غيث العقيدة السلفية
شرح منظومة الحائية
لفضيلة الشيخ خالد بن إبراهيم الصقعبي
جميع حقوق النسخ محفوظة لموقع ريحانة العلم
2007م – 1428هـ
المُقَدِّمَةٌ
الحمد لله القائل { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (1) نحمده ونثني عليه الخير كله ونستهديه ونتوكل عليه ونسأله فضله ورحمته, ونصلي ونسلم على نبينا محمد الذي حدّّّّّّّث بقوله: (وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة, كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية لما سئل من هي ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فقد جاءت عقيدة الإسلام صافية خالية من الشوائب والأكدار, فعاش عليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ومن كان معهم من بقية المسلمين حتى كان مقتل عمر ثم عثمان ثم علي حيث قتله الخوارج بعد خروجهم عليه رضي الله عنهم أجمعين, ثم توالى خروج فرقة زائغة كالرافضة والقدرية المرجئة والأشعرية إلى غير ذلك من ضلالات وانحرافات أهل البدع.
ولصد هذه اللوثات الفكرية والإلتواءات العقدية قام الجهابذة من علماء الأمة بحركة الرد, دفاعاً وبياناً وإيضاحاً بالأدلة والبراهين القاطعة, على سبيل النثر أو النظم.
ومنها هذه القصيدة التي بين أيدينا, وهي قصيدة محدودة الأبيات سهلة المباني, وجيزة المعاني, حيث تضمنت تقرير معتقد أهل السنة والجماعة في أهم المسائل على وجه الإجمال, لذا يستفيد منها طالب العلم باختصار الألفاظ وجمع المعاني...حيث يحفظ أبياتها فتثبت معانيها!!!.
ويستفيد الداعية(2) أيضاً من شرح تلك الردود بالتأصيل والحجة والبيان, لنسف قواعد تلك الفرق كالرافضة وغيرهم ممن بقي في هذا العصر من أذناب تلك المذاهب, لإبطال ضلالاتهم.
__________
(1) الأنعام: من الآية90)
(2) وإن كان الأصل أن يكون الداعية طالب علم وطالب العلم داعية.(1/1)
وقد قام الشيخ خالد الصقعبي سدده الله بشرح هذه الأبيات رجوعاً لأدلةٍ شرعية, وتفصيلاً لأقوال سلفية, بزيادات تأصيلية, وإيجاز غير مخل وإسهاب غير ممل, وقد أذن وفقه الله بإخراج ذلك بطباعته بمذكرة بعد أن تفضل بمراجعتها وتنقيحها.
نسأل الله الكريم أن يُعظم لشيخنا الأجر, وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فلقد يسر الله تعالى شرح منظومة الحائية لابن أبي داود ضمن
سلسلة الدروس العلمية المقامة في دار أم المؤمنين خديجة بنت
خويلد, ولرغبة كثير من الإخوة والأخوات طباعتها
قامت بعض طالبات العلم بإخراجها بعد طباعتها.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يجزي خيراً من أعان على نشرها.
والله تعالى أعلم
وكتبه:
خالد بن إبراهيم الصقعبي
تَمسَّكْ بحَبْلِ اللهِ واتَّبِع الهُدَى ... ولا تَكُ بِدْعِيَّاً لَعلَّكَ تُفْلِحُ
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ والسُّنَنِ التِي ... أَتَتْ عَن رَسُولِ اللهِ تَنْجُ وَتَرْبَحُ
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا ... بِذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُوا
وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِلاً ... كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ وَأَسْجَحُوا
ولا تَقُلِ القُرآنُ خَلقاً قرأتَهُ ... فإنَّ كَلامَ اللهِ باللفْظِ يُوضَحُ
وَقُلْ يَتَجلَّى اللهُ للخَلْقِ جَهْرةً ... كَمَا البدْرُ لا يَخْفى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَلَيْسَ بمْولُودٍ وليسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيسَ لهُ شِبْهٌ تَعَالَى المسَبَّحُ
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْميُّ هَذَا وعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ ما قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عن مَقَالِ مُحمَّدٍ ... فقُلْ مِثْلَ ما قَدْ قَالَ في ذَاكَ تَنْجَحُ
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْمِيُّ أَيضًا يَمِيْنَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالفواضِلِ تَنْفَحُ(1/2)
وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ في كُلِّ لَيْلَةٍ ... بِلا كَيْف جَلَّ الواحدُ المتَمَدِّحُ
إلى طَبَقِ الدُّنيا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوابُ السَّماءِ وتُفْتحُ
يَقولُ : ألا مُسْتغفِرٌ يَلْقَ غَافِرًا ... ومُسْتَمنِحٌ خَيْرًا ورِزقًا فأمْنَحُ
رَوَى ذَاكَ قَومٌ لا يُرَدُّ حَدِيثَهم ... ألا خَابَ قَوْمٌ كذَّبوهُم وقُبِّحُوا
وَقُلْ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيراهُ قُدْمًا , ثُمَّ عُثْمَانُ أرْجَحُ
وَرابِعُهُم خَيْرُ البريَّةِ بَعْدَهُم ... عَلِيٌّ حَليفُ الخَيرِ , بالخَيرِ مُنْجِحُ
وإنَّهمُ و الرَّهْطُ لا رَيْبَ فِيْهِمُ ... عَلَى نُجُبِ الفِرْدَوْسِ في الخُلْدِ تَسْرَحُ
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وابنُ عَوْفٍ وطَلْحةٌ ... وعَامِرُ فِهْرٍ والزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
وَعَائِشُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالُنا ... مُعَاوِيَة أَكْرِمْ بِهِ فَهْوَ مُصلحُ
وَأَنْصارُه وَالهَاجِرونَ دِيارَهم ... بنصرهُمُ عَنْ ظلمةِ النَّارِ زحزحُوا
وَمَنْ بعدَهُم وَالتابِعُون بِحُسنِ مَا ... حَذو حَذوهم قَولاً وَفِعلاً فَأفْلحوا
وَقُلْ خَيْرَ قولٍ في الصَّحَابةِ كُلِّهِمْ ... ولا تَكُ طَعَّاناً تَعِيْبُ وَتَجْرَحُ
فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ المُبينُ بِفَضْلِهِمْ ... وفي الفَتْحِ آيٌ في الصَّحابةِ تَمْدَحُ
وبِالقَدَرِ المقْدُورِ أيْقِنْ فإنَّهُ ... دِعَامَةُ عقْدِ الدِّينِ والدِّينُ أفْيَحُ
وَلا تُنْكِرَنْ جَهلاً نَكِيرًا ومُنْكَراً ... وَلا الحْوضَ والِميزانَ إنَّكَ تُنْصَحُ
وقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظيمُ بِفَضلِهِ ... مِن النارِ أجْسادًا مِن الفَحْمِ تُطْرَحُ
عَلَى النَّهرِ في الفِردوسِ تَحْيا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَميلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
فإنَّ رَسُولَ اللهِ للخَلقِ شَافعٌ ... وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ(1/3)
ولا تُكْفِّرَنَّ أهْلَ الصَّلاةِ وإِنْ عَصَوا ... فكلُّهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصْفَحُ
ولا تَعتقِدْ رَأيَ الخَوارجِ إنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يهواهُ يُرْدِي ويَفْضَحُ
ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... ألا إنَّمَا المُرْجيُّ بالدِّينِ يَمْزَحُ
وقُلْ إنَّما الإيمانُ قَوْلٌ ونيَّةٌ ... وِفعْلٌ عَلَى قَولِ النبيِّ مُصَرَّحُ
ويَنْقُصُ طَوْرًا بالمعَاصِي وَتَارةً ... بطَاعَتِهِ يَنْمِي وفي الوَزنِ يَرْجَحُ
وَدَعْ عنكَ آراءَ الرِّجالِ وَقولَهُم ... فَقْولُ رَسُولِ اللهِ أَزكى وَأَشْرَحُ
وَلا تَكُ مِن قوْمٍ تَلَهَّوْ بِدِينِهِم ... فَتَطْعنَ في أَهَلِ الحَدَيثِ وتَقْدَحُ
إذا مَا اعتقدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هذِه ... فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ
ترجمة الناظم:
هو الحافظ المتقن العلامة قدوة المحدثين وعمدة المدققين الحافظ أبو بكر عبدالله بن الحافظ الكبير الإمام سليمان بين الأشعث السجستاني صاحب التصانيف المفيدة والفؤائد المجيدة.
ولد سنة 230هـ وتوفي سنة 316هـ , وهو ابن ست وثمانين سنة وستة أشهر وأيام. نشأ في بيت علم, فوالده هو أبي داود صاحب سنن أبي داود. رحل أبو بكر وسمع وبرع وساد الأقران, رحل به أبوه من سجستان فطوّف به شرقاً وغرباً وأسمعه من علماء ذلك الوقت, فسمع بخراسان والجبال واصبهان, وفارس والبصرة, وبغداد والكوفة, والمدينة ومكة والشام ومصر, والجزيرة. واستوطن بغداد, وصنف المسند, والسنن, والتفسير, والقراءات, والناسخ والمنسوخ وغير ذلك.(1/4)
كان حافظاً عالماً ومن أدلة حفظه ما قاله الأزهري قال: سمعت أحمد بن إبراهيم بن شاذان يقول: خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان في أيام عمرو بن الليث فأجتمع إليه أصحاب الحديث وسألوه أن يحدثهم فأبى وقال: ليس معي كتاب, فقيل له ابن أبي داود وكتاب؟! قال أبو بكر فأثاروني فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي, فلما قدمت بغداد قال البغداديون مضى ابن أبي داود إلى سجستان ولعب بالناس ثم جهزوا فيجاً(1) أكتروه إلى سجستان ليكتب لهم النسخة فكتبت وجيء بها إلى بغداد, وعرضت على الحافظ فخطئوني في ستة أحاديث, منها ثلاثة حدثت بها كما حدثت وثلاثة أحاديث أخطات فيها.
له عدة مؤلفات منها:
هذه المنظومة وهي تقع في ثلاثة وثلاثين بيتاً, وقد تضمن أمهات المسائل في العقيدة وخاصة المسائل التي جرت فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة والمخالفين لهم من أهل البدع وهذه المسائل فيها:
1-التمسك بالقرآن والسنة والتحذير من البدع.
2-مسألة القرآن وأنه كلام الله غير مخلوق.
3-الرؤية.
4-اليدان.
5-النزول.
6-فضائل الصحابة رضي الله عليهم.
7-القدر.
8-عذاب القبر والمسألة.
9-الحوض.
10-الميزان.
11-الشفاعة.
12-الخوارج والتحذير من رأيهم.
13-الإيمان.
14-التمسك بالقرآن والسنة وترك الرأي.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
- 1 -
تَمسَّكْ بحَبْلِ اللهِ واتَّبِع الهُدَى ... ولا تَكُ بِدْعِيّاً لَعلَّكَ تُفْلِحُ
لم يصدّر الناظم منظومته بالبسملة, وقد ذكر أهل العلم لذلك أسباباً:
1. أن هذه المنظومة جاءت في ترجمة المؤلف وليس من عادة المترجمين ذكر البسملة في أول المنظومات.
2. هضم لحق نفسه, فكأنه رأى أن هذه المنظومة ليست من المنظومات التي يهتم بها وليست ذا بال عنده.
__________
(1) الفيج الجماعة من الناس. والفيج المسرع في مشيه الذي يحمل الأخبار من بلد إلى بلد.(1/5)
3. لعدم جواز البسملة في أول الشعر كذا قاله بعض أهل العلم, والجمهور على جواز ذلك إن كان الشعر طيباً وليس قبيحاً. والسبب الذي يتوجه هو الأول.
(تمسك) : أي أيها المسلم السني المتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماعة السلف الصالح من أهل الفرقة الناجية.
(بحبل) : أي شرع الله من الكتاب الذي أنزله الله تعالى وما شرعه على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو نظير قوله تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ } (1) أي بدين الإسلام أو بكتابه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { القرآن حبل الله المتين } (2) وهنا استعار له بالحبل من حيث أن التمسك به سبب النجاة عند التردي كما أن التمسك بالحبل سبب السلامة عند التردي الموثوق به والاعتماد عليه فهو استعارة مصرحة.
ومما لا شك فيه ولا ريب أن التمسك بالكتاب والسنة سبب للفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فلما يحصل للإنسان من انشراح الصدر وكثرة الرزق والبركة في العمر, وأما في الآخرة فيكفي من ذلك دخول الجنة وفوق ذلك لذة النظر إلى وجهه الكريم.
(الله) : علم على الباري جلا وعلا, وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى أنه في قوله تعالى)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (3) لا نقول: إن الله صفة, بل نقول هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تابعاً, وهو جامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العليا ولذا يضاف إليه جميع الأسماء فيقال مثلاً: الرحمن من أسماء الله ولا يضاف إليه شيء وهو مشتق من أله يأله إذا عُبد فهو إله بمعنى مألوه أي معبود فهو دال على صفة له وهي الإلهية.
__________
(1) آل عمران: من الآية103).
(2) رواه الترمذي.
(3) ابراهيم: من الآية1-2)(1/6)
وأصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم, فحذفت الهمزة وأدغمت اللام باللام فيقيل الله. وعناه ذو الإلوهية والعبودية على خلقه أجمعين, قال بعض العلماء: إنه الاسم الأعظم.
وعندنا (الله, رب) إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. وهنا قيل (الله) فيكون معناها ذو الأولهية والربوبية, وإذا قيل (الحمد لله رب العالمين) فالله أي ذو الإلوهية, ورب أي ذو الربوبية.
(واتبع الهدى) : الهدى لغة الرشاد والدلالة.
اصطلاحاً: المقصود بالهدى أي الذي جاء به النبي.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفؤائد أن الهداية أربعة أنواع:
1) الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(1) } أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره, وأعطى كل عضو شكله وهيئته, وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه لما خلقه من الأعمال.
2) هداية البيان والدالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك كما قال تعالى { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(2) } . وهذه الهداية لا تستلزم الهدي التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينتفي الهدى معها كقوله تعالى { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى(3) } أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله تعالى { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4) } وهذه تنكرها المعتزلة, فعندهم يلزم من الهداية الهدى فلا هداية عندهم إن لم تكن موصلة.
__________
(1) طه: من الآية50)
(2) البلد:10)
(3) فصلت: من الآية17)
(4) الشورى: من الآية52)(1/7)
3) هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتدى فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله تعالى { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (1) وقوله تعالى { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ(2) } .
4) غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة أو النار إذا سيق أهلهما إليهما, قال تعالى في حق أهل النار { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } (3) وقال تعالى في حق أهل النار { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(4) } *(5).
(ولا تك) : لا ناهية. تكُ أصلها تكون دخلت أداة النهي فسكنت النون فالتقى ساكنان النون والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين فصارت اللفظة (تكن) فحذفت النون تخفيفاً حذفاً جائزاً لا لازماً فصارت(تك). وكان القياس أن لا تحذف هذه النون لكنهم حذفوها تخفيفاً لكثرة الاستعمال.
(بدعياً) : البدعة طريقة مستحدثة في الدين يراد بها التعبد تخالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة, وقد عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث يقول: (والبدعة ما خالف الكتاب والسنة, وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات كأقوال الخوارج, والروافض, والقدرية, والجهمية, وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد, والذين يتعبدون بحلق اللحى, وأكل الحشيشة, وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة, والله أعلم)(6).
__________
(1) فاطر: من الآية8)
(2) النحل: من الآية37)
(3) لأعراف: من الآية43)
(4) الصافات:23)
(5) بتصرف من كتاب الفؤائد.
(6) الفتاوى 18/364.(1/8)
مسألة: البدعة اللغوية والبدعة التي لم تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً لسلف الأمة, هذه البدعة إنما سميت بدعة في اللغة, إلا أنها قد لا تكون سيئة بل قد تكون حسنة, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين, وما لم يُعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة, قال الشافعي رحمه الله " البدعة بدعتان, بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً, وأثراً عن بعض (أصحاب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه بدعة ضلالة, وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: (نعمت البدعة هذه) وهذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل, ويروى عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال: (إذا قل العلم ظهر الجفا, وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء)](1).
ومثل هذا ما استحدث من وسائل وأساليب في العلم والتعلم والدعوة كالمدارس والجامعات وطبع القرآن, ونشره, وتنظيم الجيوش, والدواوين, وما قد يدخل في المصالح المرسلة, وما لا يتم الواجب إلا به.
مسألة: حد البدعة التي يكون الرجل بها من أهل الأهواء.
لا يجوز الحكم على مسلم بأنه مبتدع إلا إذا جاء أو اتبع بدعة تخالف الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والبدعة التي يُعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم السنة مخالفتها للكتاب والسنة, كبدعة الخوارج, والروافض, والقدرية, والمرجئة. قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ...الخ)(2).
مسألة: أصول البدع.
أصول البدع القديمة خمسة هي: الرفض, والخروج, والتجهم, وإنكار القدر, والإرجاء, والبدعة طريقة مستحدثة في الدين ولها صور كثيرة متعددة:
* فإما أن تكون بإحداث زيادة في الدين وجعلها منه كما قال - صلى الله عليه وسلم - { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } (3).
__________
(1) الفتاوى20/163.
(2) الفتاوى35/1414-1415.
(3) متفق عليه.(1/9)
* وإما بحذف ما هو وارد من الدين كبدعة من أنكر السنة وقالوا حسبنا كتاب الله وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - { يوشك رجل شبعان على أريكته يقول حسبنا كتاب الله فما وجدنا منه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه حرام حرّمناه, ألا وإنما أُتيت هذا القرآن ومثله معه } (1), فنفاة السنة مبتدعة.
* وإما أن تكون البدعة بتحريف معاني النصوص من آيات وأحاديث, كما هي بدعة المؤولة من الجهمية والمعطلة.
* وأما أن تكون بجهل وتطرف, ومروق من الدين كما هي بدعة الخوارج.
مسألة: تقسيم العز بن عبدالسلام البدعة.
قسم العز بن عبدالسلام البدعة إلى بدعة مكروهة وحسنة, وهذا التقسيم غير صحيح. وقد رد عليه الشاطبي فقال: (فليس في الإسلام بدعة حسنة لما روى في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { وكل بدعة ضلالة } (2).
مسألة: من المباحث ما تشبث به أهل البدع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم { من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها...الخ } (3).
يتشبث بعض أهل البدع في مثل هذا الحديث, وهذا الحديث يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { من سن في الإسلام سنة... } أي سنة العمل وليس سنة التشريع, فإذا سن في الإسلام عملاً وله أصل في الشرع فهذه سنة حسنة, كما لو سن التدريس في هذا المسجد أو في هذا البلد, فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة, لأن هذا له أصل في الشرع, ويدل لذلك ما ورد في صحيح مسلم سبب الحديث { أن أناساً من مضر قدموا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليهم فاقة...ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصدقة ثم تقدم بعض الصحابة وتصدقوا... } فقال - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
__________
(1) رواه بن معدي يكرب.
(2) رواه مسلم وابن ماجه والنسائي وأحمد والبيهقي في السنن الكبرى.
(3) رواه مسلم في كتاب الزكاة, باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.(1/10)
الجواب الثاني: إن هذا في الوسائل لا في المقاصد أي الطرق الموصلة إلى العبادات, من سن ذلك كان له أجرها...فهناك كثير من الوسائل للدعوة لم تكن موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كتصانيف العلماء قولهم مثلاً شروط الصلاة, واجبات الصلاة...الخ, هذا لم يرد لا في كتاب ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكنها من الوسائل الموصلة للعلم, كذلك وسائل الدعوة تعددت وتنوعت.
مسألة: وأعلم أن الإنسان لا يكون متابعاً إلا بتحقيق ستة أمور.
1. الجنس. 2. القدر. 3. المكان. 4. الكيفية. 5. الكيفية. 6. السبب.
الجنس: كالأضحية لا تكون مشروعة إلا ببهيمة الإنعام, فلو ضحى إنسان بغير الجنس: الذي جاء به الشرع فهو بدعة كالأضحية بدجاج مثلاً.
ومن أمثلة ذلك: صدقة الفطر ورد عن الشارع فيها الإطعام من قوت أهل البلد, فلو أن الإنسان أخرج ثياباً ولم يخرج طعاماً فهنا لم يتابع الشرع, لأنه خالف الجنس.
كذلك القدر: الشارع جاء بتقدير بعض العبادات, مثلاً صلاة العشاء أربع ركعات فلو زاد خامسة متعمداً فهذا بدعة.
كذلك الزمان: العبادات جعل الشارع لها أزمنة, فالصوم في رمضان فلو صام في غير رمضان لغير عذر فهو بدعة.
كذلك المكان: بعض العبادات جعل لها الشارع مكاناً معيناً, كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة فلو تعبد الله بها في غير أماكنها فهو بدعة.
كذلك الكيفية: ككيفية الوضوء والتيمم.
كذلك السبب: فلو جاء بعبادة بخلاف سببها فهو بدعة, مثلاً ككفارة اليمين لو أتى بعبادة الكفارة قبل السبب " أي الحلف " فعبادته مردودة عليه.(1/11)
(لعلك) : أيها الأثري المقتفي لنظمي ونثري إن تمسكت بالشرع القويم من الكتاب العزيز وبما صح عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم والسلف الصالح القويم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعمول عليهم في سائر الأزمان, وجانبت أهل البدع ولم تركن إلى أهوائهم وما انتحلوه وابتدعوه من دعاويهم ودعواهم ومباينة اعتقادهم ومجانبة فسادهم وإفسادهم.
(تفلح) : أي تفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم في عرصات الآخرة وجنات النعيم. والفلاح من الكلمات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة, قيل إنه عبارة عن أربعة أشياء بقاء بلا فناء, وغنى بلا فقر, وعز بلا ذل, وعلم بلا جهل.
- 2 -
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ والسُّنَنِ التِي ... أَتَتْ عَن رَسُولِ اللهِ تَنْجُ وَتَرْبَحُ
(ودن) : أمر من دان يدين يقال: دِنته بكسر الدال أي جازيته.
والدين في اللغة يطلق على معاني منها:
الجزاء, والإسلام, العادة, المواظب من الأمطار, والطاعة, والذل, والحساب, والقهر, والغلبة, والاستعلاء, والسلطان, والملك, والحكم, والسيرة, والتدبير, والتوحيد, واسم لجميع ما يُتَعبد لله عز وجل به, والملة, وغير ذلك.
ومراد الناظم من قوله (ودن) أي تعبد واهتد بكتاب الله المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو القرآن العظيم والذكر الحكيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فحلل حلاله وحرم حرامه واتبع محكمه وآمن بالمتشابه منه أي اعتقد بذلك وأجزم به جزماً محكماً تكن مؤمناً مسلماً.
(الله) : تقدم الكلام على هذا.
(والسنن) : جمع سنة.
والسنة في اللغة: هي الطريقة والسير والعادة سواء كانت هذه الطريقة محمودة أو غير محمودة.
اصطلاحاً: هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية.(1/12)
(التي أتت) : أي جاءت وثبتت عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله على فترة من الرسل وقلة من الدين, وقد أطبق الظلم والجهل فبعثه الله تعالى لينير به الطريق ويرحم به الخلق كما قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1).
(رسول الله) : الرسول بمعنى المرسل, وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب النبوات(2): (الفرق بين النبي والرسول, أن النبي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله من الله فهو رسول, وأما إذا كان يعمل بشريعة من قبله ولم يُرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول).
(تنجو) : في الدنيا ولآخرة, في الدنيا تنجو من أمراض الشبهات والشهوات ومن البدع والأهواء, وفي الآخرة تسلم من غضب الله وعذابه ودخول دار سخطه وانتقامه, وعقابه.
(وتربح) : أي زائداً على النجاة أنك تربح فتفوز وتفلح في الدنيا والآخرة, وقوله (تنجو وتربح) فيه بيان فائدة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وأن فيهما النجاة والربح, النجاة والسلامة من المرهوب والربح الفوز بالمطلوب, فهو يسلم من عذاب الله ومن الشقاء في الدنيا والآخرة ويفوز برضى الله وجنته.
والأدلة التي تحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحذر من البدع كثيرة جدا من ذلك:
* قوله تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (3) وقوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } (4) وقوله { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ(5) } .
ومن السنة:
__________
(1) الانبياء:107)
(2) الأنبياء107.
(3) آل عمران: من الآية31)
(4) الأنعام: من الآية153)
(5) آل عمران: من الآية132)(1/13)
* حديث العرباض بن سارية وفيه قول - صلى الله عليه وسلم - { ...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ...(1) } .
* وحديث أنس في الصحيحين { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من رغب عن سنتي فليس مني } .
* وفي صحيح مسلم وسنن أبن ماجه وغيرهما من حديث جابر - رضي الله عنه - { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته يوم الجمعة: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } .
* وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن أبغض الأمور إلى الله البدع)(2). وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما أوصني فقال: (عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع)(3).
* وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كل بدعة ضلالة وإن رأها الناس حسنة)(4).
إلى غير ذلك من الآثار الواردة عن السلف في التحذير من البدعة.
- 3 -
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا ... بِذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُوا
(وقل) : أي آيها السني المتبع للآثار والسلف الصالح " غير مخلوق" بل هو منزل من عند الله, وكلام الله من الصفات العظيمة كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } (5) وقوله { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ(6) } ولم يزل سبحانه وتعالى متصفاً بها على وجه اللائق بكماله وجلاله ومن كلامه القرآن الكريم.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وبن حبان في صحيحه. وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي وكذا الألباني في تخريج السنة.
(2) أخرجه محمد بن نصر المروزي في السنة صـ24.
(3) رواه الدارمي في سننه 1/50 والهوري في ذم الكلام كما في المنطق صـ39.
(4) رواه اللآلكائي في السنة رقم 129 وابن نصر الرزوي في السنة صـ24.
(5) النساء: من الآية164)
(6) لأعراف: من الآية143)(1/14)
(غير مخلوق) : أي أنه منزل وليس بمخلوق, وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال ابن قدامة المقدسي: (ومن كلام الله سبحانه القرآن الكريم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين, وصراطه المستقيم, وتنزيل رب العالمين, نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين, بلسان عربي مبين, منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وهو سور محكمات, وآيات بينات, وحروف وكلمات, ومن قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات, له أول وآخر, وأجزاء, وأبعاض, متلو بالألسنة, محفوظ في الصدور, مسموع بالآذان, مكتوب في المصاحف, فيه محكم ومتشابه, وناسخ ومنسوخ, وخاص وعام, وأمر ونهي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(1) } وقوله تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(2) } .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود, وهكذا قال غير واحد من السلف, روي عن سفيان عن عمر بن دينار" وكان من التابعين الأعيان" قال: ما زلت اسمع الناس يقولون ذلك).
والدليل على أنه منزل قوله تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } (3).
ودليل أنه غير مخلوق قوله تعالى { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (4) فجعل الأمر غير الخلق والقرآن من الأمر لقوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا(5) } وقوله تعالى { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ(6) } ولأن كلام الله صفة من صفاته, وصفاته غير مخلوقة.
__________
(1) فصلت:42)
(2) الاسراء:88)
(3) الفرقان: من الآية1)
(4) لأعراف: من الآية54)
(5) الشورى: من الآية52)
(6) الطلاق: من الآية5)(1/15)
أما الجهمية: وهم أتباع الجهم بن صفوان يقولون بأن الله لا يتكلم فهم ينفون عنه صفة الكلام ويقولون بأن الله خلق كلاماً في غيره يعبر عنه.
أما المعتزلة: فهم يقولون بأن الله يتكلم ويوصف بصفة الكلام لكن معنى ذلك أنه خلق كلاماً في غيره كسائر المخلوقات, فهم يقولون بأنه يتكلم بصوت وحرف لكنهما مخلوقان.
والأشاعرة: قالوا بأن كلام الله معنى قائم بنفسه لازم لها كلزوم الحياة والعلم فهو لا يتعلق بالمشيئة , لأنهم يرون أن كلام الله لا يتعلق بالمشيئة, لأنهم ينفون قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى, وقالوا لو قلنا بقيام الأفعال الاختيارية للزم من ذلك أن يكون محل الحوادث ومحل الحوادث حادث, وكذلك يقولون ليس بصوت ولا حرف وإنما هو معنى قائم بالنفس والذي يُسمع حروف وأصوات خلقها الله لتعبر عن ذلك المعنى القائم بنفسه.
(بذلك) : أي كلام الله غير مخلوق فالأشارة تعود إلى قوله(غير مخلوق كلام مليكنا).
مسألة: هل يقال بان كلام الله قديماً أم لا؟
علق الشيخ عبدالله بابطين في حاشية لوامع الأنوار(1) للسفاريني على قول الشارح (كلامه سبحانه قديم) ما نصه:
قوله إن مذهب السلف: (إن كلام الله قديم وكذلك القرآن فيه نظر, فإن مذهب السلف كما هو معروف ان كلام الله مما يتعلق بمشيئته فإذا شاء تكلم ويتكلم متى شاء كيف شاء بلا كيف).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب التسعينية(2) ما نصه:
(الوجه الثاني أن أحداً من السلف والأئمة لم يقل أن القرآن قديم وأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته) أ.هـ.
__________
(1) لوامع الأنوار 1/130.
(2) ص 134.(1/16)
وفي تنبيه ابن سحمان في حاشية لوامع الأنوار للسفاريني(1) قال: (مقولة كلامه سبحانه قديم هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها, والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته إذا شاء لا يمتنع عليه شيء أراده وأن الله تعالى متصف بالأفعال الاختيارية القائمة به فهو سبحانه قد تكلم في الأزل بما شاء ويتكلم فيما لم يزل بقدرته ومشيئته بما أراد وهو الفعال لما يريد {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} أ.هـ.
(دان) : أي تعبدوا وأطاعوا وتدينوا بذلك واعتبروه ديناً يدينون الله عز وجل به, وهو أن الله سبحانه وتعالى متكلم حقيقة بحرف وصوت مسموعين, وأن كلام الله متعلق بمشيئة وإرادته, وأن كلامه سبحانه وتعالى قديم النوع حادث الآحاد وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
(الأتقياء) : جمع تقي من الوقاية وهي في الشرع اسم لمن يقي نفسه عما يضره من الآخرة وله ثلاث مراتب:
الأولى: التوقي عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (2) .
الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهذا المعنى بقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا(3) } .
الثالثة: أن ينزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بنفسه وهذا هو التقوى على الحقيقة المطلوب بقوله تعالى { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } (4).
(وافصحوا) : أي بينوا معتقدهم في كلام الله وأظهروه في مؤلفاتهم وهذا ظاهر ممن قرأ وتأمل في كتب أهل السنة والجماعة.
- 4 -
وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِلاً ... كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ وَأَسْجَحُوا
__________
(1) 1/31
(2) الفتح: من الآية26)
(3) لأعراف: من الآية96)
(4) آل عمران: من الآية102)(1/17)
(ولا) : لا هنا ناهية.
(تك) : أصلها تكون ثم دخلت عليها لا الناهية فسكنت النون فالتقى ساكنان فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ثم حذفت النون تخفيفاً جائزاً, وتك فعل مضارع مجزوم.
(بالوقف) : قال الإمام أحمد رحمه الله: (الواقفة هم الذين يقولون: القرآن كلام الله ولا يقولون غير مخلوق يقول قال وهم من شر الأصناف وأخبثها, أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق.
(كما قال أتباع لجهم) : أي نوع من أتباع الجهم بن صفوان الذي نسبت إليه مقالة الجهمية فهو أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك, فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه, وإن كان الجعد بن درهم سبقه إلى ذلك فهو أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبدالله بواسط يوم النحر وقال: (يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحِ بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليماً, تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً ثم نزل فذبحه.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الرسالة الحموية(1): (أصل مقالة تعطيل الصفات إنما أخذ من تلامذة اليهود والمشركين, وضلال الصابئين, فإنه أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام الجعد بن درهم, وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرهما فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم, وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -) أ.هـ.
(وأسجحوا) : وفي لفظ (وأسمحوا) أي تسمحوا بالقول في خلق القرآن وتساهلوا فيه.
- 5 -
ولا تَقُلِ القُرآنُ خَلقاً قرأتَهُ ... فإنَّ كَلامَ اللهِ باللفْظِ يُوضَحُ
__________
(1) ص 98.(1/18)
لما ردّ الناظم رحمه الله على الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن رد على طائفة أخرى من طوائفهم وهي الواقفة شرع في الرد على طائفة ثالثة وهم اللفظية.
(ولا تقل) : لا ناهية.
تقل: فعل مضارع مجزوم بالسكون, وحركت اللام بالكسر لالتقاء الساكنين.
(خلق) : أي لا تقل قراءتي للقرآن مخلوقة وفي هذا رد على طائفة من أتباع جهم يقال لهم " اللفظية" قال الإمام أحمد رحمه الله: (اللفظية هم الذين يزعمون أن القرآن كلام الله, ولكن ألفاظنا وقراءتنا مخلوقة, وهم جهمية فساق)(1).
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى(2): (روى في " كتاب السنة" في الكلام على اللفظية عن أبي بكر ابن زنجوية, قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي, ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع لا يكلم. قال الخلال: وأخبرنا أبو داود السجستاني قال: سمعت أبا عبدالله يتكلم في " اللفظية" وينكر عليهم, وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر اللفظية وبدعهم) أ.هـ.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة من قسمين:
1- إن أراد اللفظ الذي يلفظ به العبد فهو مخلوق ولا بأس بذلك.
2- إن يريد به الملفوظ فهذا كلام الله وهو ليس مخلوقاً.
(فإن كلام الله) : المقصود بكلام الله هو القرآن.
(باللفظ يوضح) : أي يكشف ويوضح ويبين.
- 6 -
وَقُلْ يَتَجلَّى اللهُ للخَلْقِ جَهْرةً ... كَمَا البدْرُ لا يَخْفى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
(وقل) : أي قل أيها الأثري السلفي المتبع لمذهب أهل السنة والجماعة.
(يتجلى) : أي يظهر.
(جهرة) : أي بلا حجاب.
(كما البدر) : لا يخفى على أحد في إبداره مع الصحو.
(وربك) : أيها المخاطب ورب الخلائق أجمعين.
(أوضح) : أي أظهر وأبين من البدر لأن البدر من مخلوقاته.
__________
(1) السنة للإمام أحمد ص20.
(2) 12/325.(1/19)
قال الحافظ البيهقي والحافظ الجوزي: (التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي لا للمرئي, والمعنى ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك وتنتفي معها المرية, كرؤيتكم القمر لا ترتابون ولا تمترون)(1).
وهنا أشار الناظم رحمه الله تعالى إلى إثبات صفة رؤية الله عز وجل.
ورؤية الله عز وجل في الدنيا غير ممكنة كما في سنن أبي داوود { لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك قال: نور أنى أراه } (2). وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها { من حدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب(3) } .
وعلى هذا نعرف ما عليه الصوفية والخرافية من كذب ودجل حينما زعموا أنهم يرون ربهم في الدنيا والله تعالى قال لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام { لن تراني } لما قال { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } (4), لأن حال البشر في الدنيا لا تمكنه من رؤية الله عز وجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربه بعين رأسه وإنما راه بعين قلبه أي حصل له من الإيمان واليقين كأنه رأى ربه, وأما في الآخرة فالمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه ويكلمهم ويكلمونه قال الله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (5), وقال تعالى { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } (6), فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى, وإلا لم يكن بينهما فرق.
ورؤية الله تعالى في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
من الكتاب:
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ص130, ومعالم السنن للخطابي 7/117-118, وجامع الأصول10/855.
(2) رواه مسلم والترمذي وأحمد.
(3) رواه البخاري والترمذي واحمد.
(4) لأعراف: من الآية143)
(5) القيامة:22-23)
(6) المطففين:15)(1/20)
قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (1) وقوله { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(2) } , وقوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (3), وقوله { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(4) } .
ومن السنة:
حديث بن عبد الله البجلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا } (5), ومعنى قوله " لا تضامون" بتخفيف الميم أي لا يلحقكم ضيم وأما "لا تضامّون" بتشديد الميم يعني لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته, لأن الشيء إذا كان خفياً ينضم الواحد إلى صاحبه ليريه إياه, أما "لا تضارون" أو "تضارّون" فالمعنى لا يلحقكم ضرر لأن كل إنسان يراه سبحانه وتعالى وهو في غاية ما يكون من الطمأنينة والراحة وقد تواترت الأحاديث في دواوين الإسلام عن فضلاء الصحابة وأجلائهم كأبي بكر الصديق وأبي هريرة, وأبي سعيد, وجرير بن عبد الله , وصهيب, وابن مسعود, وعلي بن أبي طالب, وأبي موسى, وأنس, وبريدة بن الحصيب, وابن مسعود, وأنس, وأي رزين, وجابر بن عبدالله, وأبي أمامه, وزيد بن ثابت, وعمار بن ياسر, وعائشة, وعبد الله بن عمر, وعمار بن رويبة, وسلمان الفارسي وغيرهم.
والسلف مجمعون على رؤية الله عز وجل في الآخرة قال سعيد بن المسيب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط وعكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وكعب رحمهم الله تعالى.
__________
(1) سبق.
(2) المطففين:23)
(3) يونس: من الآية26)
(4) قّ:35)
(5) متفق عليه.(1/21)
والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم, وقال طاووس: أصحاب ألمراء والمقاييس حتى يجحدوا الرؤية ويخالفوا أهل السنة, وقال الأعمش وسعيد بن جبير رحمهما الله تعالى: (إن أشرف أهل الجنة من ينظر إلى الله تبارك وتعالى غدوة وعشية) , وكذا قال الأئمة الأربعة وطبقاتهم ومشائخهم, قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (الناس ينظرون إلى ربهم عز وجل يوم القيامة بأعينهم), وسئل رحمه الله تعالى عن قوله عز وجل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أننظر إلى الله عز وجل؟ قال نعم قال أشهب: فقلت إن أقواماً يقولون تنظر ما عنده, قال: بل تنظر إليه نظراً.
وذكر الطبراني وغيره أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى, فقال مالك: السيف السيف. وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذب بها فهو زنديق, ونحو ذلك من أقوال السلف.
والله عز وجل يتجلى من المسلمين, أما في الموقف فيتجلى للمسلمين عامة حتى منافقي هذه الأمة وعصاتها, قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح(1): (وقد دلت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة بل والكفار كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه(قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول, قال فإنكم ترونه يوم القيامة بذلك, يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغي, وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه).
__________
(1) ص280.(1/22)
قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه المسألة ثلاث أقول لأهل السنة:
أحدهما: أن لا يراه إلا المؤمنون.
والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك.
والثالث: يراه المنافقون دون الكفار.
والصحيح أنه سبحانه وتعالى يراه المؤمنون في عرصات القيامة وفي الجنة, وأما المنافقون فهم يرونه في عرصات القيامة, وأما الكفار من أهل الكتاب والمشركين فهم لا يرون الله عز وجل.
ولما كان ربما توهم أن من لازم التجلي والانكشاف والرؤية الجسمية بالقياس على ما هو معاين من المخلوقين دفع ذلك الوهم في البيت الذي بعد هذا فقال:
- 7 -
وَلَيْسَ بمْولُودٍ وليسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيسَ لهُ شِبْهٌ تَعَالَى المسَبَّحُ
لمّا الناظم عليه رحمة الله إثبات صفة رؤية الله عز وجل, وأن هذا ثابت بدلالة الكتاب والسنة والإجماع, وبناء على هذا قد يتوهم معنى فاسداً وهو مشابهة الخالق بالمخلوق فأتى بهذا البيت ليدفع به هذا التوهم فقال:
(وليس) : أي تبارك الله تعالى.
(بمولود) : ولده ووالد.
(وليس) : هم تقدس وتعالى (بوالد) لشيء من المولودات ولا الملائكة ولا عيسى بن مريم ولا العزير عليهما السلام ولا غيرهما.
وليس له سبحانه (شبه) : لا في ذاته المقدسة ولا في صفاته المنزهة ولا في أفعاله سبحانه.
(تعالى) : أي ارتفع وتقدس.
(المسبح) : أي المنزه عن أن يكون والد لشيء أو مولوداً في شيء, أو شبيهاً لشيء, فإنه سبحانه وتعالى ليس له شبه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
والله سبحانه وتعالى ميزة عن ثلاثة أمور هي:
الأمر الأول: عن صفات النقص فلا تلحقه ولا يوصف بها كالموت والعجز.
الأمر الثاني: النقص في الكمال فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال التي لا يلحقها نقص موصوف بالعلم الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان.(1/23)
الأمر الثالثة: ينزه كذلك عن مشابهة المخلوقين قال تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1) } .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في شرح العقيدة الأصفهانية: (الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه, وبما وصف به رسوله- صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل, فإنه قد عُلم بالسمع مع العقل أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } وقال تعالى { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون } وقوله { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقد عُلم بالعقل أن المثلين, يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه, فلو كان المخلوق مثلاً للخالق وشبيهاً له للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع, والخالق يجب وجوده وقِدَمُهً والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقِدَمُهً بل يجب حدوثه وإمكانه)(2).
- 8 -
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْميُّ هَذَا وعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ ما قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
(الجهمية) : أي أتباع جهم بن صفوان, وتقدم أنه أخذ مقالة التعطيل ونفي الصفات عن الجعد بن درهم, ولكن الجهم أظهر المقالة فنسبت إليه وأخذها الجهم أيضا عن غيره من أهل الضلالة كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قال الجلال السيوطي: ( أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد ويعني في هذه الملة الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار أخر ملوك بني أمية فقال: بأن الله لا يتكلم).
__________
(1) الشورى: من الآية11)
(2) شرح العقيدة الأصفهانية ص9/10(1/24)
{ لَنْ تَرَانِي(1) } وقالوا هذا دليل على استحالة الرؤية, لأن (لن) للنفي, والنفي خبر لا يدخله النسخ لأنه لو دخله النسخ لكان هذا تكذيباً لخبر الله, فإذا كان لا يدخله النسخ فإن رؤية الله كما يقولون تكون مستحيلة, لأن الله تعالى قال { لَنْ تَرَانِي } هكذا زعموا.
ولكن نرد عليهم من وجهتين:
الأولى: أن الآية ليس فيها دليل على النفي المؤبد, فليس معناها لن تراني ابداً, بل المعنى لن تراني حال سؤالك الرؤية أي في الدنيا, لأن الإنسان في الدنيا لا يقوى على رؤية الله عز وجل لضعف قوته وبدنه.
(ولن) لا تقتضي التأبيد, فإنها تأتي في اللغة للنفي لكن قد يكون النفي فيها مقيداً, كما في قوله تعالى { وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ(2) } فهذا مؤكدة ومع ذلك يقول عنهم { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } (3) فإنهم تمنوا الموت فصارت (لن) هنا لغير التأبيد فيقال إن كلام ربنا لا يكذب وخبره لابد أن يكون, ولا يمكن لموسى ولا لغير موسى في الدنيا أن يرى الله أبداً, ولهذا كان الصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربه ليلة المعراج.
الثانية: نقول في قوله تعالى { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ(4) } دليل ضدكم لا لكم, لأن سؤال موسى الرؤية يدل على أنه يعلم أنها ممكنة وليست مستحيلة, وجه ذلك: لو أنها مستحيلة ما سألها فموسى أعلم بالله منكم بلا شك, فسأل الرؤية ولو كان يعلم أنها مستحيلة ما سألها, لأنك لو سألت الله شيئاً مستحيلاً لكنت معتدياً في الدعاء.
__________
(1) لأعراف: من الآية143)
(2) الجمعة: من الآية7)
(3) الزخرف: من الآية77)
(4) لأعراف: من الآية143)(1/25)
كذلك مما استدل به هؤلا على نفي الرؤية قوله تعالى { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } (1) ولكن استدلالهم هذا ضعيف جداً, لأن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية فيكون هذا الدليل عليهم وليس لهم لأنه لو كان لا يرى أبداً لقال لا تراه الأبصار ولم يقل (لا تدركه) ولهذا استدل بها بعض أهل السنة والجماعة على رؤية الله عز وجل.
(هذا) : المشار إليه هو التجلي.
(عندنا) : أي معشر أهل السنة والجماعة.
(بمصداق) : قال في القاموس مصداق الشيء ما يصدقه.
(حديث مصرح) : في بعض النسخ حديث مصحح, والمراد به حديث جرير الذي رواه الشيخان والدار قطني { قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } (2) وهاتان الصلاتان هما العصر والفجر.
- 9 -
رَوَاهُ جَرِيرٌعن مَقَالِ مُحمَّدٍ ... فقُلْ مِثْلَ ما قَدْ قَالَ في ذَاكَ تَنْجَحُ
__________
(1) الأنعام: من الآية103)
(2) أخرجه البخاري في كتاب المواقيت, وفي باب فضل صلاة الفجر, وفي كتاب التوحيد. ومسلم في المساجد باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما.(1/26)
أي روى ذلك الحديث الصحيح جرير وهو أبو عمر وقيل أبو عبدالله جرير بن عبدالله جابر البجلي الأحمسي رضي الله عنه أسلم في السنة التي توفي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جرير: أسلمت قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يوماً فيما يقال والصحيح أنه أسلم قبل ذلك, نزل الكوفة وسكنها زماناً طويلاً ثم أنتقل إلى قرقيسيا, ومات بها سنة احدى وخمسين وقيل سنة سنة أربع وخمسين, روى عنه أنس بن مالك وقيس بن أبي حازم, والشعبي وبنوه: عبيد الله, والمنذر, وإبراهيم. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جرير - رضي الله عنه - قال { ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي(1) } .
(عن مقال محمد) : أي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(فقل) : أي أيها السني السلفي الأثري.
(ذاك) : الإشارة ترجع إلى رؤية الله عز وجل.
(تنجح) : أي تصيب الحق فتنجح.
- 10 -
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْمِيُّ أَيضًا يَمِيْنَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالفواضِلِ تَنْفَحُ
(وقد ينكر الجهمي) : أي المعتقد اعتقاد الجهم بن صفوان, ومن وافقه من المعطلة والقرامطة والباطنية والفلاسفة وذويهم.
(أيضا) : مصدر آض يئيض أيضاً إذا رجع, أي مع إنكاره لرؤيته تعالى وتجليه لعباده المؤمنين في دار كرامته بتكريمه تعالى وتقدس.
__________
(1) رواه البخاري في فضائل اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب ذكر جرير - رضي الله عنه -. ومسلم في فضائل الصحابة, باب فضائل جرير- رضي الله عنه -. ورواه الترمذي في المناقب, باب مناقب جرير - رضي الله عنه -.(1/27)
(يمينه) : خالف أهل السنة والجماعة قوم في إثبات صفة اليدين لله عز وجل وهم أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم, وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية بل المراد باليد أمر معنوي لا أمر حقيقي, فأهل التعطيل ينكرون سائر الصفات الخبرية من الوجه والعين واليد ونحوها مما أضيف إلى الله تعالى, لأن صفات الله عز وجل على قسمين:
القسم الأول: صفات ذاتية وهي على قسمين
1- صفات معنوية وهي التي لم يزل ولا يزال الله متصفاً بها كالعلم والحياة ونحو ذلك.
2- صفات خبرية هي التي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء كالإصبع والوجه والقدم ونحو ذلك.
القسم الثاني: صفات فعلية وهي التي يفعلها الله عز وجل تبعاً لحكمته, كالكلام والغضب والضحك ونحو ذلك.
فأهل البدع ينفون عن الله عز وجل الصفات الخبرية, وهم يزعمون أن إثبات الصفات الخبرية لله يستلزم التشبيه والتجسيم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ومن هذه الصفات صفة اليد لله عز وجل وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية بل المراد باليد أمر معنوي لا أمر حقيقي, ولذلك قالوا المراد باليد القوة أو أن المراد باليد النعمة, لأن اليد تطلق في اللغة العربية على القوة وعلى النعمة ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل { أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عباداً لي لا يَدًانِ لأحدٍ بقتالهم } , وفي رواية { لا يَدًيْ لأحدٍ بقتالهم(1) } والمعنى لا قوة لأحد بقتالهم وهم يأجوج ومأجوج.
وأما اليد بمعنى النعمة فكثير ومنه قول رسول قريش لأبي بكر { لولا يدٌ لق عندي لم أجْزُكَ لأجبتك } (2) يعني نعمة.
وقالوا لو أثبتنا لله يداً حقيقية لزم من ذلك التجسيم أي يكون لله تعالى جسماً, والأجسام متماثلة وحينئذٍ تقع فيما نهى الله عنه في قوله { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ(3) } .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن, باب ذكر الدجال وصفته وما معه.
(2) رواه البخاري كتاب الشروط.
(3) النحل: من الآية74)(1/28)
ولكن يقال: بأن إثبات صفة اليد لا يقتضي المماثلة والتشبيه, فإن الله تعالى مخالف لجميع الحوادث فذاته جل وعلا لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات, فلا يشبهه شيء من خلقه ولا يشبه هو شيئاَ من خلقه تعالى وتقدس, بل هو منفرد عن جميع المخلوقات ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.
ثم أن قولهم إن إثبات صفة اليد يستلزم التشبيه يجاب عنه من عدة وجوه:
أولاً: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ فهو مردود إلا بدليل.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف, حيث أنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد (اليد الحقيقية) ولو قال قائل: لم يروَ عن هؤلا ما يفيد أن المراد باليد هي اليد الحقيقية قلنا لو كان عندهم معنى مخالف لظاهر اللفظ لقالوا به, فلما لم يقولوا به عُلم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.
ثالثاً: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعمة أو القوة في مثل قوله تعالى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) ووجهه أنه يمتنع غاية الامتناع, لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط, ونعم الله لا تحصى ويستلزم أن تكون القوة قوتان, والقوة بمعنى واحد لا يتعدد, فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.
رابعاً: أنه لو كان المراد باليد القوة ما كان لآدم فضل على إبليس, بل ولا على الحمير والكلاب لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله.
خامساً: أن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة, أو القوة, فجاء فيها ذكر الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة, لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف, وقد أبطل ابن القيم رحمه الله تعالى هذا القول من عشرين وجهاً كما في كتابه الصواعق المرسلة(2) .
وصفة اليد ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع:
__________
(1) صّ: من الآية75)
(2) ص. 370-379.(1/29)
* أما الكتاب فمن ذلك قوله تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1) وقوله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ(2) } وقوله { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ(3) } وقوله { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا(4) } والنصوص الواردة في اليد على ثلاثة أوجه:
1. الإفراد.
2. التثنية.
3. الجمع.
أما التثنية فهو معتقد أهل السنة والجماعة وهو إثبات يدين حقيقتين لله تعالى توصفان بالأخذ والقبض والخلق والرفع والخفض والإنفاق, فالله تعالى غرس جنة عدن بيده وكتب الكتاب بيده وخلق آدم بيده والبسط الخلق كما قال تعالى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (5), والطي كما في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول { يطوي الله تعالى السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى } , والقبض والإنفاق والخفض والرفع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار } إلى قوله { بيده الأخرى بالقسط يرفع ويخفض } (6) والبسط لقوله تعالى { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (7) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل } (8) الحديث.
وأما ورد لفظ اليد بالإفراد فكما في قول الله تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (9) والجمع كما في قوله تعالى { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (10).
والجمع بينهما أن يقال فأما على لفظ الإفراد فإنه يقال: أن المفرد المضاف يعم فهو يعم اليدين جميعاً.
أما الجمع فإنه يجاب عنه بجوابين:
1) أنه على قول من قال أن أقل الجمع اثنان فلا إشكال في ذلك.
2) أما إذا قلنا إن أقل الجمع ثلاثة فالجمع هنا للتعظيم.
__________
(1) الفتح: من الآية10)
(2) صّ: من الآية75)
(3) المائدة: من الآية64)
(4) يّس: من الآية71)
(5) سبق.
(6) رواه البخاري ومسلم والترمذي وبن ماجه وأحمد كلهم من حديث أبي هريرة.
(7) سبق.
(8) رواه أحمد.
(9) سبق.
(10) سبق.(1/30)
وكلتا يدي الله عز وجل يمين, ولفظ الشمال: أجاب البيهقي عنها بأنها لفظة شاذة هذا جواب, والجواب الثاني على فرض إثبات هذه اللفظة فليس معنى ذلك أنها أنقص من الأخرى كما ثبت ذلك عن المخلوق فهو سبحانه وتعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1) } .
* وإثبات صفة اليدين ثابتة بالسنة كذلك من ذلك ما ورد في الصحيحين وغيرهما { يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض.. } وكذلك ما ورد في مسلم { يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى } (2).
* والإجماع منعقد على ذلك:فقد أجمع السلف على لإثبات اليدين لله عز وجل, فيجب إثباتهما له سبحانه وتعالى بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل, وهما يدان حقيقيتان لله تعالى يليقان به.
(بالفواضل) : المراد تنعم وتعطي القليل والكثير, كما قال تعالى { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (3). فيد الله تعالى مبسوطة واسعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { يد الله ملأى سحّاء كثيرة العطاء في الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغضِ ما فيه يمينه } (4) , ولذا لأحد يُحصي ما أنفقه الله منذ خلق السماوات والأرض.
- 11 -
وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ في كُلّ ِلَيْلَة ... بِلا كَيْف جَلَّ الواحدُ المتَمَدِّحُ
(وقل) : أي اعتقد أيها السلفي الأثري ودن أيها السني بالنزول الإلهي على حسب ما يليق بذاته العلية وصفاته الخبرية, كما ثبتت بذلك الأخبار وصحت به الآثار.
__________
(1) الشورى: من الآية11)
(2) رواه مسلم وغيره من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) سبق.
(4) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/31)
(ينزل) : في ذلك إثبات صفة النزول لله عز وجل نزولاً يليق بذاته, بلا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف, والنزول من الصفات الفعلية التي يفعلها الله تعالى حسب مشيئته ونزوله قديم النوع حادث الآحاد ككلام الله عز وجل.
(الجبار) : اسم من أسمائه الحسنى عز وجل, قيل: أن الجبار هو الذي جبر الخلائق على ما أراده من أمره سبحانه وتعالى, وقيل: بأن الجبار هو الذي مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق. وقيل: الجبار هو العالي فوق خلقه مأخوذ من قولهم تجبر النبات إذا طال وعلا.
والأختلاف هنا في معنى الجبار ليس اختلاف تضاد وإنما هو من تفسير بالمثل وهذه المعاني لا تضاد فيها.
والجبار في صفة الله صفة مدح وفي الخلق صفة ذم, لأنهم تحت القهر والمشيئة, فعلى العبد أن لا يتجبر على غيره من عباد الله تعالى.
(كل ليلة) : أي من الليالي فلا يختص بليلة دون أخرى.
(بلا كيف) : معتقد أهل السنة والجماعة إثبات الصفات بلا تكييف..., وليس المعنى أن النزول ليس له كيفية فهو له كيفية لكننا لا نعلمها, والإمام مالك سئل عن الاستواء, فقال: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة).
فلا يسأل بكيف لأن طريقة الغيب وما كان طريقة الغيب فلا يمكن معرفته إلا عن طريق الكتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد روى أبو بكر الاثرم عن الفضيل بن عياض رحمهما الله تعالى قال: (ليس أن نتوهم في الله كيف وكيف, لأن الله تعالى وصف فأبلغ فقال { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه).
(جل) : أي عظم سبحانه وتعالى في وحدانيته وفي الحديث { ألظوا بياذا الجلال والإكرام } (1).
__________
(1) رواه الترمذي عن أنس بن مالك وقال حديث غريب, رواه عن ربيعة بن عامر كل من أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.(1/32)
(الواحد) : الواحد من أسماء الله عز وجل وهو الفرد الذي لم يزل وحده, والفرق بين الواحد والأحد أن الواحد هو المنفرد بالذات والأحد هو المنفرد بالمعنى لا يشاركه فيها أحد, فالله عز وجل واحد في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته.
(المتمدح) : أي الذي يحب المدح, ولذا ورد في الحديث عن أبي وأئل عن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت أنت سمعت هذا من عبدالله؟ قال نعم ورفعه قال { لا أحد أغير من الله فلذلك ذم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه(1) } .
وأشار الناظم في هذا البيت إلى إثبات صفة النزول لله عز وجل, وهي من الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة الله تعالى يفعلها الله تعالى تبعاً لحكمته ومشيئته وقد ورد ذلك في الحديث المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطيه, من يستغفرني فأغفر له } (2).
ونزول الله تعالى حقيقي لأن كل شيء الضمير يعود فيه إلى الله فهو ينسب إليه حقيقة.
قال أبو عثمان النيسابوري: (فلما صح خبر النزول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر به أهل السنة وقبلوا الحديث, واثبتوا النزول على ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه, وعلموا وعرفوا, واعتقدوا وتحققوا أن صفات الرب تعالى لا تشبه صفات الخلق, كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق سبحانه وتعالى عما تقول المشبهة والمعطلة علوا كبيراً) (3).
والمراد بالنزول هو نزول الله نفسه ولا نحتاج إلى ان نقول بذاته ما دام الفعل أضيف إليه فهو له.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد.
(3) أنظر عقيدة السلف.(1/33)
لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته, لأنهم لجأوا إلى ذلك اضطروا إليه لأن هناك من حرفوا الحديث وقالوا: أن المراد بالنزول هو نزول أمر الله.
وقال أخرون: الذي ينزل رحمة الله.
وقال آخرون: بل الذي ينزل ملك من الملائكة.
وهذا كله باطل, فإن أمر الله دائماً وأبداً ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل قال تعالى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ(1) } وقوله { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْر } (2).
وأما قولهم:
المقصود نزول الرحمة فيقال ليس بصحيح إن الرحمة لا تنزل إلا في الثلث الأخير من الليل قال تعالى { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ(3) } , فكل النعم هي من آثار رحمة الله جل وعلا, ثم يقال ما الفائدة من نزول رحمة الله إلى السماء الدنيا.
أما قول من قال: أن المراد نزول ملك من ملائكته فيقال: هل من المعقول أن الملك من ملائكة الله يقول: من يدعوني فاستجيب له...الخ, فتبين من هذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث.
وهم يقولون أيضاً: أنتم تقولون إن الله ينزل, إذا نزل أين العلو؟ وأين استواءه على العرش؟ وإذا نزل فالنزول حركة وانتقال, فإذا نزل فالنزول حادث والحوادث لا تقوم إلا يحادث. ولكننا نقول لهم هذا كله جدل بالباطل وبناء عليه نقول:
نزوله لا ينافي علوه, لأنه ليس معنى النزول أن السماء تقله وأن السماوات الأخرى تظله إذا أنه لا يحيط به سبحانه شيء من مخلوقاته فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه, أما الأستواء على العرش فهو فعل ليس من صفات الذات, وليس لنا حق أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو كما سكت عن ذلك الصحابة, وعلماء السنة لهم في ذلك ثلاثة أقوال, قول بأنه يخلو, وقول بأنه لا يخلو, وقول بالتوقف.
__________
(1) السجدة: من الآية5)
(2) هود: من الآية123)
(3) النحل: من الآية53)(1/34)
وشيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة العرشية(1) يقول: (بأنه لا يخلوا منه العرش لأن أدلة استواءه على عرشه محكمة والحديث في نزول الله محكم, والله عز وجل لا تقاس صفاته بصفات الخلق, فيجب علينا أن نبقي نصوص الأستواء على إحكامه ونأخذها هكذا فنقول:
هو مستو على عرشه نازل إلى السماء الدنيا, والله أعلم بكيفية ذلك, وعقولنا أقصر وأدني وأحقر من أن تحيط بالله عز وجل. والله أعلم.
- 12 -
إلى طَبَقِ الدُّنيا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوابُ السَّماءِ وتُفْتحُ
(إلى طبق الدنيا) : طبق الدنيا أي سماء الدنيا فإن الطبق غطاء كل شيء وفي الحديث { لله مائة رحمة كل رحمة منها كطباق الأرض } (2) أي كغشائها.
والسماء الدنيا هي القريبة إلى الأرض فهي أقرب السماوات إلى الأرض, والسماوات سبع. وإنما سميت بالدنيا لقربها من الأرض ولذا سميت بذلك.
(يمن) : أي يعطي ويحسن بفضله ومن أسمائه سبحانه وتعالى المنان وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء لا من المنة وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ما أحد أمن علينا من ابن أبي قحافة)(3), أي ما أحد أجود بماله وذات يده.
(بفضله) : الفضل ضد النقص.
(فتفرج) : أي تكشف وتنشق وتتصدع.
(أبواب) : جمع باب وهو فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل.
(السماء وتفتح) : أي تفتح أبواب السماء, وذلك لنزول المنح منها والرحمة والمغفرة وصعود العمل والدعاء وإجابته.
- 13 -
يَقولُ: ألا مُسْتغفِرٌ يَلْقَ غَافِرًا ... ومُسْتَمنِحٌ خَيْرًا ورِزقًا فأمْنَحُ
__________
(1) ص 21
(2) رواه مسلم عن سلمان - رضي الله عنه -.
(3) رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/35)
(يقول) : أي الرب تبارك وتعالى في نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في حديث أبي هريرة السابق الذي في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ...(1) } .
(ألا) : أداة استفتاح للعرض والتخصيص ومعناهما الطلب لكن العرض طلب بلين كقوله تعالى { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } (2) وكذا هو هنا.
(مستغفر) : أي يطلب غفران ذنوبه فهو طالب للمغفرة.
(غافراً) : مأخوذ من الغفر وهو الستر والتجاوز, كذلك المغفرة والرحمة إذا ذكر أحدهما دخل فيه الآخر, وإذا اجتمعا افترقا فيكون المراد بالرحمة الفوز بالمطلوب, النجاة من المرهوب.
(ومستمنح خيراً) : أي طالب للخير والخير هو اسم جامع لكل ما ينتفع به من الصحة والمال والعلم والزوجة... ونحو ذلك وجمعه خيور.
(ورزقاً) : الرزق هو ما ينتفع به المرتزق من حلال وحرام. والمعتزلة قالوا الحرام ليس برزق وفسروه تارة بمملوك يأكله مالكه وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به وذلك لا يكون إلا حلالاً, والصواب الأول.
ولابن تيمية رحمه الله تفصيل نفيس قال ما نصه: (والرزق يراد به شيئان, أحدهما ما ينتفع به العبد, والثاني ما يملكه العبد فالثاني هو المذكور في قوله تعالى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } , { وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه. وأما الأول فهو المذكور في قوله تعالى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ } وقوله - صلى الله عليه وسلم - { وإن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها } والعبد قد يأكل الحلال والحرام فهو رزق باعتبار الأول لا الثاني) أ.ه.(3).
(فيمنح) : أي يعطى.
- 14 -
رَوَى ذَاكَ قَومٌ لا يُرَدُّ حَدِيثَهم ... ألا خَابَ قَوْمٌ كذَّبوهُم وقُبِّحُوا
(روى) : أي نزول الله عز وجل.
__________
(1) سبق.
(2) النور: من الآية22)
(3) الفتاوى8/541.(1/36)
(ذاك) : اسم الإشارة في محل نصب مفعول به والمشار إليه هو النزول المفهوم من قول الناظم رحمه الله: وقل ينزل الجبار كل ليلة... كما تقدم بيان ذلك.
(قوم) : هم الجماعة من الرجال والنساء معاً أو الرجال خاصة أو يدخله النساء على التبعية كذا في القاموس وقال في النهاية القوم في الأصل مصدر قام فوصف به الإنسان ثم غلب على الرجال دون النساء ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم ولتصفق النساء } (1) فقابلهن بهم وسموا بذلك لأنهم قوامون على النساء بلأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها.
(لا يرد حديثهم) : ثم وصف الذين رووا أحاديث النزول بأنهم لا يرد حديثهم أي إنهم ثقات ضابطون عدول حديثهم لا يرد لحفظهم وعدالتهم وضبطهم.
(ألا) : حرف تنبيه.
(خاب) : أي خسر وحُرم.
(كذبوهم) : أي كذبوا أولئك القوم الذين لا يرد حديثهم أي نسبوهم إلى الكذب, والكذب هو الأخبار بما يخالف الواقع.
(وقبحوا) : أي نسبوهم إلى القبح وهو ضد الحسن.
- 15 -
وَقُلْ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيراهُ قُدْمًا , ثُمَّ عُثْمَانُ أرْجَحُ
لمّا تكلم المؤلف عن الصفات الخبرية والصفات الفعلية انتقل إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالصحابة.
(وقل) : أي قل بلسانك معتقداً بجنانك.
(إن خير الناس) : أي أفضلهم من هذه الأمة التي هي خير الأمم وأفضل الأمم بشاهد قوله تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(2) } فخير الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وبعده - صلى الله عليه وسلم - (وزيراه) : اثنية وزير والضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال في القاموس " الوزير حباء الملك الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه " (3).
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) آل عمران: من الآية110)
(3) القاموس 2/159 (وزر).(1/37)
وفي نهاية ابن الأثير " في حديث السقيفة نحن الأمراء وأنتم الوزراء جمع وزير وهو الذي بوزارة فيحمل عنه ما حمله من الأثقال, والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره, فهو ملجأ له ومفزع " أ.هـ(1).
(قدما) : أي في ابتداء الأمر والنبوة فهو مفعول فيه, والمراد بهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. والإشارة في ذلك إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ما من نبي إلا وله وزيران, وزيران من أهل السماء, ووزيران من أهل الأرض, فأما ويراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل, وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر } (2).
ودليل خيريتهما وأفضليتهما على سائر أمة محمد بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - { أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الناس أحب إليك؟ , قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها. فقلت ثم من؟ فقال: عمر بن الخطاب } (3).
وفي رواية { لست أسالك عن أهلك وإنما أسألك عن أصحابك } .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما { كنا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم } .
وفي رواية عند أبي داود كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي { أفضل أمته بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان } .
ورواه كذلك الطبراني وزاد { فيبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره } .
__________
(1) النهاية5/180.
(2) رواه البخاري في التاريخ الكبير, والترمذي في الجامع, وابن عدي في الكامل كلهم عن أبي سعيد مرفوعاً, وقال الترمذي حسن غريب. قال الألباني رحمه الله في تخريج المشكاة سنده ضعيف.
(3) رواه البخاري في فضائل الصحابة, ومسلم في فضائل الصحابة أيضاً.(1/38)
أبو بكر: اعلم أن أفضل هذه الأمة بالتحقيق أمير المؤمنين خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله أبو بكر الصديق بن عثمان أبو قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد ين تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب, يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب.
ولقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعتيق, قيل لجمال وجهه, وقيل لأنه عتيق الله من النار, وأمه أم الخير سلمى بنت صخر ابن عمرو بن كعب بنت عن أبيه, ماتت هي وأبوه مسلمين رضوان الله عليهما, وكانت وفاة أبي قحافة في خلافة عمر رضي الله عنهما.
وهو أول الناس إيماناً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قول جموع من أهل العلم.
وفي سنن الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه - ألست أول من أسلم, ألست صاحب كذا, ألست صاحب كذا } (1).
والخلاف قائم في من أول من أسلم, ويروى عن أبي حنيفة أنه قال: (الأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر, ومن الصبيان علي, ومن النساء خديجة, ومن الموالي زيد, ومن العبيد بلال. وهذا من أحسن ما قيل لجمعه الأقوال).
فهو - رضي الله عنه - من أفضل الصحابة وخيرهم بإجماع أهل السنة, فقد أجمع الصحابة وأهل السنة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر - رضي الله عنه -, ولي الخلافة بإجماع الصحابة واتفاقهم عليه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفى وهو ابن ثلاثة وستين سنة, وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر تعجز عشر ليال, وصلى عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ودفن في الحجرة الشريفة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه - رضي الله عنه - .
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث غريب.(1/39)
وقد ورد في فضل أبي بكر خاصة جملة من الأحاديث منها ما رواه البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال { أتت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن لم أجدك " كأنها تقول الموت " قال إن لم تجديني فأتي أبا بكر } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر وقد وقع بينه وبين أبي بكر خلاف { إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت, وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله, فهل أنتم تاركوا لي صاحبي.. " مرتين " فما أوذي بعدها(1) } .
وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
وقال فيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - { أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله } (2).
عمر: هو عمر بن الخطاب الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاروق - رضي الله عنه - فهو أمير المؤمنين بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قُرْط ابن رزَاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي, وأمه حَنْتَمة بنت هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل واسمه عمرو بن هشام فهو خال عمر - رضي الله عنه - .
وكنيته أبو حفص كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر والحفص ولد الأسد, ولقبه بالفاروق, لأنه فرّق بين الحق والباطل لعبادة الله جهراً بسبب إسلامه, ولم يعبد جهراً منذ بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك.
من مناقبه ما ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك(3) } .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر } (4) أي ملهمون.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري في صحيحه.(1/40)
وعمر بعد الصديق أفضل هذه الأمة بلا شك ولا مراء بالنص والإجماع, نقل الإجماع على ذلك ابن بطة في الإبانة, والإبانة للأشعري, وعقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني, ومجموع الفتاوى, خلافاً للشيعة في زعمهم أن أفضل هذه الأمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخلافاً للراوندية وهي من فرق الرافضة الذين في زعمهم أن أفضل الصحابة رضي الله عنهم العباس بن عبد المطلب, فهم زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على العباس بن عبد المطلب, ونصبه إماماً ثم نص العباس على إمامة ابنه عبدالله... ثم ساقوا الإمامة حتى انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور.
وفي سنة ثلاث وعشرين لما نفر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من منى أناخ بالأبطح ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء وقال { اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط } , فما أنسلخ ذو الحجة حتى قتل شهيداً - رضي الله عنه -. وكان قد قال في خطبته { رأيت كأن ديكاً نقرني نقرة أو نقرتين وإني لأراه حضور أجلي } . فأصيب - رضي الله عنه - يوم الأربعاء لأربع بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ضربه أبو لؤلؤة فيروز عبد المغيرة بن شعبة وكان مجوسياً, وكان قد جاء عمر يشتكي كثرة ما جعل عليه المغيرة من الخراج فقال ما خراجك؟ قال مائة درهم كل شهر, فقال ما هو عليك بكثير, لكثرة صنائعه, ثم إنه حقد عليه فطعنه بخنجر ذي رأسين ونصابه في وسطه ثلاث طعنات, لما خرج عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر, وطعن معه اثني عشر رجلاً مات منهم ستة فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوباً فلما اغتم فيه قتل نفسه.(1/41)
(ثم) : أي بعد أبي بكر الصديق وعمر الفاروق اللذين هما وزيرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتان من بعده, فلأفضل بعدهما وخير الناس عقبهما عثمان بن عفان بن أبي العاص واسمه الحارث بن أميه بن عبد شمس بن مناف يلتقي نسبه مع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف بن قصي.
(الأرجح) : إشارة إلى الصحيح المعتمد من أن عثمان - رضي الله عنه - يلي وزيري النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفضيلة, فأفضل هذه الأمة نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ذو النورين رضي الله عنهم.
فتفضيل الصديق ثم عمر مجمع عليه بين أهل الحق, ومن فضل عليا عليهما في الفضل والخلافة فهو رافضي مبتدع فاسق, قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ومن فضل علياً على أبي بكر وعمر أو قدمه عليهما في الفضيلة والإمامة دون النسب فهو رافضي مبتدع فاسق) ذكره القاضي أبو يعلى.
أما المفاضلة بين عثمان وعلي فمحل خلاف فالأكثرون ومنهم الإمام أحمد والأمام الشافعي وهو المشهور عن الأمام مالك أن الأفضل بعد أبي بكر وعمر, عثمان ثم علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما. وقيل بالوقف على التفضيل بينهما وهو رواية عن مالك فقد حكى أبو بكر المازري من المالكية عن المدونة أن مالكاً سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم فقال: أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ثم قال أوفي ذلك شك؟ فقيل له علي وعثمان رضي الله عنهما؟ فقال: ما أدركت أحداً ممن اقتدي به يفضل أحدهما على الآخر.(1/42)
ولد عثمان - رضي الله عنه - سادس سنة الفيل, وأسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم, وهاجر الهجرتين إلى الحبشة, وتزوج رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل العقبة فماتت عنده في الثانية من الهجرة عند رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة بدر العظمى, فلم يشهد عثمان - رضي الله عنه - بدراً لتخلفه بإذن رسول الله ليمرض رقية, فجاء البشير بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دفنها وضرب له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره ثم زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أختها أم كلثوم وماتت عنده أيضا سنة تسع من الهجرة.
قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره, ولذلك سمي بذي النورين, فهو - رضي الله عنه - من السابقين الأولين, وأول المهاجرين و وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة, وأحد الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض, وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن في المصحف, وأحد الخلفاء الراشدين, وكان جميلاً صواماً قواماً, وكثير التلاوة للقرآن العظيم.
- 16 -
وَرابِعُهُم خَيْرُ البريَّةِ بَعْدَهُم ... عَلِيٌّ حَليفُ الخَيرِ , بالخَيرِ مُنْجِحُ
(ورابعهم) : أي رابع الخلفاء الراشدين المتقدم ذكرهم وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
(خير البرية) : أي الخلق.
(بعدهم) : أي بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.(1/43)
(علي) : الأنزع البطين " الأنزع هو الذي ينحسر شعر مقدم رأسه مما فوق الجبين, والبطين أي العظيم البطن " فهو علي بن أبي طالب, واسم أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب جد إمام المرسلين وخاتم النبيين. يجتمع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده عبد المطلب فعلي - رضي الله عنه - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأم علي - صلى الله عليه وسلم - هي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً في الإسلام, وقد أسلمت وهاجرت.
(حليف الخير) : بالحاء المهملة المفتوحة وكسر اللام كأمير أصله المحالف والمراد هنا الملازم للخير المواخي له, الذي إذا وجد, وجد معه ويفقد بفقدانه, ومنه قول أخت الوليد بن طريف الشاري الخارجي فيه " واسمها الفارعة وقيل فاطمة " وكانت تجيد الشعر وتسلك طريق الخنساء في مراثيها لأخيها صخر, فقالت في أخيها من قصيدة:
حليف الندي ما عاش يرضى به الندى فإن مات لا يرضى الندى بحليف
وزيد حليف اللسان حديده
(بالخير) : وهو ضد الشر, والمال الكثير منه, واسم جامع لكل مُنتفع به, والكثير الخير يقال له خير.
(منجح) : اسم فاعل من نجحت الحاجة وأنجحت وأنجحها الله, والنجَاح بالفتح هو الظفر, والنُجح بالضم الظفر بالشيء, والجمع مناجيح ومناجح, والنجيح هو الصواب من الرأي وهذا إشارة إلى ما كان عليه من الظفر بالأقران وموالاة أهل الإيمان, والاعتناء بمكارم الأخلاق ومزيد الكرم بالأرزاق, وتيسر أموره والإنجاح, وأنه لكل مغلق من الخير مفتاح, فرضي الله عنه وأرضاه وبوأه غرف الجنان, وأولاه من أهل الحق, وقمع من عاداه, وإذ قد عرفت أنه أقرب الخلفاء الراشدين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسباً وأمسهم رحماً أماً وأباً.
وقد ورد في علي - رضي الله عنه - فضائل كثيرة منها:
ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: ( ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي رضي الله عنه وأرضاه).(1/44)
قال بعض المحقيين: (سبب ذلك " والله أعلم " أن الله اطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما سيكون بعده مما ابتلى به أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وما وقع له من الاختلاف لما آل إليه أمر الخلافة فاقتضى ذلك نصح الأمة بإشهار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتلك الفضائل لتحصل النجاة لمن تمسك به ممن بلغته, ثم لما وقع الاختلاف والخروج عليه نشر من سمع من الصحابة رضي الله عنهم تلك الفضائل, وبثها نصحاً للأمة ثم لما اشتد الخطب واشتغلت طائفة من بني أمية بتنقيصه وسبه حتى على المنابر ووافقهم على ذلك الخوارج, اشتغلت جهابذة العلماء والحفاظ من أهل السنة ببث فضائله حتى كثرت نصحاً للأمة ونصرة للحق)(1).
__________
(1) أنظر فتح الباري 7/89 ولوامع الأنوار للسفاريني.(1/45)
توفي - رضي الله عنه - ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين, وعمره ثلاثة وستون سنة. وقد قتل - رضي الله عنه - حينما كمن له عبدالرحمن بن ملجم ألمرادي هو وشبيب بن شجرة الأشجعي بسيفيهما قبالة السدة التي يخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهرج لصلاة الصبح فبدر شبيب فأخطأه وضربه ابن ملجم على رأسه وقال: الحكم لله يا علي لا لق ولا لأصحابك, فقال علي - رضي الله عنه - فزت ورب الكعبة لا يفر منكم الكلب, وشد الناس عليه من كل جانب فحمل عليهم ابن ملجم فأفرجوا له فتلقاه المغيرة بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب فرمى عليه قطيفة كانت عنده واحتمله وضرب به الأرض وقعد على صدره, وقيل الذي فعل ذلك رجل من همدان, وجيء بابن ملجم إلى علي - رضي الله عنه - فنظر إليه وقال: النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني وإن سلمت رأيت فيه رأي, فمات - رضي الله عنه - وأرضاه فقُتل ابن ملجم بعدما قطعت يداه ورجلاه وكحلت عينيه بمسامير الحديد محماة ثم قطع لسانه, ولما أرادوا قطع لسانه تمانع تمانعاً شديداً مع أنه قطعت أعضاؤه ولم يتأوه فقيل له في ذلك فقال لئلا يفوتني من تلاوة القرآن شيء وأنا حي فشقوا شدقه وأخرجوا لسانه فقطعوه.
وكان بن ملجم لعنة الله قبل ذلك من العباد المعدودين حتى إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله أن يوسع دار عبدالرحمن بن ملجم ليعلم الناس الفقه والقرآن.
ثم كان من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشهد معه صفين ثم آل أمره إلى ما ترى فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة في عافية.(1/46)
وعند الخوارج أن ابن ملجم أفضل الأمة وكذلك النصيرية يعظمونه. وعند الروافض أنه أشقى الخلق في الآخرة, ولا شك أنه أشقى الخلق بنص سيد المرسلين, فقد أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أن النبي - رضي الله عنه - قال لعلي { أشقى الناس رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه يعني قرنه حتى يبل منه هذه يعني لحيته } (1), وقد ورد ذلك أيضا من حديث علي وصهيب وجابر بن سمرة وغيرهم رضي الله عنهم(2).
- 17 -
وإنَّهمُ و الرَّهْطُ لا رَيْبَ فِيْهِمُ ... عَلَى نُجُبِ الفِرْدَوْس ِفي الخُلْد تَسْرَحُ
(إنهم) : الضمير يعود على من سبق الكلام عنهم وهم الخلفاء الأربعة.
(الرهط) : الرهط قوم الرجل وقبيلته, من ثلاثة إلى عشرة.
(لا ريب) : أي لا شك ولا تهمة, والريب يطلق ويراد به صرف الدهر, والحاجة والظنة والتهمة والأخير هو المراد هنا.
(فيهم) : أي في الخلفاء الراشدين, والجار والمجرور متعلق بلا ريب أي بلا تهمة ولا ريب ولا شك ولا مظنة أنهم كائنون وصائرون.
(على نجب) : جمع نجيب وهو الكريم الحسيب.
(الفردوس) : في الأصل هو البستان الذي فيه الكرم ذو الأشجار والجمع فراديس, ومنه جنة الفردوس وهو المراد هنا فمن أسماء الجنة الفردوس كما في قوله تعالى { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } , { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(3) } .
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة ووسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة(4) } .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم, ووافقه الذهبي.
(2) أنظر مجمع الزوائد للهيثمي.
(3) المؤمنون11:10).
(4) رواه مسلم.(1/47)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح إلى منازل الأفراح: (الفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنان).
وقال الضحاك: (الفردوس الجنة الملتفة الأشجار).
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وإن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يُخلد
وقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال { أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه فقالت يا رسول الله قد علمت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة صبرت وإن يكن غير ذلك ترى ما أصنع, فقال: إنها ليست بجنة واحدة بل جنان كثيرة وإنه في الفردوس الأعلى(1) } .
(تسرح) : أي ترسل حيث شاء راكبها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح إلى منازل الأفراح: (أهل الجنة يتزاورون فيها ويستزيد بعضهم بعضا وبذلك تتم لذتهم وسرورهم, ولهذا قال حارثة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقا. قال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها, وإلى أهل النار يعذبون, وفي لفظ (يتعاوون) قال - صلى الله عليه وسلم - عبد نور الله قلبه عرفت فألزم)(2).
- 18 -
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وابنُ عَوْفٍ وطَلْحةٌ ... وعَامِرُ فِهْرٍ والزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
__________
(1) رواه البخاري في المغازي, في باب فضل من شهد بدراً.
(2) حادي الأرواح 254 والحديث أخرجه الطبراني في الكبير عن الحارث بن مالك, قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى كشف . ورواه البزار كما في كشف الأستار عن أنس بن مالك وقال الهيثمي في المجمع: رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به.(1/48)
(سعيد) : هو أبو الأعور وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي, وهو ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أسلم سعيد قديماً قبل أن يدخل النبي دار الأرقم, وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير بدر, فإنه كان هو وطلحة بن عبيد الله يطلبان خبر عير قريش, وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه في المغنم والأجر. وهو أحد العشرة المبشرين في الجنة.
(وسعد) : أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص, وأسم أبي وقاص أسمه مالك بن وهيب ويقال أهيب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب, يجتمع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب, القرشي الزهري. أسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق وهو ابن سبع عشرة سنة, قال: كنت ثالث الإسلام, وأنا أول من رمى بسهم في سبيل الله.
مات بالعقيق ودفن بالبقيع سنة 55هـ , ولاه عمر وعثمان رضي الله عنهم على الكوفة, روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتان وسبعون حديثاً منها في الصحيحين ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بثمانية عشر.
(وابن عوف) : هو أبو محمد عبدالرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الزهري, يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب بن مرة, كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن و أسلم قديما على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - , وهاجر إلى الحبشة الهجرتين وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وثبت يوم أحد, وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه في غزوة تبوك وأتم ما فاته.(1/49)
مات سنة اثنين وثلاثين ودفن بالبقيع, وله ثنتان وسبعون سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثا منها في الصحيحين سبعة أحاديث المتفق عليها منها حديثاً وباقيها للبخاري.
(وطلحة) : هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التميمي, يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كالصديق في مرة بن كعب, أسلم طلحة قديماً على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما, وشهد المشاهد كلها غير بدر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنفذه هو سعيد بن زيد كما تقدم في ترجمة سعيد, ثبت يوم أحد وأصيب في أصابعه وشلت أصابعه.
استشهد في وقعة الجمل في الحرب بين علي وعائشة رضي الله عنهما يوم الخميس لعشر بقين من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين, يقال أن الذي قتله مروان بن الحكم وقيل أصابه سهم في حلقه, دفن بالبصرة وله أربع وستون سنة.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً منها في الصحيحين سبعة المتفق عليها حديثان, وانفرد البخاري بحديثين, ومسلم بثلاثة.
(وعامر فهر) : هو أمين هذه الأمة أبو عبيدة (عامر) بن عبدالله بن الجراح بن هلال بن أهيب ابن ضبة بن الحارث بن(فهر) بن مالك بن النظر بن كنانة القرشي الهذلي, يلتقي نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فهر بن مالك, أسلم هو عثمان بن مظعون بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -, وثبت معه يوم أحد, ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.
مات في طاعون عمواس بالأردن سنة عشرة ودفن بغوربيسان وصلى عليه معاذ بن جبل وهو ابن ثمان وخمسين سنة, روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر حديثاً لم يخرّج له البخاري في صحيحه شيئاً.(1/50)
ولا أخرج له مسلم إلا في حديث العنبر من رواية أبي الزبير عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - وهو قوله يعني قول أبي عبيد - رضي الله عنه - { نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - } وهو معنى تام فسموه حديثاً(1) .
(والزبير الممدوح) : هو أبو عبيد الله الزبير فراء بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي الأسدي. أسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو ابن ستة عشر سنة.
هاجر إلى الحبشة الهجرتين وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها وهو أول من سل سيفاً في سبيل الله من هذه الأمة, ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.
قتله عمير بن جرموز سنة ست وثلاثين وله أربع وستون سنة, ودفن بوادي السباع ثم حُوّل إلى البصرة وقبره مشهور بها.
يلتقي نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي, روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً منها في الصحيحين تسعة المتفق عليها منها حديثان وباقيها للبخاري.
(الممدوح) : أي المتصف بالخصال التي يُمدح بها ويُحمد عليها وفي هذا إشارة إلى كثرة مناقبه وغزير مزاياه من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن لكل نبي حوارياً وإن حواري الزبير بن العوام } (2), روي عن سفيان بن عيينة أنه قال الحواري الناصر.
وهؤلا الستة: أفضل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بعد الخلفاء الراشدين .
__________
(1) وحديث قصة العنبر: أخرجه مالك في الموطأ, وأحمد في المسند, والبخاري ومسلم.
(2) رواه الترمذي من حديث علي - رضي الله عنه -, قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, ورواه البخاري ومسلم والترمذي أيضاً من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.(1/51)
والخلفاء الراشدون وهؤلا الستة هم المبشرون بالجنة كما ورد ذلك في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال { أبو بكر في الجنة, وعمر في الجنة, وعثمان في الجمعة, وعلي في الجنة, وطلحة في الجنة, والزبير في الجنة, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة, وسعد بن أبي وقاص في الجنة, وسعيد بن زيد في الجنة, وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة } (1).
- 19 -
وَعَائِشُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالُنا ... مُعَاوِيَة أَكْرِمْ بِهِ فَهْوَ مُصلحُ
(وقل) : أيها السلفي الأثري بلسانك معتقداً بجنانك.
(خير قول) : أي من الثناء عليهم بذكر محاسنهم وصدق جهادهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلهم لأنفسهم وأموالهم و ونقلهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - , وبالجملة بذلهم لكل غالٍ ونفيس في مرضاة الله ورسوله لإعلاء كلمة, فيجب على كل مؤمن نشر محاسنهم والكف عما فيه شائبة تنقيصهم والترضي عنهم وهذا لا يختص بأحد منهم دون أحد بل هو عام في الصحابة كلهم من السابقين واللاحقين من المهاجرين والأنصار وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(الصحابة) : جمع صاحب والصحابي هو كل من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإيمان, وهذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن لقيه ولو لحظة واحد’ مؤمناً به ومات على ذلك فهو صحابي وأما غيره فلا يعتبر صحابياً إلا بطول الصحبة.
والصحابة كلهم عدول مقبولوا الرواية فلا يُسأل عن عدالة أحد منهم بالكتاب والسنة وإجماع المعتبرين من الأمة.
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب وهو حديث صحيح.(1/52)
قال تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (1) قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة وإن رجّح كثير عمومها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم أولى بالدخول في العموم, وكذلك قوله تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(2) } , ولذا فمذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة ذكر محاسنهم والترضي عنهم والمحبة لهم وترك التحامل على أحد منهم وكف الألسنة عما شجر بينهم من الخلاف, وهم معذورون فيما حصل بينهم وإنما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفراً ولا فسقاً بل يثابون على ذلك لاجتهادهم, فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد, قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: (خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعما شجر بينهم هو سلامة قلوبهم وألسنتهم ومحبتهم إياهم والترضي عنهم جميعاً وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم أي إخفاء مساوئ من نُسب إليه شيء من ذلك, والإمساك عما شجر بينهم واعتقاد أنهم في ذلك بين أمرين إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون, فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر الاجتهاد وخطؤه مغفور, وإذا قدر لبعضهم سيئات وقعت عن غير اجتهاد فلهم من الحسنات ما يغمرها ويمحوها وليس في بيان خطأ من أخطأ منهم في حكم من الأحكام شيء من إظهار المساوئ بل ذلك مما يفرضه الواجب ويوجبه النصح للأمة) أ.هـ.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة: (وأما الصحابة فجمهور أفاضلهم لم يدخلوا في فتنة).
وقال ابن سيرين: (كانت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون عشرة آلاف ولم يحضرها منهم مائة).
قال شيخ الإسلام: (وهذا أصح إسناد على وجه الأرض).
أما ما ورد في ذكر مساوئ الصحابة فلا يخلوا من ثلاث أمور:
1- مكذوبة روجها الرافضة قبحهم الله.
__________
(1) آل عمران: من الآية110)
(2) البقرة: من الآية143)(1/53)
2- آثار زيد فيها وغُيّر من وجهها.
3- صحيح كما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد حسان بن ثابت لما طعن في عائشة وحمنة بنت جحش لما وقعت في عائشة, ومن ذلك ما حصل من الصحابة من خلاف وهذا تقدم الكلام عليه والله تعالى أعلم.
ولذلك الطعن في الصحابة سمة أهل البدعة كالرافضة ولذا قال الناظم رحمه الله تعالى:
(ولا تك طعاناً) : صيغة مبالغة والطعن هو الذم والتنقيص والقدح في أعراض الناس وفي الحديث { لا يكون المؤمن طعاناً(1) } أي وقاعاً في أعراض الناس بالذم والغيبة والتنقيص والمسبة ونحو ذلك.
(تعيب وتجرح) : أي تسب وتشتم وفي هذا يشير إلى من خالف أهل السنة والجماعة في موقفهم من الصحابة رضي الله عليهم, فأهل السنة والجماعة وسط بين النواصب والروافض, سمو روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي, أما النواصب فسموا كذلك لأنهم ينصبون العداء لآل البيت ويقدحون فيهم ويسبونهم فهم على النقيض من الروافض.
فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن, ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم إلا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلو فيهم وهم آل البيت, وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون أنهم ظلمة ويقولون أنهم أرتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.
أما النواصب فهم قابلوا البدعة ببدعة أخرى فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت قالوا إذاً نبغض آل البيت ونسبهم مقابلة لهؤلا في الغلو في محبتهم والثناء عليهم.
ودائماً يكون الوسط هو خير الأمور ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلا قوة وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الروافض على ثلاثة أقسام:
1. المؤلهة: وهم الذين يقولون بألوهية على - رضي الله عنه -.
__________
(1) رواه الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في اللعن والطعن.(1/54)
2. المفضلة: الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
3. السبابة: وهم الذين يسبون الصحابة رضي الله عنهم ويقدحون فيهم إلا بضعة عشر منهم.
ومما لا شك فيه: أن سب الصحابة ليس قدحاً في الصحابة فقط بل هو قدح في الصحابة وفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل.
* أما كونه قدحاً في الصحابة فواضح.
* وأما كونه قدحاً في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيه أن أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق وفيه قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.
* وأما كونه قدحاً في شريعة الله فلأنهم الواسطة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة فإذا سقطت عدالتهم لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.
* قدحاً في الله سبحانه وتعالى, ففيه أن الله بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - في شرار الخلق واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته...
فانظروا ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم, ونحن نتبرأ من طريقة هؤلا الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم ونعتقد أن محبتهم فرض, وأن الكف عن مساوئهم وقلوبنا ولله الحمد مملؤه من محبتهم لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
مسألة: هل سب الصحابة كفر أم لا؟
هذه المسألة تحتها أقسام:
1) أن يسبهم كلهم بالكفر أو الفسق أو يسب معظمهم بالكفر أو الفسق أو يقال أن يسبهم كلهم أو معظمهم سباً يطعن في ذمتهم وعدالتهم فهذا كفر, لأن هذا طعن في القرآن الكريم والسنة لأنهم نقلته.
2) أن يسب من تواترت النصوص على فضله طعناً يقدح في دينهم وعدالتهم, قال بعض العلماء كالشيخين, فهذا كفر على الراجح.(1/55)
3) أن يسب من لم تتواتر النصوص بفضله في دينه أو عدالته, فهذا العلماء على قولين في كفره منهم من قال: أن لا يكفر إلا إذا سبه من حيث الصحبة وهذا قول كثير من أهل العلم, والقول الثاني قول من قال بكفره.
4) أن يسب بعضهم سباً لا يطعن في الدين والعدالة وإنما يرجع إلى الفهم والعلم كأن يصف بعضهم بقلة الزهد أو قلة الفهم والبخل, فهذا فسق يستحق فاعله التعزير.
5) أن يقذف عائشة أو يسبها مما برأها القرآن منه, فهذا كفر لأنه تكذيب للقرآن.
6) أن يسب أمهات المؤمنين مما برأ الله منه عائشة رضي الله عنها فهذا كفر.
- 20 -
وَأَنْصارُه وَالهَاجِرونَ دِيارَهم ... بنصرهُمُ عَنْ ظلمةِ النَّارِ زحزحُوا
(الوحي المبين) : يشمل القرآن والسنة فالقرآن نطق بفضلهم والسنة كذلك والآيات في ذلك والأحاديث كثيرة من ذلك:
* قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1).
* وقوله تعالى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ*وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2).
* كما ثبت في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه } (3).
__________
(1) التوبة: من الآية100).
(2) الحشر:8-9).
(3) أخرجه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة رضي الله عنهم.(1/56)
والأحاديث كثيرة سواء كانت في عموم الصحابة أو أفرادهم بالنسبة لأفرادهم:
* قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما { أن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا } (1).
ويقول - صلى الله عليه وسلم - { اقتدوا بالدَّيَنِ من بعدي أبي بكر وعمر(2) } .
* وقال عليه الصلاة لعمر { ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك } (3).
* من ذلك حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ } (4).
(وفي الفتح) : أي في سورة الفتح, وسورة الفتح نزلت في السنة السادسة من الهجرة بعد انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية وفيها بيعة الرضوان وكانوا أربعة عشر مائة على المشهور.
(آي) : جمع آية , والآية في اللغة العلامة.
اصطلاحاً: هي جملة من كلام الله عز وجل لها بدء ولها انتهاء, وفي النهاية معنى الآي "جماعة حروف وكلمات, من قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا ورائهم شيئاً, قال والآية في غير هذه العلامة ".
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد, وأحمد في المسند.
(2) رواه الترمذي في المناقب, وابن ماجه , وأحمد في المسند.
(3) رواه البخاري في فضائل الصحابة, باب مناقب عمر - رضي الله عنه - , رواه مسلم في فضائل الصحابة , فضل عمر - رضي الله عنه -.
(4) رواه أبو داود والترمذي وأحمد, وقال الترمذي : حسن صحيح.(1/57)
(تمدح) : أي في سورة الفتح آيات من كتاب الله تثني على الصحابة بتعداد محاسنهم, والمدح هو الثناء باللسان على الجميل مطلقاً أي سواء كان اختيارياً كالعلم والكرم, أو كان اضطرارياً كالحسن والجمال ولابد أن يكون على جهة التبجيل هذا معنى المدح لغة, ومعناه عرفاً اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل والإشارة بذلك لقوله تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (1).
فائدة:
(قال السفاريني رحمه الله تعالى في كتاب {لوائح الأنوار السَّنِيَّة ولوقح الأفكار السُّنَّيَّة} شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية(2):
__________
(1) الفتح:29).
(2) ص 100-101-102.(1/58)
(إنما خص الناظم رحمه الله تعالى ورضي عنه آيات الفتح بالذكر في مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين دون قوله تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (1) وقوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } (2) وقوله { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ(3) } وقوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ(4) } مع أنها في الفتح فيحتمل إرادته لها أيضا. وقوله { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (5) وقوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (6) إلى غير ذلك من الآيات.
إنما خص الناظم هذه الآيات لما اشتملت عليه من المعاني البديعة والمآثر الرفيعة والمزايا العظيمة والمناقب الجسيمة, فإن قوله تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ(7) } جملة مبنية المشهود به في قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ(8) } إلى قوله { شهيدا } ففيها ثناء عظيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ثنى بالثناء على الصحابة بقوله { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } .
__________
(1) آل عمران: من الآية110).
(2) البقرة: من الآية143).
(3) التحريم: من الآية8).
(4) الفتح: من الآية18).
(5) التوبة: من الآية100).
(6) لأنفال:64).
(7) الفتح: من الآية29).
(8) الفتح: من الآية28)(1/59)
كما قال تعالى في الآية الآخرى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(1) } .
فوصفهم سبحانه بالشدة والغلظة على الكفار وبالرحمة والبر والعطف على المؤمنين والذلة والخضوع لهم ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام وسعة الرجاء في فضل الله ورحمته وبابتغائهم فضله ورضوانه وبان آثار ذلك الإخلاص وغيره من أعمالهم الصالحة ظهرت على وجوهم حتى أن من نظر إليهم بهره حسن سمتهم وهديهم) أ.هـ.
- 21 -
وبِالقَدَرِ المقْدُورِ أيْقِنْ فإنَّهُ ... دِعَامَةُ عقْدِ الدِّينِ والدِّينُ أفْيَحُ
لمّا انتهى المؤلف رحمه الله من عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة شرع رحمه الله في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في القدر فقال:
(وبالقدر) : القدر لغة مصدر قدرت الشيء إذا أحطت بمقداره وهو بمعنى التقدير قال تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (2) وقال تعالى { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(3) } .
اصطلاحاً هو تعلق علم الله بالكائنات أزلاً قبل وجودها, والقدر هو الأمر الذي قضاه الله وحكم به من الأمور.
(المقدور) : أي الصادر عن المعبود تعالى مقدراً محكماً.
(أيقن) : أي اعلم علماً جازماً لا ريب فيه ولا شك يعتريه.
(فإنه) : أي الإيقان بالقدر المقدور والإيمان به.
(دعامة) : أي عمود.
(عقد الدين) : الذي ينبني عليه, وشرطه الذي يعول عليه والجمع دعم ودعائم, و(أل) في الدين للعهد أي دين الله الذي بعث الله به رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به كتابه.
__________
(1) المائدة: من الآية54).
(2) القمر:49)
(3) المرسلات:23)(1/60)
(أفيح) : أي واسع لا حرج فيه, وفي حديث أم زرع في البخاري ومسلم { وبيتها فياح } أي واسع. قال في النهاية: (كل موضع واسع يقال له أفيح, وروضة فيحاء).
وهذا البيت أشار الناظم فيه إلى وجوب الإيمان بالقضاء والقدر, والإيمان بالقدر هو مذهب أهل السنة والجماعة.
والإيمان بالقدر واجب, ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حين قال { ما لإيمان؟ قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره(1) } .
مسألة:أدلة وجوب الإيمان بالقدر:
من خلال تأمل كتاب الله عز وجل هناك بعض الآيات التي حكى الله فيها عن الأنبياء أو غيرهم الإيمان بالقدر وبأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون من ذلك:
1 .قوله تعالى في قصة نوح { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(2) } .
2. في قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تعالى عن الشيخ { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(3) } فهو قيد ذلك بمشيئة الله تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته, ونحو ذلك من الآيات.
3. ومن الأدلة كذلك قوله تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (4).
4. وقوله تعالى { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } (5).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) هود33:32).
(3) القصص:27).
(4) القمر:49).
(5) القمر:50)(1/61)
6. وقوله تعالى { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } (1).
* ومن السنة حديث جبريل المشهور الذي رواه عبدالله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفيه { قال: فأخبرني عن الإيمان, قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره, قال: صدقت... } (2) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (علم الله السابق محيط بالأشياء على ما هي عليه ولا محو فيه ولا تغير, ولا زيادة ولا نقص فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون).
قال طاووس رحمه الله: (أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون كل شيء بقدر).
مسألة: فؤائد الإيمان بالقدر, للإيمان بالقدر فؤائد منها:
1- أنه من تمام الإيمان ولا يتم الإيمان بذلك.
2- أنه من تمام الإيمان بالربوبية لأن قدر الله من أفعاله.
3- رجوع الإنسان إلى ربه لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها, ويضيف السراء إلى الله ويعرف أنها من فضل الله.
4- أن الإنسان يعرف قدر نفسه ولا يفخر إذا فعل الخير.
5- أن المصائب تهون على العبد لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله هانت عليه المصائب كما قال تعالى { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ(3) } قال علقمة رحمه الله: (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضي ويسلم).
__________
(1) طه: من الآية40)
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان.
(3) التغابن: من الآية11).(1/62)
6- إضافة النعم إلى مسديها لأنك إذا لم تؤمن بالقدر أضفت النعم إلى من باشر الإنعام وهذا يوجد كثيراً في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء وهذا لا يعني عدم شكر الناس إذ صنعوا معروفاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { من صنع إليكم معروفاً فكافئوه } (1).
7- أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث فيه من تغييرات باهرة عرف بهذا حكم و الله عز وجل بخلاف من نسي القضاء والقدر فإنه لا يستفيد هذه الفائدة.
وخالف أهل السنة والجماعة في القدر المعتزلة والقدرية فهم يقولون بأن الله لم يقدر أفعال العباد, فالعبد هو الذي شاء فعل نفسه وخلقه, ولذا سمو بمجوس هذه الأمة لأنهم أثبتوا خالقاً مع الله والقدرية خرجوا في أواخر عهد صغار الصحابة, كمعبد الجهني وقد كفرهم الصحابة رضوان الله عليهم.
مسألة: مراتب القدر
1. المرتبة الأولى العلم: فيجب الإيمان بعلم الله عز وجل المحيط بكل شيء وأنه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, وأنه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وحركاتهم وسكناتهم وأعمالهم ومن منهم من أهل الجنة ومن منهم من أهل النار وانه يعلم كل شيء سبحانه وتعالى بعلمه القديم المتصف به أزلاً وأبداً.
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة منها:
* قوله تعالى { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(2) } .
* وقوله { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } (3).
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح وصححه الألباني وهو جزء من حديث ابن عمر مرفوعاً.
(2) الأنعام:59).
(3) الطلاق: من الآية12)(1/63)
ومن السنة:
* حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه - قال { قال رجل يا رسول أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم قال ففيم يعمل العاملون؟ قال ميسر لما خلق له(1) } .
2.المرتبة الثانية الكتابة: وهي أن الله تعالى كتب مقادير المخلوقات والمقصود بهذه الكتابة, الكتابة في اللوح المحفوظ وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله تعالى من شيء فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله.
وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها:
* قوله تعالى { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء(2) } .
* وقوله في أوضح آية على هذه المرتبة { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (3) فهذه الآية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة .
ودليل هذه المرتبة من السنة:
* ما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول { كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء } (4).
وهاتان المرتبتان ينكرهما غلاة القدرية. ويتعلق بهاتين المرتبتين عدة تقارير وهي بإيجاز:
أ. التقدير الأول كتابة ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة عندما خلق الله القلم ويدل لهذا حديث عبدالله بن عمر السابق, ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة { جف القلم بما أنت لاق } (5).
ب. التقدير حين أخذ الميثاق على بني آدم وهم على ظهر أبيهم آدم, ودليله حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين سئل عن هذه الآية { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى(6) } .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) الأنعام: من الآية38).
(3) الحج:70)
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري.
(6) لأعراف: من الآية172).(1/64)
ج. التقدير العمري عند أول تخليق النطفة وهذا دليله حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال { حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات, بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح } (1).
د. التقدير الحولي في ليلة القدر بدليل قوله تعالى { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(2) } . أي يقضي فيها أمر السنة كلها من معايش الناس ومصائبهم وموتهم وحياتهم إلى مثلها من السنة الأخرى.
هـ. التقدير اليومي بدليل قوله تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ(3) } قال - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية { من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين(4) } .
3.المرتبة الثالثة مرتبة الإرادة والمشيئة: أي أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يخرج عن إرادته شيء.
وأدلة هذه المرتبة ما يلي:
من الكتاب:
* قوله تعالى { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ(5) } .
* وقول نوح لقومه لما قالوا { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين*قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } (6).
ومن السنة:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الدخان:4).
(3) الرحمن: من الآية29).
(4) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
(5) المائدة: من الآية48)
(6) هود33:32).(1/65)
* إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين أجابه بعد سؤاله هو وفاطمة بقوله { إلا تصليان } فأجابه بقوله { أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا } قال علي - رضي الله عنه - فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } (1).
4.المرتبة الرابعة مرتبة الخلق: أي أن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد, فلا يقع شيء في هذا الكون إلا وهو خالقه, وهذه المرتبة هي محل النزاع الطويل بين أهل السنة ومن خالفهم من المعتزلة والقدرية والجبرية.
وأدلة هذه المرتبة:
من الكتاب:
قوله تعالى { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ*وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(2) } .
وقوله تعالى { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3) } .
ومن السنة:
حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول, كان يقول { اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها... } (4) الشاهد قوله { اللهم آت نفسي تقواها } فالفاعل هو الله تعالى.
وعامة القدرية يثبتون مرتبة العلم والكتابة وينكرون مرتبة الخلق والمشيئة, وأهل السنة والجماعة يثبتون الأربع, فالجهمية مجبرة ينكرون فهم ينكرون مشيئة العيد ويقولون هو كالريشة في مهب الريح, والمعتزلة يقولون الله لا مشيئة له في أفعال العباد فالله عندهم لا مشيئة لا ولا إرادة, أهل السنة والجماعة وسط في ذلك فهم يثبتون لله مشيئة وإرادة, والعبد كذلك ومشيئة العبد وإرادته تبع الله لمشيئة وإرادته.
- 22 -
__________
(1) متفق عليه.
(2) الصافات:95)
(3) غافر:62)
(4) رواه مسلم.(1/66)
وَلا تُنْكِرَنْ جَهلاً نَكِيرًا ومُنْكَراً ... وَلا الحْوضَ والِميزانَ إنَّكَ تُنْصَحُ
(ولا تك) : ناهية.
(تنكرون) : فعل مضارع مبني على الفتح لأنه مؤكد بالنون الخفيفة في محل جزم بلا الناهية.
(جهلاً) : مفعول لأجله أي لأجل الجهل وقلة العلم والفضل.
والملكين المسميين ب(نكيراً ومنكراً) وهما الملكان اللذان ينزلان على الميت في قبره يسألانه عن ربه ومعتقده , وفي ذلك إثبات فتنة القبر فالإيمان بذلك واجب شرعاً لثبوته عن المعصوم عليه الصلاة والسلام في عدة أخبار يبلغ مجموعها مبلغ التواتر.
الأدلة على فتنة القبر ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع:
* ومن ذلك قوله تعالى { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(1) } .
وأخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(في قوله تعالى { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } نزلت في عذاب القبر).
* وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولون ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار وقد أبدلك الله مقعداً من الجنة ... } الحديث.
* والإجماع منعقد على ذلك.
وقول الناظم: (منكر ونكير) استدلالاً بحديث أبي هريرة قال { يأتيه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير } روي ذلك الترمذي وابن حبان ولكن هذا الحديث ضعيف وعلى هذا كما ورد في الصحيحين { يأتيه ملكان } أما تسميتهما فهذا لم يثبت.
واستثنى العلماء أصنافاً لا يفتنون في قبورهم وهم:
__________
(1) ابراهيم:27)(1/67)
1) الأنبياء والرسل, فالأنبياء يُسأل الناس عنهم فيقال من نبيك؟ فهم مسئول عنهم وليسوا مسؤلين عن غيرهم, ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { أنه أوحي إلي أنكم تفتنون } (1), والخطاب للأمة المرسل إليهم فلا يكون الرسول داخلاً فيهم.
2) المرابطون, ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتَان(2) } .
3) الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فإنهم لا يفتنون لظهور صدق إيمانهم بجهادهم لما ورد { كفى ببارقة السيوف على رؤوسهم فتنة(3) } ولأنهم يشفعون في غيرهم.
4) الصديقون, لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء فإذا كان الشهداء لا يسألون فالصديقون من باب أولى.
5) غير المكلفين من المجانين والصغار, فهؤلا لا يفتنون كذلك.
وأما الكفار فهل يفتنون أم لا؟
على خلاف والصواب أنهم يفتنون في قبورهم. وكذلك غير هذه الأمة الصحيح أنهم يفتنون لأنه إذا كانت هذه الأمة وهي أشرف الأمم تسأل فمن دونها من باب أولى.
(ولا الحوض) : أي حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحوض في اللغة مجمع الماء.
واصطلاحاً: هو الحوض الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة, فهو ثابت بإجماع أهل الحق وإثبات الحوض هو مذهب أهل السنة والجماعة.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث أسماء رضي الله عنها.
(2) رواه مسلم من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -.
(3) رواه النسائي, وقال الألباني كما في أحكام الجنائز سنده صحيح.(1/68)
وقد ورد إثبات الحوض من رواية أربع وخمسين صحابياً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا عدّ بعض العلماء الأحاديث الواردة في الحوض من الأحاديث المتواترة, قال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه البدور السافرة: (ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابياً منهم الخلفاء الراشدون الأربعة وحفاظ الصحابة المكثرون وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين)(1).
وذكر ابن القيم: أن أحاديث الحوض رواها أربعين صحابياً.
ومن أدلة ذلك:
قوله تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } (2).
وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ ابداً(3) } .
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { منبري على حوضي } .
والكلام على الحوض من عدة وجوه هي:
أولاً: هل الحوض موجود الآن أم لا؟
الصحيح أنه موجود الآن, لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ذات يوم في أصحابه وقال { إني لأنظر إلى حوضي الآن } (4).
ثانياً: هذا الحوض فيه ماء مَوْرُود فمن أين هذا الماء؟
الجواب: يصب فيه ميزابان من الكوثر وهو النهر العظيم الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة ينزلان إلى هذا الحوض.
ثالثاً: هل زمن الحوض قبل العبور على الصراط أم هو بعده؟
__________
(1) أسمه الكامل: البدور السافرة عن أمور الآخرة ص 164.
(2) الكوثر:1)
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري من حديث عقبة بن عامر .(1/69)
الجواب: الحوض قبل العبور على الصراط لأن المقام يقتضي ذلك حيث أن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل عبور الصراط, قال القرطبي رحمه الله: (والمعنى يقتضي تقديم الحوض على الصراط فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً فناسب تقديمه لحاجة الناس إليه).
رابعاً: الذي يرد الحوض, هم المؤمنون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتبعون لشريعته وأما من استنكف واستكبر عن إتباع الشريعة فإنه يطرد منه.
خامساً: صفة الحوض, أما ماؤه فهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك كما ثبت ذلك في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الذي تقدم ذكره, وأما آنيته فعدد نجوم السماء كما ورد هذا في بعض ألفاظ الحديث وفي بعضها { آنيته كنجوم السماء } وهذا اللفظ أشمل, لأنه يكون كالنجوم في العدد وفي الوصف بالنور واللمعان فآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة.
سادساَ: آثار هذا الحوض, من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص السابق.
سابعاً: وأما مساحة هذا الحوض, فقد اختلفت الروايات في تحديده وتوضيحه ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أنه مسيرة شهر وزواياه سواء, وفي رواية عند الإمام أحمد أنه كما بين عدن وعمان, وفي رواية في الصحيحين ما بين صنعاء والمدينة, وفي رواية لهما أيضاً ما بين المدينة وعمان, وفي رواية في لهما أخرى أنه ما بين إيلة وصنعاء, قال بعض العلماء: (وهذا الاختلاف لا يوجب الضعف, لأنه من اختلاف التقدير والتحديد لا من اختلاف في الرواية, لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعدّ اضطراباً وإنما جاء في أحاديث مختلفة من غير واحد من الصحابة وقد سمعوه في مواطن متعددة, وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمثل لكل قوم الحوض بحسب ما يعلم المتكلم ويفهم السائل وبحسب ما يسنح له - صلى الله عليه وسلم - من العبارة, ويحدد الحوض بحسب ما يفهم الحاضرون من الإشارة). قال بذلك القاضي عياض, وابن حجر, والقرطبي.(1/70)
ثامناً: هل لكل نبي حوض أم لا؟
ورد في سنن الترمذي أن لكل نبي حوضاً ففي حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إن لكل نبي حوضاً ترده أمته وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردةً } (1).
وهذا الحديث وان كان فيه مقال لكن يؤيده المعنى وهو أن الله عز وجل بحكمته وعدله كما جعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حوضاً يرده المؤمنون من أمته كذلك يجعل لكل نبي حوضاً حتى ينتفع المؤمنون بالأنبياء والسابقين.
تاسعاً: خالفت المعتزلة فلم تقل بإثبات الحوض مع ثبوته بالسنة الصحيحة كما تقدم.
ونرد على المعتزلة بأمرين:
أ- الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم أن أحاديث الحوض تبلغ حد التواتر.
ب- إجماع أهل السنة على ذلك.
(والميزان) : الميزان هو ما يضعه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد وهو حق ثابت, دل عليه الكتاب والسنة والإجماع:
من الكتاب:
قوله تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(2) } .
وقوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } (3) وقوله { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ(4) } .
ومن السنة الأدلة على ذلك كثيرة منها:
__________
(1) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب وقد روى الأشعث بن عبدالملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح.
(2) الانبياء:47).
(3) القارعة8:7).
(4) لأعراف:9).(1/71)
*حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } .
*وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال, قال رسول - صلى الله عليه وسلم - { ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن } (1).
بالنسبة للإجماع :
إجماع السلف منعقد على ذلك, فلإيمان به هو معتقد أهل السنة والجماعة.
وهو ميزان حقيقي له كفتان لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب البطاقة قال { فتوضع السجلات في كفه والبطاقة في كفه(2) } .
وهو كذلك ميزان حسي, وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود والمعروف إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك, والمعهود المعروف عند النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي وأن هناك راجح ومرجوح, وخالف في ذلك المعتزلة وقالوا ليس هناك ميزان حسي بل هو معنوي فلا حاجة للميزان الحسي على قولهم قالوا لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها, وقالوا أن الميزان ميزاناً معنوياً وهو العدل, ولكن لا شك في بطلان هذا القول, لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ولو قيل أن المراد بالميزان العدل فلا حاجة إلى التعبير بالميزان بل نعبر بالعدل لأنه أحب إلى النفس من كلمة ميزان, ولهذا قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ(3) } .
وهل الميزان واحد أم متعدد؟
__________
(1) وفي سنن أبي داود والترمذي وصححه ابن حبان.
(2) رواه الترمذي وابن ماجة قال الألباني إسناده صحيح.
(3) النحل: من الآية90)(1/72)
الصحيح أنه ميزان واحد لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث { ثقيلتان في الميزان } , ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في ساق ابن مسعود { أنها أثقل من جبل أحد في الميزان(1) } .
ولكن كيف الجواب عن صيغة الجمع في قوله تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } (2)؟
الجواب عن هذا سهل فيقال الجمع لتعدد ما يوزن فيها.
واختلف العلماء في الذي يوزن ما هو؟
الذي يوزن هو العمل الظاهر الآيات السابقة, وقيل بأن الذي يوزن صحائف العمل لحديث صاحب البطاقة, وقيل أن الذي يوزن هو العامل نفسه لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضه, ثم قرأ { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } )(3).
وجمع بعض العلماء من هذه النصوص بأن الجميع يوزن وأن الوزن حقيقة للصحائف, وحيث أنها تثقل وتخف حسب الأعمال المكتوبة صار الوزن كأنه للأعمال, وأما وزن صاحب العمل فالمراد به قدره وحرمته وهذا جمع حسن, والله تعالى أعلم.
- 23 -
وَلا تُنْكِرَنْ جَهلاً نَكِيرًا ومُنْكَراً ... وَلا الحْوضَ والِميزانَ إنَّكَ تُنْصَحُ
(وقل) : أيها المؤمن بالقرآن وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من الشريعة الواضحة البرهان الفاضحة لأهل الإفك والزيغ والبهتان من سائر الملل والأديان, مفصحاً بلسانك ومعتقداً بجنانك منقاداً بسائر جوارحك وأركانك. (العظيم) : اسم من أسماء الله تعالى فهو عظيم سبحانه في أسمائه وصفاته وفي ذاته وأفعاله.
(بفضله) : أي بفضله العظيم وكرمه الجسيم.
__________
(1) رواه أحمد وقال الهيثمي " في مجمع الزوائد " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق وأمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه, وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح.
(2) الانبياء: من الآية47).
(3) الكهف: من الآية105).(1/73)
(النار) : هي النار المعهودة التي هي نار جهنم الموقودة.
(أجساداً) : بعد دخولها فيها وإصابتها من عذابها ما تستحقه منها.
(من الفحم) : الفحم هو الجمر الطافي.
والدليل على ذلك:
* ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يدخل قوم النار من هذه الأمة فتحرقهم النار إلا دارت وجوههم ثم يخرجون منها } (1).
* وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشافعة فجئ بهم ضبائر ضبائر } , أي جماعات.
* وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه { ...فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة من النار فيخرج بها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل } (2), وقوله { لم يعملوا خيراً قط } المراد لم يعملوا ما زاد على الأركان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة أما الخوارج والمعتزلة فهم منكرون ذلك لأنهم يرون أن أصحاب الكبائر مخلدون في النار.
(تطرح) : أي ترمى وتلقى.
- 24 -
عَلَى النَّهرِ في الفِردوسِ تَحْيا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَميلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
(على النهر) : متعلق بتطرح.
(في) : أي في الجنة.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان, باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب (ووجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وفي تفسير سورة النساء باب (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) , وفي تفسير سورة القلم ومسلم في الإيمان باب معرفة طرق الرؤية.(1/74)
(الفردوس) : بدليل حديث أبي سعيد السابق { فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة فقيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة في حميل السيل } وهو المراد بقول الناظم:
(تحيا) : تلك الأجساد بعدما صارت فحماً وطرحت على النهر الذي هو في جنة الفردوس بإصابة(مائة) , ماء ذلك النهر لتلك الأجساد وتنبت تلك الأجساد بسيلان ماء أنهار الجنة عليها كما تنبت (حبة حميل السيل) أي الحبة التي يحملها السيل.
(إذا جاء) : ذلك السيل أي وقت مجيئه.
(يطفح) : أي يفيض.
وقوله(حميل السيل) هو الزبد وما يقبله على شاطئه ومثله الغثاء, قال في النهاية: (الغثاء بالضم والمد ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره).
وهذا أتى به المؤلف لأن هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة.
- 25 -
وإنَّ رَسُولَ اللهِ للخَلقِ شَافعٌ ... وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ
لمّا ذكر الناظم رحمه الله تعالى أن من الواجب اعتقاد خروج من يدخل النار من عصاة الموحدين منها ناسب ذكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصاة أمته وأهل الكبائر منهم فقال:
(و) : أي قل بلسانك معتقداً بجنانك.
(للخلق) : جميعاً .
(شافع) : أي الشفاعة العامة التي هي فصل القضاء.
والشفاعة في اللغة جعل الوتر شفعاً.
اصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. والشفاعة تنقسم إلى قسمين:
1) شفاعة باطلة: وهي ما يتعلق به المشركون في أصنامهم حيث يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1) ويتخذونهم شفعاء لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع.
2) شفاعة صحيحة: وهي ما جمعت شروطاً ثلاث’:
أ. رضى الله عن الشافع.
ب. رضاه عن المشفوع له.
__________
(1) الزمر: من الآية3)(1/75)
ج. أذنه في الشفاعة, والأذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له ودليل ذلك قوله تعالى { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (1).
والشفاعة الصحيحة على قسمين:
1- شفاعات خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. 2- شفاعة عامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره.
أما الشفاعة الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهي على أقسام:
أ) شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف وهذا مجمع عليها بين المسلمين.
وهذه دل عليها الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب:
فلقوله تعالى { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } (2).
ومن السنة:
حديث أبي هريرة الطويل وفيه { ...حتى تنتهي إليه " أي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - " فيقول أنا لها ثم يقوم فيستأذن الله عز وجل فيأذن له ويسجد تحت العرش, ويفتح الله عليه من المحامد والثناء على الله عز وجل ما لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال: يا محمد أرفع رأسك سل تعه. اشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي.. } الحديث.
ب) شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في دخول أهل الجنة الجنة وهل هي خاصة أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أنها خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , وهذا قال به النووي والقاضي عياض والسيوطي.
القول الثاني: أنها ليست خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , وهذا قال به ابن حجر.
ودليل هذا القسم:
حديث أبي هريرة وفيه { ..يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه.. } (3) الحديث.
ج) شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب:
__________
(1) لنجم:26).
(2) الإسراء:79).
(3) رواه مسلم.(1/76)
لما ورد في حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال { يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كأن يحوطك ويغضب لك, قال: نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار } (1), وهذه الشفاعة مستثناة من قوله تعالى { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (2).
د) شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأقوام من أمته أن يدخلوا الجنة بغير حساب ولا عذاب, بدليل حديث عكاشة(3).
هـ) شفاعته لأقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم, وهذا ورد فيه أثر ابن عباس وهو ضعيف.
أما القسم الثاني وهو الشفاعة العامة فله أقسام:
أ- الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخل النار, وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وأما الخوارج والمعتزلة فهم ينكرون ذلك لأنهم يرون أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار.
وقد ذكر هذا القسم شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض والنووي.
ودليل هذا القسم:
* ما أورده مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً } (4).
ت) الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها, وهذا يثبتها أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة لأنهم يرون أن هؤلا مخلدون.
بدليل حديث جابر يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة } (5).
ج) الشفاعة في رفع درجات المؤمنين في الجنة.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) المدثر:48).
(3) رواه البخاري في كتاب الرقائق, باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب, ومسلم في كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.
(4) رواه مسلم.
(5) أخرجه البخاري في الرقائق , باب صفة الجنة والنار , ومسلم في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.(1/77)
وهذه دل لها حديث أم سلمة: لما مات أبو سلمة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وأخلفه في عقبه في الغابرين(1) } .
ومما يجب أن يعلم أن الناس في الشفاعة طرفان ووسط:
1. من غلو بإثبات الشفاعة حتى أثبتوا الشفاعة الباطلة وهم عامة الصوفية والقبورية, فهم أثبتوا الشفاعة للأولياء وأصحاب القبور والكفار أثبتوا الشفاعة لأصنامهم.
2. من جفوا بإثبات الشفاعة وهم الخوارج والمعتزلة فأنكروا الشفاعة لمن يستحق النار ألا يدخلها, ولمن دخلها أن يخرج منها فهم يرون أن صاحب الكبيرة مخلد في النار.
الوسط هم أهل السنة والجماعة فهم يثبتون ما أثبته الله ورسوله وينكرون ما أنكره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ:
(قل) : بلسانك معتقداً بجنانك.
(أن عذاب القبر) : القبر واحد القبور ويقال لمدفن الموتى مقبر قال الشاعر:
لكل أناس مقبر في فنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
(حق) : الحق هو الذي يرادف الصدق.
(موضح) : أي يظهر ويكشف ويُبان بياناً لا خفاء فيه ولا شك يعتريه. والإيمان بعذاب القبر ونعيمه وهو معتقد أهل السنة والجماعة, وهو حق ثابت بظاهر القرآن وصريح السنة وإجماع أهل السنة.
من القرآن:
قال تعالى { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ } إلى قوله { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ*فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ(2) } .
*ومن ذلك قوله تعالى { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } (3) فهم قد شحوا بأنفسهم فلا يريدونها أن تخرج لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة فنجد أن الروح تأبى الخروج.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الجنائز, باب إغماض الميت.
(2) الواقعة من الآية83-89).
(3) الأنعام: من الآية93).(1/78)
*ومن ذلك قوله تعالى { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (1) فهو تعالى قال { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } وهذا إنما يكون قبل قيام الساعة بدليل قوله { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } .
ومن السنة:
* حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعلمهم الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن { اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر...(2) } الحديث.
* ومن ذلك حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر قال { وافتحو له بابا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره } وقال في الكافر { فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له باباً من النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه } (3) قال الحافظ في الفتح(وهو أتم الأحاديث سياقاً).
* وفي الصحيحين أيضاً من حديث عائشة أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إن أهل القبور يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم } .
والإجماع :
منعقد على ذلك فكل المسلمين يقولون في صلاتهم { أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر.. } ولو أن عذاب القبر غير ثابت ما صح أن يتعوذوا منه إ لا تعوذ من أمر ليس موجوداً, وهذا يدل على أنهم يؤمنون به.
وعذاب القبر ونعيمه أنكره الخوارج والمعتزلة والأدلة دالة كما تقدم على بطلان قولهم.
وعذاب أهل القبور لا نسمعه لحكمٍ عظيمة:
__________
(1) غافر:46) .
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد, باب استحباب التعوذ من عذاب القبر.
(3) رواه أحمد وأبو داود.(1/79)
1- ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله { لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر(1) } .
2- أن في إخفاءه ذلك ستراً على الميت.
3- أن في ذلك عدم إزعاج لأهله لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب أحزنهم ذلك.
4- عدم تخجيل أهله لتناقل الناس مثلاً تعذيب ولد فلان.
5- أننا قد نهلك لأنها صيحة ليست هينة بل صيحة توجب أن تسقط القلوب من معاليقها فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
6- لو سمع الناس صراخ هؤلا المعذبين لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة لا من باب الإيمان بالغيب وحينئذٍ تفوت مصلحة الامتحان.
مسألة: هل النعيم والعذاب على البدن أو على الروح أم عليهما معاً؟
نقول المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح والبدن تابع له كما أن العذاب في الدنيا على البدن والروح تابعة له, كما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر وفي الآخرة بالعكس ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً وليس على سبيل الاستقلال, وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه لكن هذا لا يقع إلا نادراً, إنما الأصل أن العذاب على الروح والبدن تبعٌ والنعيم كذلك.
أما رأي الفلاسفة وكثير من المعتزلة الذين أثبتوا عذاب القبر ونعيمه قالوا: العذاب على الروح فقط وأما البدن فإنه لا ينعم ولا يعذب, وآخرون منهم قالوا أن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن, وهذا من أبطل الباطل.
وطائفة ثالثة قول من قال: ليس في البرزخ نعيم ولا عذاب بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقوله بعض المعتزلة.
ومذهب أهل الحق أحق وهو مذهب أهل السلف وسائر الأمة.
مسألة: هل العذاب والنعيم دائم أو ينقطع؟
__________
(1) رواه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.(1/80)
نقول أما العذاب للكفار فإنه دائم ولا يمكن أن يزول هذا العذاب لأنهم مستحقون له, ولأنه لو زال العذاب عنهم لكان راحة لهم وهم ليسوا أهلا لذلك فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة ولو طالت المدة. أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليهم بالعذاب فهؤلا عذابهم قد يدوم وقد لا يدوم وقد يطول وقد لا يطول حسب الذنوب وحسب عفو الله عز وجل.
مسألة: أما قول من قال إن الإنسان يموت في برية ولا يدفن فكيف يجري عليه عذاب القبر, وكذا قول من قال أن الميت يدفن في قبر ضيق فكيف يوسع له مد البصر, وكذا قول من قال لو حفرنا قبر الميت الكافر بعد مدة وجدناه على حاله ولم تختلف وتتداخل أضلاعه من الضيق.. ونحو ذلك من الاعتراضات الباطلة نقول:
بأن ذلك كله من علم الغيب, وعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم ولا يمكن القياس فيه أبداً على أحوال الدنيا, والله تعالى أعلم.
- 26 -
ولا تُكْفِّرَنَّ أهْلَ الصَّلاةِ وإِنْ عَصَوا ... فكلُّهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصْفَحُ
(ولا تكفرن) : أي لا تعتقد تكفير..
(أهل الصلاة) : المقصود بها الصلاة المعروفة المعهودة التي هي أحد أركان الإسلام ومباني الدين. والكفر ضد الإيمان, وفي الحديث { من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما... } (1).
(وإن عصوا) : بارتكاب الذنوب الصغائر منها والكبائر ما لم تكن الذنوب مكفرة.
(فكلهم) : أي العباد إلا من عصمه الله من المرسلين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(يعصي) : من العصيان خلاف الطاعة, والمعصية تشمل الكبائر والصغائر مما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة.
وزاد شيخ الإسلام : (أو ورد في ارتكاب المعصية وعيد ينفي إيمان أو لعن).
(وذو) : أي صاحب العرش, أي العرش العظيم الذي هو أعظم المخلوقات وهو العالي عليها من جميع الجوانب.
(يصفح) : من الصفح وهو الإعراض عن المؤاخذة.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.(1/81)
وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة خالد مخلد في النار, قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أول خلاف حدث في الملة هو في الفاسق الملي هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج أنه كافر, وقالت الجماعة أنه مؤمن, وقالت طائفة من المعتزلة هو لا مؤمن ولا كافر بل هو بمنزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه فسموا معتزلة).
وأما أهل السنة فلم يخرجوا أي فاعل كبيرة من الإسلام ولم يحكموا عليه بالخلود في النار, وإنما هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وهو في مشيئة الله تعالى, والخوارج يكفرون كل مرتكب لذنب ولو صغيره لأن عندهم كل ذنب كبيره لعظمة من عصى, فالخوارج والمعتزلة يرون أن فاعل الكبيرة خالد مخلد في النار.
وأما في الدنيا فعند الخوارج هو كافر وعند المعتزلة هو بمنزلة بين المنزلتين وأما أهل السنة والجماعة فهم يقولون أنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته والدليل على ذلك:
*قوله تعالى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ(1) } هذه الآية في القتل وهو كبيرة ومع ذلك أثبت له أخوة الإيمان.
*وقوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا * إِنَّمَا الْمُؤْمِنونَ إِخْوَةٌ } (2).
ومن السنة:
*حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... } الحديث أي لا يبلغ حقيقة الإيمان ونهايته.
وأخرجه مسلم في صحيحه عند أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { يقول الله تعالى: من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً, ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً, ومن أتاني يمشي أتيته هرولة, ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة } ونحو ذلك من الأدلة.
__________
(1) البقرة: من الآية178).
(2) الحجرات: من الآية9-10).(1/82)
أما الخوارج والمعتزلة فهم استدلوا على مذهبهم الباطل بآيات الوعيد:
*كقوله تعالى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا(1) } .
*وقوله تعالى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } (2).
*وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } (3).
*وكذا ما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يتوجأ بها خالداً مخلداً في نار جهنم } (4).
فالخوارج أخذوا بأدلة الوعيد.
وأما المرجئة أخذوا بأدلة الوعد, فهم يرون أن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان ويستدلون بأدلة منها:
*حديث صاحب البطاقة وفيه { أن رجلاً يؤتى به يوم القيامة وتنشر له سجلات مثل مد البصر وتوضع هذه السجلات في كفة ثم يؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فترجح فيها هذه البطاقة } (5).
*ومن ذلك حديث عثمان - رضي الله عنه - قال, قال رسول الله { من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة } (6).
__________
(1) النساء: من الآية93)
(2) الجن: من الآية23)
(3) النساء:10)
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه أحمد في المسند, والترمذي في الإيمان باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله, وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والغوي في شرح السنة, وحسنه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(6) رواه مسلم في كتاب الإيمان.(1/83)
وكذلك حديث عبادة بن الصامت قال - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها وروح منه, وأن الجنة حق وأن النار حق, أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء } (1).
فالخوارج والمرجئة كلا منهما نظر إلى النصوص بعين الأعور, وأما أهل السنة والجماعة فهم جمعوا بين هذه النصوص أي نصوص الوعد والوعيد.
فائدة وإيضاح
حتى لا يغتر أهل المعاصي والكبائر أو من دونهم فإن النصوص:
الوعد: كحديث عتبان بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال { إن الله حرم النار على من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله(2) } .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة(3) } وغيرهما من الأحاديث الواردة في ذلك.
إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة خالصاً من قلبه مستيقناً بها قلبه, لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً, فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله, وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم } فهؤلا كانو يصلون ويسجدون لله (4) فورود مثل تلك النصوص والتي تؤكد دخول العصاة النار مع أنهم كانوا , فمع أنهم كانوا كذلك دخلوا النار...كيف بمن دونهم...؟
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم , واللفظ لمسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) تيسير العزيز الحميد ص66-(بتصرف).(1/84)
بل وُجد في عهده - صلى الله عليه وسلم - من مات في سبيل الله وقال عنه بعض الصحابة فلان شهيد فقال عنه - صلى الله عليه وسلم - { إني رأيته في النار في بردة غلها , أو عباءة } (1) فهذا في أفضل القرون وفي أفضل الأعمال من أجل ذنب ربما كان قليلاً في نظر البعض مع ذلك قال عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه في النار.
وقد جاء الحديث في تقرير مثل ذلك كما ورد في الصحيحين { ... وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها... } , مما يدل أنه قد يفتن قبل الموت حتى من يعمل الصالحات فكيف بمن دونهم؟
نعم قد تواترت أحاديث بأنه يدخل الجنة وأحاديث أخرى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله... لكن:
وكما جاء كتاب تيسير العزيز الحميد: (أنها مقيدة بالقيود الثقال’ وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين, ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها, وأكثر من يقولها تقليداً أو عادة, ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه... فإذا قالها بإخلاص ويقين تام, لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً, فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر, وهذا هو الذي يحرم من النار, وإن كانت له ذنوب قبل ذلك, فإن هذا الإيمان, وهذه التوبة, وهذا الإخلاص, وهذه المحبة وهذا اليقين, لا يتركون له ذنباً إلا محي كما يمحو الليل بالنهار, فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر, فهذا غير مصر على ذنب أصلاً , فيغفر له ويحرم على النار.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.(1/85)
وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصراً على ذلك, وإن كان حال قولها مخلصاً, لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته, وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك, بخلاف المخلص المستيقن, فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته, ولا يكون مصراً على سيئة, فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة تضعف إيمانه, فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات, ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر, فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر, فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك, فيرجح جانب السيئات, فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين, فيضعف بذلك قول " لا إله إلا الله فيمتنع الإخلاص في القلب " أ.هـ(1).
فتبين من ذلك أن تحريم النار ليس لكل أحد وليس على الإطلاق وقد وجد في عهده - صلى الله عليه وسلم - من دخل النار كما في قصة الذي غل البردة, وقد يكون يستحق النار من وجه ويستحق الجنة من وجه آخر, فيكون عنده ذنب يمنعه دخول الجنة كما ورد في المرأة التي كانت تؤذي جيرانها... حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - { قال رجل يا رسول الله إن فلانه يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها, قال: هي في النار, قال: إن فلانه يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وأنها تصدق بالأتوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها, قال: هي في الجنة(2) } .
وما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - { من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة } قال { شيئا } نكرة في سياق النفي تفيد العموم, فلا يشرك مشركاً أكبر ولا شرك أصغر.
وكيف يُؤْمَن الشرك الأكبر...؟ وهذا إبراهيم عليه السلام يقول في دعائه { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } (3) قال إبراهيم التيمي: (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد صـ66-67 بتصرف.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(3) ابراهيم: من الآية35)(1/86)
وكيف يأمن مسلم على نفسه الشرك الأصغر...؟ الذي خافه - صلى الله عليه وسلم - على أمته أكثر من المسيح الدجال وهو الرياء(1), والذي ما سلم منه الصالحون العُبّاد.. فكيف بمن دونهم؟
ومن يفضل هواه على أمر الله ورسوله كالمسبل والحليق وسامع الغناء ومن تبرجت من النساء وخالفت في لباسها, وسائر من يقارف المنكرات هل سلم له انقياد وتوحيد ؟(2).
والله تعالى يقول { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ(3) } , ويقول - صلى الله عليه وسلم - { تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة(4) } .
حتى من يرتكب الصغائر مصر عليها لا يضمن سلامة توحيده ولو كانت صغيره واحدة, لأن الإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرة كما ذكر ذلك بعض أهل العلم, لقلة داعي مراقبة الله لديه.
بل الاعتداء على الحيوان قد يكون سبب من أسباب دخول النار, كما في المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً(5) .
وما لابد من ملاحظته هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتاج للتنبيه على فضل لا إله إلا الله, فيعبر عن ذلك بعبارات تُبين فضل لا إله إلا الله وليُرى أثر ذلك مكانته وعظمتها, فيُظن أن ذلك على الإطلاق ومن كل وجه لكل أحد, وليس كذلك وغنما الأمر له ضوابط وقيود لا يستقيم بدونها, والله أعلم.
وقد يقول قائل:
ماذا عن نصوص الوعيد؟
أما الإجابة عن نصوص الوعيد وتخليد العاصي في النار أو عدم دخول الجنة لأنواع من أصحاب الكبائر:
__________
(1) كما في الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه وأخرجه الحاكم وصححه.
(2) يقول الشيخ محمد العثيمين رحمه الله تعالى (المعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك).
(3) الجاثية: من الآية23).
(4) رواه البخاري كتاب الجهاد, باب الحراسة والغزو.
(5) كما في البخاري في كتاب الآذان, ومسلم في كتاب البر.(1/87)
كقوله تعالى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً(1) } . وكحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يدخل الجنة قاطع رحم(2) } وغيره من الأحاديث الواردة في ذلك.
فالإجابة عن ذلك بما يلي:
أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره النووي وأيده ابن كثير وابن حجر " رحمهم الله تعالى " قال النووي: (وأما قوله تعالى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } (3) فالصواب في معناها أن جزاءه جهنم وقد يُجازى به وقد يُجزى بغيره, وقد لا يجازى بل يُعفى عنه, فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع.
وأن كان غير مستحل, بل معتقداً تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاءه جهنم خالداً فيها, لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحداً فيها, فلا يخلد, ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً, وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار, فهذا هو الصواب في معنى الآية) أ.هـ(4).
أما حديث { لا يدخل الجنة قاطع رحم } ونظائره فيتأول بتأويلين:
أحدهما: حمله على من يستحل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها, فهذا كافر يخلد في النار, ولا يدخل الجنة أبداً.
والثاني: معناه ولا يدخلها في أول الأمر مع السابقين, بل يعاقب بتأخره القدر الذي يريده الله تعالى(5).
__________
(1) الجن: من الآية23)
(2) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في المسند.
(3) النساء: من الآية93)
(4) نقلاً عن كتاب(لوائح الأنوار السنية) في هامش (2/287).
(5) صحيح مسلم بشرح النووي(16/89,88).(1/88)
فهو لا يدخل الجنة وهو على حاله حتى يُظهّر, فدخوله النار ليس على التأبيد(1) ولكنه تطهيرا له من ذنبه وتمحيصاً وتأهيلاً لدخول الجنة, وقد يكون التمحيص والتطهير بغير دخول النار كعذاب القبر, أو عقوبة في الدنيا, أو إقامة حد عليه استحقه, أو بتوبة منه, أو يتفضل الله عليه بمنته وفضله, أو عمل عملاً استحق معه مغفرة الله ورحمته... إلى غير ذلك.
وعلى كل حال القول بخلود أهل التوحيد في النار يعد من المحن والوبال, وهو من شعار أهل البدع والضلال, والصواب اجتناب اعتقاده وعدم الالتفات إلى من تمادى في جهله وعناده والتعويل على مذهب أهل الحق ووجوب اعتقاده وبالله التوفيق.
- 27 -
ولا تَعتقِدْ رَأيَ الخَوارجِ إنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يهواهُ يُرْدِي ويَفْضَحُ
(ولا تعتقد) : بجنانك.
(الخوارج) : الخوارج سمو بذلك لخروجهم على علي - رضي الله عنه - واتفق الصحابة على قتالهم وصاروا مع علي في أول الأمر ثم لما صار إلى التحكيم خرجوا عليه.
قال شيخ الإسلام: (اتفق الصحابة على قتالهم, وقال وهم أول من كفّر بالذنوب).
وقال الإمام أحمد: (صح الحديث فيهم من عشرة أوجه).
من قواعدهم يرون استحلال الخروج على الإمام الفاسق, وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق(2) } , فقتلهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وطائفته.
__________
(1) ومن له طاقة لحظة في النار إذا كان أهون أهلها تعذيباً منتعل يغلي منها دماغه( كما جاء ذلك في صحيح مسلم في كتاب الإيمان, باب أهون أهل النار عذاباً) فكيف بمن يلبث بما يقدره الله ليأخذ جزاءه...فتأمل.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/89)
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حق الخوارج المارقين { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم, وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية, أينما لقيتموهم, فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } (1).
وقد روى مسلم أحاديثهم في صحيحه من عشرة أوجه. واتفق الصحابة - رضي الله عنه - على قتالهم وفرح علي بقتالهم وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره به. ولما قيل له - رضي الله عنه - الحمد لله الذي أراح منهم العباد قال: (كلا والذي نفسي بيده إن منهم لفي أصلاب الرجال, وان منهم لمن يكون مع الدجال), ذكره ابن كثير في البداية.
ولقبح سيرتهم وخبث سريرتهم قال الناظم:
(إنه) : أي رأي الخوارج الذي هو اعتقادهم الخارج.
(مقال) : شنيع ورأي فظيع.
(لمن) : أي لكل إنسان.
(لمن يهواه) : أي لمن يعتقده ويحبه ويريده.
(يردي) : أي يلحقه بالردى, وذلك لمخالفته مذهب أهل السنة والجماعة واعتقاد البدعة.
وهؤلا الخوارج تشعبوا إلى سبع فرق مارقة, وهم أشد إلحاداً من الزنادقة وهي:
1) المحكَمة: الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه - عند التحكيم وكفروه وهم اثنا عشر ألفاً, ومن رأيهم أنه من نصب من قريش وغيرهم وعدل فهو إمام, ولم يوجبوا نصب الإمام, واعتقدوا كفر عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأكثر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين واعتقدوا كفر كل مرتكب معصية.
2) البهيسية: وهم أتباع أبي بهيس وأسمه الهيعم, زعموا أن الإيمان هو العلم بالله تعالى وما جاء به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن وقع فيما لا يعرفه أهو حلال أم حرام فهو كافر لوجوب الفحص عنه.
وقيل حتى لا يرجع إلى الإمام فيحده وما لا حد فيه فمعفو, وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضراً كان أو غائباً والأطفال كآبائهم إيماناً وكفراً.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/90)
3) الأزارقه: وهم أتباع نافع عن عبد الله الأزرق الخارجي اللعين, وقد خرج معه قوم من البصرة والأهواز وغيرهما من بلدان فارس وغيرها وعظمت شوكتهم وتملكوا الأمصار.
وكانت له آراء ومذاهب دانوا بها معه منها:
* أنه كفر علياً - رضي الله عنه - بسبب التحكيم وزعم أن قوله تعالى { ...وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... } (1) في حق علي - رضي الله عنه - وزعم أنه نزل في حق عبدالرحمن بن ملجم قبحه الله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (2).
* ومنها: أنه كفر من لم يقل برأيه واستحل دمه. وكفر القَعَدَة عن القتال وتبرأ ممن قعد عنه.
* ومنها: أن من أرتكب كبيرة خرج من الإسلام وكان مخلداً في النار مع سائر الكفار, واستدل لذلك بكفر إبليس, وقال ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود فامتنع وإلا فهو عارف بوحدانية الله تعالى. وحرم التقيه وجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم, وقال لا حد للقذف ولا للزنا.
4) النجدية: أتباع نجدة بن عامر(الحنفي) ومن رأيهم أنه لا حاجة إلى الإمام ويجوز نصبه ووافقوا الأزارقة على التكفير.
5) الأصفرية: وهم أتباع زياد بن الأصفر خالفوا الأزارقة في تكفير القَعَدَة , وفي منع الحد للزنا وفي قتل أولاد الكفار, وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يدعى صاحبها إلا بها, وما لا حد فيه (لعظمه) كترك الصوم كفر, ويزوجون المؤمنة من الكافر في دار التقية دون العلانية.
6) الأباضية: وهم أتباع عبدالله بن أباض , قالوا مخالفونا كفار غير مشركين تجوز مناكحتهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم, ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن, والاستطاعة قبل الفعل ومخلوق العبد مخلوق لله تعالى, ومرتكب الكبائر كافر كفر نعمة لا كفر ملة, وكفروا علياً وأكثر الصحابة ثم افترقوا أربع فرق:
__________
(1) البقرة: من الآية204)
(2) البقرة:207)(1/91)
أ. الحفصية: أتباع ابن حفص أبي المقدام, زادوا أن بين الإيمان والشرك معرفة الله فمن كفر بأمر سوى الشرك أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك.
ب. اليزيدية: زعموا أن سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب من السماء, وتترك شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ملة الصائبة, وعندهم كل ذنب شرك.
ج. الحارثية: أتباع أبي الحارث الأباضي, خالفوا في العذر والاستطاعة قبل الفعل.
د. طائفة رابعة: منهم قالوا بطاعة لا يراد بها الله.
7) العجاردة: أتباع عبدالرحمن بن عجرد, وقد زاد هؤلا على النجدية وجوب دعوة الطفل إلى الإسلام إذا بلغ وأطفال المشركين في النار, وتتشعب هذه الفرقة إلى إحدى عشرة فرقة وجميع فرق الخوارج مارقة وللدين القويم مفارقة إلا من تبع هداه وصادم هواه.
والله تعالى أعلم.
- 28 -
ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... ألا إنَّمَا المُرْجيُّ بالدِّينِ يَمْزَحُ
(ولا تك) : تقدم بيان معناها.
(مرجياً) : المرجئة هم الذين يرجئون الأعمال عن النية والاعتقاد أي يؤخرونها فلذلك سموا المرجئة من الإرجاء وهو التأخير, أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية, كما لا ينفع مع الكفر طاعة, لأن الإيمان عندهم هو القول والتصديق وعند الجهمية مجرد التصديق, وعند الكرامية مجرد قول اللسان فقط كما مر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله المرجئة ثلاثة أصناف:
أ/ الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب, ثم من هؤلا من يدخل في أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما ذكر أبو الحسن الأشعري, ومنهم من لا يدخلها كالجهم بن صفوان ومن تبعه.
ب/ من يقول هو مجرد قول اللسان, وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية.
ج/ تصديق القلب وقول اللسان, وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله وهؤلا غلطوا من وجوه:(1/92)
أ- ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد وعليهم وأن ما وجب على شخص يجب مثله على كل شخص وليس الأمر وكذلك بل يتفاوت ويتفاضل أشد تفاوت وتفاضل.
ب/ من غلط المرجئة ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب كما تقدم عن جهمية المرجئة.
ج/ ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال, ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلون لازمة له.
والتحقيق: أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر.
ثم يقول شيخ الإسلام: ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل قولهم: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان فيزعمون أن هذا مؤمن تام الإيمان, فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار ويعدون مثل هذا أنه يلعب بدينه ويهزأ بإيمانه, ولهذا قال الناظم رحمه الله:
(ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ) : أي كثير اللعب, واللعب ضد الجد.
وقد تبرأ علماء الإسلام من مذهب المرجئة, ومن تبرأ منهم ميمون بن مهران, ونافع, والزهري.
ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم " يعني المرجئة " أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقه " يعني الخوارج الذين تقدم ذكرهم, ولهذا الناظم قرن الطائفتين وعطف المرجئة على الخوارج.
وقال شريك القاضي: (المرجئة أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثاً ولكن المرجئة يكذبون على الله).(1/93)
وقال سفيان الثوري: " تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري " ومعنى ذلك الثياب السابرية وهي ثياب رقيقة جداً منسوبة إلى سابور من ملوك الفرس, والمعنى أنهم أي المرجئة, لما أخرجوا الأعمال من الأيمان أضعفوه حتى صار كالثوب الرقيق الذي يستشف ما وراءه, ولهذا قال الناظم:
(ألا) : أداة استفتاح وتفيد التحقيق لما بعدها لتركيبها من الهمزة ولا, وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق كما في القاموس وغيره.
(إنما) : أداة حصر.
(المرجي) : بياء النسبة إلى طائفة من المرجئة وترك الهمز للوزن أو لغة والحق الثاني.
(بالدين) : القديم والإيمان المستقيم.
(يمزح) : وذلك لأنه حاصل قول غلاة المرجئة, أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة لا يضر مع الإيمان معصية, وهذا قول خبيث ينقض عرى الإسلام, وهو سُلم لترك الصلاة ومنع الزكاة والحج وترك الصيام وذريعة لمعاطاة الزنا واللواطة وسائر الآثام, ولا يرتاب ذو لب أن هذا مزاح بالدين ولعبٌ, ومن نهج هذا المنهج فهو على شفا جرف هار وهو لسيرة أهل الكفر والإلحاد أقرب منه لسيرة الأبرار.
- 29 -
وقُلْ إنَّما الإيمانُ قَوْلٌ ونيَّةٌ ... وِفعْلٌ عَلَى قَولِ النبيِّ مُصَرَّحُ
(وقل) : بلسانك معتقداً بجنانك مذعناً بأركانك.
(إنما) : أداة حصر.
(الإيمان) : لغة التصديق.
(اصطلاحاً) : تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن ربه.
(قول) : أي باللسان فمن لم يقر وينطق بلسانه مع القدرة لا يسمى مصدقاً, فليس هو إذاً بمؤمن كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.(1/94)
(ونية) : أي قصد إذ النية هي القصد أي عقد بالجنان, فمن تكلم بكلمة التوحيد غير جازم بها بقلبه إما مع الشك والتردد وإما مع اعتقاده خلاف ما شهد به فهو منافق, وليس بمؤمن خلافاً للكرامية الزاعمين بأن الإيمان هو القول الظاهر فعندهم الإيمان مجرد الكلمة, وإن لم يكن معتقداً لها بقلبه, وإذا كان مصدقاً بقلبه غير ناطق بلسانه مع القدرة فهو غير مؤمن أيضاً عند سلف الأمة خلافاً للجهمية ومن وافقهم من المتكلمة.
قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } (1).
فنفى تعالى الإيمان عن المنافقين وهذا يرد مذهب الكرامية فإن المنافق ليس بمؤمن وقد ضل من سماه مؤمناً, كذلك من قام بقلبه علم وتصديق وهو يجحد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به ويعاديه كاليهود وغيرهم ممن سماه الله كافراً ولم يسمهم مؤمنين قط ولا دخلوا في شيء من أحكام الإيمان فهم كفار, خلافاً للجهمية ومن وافقهم في زعمهم أنهم إذا كان العلم في قلوبهم فهم مؤمنون كاملوا الإيمان حتى زعموا للجهمية أن إيمانهم كإيمان النبيين والصديقين.
وفي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يقطع دابر هذا الضلال ويقمع رؤوس هذا الوبال ممن اتبع هواه وخالف مولاه كقوله تعالى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً(2) } .
(وفعل) : أي بالأركان وهذا هو اللفظ الوارد عن السلف, ولذا قال رحمه الله تعالى على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(مصرّح) : أي مصرح به بالرفع صفة لفعل وما قبله من القول والنية.
قال البخاري في صحيحه { الإيمان قول وعمل } (3).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بشرح البخاري: (هذا هو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك).
__________
(1) البقرة:8)
(2) النمل: من الآية14)
(3) البخاري كتاب الإيمان, باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الإسلام على خمس ".(1/95)
وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين وغيره: (المشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية, وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان).
وفي كتاب الأم للإمام الشافعي في باب النية: (كأن الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزيء واحد من الثلاثة إلا بالأخر).
وقال الثوري: (هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره).
وقال الأوزاعي: (كان من مضى من السلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل, فمن استكملها أستكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان).
وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان:
قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } (1).
* وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لوفد عبد القيس { آمركم بأربع: الإيمان بالله, وهل تدرون ما لإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس(2) } .
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة, فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان(3) } .
- 30 -
ويَنْقُصُ طَوْرًا بالمعَاصِي وَتَارةً ... بطَاعَتِهِ يَنْمِي وفي الوَزنِ يَرْجَحُ
(وينقص) : أي الإيمان.
(طوراً) : أي حالاً ومرة, ويجمع الطور على أطوار.
__________
(1) لأنفال الآية:3,2و من الآية4)
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري في الإيمان ومسلم في الإيمان أيضاً, واللفظ لمسلم.(1/96)
(بالمعاصي) : جمع معصية وهي مخالفة الأمر وفعل المنهي عنه.
(ينمي) : أي يزيد.
(الوزن) : أي الميزان.
(يرجح) : أي يثقل بزيادة الطاعات ويرجح في الميزان, وفي هذا البيت يشير الناظم رحمه الله تعالى إلى مذهب أهل السنة في باب الإيمان ونقصانه وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وأدلة ذلك ما يلي:
* قوله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(1) } .
* وقوله { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } (2).
وهذا صريح في ثبوت الزيادة.
وأما النقص:
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظ النساء وقال لهن { ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن(3) } .
فاثبت نقص الدين, ثم على فرض أنه لم يوجد نص في ثبوت النقص فإن إثبات الزيادة مستلزم للنقص فنقول: (كل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه متضمن للدلالة على نقصه).
وأسباب الزيادة في الأيمان أربعة:
1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته, فإنه كلما زاد الإنسان معرفة بالله وأسمائه وصفاته ازداد إيمانه.
2- النظر في آيات الله الكونية قال تعالى { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(4) } .. الآيات, فكلما ازداد الإنسان علماً بما أودع الله في الكون من عجائب المخلوقات ومن الحكم البالغات ازداد إيماناً بالله عز وجل. وكذلك النظر في آيات الله الشرعية وهي الأحكام التي جاءت بها الرسل يجد الإنسان فيها ما يبهر العقول من الحكم البالغة والأسرار العظيمة فيزداد الإنسان إيماناً.
3- كثرة الطاعات لأن الأعمال داخلة في الإيمان, وإذا كانت داخلة فيه لزم من ذلك أن يزيد بكثرتها.
__________
(1) التوبة: من الآية124)
(2) المدثر: من الآية31)
(3) رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) الغاشية:17)(1/97)
4- حسن العمل فإن حسن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة يزيد في الإيمان, وكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان أكثر.
6- ترك المعصية تقرباً إلى الله عز وجل, فإن الإنسان يزداد بذلك إيماناً بالله عز وجل.
وأما أسباب نقص الإيمان فهي:
1) الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
2) الإعراض عن النظر في الآيات الكونية الشرعية, فهذا يوجب الغفلة وقسوة القلب.
3) قلة العمل ويدل لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في النساء { ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قالوا يا رسول الله كيف نقصان دينها؟ قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم } (1)
4) سوء العمل فلا يأتي به الإنسان على الوجه الأكمل.
مسألة: خالف أهل السنة والجماعة في القول بالزيادة والنقصان طائفتان:
الطائفة الأولى المرجئة.
والطائفة الثانية الخوارج والمعتزلة.
فالمرجئة قالوا: الإيمان يزيد ولا ينقص, لأنهم أي المرجئة يخرجون الأعمال والأقوال من الإيمان ويقولون الإيمان هو اعتراف بالقلب, والاعتراف لا يزيد ولا ينقص, ويرد على هؤلا من جهتين:
أولاً: إخراجكم الأعمال من الإيمان ليس بصحيح فإن الأعمال داخلة في الإيمان.
ثانياً: القول بأن الإقرار بالقلب لا يختلف زيادة ولا نقصاً هذا ليس بصحيح أيضاً, بل الإيمان بالقلب يتفاضل فلا يمكن لأحد أن يقول أن إيماني كإيمان أبي بكر بل ويتعدى ويقول إيماني كإيمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يمكن , ثم إن العلم القائم بالقلب يقبل التفاضل, فعلمي بخبر زيد أقل من علمي بخبر زيد وعمر وألم تسمعوا إلى قول إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (2) فهذا دليل على أن الإيمان الكائن في القلب يقبل الزيادة والنقص أي يقبل التفاضل.
__________
(2) البقرة: من الآية260)(1/98)
الطائفة الثانية: هم طائفة الوعيدية وهم الخوارج والمعتزلة وسموا وعيدية لأنهم يقولون بأحكام الوعيد دون أحكام الوعد, أي يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد, لكن الخوارج يقولون فاعل الكبيرة ليس ناقص الإيمان بل إيمانه منتفي فهو كافر, والمعتزلة يقولون أن فاعل الكبيرة لا يدخل في الكفر ولكنه خارج من الإيمان فهو منزلة بين المنزلتين, فهاتان الطائفتان خالفتا أهل السنة والجماعة.
وأما أهل السنة والجماعة: فهم يقولون إن الإيمان يزيد وينقص مع بقاء أصله.
- 31 -
ويَنْقُصُ طَوْرًا بالمعَاصِي وَتَارةً ... بطَاعَتِهِ يَنْمِي وفي الوَزنِ يَرْجَحُ
(ودع) : أي اترك وذر.
(عنك) : غير محتفل به ولا مكترث له, ولا مهتم به.
(آراء) : جمع رأي, وهو التفكر في مبادئ الأمور, ونظر عواقبها وعلم ما يؤول إليه من الخطأ والصواب.
(الرجال) : جمع رجل والمراد آراء مطلق الناس من ذكر بالغ أو غير بالغ أو آراء النساء, ولكن لما كان الغالب أن يكون أصحاب الرأي رجالاً خصهم بالذكر.
(وقولهم) : أي ودع عنك كذلك قولهم لا تهتم به ولا تجعله لق مذهباً, لأنه عرضة للخطأ وغير مضمون لأصحابه الصواب, ولكن إن كنت تبتغي النجاة والفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم فاتبع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعصوم من الزلل والخطأ والمضمون الإصابة في كل ما بلغه, لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
(أولى) : لما سبق لأنه أسلم وأضمن ولأن الإنسان متعبد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .(1/99)
(وأشرح) : أي أبين وأوضح وأسع وأفسح من مقالات المتحذلقين وأراء المتعمقين, وتأويلات المتنطعين حرفوا النصوص عن مواطنها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار وعصارة الأوهام ووساوس الصدور وحوادس الخواطر فملئوا به الأوراق سواداً والقلوب شكوكاً والعلم فساداً, فكل من له مسكة من علم ودراية وفهم يعلم أن فساد العالم وخرابه غنما نشأ من تقديم الآراء على الوحي والهوى عن النقل, وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (رأي فلان ورأى فلان ورأى فلان عندي سواء وأنما الحجة في الآثار).
وقال الآوزاعي: (عليك بالأثر وأن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لق بالقول, فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم).
وقد روى الناظم ابن أبي داود رحمهما الله تعالى قال: (حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي رحمه الله يقول: لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا في قلبه دغل).
وهنا لابد من التنبيه على أن المذموم من الرأي هو الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي, أو كان قياساً ولو جلياً في مقابلة نص مذموم.
- 32 -
وَلا تَكُ مِن قوْمٍ تَلَهَّوْ بِدِينِهِم ... فَتَطْعنَ في أَهَلِ الحَدَيثِ وتَقْدَحُ
(ولا تك من قوم) : القوم يشمل أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج والأشعرية والرافضة ونحوهم من أهل البدع.
(تلهوا) : أي تلاعبوا وتلاعب مثل هؤلا بدينهم أن يحدثوا له أصولا ويرتبوا له أبوباً وفصولاً معتمدين على قواعد قعدوها واراء اعتمدوها, زاعمين أنهم يهتدوا إلى الصواب بالعقول لا بالمنقول, وبابتداع الأصول لا بقول الرسول.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : (أن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا بالدين برأيهم فضلوا وأضلوا).(1/100)
وقال - رضي الله عنه - (أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وأني لأرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي فاجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل) يعني في قصة الحديبية.
(بدينهم) : الدين في اللغة هو الذل.
اصطلاحاً: ما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل الأوامر واجتناب النواهي.
(فتطعن) : أي تقدح وتعيب.
(في أهل الحديث) : أي رواة الأسانيد وناقليه بالأسانيد, والذين عنوا بالعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس المراد بهم هم أهل الحديث في الاصطلاح الذين يشتغلون برواية الحديث وصحته وإنما المراد بهم أهل السنة والجماعة الذين اشتغلوا بالعقيدة أو الحديث أو الفقه ونحو ذلك.
(وتقدح) : أي في عدالتهم وصدقهم وتنسبهم إلى ما هم بريئون منه من الغلط وعدم الضبط والكذب والتخليط وعدم الحفظ مع كونهم حفاظاً عدولاً مقبولي الرواية معلومي العدالة.
وقد روى من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر بن العاص وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم مرسلاً ومرفوعاً وفي لفظهما(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(1).
قال الفضل بن أحمد: (سمعت الإمام أحمد وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فأومأ إليها وقال: هذه سرج الإسلام, يعني المحابر.
وقال الحافظ الجوزي: (قال الإمام الشافعي لولا المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر).
- 33 -
إذا مَا اعتقدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هذِه ... فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ
(إذا) : ظرف لما يستقبل من الزمان.
(ما) : زائدة لمزيد إثبات ما بعدها.
(اعتقدت) : الاعتقاد هم حكم الذهن الجازم فإن وافق الواقع فهو صحيح وإن خالف فهو فاسد.
(الدهر) : أي مد الزمان الطويل.
(هذه) : أي ما ذكره المؤلف في هذه المنظومة.
__________
(1) أنظر التخريج الكامل لهذا الحديث في كتاب (لوائح الأنوار السنية) في هامش 2/349.(1/101)
(فأئت) : الفاء جواب إذا.
(على خير) : وذلك لتمسكك بكتابة الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم.
(تبيت وتصبح) : أي إذا اعتقدت ما ذكره الناظم رحمه الله تعالى فأنت على خير في كل حياتك وفي هذا ترغيب من الناظم رحمه الله تعالى على تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة لأن من اعتقد ذلك فهو على خير في الدنيا والآخرة.
والله تعالى أعلم .
تم بحمد الله
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(1/102)