس قد نهيت عن هذا؟!» ثم قال: «إذا سل أحدكم سيفه فنظر إليه, فأراد أن يناوله أخاه, فليغمده ثم يناوله إياه».
4- هشام بن حسان البصري (1).
__________
(1) وهو وإن تكلم في روايته عن الحسن, لكن يستأنس بروايته.(1/120)
قال أبو بكر بن أبي خيثمة – كما في «تهذيب الكمال» للمزي (30/7) -: حدثنا هوذة بن خليفة قال: حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: مر بي أنس بن مالك وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة يعاتبه, فانطلقت معه, فدخلنا على الشيخ وهو مريض, فأبلغه عنه، فقال: إنه يقول: ألم أستعمل عبيدالله على فارس؟! ألم أستعمل روادا على دار الرزق؟! ألم أستعمل عبدالرحمن على الديوان وبيت المال؟! فقال أبو بكرة: فهل زاد على أن أدخلهم النار؟! فقال أنس: إني لا أعلمه إلا مجتهدا. فقال الشيخ: أقعدوني، إني لا أعلمه إلا مجتهدا, وأهل حروراء قد اجتهدوا, فأصابوا أم أخطأوا؟ قال الحسن: فرجعنا مخصومين.
وروى هذا الخبر أيضا صالح بن أحمد في «مسائله» (1107) عن أبيه عن هوذة به.
... الثاني: أن هذا هو قول جمع من الحفاظ البصريين, وهم من بلد الحسن, فهم أعلم به من غيرهم.
... فأبو بكرة الثقفي نزل البصرة وتوفي بها, وكذلك الحسن البصري كما سوف يأتي – إن شاء الله تعالى -, وحديثهما عند أهل البصرة, فالبصريون هم أعلم الناس بأبي بكرة والحسن وبما حدثا به, ومن سمع منهما ومن لم يسمع, فقولهم في ذلك أولى من قول غيرهم لهذه القرينة, ولا أعلم أحدا من أهل البصرة – من أقران ابن المديني ونحوهم – خالف هؤلاء البصريين في إثبات سماع الحسن من أبي بكرة, وكل من خالفهم ليس من أهل البصرة.
... الثالث: أن بهز بن أسد البصري من تلاميذ بعض أصحاب الحسن البصري, فهو قد روى عن بعض أصحابه, وقد ذهب كما تقدم إلى أن الحسن قد سمع من أبي بكرة شيئا, فقوله هنا له ميزة على قول غيره؛ لأنه بذلك يكون أعلم به من غيره ممن أتى من بعده, فيكون هذا الوجه من أوجه ترجيح سماع الحسن من أبي بكرة.
وبهز بن أسد من الثقات المشهورين حتى قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت.(1/121)
الرابع: أن الحسن قدم البصرة في أيام صفين إلى أن توفي فيها, وأبو بكرة نزل البصرة وتوفي بها عام (51) أو (52), فيكون قد عاصره مدة طويلة, نحو خمس عشرة سنة في هذه المدينة, ومن المعلوم أنه كان في زمنهم لا تقام إلا جمعة واحدة، وعيد واحد, فهذا مع ما تقدم يقوي سماع الحسن من أبي بكرة.
الخامس: أن الحسن قد احتج ببعض الأحاديث التي يرويها عن أبي بكرة, واحتجاجه بها يدل على قوتها عنده, ومن ذلك احتجاجه بالحديث الذي معنا:
1_ قال الإمام أحمد في «مسنده» (5/44): حدثنا هاشم ثنا المبارك ثنا الحسن ثنا أبو بكرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس, وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يثب على ظهره إذا سجد, ففعل ذلك غير مرة, فقالوا له: والله إنك لتفعل بهذا شيئا ما رأيناك تفعله بأحد؟! قال المبارك: فذكر شيئا, ثم قال: «إن ابني هذا سيد, وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين». فقال الحسن: فوالله والله بعد أن ولي لم يهرق في خلافته ملء محجمة من دم.
وقال إسحاق بن راهويه في «مسنده» (4/131): أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي نا سهل بن أبي الصلت قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد, يصلح الله به فئتين من المسلمين». يعني الحسن بن علي, قال الحسن: فقد والله أدركت ذلك, أصلح الله به فئتين من المسلمين.
2_ ومن ذلك أيضا: ما رواه أبو داود في «سننه» (1242) قال: حدثنا عبيدالله بن معاذ ثنا أبي عن الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه, وبعضهم بإزاء العدو, فصلى ركعتين ثم سلم, فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم, ثم جاء أولئك فصلوا خلفه, فصلى بهم ركعتين ثم سلم, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا, ولأصحابه ركعتين ركعتين.
وبذلك كان يفتي الحسن (1) ا.هـ .
__________
(1) هذه الجملة يبدو أنها من كلام الأشعث, كما سيأتي في كلام البيهقي.(1/122)
السادس: أن رواية الحسن عن أبي بكرة مستقيمة وليس فيها ما يستنكر, وهو قد توبع في بعض ما يرويه عن أبي بكرة, وبعض ما يرويه عنه جاء ما يشهد له.
* * *
ولكن وردت في بعض رواياته ألفاظ قد تستغرب, ومن الممكن توجيهها, من ذلك:
الحديث الأول: قال الإمام أحمد (5/41): حدثنا يزيد أخبرنا حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة, فكبر ثم أومأ إليهم أن مكانكم, ثم دخل فخرج ورأسه يقطر, فصلى بهم, فلما قضى الصلاة, قال:«إنما أنا بشر وإني كنت جنبا».
... ورواه الإمام أحمد أيضا (5/41) قال: حدثنا أبو كامل حدثنا حماد عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر, فأومأ إليهم... بنحوه.
... ورواه أيضا (5/45) قال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فأومأ إلى أصحابه .. بنحوه.
... وهذا الحديث رواه أبوداود (236) من طريق موسى بن إسماعيل ويزيد, ورواه ابن خزيمة (1629) من طريق عفان ويحيى بن عباد ويزيد, كلهم عن حماد بن سلمة به.
... وهذا الحديث صحيح, ولكن يستغرب فيه قوله : (فكبر ثم أومأ) فهذه تخالف ما جاء في «الصحيحين» من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال: على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء وقد اغتسل.
... وفي رواية لمسلم: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف, وقال لنا : «مكانكم».
... ويجاب عن ذلك من وجهين:
... الوجه الأول: من حيث الرواية.
وهو: أن الأحاديث في ذلك قد اختلفت, وقد جاء ما يشهد لحديث أبي بكرة:(1/123)
... فروى الإمام أحمد (1/88) من حديث ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن عبدالله بن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي إذ انصرف ونحن قيام, ثم أقبل ورأسه يقطر فصلى لنا الصلاة ... الحديث.
... وروى الإمام أحمد (2/448) عن وكيع عن أسامة بن زيد عن عبدالله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن ابن ثوبان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة, فلما كبر انصرف وأومأ إليهم أن كما أنتم، ثم خرج فاغتسل، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم...الحديث.
... ورواه ابن ماجه أيضا(1210) .
... وروى الطحاوي في «مشكل الآثار» (3/88) والدارقطني (1/362) من حديث عبيد الله بن معاذ العنبري عن أبيه عن سعيد عن قتادة عن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم أن كما أنتم, فلم نزل قياما حتى أتانا وقد اغتسل, ورأسه يقطر ماء.
... وقال الدارقطني عقبه: خالفه عبدالوهاب الخفاف , ثم رواه الدارقطني من حديث عبدالوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن بكر بن عبدالله المزني مرسلا.
وقال عقبه: قال عبدالوهاب: وبه نأخذ.
... وروى الإمام مالك في «موطئه» (1/48) من حديث إسماعيل بن أبي حكيم أن عطاء بن يسار أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات, ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا, فذهب, ثم رجع وعلى جلده أثر الماء.
... وقال أبو داود في «سننه» (1/263) : ورواه أيوب وابن عون وهشام عن محمد (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكبر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا، وذهب فاغتسل.
وكذلك رواه مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في الصلاة.
قال أبو داود: وكذلك حدثناه مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن يحيى عن الربيع بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر.
الوجه الثاني: من حيث الدراية.
__________
(1) هو ابن سيرين.(1/124)
وهو: أن للعلماء مسلكان في ذلك:
المسلك الأول: من ذهب إلى تعدد القصة, وممن ذهب إلى هذا ابن حبان والنووي.
المسلك الثاني: من ذهب إلى أن المقصود بالدخول في الصلاة والتكبير قرب دخوله فيها, وممن ذهب إلى هذا الطحاوي.
وبهذا يجاب عن هذه اللفظة في هذا الحديث, وإن كانت خطأ؛ لأن ما في «الصحيحين» أصح, فالأمر قريب.
* * *
... الحديث الثاني: قال النسائي في «الصغرى» (3/152): أخبرنا عمرو بن علي ثنا يزيد – هو ابن زريع – ثنا يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فانكسفت الشمس فقام إلى المسجد يجر رداءه من العجلة فقام إليه الناس فصلى ركعتين كما يصلون, فلما انجلت خطبنا فقال: «إن الشمس والقمر آيتان ...» الحديث.
... ورواه البزار (3662) وابن خزيمة (1374) والطحاوي (1/330) والبغوي في «الجعديات» (1385) والبيهقي (3/331) وغيرهم كلهم من طريق يزيد بن زريع به.
... وتابعه إسماعيل بن علية:
قال ابن حبان في «صحيحه» (2835): أخبرنا أبو يعلى ثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فكسفت الشمس, فقام صلى الله عليه وسلم عجلانا إلى المسجد فجر إزاره أو ثوبه, وثاب إليه ناس, فصلى بهم ركعتين نحو ما تصلون ... الحديث.
وقد أخرج رواية ابن علية: البغوي في «الجعديات» (1385) أيضا مقرونة برواية يزيد بن زريع.
وتابعهما أيضا أشعث – هو ابن عبدالملك- عند النسائي (1492) من رواية إسماعيل بن مسعود عن خالد عنه به, وعند ابن حبان (2837) من رواية إسحاق بن إبراهيم التاجر عن عبدالكريم بن عبدالله السكري عن النضر بن شميل عن أشعث به, وعند الحاكم في «المستدرك» (1/334) من طريق أحمد بن يعقوب عن يوسف بن يعقوب عن محمد بن أبي بكر عن خالد بن الحارث عنه به، ومن طريق الحاكم رواه البيهقي في «سننه» أيضا (3/337-338).(1/125)
ورواه النسائي أيضا (1464) من طريق عمرو بن علي ومحمد بن عبدالأعلى قالا: حدثنا خالد ثنا أشعث به, وليس فيه هذه اللفظة.
وقد علق البخاري رواية أشعث في «صحيحه» (1048) ولكن لم يسق لفظها.
وقال البغوي في «الجعديات» (1384): ثنا زيد بن أخزم وعلي بن مسلم قالا: نا سعيد بن عامر أنا شعبة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين.
وهذا لفظ علي بن مسلم, وفي حديث زيد بن أخزم: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف مثل صلاتنا. ولم يذكر الركعتين ....
قال: وهذا الحديث كان يقال إنه لم يحدث به عن شعبة غير سعيد بن عامرا.هـ .
فقوله في هذه الرواية: (فصلى بهم ركعتين نحو ما تصلون) قد يفهم منها أن صلاة الكسوف ليس فيها إلا ركوع واحد, وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة في صفة صلاة الكسوف.
... والجواب عن هذا من وجهين أيضا:
... الوجه الأول: من حيث الرواية .
... وهو أن ابن علية ويزيد بن زريع وأشعث قد خولفوا, فقد رواه : خالد الواسطي وعبدالوارث بن سعيد وعبدالأعلى السامي وشعبة – في الوجه الآخر من رواية سعيد بن عامر عنه - وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم بن بشير ونوح بن قيس كلهم عن يونس بن عبيد، فلم يذكروا هذه اللفظة.
فأما رواية خالد الواسطي فعند البخاري في «صحيحه» (1040) .
وأما رواية عبدالوارث بن سعيد فعند البخاري أيضا (1063).
وأما رواية عبدالأعلى السامي فعند البخاري أيضا (5785).
وأما رواية حماد بن زيد فعند البخاري (1048) والنسائي (1459).
وأما رواية هشيم فعند النسائي (1463) والطحاوي في «شرح المعاني» (3/330).
وأما رواية حماد بن سلمة فعند البيهقي (3/337).
وأما رواية نوح بن قيس فعند ابن حبان – كما في «الإحسان» (2833)-.
وأما رواية سعيد بن عامر عن شعبة فعند البخاري أيضا (1062) من طريق محمود – هو ابن غيلان - عن سعيد عنه به.(1/126)
وتابع سعيد بن عامر عن شعبة: يحيى بن السكن عند البغوي في «الجعديات» (1386) من طريق عمرو الناقد عنه.
وأما رواية زيد بن أخزم عن سعيد بن عامر عن شعبة فهذه يبدو أنها خطأ من زيد بن أخزم – إن صحت هذه الرواية عنه (1) – لوجهين:
الأول: أن علي بن مسلم ومحمود بن غيلان وابن مرزوق – وروايته عند الطحاوي في «شرح المعاني» (1/330) والبيهقي في «الكبرى» (3/331) - قد خالفوه فلم يذكروا هذه اللفظة.
الثاني: أن هذا الحديث قد رواه جمع عن شعبة ولم يذكروا هذه اللفظة.
... الوجه الثاني: من حيث الدراية.
قال ابن حبان – كما في «الإحسان» (2835) -: قول أبي بكرة «فصلى بهم ركعتين نحو ما تصلون» أراد به تصلون صلاة الكسوف ركعتين في أربع ركعات وأربع سجدات ا.هـ.
وهذا جواب مقبول, والله تعالى أعلم.
* * *
الحديث الثالث: قال الإمام أحمد (5/46): حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة وغير واحد عن الحسن عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن ريح الجنة لتوجد من مسيرة مائة عام, وما من عبد يقتل نفسا معاهدة إلا حرم الله عليه الجنة ورائحتها أن يجدها». قال أبو بكرة: أصم الله أذني إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقولها.
فهذا في ظاهره مخالف لما جاء في «صحيح البخاري» (3166) من حديث مجاهد عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما».
والجواب عن هذا أيضا من وجهين:
الوجه الأول: من جهة الرواية.
وهو أن هذا الإسناد أعله كبار الحفاظ , فقد ذكر البخاري في «التاريخ الكبير» (1/428) هذا الحديث من رواية سفيان عن يونس عن الحكم بن الأعرج عن الأشعث, ثم قال: وقال حماد عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة, والأول أصح ا.هـ.
__________
(1) قد روى رواية زيد بن أخزم عن سعيد بن عامر : البزار في «مسنده» (3660) فلم يذكر هذه اللفظة, والله أعلم.(1/127)
وقال النسائي في «سننه الكبرى» (8744) - بعد أن روى الحديث من طريق حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة -: هذا خطأ والصواب حديث ابن علية, وابن علية أثبت من حماد بن سلمة, والله أعلم ا.هـ .
ورواية ابن علية عند النسائي (4748) والإمام أحمد (5/38) عن يونس بن عبيد عن الحكم بن الأعرج عن الأشعث بن ثرملة عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها» .
الوجه الثاني: من جهة الدراية.
وهو أن هذه الرواية لو صحت فإنها لا تعارض رواية الصحيح, فذكر الأقل لا يلزم منه نفي الأكثر, ولهذا نظائر في السنة.
قال ابن القيم في «حادي الأرواح» (119-120) - بعد أن أشار إلى اختلاف الروايات في المسافة التي توجد منها رائحة الجنة -: وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بوجه, وقد أخرجا في «الصحيحين» من حديث أنس قال: لم يشهد عمي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا. قال: فشق عليه. قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه! فإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له: أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل. قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته عمة الربيع بن النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه, ونزلت هذه الآية:{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.(1/128)
وريح الجنة نوعان: ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحيانا لا تدركه العباد, وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما تشم روائح الأزهار وغيرها, وهذا يشترك أهل الجنة في إدراكه في الآخرة من قرب ومن بعد, وأما في الدنيا فقد يدركه من شاء الله من أنبيائه ورسله, وهذا الذي وجه أنس بن النضر يجوز أن يكون من هذا القسم, وأن يكون من الأول, والله أعلم ا.هـ .
* * *
... الحديث الرابع: قال ابن خزيمة في «صحيحه» (1368): ثنا محمد بن معمر بن ربعي القيسي ثنا عمرو بن خليفة البكراوي ثنا أشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ست ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث.
... ورواه الحاكم في «المستدرك» (1/337) من طريق محمد بن معمر به, وقال عقبه: سمعت أبا علي الحافظ يقول: هذا حديث غريب, أشعث الحمراني لم يكتبه إلا بهذا الإسناد (1) ا.هـ
... وقد روى هذا الحديث جمع عن الأشعث فخالفوا عمرو بن خليفة, منهم: معاذ بن معاذ وسعيد بن عامر وأبو عاصم وأبو حرة.
قال أبو داود في «سننه» (1242) قال: حدثنا عبيدالله بن معاذ ثنا أبي عن الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه, وبعضهم بإزاء العدو, فصلى ركعتين ثم سلم, فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم, ثم جاء أولئك فصلوا خلفه, فصلى بهم ركعتين ثم سلم, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا, ولأصحابه ركعتين ركعتين.
وبذلك كان يفتي الحسن.
قال أبو داود: وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات, وللقوم ثلاثا ثلاثا ا.هـ .
__________
(1) كذا العبارة في مطبوعة «المستدرك», ويبدو أن فيها سقطا, وفي «إتحاف المهرة» لابن حجر (13/566) : (وسمعت أبا علي يقول: هذا غريب, وأشعث هو الحمراني) .(1/129)
وقال البيهقي في «سننه» (3/259-260) – بعد أن روى الحديث من طريق سعيد بن عامر عن الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ببعضهم ركعتين ثم سلم فتأخروا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين ثم سلم, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللمسلمين ركعتين ركعتين في صلاة الخوف – قال البيهقي : وكذلك رواه معاذ بن معاذ عن الأشعث، وقال: في الظهر، وزاد: قال: وبذلك كان يفتي الحسن، وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات وللقوم ثلاثا ثلاثا. أخبرنا بذلك أبو علي الروذباري أنبأ أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود ثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا الأشعث فذكر الحديث بمعناه، واللفظ مختلف، وذكر هذه الزيادة، وقوله: (وكذلك في المغرب) وجدته في كتابي موصولا بالحديث، وكأنه من قول الأشعث، وهو في بعض النسخ: قال أبو داود: وكذلك في المغرب، وقد رواه بعض الناس عن أشعث في المغرب مرفوعا ولا أظنه إلا واهما في ذلك ا.هـ
وقال في «المعرفة» (3/17): وقد رواه عمرو بن خليفة البكراوي عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب, وهو وهم, والصحيح هو الأول (1), والله أعلم ا.هـ .
وقال الطحاوي في «شرح المعاني» (1/315): حدثا أبو بكرة وابن مرزوق قالا: ثنا أبو عاصم عن الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف فصلى بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا, وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين, فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا, وصلى كل طائفة ركعتين.
حدثنا أبو بكرة ثنا أبو داود ثنا أبو حرة عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ا.هـ .
* * *
فصل
في الكلام على صحة الحديث
__________
(1) أي: الرواية التي فيها أن ذلك كان في صلاة الظهر.(1/130)
تقدم أن هذا الحديث لا شك في صحته عن الحسن البصري, وتقدم أيضا أن الراجح من الاختلاف الذي وقع هو رواية من رواه عنه عن أبي بكرة ، وتقدم ترجيح سماع الحسن من أبي بكرة فالراجح صحته, وقد صححه كبار الأئمة كما سوف يأتي.
* * *
فصل
في شواهد الحديث
... هذا الحديث له شواهد خاصة وعامة.
... فأما الشواهد الخاصة فسوف يأتي الكلام عليها.
... وأما الشواهد العامة:
... فأولا: قد دلت نصوص الكتاب العزيز والسنة النبوية على فضل الصلح والحث عليه, ومن ذلك قوله تعالى:{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}, وقوله تعالى:{والصلح خير}, وقوله تعالى:{فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}, وقوله تعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}, وقوله تعالى:{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}.
... وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كل سلامى من الناس عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ... الحديث».
... وفي «الصحيحين» أيضا من حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا ».
... وثانيا: أن وقوع هذا الصلح يشهد لصحة هذا الحديث, وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في كلام الحسن البصري عندما استدلال بهذا الحديث على الصلح الذي وقع بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما.
... وثالثا: أن الحسن رضي الله عنه قد بايعه أهل العراق وكان معه جمع كبير من المسلمين, ومع ذلك تنازل لمعاوية رضي الله عنه, وذلك لعدة أسباب ولعل منها هذا الحديث, والله أعلم.
* * *
...
فصل
في الشواهد الخاصة لهذا الحديث
الشاهد الأول: حديث جابر رضي الله عنه:(1/131)
قال الخطيب البغدادي في «تاريخه» (8/26-27): أخبرنا أبو طاهر الحسين بن بشر ومحمد بن أحمد بن محمد السمناني قالا: أخبرنا علي بن عمر بن محمد الختلي أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار الصوفي حدثنا يحيى بن معين حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن: «إن ابني هذا سيد، يصلح الله به بين فئتين من المسلمين».
هذا الحديث رواته ثقات مشهورون, خرج لهم الجماعة (1), فيحيى بن سعيد الأموي الراجح أنه صدوق جيد الحديث, وقد وثقه الجمهور كابن معين في أكثر من رواية عنه وابن عمار والدارقطني وابن سعد, وقال أبو داود: ليس به بأس ثقة. ولكن قال أحمد: لم تكن له حركة في الحديث. وقال في رواية أبي داود عنه: ليس به بأس عنده عن الأعمش غرائب. وقال الأثرم عن أحمد: ما كنت أظن عنده الحديث الكثير, فإذا هم يزعمون أن عنده عن الأعمش حديثا كثيرا وعن غيره, وقد كتبنا عنه, وكان له أخ له قدر وعلم يقال له: عبدالله. ولم يثبت أمر يحيى, كأنه يقول: كان يصدق وليس بصاحب حديث.
قلت: وهذا الكلام يفيد أنه كان مكثرا عن الأعمش, ولكنه ليس بالمتقن الثبت, وإنما هو دون ذلك, وبهذا يجاب عن إيراد العقيلي له في «الضعفاء».
وقد خرج له البخاري أربعة أحاديث:حديثان توبع عليهما في البخاري أحدهما عن الأعمش, والآخران توبع عليهما في مسلم, وقد نعته الحافظ ابن حجر بالحافظ, وذكره الذهبي في «تذكرة الحفاظ».
قلت: وهذا الحفظ قد يكون بالإضافة لما قاله الإمام أحمد أنه كان مشهورا بالمغازي, وما قاله ابن سعد أنه كان ثقة قليل الحديث فيه بعض النظر لما تقدم.
قلت: وقد قال الذهبي في «التذكرة»: روى عنه خلق كثير.
__________
(1) أي: من يحيى بن معين فمن دونه.(1/132)
وأما باقي رجال الإسناد فمشهورون, وأبو سفيان في سماعه من جابر كلام كثير, والخلاصة أنه سمع منه بعض الأحاديث وبعضها إنما هي صحيفة, وهذه الصحيفة تسمى صحيفة جابر, وهي مشهورة وقد ثبت عنه أنه قال: جاورت جابرا بمكة ستة أشهر. وحديثه عن جابر في «الصحيحين», ولكنه عند البخاري متابعة (1) .
ورواية الأعمش عنه مشهورة, حتى وصف بأنه راويته, وقد قال ابن عدي: لا بأس به, روى عنه الأعمش أحاديث مستقيمة.
قلت: وقد تابع يحيى بن سعيد : عبدالرحمن بن مغراء, قال الطبراني في «الكبير» (3/35) : حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي ثنا عبدالسلام بن عاصم الرازي ثنا عبدالرحمن بن مغراء عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني – يعني الحسن – سيد, وليصلحن الله به بين فئتين من المسلمين».
وأخرجه البزار – كما في «كشف الأستار» (2635) – من طريق يوسف بن موسى عن ابن مغراء به, وقال البزار: لا نعلمه يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد.
قلت: عبدالرحمن بن مغراء مختلف فيه, وقد تكلم في روايته عن الأعمش خاصة, وقد قال علي بن المديني: ليس بشيء, كان يروي عن الأعمش ستمائة حديث تركناه, لم يكن بذاك. وقال ابن عدي: وهو كما قال علي, إنما أنكرت على أبي زهير هذا أحاديث يرويها عن الأعمش, لا يتابعه عليها الثقات.
فهذه المتابعة لا تقوي رواية يحيى بن سعيد لما تقدم.
والخلاصة أن هذا الإسناد من طريق يحيى بن سعيد قوي كما تقدم ولكنه غريب, ولا يحتمل تفرد يحيى بن سعيد به عن الأعمش, ولكنه يستأنس به, وإنما العمل على حديث أبي بكرة ويستأنس بحديث جابر.
قال البزار في «مسنده» (9/110-111) : وهذا الحديث يروى عن جابر وعن أبي بكرة, وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا, وحديث جابر أغرب ا.هـ
__________
(1) وقد تكلمت عن هذا في «شرح الترمذي» بكلام مطول (الحديث رقم: 275).(1/133)
وقال الطبراني في «الأوسط» (1810): لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا عبدالرحمن ويحيى بن سعيد الأموي.
* * *
الشاهد الثاني: حديث أنس رضي الله عنه.
قال أبو عمرو الداني في «الفتن» (1/216-217): حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله الفرائضي قراءة عليه, قال: حدثنا علي بن محمد بن نصير قال: حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن فروخ بالرافقة قال: حدثنا عمر بن محمد المعروف بابن التل الأسدي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا معقل عن أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد, يصلح الله عز وجل على يديه بين فئتين من أمتي يحقن الله دماءهم به».
قلت: في إسناده أبان الرقاشي, وكان من أهل الصلاح, لكنه متروك, وقد اختلف فيه هل كان يتعمد الكذب أم لا؟
فوصفه شعبة بأنه كان يكذب, وخالفه غيره فذكر أنه لم يكن يتعمد الكذب, ولكن كان يقع له ذلك بسبب غفلته وسوء حفظه, قال أبو حاتم: متروك الحديث, وكان رجلا صالحا ولكنه بلي بسوء الحفظ. وقيل لأبي زرعة: كان يتعمد الكذب؟ قال: لا, كان يسمع الحديث من أنس ومن شهر ومن الحسن فلا يميز بينهم.
ويظهر أنه كانت فيه غفلة شديدة, قال يزيد بن زريع: حدثني عن أنس بحديث, فقلت له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل يروي أنس عن غير النبي صلى الله عليه وسلم؟! فتركته.
وهذا الإسناد وإن كان لا يعتمد عليه لسقوطه – كما تقدم – ولكن يدل على شهرة هذا الخبر, والله تعالى أعلم.
* * *
فصل
فيمن صحح هذا الحديث من الأئمة
... صحح هذا الحديث وقواه جمع من الأئمة, منهم:
1-الحسن البصري، فقد سبق ذكر احتجاجه بهذا الحديث مما يدل على قوته عنده.
2-ابن عيينة، وقد سبق عنه أنه قال: قوله:«فئتين من المسلمين» يعجبنا جداً. وهذا يدل على قوة الحديث عنده.
3- ابن المديني.
4- البخاري.
5- الترمذي.
6- ابن حبان.
7- البغوي كما في «شرح السنة» (14/136).
وغيرهم ممن نص صراحة على صحة هذا الحديث.(1/134)
هذا وبالله التوفيق, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين (1).
... ... ... وكتب
... ... ... عبدالله بن عبدالرحمن السعد
__________
(1) أشكر الابن/ عبدالمجيد بن إبراهيم الوهيبي ، والابن/ أيمن بن عبدالله العليان , والابن / سامي بن محمد بن جادالله , على مساعدتي في جمع المادة العلمية لهذا البحث، فجزاهم الله خيرا.(1/135)