ضوابط التكفير
عند أهل السنة والجماعة
تأليف
عبد الله بن محمد القرني
المحتويات
مقدمة الطبعة الثانية…9
مقدمة الطبعة الأولى…13
تمهيد…15
الباب الأول…22
أصل الدين حقيقةً وحكماً…22
الفصل الأول…23
حقيقة الشهادتين…23
تمهيد :…23
أولاً - تحقيق التوحيد…26
الضرورة النفسية والشرعية للتوحيد :…27
مقتضيات التوحيد :…29
موجب استحقاق الله للعبادة :…32
العبودية الجبرية ومقتضاها الاختياري :…37
ثانياً: تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم…41
1- الالتزام الباطن :…41
2- الالتزام الظاهر :…45
ولا يكون ذلك عندهم إلا بمعرفة المقومات الذاتية التي لا يمكن تحققه إلا بها، وبتخلف بعضها تنتفي حقيقة الإيمان وماهيته بالكلية. بخلاف الخواص العرضية - كما يقولون- التي ليست شرطاً في تحقيقه وإنما هي ثمرة من ثمراته.…48
الفصل الثاني…55
الأصل في ثبوت وصف الإسلام للمعين…55
المخالفون لأهل السنة في هذا الأصل…63
توطئة :…63
الشبهة الأولى…64
جهل الناس بمدلول الشهادتين…64
أصل هذه الشبهة :…65
وهنا على هذا الاتجاه بشقيه ملاحظات مجملة :…66
الشبهة الثانية…70
إشتراط حد أدنى للإسلام…70
شبهات أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام :…71
ويقال في الرد على هذا الاستدلال :…76
أثر هذا القول على ثوبت وصف الإسلام للمعين :…77
كيف يكون التبين عندهم ؟…81
الأصل في حكم الناس عندهم :…83
الباب الثاني…86
حقيقة الكفر…86
الفصل الأول…87
حقيقة الشرك…87
توطئة :…87
1- الشرك الاعتقادي :…89
2- شرك الطلب :…93
أولاً: شرك الشفاعة :…95
ثانياً: الشرك بسؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله :…98
ص157…102
صـ163…105
3- شرك النية والإرادة والقصد .…105
4-شرك التقرب والنسك .…111
الفصل الثاني…117
كفر الرد…117
توطئة :…117
1-كفر التكذيب والاستحلال .…118
2-كفر الضلال والغي…120
3-الكفر بترك جنس العمل .…128
4-كفر تارك الصلاة…134
حقيقة الترك المكفر :…139(1/1)
5-الكفر بتحكيم القوانين .…143
حكم المعين…154
مناط كفر المحكومين بغير الشريعة :…156
الفصل الثالث…161
شرك دون شرك، وكفر دون كفر…161
منهج المرجئة :…162
منهج الخوارج وأصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام :…165
ضابط الشرك والكفر الأصغر :…171
الباب الثالث…175
تكفير المعين، شروطه وموانعه…175
تمهيد…176
الفصل الأول…178
حقيقة العلاقة بين الظاهر والباطن…178
أولاً: من يقول بعدم التلازم بين الظاهر والباطن:…178
ثانياً: من يقول بالتلازم المطلق بين الظاهر والباطن:…181
ثالثاً: منهج أهل السنة التلازم بين الظاهر والباطن :…184
الحالة الأولى: الكفر الباطن.…184
الحالة الثانية: الدلالة القطعية للظاهر على الباطن.…185
الحالة الثالثة: الاحتمال في الفعل الظاهر.…187
الحالة الرابعة: الاحتمال في القصد.…190
الفصل الثاني…196
الضابط في قيام الحجة على المعين…196
توطئة:…196
أولاً: مقتضى الإقرار بالشهادتين…197
حقيقة منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذه القضية:…200
قول الإمام الصنعاني رحمه الله في هذه القضية:…204
ثانياً: مناط التكليف بالالتزام التفصيلي.…206
حكم المتأول…210
الفرق بين الحكم على الباطن والحكم على الظاهر :…214
الضابط في معرفة الفرق والحكم فيها…219
ضابط الإعذار بالشبهة…227
الفصل الثالث…231
التقية والإكراه…231
أولاً ـ التقية بكتمان الدين:…232
ثانياً ـ التقية بإظهار الكفر:…235
حد الإكراه :…239
التقية مباحة والصبر أولى…242
ص9
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد :(1/2)
فهذه هي الطبعة الثانية لهذا الكتاب، هذبت فيها بعض المواطن، وأوضحت ما رأيت أنه يحتاج إلى إيضاح، وضمنتها زيادات مهمة، وإن كان الأمر يحتاج في بعضها إلى دراسات مفصلة، نظراً لما لوحظ في الفترة الأخيرة من انتشار أفكار كثيرة ومتناقضة، والمؤسف أن تنسب إلى أهل السنة، مع أن أصول أهل السنة في مسائل الإيمان وما يتعلق بأحكام التكفير تناقض ذلك .
ومع ما تضمنه هذا الكتاب من مناقشات، وردود على كثير من أصول الشبهات التي قامت عليها تلك الأفكار، فإن من المعلوم أن الردود التفصيلية عليها تحتاج إلى توسع وبسط وتتبع لجزئياتها، وعرضها على أصول أهل السنة في هذا الباب. ومع وجود دراسات مسددة في ذلك فإن الأمر لا يزال يحتاج إلى الكثير منها .
و إذا لم يمكن هنا استيفاء الردود على جميع تلك المخالفات على التفصيل، فإنه لا أقل من الإشارة إلى بعض القواعد والأصول المنهجية التي ينبغي التمسك بها والحرص عليها، لدرء الفتنة في هذا الأمر العظيم. ومن هذه القواعد :
1- الوقوف مع إجماع السلف، وعدم تجاوزه أو قبول الخلاف فيه بأي حال، لأن مخالفة إجماعهم يقتضي بالضرورة تخطئتهم، وهم إنما
ص10
أجمعوا على الأصول التي أجمعوا عليها بناء على نصوص كثيرة، فلا يمكن أن يكون إجماعهم خطأ، بل إن من يخالفهم لابد أن يكون هو الذي أخطأ، وأحدث في الدين ما ليس منه .
فإذا كان أهل السنة قد أجمعوا - مثلاً - على أن الإيمان قول وعمل، فإن من مقتضى ذلك عندهم أن الكفر قد يكون بالعمل، فلا يصح تقييد الكفر بمجرد الاعتقاد، ثم يأتي من يدعي التقرير لأحكام التكفير فيزعم أنه لا كفر إلا بالتكذيب، وينسب ذلك إلى أهل السنة، جاهلاً أن هذا مناقض لهذا الأصل .(1/3)
كما أنه يلزم عن هذا الأصل تكفير التارك لجنس العمل، و أن النجاة من عذاب الكفار لا تكون إلا بالعمل، وقد نص العلماء على أن هذه هي حقيقة الفرق بين أهل السنة والمرجئة في هذا الباب، ثم يأتي من يقول إن العمل كمالي للإيمان، وإن النجاة من عذاب الكفار ممكنة بمجرد الإقرار، ولو لم يعمل أي عمل، ويدعي أن هذا هو مقتضى دلالة النصوص، مع أن علماء أهل السنة قد بينوا دلالة تلك النصوص بما يوافق الأصول التي اتفقوا عليها، فلم تشكل عليهم تلك النصوص، فضلاً عن أن يعارضوا بها الأصول المتفق عليها .
2- ضرورة أن يكون القول في أي مسألة مبنياً على النظر في جميع النصوص الواردة فيها، والنظر في مجموع تلك النصوص وفق القواعد المقررة في أصول الفقه، بحيث يتميز المطلق من المقيد والعام من الخاص ونحو ذلك، مع الجزم بأن ما ذهب إليه السلف في فهم تلك النصوص والجمع بينها هو الحق.
فلا يصح - مثلاً - الحكم بأن حديث الشفاعة الوارد في الجهنميين نص في أن العمل كمالي للإيمان، لما ورد فيه من أنهم دخلوا
ص11
الجنة مع أنهم لم يعملوا خيراً قط، مع أن السلف قد أجمعوا على أن العمل من الإيمان، و أنه شرط للنجاة من عذاب الكفار، ولم يشكل هذا الحديث على ما ذهبوا إليه، بل فهموه بما يتفق مع ذلك الأصل، ومثله حديث البطاقة، ونحوه من الأحاديث التي فيها البشارة بدخول الجنة أو تحريم النار على من قال لا إله إلا الله، فإنها لم تشكل على السلف، بل فهموها وفق النصوص الدالة على اشتراط العمل في الإيمان، وكونه ركناً فيه، و أن النجاة من التخليد في النار لا تكون بدونه .
3- فهم العبارات والمصطلحات التي قد يطلقها السلف في سياق فهمهم للقضايا التي تتعلق بها تلك المصطلحات، والنظر في مجموع كلامهم في ذلك، والأحكام التي يرتبونها على تلك المصطلحات، بحيث لا يترتب على فهمنا لها فهم مغاير لما أراده السلف منها .(1/4)
فإذا قسم بعض العلماء الكفر إلى عملي واعتقادي، فإنه لا يلزم من ذلك ما ظنه بعض الناس من أن الكفر المخرج من الملة لا يكون بالعمل إلا إذا كان مقيداً بالاعتقاد، لأن العلماء الذين أطلقوا هذه العبارات قد نصوا على أن الكفر قد يكون بالقول والعمل، كما يكون بالاعتقاد. وإنما مرادهم بالكفر العملي ما يتعلق بالمعاصي التي لا تخرج من الملة، كترك بعض الواجبات، وفعل بعض المحرمات، والغالب أنهم إنما يقررون ذلك في تفسير النصوص التي فيها إطلاق الكفر على بعض الذنوب التي لا تخرج من الملة، فيقولون هذا من الكفر العملي، وليس من الكفر الاعتقادي، رداً على الخوارج الذين يستدلون بتلك النصوص على تكفير مرتكب الكبيرة .
ومع هذا فإنه يوجد من يعارض ما اتفق عليه السلف من أن
ص12
الكفر قد يكون بالقول والعمل، مع وجود النصوص الكثيرة الدالة على خلاف ذلك، وثبوت ما يخالف قوله عن علماء أهل السنة، ويستدل بهذا المصطلح الذي أطلقه بعض العلماء، دون نظر في مراد الأئمة به، ولا إلى كلامهم في القضية التي يتعلق بها ذلك المصطلح. ومثال ذلك ما يدعيه بعضهم من أن تحكيم القوانين الوضعية فيما يخالف الأحكام الشرعية من الكفر الذي لا يخرج من الملة، مستدلين بأنه من الكفر العملي، فلا يكون كفراً ما لم يقيد بالاستحلال فلا يفرقون بين من شرع وبدل أحكام الله تعالى، وبين الحاكم أو القاضي المسلم الذي قد يحكم بما يخالف الشرع في مسألة جزئية .
وهؤلاء يلزمهم على هذه القاعدة ألا يكفروا من سب الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دينه، أو أهان مصحفه، أو سجد للصنم بمجرد فعله، وهي نفس اللوازم التي شنع بها أئمة أهل السنة على الجهمية والمرجئة، وبينوا فساد مذهبهم، من جهة العلم بفساد ما يلزمهم من ذلك.(1/5)
والأوفق هنا لدرء هذه الفتنة الالتزام بتقسيم الكفر إلى ما هو أكبر وما هو أصغر، أو إلى كفر مخرج من الملة، و إلى كفر لا يخرج من الملة، ونحو ذلك من العبارات التي تتضمن الدلالة على أن الكفر قد يكون بالعمل، و أما إذا أطلق هذا المصطلح وأمكن أن يشكل على بعض الناس فلابد من بيان المراد به، ولهذا كان بعض العلماء يقيد مراده بذلك، أو يذكر في كلامه ما يدل على أن الكفر بالعمل لا يكون مقيداً بالاعتقاد بإطلاق .
4- تحرير مناط المسألة التي حكم فيها السلف، والحذر من الخطأ واللبس في ذلك، فأنت تجد - مثلاً - من يدعي أن السلف قد
ص13
أجمعوا على أن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر الأصغر مطلقاً، ولا يفرق بين ما تكون المخالفة فيه بتبديل الشرائع، وما تكون المخالفة فيه بالحكم في قضية أو قضايا معينة، مع الالتزام بتحكيم الشريعة، وهو لا يعلم أن كلام العلماء الذي بنى عليه دعوى الإجماع مقيد بالحالة الثانية دون الأولى، ولذلك تجد العلماء الذين استشهد بقولهم على الإجماع المزعوم قد نصوا على التكفير بالتشريع وتحكيم القوانين الوضعية دون شرط الاستحلال. بل نص بعضهم على ثبوت الإجماع في التكفير بالتشريع وتبديل الأحكام الشرعية فعلم أن ما ادعاه هؤلاء من الإجماع خطأ محض، إن لم يكن من الافتراء والتلبيس على أئمة أهل السنة.
5- الفهم لأصول المخالفين، وفهم ما تقتضيه تلك الأصول من البدع المناقضة لأصول أهل السنة، والجزم بأنه لا يمكن التوفيق بين أصول أهل السنة وأصول مخالفيهم بأي حال.(1/6)
فإذا قال السلف - مثلاً - إن الإيمان يزيد وينقص، وكان ذلك شعاراً يميزهم عن غيرهم، فإنه لا يمكن التوفيق بين هذا الأصل وقول من يقول إن الإيمان مرتبة واحدة، لأن هذا يقتضي بالضرورة عدم قبوله للزيادة والنقصان. لأنه إذا كان مرتبة واحدة فإما أن يثبت كله وإما أن ينتفي كله، و أما أن يذهب بعضه ويبقى بعضه مع كونه مرتبة واحدة فغير ممكن، ولهذا فإن جميع المخالفين لأهل السنة يعيبون عليهم القول بالزيادة والنقصان في الإيمان، ويسمونهم " النقصانية" على جهة الذم لهم، ولم يعلموا أن أهل السنة إنما يقولون بالزيادة والنقصان في الإيمان بناء على قولهم بأن للإيمان أصلاً وكمالاً، و أن انتفاء كمال الإيمان لا يستلزم انتفاء أصله، و أما هؤلاء فليس للإيمان عندهم إلا مرتبة واحدة، فلا يمكنهم أن يقولوا بالزيادة والنقصان فيه .
ص14
وأساس ذلك أن الكفر نقيض الإيمان، فلا يمكن اجتماع شعبة من شعب الإيمان مع ما ينافيها من شعب الكفر، وشعب الإيمان عند أهل السنة ليست على مرتبة واحدة، لأن بعضها مشروط في أصل الإيمان، بحيث يمكن أن تنتفي مع بقاء أصل الإيمان. فيمكن على هذا أن تجتمع في شخص واحد بعض شعب الكفر وبعض شعب الإيمان، لكن إذا كان للإيمان حقيقة واحدة كما هو عند جميع المخالفين لأهل السنة في الإيمان فإنه لا يمكن تصور ما ينافيها من شعب الكفر إلا مع انتفاء الإيمان بالكلية، لأن الكفر سيكون حقيقة واحدة أيضاً، ولن يكون فيه كفر دون كفر، فكل شعبة من شعب الكفر لابد أن تنافي الإيمان بالكلية .(1/7)
وليس المقصود هنا استيفاء الكلام في هذه المسائل، وإنما المقصود ذكر أمثلة تبين التلازم بين أصول أهل السنة في الإيمان وما يترتب على تلك الأصول من مسائل، و أن الخطأ في المنهج ومخالفة أصول أهل السنة يقتضي المخالفة في بعض المسائل، كما أن المخالفة في بعض المسائل إنما يكون نتيجة لعدم الالتزام بمقتضى تلك القواعد و الأصول. و أما التفصيل بذكر الأدلة في كل ذلك، وبيان وجه دلالتها، والرد على شبهات من خالف فيها، والنقل عن علماء أهل السنة فله مقام آخر .
وختاماً أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، و أن يجعله من العلم النافع الذي لا ينقطع أجره. والحمد لله رب العالمين .
ص15
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :
فإن التكفير حكم شرعي، لا يطلق على معين إلا بشروطه الشرعية، ومن ثبت في حقه بتلك الشروط أطلق عليه حكم الردة بلا تردد .
وكما أنه ليس لأحد أن يحكم على قول أو فعل أنه شرك إلا بدليل شرعي، فكذلك ليس لأحد أن يطلق حكم الردة على معين إلا بضوابط شرعية .
والمسلم إذا تلبس بشيء من مظاهر الشرك لا يلزم أن نحكم عليه بالشرك، بل قد يكون معذوراً، فلا يحكم بردته حتى تتحقق فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه، فلا تلازم بين تلبسه بذلك الفعل وبين الحكم عليه بالردة .
والجزم بتكفير المعين، وإخراجه من الإسلام خطره عظيم، وتترتب عليه آثار كثيرة، كانتفاء ولايته العامة على المسلمين، وانتفاء ولايته على ذريته، وتحريم زوجته عليه، وسقوط إرثه، وعدم حل ذبيحته، وعدم جواز تغسيله، والصلاة عليه إذا مات، و أنه لا يدفن في مقابر المسلمين، وعدم جواز الاستغفار له، وما إلى ذلك من أحكام.
ص16(1/8)
ولهذا ورد الوعيد الشديد فيمن كفر مسلماً كما في الحديث المتفق عليه " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" وفي رواية مسلم " إن كان كما قال و إلا رجعت عليه"(1)
وقد افترق الناس في تحديد شروط التكفير وموانعه. فعند بعضهم أن من تلفظ بالشهادتين لا يمكن تكفيره بحال، بل قالوا: إنه لا يجوز تكفير شخص بعينه، وإنما إطلاق وصف الكفر يكون على الأعمال، وعندهم أن سلطة الحكم على الأشخاص بالكفر ليست للأفراد، بل للحاكم والقاضي المسلم. وهذا غاية التفريط .
وعند آخرين التكفير بالكبيرة، أو عدم الحكم بإسلام من نطق بالشهادتين، وصلى وصام وأدى فرائض الإسلام، ما لم يتحققوا من إسلامه بشروط حددوها، لم ترد في الكتاب ولا في السنة. وهذا غاية الإفراط. وبين هؤلاء وهؤلاء اتجاهات متباينة.
و أما أهل السنة والجماعة فقد هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه، لالتزامهم بالدليل الشرعي في وصف الفعل وفي حكم الفاعل، فالتزموا بالنصوص الشرعية في تحديد حكم الفعل، وتحديد ما هو كفر وما ليس بكفر. والتزموا بها في تحديد شروط وموانع تكفير المعين. فلم يقولوا بالتكفير بالعموم دون النظر في تحقيق شروط التكفير وانتفاء موانعه في حق المعين، ولم يتوقفوا عن إثبات وصف الإسلام لمن ظهر منه إرادة الدخول في الإسلام، أو كان الظاهر منه التزامه به. بل التزموا بالحق في ذلك كله. ولم يضربوا النصوص بعضها ببعض كما هو شأن مخالفيهم .
ولأجل إيضاح منهج أهل السنة والجماعة في هذه القضية استعنت
ص17(1/9)
بالله تعالى وسجلت هذا الموضوع لنيل درجة التخصص الأولى (الماجستير) في قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. وقد أشرف على البحث فضيلة الأستاذ الدكتور بركات عبد الفتاح دويدار، و أنا أشكره جزيل الشكر لما بذله من جهد ووقت، كما أشكر كلاً من فضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي، وفضيلة الدكتور سفر الحوالي لتفضلهما بمناقشة البحث، وقد استفدت من ملاحظاتهما فوائد قيمة، كان لها أثرها في تسديد البحث. وأنا أرجو كل أخ كريم له ملاحظة على شيء مما يقرؤه في هذا البحث أن يبادر بها، أداءً للأمانة وقياماً بواجب النصيحة.
وختاماً أسأل الله تعالى أن يجعله من العلم النافع، و أن يجعل العمل فيه خالصاً لوجهه الكريم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
ص19
تمهيد
إن الإيمان هو الأساس الذي جاءت نصوص الكتاب والسنة لتقريره وبيانه، وذكر نواقضه وما يقدح في كماله، وبيان مآل المؤمنين وعاقبة الكافرين، حتى إن هذه القضية هي الأصل الذي تعود إليه كل نصوص الكتاب والسنة .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك أتم بيان وأوضحه، واتبعه على ذلك أصحابه رضوان الله عليهم فلم يختلفوا فيه أدنى اختلاف .
وقد تبعهم على ذلك الفهم لحقيقة الإيمان سلف الأمة وأئمتها، فأجمعوا على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وتوارثوه إلى يومنا و إلى أن تقوم الساعة، لأنهم هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة .
ومع تمسك أهل السنة والجماعة بذلك المفهوم وإجماعهم عليه، فقد كانوا يردون على كل بدعة مخالفة لذلك الأصل، ويبينون الحق، ويقيمون الحجة على مخالفيهم .(1/10)
وأول نزاع حدث في الأمة هو النزاع في التكفير، حين كفرت الخوارج المارقة علياً رضي الله عنه، بعد حادثة التحكيم المشهورة، ومنذ صفين - حيث بدأ الاختلاف والتفرق في الأمة - و إلى اليوم والخلاف قائم حول حقيقة الإيمان والكفر، وما يتبع ذلك من القول في التكفير. بل إن الإنحراف قد ازداد مع مرور الأيام، نظراً لردود الفعل المتعاقبة، ونظراً أيضاً لدخول المسألة في نطاق التعقيد القائم على تبرير المناهج
ص20
بالتماس المؤيدات الشرعية لمقررات سابقة .
وعلى هذا فخلاف الفرق - المخالفة لأهل السنة - في حقيقة الإيمان والكفر ليس في حقيقته قائما على نظر واعٍ واجتهاد مدروس، وإنما هو ردود أفعال غالية على غلو سابق. وهذه حقيقة تأريخية مهمة .
فحين بنى الخوارج منهجهم في التكفير بالكبيرة على أن الأعمال من الإيمان، بناء على أن الإيمان حقيقة واحدة، تنتفي كلها بانتفاء بعض أجزائها، جاء من يقول - وهم المرجئة- إن الأعمال ليست من الإيمان، إذ لا يمكن الجمع بين القول بعدم تكفير مرتكب الكبيرة، والقول بأن العمل من الإيمان، استناداً إلى الشبهة السابقة، فقابلوا بدعة التكفير بالمعصية ببدعة نفي أن يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان .
وأساس خطأ الفريقين وشبهتهم واحدة، وملخصها عدم التفريق بين أحكام الظاهر وأحكام الباطن، أو بين حقيقة الإيمان وثبوت وصف الإسلام للمعين، فجعلوا الإيمان و الإسلام وصفين مترادفين .
فالخوارج ظنوا أنه ليس إلا مؤمن أو كافر، و أن المؤمن هو من التزم بجميع الواجبات وترك جميع المحرمات، و أن من لم يكن كذلك فهو كافر .(1/11)
و أصل ذلك أنهم قالوا: إنه إذا كان العمل من الإيمان فإن تحقق المخالفة فيه يقتضي انتفاء الإيمان بالكلية، لأنه كما لا يتصور أن يكون الإنسان إلا مسلماً أو كافراً. قالوا فكذلك لا يتصور أن يكون الإنسان إلا مؤمناً أو كافراً. وكما وصف الإسلام أما أن يكون موجوداً أو منتفياً فكذلك وصف الإيمان إما أن يكون موجوداً أو منتفياً. ثم رتبوا على ذلك أن الإيمان لا ينقص، وأن نقصه يعني انتفاء حقيقته بالكلية. وعلى هذا فمرتكب الكبيرة ليس مسلماً.
ص21
لكن المرجئة قابلوا ذلك الغلو بغلو آخر فقالوا: إنه قد ثبت أن وصف الإسلام يثبت للمعين بالإقرار، فدل ذلك على أن الأعمال ليست من الإيمان، لأنها ليست شرطاً في ثبوت وصف الإسلام للمعين ابتداء. ثم رتبوا على ذلك أنها أيضاً ليست شرطاً في بقاء وصف الإسلام بعد ثبوته ابتداءً.
ولهذا كانوا يجادلون أهل السنة بقولهم أمؤمنون أنتم؟ ويظنون أن الإيمان مرتبة واحدة لا استثناء فيها كالإسلام.
ومن أشهر استدلالاتهم في ذلك حديث الجارية التي سألها الرسول صلى الله عليه وسلم: أين الله ؟ قالت في السماء. فسألها: من أنا ؟ قالت: رسول الله. فقال لسيدها: اعتقها فإنها مؤمنة. (2)
وقد فهموا من ذلك أنه لو كان شيء غير الإقرار مطلوباً في تحقيق الإيمان لم يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الجارية بالإيمان بمجرد الإقرار .
وعلى هذا يفهم قول الكرامية إن الإيمان هو الإقرار، فإنهم إنما يقصدون ما عليه عموم المرجئة من ذلك، لا أنهم يقولون إن المنافق يكون مؤمناً بمجرد إقراره(3)، لكنهم لا يفرقون بين وصفي الإيمان و الإسلام الحكمي. بل هما عندهم - كما عند الخوارج - وصفان مترادفان.(1/12)
ولهذا كان رد أهل السنة على كلتا الطائفتين بتقرير أن الإيمان يزيد وينقص، حتى أصبح ذلك شعاراً يعرف به أهل السنة من غيرهم. وبتقرير الفرق بين وصفي الإيمان المنجي و الإسلام الحكمي تبعاً لذلك، وهذا هو معنى قول الإمام أحمد الذي تابع فيه الإمام الزهري رحمهما الله :
ص22
( الإسلام الكلمة، و الإيمان قول وعمل ). (4)
فالإسلام يثبت ابتداء بالكلمة التي هي الإقرار. لكن لابد من تحقيق مقتضى الإقرار واجتناب نواقضه، وليست المخالفة كفراً مطلقاً، بل تكون نقصاً في الإيمان مع أنها مخالفة لمقتضى الإقرار، حتى إذا كانت المخالفة بناقض انتقض نفس الإقرار ولم يبق له اعتبار.
****
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى غلو أبعد عند كلام الاتجاهين على السواء.
فإذا كان الخوارج الأوائل قد كفروا بالذنب فإنهم لم يصلوا إلى الإتفاق على أن الأصل في مخالفيهم مطلقاً هو الكفر أو التوقف. بل ذهب بعضهم كالبيهسية إلى أنه ( إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون. وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف ) (5). و أما آخرون منهم كالأخنسية فإنهم ( يتوقفون في جميع من في دار التقية من منتحلي الإسلام و أهل القبلة إلا من عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه أو كفراً فيتبرؤون منه لأجله ) (6)
فلم يكن ذلك اتجاهاً عاماً لجميع الخوارج، بخلاف أصحاب التوقف في عصرنا، فإنهم جعلوا ذلك أصلاً، واشترطوا التبين مطلقاً في الحكم للمعين بالإسلام، مما كان من نتائجه عند بعضهم التكفير بالكبيرة .
وفرق بين من يكون التكفير بالكبيرة أصل قوله، مع عدم التزامه
ص23
بالتوقف عن إثبات الإسلام لمن تحقق منه ما يدل على ذلك، وبين من يكون التكفير بالكبيرة نتيجة لاشتراط حد أدنى للإسلام، لا يثبت ابتداءً لأي معين إلا بعد استيفائه والتحقق منه.(1/13)
بل وصل بهم الأمر إلى القول بـ (سحب الكفر على عصور التاريخ الإسلامي منذ القرن الرابع ) (7). و إلى القول بأن جماعتهم ( هي الجماعة الوحيدة المسلمة في العالم ) (8). وهذا نهاية الغلو غاية الظلم و الإسراف .
وأما الإرجاء(9)فلم يبق على ما كان عليه من مجرد اعتبار العمل خارجاً عن مسمى الإيمان، و أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. بل تجاوزه إلى القول بأن الإيمان هو مجرد التصديق، وذلك حين أدخل علماء الكلام الإيمان في مباحثهم الفلسفية التجريدية، وأرادوا تعريفه وفقاً لنظرية الحد المنطقية، التي لابد فيها من وجود حقيقة و ماهية ثابتة مشتركة بين الأفراد مجردة عن العرضيات، وجعلوه مجرد اعتقاد بوحدانية الله في ذاته وصفاته وأفعاله، واعتقاد بحقية ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وجردوه عن العمل، ونفوا زيادته ونقصانه، وأثبتوا تساوي أفراده فيه.
وقد رتبوا على ذلك القول بأن من ترك العمل بالكلية لا يكفر إذا أقر ونطق بالشهادتين مرة في حياته، بل قال بعضهم وحتى الإقرار فليس من الإيمان، وإنما هو مجرد شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وأن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عذر ومات على ذلك يكون ناجياً .
ومما يترتب على ذلك أيضاً القول بأن التشريع والتقنين والإلزام
ص24
بما يضاد حكم الله ليس في ذاته كفراً أكبر، وإنما هو معصية، وأن من تحقق منه ذلك عامداً لا يكفر حتى يظهر بلسانه أنه مستحل لما فعل جاحد لحكم الله .
ونتيجة لما تقدم فقد دار البحث في هذا الموضوع حول ثلاثة أمور أساسية، توزعت على أبوابه وفصوله .
الأول: حول تقرير حقيقة الإيمان، وبيان ما يقابله من حقيقة الكفر. ولأن الأصل في البحث هو بيان أصول السنة فيما يتعلق بالتكفير، فقد كان لزاماً أن يقتصر الكلام هنا على ما له صلة مباشرة بالموضوع، مما يكون للخلاف فيه أثر حقيقي على الخلاف في قضية التكفير .
ولهذا كان الاهتمام بتقرير حقيقتين :(1/14)
الأولى: بيان حقيقة التوحيد، وأنه ليس مجرد اعتقاد الوحدانية لله في ذاته وصفاته وأفعاله كما هو عند المتكلمين على اختلافهم في ذلك، وإنما هو توحيد الله تعالى بالقصد والإرادة، وإخلاص الألوهية والعبودية له، وكل ذلك يتضمن اعتقاد الوحدانية لله في ذاته وصفاته وأفعاله .
ونتيجة لهذا الخلاف في حقيقة التوحيد فإنا لا نجد ذكراً لشرك الإرادة عند مرجئة المتكلمين، بل الشرك عندهم اعتقاد شريك مع الله، إما في الملك والتدبير، وإما في استحقاق العبادة، ولهذا لم يكن الشرك باتخاذ الوسائط وطلب مالا يقدر عليه إلا الله من غيره شركاً عندهم ما لم يتضمن اعتقاد استقلالية من طلب منه ذلك بالخلق والإيجاد، كما أن صرف بعض أنواع العبادة لغير الله كالذبح والنذر ونحو ذلك ليس شركاً عندهم كذلك، ما لم يتضمن اعتقاد استحقاق من صرف له ذلك للعبادة .
ص25
وهذا هو الذي دار فيه الخلاف بين هؤلاء وبين الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، حين ألزمهم أن الشرك في الإرادة كالشرك في الاعتقاد ولا فرق، و أن شرك الإرادة لا يقيد بشرك الاعتقاد، بل هو شرك بذاته .
ولما استقر عندهم أن تلك الأمور إما خطأ في الأسباب لا علاقة لها بالشرك، وإما مجرد معصية لا تصل إلى حد الشرك فقد اتهموه بالتكفير بالمعصية، وأنه خارجي حروري مستحل لدماء المسلمين. ولا يزال الأمر في ذلك على أشده إلى اليوم. ولن ينتهي مادام الخلاف في حقيقة التوحيد قائماً .
وأما الحقيقة الثانية فهي: بيان منزلة الالتزام الظاهر بالعمل من أصل الدين، وأنه شرط للنجاة في الآخرة، وداخل في حقيقة أصل الدين، و أن نقض الالتزام المجمل في الظاهر بترك العمل بالكلية، أو ترك ما دل الدليل على أن تاركه كافر، أو فعل ما يناقض حقيقة هذا الالتزام كفر أكبر مخرج من الملة. وأنه لا فرق بين ذلك وبين نقض الالتزام الباطن بعدم التسليم لأمر الله والرضى بشريعته، الذي هو كفر المنافقين .(1/15)
لكن لما استقر عند المرجئة أخيراً أن الإيمان مجرد اعتقاد بوحدانية الله، واعتقاد حقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ترتب على ذلك أن مجرد نقض الالتزام الإجمالي في الظاهر ليس كفرا بذاته، بل هو معصية يشترط في التكفير بها الاستحلال والجحود الذي لا يعلم بمجرد العناد بالعمل فعلاً أو تركاً، بل لابد من تصريح صاحبه بالنطق بلسانه .
وعلى ذلك فمن ترك العمل بالكلية لا يكون كافراً عندهم، ويكفيه مجرد الإقرار بالإسلام، كما أن من شرع من دون الله ورفض شريعة الله لا يكون كافراً بذلك، ما لم يكن مستحلاً جاحداً معلناً ذلك بلسانه، وليس هذا مجرد إلزام لهم بل هم قد التزموا بذلك.
ص26
ومن مجموع النظر في الأمرين السابقين يتبين أن الخلاف بين أهل السنة والمرجئة قائم في حقيقة أصل الدين بركنيه: التوحيد والالتزام الإجمالي بالشريعة، وأن أساس الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في التكفير أصله وأساسه الخلاف في هذين الأمرين، وأنه لا مجال للحديث معهم حول ضوابط التكفير وتحديد شروطه وموانعه قبل الاتفاق على حقيقة التوحيد وحقيقة الالتزام الإجمالي بالشريعة .
وأما المحور الثاني للبحث في الموضوع فهو حول تقرير الأصل في ثبوت وصف الإسلام للمعين ابتداء .
فإنه لما غلا المرجئة فاعتبروا مجرد الإقرار كافياً لثبوت وصف الإسلام للمعين ابتداء واستمرارً، فقد غلا آخرون فألغوا اعتبار الإقرار في الحكم للمعين بالإسلام ابتداءً .
واشترطوا بدلاً من ذلك شروطاً ابتدعوها، تناقض صريح السنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية، وما استقر عليه فهم الصحابة رضوان الله عليهم بعده، وما هو معلوم بالضرورة عند جميع علماء المسلمين .
ومنشأ هذا الغلو من أحد أمرين :
الأول: الزعم بأن عموم الناس اليوم قد جهلوا مفهوم الشهادتين، وأنهم لا يعرفون حقيقة العبادة والدين، ولا معنى الرب والإله، وأنهم ليسوا مسلمين وإن نطقوا بالشهادتين وأظهروا شعائر التعبد .(1/16)
لكنهم بعد أن اتفقوا على التوقف عن إثبات وصف الإسلام للناس بمجرد النطق بالشهادتين اختلفوا في الأصل في الحكم على الناس اليوم، فمنهم من يقول إنهم في الأصل كفار كما كان الناس في عهد
ص27
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصل كفاراً حتى يتبين منهم إسلام، ومنهم من يقول بالتوقف عن إثبات وصف الكفر أيضاً كما توقف عن إثبات وصف الإسلام .
والحقيقة أنه لم يحصل أن ارتدت الأمة ردة جماعية شملتها، ولا حصل أن شمل الجهل بمفهوم الشهادتين عموم الناس، بحيث يكون مبرراًٍ لعدم اعتبار إقرارهم بالإسلام، أو جهل بعض المسلمين مفهوم الشهادتين فلا يمكن أن يكون ذلك حكماً عاماً عليهم جميعهم، بل الإسلام ثابت لهم ابتداءً، وهذه الأمور إن حصلت فهي أمور طارئة، لا يمكن أن تصل إلى حد التعميم والقاعدة المطلقة .
…وأما السبب الثاني لهذا الغلو فهو: الخلط بين اعتبار الالتزام بجنس العمل وكونه ركنًا للإِيمان، وبين الحكم للمعين بالإِسلام. واشتراطِ حد أدنى من ذلك الالتزام، لابد من استيفائه من المعين قبل الحكم بإسلامه، واعتبار الالتزام بالفرائض هو حد الإِسلام الأدنى، مما ترتب عليه اشتراط التبين لذلك الحد في كل معين بكيفية ابتدعوها، والتكفير بالمعاصي، لما فهموه من أن في ذلك مناقضة للالتزام الظاهر الذي هو من أصل الدين .
***
…وأما المحور الثالث للبحث في هذا الموضوع فهو حول بيان الشروط التي لابد من تحققها وتبينها قبل الحكم بكفر المعين، وذكر حقيقة العلاقة بين الظاهر والباطن .
…وقد ضل في هذا الأصل فريقان :
…الأول: المرجئة. حيث التزموا أن الكفر في الظاهر لا يستلزم الجزم بالكفر في الباطن، بل هو مجرد كفر دلالة. وأن عدم الجزم
ص 28
بالتكفير في الباطن ليس لاحتمال الخطأ في حكم مَنْ حكم عليه بالكفر في الظاهر، وإنما لعدم التلازم بين الظاهر والباطن عندهم، وأن الإيمان قد يكون متحققًا - بل وكاملاً - في الباطن مع الحكم على الظاهر بالكفر .(1/17)
…ولهذا اضطر فريق منهم أن يقولوا إن من حكمنا بكفره فلابد أن يكون مكذبًا في الباطن، فناقضوا الضروريات، ثم احتاروا في حقيقة كفر المصدق للرسول صلى الله عليه وسلم المحكوم بكفره، كأبي طالب ونحوه، فقسموا التصديق إلى اضطراري واختياري، وكذلك التكذيب .
…ولو أصلحوا الأصل الذي هو أساس خطئهم، والتزموا بالحقيقة الشرعية للإِيمان التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفهمها الصحابة وعليها عموم الأمة، لم يكن من داعٍ إلى أن يلتزموا بتلك الالتزامات الباطلة .
…وأما الفريق الآخر الذي ضل في مسألة تكفير المعين فهم الذين يكفِّرون بمجرد الفعل الظاهر دون نظر إلى تحقق شروط أو انتفاء موانع. فلم يعذروا بالجهل ولا بالتأول، وجعلوا من تلبس بشيء من مظاهر الشرك مشركًا مرتدًا، وإن اعتذر بالجهل فهو كافر أصلي، لم يتحقق عنده أصل الدين، ولم يكن له إسلام بالمرة .
…وقد اضطرب كثيرون في الإِعذار بالجهل والتأول خاصة، حتى جعل بعض الناس العذر بالجهل أصلاً مطلقًا بلا حدود، وجعل آخرون الجهل غير معتبر أصلاً فيما يتعلق بالتلبس بشيء من مظاهر الشِرك. فكان لابد من الفصل في ذلك، وبيان الفرق بين الإعذار بالجهل في أصل الدين الذي هو توحيد الله وعبادته وحده مع الالتزام الإجمالي بشريعته، وبين ما لا يمكن العلم به إلا من جهة الحجة الرسالية على التفصيل .
وكان لا بد أيضًا من بيان أن مَنْ بلغته الحجة قد يقع فيما هو كفر مما لا يعلم إلا من جهة الحجة الرسالية، تأولاً لشبهة تعرض له، فلا
ص29
يكون كافرّا حتى يردِّ خبر الله أو أمره، لا عن شبهة بل عنادًا واستكبارًا .
ثم إنه لابد بعد ذلك من بيان حقيقة الرخصة بالتقية وحدودها وبيان الفرق بين التقية بالاستخفاء بالدين وعدم إظهاره، وبين التقية بإظهار الكفر، وأن الكفر إنما يكون بفعل ظاهر لا عن إكراه .
وبناء على ما سبق فإن الخلاف في قضية التكفير يرجع إلى الخلاف في مسألتين :(1/18)
الأولى: فيما يتعلق بحقيقة الإيمان، وما يلزم عنه من الخلاف في حقيقة الكفر .
والثانية: فيما يتعلق بالعلاقة بين الظاهر والباطن .
وقد استغرق الكلام في المسألة الأولى البابين الأول والثاني. فكان الأول في بيان حقيقة الإيمان المنجي، والفرق بينه وبين ما يثبت به وصف الإسلام للمعين في أحكام الدنيا، واستعراض الشبة في القضيتين والرد عليها .
وكان الباب الثاني في حقيقة الكفر المخرج من الملة، والرد على المخالفين في ذلك، ثم بيان حقيقة الشرك والكفر الأصغر، وبيان المناهج المخالفة لمنهج أهل السُنّة في ذلك والرد عليها .
أما المسألة الثانية وهي العلاقة بين الظاهر والباطن وما يتعلق بذلك من تحديد شروط وموانع تكفير المعين ففي الباب الثالث. وقد تم فيه بيان موانع تكفير المعين، وهي الجهل والشبهة والإكراه، مع استعراض الشبه في ذلك والرد عليها. مع ما سبق في الباب الأول من بيان منهج أهل السُنَّة والجماعة، والرد على المخالفين لهم في مسألة ثبوت وصف الإسلام للمعين .
ص 30
والخلاصة: أن هذا البحث شمل ثلاثة أمور، أولها: بيان حقيقة الإيمان وما يناقضه. وثانيها: بيان ما يثبت به وصف الإسلام للمعين. وثالثها: بيان ما يشترط لتكفير المعين.
ص 31
الباب الأول
أصل الدين حقيقةً وحكماً
وفيه فصلان :
الأول: حقيقة الشهادتين
الثاني: الأصل في ثبوت وصف الإسلام للمعين .
ص33
الفصل الأول
حقيقة الشهادتين
تمهيد :
جماع الدين وأصله ومبدؤه أمران هما :
1- توحيد الله تعالى بالعبادة بتحقيق شهادة ألا إله إلا الله .
2- تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله.
ولهذا كان الإقرار بهما هو الأصل في الحكم للمعين بالإسلام ودخوله فيه، وكان تحقيقهما وعدم مناقضتهما شرطاً لبقاء ذلك الوصف. وكانتا مفتاح الجنة وشرط النجاة في الآخرة. فعليهما إذن مدار الدين كله.(1/19)
وتحقيق الشهادتين هو الإسلام العام الذي أمر الله به جميع عباده، وذلك بتوحيده واتباع رسله على اختلاف الشرائع التي يرسلون بها. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء إخوة لعلات (10)أمهاتهم شتى ودينهم واحد"(11).
فالرسل جميعاً إنما يأتون بأمر واحد هو توحيد الله تعالى قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء/ 25]. ويقول تعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف / 65]. وقال تعالى { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف/ 73]. وقال تعالى:
ص34
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف/ 85].(1/20)
ولهذا فإن جميع أنبياء الله ومن اتبعهم على مر التاريخ مسلمون بهذا الاعتبار. لأن حقيقة الإسلام هي إسلام القصد والنية والوجه لله وحده كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [النساء / 125]. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {130} إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [البقرة/ 130 - 131]. وحكى الله عنه عليه السلام قوله: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة/ 128]. وقال تعالى عن حواريي عيسى عليه السلام: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [المائدة/ 111]. وذكر الله تعالى عن سحرة فرعون بعد أن أسلموا أنهم قالوا :{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [الأعراف / 126] .
وعلى هذا فالتوحيد هو الغاية التي بعث لها جميع الرسل، واتباعهم هو المنهج والطريق الذي لابد من سلوكه والالتزام به لتحقيق تلك الغاية.
ولهذا نجد - كما سبق القول - اشتراط تحقيق الشهادتين لدخول الجنة والنجاة من النار. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما غير شاك فيهما إلا دخل الجنة"(12). وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار"(13). وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يشهد أحد ألا
ص35(1/21)
إله إلا الله وأنى رسول الله فيدخل النار أو تطعمه" (14). وقال صلى الله عليه وسلم: " من شهد إلا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله حرمه الله على النار "(15)
وحقيق بالتنبيه هنا بيان أن المراد بالشهادة هنا ليس مجرد النطق بالشهادتين باللسان، وإنما المراد تحقيقهما ظاهراً وباطناً وعدم مناقضتهما.
يقول الإمام المنذري رحمه الله: ( ذهبت طوائف من أساطين أهل العلم إلى أن مثل هذه الإطلاقات التي وردت فيمن قال لا إله إلا الله دخل الجنة أو حرم على النار أو نحو ذلك كان في ابتداء الإسلام، حين كانت الدعوة مجرد الإقرار بالتوحيد، فلما فرضت الفرائض وحدت الحدود نسخ ذلك، والدلائل على ذلك كثيرة متظاهرة، و إلى هذا القول ذهب الضحاك والزهري وسفيان الثوري وغيرهم .
وقال طائفة أخرى: لا احتياج إلى ادعاء النسخ في ذلك، فإن كل ما هو من أركان الدين وفرائض الإسلام هو من لوازم الإقرار بالشهادتين وتتماته، فإذا أقر ثم امتنع عن شيء من الفرائض جحداً أو تهاوناً على تفصيل الخلاف فيه، حكمنا عليه بالكفر وعدم دخول الجنة) (16).
والمعنى الثاني هو الصحيح قطعاً، فإن بعض هذه الأحاديث قد قالها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة، بعد أن فرضت الفرائض، وبعض رواتها كأبي هريرة رضي الله عنه لم يسلم في مكة، وإنما أسلم حين كان المسلمون بالمدينة، بل بعضها إنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك آخر حياته.
وعلى هذا فلا مجال للقول بالنسخ و أن ذلك كان أول الإسلام،
ص36
وإنما المراد اشتراط تحقيقهما بالتزام مقتضياتهما وترك نواقضهما .
فلابد إذن لمعرفة حقيقة أصل الدين وما تكون به النجاة في الآخرة من معرفة حقيقة الشهادتين، وذلك ببيان حقيقة التوحيد الذي هو مقتضى شهادة ألا إله إلا الله. وحقيقة الالتزام بالشريعة الذي هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله .
ص37
أولاً - تحقيق التوحيد(1/22)
أصل معنى شهادة ألا إله إلا الله: أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده. لأن التأله في لغة العرب هو التعبد، فالإله هو المعبود، و إذا لم يكن يستحق العبادة إلا الله وحده فيكون معنى شهادة ألا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله تعالى. وعلى هذا لا يكون معنى إله مطابقاً لمعنى الرب كما يظنه من لم يفهم حقيقة الفرق بينهما، مما أدى إلى أخطاء شنيعة في معرفة حقيقة التوحيد والشرك.
يقول الزجاجي: ( إله: فعال بمعنى مفعول. كأنه مألوه أي معبود مستحق للعبادة يعبده الخلق ويؤلهونه ) (17).
ويقول الجوهري في معنى كلمة (الله): (.. وأصله إلاه على فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه أي معبود، كقولنا إمام فعال بمعنى مفعول لأنه مؤتم به) (18).
ويقول ابن سيده: ( و الإلاهة و الألوهة والألوهية العبادة) (19)
و أما الألوهية التي جاءت هذه الكلمة لإثبات استحقاق الله وحده لها فهي من مجموع كلام أهل اللغة أيضاً فزع القلب إلى الله، وسكونه إليه، واتجاهه إليه لشدة محبته له، وافتقاره إليه .
ص38
ويجمعهما كون الله هو الغاية والمراد والمقصود مطلقاً.
يقول ابن الأثير: (أصله من أله يأله إذا تحير، يريد: إذا وقع العبد في عظمة الله وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبية وصرف وهمه إليها أبغض الناس حتى لا يميل قلبه إلى أحد ) (20).
ويقول أبو الهيثم: ( الله: أصله إله ... ولا يكون إلها حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً وعليه مقتدراً ... وأصل إله ولاه. فقلبت الواو همزة... ومعنى ولاه أن الخلق إليه يؤلهون في حوائجهم ويفزعون إليه فيما ينوبهم كما يوله طفل إلى أمه) (21).
ويقول الإمام ابن القيم: ( إسم الله دال على كونه مألوهاً معبوداً تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب) (22).
****
الضرورة النفسية والشرعية للتوحيد :(1/23)
بعد ما تقدم من بيان معنى الألوهية في اللغة نعلم إجمالاً أن حقيقة الألوهية ولبها هو توجه القلب إلى الله، وإخلاص القصد والإرادة له وحده .
وتعلم ضرورة ذلك للنفس الإنسانية بمعرفة أن النفس لا يمكن أن تخلو عن الإرادة بحال. وتلك الإرادة لابد لها من مراد وغاية، والنفس مفطورة على ألا يكون مرادها وغايتها إلا الله، فلا تطمئن إلا إليه، فإما أن تخلص في قصده وطلبه وتتفق مع فطرتها، وإما أن تنحرف عنه اتباعاً للأهواء والشهوات إلى الشرك .
ص39
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: ( إن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة. بل هذا الخلو ممتنع فيها. فإن الشعور و الإرادة من لوازم حقيقتها، بل هذا الخلو ممتنع فيها. فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه، وعن محبته وعدم محبته، وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها، ولو لم يكن لها معارض، بل هذا باطل.
وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة من لوازم ذاتها، لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " أصدق الأسماء الحارث وهمام" (23)وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالإرادة، فلا بد لها من حركة إرادية، و إذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد. والمراد إما أن يكون مراداً لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لابد أن ينتهي إلى مراد نفسه، فيمتنع أن تكون جميع المرادات لغيرها، فإن هذا تسلسل في العلل الغائية، وهو ممتنع كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية، بل أولى.
و إذا كان لابد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب، فإذا لابد لكل عبد من إله، فعلم أن العبد مفطور على أن يحب إلهه) (24).(1/24)
ولأجل هذه الضرورة النفسية - التي لا ينفك عنها إنسان - جاء الأمر بإخلاص التوجه والإرادة لله وحده، وعدم الوقوف عند غاية غير الله، وجعل هذا أصل الدين وأساسه. فكما أنه أهم الضرورات النفسية فهو كذلك أهم المطالب الشرعية وأصلها، وهو حقيقة إخلاص الدين لله .
ص40
وكما لا يمكن أن يتحقق للعبد النعيم والطمأنينة في الدنيا إلا بأن يكون الله هو مراده وغايته. فكذلك لا يمكن أن يتحقق له النعيم والنجاة في الآخرة إلا بإخلاص الدين له بتحقيق توحيد الألوهية .
ولهذا وقع كثير من الناس اليوم في شرك الإرادة والتوجه، واتخذوا بذلك معبودات من دون الله أيا كانت تلك المعبودات، لأن الإنسان لا يمكن إلا أن تكون له غاية ومراد يكدح إليه في حياته كدحاً، ويوجه إليه همه وسعيه .
وكل هذا يؤكد على الحقيقة الكبرى وهي لزوم إخلاص الإرادة لله وحده.
وحقيقة الأمر في ذلك هي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( إن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به. وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم من خلقه لهم وربوبيته إياهم. فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول لا إله إلا الله رأس الأمر .
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتدري ما حق
ص41(1/25)
الله على عباده ؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم أن لا يعذبهم"(25).
وهو يحب ذلك ويرضى به ويرضى عن أهله ويفرح بتوبة من عاد إليه، كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه .
... فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله و إن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم .
... و اعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس عليه، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلاهها الله الذي لا إله إلا هو. فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه .
ولو حصل للعبد لذات وسرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له. بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك.
وأما إلهه فلابد له منه في كل حال و في كل وقت، وأينما كان فهو
ص42
معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: { لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } [الأنعام/ 76]. وكان أعظم آية في القرآن الكريم { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...} [البقرة/ 255] (26).
فالألوهية إذن هي حقيقة الصلة والعلاقة بين العبد المؤمن وربه.(1/26)
ومن هذا ندرك أن أصل العلاقة بين المؤمن وربه إرادة مبعثها المحبة والإجلال والتعظيم، مع الإقرار لله بالربوبية وعلى النفس بالعبودية. والافتقار إلى الله وحده، وتقديم محبة الله على كل محبة بحيث تكون محبته تعالى هي الغاية لجميع المحبوبات. وميل الإرادة عن كل مراد غير الله إلى الله وحده. وهذه حقيقة الحنيفية التي خلق الله الخلق عليها.
يقول الإمام ابن القيم عن حقيقة العلاقة بين العبد وربه: ( إنه لا نسبة بين الله وبين العبد إلا محض العبودية من العبد والربوبية من الرب. وليس في العبد شيء من الربوبية، ولا في الرب شيء من العبودية. فالعبد عبد من كل وجه والرب تعالى هو الإله الحق من كل وجه. ومعقد نسبة العبودية هو المحبة. فالعبودية معقودة بها بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية ) (27).
( فلو بطلت مسألة المحبة بطلت جميع مقامات الإيمان و الإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله. فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل. فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه. ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص. بل هي نفس الإسلام. فإنه الإستسلام بالذل والحب والطاعة لله. فمن لا محبة له لا إسلام له البتة. بل هي
ص43
حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعة له مألوه، وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له. و أصل التأله التعبد. والتعبد آخر مراتب الحب، يقال عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه. فالمحبة حقيقة العبودية) (28).
مقتضيات التوحيد :
إذا كانت حقيقة العلاقة بين العبد وربه هي المحبة لله والافتقار إليه فإن لها لوازم وعلائم لا تصح إلا معها. إذ ليست مجرد دعوى يدعيها العبد بلا بينة ولا تحقيق. بل لابد لتحقيق هذا الأصل من تحقيق لوازمه ومقتضياته الظاهرة والباطنة.(1/27)
فأما للوازم الباطنة فأعمال القلوب من الرجاء والخوف والإنابة والإخلاص وغيرها، لأنه إذا تحققت المحبة وصحت تبعها عمل القلب ويندرج في هذا جميع أعمال القلوب، فهي كلها تابعة للمحبة نابعة عنها. لأن المحبة هي مدار الدين كله ظاهره وباطنه.
و إذا لم تتحقق أعمال القلوب لم تكن المحبة حقيقية ولا صادقة، وهذا هو معنى قول من قال من السلف: ( من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو موحد مؤمن) (29).
ومعنى ذلك أن من ادعى المحبة دون أن يخاف الله ويرجوه فلابد أن تكون محبته كاذبة، ويكون في الباطن مكذباً لا محبة له، وهذا هو
ص44
الزنديق الذي يتظاهر بالإسلام مع الكفر الباطن.
لكن بعض الصوفية ظنوا أن الله يعبد لا رجاء في ثوابه، ولا خوفاً من عقابه، ولم يعلموا أن الجنة ليست مجرد نعيم أكل وشرب، وإنما أعظم نعيمها لذة النظر إلى وجهه تعالى الذي لا يدانيه أي نعيم آخر، وأن من عذاب الله للكافرين أن يحتجب عنهم ما هم فيه من عذاب جهنم. فالجنة دار النعيم المطلق حساً ومعنىً، وكذلك النار دار العذاب المطلق حساً ومعنىً .
فلابد إذن مع حب الله تعالى من الرجاء في دخول جنته والخوف من عقابه ودخول جهنم وهذه حقيقة المحبة الصادقة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( الواجب أن نعلم أن كل ما أعده الله لأوليائه من نعيم بالنظر إليه وما سوى ذلك فهو في الجنة، كما أن كل ما توعد به أعداءه هو في النار وقد قال تعالى: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة/17].
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه")(30)(1/28)
وقوله في حديث صهيب: " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً ... الحديث ثم قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه "(31)
ص45
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وجميع أولياء الله السابقين المقربين، وأصحاب اليمين).
(فإذا عرفت هذه المقدمة فقول القائل: الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ من النار، إن أراد بذلك أن لا تسأل الله إلا ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء وأنك لا تستعيذ به، لا من احتجاجه عنك ولا من تعذيبك في النار، فهذا الكلام مع كونه مخالفاً لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح المعقول).
(وإن أراد بذلك أن لا يسأل التمتع بالمخلوق بل يسأل ما هو أعلى من ذلك فقد غلط من وجهين: من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة، وهو أعلى نعيم الجنة، ومن جهة أنه أثبت أنه طالب مع كونه راضياً فإذا كان الرضا لا ينافي هذا الطلب فلا ينافي طلباً آخر، إذا كان محتجاً إلى مطلوبه .
ومعلوم أن تنعمه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب، فيكون طلبه للنظر طلب للوازم التي منها النجاة من النار ) (32)
فلا تعارض إذن بين أن يكون الله معبوداً مراداً لذاته وبين رجاء رحمته والخوف من عقابه.
ولهذا امتدح الله تعالى الذين يخافونه ويرجون رحمته فقال تعالى :
ص46
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [السجدة/ 16].(1/29)
وقال تعالى: { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف/56]. وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } [الرعد/ 21]. وقال تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن/46]. وقال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40}فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات/40- 41]. ونحو ذلك كثير في القرآن .
****
وأما اللوازم الظاهرة فتتلخص في اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه والدعوة إلى دين الله.
وأصل ذلك أن من أحب الله حقيقة لا بد أن تكون إرادته تابعة لإرادة الله ومحبته، فما أحبه الله وأمر به أحبه العبد والتزم به. وما كرهه الله ونهى عنه كرهه العبد وانتهى عنه.
وتحقيق ذلك باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بالشريعة، وقد قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [آل عمران/ 31]. فمن أحب الله حقيقة فلا بد أن يتبع رسوله، فعلم أن من لم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يلتزم بشريعته فليس محباً لله. فلا تكون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بتحقيق المحبة، كما لا تصح المحبة إلا بتحقيق الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم فهما أمران متلازمان لا يصح أحدهما إلا بالآخر .
وعلى قدر قوة المحبة وضعفها يكون الاتباع كذلك، وفي هذا المقام يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً. وهذه هي حقيقة زيادة الإيمان ونقصانه، حتى إذا انتفى الاتباع بالكلية انتفت المحبة بالكلية .
ص47(1/30)
ولهذا جعل الله تعالى الجهاد في سبيله من علائم محبته فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [المائدة/ 54].
وتأمل قوله تعالى: { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } وما ذلك إلا لأن محبة الله وطلب رضاه شغلهم عن لوم الناس وطلب مراضيهم. بل المؤمن في الحقيقة لا يصرفه عن حب الله و الإيمان به أي صارف، لا من جهة الشهوة والرغبة ولا من جهة التخويف والرهبة. يقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة /22]. ويقول الله تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24} } [التوبة/24]. كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان. أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يعود في النار"(33).
فكما لا يصرف المؤمن عن ربه محبوبات الدنيا وشهواتها، فكذلك لا يصرفه خوف لو كان التحريق بالنار عن محبته و الإيمان به .(1/31)
وهكذا تبين من كل ما تقدم من البحث عن حقيقة الألوهية - أو العبودية - أنها محبة لله تستلزم طاعته والالتزام بشرعه. أو قل هي كمال
ص48
الطاعة لكمال المحبة. فالمحبة هي الأصل في العلاقة بين العبد والرب والطاعة ناشئة عنها ولازمة لها .
****
موجب استحقاق الله للعبادة :
معنى لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله، أي أنه هو وحده المستحق للعبودية.
ومن أجل نعم الله تعالى على عباده أنه قط فطرهم على الألوهية له وحده، وجعل الشرائع على مقتضى استحقاقه للعبادة.
و إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الإله الحق فكل ما عداه من آلهة فباطلة { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [الحج/62]. { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [العنكبوت/ 42].
و أما أن الله مستحق وحده للعبادة فلأمرين :
الأول: كماله في أسمائه وصفاته وأفعاله .
الثاني: إنعامه على خلقه وربوبيته لهم .
يقول الإمام ابن القيم: ( لما كانت عبادته تعالى تابعة لمحبته وإجلاله. وكانت المحبة نوعين: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكراً وعبودية بحسب كمالها ونقصانها، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى. كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين ) (34).
ص49
1-فأما اقتضاء أن تكون العبادة له وحده لأجل كماله في أسمائه وصفاته وأفعاله فلأن العباد مفطورون على حب الكمال. والكمال المطلق من كل وجه لله وحده، فاقتضى ذلك أن يكون توجههم وشوقهم وتألههم لله وحده.
وعلى هذا جاءت سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن فإن قول الله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مستلزم لقوله تعالى: { اللَّهُ الصَّمَدُ } والصمد في اللغة هو المقصود المراد.(1/32)
ففي الآية الأولى إثبات توحده وتفرده بصفات الكمال. وفي الآية الثانية إثبات أنه هو الذي يستحق أن يصمد إليه الخلائق ويقصدونه .
يقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }: ( يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله ) (35).
ويقول الإمام الخطابي في معنى اسم الله " الصَّمَدُ ": ( الصمد هو السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج والنوازل. و أصل الصمد القصد. يقال: أصمد صمد فلان: أي أقصد قصده) (36).
ويقول أبو بكر بن الأنباري: ( لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد. الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم) (37).
وبنحو هذا المعنى اللغوي جاءت تفاسير السلف في معنى اسم الله الصمد، وأقوالهم كلها ترجع إلى استحقاقه للقصد وإخلاص الإرادة له
ص50
لكمال سيادته وتفرده في أسمائه وصفاته .
فعن بعضهم أنه السيد الذي انتهى سؤدده(38)، وعن بعضهم أنه ليس فوقه أحد، وعن بعضهم أنه الذي لا يكافؤه من خلقه أحد، وعن بعضهم أنه المقصود في الرغائب والمستغاث به عند المصائب، وعن بعضهم أنه المستغني عن كل أحد المحتاج إليه كل أحد، وعن بعضهم أنه الذي لا يوصف بصفته أحد، وغير ذلك من الأقوال التي معناها واحد(39).
وعلى هذا تكون معرفة الله تعالى وماله من صفات الكمال هي الأصل في محبته والألوهية له.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم، وهو أصل الملة الحنيفية وأساس دعوة الأنبياء) (40).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: ( الله هو المألوه المعبود المستحق لإفراده بالعبادة لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال). (41)(1/33)
وكلما ازداد العبد من معرفته بربه ازداد محبة له وشوقاً إليه وتفانياً في طلب رضاه، فيلهج بذكره ويكون شغله الشاغل ومراده الأوحد. يرجو أن يلتذ برؤيته في الآخرة كما التذ بمعرفته في الدنيا، ويكون حاله مقتضى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة"(42)
ص51
يقول الإمام ابن القيم: ( لا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة وكمال المحبة تابع لكمال المحبوب في نفسه .
و الله سبحانه له الكمال المطلق التام من كل وجه الذي لا يعتريه توهم نقص أصلاً، ومن هذا شأنه فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه مادامت فطرها وعقولها سليمة، و إذا كانت أحب الأشياء إليها فلا محالة أن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته، واستفراغ الجهد في التعبد له و الإنابة إليه، وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها) (43).
كما أنه أيضا على قدر نقص معرفة العبد بربه يكون بعده عنه وانشغاله بما دونه من الغايات، فمرة يطلب جاهاً ومرة يطلب مالاً ... وهكذا بحيث تصبح الشواغل والوسائل غايات لحياته تحجبه عن الله. ويكون هو عبداً لها و " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس و إذا شيك فلا انتقش"(44). ولأهمية هذا الأمر، وكونه أصلاً لمحبة الله وعبوديته جاء ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله في كتاب الله بإثبات مفصل، لتعريف العباد بربهم وتشويقهم إليه. مع أن العبد لا يمكن أن يحيط ببعض ما لله من كمال كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الخلق بالله على الإطلاق: " اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك... "(45)وذكر أنه يلهم عند الشفاعة محامد لله لم يكن يعلمها .
والعبد المؤمن بحسب ترقيه في العبودية وحبه لله وشوقه إليه وجمع
ص52(1/34)
الهمة عليه قد يصل إلى درجة الإحسان، وهي أن يعبد الله وكأنه يراه وهي مرتبة فوق مرتبة الإخلاص والمراقبة.
يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: ( إن مرتبة الإحسان على درجتين، و إن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين :
المقام الأول - وهو أعلاهما - أن تعبد الله كأنك تراه. وهذا مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته الله عز وجل بقلبه. وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان، حتى يصير الغيب كالعيان. فمن عبد الله عز وجل على استحضار قربه منه وإقباله عليه، و أنه بين يديه كأنه يراه أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ..
المقام الثاني: مقام الإخلاص. وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، وقربه منه. فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى. لأن استحضار ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله و إرادته بالعمل .
وهذا المقام هو الوسيلة الموصلة إلى المقام الأول. ولهذا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تعليلاً للأول فقال: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (46).
*******
2-وأما كون إحسان الله إلى عباده وربوبيته لهم من موجب استحقاقه للعبودية، فلأن النفوس كما هي مفطورة على حب الكمال فهي أيضاً مفطورة على حب من أحسن إليها فقيرة إليه .
ص53
وقد جاء في الحديث: " أحبو الله لما يغذوكم من نعمه"(47). ولا إحسان في الحقيقة إلا من الله، و إن جرى ذلك الإحسان بأسباب ووسائط فإنه مسبب الأسباب وخالقها. و الأمر في ذلك كما قال تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [النحل/ 53].
ومن دقيق فهم الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في تفسير قوله تعالى: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قوله: ( فيها المحبة، لأن الله منعم، والمنعم يحب على قدر إنعامه..) (48)(1/35)
فإذا اجتمع للعبد شهود النعمة و أنها من الله وحده، مع شهود افتقاره وحاجته إلى الله كان ذلك داعياً إلى محبته الله وحده، وانجذاب القلب إليه. فإن الله هو الغني الغنى المطلق، و أما الإنسان ففقير بالذات إلى الله من كل وجه. يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر/15]. ولهذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عباس بقوله: " إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. و إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(49).
وبهذا يعلم المؤمن ويوقن أن الخير كله من عند الله، و أنه ليس له من نفسه إلا الفقر والعجز، و أنه لا مانع لما أعطاه الله، ولا معطي لما منعه، و أنه لا استحقاق للعبد على الله، بل الفضل كله لله، وكل ذلك
ص54
يورث انكساراً بين يدي الله واعترافاً بالفضل وحمداً وثناءً وشكراً أساسه المحبة والتعظيم.
ولهذا علق الله الشكر على تحقيق العبودية فقال تعالى: { وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [النحل/ 114]. وجعل الشكر قسيم الكفر فقال تعالى: { وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة / 152]. وقال تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {120} شَاكِرًا لأنْعُمِهِ... .} [النحل /120- 121]. وقال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم /7].(1/36)
بل جعل الله تعالى غاية العبودية شكر الله تعالى فقال: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ/ 13]. ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: (الصلاة شكر والصيام شكر وكل خير تعمله لله عز وجل شكر وأفضل الشكر الحمد) (50).
و إذا تحقق العبد بهذه المحبة كانت عبادته كلها شكراً لله. ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قام حتى تورمت قدماه فقالت له: تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: " أفلا أكون عبداً شكوراً"(51).
وكذا سليمان عليه السلام وهو في عز ملكه وقد أحضر إليه عرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه: { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [النحل/40].
ص55
ويوسف عليه السلام وهو في غاية الإنعام والإكرام بما آتاه الله من الملك، وبما تحقق له من تأويل رؤياه وحضور أبويه وإخوته إليه من البدو من بعد أن فرق بينهم الشيطان يتوجه إلى الله شاكراً فيقول: {* رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف/101].(1/37)
وحاله تشبه حال نبينا عليه الصلاة والسلام وقد دخل مكة فاتحاً بعد أن أخرج منها، فلما كان الفتح دخلها متواضعاً يكاد عثنونه يلامس ركاب ناقته، لا يرى الفضل في ذلك كله إلا لله. ودخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح(52)، إعترافاً بأن الفتح إنما هو من الله. ثم صلى ثماني ركعات شكراً لله(53)أصبحت سنة للفاتحين من بعده. ثم إنه تفضل على قريش الذين لم يدعوا سبيلاً لأذيته إلا سلكوه فقال لهم: " إذهبوا فأنتم الطلقاء"(54). ولو كان يعمل لحظ نفسه لانتقم منهم وشرد بهم ولكنها النبوة لا الملك. ومقابلة إنعام الله عليه بالفتح بالتفضل على الناس ورحمتهم. وإظهار الشكر لله تعالى .
*******
العبودية الجبرية ومقتضاها الاختياري :
كما أن لله على عباده عبودية اختيارية هي مقتضى استحقاق الله للألوهية قد يلتزمون بها وقد لا يلتزمون. فإن لله على عباده أيضاً عبودية جبرية قهرية لا ينفك عنها مخلوق مكلف أو غير مكلف.
وهذه العبودية الجبرية هي مقتضى ربوبية الله على عباده وملكه وتصريفه وتدبيره لهم ولا يستطيع مخلوق الخروج عن هذه العبودية كما قال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [الرحمن/33].
و الإيمان بهذه العبودية هو مقتضى الإيمان بالقدر، وكون علم الله محيط بجميع مخلوقاته أزلاً وأبداً، و أنه لا يكون شيء في الكون إلا بإرادته وقدرته عز وجل { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [سبأ/3]. { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير/29]. { ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } [الانعام/102].(1/38)
وعلى هذا فكل مخلوق فهو داخل في ملك الله وسلطانه، ليس له استقلال خلق أو تأثير، ولا يخرج عن كونه سبباً. والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، وكل تأثير للأسباب فهو خالقه على الحقيقة .
ولا يعني هذا أن تكون حقيقة الصلة بين العبد وربه من جهة العبودية الاختيارية هي علاقة سلطان بمملوك وآمر بمأمور وحاكم بمحكوم. و أن يكون الأصل في صفات الله هو السلطة العليا والحاكمية المطلقة، بحيث تعود كل أسماء الله وصفاته إلى ذلك كما يظن ذلك من لا يفرق بين حقيقة العبودية الاختيارية وحقيقة العبودية الجبرية. بل يجعلون الإنسان هو الخليفة عن الله في الأرض، ويقولون بأن تحقيق العبودية له إنما يكون بتحقيق تلك الخلافة. وهذا مفهوم غريب عن فهم سلف الأمة لحقيقة العبادة، ومعنى الخلافة، ومعنى أن لله الحكم الكوني والحكم الشرعي .
بل كل مخلوق - الإنسان وغيره - فهو في سلطان الله خاضع له، لا علاقة لذلك باختيار العبد ورضاه .
ص57
وإنما يقتضي كون العبد في ملك الله وسلطانه ألا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، لأن الله خالق العباد وخالق أفعالهم، لا حول لهم ولا قوة إلا به عز وجل. فكما لزم ألا تكون العبادة إلا لله وحده بإخلاص الدين له. فكذلك يلزم ألا تكون الاستعانة إلا به لتحقيق العبودية لله، لأنه كما لابد لكل إنسان من مراد لذاته، وليس ذلك إلا لله وحده الذي تألهه القلوب محبة وتعظيماً. فلابد لكل إنسان أيضاً من معين على تحقيق غايته وليس ذلك إلا الله، لأنه لا سبب مستقبل بالتأثير في تحصيل المرادات .
وتحقيق ذلك هو تحقيق أصل الدين، بتوحيد الله تعالى من جهة تحقيق العبودية لله وحده. وتحقيق الاستعانة به وحده .(1/39)
وقد جاء الأمر بهما معاً في عدة آيات قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة/5]. وقال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود/123]. وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود/88]. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: { عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة/4]. وقال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } [الفرقان/58]. وقال تعالى: { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [الرعد/30]. وقال تعالى: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً {8} رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل/8-9].
وبناء على ما سبق من معرفة حقيقة العبادة من جهة استحقاق الله لكمال المحبة له وكمال الافتقار إليه والاستعانة به وحده، فإن الإنسان قد خلقه الله فقيراً إليه وحده من جهة اضطراره إليه من جهة العبودية وكونه هو الغاية والمراد، ومن جهة اضطراره إليه من جهة الاستعانة لتحقيق ذلك. وجعل الله ذلك فطرة لازمة له لا تنفك عنه بحال .
ص58
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة والعلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية .
فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن. إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .(1/40)
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، لا يقدر على تحصيل ذلك إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة/5]. فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادة الله، بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول وكل ما سواه فإنه يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله. فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة ( لا إله إلا الله ) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة. وكان فيه من النقص والعيب، بل ومن الآلام والحسرة والعذاب بحسب ذلك. ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً على الله مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه. فهو إلهه لا إله له غيره. وهو ربه لا رب له سواه.
ولا تتم عبوديته إلا بهذين. فمتى كان محباً لغير الله لذاته، أو ملتفتاً إلى غير الله أنه يعينه كان عبداً لما أحبه وعبداً لما رجاه، بحسب حبه ورجائه إياه.
ص59
و إذا لم يحب لذاته إلا الله، وكل ما أحبه سواه فإنما أحبه له. ولم يرج قط شيئاً إلا لله. و إذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها كان شاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدرها، و أن كل من في السماوات و الأرض فالله ربه وخالقه هو فقير إليه. كان قد حصل من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك، والناس في هذا على درجات متفاوته لا يحصي طرقها إلا الله. فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله، وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه. وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه. وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر) (55).(1/41)
ومن جميع ما سبق يتحصل أن الإنسان لابد له من مراد معبود، ليس إلا الله وحده، ولابد له من معين، ليس إلا لله وحده.
وتحقيق العبودية لله يكون بإخلاص الدين له، بحيث لا يكون له مراد وغاية ومطلوب غير الله. وتحقيق الاستعانة بالله يكون بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه، والعلم بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والصبر على المصائب بعدم التسخط على أقدار الله و الاعتراض عليها .
ص60
ثانياً: تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم
وحقيقته تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالشريعة باطناً وظاهراً، تصديقاً والتزاماً إجماليين، ينشأ عنهما التصديق بكل ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بكل ما يرد في الشريعة من طلب الفعل أو الترك.
ويتحقق الالتزام الباطن بقبول الشريعة، والرضى بها، والتسليم بأحكامها مع تحقيق الالتزام بالعمل الظاهر، الذي هو أيضاً شرط في أصل الدين من حيث الجملة.
ومن هنا يفترق حكم المؤمن عن المنافق في أحكام الآخرة، من جهة النظر إلى عدم تحقيق الالتزام الباطن بالنسبة للمنافق، ولو كان قد حقق الالتزام الظاهر.
كما أنه يتفق حكم المسلم والمنافق في أحكام الدنيا، من جهة النظر إلى تحقيق الالتزام الظاهر بالنسبة للمنافق أيضاً، مع أنه لم يحقق الالتزام الباطن.
فلابد في أحكام الآخرة من تحقيق الالتزام الباطن والظاهر. وأما أحكام الدنيا فيكفي فيها تحقيق الالتزام الظاهر، لأنه لا سلطان لأحد غير الله على البواطن.
وكلامنا هنا في حقيقة أصل الدين هو فيما يتعلق بالإيمان المنجي في أحكام الآخرة، لا مجرد الإسلام الحكمي في الدنيا، وعلى هذا فلابد من تحقيق الالتزام بالشريعة باطناً وظاهراً.
ص61
1- الالتزام الباطن :(1/42)
وهو الفارق بين المؤمن والمنافق - كما سبق بيانه - فإن المؤمن مع التزامه الظاهر بالشرع ملتزم به باطناً أيضاً. أما المنافق فإنه ولو التزم في الظاهر بالشريعة لكنه في الباطن والحقيقة غير ملتزم بها .
ولهذا كان معظم سياق الآيات الواردة في بيان اشتراط هذا الالتزام فيما يختص بالمنافقين، أو أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم ملتزمون بحكم الله، مع أنهم في الحقيقة على غير ذلك .
من ذلك قول الله تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء/65]. ففي هذه الآية نفي للإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرع الله، فيقبله ويرضى به، بحيث لا يجد في نفسه اعتراضاً أو حرجاً من ذلك، بل يسلم له تسليماً.
يقول الإمام ابن القيم: ( الرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب. وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان. فيجب على العبد أن يكون راضياً به، بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء/65].فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً وهذا حقيقة الرضى بحكمه) (56).
ويقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء/60]. وهذه الآية كالتي
ص62(1/43)
قبلها، فيها نفي الإيمان عمن يريد التحاكم إلى غير شريعة الله، و أن ادعاءهم الإيمان مع تحاكمهم إلى غير الشريعة زعم باطل وادعاء متناقض، إذ كيف يتحاكمون إلى الطاغوت وهو كل ما عدا شرع الله، ثم يزعمون مع ذلك أنهم مؤمنون بشرع الله .
يقول الإمام ابن كثير: ( هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد. وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا) (57).
ومما جاء أيضاً في بيان حقيقة المنافقين قول الله تعالى: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49}أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {50} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور/ 47- 51].(1/44)
وهذه الآيات أيضاً دعوى من المنافقين أنهم مؤمنون، مع أنهم إذا دعوا إلى حكم الله أعرضوا عنه، فأي إيمان لمن لم يقبل حكم الله ويسلم به .
ص63
والآيات لا تدل على أن إعراضهم عن حكم الله كان معلناً ظاهراً لكل أحد، و إلا كانوا كافرين كفراً ظاهراً، كما أنهم كافرون كفراً باطناً. لكنهم قد يستخفون بذلك، مع إظهارهم قبول حكم الله، لئلا يطبق عليهم حكم المرتدين عن دين الله. لأن المؤمن لا يمكن أن يرضى بحكم غير حكم الله على الحقيقة، ولو حصل منه مخالفة له في الظاهر، لشهوة أو نحوها. ولهذا قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب/36]. فالرضى بدين الله والتحاكم إليه شرط في تحقيق أصل الدين الذي لا نجاة بدونه.
وهذا الرضى لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد مع التصديق من الانقياد والتسليم. بل قد يكون الكافر مصدقاً بالرسالة ولا يحكم بإيمانه حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. بل الكافر المعاند لابد أن تقوم عليه الحجة بصدق الرسالة ويعلم ذلك، كما كان أبو طالب مصدقاً برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد……من خير أديان البرية ديناً
لكن كان كافراً لعدم التزامه وتسليمه بما علم أنه حق وصدق. (58)
ومن زعم أن الإيمان هو مجرد التصديق فلابد أن يتناقض في مثل حال أبي طالب، ممن عرف الحق وأيقن به. و إن زعم الفرق بين التصديق بالشيء والعلم بأنه حق تناقض أيضاً، لأن هذا مما لا يمكن تصوره عند جميع الخلائق. (59)
وقد صدق كثيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا بذلك وأقروا، ومع ذلك
ص64
لم يحكم بإسلامهم، لعدم رضاهم بالشريعة وانقيادهم لها واتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم .(1/45)
من ذلك ما رواه صفوان بن عسال قال: ( قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي، قال: صاحبه لا تقل نبي، لو سمعك كان له أربعة أعين، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرفوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان، ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت. فقبلوا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد أنك نبي. قال فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ قالوا إن داود دعا بأن لا يزال من ذريتي نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود ) (60).
فانظر إلى تصديقهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم له بأنه نبي، لكن لما لم يقبلا اتباعه والالتزام بما جاء به من شرع لم يحكم لهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام، بل بقيا على كفرهما الأصلي، فدل ذلك على أنه لابد في تحقيق أصل الدين مع اعتقاد أن دين الله حق من قبوله والرضى به و التحاكم إليه وحده .
ومثله أيضاً ما ورد من قصة أبي حارثة، وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نصارى نجران .
قال ابن القيم عنه: (وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس و بسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده
ص65(1/46)
في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى جنبه أخ له يقال: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة بل أنت تعست، فقال ولم يا أخي ؟ فقال والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا ؟ فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك ).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة: (وفيها: أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسك بدينه بعد هذه الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا نشهد أنك نبي قال: (فما يمنعكما من اتباعي؟) قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود، ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب بأنه صادق، و أن دينه من خير أديان البرية ديناً، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام .
ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، و أنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، و أنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة و الإقرار فقط. بل المعرفة و الإقرار والانقياد والتزام طاعته ظاهراً وباطناً ) (61)
ص66
ويقول الإمام ابن حجر في فوائد قصة قدوم وفد نجران: ( وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام ) (62).(1/47)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان حقيقة الإيمان، و أنه لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد من الالتزام بشرع الله والتحاكم إليه: (لفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين :
أحدهما: الإخبار. وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام. كما في قوله تعالى: { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران/81]. وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}. فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه آمن له، بخلال الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد
ص67
فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين ) (63).
******
2- الالتزام الظاهر :(1/48)
لابد من التنبيه هنا إلى أن الغاية من الكلام عن الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين هي بيان الحكم الشرعي لهذه المسألة، كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، عند الكلام عن حقيقة الإيمان، واشتراط تلازم الظاهر والباطن.
لكن دون الخوض في أحكام المعينين وتبين أحوالهم. حيث إن بعض الطوائف قد رتبوا على هذه القضية الحكم على الناس بالكفر ابتداء، و أن كل من لم يتحققوا من إسلامه بشروط وحدود ابتدعوها فالأصل فيه الكفر، كما ذهب آخرون إلى القول بالتوقف في الحكم بكفرهم أو إسلامهم، حتى يتبينوا تحقيق المعين لأمور جعلوها حداً للإسلام، مع أنه لا تلازم بين الحكم بثبوت وصف الإسلام للمعين وبين ما تسميه تلك الطوائف الحد الأدنى للإسلام.
إن قضية الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين غير قضية الحكم على المعينين. ويتبين ذلك بأمرين :
الأول :
إن الالتزام الظاهر في حقيقته التزام تفصيلي، وإنما هو داخل في أصل الدين من حيث الجملة، بخلاف الالتزام الباطن، فإنه التزام إجمالي يكفي في تحقيقه مجرد إرادته إرادة إجمالية، بالرضى بدين الإسلام والعزم على الالتزام به .
ص68
ولهذا لا يعذر أحد - ممن بلغته الدعوة - بجهل أو تأول أو إكراه فيما يتعلق بالالتزام الإجمالي، بخلاف الالتزام التفصيلي، فإنه يشترط في الالتزام به على التفصيل قيام الحجة التفصيلية على المعين وقدرته على التزامه. ومعنى ذلك أن الناس يختلفون فيه بحسب بلوغ الحجة الرسالية وبحسب قدراتهم بعد ذلك، سواء في ذلك ما يتعلق بمعرفة جميع المأمورات، أو ما يتعلق بمعرفة المنهيات، ومنها أعمال الشرك الظاهر التي قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلونها بغير قصد ما يكون به الشرك .(1/49)
وعليه فلا يمكن اشتراط حد أدنى للإسلام. لأنه لا يمكن معرفة حال المعين وكونه لم يحقق الالتزام الظاهر إلا من جهة تلبسه بناقض، لأن الأصل المفترض فيمن أقر بالشهادتين أنه ملتزم بمقتضاهما. فإن كان نقضه للالتزام من جهة تلبسه ببعض أعمال الشرك مثلاً فلابد من إقامة الحجة عليه، والتبين عن حاله، وتعريضه للتوبة أولاً، فإن أبى وأصر كان كافراً، وإن رجع فهو مسلم. ولا إشكال في معاملته قبل ذلك بمقتضى الإسلام، لأن ذلك ظاهر حاله، إلا من كان من حاله على يقين .
الثاني :
إن هناك فرقاً بين الحكم المطلق وحكم المعين. فالحكم المطلق يتعلق بالوصف الشرعي وبيان مناط الحكم فيه. وأما حكم المعين فلابد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع.
وهذه القاعدة هي أصل قواعد أهل السنة فيما يتعلق بتكفير المعين ولهذا كان الإمام أحمد- رحمه الله - مع تكفيره للجهمية الذين يقولون إن القرآن مخلوق من حيث الحكم المطلق لا يكفر كل معين منهم بذلك. بل كان رحمه الله يدعو للخليفة وغيره ممن حبسه ويستغفر لهم، وقد حللهم من كل ما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر
ص69
ولو كانوا مرتدين لم يجز الاستغفار لهم(64).
ولأجل عدم التفريق بين الحكم الشرعي المطلق وحكم المعين ضل فريقان فيما يتعلق بالالتزام الظاهر وعلاقته بالحكم على المعين، فذهب فريق إلى أنه لابد للحكم للمعين بالإسلام من تبين الالتزام الظاهر، ثم اختلفوا في حده، فمنهم من قال هو ترك النواقض، ومنهم من تجاوز فاشترط أعمالاً محددة جعلها الحد الأدنى لثبوت وصف الإسلام (65).
وذهب المرجئة إلى نقيض هذا الاتجاه فألغوا اعتبار الالتزام الظاهر من جهة الالتزام بجنس العمل بالكلية من أصل الدين لنفس الشبهة، وهي أن الالتزام الظاهر لو كان داخلاً في أصل الدين لكان شرطاً في إجراء الأحكام على المعينين .
والحقيقة أنه - كما سبق - لا تلازم بين الأمرين من هذه الجهة .(1/50)
وهكذا نرى أن شبهة المرجئة والخوارج واحدة من حيث الأصل وهي قولهم إن العمل إذا كان من الإيمان فيلزم أن ينتفي الإيمان بانتفاء بعضه، و إلى هذا ذهب الخوارج، أو لا ينتفي الإيمان بذلك فلا يكون العمل من الإيمان، و إلى هذا ذهب المرجئة. إذ عندهم أن الإيمان شيء واحد يذهب كله أو يبقى كله، لا يزيد ولا ينقص، وهم في هذا لم يفرقوا بين جنس العمل الذي اشترطه أهل السنة لتحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة وبين جزء العمل الذي يكون تخلفه لمماً أو كبيرة تنقص الإيمان لكنها لا تهدمه. وإنما ينتفي الإيمان بالنواقض.
ونعود الآن إلى بيان حقيقة الالتزام الظاهر المشروط في أصل الدين
ص70
فنجد أنه يتضمن أمرين :
الأول :
ترك النواقض. ولا خلاف في اشتراطه لتحقيق الالتزام الظاهر وبقاء وصف الإسلام، و أن من تلبس بناقض، وتوفرت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه فهو كافر، لكنهم قد يختلفون في حقيقة الكفر، بناء على الاختلاف في حقيقة الإيمان .
فمن لا يعتبر العمل من الإيمان لا يكفر بتركه، لأن تركه عنده ليس كفراً. ومن يسوغ دعاء الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكفر من يفعل ذلك، لأن ذلك عنده ليس كفراً، وإنما هو من المجاز العقلي. ونحو ذلك.
الثاني :
الالتزام بجنس العمل، وهو إجماع أهل السنة والجماعة، ومعنى قولهم: (الإيمان قول وعمل) أي أن مجرد الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام وبقائه للمعين دون الالتزام بالعمل.
وهذا هو مناط النزاع بين أهل السنة والمرجئة، الذين بنوا قولهم على أصول فلسفية نظرية تجريدية، وانتهوا إلى أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان وحقيقته، كما أنه ليس لازماً له. بل يكون الإيمان عندهم كاملاً متحققاً في الباطن ولو لم يعمل الإنسان أي طاعة ولم يترك أي معصية كما صرحوا بذلك .(1/51)
و أصل خطئهم في مسمى الإيمان أنهم أرادوا أن يجعلوا للإيمان حداً تعرف به حقيقته وماهيته التي لابد أن يستوي فيها جميع أفراد المعينين من المؤمنين، بحيث لا يقبل النقص ولا الزيادة(66).
ص71
ولا يكون ذلك عندهم إلا بمعرفة المقومات الذاتية التي لا يمكن تحققه إلا بها، وبتخلف بعضها تنتفي حقيقة الإيمان وماهيته بالكلية. بخلاف الخواص العرضية - كما يقولون- التي ليست شرطاً في تحقيقه وإنما هي ثمرة من ثمراته.
يقول الرازي مستشكلاً كلام الإمام الشافعي في أن الفاسق لا يخرج من الإيمان، مع قوله إن العمل من الإيمان: ( قال الشافعي رضي الله عنه: الفاسق لا يخرج عن الإيمان، وهذا في غاية الصعوبة، لأنه لو كان الإيمان اسماً لمجموع أمور فعند فوات بعضها فقد فات ذلك المجموع فوجب ألا يبقى الإيمان ) (67).
ثم نظروا بحسب هذه القاعدة إلى العمل، فوجدوا أن من نحكم بإسلامهم يختلفون في الالتزام به، و أن من ترك بعض الأعمال لا يحكم بكفره، ولم يجدوا حد أدنى من الأعمال مشروطة لثبوت وصف الإسلام، ولم يفرقوا بين ما يشترط لتحقيق الإيمان وما يشترط لثبوت وصف الإسلام للمعين، فنفوا أن يكون الالتزام بالعمل داخلاً في أصل الدين بالكلية.
يقول أحدهم في ذلك: (... الدرجة الثالثة: أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه. فقال أبو طالب المكي: العمل من الإيمان ولا يتم دونه. وادعى الإجماع فيه. واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه، كقوله تعالى: { الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إذ يدل على أن العمل وراء الإيمان، لا من نفس الإيمان، و إلا فيكون العمل في حكم المعاد. والعجيب أنه قد ادعى الإجماع في هذا، وهو مع ذلك ينقل قوله عليه السلام: " لا يكفر أحد إلا
ص72(1/52)
بجحوده لما أقر به "(68)وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر، والقائل بهذا قائل بعين مذهب المعتزلة(69)، إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه، ومات في الحال فهل هو في الجنة؟ فلابد و أن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل(70)، فنزيد ونقول لو بقي حياً دخل عليه وقت صلاة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار؟(71.
فإن قال نعم فهذا مراد المعتزلة. وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان، ولا شرطاً في وجوده، ولا في استحقاق الجنة(72)، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية فما ضابط تلك المدة، وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان، وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل
ص73
الإيمان، وهذا لا يمكن التحكم بتقديره، ولم يصر إليه صائر أصلاً) (73).
ويقول شارح العقائد النسفية في بيان حقيقة الإيمان وماهيته، ونتيجة ذلك فيما يتعلق بالالتزام بالعمل. ( إن حقيقة الإيمان لا تزيد ولا تنقص، لما مر من أنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله، لا تغير فيه أصلاً) (74).
بل إنهم تجاوزوا مجرد إخراج العمل من مسمى الإيمان فاختلفوا في الإقرار، وهل هو شرط للإيمان داخل في حقيقته أم أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط. وذلك بناء على التزامهم بأصلهم في تصور ماهية الإيمان، وقولهم في أن جزء الماهية لا يمكن تخلفه، و إلا تخلفت الماهية بالكلية .
يقول صاحب شرح المسايرة: ( لا وجود للشيء إلا بوجود ركنه و الإنسان مؤمن على التحقيق من حين آمن بالله تعالى إلى أن مات، بل إلى الأبد، وإنما يكون مؤمناً بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة، ولا وجود للإقرار في كل لحظة.(1/53)
فدل على أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه، الدائم بتجدد أمثاله، لكن الله أوجب الإقرار ليكون شرطاً لإجراء أحكام الدنيا، إذ لا وقوف للعباد على ما في الضمائر، فتجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الإقرار، حتى إن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا، وعند الله تعالى هو من أهل النار. ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا
ص74
وعند الله مؤمن من أهل الجنة ) (75).
وما تقدم يكفي في بيان عدم اعتبارهم العمل من الإيمان، وعدم اشتراطهم الالتزام به كلية للنجاة في الآخرة، ولا مجال للتوسع في النقول عنهم في ذلك، فكلهم على ذلك وهو مقتضى وصفهم بالإرجاء .
لكن الذي نريد بيانه هنا هو ما استندوا عليه لبيان مذهبهم أن الإيمان حقيقة واحدة هي التصديق، و أنه لا يزيد ولا ينقص، و أن الأعمال، بل و الإقرار عند بعضهم ليست شرطاً في تحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة .
1-فمما استندوا عليه في ذلك وسطروه في جميع ما كتبوه حتى في المختصرات أن الإيمان في اللغة هو التصديق، ثم زعموا أنه لم ينقل في الشرع عن ذلك .
يقول الجويني في ذلك: ( المرضي عندنا أن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه. ثم التصديق على التحقيق كلام النفس. ولكن لا يثبت إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد، والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة و أصل العربية، وهذا لا ينكر فيحتاج إلى إثباته) (76).
ويقال هنا: على فرض التسليم بأن الإيمان في اللغة هو التصديق - وهو غير مسلم بإطلاق- فإن المراد بالإيمان في الشرع غير ذلك ودعواهم هدم نقله عن معناه اللغوي مخالفة لقواطع الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها .
ومما يقطع في الدلالة على نقله أن الله قد حكم بكفر الممتنع عن
ص75(1/54)
طاعته تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تكون الطاعة بالتصديق فقط، قال تعالى: { قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران/32].
بل قد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الأعمال الظاهرة إيماناً، كما في حديث وفد عبد القيس، وفيه " هل تدرون ما الإيمان ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة إلا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، و أن تؤدوا خمساً من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير"(77)
وتحقيق الأعمال شرط في الإيمان، ولذلك قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة/5] ومن لم يعمل فليس دينه بقيم
ولهذا وغيره حكى أئمة أهل السنة إجماع الصحابة والعلماء على أن العمل من الإيمان.
يقول الإمام البغوي رحمه الله: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان لقوله سبحانه وتعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليم آياته زادتهم إيماناً} إلى قوله { ومما رزقناهم ينفقون} فجعل الأعمال كلها إيماناً، وكما نطق به حديث أبي هريرة (يعني حديث الشعب) (78).
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: (وكان الإجماع من الصحابة
ص76
والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون إن الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر) (79).
ويقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، و الإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان) (80).
أفبعد هذا يقال إن الإيمان لم ينقل في الشرع عن التصديق ؟(1/55)
ومعلوم أن المفهوم الشرعي أخص من المعنى اللغوي العام، فالصلاة مثلاً في المفهوم الشرعي لا يمكن تحقيقها بمجرد الدعاء الذي هو معناها اللغوي، وهكذا الزكاة والصوم والحج و الإيمان ... الخ.
ثم يقال أيضاً: الشريعة مشتملة على أخبار يجب تصديقها، وذلك تحقيق الإيمان بها، وعلى أوامر لا يكفي في تحقيق الإيمان بها مجرد التصديق بوجوبها، بل لابد من الامتثال فيها بالفعل .
يقول الإمام محمد بن نصر المروزي في نقد قول المرجئة هذا: ( إن قالوا: إن الإيمان هو التصديق فعليهم أن يصدقوا في كل حال بما يأمرهم به. قيل لهم: أرأيتم لو قال حين حولهم الله عن بيت المقدس إلى الكعبة: الله صادق بهما جميعاً وقد صدقنا بقوله فآمنا به، ولكنا نصلي إلى بيت المقدس كما كنا أولاً، مخافة عيب الناس أن يقولوا: بدل دينهم، ونحن نعلم أن الله صادق و أنه قد نسخها، فإن قالوا: هم كفار قيل: ولم؟
فإن قالوا: ليذعنوا ويخضعوا بالطاعة. قيل لهم: وأين وجدتم ذلك
ص77
في اللغة إيماناً وهم يقولون: نعم هو علينا حق، نقر به ونصدق، ولكنا نصلي إلى بيت المقدس كراهة اللائمة .
فإن قالوا: لم يقروا بعد. قيل لهم: لم يقروا بالفعل أو لم يقروا أنه حق واجب؟
فإن قالوا: لم يقروا بالفعل. قيل لهم: فالإقرار بالفعل إنما هو إرادة يعبروا عنها أنا نفعل و إن لم يفعلوا كفروا في قولكم) (81).
*******
2-ومما استندوا عليه في عدم اعتبار العمل داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا شرطاً للنجاة في الآخرة أنه يرد كثيراً في كتاب الله عطف العمل على الإيمان. قالوا: والعطف يقتضي التغير، فدل ذلك على أن العمل ليس من الإيمان .(1/56)
وجواب ذلك أن يقال: لا نسلم أن العطف يقتضي التغاير مطلقاً، بل قد يكون من قبيل عطف الخاص على العام، كما في قوله تعالى: { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة/98]. وجبريل وميكال من الملائكة، وعطفا عليهم. وكما في قوله تعالى :{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة/ 238]. والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر، من الصلوات المأمور بالمحافظة عليها من حيث العموم، وهذا كثير.
ويقال ثانياً: على فرض التسليم بأن العطف يقتضي التغاير. فإن التغاير لا يقتضي عدم التلازم. فلو سلمنا أن العمل ليس في الأصل من الإيمان فلا نسلم تبعاً لذلك أن الإيمان لا يستلزم العمل، بل هما قضيتان متغايرتان .
ص78
و أما من قال إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، لكن لا يمكن أن يكون إيمان لا يتبعه عمل كان الخلاف معه لفظياً في الأحكام لا في الأسماء. مع أن الواجب الالتزام بالمفاهيم الشرعية، وما كان عليه السلف الصالح في قضايا الاعتقاد إسماً وحكماً، حتى لا تبقى ذريعة للتحريف في دين الله .
********
3-ومن غريب ما استندوا إليه في أن العمل ليس من الإيمان ولا لازماً لتحقيقه قولهم: إن الإيمان شرط لصحة الأعمال، والشرط غير المشروط، فدل ذلك على أنهما متغايران.(1/57)
وهذا من تناقضاتهم، و إلا فمن أين عرفوا أن الإيمان شرط لصحة العمل دون أن يعرفوا أن العمل شرط لتحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة كما في قوله تعالى: { ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} [طه/75]. وقوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً} [النساء/124]. وقوله تعالى: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً} [الكهف/2]. ووصف المتولين عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالكفر فقال تعالى: { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} [آل عمران/ 32].
لكنهم مع كل هذا قالوا: الإيمان شرط لصحة العمل، و أما العمل بالكلية فليس شرطاً لتحقيق الإيمان .
يقول جلال الدين الدواني (يصح أن يكون الشخص مسلماً في ظاهر الشرع ولا يكون مؤمناً في الحقيقة. و أما الإسلام الحقيقي المقبول عند الله تعالى فلا ينفك عن الإيمان الحقيقي. بخلاف العكس
ص79
كما في المؤمن المصدق بقلبه التارك للأعمال) (82).
ويقول صاحب شرح المسايرة (.. قد يوجد التصديق مع الاستسلام الباطن بدون الأعمال (وينفرد) عنها (أما هو) أي الاستسلام بمعنى الأعمال الشرعية (فلا) ينفك عن الإيمان (لاشتراط الإيمان لصحة الأعمال) فلا تنفك هي عنه (بلا عكس) إذ لا تشترط الأعمال لصحة الإيمان (خلافاً للمعتزلة و أما الخوارج فهي عندهم جزء المفهوم) (83).
وقد ألزمهم علماء أهل السنة بعدم الفرق بين ما نفوه وبين ما أثبتوه ومن ذلك قول الإمام أبي ثور رحمه الله: (أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر به ولا أقر به أيكون مؤمناً؟
فإن قالوا: لا
قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به و لا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟
فإن قالوا: نعم .(1/58)
قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً. فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر مؤمناً إذا عمل ولم يقر لا فرق بين ذلك) (84).
*******
4-وأخيراً يستندون إلى النصوص التي فيها إثبات وصف الإسلام للمعين بمجرد إقراره بالشهادتين، كما في قصة أسامة رضي الله عنه
ص80
وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قتل الرجل الذي نطق بالشهادتين. وكما في قصة أبي طالب، وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منه عند وفاته أن يقول كلمة هي الشهادة ليحاج له بها عند الله تعالى. ونحو ذلك من النصوص.
ويقولون إن ذلك لا يعني استكمال ما به يتحقق وصف الإسلام في أحكام الدنيا فحسب، بل يعني أن الإيمان المنجي في الآخرة لا يلزم العمل لتحقيقه، مستدلين بقصة الجارية التي جاء بها صاحبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعتقها، فاختبرها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أقرت قال أعتقها فإنها مؤمنة .
والجواب الجامع في كل ذلك ونحوه أن هناك فرقاً بين ثبوت وصف الإسلام ابتداءً وبين ثباته وبقائه على الاستمرار، فمجرد النطق بالشهادتين أو التظاهر بأي خصيصة من خصائص الإسلام يكفي لثبوت وصف الإسلام ابتداءً، لكن ذلك لا يعني أن ذلك الإقرار لا ينتقض، و أنه ليست له مقتضيات لابد من تحقيقها، و إلا حكم على من حصل منه ذلك الإقرار بالردة، مع توفر شروط ذلك وانتفاء موانعه .
و إذا علمنا أن الالتزام بمقتضيات الشهادتين شرط لبقاء وصف الإسلام في أحكام الدنيا فهي كذلك شرط للنجاة في أحكام الآخرة. ولا فرق في ذلك كله بين اشتراط ترك النواقض وبين اشتراط الالتزام بجنس العمل - لا سيما الصلاة -.(1/59)
ومن هنا نعلم أن أهل السنة وسط بين منهجين. بين المرجئة الذين حرفوا دلالة هذه النصوص، وادعوا لها معاني ليست لها أصلاً. وبين أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام، الذين نفوا دلالة هذه النصوص بالكلية واعتبروها أحوال أعيان، مقيدة بأحوال وظروف وملابسات، لا تصلح معها أن تعتبر قاعدة عامة في مسألة ثبوت وصف الإسلام للمعينين .
الفصل الثاني
الأصل في ثبوت وصف الإسلام للمعين
يثبت وصف الإسلام للمعين ابتداء بمجرد الإقرار، سواء كان ذلك بالنطق بالشهادتين أو بما يقوم مقامهما، والنطق بالشهادتين هو الأولى، لظهور دلالته على الإقرار بأصل الدين.
ولابد من التأكيد في بداية هذا المبحث على حقيقة مهمة، وهي: أن القول بأن وصف الإسلام يثبت للمعين بمجرد نطقه بالشهادتين لا يعني أن إقراره ذلك ليست له مقتضيات يلزم بتحقيقها .
بل أهل السنة في هذه المسألة وسط بين منهجين متضادين .
الأول :
منهج من يرى بأن مجرد الإقرار والنطق بالشهادتين أو التظاهر ببعض شعائر الإسلام وخصائصه لا يكفي للحكم لأحد بالإسلام، بل لابد من التبين عما يرونه حد الإسلام الأدنى.
الثاني :
منهج من يرى بأن مجرد النطق بالشهادتين يكفي لثبوت وصف الإسلام، وبقاء ذلك الوصف، ولو لم يحقق مقتضى ذلك الإقرار بالالتزام بالعمل الظاهر .
و أما أهل السنة فيفرقون بين ما يلزم لثبوت وصف الإسلام للمعين ابتداءً وبين ما يلزم لبقاء ذلك الوصف واستمرار الحكم به للمعين .
ص82
وكلامنا هنا هو فيما يتعلق بثبوت الحكم بالإسلام للمعين ابتداءً .
و أما ما يلزم لبقاء استمرار ذلك الوصف فليس هذا مجاله، وإنما يكون بيانه عند الكلام عن حقيقة الإيمان أو نواقض الإقرار بالإسلام .
والأدلة على هذا الأصل كثيرة، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته العملية ظاهرة الدلالة على ذلك. والعلم به عند أهل السنة أمر ضروري .(1/60)
ومما يدل على ذلك الحديث المتفق عليه من رواية أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ؟ قال: قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً. قال: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله. قال:: قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً. قال: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) (85).
وفي رواية أخرى عند مسلم: (أقال لا إله إلا الله وقتلته؟) قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا.." (86).
ومثله الحديث المتفق عليه أيضاً عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت
ص83
لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) (87).
يقول الإمام ابن حبان في معناه: (يريد به: أنك تقتل قوداً، لأنه كان قبل أن أسلم حلال الدم. و إذا قتلته بعد إسلامه صرت بحالة تقتل مثله قوداً به، لا أن قتل المسلم يوجب كفراً يخرج من الملة ..) (88).(1/61)
ومثله أيضاً ما رواه عبدالله بن عمر قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل فيهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره. حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره. فقلت و الله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) (89).
وبالنظر إلى مجموع هذه الأحاديث ندرك أنها تدل على أمر واحد وهو أن وصف الإسلام يثبت للمعين بمجرد إقراره، سواء كان ذلك بنطقه بالشهادتين كما دل على ذلك حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أو كان بما يقوم مقامها كما ورد في حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن من قال أسلمت لله حكم بإسلامه. بل إنه يكفي في الإقرار أدنى دلالة عليه ولو كان المعين قد أخطأ في التعبير عن إقراره، كما في قصة
ص84
خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقتله لمن قالوا صبأنا يريدون بذلك الإسلام. فالإقرار إذن ليس له صيغة وكيفية خاصة، وإنما يتحقق بكل ما دل على قبول الإسلام وإرادة الدخول فيه. دون أي شرط آخر .
يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: ( من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف واشتد نكيره عليه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليشترط على من جاءه يريد الإسلام، ثم أنه يلزم الصلاة والزكاة ... ) (90).
وهذا هو معنى قول من قال من السلف إن الإسلام هو الإقرار، مثل ما ورد عن الزهري رحمه الله أنه قال: (كنا نقول الإسلام بالاقرار، و الإيمان بالعمل، و الإيمان قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر) (91).(1/62)
ومثله ما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ( الإيمان قول وعمل، و الإسلام إقرار) (92).
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يمنع من الاستثناء في الإسلام. وسئل: فأما إذا قال: أنا مسلم فلا يستثنى ؟ فقال: نعم لا يستثنى إذا قال: أنا مسلم، قيل لأبي عبد الله أقول: هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه ؟ فذكر حديث معمر عن الزهري. فنرى الإسلام الكلمة
ص 85
و الإيمان العمل ) (93 ).
ومعنى كلامهم أن وصف الإسلام يثبت بالإقرار، لكن لابد لتحقيق الإيمان من الالتزام الظاهر مع الالتزام الباطن.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين ... ولا تكون عبادته مع إرساله رسله إلينا إلا بما أمرت به رسله ... فلا يكون مسلماً إلا من شهد ألا إله إلا الله و أن محمداً عبده ورسوله. وهذه الكلمة يدخل بها الإنسان في الإسلام فمن قال: الإسلام الكلمة وأراد هذا فقد صدق(94))(95).
وبعد كل هذا فقد يقول قائل - ممن لا يرى الحكم لأحد بالإسلام بمجرد الإقرار - إن غاية هذه الأحاديث أن تكون دالة على أن من نطق بالشهادتين أو أقر بالإسلام بما يقوم مقامهما أن يكون معصوم الدم حتى يختبر ونتبين إسلامه يقيناً، أما أن تكون دالة على ثبوت وصف الإسلام فلا دلالة فيها على ذلك .
والجواب عن ذلك :
أن المراد بهذه الأحاديث، وغيرها مما في معناها إثبات وصف الإسلام لمن أقر بالإسلام، دون التفريق بين ذلك وبين اقتضاء الإقرار عصمة الدم والمال. وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية ظاهرة في ذلك، فقد كان يكف عن قتال المشركين ويحكم بإسلامهم بمجرد إقرارهم ونطقهم بالشهادتين، مع أنه أمر أن يقاتلهم حتى يسلموا. وأمر معاذ بن جبل أن
ص86(1/63)
يدعو أهل اليمن أول ما يدعوهم إلى الشهادتين فإن هم أطاعوه لذلك أن يعلمهم أن الله قد افترض عليهم الصلاة وسائر أركان الإسلام والمشرك لا يلزم بالفرائض إلا بعد أن يسلم فدل ذلك على أنهم أسلموا بمجرد قبولهم للإسلام ونطقهم بالشهادتين. وأن إلزامهم بفرائض الإسلام ليس لأجل تبين حالهم، وهل يثبت لهم ذلك الوصف أم لا يثبت؟ وإنما لأنها لازمة لمن تحقق له ذلك الوصف، والفرق بين الاعتبارين أن من قال بأن الالزام بالأعمال بعد الإقرار على جهة التبين والتثبت من الإسلام لم يثبت عنده وصف الإسلام بمجرد الإقرار الأول، بل بعد التبين، و أما من جعلها من لوازم الإقرار فوصف الإسلام ثابت له ابتداء ثم يلزم بعد بلوازمه .
ومما يقطع في ذلك ما ورد من قصة الجارية التي اختبر الرسول صلى الله عليه وسلم إسلامها بمجرد الإقرار وقبله. فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، و أنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة(96)، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها. قال: ائتني بها. فأتيته بها فقال لها :أين الله ؟ قالت: في السماء. قال: من أنا ؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) (97).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بإقرار هذه الجارية في إثبات أنها مسلمة مجزئة في العتق بمجرد إقرارها، وليس مثل هذا الحديث مما يستدعي
ص87
أن يكون لعصمة الدم والمال، بل مورد الحديث و أصل طلب الرسول صلى الله عليه وسلم لها إنما كان لتبين إسلامها وإجزائها في العتق، لأنه لا يصح العتق إلا لرقبة مؤمنة.
وهو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أعتقها فإنها مؤمنة، موافقة للوصف القرآني للمجزئ في العتق من الرقاب .(1/64)
وقد جاء في رواية الإمام مالك رحمه الله الحديث ما يبين ذلك ففيها (فلطمت وجهها وعلي رقبة، أفأعتقها ؟). وبوب له الإمام مالك رحمه الله: ( باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة).
وهذا الحديث كما أنه حجة على من لا يعتبرون الإقرار في إثبات حكم الإسلام لأحد إلا بعد التبين. فليس فيه حجة أيضاً للمرجئة الذين يظنون أن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) أن مجرد الإقرار يكفي في تحقيق الإيمان ولو لم يلتزم بالعمل. بل الإقرار يكفي لثبوت وصف الإسلام ابتداء، لكن لابد من تحقيق مقتضياته من ترك الرك والالتزام بالعمل وإلا انتقض الإقرار .
وهذا الحديث ليس فيه أدنى دلالة على دعواهم. وإنما غاية ما فيه إثبات وصف الإسلام بما يدل عليه، وليس الحكم بإيمانها في الباطن ولا أن الإقرار يكفي في تحقيق الإيمان دون الالتزام بالعمل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة لم يكن على الناس أن لا يعتقوا إلا من يعلمون أن الإيمان في قلبه، فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه، وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلاً يظهر الإيمان جاز لهم عتقه .
وصاحب الجارية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مؤمنة إنما أراد الإيمان
ص88
الظاهر، الذي يفرق به بين المسلم والكافر ) (98).
وقد يقول أصحاب منهج التبين وفكرة الحد الأدنى للإسلام ومع كل ما سبق فإن الأحاديث إن دلت على ثبوت وصف الإسلام لمن أقر ونطق بالشهادتين، فإنما يكون ذلك ضمن مجتمع مسلم، يستوفي حد الإسلام، بحيث لا يبقى فيه من يدعي الإسلام وهو متلبس بناقض. وهذه هي دعواهم التي يردون بها النصوص السابقة، ويجعلونها مقيدة بكون الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قالها في حال كان المسلم فيه في مجتمع يستوفي حق الإسلام، ويقيم حد الردة .
والجواب عن ذلك أيضاً :(1/65)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل الإقرار في الحكم للمعين بالإسلام، دون نظر إلى تحقيق هذا الشرط. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل مجرد الإقرار بالشهادتين وهو بمكة. ولم يكن حينذاك مجتمع مسلم يستوفي حق الإسلام، ويطبق فيه حد الردة. ومع ذلك فقد كان يحكم بإسلام من أقر بالإسلام ونطق بالشهادتين .
يدل لذلك ما ورد في قصة أبي طالب في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فأبى فأنزل الله: إنك لا تهدي من أحببت ... الآية ) (99).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من عمه أبي طالب أن يقر بالإسلام وينطق بالشهادة، ثم بين أنه لو قالها لحاج له بها عند الله، لأنه يكون مسلماً
ص89
بمجرد إقراره، وقد يموت أبو طالب وهو لم يستوف حد الإسلام الذي يزعمه أهل التبين ؛ كما أن المسلمين بمكة لم يكن لهم سلطان يستوفون به حد الإسلام الذي يقول به هؤلاء.
فلزم من كل ما سبق قاعدة عامة مطردة: أن الإقرار بالنطق بالشهادتين أو ما يقوم مقامه هو الأصل في ثبوت وصف الإسلام للمعين مطلقاً ؛ و أن هذا حكم شرعي مطلق، لا يختص بزمان ولا مكان معين، ولا بحال دون حال ؛ إلا إذا تعلق وصف بالمعين على الخصوص يوجب إستثناؤه من هذا العموم، فإن له حكمه الخاص بحسبه هو، دون أن يعارض الأصل والقاعدة العامة .
يبين ذلك: أن الإقرار في حقيقته إنما هو دلالة على قبول الإسلام وإرادة الدخول فيه، وإعلان عن تحقيق أصل الدين ؛ فإذا علمنا من معين على الخصوص أنه لا يريد ذلك بإقراره، لم نحكم بإسلامه، وهو على أصل كفره، ولزمنا أن نستوفي منه ما يلزم لتحقيق الإقرار، بشرط أن نكون من حال ذلك المعين على يقين، و ألا نجعل ذلك أمراً عاماً بمجرد الشك والاحتمال والظن .(1/66)
ولهذا لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود الذين شهدوا له بالرسالة وقبلوا رجليه، لأنه كان يعلم من حالهم أنهم لا يريدون بشهادتهم تلك اتباعه ؛ ولهذا قال لهم: " فما يمنعكم من اتباعي"(100)؛ ومع أن غيرهم قد يكفيه لدخول الإسلام والحكم له به ما تحقق منهم.
يقول الإمام الشافعي في بيان حكم هذه الحالات الاستثنائية :
( والإقرار بالإيمان وجهان: فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين
ص90
له يدعي أنه دين نبوة وكتاب، فإذا شهد إلا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فقد أقر بالإيمان، ومتى رجع عنه قتل .
ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدعون دين موسى، وعيسى صلوات الله عليهما، وقد بدلوا منه، وقد أخذ عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بترك الإيمان به واتباع دينه، مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله .
فقد قيل لي إن فيهم من هو يقيم على دينه يشهد إلا إله إلا الله و أن محمداً عبده ورسوله، لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: و أن دين محمد حق أو فرض، وأبرأ مما خالف دين محمد صلى الله عليه وسلم أو خالف دين الإسلام، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإن رجع عنه استتيب فإن تاب و إلا قتل (101).
وإن كانت طائفة تعرف أن لا تقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عند الإسلام، أو تزعم أن من أقر بنبوته لزمه الإسلام، فشهدوا إلا إله إلا الله و أن محمداً عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان، فإن رجعوا عنه استتيبوا فإن تابوا و إلا قتلوا) (102).
ويقول الإمام البغوي رحمه الله :
( الكافر إذا كان وثنياً أو ثنوياً لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه(103)ثم يجبر على قبول الأحكام ويبرأ من كل دين
ص91
خالف دين الإسلام .
و أما من كان مقراً بالوحدانية منكراً للنبوة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله(104).(1/67)
فإذا كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلابد أن يقول إلى جميع الخلق(105)، فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن اعتقاده(106))(107).
ومن كل ما تقدم في هذا المبحث يتلخص لنا :
1- أن الكافر الأصلي إذا أقر بالإسلام ثبت له وصف الإسلام بذلك ؛ إلا إذا علمنا من حاله علماً يقينياً أنه لا يريد حقيقة الإقرار ولا إرادة الدخول في الإسلام، فإنه يبقى على كفره الأصلي، ولا يكون حكمه حكم المرتد، لأنه لم يكن له إسلام ارتد عنه ؛ ومثال ذلك من يعنون بدارسة الإسلام من مستشرقين وغيرهم، ويلحظون الحق فيما يدرسونه ويعلنون ذلك، لكن لا على جهة التسليم وقبول الإسلام، فهؤلاء على أصل كفرهم، لأن مجرد شهادتهم أن الإسلام حق لا يكفي في إسلامهم حتى يعلنوا قبولهم لدين الإسلام و الإذعان له.
ص92
2- أن المسلم الذي نجهل حاله يكفي في معرفتنا بإسلامه أي دلالة على ذلك، كمن صلى أو صام أو فعل ما هو من خصائص الإسلام .
وهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله "(108)
يقول الإمام ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: ( ... و فيه: أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله، ما لم يظهر منه خلاف ذلك) (109).
ويقول الإمام ابن تيمية: ( وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام و أول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، و إن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان ) (110).(1/68)
3-أن المرتد لا يحكم بإسلامه حتى يتوب ويرجع عما كفر به على الخصوص، فلا يكفيه الإقرار العام، وليس كالكافر الأصلي الذي يدخل الإسلام بذلك ؛ لأن الحكم بإسلامه معلق باستتابته، وإنما تكون استتابته فيما خرج به من الدين، فكذلك رجوعه إليه إنما يكون بإقراره به أيضاً زيادة على الإقرار العام .
4-الطفل تبع لأبويه في أحكام الدنيا، حتى يظهر منه خلافها إذا
ص93
أصبح مكلفاً، فالمسلم على أصل إسلامه حتى تظهر منه ردة، والكافر على أصل كفره حتى يظهر منه إسلام .
ومن جهل حاله كاللقيط في بلد فيه مسلمون وكفار فهو مسلم، تغليباً للإسلام(111).
ص94
المخالفون لأهل السنة في هذا الأصل
توطئة :
تقرر فيما سبق أن الأصل في ثبوت وصف الإسلام للمعين ابتداءً هو الإقرار، بالنطق بالشهادتين أو ما يقوم مقامهما .
وعلم أيضاً أن هذه قاعدة عامة عند أهل السنة، و أنها هي الأصل المعتبر في ثبوت وصف الإسلام للمعين .
وعلم أيضاً أن الالتزام بهذه القاعدة لا يعني أن من ظهر لنا أنه لا يريد بما هو إقرار- من حيث الأصل - الدخول به في الإسلام فإنه لابد من استيفاء ما يتحقق به العلم بإرادة المعين الدخول في الإسلام، و أن مجرد اللبس والشك لا يكفي لعدم اعتبار الإقرار حتى يحصل يقين يقتضي عدم اعتباره .
وبهذا نجمع بين الالتزام بالأصل في ثبوت وصف الإسلام ؛ مع الأخذ بالاعتبارات والحالات الخاصة عند تحقق وجودها .
ولكن هناك من لم يعتبر هذه القاعدة أصلاً ؛ وبنى حكمه للمعين بالإسلام على أصول مخالفة، بناء على شبه فاسدة، مخالفة لمنهج أهل السنة في هذه القضية .
وتتلخص تلك المخالفات والشبه في أمرين :
الأول :
عدم الاعتبار بمجرد الإقرار والنطق بالشهادتين لثبوت وصف الإسلام بدعوى أن الناس في عمومهم قد جهلوا مفهوم الشهادتين، وعلى ذلك
ص95
فنطقهم بها ليس بذي دلالة ولا اعتبار .
الثاني :(1/69)
أن للإسلام حداً أدنى لابد منه لتحقيق الالتزام الظاهر الذي هو من أصل الدين هو الالتزام بالفرائض ؛ ولابد قبل الحكم بالإسلام للمعين من تبين حاله فيما يتعلق بتحقيق ذلك الحد، و أما مجرد النطق فمجرد دعوى لا تكفي لثبوت وصف الإسلام .
ولابد من تفصيل القول في كل من هاتين الشبهتين المعارضتين لأصل أهل السنة في هذه المسألة .
ص96
الشبهة الأولى
جهل الناس بمدلول الشهادتين
تقوم هذه الشبهة في عدم اعتبار الإقرار لثبوت وصف الإسلام للمعين على مقدمتين:
1- أن غالب الناس اليوم لا يعرفون معنى الشهادتين .
2- أن النطق بهما غير معتبر في ثبوت وصف الإسلام
ولابد من التأكيد بادئ ذي بدء أنه لا تلازم بين هاتين المقدمتين ؛ لأن الجزم بأن النطق بالشهادتين غير معتبر في ثبوت وصف الإسلام لابد أن يبنى على الجزم بأن جميع المعينين لا يفهمون مدلولها، بحيث يكون ذلك حكماً عاماً وقاعدة كلية لا مجرد احتمال. ولذلك فإنه ليس كل من قال بالمقدمة الأولى التزم بالمقدمة الثانية .
ومن أول من أطلق الحكم بأن أغلب الناس اليوم لا يفهمون مدلول شهادة ألا إله إلا الله الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله، وهو الذي يعتمد أصحاب هذه الشبهة على قوله، لكنه لم يلتزم عدم اعتبار النطق بها لثبوت وصف الإسلام، ولا اشتراط التبين عن معرفة حقيقتها عند المعين .
يقول الأستاذ المودودي في بيان أن الجاهل لمعنى الإله والرب والعبادة والدين قد يقع في الشرك وهو لا يعلم: ( إذا كان الإنسان لا
ص97(1/70)
يعرف ما الإله وما معنى الرب وما العبادة وما تطلق عليه كلمة الدين، فلا جرم أن القرآن سيعود في نظره كلاماً مهملاً، لا يفهم من معانيه شيئاً، فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد، أو يتفطن إلى ماهية الشرك، ولا يستطيع أن يخص عبادته بالله سبحانه أو يخلص دينه له، وكذلك إذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضاً متشابهاً في ذهن الرجل، وكانت معرفته بمعانيها ناقصة فلا شك أنه يلتبس عليه كل ما جاء من الهدي والإرشاد. وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمناً بالقرآن. فإنه لن ينفك يلهج بكلمة لا إله إلا الله ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون الله، ولن يبرح يعلن أنه لا رب إلا الله ثم يكون مطيعاً لأرباب من دون الله في واقع الأمر .
إنه يجهر بكل صدق وإخلاص بأنه لا يعبد إلا الله تعالى، ولا يخضع إلا له، ولكنه مع ذلك يكون عاكفاً على عبادة آلهة كثيرة من دون الله ... الخ ) (112).
ثم إنه بعد أن بين هذه القاعدة النظرية التي هي في ذاتها صحيحة - لأن الجاهل لمفهوم الشهادتين الإجمالي لا يصح إسلامه ولا يعتبر(113)- انتقل إلى ما يتعلق بالواقع فحكم بأنه قد خفيت على الناس روح القرآن وفكرته المركزية، لكنه لم يلتزم مع ذلك بأن نطق الناس بالشهادة أو تظاهرهم بشعائر الإسلام غير مقبول منهم، ولا معتبر في الحكم لهم بالإسلام.
يقول رحمه الله: ( من الحق الذي لا مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن. بل غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية
ص98
لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة الأساسية من حجب الجهل. وذلك من أكبر الأسباب التي تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم، على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين ) (114).(1/71)
ويقول أيضاً: ( يجب ملاحظة قضية تكفير المسلم، والاحتياط في هذه المسألة احتياطاً كاملاً، يتساوى مع الاحتياط في إصدار فتوى بقتل شخص ما، وعلينا أن نلاحظ أن في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد ولا إله إلا الله إيماناً. فإذا صدر عنه شائبة من شوائب الكفر فيجب أن نحسن الظن، ونعتبر هذا مجرد جهل منه وعدم فهم، و أنه لا يقصد بهذا التحول من الإيمان إلى الكفر، لأنه لا يجب أن نصدر ضده فتوى بالكفر بمجرد أن نستمع إلى قوله، بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة ونشرح له ما أشكل عليه، ونبين له الخطأ من الصواب ...)(115).
والمودودي رحمه الله - من واقع دعوته وتعامله مع الناس - لم يكن يحكم بأن الناس لا يقبل منهم الإقرار، ولا يحكم لهم بالإسلام لمجرد احتمال جهلهم بمفهوم شهادة ألا إله إلا الله وإنما كان يقرر أن الناس يجهلون حقيقة الشهادة ليدعو الناس إلى ضرورة فهم معنى ( الإله) ومدلول شهادة ألا إله إلا الله .
ولا نريد أن ندخل الآن في تفاصيل هل كان الأستاذ المودودي رحمه الله على حق فيما فهمه من معنى (الإله)؟. أو على حق فيما التزمه تبعاً لذلك من أن أكثر الناس يجهلون مفهوم شهادة ألا إله إلا الله (116)؟ وإنما يكفينا هنا أن نبين أنه هو مع التزامه بأن أغلب الناس لا يفهمون مدلول
ص99
شهادة ألا إله إلا الله لم يكن يجعل ذلك مانعاً من الحكم للناس بالإسلام بمجرد النطق بالشهادتين والتظاهر بشعائر الإسلام .
أصل هذه الشبهة :(1/72)
أصل شبهة هؤلاء هو ما حصل لهم من اللبس في مفهوم كلمة (إله)، و أن حقيقة ما تدل عليه هي وصف الله بأنه الذي له الحكم والتشريع، و أن حقيقة شهادة لا إله إلا الله وأخص خصائصها هو الإقرار لله بالتشريع والحاكمية. فلما رأوا الحكام قد اعتدوا على حق الله في التشريع، فشرعوا وقننوا وحكموا الناس بالقوانين الوضعية. ثم لم يروا من الشعوب اعتراضاً يكافئ ما وقع فيه الحكام من الجرم. حكموا بأنهم يجهلون مفهوم شهادة ألا إله إلا الله. وبالتالي فهم غير مسلمين بمجرد النطق بها، ولابد للحكم بالإسلام من تبين مفهوم الحاكمية عند من ينطق بالشهادة، لأنها هي حقيقة الشهادة .
يقول أحدهم: ( الأصل في الناس اليوم - في واقع الأرض الآن - أنهم لا يعنون دلالة هذه الكلمة أدنى دلالة كانت أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الانتقال من ملة الشرك إلى ملة التوحيد. بل وجدنا في واقع الحال أن المشرك الذي أقام على الشرك شرعة وعقيدة ونهجاً يقول لا إله إلا الله كلمة يرددها كغيره ممن أسلموا بالوراثة .
نعم نظرنا في واقع الأرض فوجدنا الناس يقولون القولة، فها هو الشرط الأول. ونظرنا في هذه القولة ما دلالتها ؟ وهو الشرط الثاني فوجدناها منزوعة عارية المعنى. ومن هنا قلنا بعدم توفر الشرط الثاني. وعليه أيضاً قلنا إنها غير كافية للحكم بالإسلام لمن قالها) (117)
ص100
وحين وصل أصحاب هذه الشبهة إلى هذا الحد اتفقوا على اشتراط التبين عن حال المعين، ومدى فهمه للعلاقة بين نطقه بالشهادتين ولزوم تحكيم الشريعة قبل الحكم بإسلامه بمجرد نطقه بها. لكنهم اختلفوا بعد ذلك في حكم الناس و الأصل فيهم قبل التبين .
فمنهم من يرى أن الأصل في الناس هو الكفر حتى يثبت الإسلام بيقين. ومنهم من يتوقف في إطلاق وصف الكفر على المعينين، كما توقف في الحكم لهم بالإسلام قبل التبين.
وهنا على هذا الاتجاه بشقيه ملاحظات مجملة :(1/73)
1-يبني الذين يرون أن الأصل في الناس اليوم هو الكفر قولهم على ما يرونه من عدم اعتراض الناس على حكامهم الذين يلزمون الناس بالتحاكم إلى القوانين الوضعية، ويرون أن ذلك كافٍ في متابعتهم لحكامهم، ورضاهم عما فعلوه من التشريع من دون الله، و أن ما حصل منهم هو موالاة لحكامهم، وهي كفر، لقوله تعالى: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } [المائدة/81].
واتخاذ الحكام أولياء تكفي فيه مجرد المتابعة الظاهرة ؛ ومفهوم المتابعة عندهم ليست مجرد المشايعة بالعمل، بل هي أيضاً ترك الاعتراض الذي يعني عندهم الدلالة على القبول والرضى. فإذا لم يعترض الناس وينكروا تحكيم القوانين الوضعية فهذه دلالة كافية عندهم على رضاهم، وأنهم لأجل ذلك كفار. و أن هذا هو الأصل فيهم، فلزم أن نحكم عليهم بالكفر حتى يظهر لنا خلاف ذلك بعد التبين .
ثم إن هؤلاء الناس يوصفون بالكفر أيضاً إلحاقاً لهم بوصف مجتمعاتهم الجاهلية، الخارجة عن حكم الله. وليس المجتمع إلا مجموعة أفراده، والمجتمع في عمومه جاهلي كافر، فلزم أن يكون الأصل في أفراده
ص101
الكفر حتى يظهر خلاف ذلك بيقين بعد التبين .
ثم يدعون مع ذلك أن هذا المنهج هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع من يدعوهم إلى الإسلام، فإذا استجاب له من يستجيب ودخل في دين الله حكم بإسلامه، دون مانع أن يكون أصل حكمه الكفر، كمن أبى عن قبول دعوته والدخول في الإسلام .
فكما يكون الكفر بالعناد بعد الدعوة وعدم الاستجابة فكذلك يكون بالبقاء على الأصل ولو لم تبلغه دعوة .
وهنا يقال :
أولاً: إنه لا تلازم بين التلبس ببعض أعمال الكفر الظاهرة وبين الجهل بمفهوم الشهادتين من جهة، ولا يين التلبس بذلك ولزوم تكفير المعين به من جهة ثانية .(1/74)
فكل مسلم لابد أن يكون عالماً بمدلول الشهادتين، من جهة دلالتها على توحيد الله والالتزام المجمل بالشريعة. لكنه مع ذلك قد يجهل بعض مظاهر الشرك، أو يعمل ما هو مناقض للالتزام بالشريعة، جاهلاً أو متأولاً، من غير قصد إلى ما به الكفر على الحقيقة.
و لأجل هذا فرق أهل السنة بين التكفير بالعموم وتكفير المعين، واشترطوا قيام الحجة على المعين قبل تكفيره، وتبين قصده عند احتمال أن يكون فعله الظاهر مقصوداً به غير ما به الكفر، وقد يختلفون هل الحجة قائمة على معين أم أنها غير قائمة، لكنهم لا يختلفون في مبدأ اشتراط إقامة الحجة. ولم يكتفوا بمجرد العلم بمدلول الشهادتين الذي هو شرط في تحقيقها في العلم بالنواقض. كما لم يجعلوا مجرد التلبس بمظاهر الكفر كافية في الدلالة على الجهل بمدلول الشهادتين بإطلاق .
ص102
ثانياً: إنه لا تلازم أيضاً بين وصف المجتمعات بأنها مجتمعات جاهلية وبين الحكم على أفراد تلك المجتمعات بالكفر .
وذلك أن المجتمع ليس مجرد مجموعة أفراده، وإنما لابد مع ذلك من النظر إلى ما يحكم به ذلك المجتمع، فيفرق بين مجتمع محكوم بالشريعة ومجتمع محكوم بغيرها، وهو على كل حال وصف مطابق لدار الكفر. وليس كل من كان في دار الكفر يكون الأصل فيه الكفر.
وعلى هذا فمناط الحكم على الدور والمجتمعات غير مناط الحكم على الأفراد. لأن أصل الحكم على الدار أنها دار كفر أو المجتمع أنه مجتمع جاهلي كافر هو ألا تكون الشريعة هي الحاكمة، و أن تكون مظاهر الكفر هي الغالبة على الدار أو المجتمع .
و أما المعين فلا يلحق به وصف الكفر فيما يتعلق بالالتزام بالشريعة إلا بمباشرة التشريع بغير ما أنزل الله عن علم وبينة، أو الرضى عمن فعل ذلك. ويستدل على ذلك في الظاهر بأمر قاطع في الدلالة، لا بمجرد عدم الإنكار في الظاهر، أو المتابعة على ما هو معصية .(1/75)
و إذا كان مناط الحكم على الدار والمجتمع غير مناط الحكم على المعين علم أنه لا تلازم بينهما في ذلك .
ثالثاً: الزعم في الحكم على الناس اليوم بأن الأصل فيهم الكفر قياساً على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته للمشركين قياس مع الفارق .
ذلك أن الأصل فيمن كان يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام هو الكفر، و الإسلام وصف الطارئ. فلزم أن يكون حكم من لم يسلم هو الشرك، إذ لا يمكن أن يحكم بإسلامه إلا من جهة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله عما كان عليه من الشرك. فإذا لم يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو باق على دينه ودين قومه، فيحكم عليه بالشرك .
ص103
أما في مجتمعاتنا اليوم فإن الإسلام فيها هو الأصل، والكفر وصف طارئ. فكيف نلغي الأصل بالكلية ونقول إن الوصف الطارئ هو الأصل، ثم نزعم أن ذلك التزام بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته .
إنه لم تحصل في بلاد المسلمين ردة عامة مطلقة تستوجب سحب وصف الكفر على جميع أفرادها، و إنما الذي حصل ردة بعض أفراد الأمة وخروجهم عن الأصل الذي عليه أمتهم .
والأوفق لمن أراد الالتزام بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتبر أن الأصل في الناس اليوم في بلاد المسلمين هو الإسلام. و أن يتبين لحوق وصف الكفر بالمعين قبل الحكم عليه به. ولا يمنع إذا تحقق وصف الكفر في المعين مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع من الحكم بكفره، ولا إشكال في الحكم له بالإسلام قبل ذلك، لأنه هو الأصل .
*******
2-أما أصحاب الرأي الثاني في هذا الاتجاه فهم الذين يلتزمون بالتوقف عن وصف الكفر، كما يشترطون التبين للحكم للمعين بالإسلام ولا يكتفون بمجرد الإقرار، وما يظهر من الناس من التزامهم ببعض شعائر الإسلام وخصائصه .(1/76)
وحقيقة قولهم من حيث العموم هو: التوقف عن إثبات وصف الكفر للمعينين ابتداء، إلا من ظهر كفره وتحققت فيه شروط التكفير و انتفت موانعه، فإنهم يحكمون بكفره منضبطين في ذلك بقواعد أهل السنة فيما يتعلق بالتكفير، لكنهم يشترطون للحكم بإسلام المعين العلم بحاله. وهل يعلم أن شهادة ألا إله إلا الله تتضمن الإقرار لله بالحاكمية و أنه ملزم لذلك بالالتزام بالشريعة فيحكمون بإسلامه. أم يجهل ذلك فيتوقفون عن الحكم له بالإسلام، ثم لا يحكمون بكفره أيضاً .
ص104
والمخرج من هذا التوقف هو: أن يلتزموا بمنهج أهل السنة فيما يتعلق بمسألة ثبوت وصف الإسلام للمعين، كما التزموا به فيما يتعلق بتكفير المعين. وذلك بأن يكتفوا في إثبات وصف الإسلام للمعين بمجرد النطق بالشهادتين، أو التظاهر ببعض شعائر الإسلام وخصائصه. و أن يجعلوا هذا هو الأصل، ثم إذا علموا من حال معين أنه يجهل مدلول الشهادتين فعلاً وتحققوا منه ذلك وتبينوه نفوا عنه وصف الإسلام، بل وأثبتوا له وصف الكفر لأنه لا يمكن أن يكون مسلماً من يجهل أصل الدين، الذي هو توحيد الله تعالى والالتزام بالشريعة إجمالاً .
ثم إنا إذا نظرنا إلى أن حكمهم بعدم إسلام من نطق بالشهادتين إلا بشرط التبين مبني على احتمال أنه جاهل بمعنى الشهادتين، وليس على اليقين بذلك، علمنا أن ميلهم إلى هذا الرأي مجرد تحكم. و أن القول بعدم إسلام الناس اليوم ليس بأولى من القول بإسلامهم، بل إسلامهم وكونهم يعلمون مدلول الشهادتين هو الأصل فيهم، والجهل بمفهوم الشهادتين - لو سلمنا بوجوده - طارئ عليهم، فاعتبار الأصل هو الأصل حتى يظهر ما يخالفه في أفراد المعينين، بيقين يلغي اعتبار الأصل، ثم إنا لم نؤمر أن نعرف إسلام الناس على الحقيقة، ولا أن نشق عن صدورهم، وإنما تكفينا الظواهر، ما لم يعارضها في المعين على الخصوص معارض معتبر .
ص105
الشبهة الثانية
إشتراط حد أدنى للإسلام(1/77)
أصل هذه الشبهة هو اعتبار الإيمان شيئاً واحداً وحقيقة محددة يستوي فيها جميع أفراد المؤمنين، بحيث لا تقبل الزيادة ولا النقص ومع أن هذه الشبهة هي نفس شبهة المرجئة فيما يتعلق بحقيقة الإيمان إلا أن نتيجة قول المرجئة وقول أصحاب فكرة الحد الأدنى - هذه - مختلفة إلى حد التناقض !.
وذلك أن المرجئة لما رأوا أنه لا يمكن تحديد أعمال هي الحد المشروط لثبوت وصف الإسلام للمعين نفوا أن يكون العمل بالكلية داخلاً في أصل الدين .
و أما أصحاب فكرة الحد الأدنى فإنهم لما رأوا أن الالتزام بالعمل الظاهر داخل في أصل الدين جعلوه مناطاً لثبوت وصف الإسلام للمعين. والتزموا ألا يحكموا لأحد بالإسلام إلا بتحقق حد أدنى من العمل الظاهر، فكان لابد تبعاً لذلك أن يحددوا العمل المشروط في أصل الدين وفي ثبوت وصف الإسلام للمعين. وكان لابد أيضاً من منهج يتبعونه في معرفة تحقق ذلك الحد فيما يتعلق بكل معين يحكمون بإسلامه .
و أصل الخطأ والضلال - عند كلا الاتجاهين - فيما يتعلق بحقيقة الالتزام بالعمل الظاهر - وكونه داخلاً في أصل الدين أنهم لم يفرقوا بين جنس العمل وآحاده. فالالتزام الظاهر بالعمل شرط في تحقيق أصل
ص106
الدين من حيث الجنس والجملة، ونتيجة لذلك أن من ارتكب بعض الكبائر- مع بقاء التزامه بجنس العمل لا سيما الصلاة - لا يكفر، لأنه لم ينقض أصل التزامه بالعمل الظاهر بذلك. لكن ليس معنى ذلك أيضاً أن إيمانه لم ينقص. بل الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لكنه لا ينتقض وينتفي إلا بالكفر .
لكن كلا الاتجاهين - لما لم يلتزموا بهذا الأصل - تناقضوا فيما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة، فذهب المرجئة إلى أن إيمانه لا ينقص بذلك، ثم رتبوا على ذلك أنه لا يكفر لو ترك العلم بالكلية. وذهب أصحاب فكرة الحد الأدنى إلى التكفير بالإصرار على الكبيرة. لأنهم مع اختلافهم في النتائج مجمعون على أصل واحد، وهو أن الإيمان إذا ذهب بعضه لم يبق منه شيء.(1/78)
ومما قاله أصحاب فكرة الحد الأدنى في هذا المجال - والقول هنا لشكري مصطفى - (إنه لو كان يفترض لكي تنبت شجرة ما من الأرض عدة فروض مثل: وجود أرض صالحة للزراعة، ووجود بذرة للنبات صالحة، ووجود ماء صالح للري، ووجود الهواء الذي لا تنبت الشجرة إلا به، هذه كلها لو كانت مثلاً فروضاً لإحداث عملية الإنبات فإن غياب واحد منها كاف لعدم حدوث الإنبات، أي أن وجود كل هذه الفروض شرط في حدوث عملية الإنبات .
وكذلك الفرائض أو التكاليف الشرعية، لابد أن تكون شرطاً في وجود الإيمان، و إن غياب فرض واحد كاف لغياب الإيمان كله ) (118.
والعلة في التكفير عندهم بترك الفريضة - كما في هذا المثال - أنها
ص107
من حقيقة الإيمان وماهيته التي لا يتصور أن تنقص. بل يلزم عن تخلف بعض أجزاء الحقيقة التي تصوروها للإيمان تخلف الإيمان بالكلية .
*****
شبهات أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام :
أوضح من يمثل هذا الاتجاه في الفكر الإسلامي المعاصر هم من يسمون أنفسهم (جماعة المسلمين) وهم من يطلق عليهم إعلامياً (جماعة التكفير والهجرة). وينصب منهجهم هنا على محاولة وضع حد أدنى للالتزام الظاهر، يكون شرطاً لتحقيق وصف الإسلام وثبوته للمعين .
وقد انتهوا إلى القول بأن الفرائض هي الحد الأدنى للإسلام، و أن الالتزام بها شرط لثبوت وصف الإسلام للمعين .
وهم يبنون أصل فكرتهم في كون الفرائض هي حد الإسلام الأدنى على المعنى اللغوي للفرض، الذي يقولون إنه بمعنى اللازم والواجب. وما كان لازماً للعبادة وواجباً فيها فهو شرط في تحقيقها. وما كان شرطاً في تحقيق شيء كان عدمه كافياً في عدم المشروط بالكلية.(1/79)
يقول شكري مصطفى في ذلك: ( إنه لا شيء مما فرضه الله علينا في عبادته إلا وهو شرط فيها، إذ لو أمكن أن يعبد بغيره لما جاز أن يفرض لا عقلاً ولا لغة علينا، مادامت عبادته هي كل ما فرض علينا، فإن الفرض هو الواجب الذي لابد منه. فكيف يفرض ما منه بد. وما تكون العبادة بفعله أو تركه. وليس أمر العبادة بدعاً في أن الفرض فيها شرط لحدوثها، بل ذلك بديهي وواقع في كل ما خلقه الله تعالى وأمر به، وبلا استثناء، و أنه ليس عند العقلاء شيء واحد يمكن تركه وفعله بغير ضرر ثم يفرضونه في نفس الوقت، و إن العقل والشرع كليهما قد فرقا فرقاً نوعياً بين الفرائض والنوافل. كل ذلك سواء في السنة الدائرة أو المعاملات
ص108
الجارية أو البديهيات المتعارف عليها ) (119).
وقولهم بأن الفرض شرط في تحقيق العبادة، و أن العبادة لا تتحقق إذا ترك أحد شروطها هو معنى ما سبق بيانه من قولهم وشبهتهم في حقيقة الإيمان، و أنه شيء إذا ذهب بعضه ذهب كله. وعلى كل حال فغاية هذا الاستدلال أنه دعوى بأن جميع الفرائض شرط للنجاة في الآخرة، ولثبوت وصف الإسلام في الدنيا، وليس دليلاً لذاته. بل هو يطلب دليلاً عليه، وهذه الدعوى مبنية على معنى الفرض عندهم. لا كما هو في حكم الشريعة، فإنهم قاسوا افرض في الشريعة على الشرط الذي لا يتحقق المشروط إلا به، كما في مثالهم السابق.
والحقيقة أن الإيمان الذي يتكلمون عنه هو إيمان تصوري مطلق، لا وجود له في الواقع، لأن الناس يختلفون في التكليف بحسب ما يبلغهم من الحجة الرسالية، وبحسب قدراتهم، فكيف نجعل تحقيق الإيمان متوقفاً على الالتزام بجميع الفرائص، مع أن الإنسان قد يموت وهو يجهل بعض الفرائض، أو لم يعملها لعجزه عن ذلك مثلاً .(1/80)
وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان فساد هذه الشبهة فقال: ( إذا قال المعترض: هذا الجزء داخل في الحقيقة وهذا خارج من الحقيقة. قيل له: ماذا تريد بالحقيقة؟ فإن قال: أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافراً. قيل له: ليس للإيمان حقيقة واحدة مثل حقيقة مسمى (مسلم) في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار. مثل حقيقة السواد والبياض. بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك.
وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق، لا مثل الإيمان الواجب
ص109
عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمداً رسولاً كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البت، ولا حرم عليهم الخمر والربا ونحو ذلك. ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك كان ذلك الشخص حينئذ مؤمناً تام الإيمان الذي وجب عليه، و إن كان ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه لكان كافراً .
قال الإمام أحمد: كان بدء الإيمان ناقصاً فجعل يزيد حتى كمل، ولهذا قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}.
و أيضاً فبعد نزول القرآن وإكمال الدين إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه تفصيلاً، و أما ما لم يمكنه معرفته فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلاً إذا بلغه .
و أيضاً: فالرجل إذا آمن بالرسول إيماناً جازماً ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك، وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل والعمل بذلك .(1/81)
فصار ما يجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء، وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب وهذه يختلف بها العمل أيضاً .
ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر.
ص110
فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل ... فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى به فيه من الإيمان كتبعض سائر الواجبات .
يبقى أن يقال: فالبعض الآخر قد يكون شرطاً في ذلك البعض وقد لا يكون شرطاً فيه(120) فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه. أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم.
كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا }.
وقد يكون البعض المتروك ليس شرطاً في وجود الآخر ولا قبوله. وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق. وبعض شعب الإيمان وشعب الكفر(121)...)(122)
وبهذا التحليل لهذه القضية تبطل فكرة حد الإسلام الأدنى من الالتزام الظاهر من أساسها، سواء بالنظر إلى حال المكلف واختلاف الواجب في حقه، لأجل اشتراط قيام الحجة وإمكان الالتزام به على
ص111
التفصيل، أو بالنظر إلى نفس الواجبات وكونها ليست لازمة لبعضها بإطلاق. لكن لابد مع ذلك من معرفة أدلتهم النقلية التي أسسوا عليها هذه القاعدة.
********(1/82)
1-من ذلك قولهم: إنه قد ورد الأمر بقتال من ترك بعض الفرائض كما في قول النبي صلى الله عليه و سلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى " متفق عليه (123).
وعندهم أن المسلم لا يقاتل، وإنما يكون القتال للكافر. فالفرائض على هذا هي الحد الأدنى للإسلام .
يقول شكري في ذلك: ( إن الحد الأدنى للإسلام الذي لا يصح إسلام بدونه هو: مجموع الفرائض التي افترضها الله، والتي ثبت على سبيل القطع أنها فرائض، من ضيع منها فرضاً بغير عذر فمات مصراً عليه غير تائب مات على أقل من الحد الأدنى للإسلام. وذلك فضلاً عن أنه أمر بديهي عقلاً وشرعاً، فقد جعله الله ( الحد الأدنى) فرضاً على عباده، ومعنى أن الله جعله فرضاً على عباده أنهم يطيقونه، ويطيقونه كلهم أعلاهم وأدناهم، ويقول الله سبحانه وتعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }.
فثبت من ذلك أن الفرائض هي الحد الأدنى الذي يطيقه كل الناس، ثم لم يكتف بذلك بل أمر بقتال من ضيع شيئاً منها كما هو ثابت ... وهذا أقطع دليل على أن كل واحد من الناس يطيقه، و إلا ما أمر بقتال عليه،
ص112
وعلى أنه الحد الأدنى من الإسلام، إذ لو كان الحد الأدنى من الإسلام أقل منه لما فرض القتال عليه، إذ كيف نقاتل مسلماً لم يزل على قاعدة الإسلام لم يتعدها!) (124).
ومما يستدلون به على أن من أمرنا بقتاله على ترك الفرائض لابد أن يكون كافراً، مفهوم الحصر في قول النبي صلى الله عليه و سلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة "(125).
قالوا: فمن لم يكن ثيباً زانياً أو قاتل نفس وأمرنا مع ذلك بقتاله فلا يكون إلا كافراً.(1/83)
ونفس الإشكال الذي حصل لهؤلاء قد حصل للخوارج الأوائل (حيث أنكروا على علي بن أبي طالب قتاله لأهل الجمل، ونهيه عن اتباع مدبرهم، والإجهاز علي جريحهم، وغنيمة أموالهم وذراريهم، وكانت حجة الخوارج أنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر، فإن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم، وإن كانوا كفاراً أبيحت دماؤهم وأموالهم وذراريهم، فأجابهم ابن عباس بأن القرآن يدل على أن عائشة أم المؤمنين، وبين أن أمهات المؤمنين حرام. فمن أنكر أمومتها فقد خالف كتاب الله، ومن استحل فرج أمه فقد خالف كتاب الله. وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمنا لم يبح قتاله بحال) (126).
ص113
و أصل اللبس الذي حصل لأصحاب هذا الفكر هنا أنهم لم يفرقوا بين حقيقة كل من القتل والقتال والمقصود من كل منهما .
فالقتل حد شرعي لا يكون إلا في الثلاثة المذكورة في الحديث وهي حد الزنا من المحصن، وحد القصاص بالقتل للقاتل، وحد الردة عن الإسلام (127).
وأما القتال فهو مشروع لإقامة الدين ودرء الفتنة. ولا يلزم منه ولا بد قتل المعين. بل الكفار إنما يقاتلون بعد إبلاغهم الحجة ورسالة الإسلام، ليذعنوا لحكم الله، ولا يكون منهم فتنة وصد عن سبيل الله، فإن تحقق منهم ذلك ولو لم يسلموا رفع عنهم السيف، وهذا هو معنى قول الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [الأنفال/39]. وليس المقصود بالفتنة هنا الشرك بإطلاق، كما أنه ليس المقصود بالدين كله جملة الفرائض التي هي حد الإسلام كما يقول هؤلاء، وليس كل قتال مشروع لابد أن يكون للكفار، بل قد شرع قتال البغاة، وأمر الرسول صلى الله عليه و سلم بقتال الخوارج مع أنهم مسلمون.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سئل عنهم أكفار هم ؟ يقول: من الكفر فروا. ويقول عنهم: إخواننا بغوا علينا(128).(1/84)
وقد قاتل الصحابة بعضهم بعضاً متأولين، ولم يكفر بعضهم بعضاً. بل قد أمر الله إذا تقاتلت طائفتان من المؤمنين أن نصلح بينهما، و إذا بغت إحداهما على الأخرى أن نقاتل الطائفة الباغية مع أنها طائفة من
ص114
المسلمين فقال تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات/9]. فكيف يقال مع كل هذا إنه لا يقاتل إلا من كان كافراً ؟
وعلى هذا فهم الأئمة للحديث الذي استدل به هؤلاء، وبينوا أنه لا علاقة بين المقاتلة والقتل كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: ( ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله ) (129).
ويقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: ( لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وجود القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل ) (130).
2- ومن أدلتهم على فكرة الحد الأدنى للإسلام ما يسمونه بدليل البيعة. وملخصه أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يبايع أصحابه على الالتزام بالفرائض وترك المحرمات، ومعناه أنه لابد من ذلك لتحقيق الحد الأدنى من الإسلام. و إلا فلم يبايع على ذلك الرسول صلى الله عليه و سلم. لا معنى لذلك كما يقولون إلا أنها شرط في بقاء وصف الإسلام، و أن انتفاء بعضها نقض للبيعة، لأنه لابد من التسليم بأمر الله كله.(1/85)
يقول شكري: ( ها هي ذي بيعة النساء التي بايع على مثلها الرجال بيعة العقبة الأولى مدونة في كتاب الله تعالى، مشترط فيها إلا يشركن بالله شيئاً، والتي منها المحرمات قطعاً. ولا يعصين محمداً في معروف والتي منها الفرائض قطعاً ... بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما كان يبايع الناس على شرائع الإسلام، و أنه لو جاز أن يبايع على ترك فريضة أو
ص115
على فعل محرم لما جاز أن تسمى فريضة ولا محرماً أصلاً ... نريد أن نقول أن التسليم لله تعالى لا يتجزأ، وأننا لا نقبل من الناس في دخولهم جماعة الحق و إن تأخر دخولهم إلا الإعتراف الكامل بألوهية الله، والسمع والطاعة، والبيعة الكاملة، والتمادي في طاعة الله في كل جديد يعلمون أنه من أمر الله، ومن خلال الجماعة المسلمة وتحت إمامها) (131).
ويقال في الرد على هذا الاستدلال :
أولاً: صحيح أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يبايع أصحابه على الالتزام بالواجبات وترك المحرمات. وصحيح أن الالتزام الظاهر بالعمل لابد منه لتحقيق أصل الدين. لكن من خالف في بعض الأعمال فترك فريضة - عدا الصلاة - أو ارتكب محرماً هل معنى ذلك أن التزامه قد انتقض؟ هذا ما يريدون أن يصلوا إليه. ولذلك فهم يعلقون وصف الكفر بمجرد المخالفة بالعمل الظاهر فيما يتعلق بشيء من الحد الأدنى للإسلام عندهم، وليس عندهم أي اعتبار لكون الإيمان يزيد وينقص، أو أن بعض المخالفات قد تكون كفراً دون كفر، فالإيمان مرتبة واحدة، والكفر كذلك مرتبة واحدة، ويلزم من هذا التكفير بالمعصية.
يقول شكري: ( الإصرار على المعصية هو نية عدم التوبة منها وإظهار ذلك هو إعلان نية إلا يتوب قولاً أو فعلاً. وهذا كفر صريح في اعتبار الجماعة المسلمة يقتضي فلق الهام وقطع الرقاب، فكل من أظهر إصراراً على معصية بينة من معاصي الله بقول أو فعل فإن للجماعة المسلمة حرية أن تستأصله منها وتطهر نفسها منه تطهيراً(132).(1/86)
ثانياً: نفس الدليل الذي ساقوه وهو دليل البيعة يدل على نقيض
ص116
مقصودهم. فقد ورد في صحيح البخاري عن عبادة بن الصمت رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال: أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا؟ وقرأ آية النساء(133)... فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من أمره شيئاً فعوقب به فهو كفارة له. ومن أصاب منها شيئاً من ذلك فستره الله فهو إلى الله، إن شاء الله عذبه و إن شاء غفر له ) (134).
فها هو النبي صلى الله عليه و سلم يبايع أصحابه على الالتزام ببعض الفرائض وترك بعض المحرمات، ثم يخبر أن من وفى بالبيعة فأجره على الله، و أما من أصاب من ذلك شيئاً أي خالف. (أي من الأشياء التي توجب الحد) فعوقب به فهو كفارة له. ولم يقل إنه كفر وزال عنه وصف الإسلام لعدم وفائه بالبيعة. ثم قال عن جزائه في الآخرة إنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه و إن شاء غفر له. ولو كان كافراً لم يغفر له، ولم يكن تحت المشيئة.
******
أثر هذا القول على ثوبت وصف الإسلام للمعين :
التزم أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام ألا يحكموا للمعين بالإسلام بمجرد الإقرار أو ما يقوم مقامه، واشترطوا تبين حد الإسلام قبل الحكم به للمعين. واشتراطهم ذلك ليس لازماً لأصل فكرتهم في الحد الأدنى. بل كان يمكنهم أن يحكموا للمعين بالإسلام بمجرد الإقرار،
ص117
و أن يفترضوا في المعين أنه سيلتزم بالحد الأدنى من الالتزام الظاهر. ثم إذا لم يحقق ذلك بتركه لفريضة أو ارتكابه لمحرم وإصراره على ذلك حكموا بردته، على وفق منهجهم في التكفير بالمعصية. ولو فعلوا ذلك لم يناقضوا مذهبهم في اشتراط تحقيق الحد الأدنى لثبوت وصف الإسلام للمعين، ولكفى خطؤهم في التكفير بالمعصية، دون أن يخطئوا أيضاً باشتراط تبين حد الإسلام الأدنى عندهم .(1/87)
لكنهم قالوا إن الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام، لأنه مجرد دعوى، ولا بد مع الدعوى من بينة هي تحقيق حد الإسلام حتى يبنى الحكم للمعين بالإسلام على يقين.
يقول شكري في ذلك: ( إن الرجل الذي تقاتله الجماعة المسلمة ليشهد شهادة الحق أي يتلفظ بها هو قبل أن يتلفظ بها حلال الدم والمال. فإن قالها فهو يتلفظه بها قد أعلن قبوله للإسلام ودخوله فيه إعلاناً وادعاء منه، لا يزيد على ذلك ولا يمكن أن ينقص.
نعم إن في طيات شهادة الحق الإسلام كله، ولكن التلفظ بها ليس هو الإسلام. وإنما هو إعلان قبوله الإسلام، فإذا لمست الفرق بين المعنيين عرفت أن التلفظ بالشهادتين حين المقاتلة عليها هي كأي دعوى، لم يقم الدليل على كذبها أو صحتها، بل إن قائلها كافر لا تقبل دعواه بحال. فثبت من ذلك عقلاً وشرعاً أن مجرد ادعائه الدخول في الإسلام لا يثبت له دخولاً عندنا فيه ولا الحكم له بذلك .
فهي دعوى كأي دعوى لم تأت البينة لتثبت صدقها. وعليه فلا يحكم بإسلامه، ولم تأت بينة تثبت كذلك كذبها، فلا يحل دمه وماله فأصبح الممكن في ذلك هو قيام البينة تصديقاً أو تكذيباً) (135).
ص118
ولكن: إذا كان الإقرار مجرد دعوى لا تكفي لثبوت وصف الإسلام للمعين فهل هو غير معتبر عندهم بالكلية؟
يقولون إن الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام، لكنه يكفي لعصمة الدم لحين التبين عن حال المعين، واختبار تحقيقه للحد الأدنى الذي هو مناط الحكم له بالإسلام.
يقول شكري في ذلك: ( إن قال قائل ما الذي استفاده المقاتل على قول لا إله إلا الله بقولته لا إله إلا الله ما دمنا لم نحكم بإسلامه بعدها وعلام إذن كنا نقاتله؟. فالإجابة على ذلك - كما قررت الشريعة - نقول ببساطة :
1- إن الذي استفاد هو عصمة دمه وماله حتى حين، وذلك استناداً مباشراً إلى قوله صلى الله عليه و سلم: " ... فإن قالوها فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها".(1/88)
2- أما لماذا نقاتلهم ؟ فإننا نقاتلهم على دين الإسلام كله { حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } وهو التلفظ بكلمة الحق + حقوق هذه الكلمة وذلك بنص النبي صلى الله عليه و سلم -فذلك هو الإسلام - فقط إننا في المعركة وأثناء القتال لا يمكننا أن نتعرف إلا على الكلمة فنعصم بها دماءهم وأموالهم حتى حين - يعني حين التبين - وذلك هو ما نصت علية الآية الشريفة من سورة النساء التي سبق أن ذكرناها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ ..} (136).
و ادعاؤهم هنا أن عصمة الدم والمال بالإقرار بالإسلام لا تستلزم ثبوت وصف الإسلام، وإنهما أمران متغايران، ادعاء باطل وتفريق
ص119
بينهما من غير حجة ولا برهان. ويكفينا هنا بيان عدم دلالة ما استدلوا به على دعواهم.
فأما قول الرسول صلى الله عليه و سلم: " ... فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام"(137)فالمراد أن من نطق بالشهادتين فقد أسلم وعصم دمه وماله بإسلامه. و إلا فلماذا تعصم دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام مع أنهم غير مسلمين ؟ وكيف يؤاخذ بحق الإسلام من ليس مسلماً ؟
ويبين ذلك أيضاً أن قول الرسول صلى الله عليه و سلم في الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إلا إله إلا الله ... الحديث " خاص بالمشركين في جزيرة العرب، وليس عاماً في كل مشرك. فإن الغاية من الجهاد هي خضوع الناس لحكم الله إن لم يسلموا وبقوا على شركهم، إلا في جزيرة العرب، فإنه لا يقر فيها أحد على الشرك، وهذا الحديث هو تحقيق ما جاء من أمر الله لرسوله بقتال المشركين بعد انقضاء عهده معهم وانسلاخ الأشهر الحرم.
يقول تعالى :(1/89)
{وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3}إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {4} فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة/3-5].
ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه و سلم في آخر حياته بإخراج المشركين من جزيرة العرب. ففي الحديث المتفق عليه من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أنه
ص120
صلى الله عليه و سلم أوصى عند موته بثلاث ومنها: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(138)وعند مسلم من رواية عمر رضي الله عنه أنه سمع الرسول صلى الله عليه و سلم يقول: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً"(139).
وفي الموطأ عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج واليقين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى يهود خيبر. (140)
وكل هذا مما يدل دلالة قاطعة على أن المراد بالحديث أن من نطق بالشهادتين عصم دمه وماله لأجل إسلامه، لأنه لا يقبل منه إلا ذلك. فالحديث إذن بلفظه وسياقه يدل على خلاف ما فهموا منه.(1/90)
و أما ما فهموه من آية النساء وهي قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ ..} [النساء/94]. من أن المراد بذلك الأمر بالتبين عن حال المعين مما يقتضي عدم الجزم له بحكم الإسلام فذلك ما تدل الآية نفسها في آخرها على بطلانه.
وكمال الآية هو قول الله تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء/94].
وفيها نهي صريح عن نفي وصف الإسلام عمن تظاهر بأي من شعائر الإسلام كالسلام مثلاً .
ص121
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية قال: ( لقي ناس من المسلمين رجلاً في غنيمة له فقال السلام عليكم، فأخذوه وأخذوا تلك الغنيمة فنزلت: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } وفي رواية الترمذي ( ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم) (141). وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم لم يخالفوا في أنه يثبت وصف الإسلام بالإقرار أو ما يقوم مقامه، لكن ظنوا أنه إنما قالها متعوذاً منهم، فتأولوا وقتلوه على ظن أنه مشرك، و أنه يخدعهم بالسلام، فأمرهم الله بالتثبت وعدم التسرع وقتل الناس بالظنون.
فالآية صريحة في أن من أظهر شيئاً من شعائر الإسلام حكم بإسلامه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن ينفوا الإيمان عمن تحقق فيه ذلك، ولازم ذلك أن يحكموا بإسلامه إبتداءً، لأنه لا دليل قاطع على عدم إعتبار إقراره. ومجرد الشك في أنه قد يكون متعوذاً لا يكفي في نفي وصف الإسلام عنه.(1/91)
يقول الإمام الشوكاني في معنى الآية: ( والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام، أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمناً. وقيل هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام، أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً، والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا إنه إنما جاء بذلك
ص122
تعوذاً وتقية) (142).
ومن كل هذا يتضح أنه لو كان معنى التبين في الآية ما قالوه لتعارض أول الآية وآخرها، فكان أولها آمراً باختبار حال من أظهر الإسلام وعدم الحكم بإسلامه إلا بعد التبين، ولكان آخرها ناهياً عن نفي وصف الإسلام عمن أظهر الإسلام والأمر بعدم اعتبار مجرد الشك في أن من يفعل ذلك إنما يفعله تعوذاً.
وهذا كافٍ في بيان أنه ليس لهم على التبين الذي يقولون به دليل معتبر، و أنه أمر محدث.
********
كيف يكون التبين عندهم ؟
بعدما قرروا أن مجرد الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام للمعين و أنه مجرد ادعاء. أرادوا أن يكون لهم منهج يتحقق به استيفاء حد الإسلام، وطريقة يحكمون بها للمعينين بالإسلام .
وكانت النتيجة أنهم ابتدعوا أمراً آخر لثبوت وصف الإسلام للمعين وهو اشتراط أن يكون المعين ضمن الجماعة الإسلامية التي تستوفي حد الإسلام، بحيث لا يمكن أن يعيش فيها من يظهر الإسلام وهو لا يؤدي حقوقه. لأن من لم يؤد حقوق الإسلام في المجتمع المسلم يحكم بردته وقتله .
يقول شكري: ( إن من ينسب نفسه إلى الإسلام في هذه المجتمعات بقولة أو شعيرة لا نضمن منه استيفاء حقوق ( لا إله إلا الله ) ولا حقوق الإسلام كحد أدنى، والغالب العام هو أنه يضيع بعضها أو كلها ولا
ص123(1/92)
يعرف خلاف ذلك منه. ولا أحد يؤدي حقها إلا مستوى خاص أو متدين زائد، وأصبحت قولة لا إله إلا الله أو فعل شعيرة من شعائر الإسلام ليست برهاناً كافياً على أن صاحبها مسلم ولا تدل عليه. ولا تنتقل خطوة واحدة عن كونها ادعاء للإسلام يحتاج إلى بينة، إن إثباتاً و إن نفياً. فالإنتساب للجماعة الإسلامية أو الدولة الإسلامية شرط يقيني لازم في إيجاب الحكم بإسلام من يدعي الإسلام بقولة أو شعيرة) (143).
ولكن بعد أن يقرروا هذه القاعدة النظرية التجريدية يواجههم الواقع بأن تلك الجماعة التي لها سلطان تستطيع به استيفاء حد الإسلام غير موجودة. فما الحل؟ هل نرجئ الحكم للناس بالإسلام مطلقاً حتى تقوم هذه الجماعة وتتحقق في الواقع أم ماذا؟.
لقد توصلوا إلى أن شرط وجود المعين ضمن جماعة مسلمة تستوفي حد الإسلام لابد من توسيعه حتى يشمل واقعاً ليست فيه تلك الجماعة. فكانت النتيجة أن قالوا إنه يكفي لثبوت وصف الإسلام للمعين السعي لإقامة تلك الجماعة .
يقول شكري: ( إن الادعاء بالدخول في الإسلام وإظهار الانتماء إليه بقولة أو شعيرة لا يكفي بمفرده للحكم بإسلام المتلبس به إلا بشرط انتمائه للجماعة الإسلامية .
والآن لا توجد هذه الجماعة، ولا يوجد إلا الادعاء المصاحب لقولة أو شعيرة، فمقتضيات الحكم إذن - بناء على ذلك - غير موجودة داخل زمان تلك المجتمعات الإسلامية.
ولكن في الحقيقة لو تمعنا في مدلول ذلك الشرط الثاني وهو (وجود
ص124
الجماعة المسلمة ) لعلمنا الآتي: أنه خارج عن تكليف المسلم بمفرده و أنه غير مسؤول عن وجوده، ولكنه مسؤول فقط عن السعي لإيجاده عن طريق إنكار المنكر والسعي لتغييره يداً ولساناً وقلباً، وهذا الأخير بالذات (قلباً) لأنه الحد الأدنى للإسلام، وهو ما يجب أن نحاسب الناس عليه) (144).
وحين نصل إلى هذا الحد من فكر هذه الجماعة ندرك مدى التناقض والاضطراب في منهجهم وأصولهم.(1/93)
فأولاً كانت الجماعة المسلمة ذات السلطان شرطاً لثبوت وصف الإسلام بمجرد التظاهر بأي شعيرة من شعائر الإسلام. ثم أصبح السعي لإقامة تلك الجماعة وأدناه إنكار المنكر بالقلب.
وهنا يقال للرد عليهم:
إذا كان الالتزام بالفرائض فريضة فريضة شرطاً لثبوت وصف الإسلام، وكان لا يمكن استيفاء ذلك في حال غياب الجماعة المسلمة فإنه يلزمهم أن الالتزام بالفرائض ليس داخلاً في حد الإسلام، لأنه لا يمكن استيفاؤه في هذه الحالة، لعدم وجود الجماعة ذات السلطة التي تستوفي ذلك، وما لا يمكن استيفاؤه كيف يكون مناطاً للحكم للمعين بالإسلام؟
و إن قالوا: يكفي في التبين في هذه الحالة معرفة حال المعين من جهة كفره بالطاغوت فإنهم يلزمون بأنه ليس كل من كفر بالطاغوت لابد أن يكون مستوفياً لحد الإسلام الذي زعموه بمجرد ذلك. لأن الالتزام بالفرائض أعم من مجرد الكفر بالطاغوت.
فإن قالوا الأصل فيمن كفر بالطاغوت وتحققنا منه ذلك إلتزام
ص125
الفرائض، ثم إذا ظهر عدم التزامه بأي فريضة حكمنا بردته. قيل ولماذا لا تقولون فيمن أظهر بعض شعائر الإسلام إن الأصل فيه الالتزام بحد الإسلام، فإن خالف في ذلك حكمتم بردته. وما الفرق بين الأمرين ؟ فلزمهم إما أن يقولوا إنه يكفي في ثبوت وصف الإسلام مجرد الإقرار أو ما يقوم مقامه، و إما أن يتناقضوا إن بقوا على قولهم .(1/94)
والخلاصة: أنهم اشترطوا الجماعة الإسلامية المستوفية لحد الإسلام لئلا يحكموا للناس بمجرد التظاهر ببعض الشعائر فانتهوا إلى الاكتفاء بمجرد الدلالة التي يفترض معها تحقيق حد الإسلام في حال غياب تلك الجماعة، فانتهوا إلى إبطال أصلهم بأنفسهم. لأنهم قد قرروا أن الحد الأدنى للإسلام هو الإتيان بالفرائض وعدم الإخلال بفريضة منها، وذلك لا يمكن الجزم به عندهم إلا إذا كان المعين في جماعة مسلمة تقيم عليه الحد إذا خالف وترك أي فريضة، لكن إذا لم تقم تلك الجماعة كفى السعي لإيجادها وأدناه الإنكار بالقلب. فأين ما اشترطوه أولاً من أجل تحقيق التبين ؟
*******
الأصل في حكم الناس عندهم :
عدم الحكم بإسلام الناس اليوم في هذه المجتمعات إلا بشرط التبين لا يعني - عند أصحاب فكرة الحد الأدنى - أن الأصل فيهم هو الكفر. بل فيهم مسلمون وكافرون. ولا يكفي في معرفة المسلم وتحديده مجرد التظاهر ببعض الشعائر، بل لابد من التبين عن كل معين على التفصيل، والتوقف عن الحكم له بإسلام أو كفر قبل ذلك.
يقول شكري في ذلك: ( نحن نحكم بوجود كافرين يقيناً، و أيضاً وجود مسلمين، (شيئان مختلفان) لا نعرف أعيانهم، ويشتركون في بعض المظاهر مثل التلفظ بالشهادتين أو الصلاة أو الصوم ... الخ، فاستحال عقلاً التفرقة بينهما على أساس هذه المظاهر. وما استحال عقلاً استحال
ص126
شرعاً، فاستحال أن يكون الله قد أمرنا في شرعه بالحكم بإسلام أو بكفر أحدهم في مثل هذه الحالة، وما دام الحكم بالإسلام أو الكفر في مثل هذه الحالة استحال أن يكون من شرع الله، فقد وجب التوقف عن الحكم حتى التبين ببينة تصلح للتفرقة. وهذه البينة قد بيناها تفصيلياً قبل ذلك، وجعلنا لها حداً أعلى وحداً أدنى، وهي في مجموعها أن نعرف عن المتوقف فيه الكفر بالطاغوت قلباً ويداً ولساناً.(1/95)
فجاز لنا أن نقول من غير افتراء على دين الله، ولا تقول بغير علم على الله، إنه في هذه المجتمعات الجاهلية والتي تسمت باسم الإسلام وراثة من التاريخ، لا يكون تلبس من لا نعرفه فيها ببعض المظاهر الإسلامية كافياً بمفرده كدليل للحكم بإسلامه، كما أن مظاهر الكفر التي تقوم عليها هذه المجتمعات وتظهر في عموم أفرادها ليست أيضاً كافية لسحب حكم الكفر على كل أحد فيها. بل يجب التوقف عن الحكم على من لا نعرفه حتى نتبين كفره من إسلامه بالتبين الذين ذكرناه فنحكم عليه بذلك) (145).
إن الذي يعنينا هنا هو ما يتعلق بالحكم على المعين مع ظهور ما يدل على إسلامه، و أما ما يتعلق بالحكم على المجتمع ككل وهل الأصل في الناس من حيث العموم هو الكفر أو الإسلام أو التوقف ؟ فذلك حكم نظري لا واقع له، إذا لم يلحق وصف المجتمع الأفراد الذين يعيشون فيه. فليس كل من حكم على الدار أنها دار كفر يقول إن جميع من فيها كفار، ولا كل من قال إن المجتمع جاهلي يلتزم بأن أفراد ذلك المجتمع كفار. بل الدار والمجتمع لهما أحكام وضوابط تختلف عن الضوابط المتعلقة بالحكم على الفرد.
وإذن فسيكون مجال النقاش هنا هو ما يتعلق بحكم الفرد الذي يتظاهر ببعض شعائر الإسلام قبل التبين الذي يلتزمون به لإثبات وصف الإسلام للمعين. وما يهمنا هنا هو ما يستدلون به على شرعية التوقف وتطبيقها على هذه الحالة. وعمدتهم في ذلك هو ما فهموه من الأمر بامتحان المهاجرات، وتبين هل هاجرن لله ورسوله أم هاجرن وهن كافرات، ورتبوا على ذلك أن حكمهن قبل التبين كان مجهولاً، ولم تعرف حقيقة كل مهاجرة إلا بعد تبين حالها. وعندهم أن هذا دليل على التوقف الذي يقولون به.(1/96)
يقول شكري في ذلك: ( والامتحان طلب من المؤمنين بالطبع لمعرفة ظاهر الإيمان، يعني ظاهر الإسلام لا حقيقة الإيمان، إذ لا يوجد امتحان لمعرفة حقيقة الإيمان ... ومعنى أننا نعمل امتحاناً يعني ذلك يقيناً أننا نجهل الحكم فيهن قبله سلباً أو إيجاباً، وذلك هو عين التوقف هذا، ومع أن المهاجرة كانت امرأة واحدة، وهي سبيعة رضي الله عنها إلا أن الله قد عمم القضية وجعلها قاعدة شاملة، قال سبحانه: { إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ...} والحقيقة أنها فعلاً قاعدة عامة، حيث إن الشبهة لا تخص امرأة دون امرأة، ولا امرأة دون رجل، بل ذلك ما يقتضيه العقل والشرع من جواز التوقف في الحكم حتى التبين عن طريق امتحان واختبار) (146).
وعلى هذا الاستدلال ملاحظات :
أولاً: إن آية الامتحان هذه نزلت لبيان حكم حالة خاصة، ملخصها: أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان قد عاهد قريشاً وعاقدها في صلح الحديبية على إلا يأتيه من قبل المشركين أحد ولو كان مسلماً إلا رده عليهم. هكذا على
ص128
العموم. ثم جاءت آية الامتحان تخصيصاً لذلك العموم باستثناء النساء المؤمنات، وأنهن لا يرجعن إلى أزواجهن إذا هاجرن، لأنهن لا يحلون لأزواجهن المشركين، ولا أزواجهن يحلون لهن. قال تعالى: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [الممتحنة/10]. فانتفى عقد الزوجية بين المسلمة والمشرك، وبين المسلم والمشركة، وبقي حق الصداق، سواء كان ذلك لمشرك أو مسلم، فأمر الله أن يؤدى إلى الزوج، مسلماً كان أو مشركاً قال تعالى: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الممتحنة/10).(1/97)
فكان لابد من معرفة المهاجرة المسلمة من غيرها لتطبيق هذا الحكم. لأن الزواج عقد والعقود لا تفسخ إلا بأمور ظاهرة، وكذا سائر المعاملات وأحكام القضاء لا تترتب إلا على أمور ظاهرة. (147)
ثانياً:
إن حقيقة الخلاف ليست في اعتبار الآية دليلاً على مجرد التوقف من حيث العموم، وإنما في الاستدلال بها على التوقف عن الحكم بالإسلام لمن أظهر شعائره. وهذا غير متحقق فيما استدلوا به من آية الامتحان. بل قد ثبت في الحديث المتفق عليه من رواية عائشة رضي الله عنها قالت: ( إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله
ص129
صلى الله عليه و سلم: قد بايعتك كلاماً، ولا والله ما مست يده امرأة قط في المبايعة... الحديث) (148).
فإذا علمنا هذا، مع ما تقدم من أن ما ورد في هذه الآية من المبايعة على التزام بعض الواجبات وترك بعض المحرمات لا يدل على أنه الحد الأدنى للإسلام. فإنه يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي منهن بظاهر حالهن. و أن الإقرار بالشهادتين أو التظاهر بأي شعيرة من شعائر الإسلام يكفي في تبين المسلم من غيره. فرجع الأمر إلى حقيقة التبين وما يلزم لثبوت وصف الإسلام، وقد تقدم الكلام فيه .
ثالثاً :(1/98)
إن النبي صلى الله عليه و سلم كما تبين حال المهاجرات بمبايعتهن بمقتضى آية البيعة السابقة. فقد كان أيضاً يتبين حال من يجهل حاله من إسلام أو عدمه بأي دلالة على الإسلام كما تبين حال الجارية التي جاء بها صاحبها ليعتقها وهو يسأل: قال من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال أعتقها فإنها مؤمنة"(149). فهذا رسول الله يحكم بإسلام الجارية بمجرد إقرارها وقد كان يجهل حالها قبل ذلك. مما يقطع بأنه يكفي في تبين من نجهل حاله مجرد تظاهره بالإسلام وهذا هو مناط النزاع في التبين بين أهل السنة وبين أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام.
رابعاً :
إن قياس حال جماهير من يتظاهرون بالإسلام على حال المهاجرات
ص130
اللاتي لم يعلم إسلامهن بعد قياس فاسد. فاحتمال أن تكون المهاجرة مسلمة أو غير مسلمة وارد، ولذلك جاء الأمر بالامتحان. أما احتمال أن يكون من تظاهر بشعائر الإسلام ونطق بالشهادتين ليس مسلماً فهذا غير وارد أصلاً، بل هو مسلم ما لم ينقض إسلامه بناقض بين .
وبعد كل هذا يعلم أنه ليس لهم متمسك شرعي فيما ذهبوا إليه من عدم الحكم بإسلام من يظهر بعض شعائر الإسلام، والتوقف في حاله، واشتراط التبين الذي زعموه للحكم بإسلامه.
الباب الثاني
حقيقة الكفر
وفيه ثلاثة فصول :
الأول: حقيقة الشرك .
الثاني: كفر الرد .
الثالث: شرك دون شرك، وكفر دون كفر
ص133
الفصل الأول
حقيقة الشرك
توطئة :
تقدم في الكلام على توحيد الله تعالى أنه يتضمن :
- توحيده بالإرادة والقصد بحيث يكون الله هو الغاية دون سواه .
- توحيده بالاستعانة والتوكل بحيث لا يتعلق القلب في جلب النفع أو دفع الضر بسواه .
وعلى هذا فالشرك إما أن يكون :
- بعدم إخلاص القصد والإرادة بإرادة غير الله بالحب والتأله فلا يكون الله هو غاية العبد ومراده .
- وإما أن يكون باتخاذ وسائط في جلب النفع أو دفع الضر. سواء اتخذ تلك الوسائط بمجرد الدعاء والطلب أو بالتقرب والعبادة .(1/99)
فهذه بإيجاز حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك. لكن لما كان التوحيد متعلقاً بالإرادة، ولابد أن يتضمن الاعتقاد، فكذلك الشرك كما يكون بالإرادة فإنه يكون بالاعتقاد المتعلق بإثبات ما يختص به الله تعالى لغيره من المخلوقين .
وعلى هذا فالتوحيد الاعتقادي الذي هو مجرد إثبات ما يختص به الله تعالى من الكمال في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله يستلزم التوحيد
ص134
الإرادي الاختياري. وقد يتحقق معه فيكون الإنسان موحداً لله حقاً. وقد لا يتحقق التوحيد الإرادي فيكون الإنسان مشركاً لا ينفعه مجرد الاعتقاد .
والمتأمل في مناهج المتكلمين عموماً يجد أن التوحيد عندهم اعتقادي فقط، وأن الشرك في الإرادة إذا لم يتضمن الشرك في الاعتقاد لا يكون شركاً عندهم .
فاتخاذ الوسائط بالسؤال والطلب ليس شركاً بمجرد طلب غير الله مالا يقدر عليه إلا الله مثلاً، بل لابد أن يتضمن ذلك اعتقاد استقلالية المطلوب وقدرته على الاختراع الذي هو حقيقة الألوهية عندهم .
وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله ليس شركاً لذاته عندهم إلا إذا تضمن اعتقاد استحقاق العبادة لمن صرفت له .
وهذا مما يعلم بطلانه بصريح الكتاب والسنة وواقع ما كان عليه المشركون. فقد كانوا معتقدين أن الله هو الخالق والرازق ونحو ذلك من خصائص الربوبية. لكن شركهم كان من جهة الإرادة، إما من جهة الشرك في الغايات، أو في الوسائط والأسباب .
وهذا هو معنى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام /1] .
فالمشركون يعدلون به غيره في المحبة والإجلال والتعظيم .
وهذا هو معنى قول الله تعالى " {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف / 106] .
ص135(1/100)
وهذه حقيقة التسوية المذكورة في قوله تعالى فيما أخبر به عن المشركين حين يقولون لمعبوديهم يوم القيامة: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء / 97-98] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأليه واتباع ما شرعوا، لا في الخلق والقدرة والربوبية، وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار كقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } .
وأصح القولين أن المعنى: ثم كفوا بربهم يعدلون، فيجعلون له عدلاً يحبونه ويقدسونه ويعبدونه كما يعبدون الله) (150) .
وهذه المعالم المجملة لابد من بيان القول فيها بذكر أنواع الشرك على التفصيل .
ص136
1- الشرك الاعتقادي :
وهو اعتقاد شريك مع الله، بإثبات ما هو خاص بالله تعالى لغيره، سواء كان ذلك الاعتقاد مناقضاً لوحدانية الله في ذاته أو أسمائه وصفاته أو أفعاله .
1-ويكون الشرك المناقض لوحدانية الذات باعتقاد وجود أكثر من إله .
وقد رد الله هذا الشرك وأبطله ببيان أن الذي يكون رباً حقاً لا يمكن أن يشاركه أحد في إيجاده للمخلوقات وملكه لها .
فوجوب رب ليس له كل الخلق والملك قدح في استحقاقه للربوبية، لأن الرب الحق هو خالق كل ما عداه، والرب الخالق لا يمكن بحال أن يكون مربوباً مخلوقاً بحال، بل لابد أن يكون رب كل شيء وخالق كل شيء .
وقد بين الله بطلان ربوبية الآلهة المعبودة من دونه بأنها مخلوقة مربوبة، وأنها لو كانت لها الربوبية والخلق فعلاً لابتغت سبيلاً إلى مغالبة الله على ملكه وسلطانه، كما قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء /42]. قال سفيان الثوري: أي لتعاطوا سلطانه (151) .(1/101)
وذلك أن الرب حقاً هو من كانت له القدرة مطلقاً على جميع المخلوقات، فلا يكون الرب داخلاً في قدرة غير وسلطانه مطلقا، وإلا لم يكن ربا .
ص137
يبين ذلك قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون /91] .
والمعنى أنه لو قدر وجود آلهة غير الله لامتاز كل إله بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر، فلم تنتظم المخلوقات، والواقع بخلاف ذلك، وهو أنها منتظمة لا اختلاف فيها، فدل ذلك على أن الإله ليس إلا واحداً .
يقول الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: ( يقول: إذن لاعتزل كل إله منهم بما خلق من شيء فانفرد به، ولتغالبوا فلعلا بعضهم على بعض، وغلب القوي منهم الضعيف، لأن القوي لا يرضى أن يعلوه ضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلهاً، فسبحان الله ما أبلغها من حجة و أوجزها لمن عقل وتدبر) (152).
وهذا الذي تقدم هو معنى قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء/22] .
ومعلوم وجود آلهة معبودة بغير حق، فهذا لا ينفى وليس هو المقصود بالآية، وإنما المقصود أنه لو كان في السموات والأرض آلهة بحق لما لها من الربوبية لحصل الفساد فيهما، لعدم انتظامها، لانفراد كل رب بما خلق، وهذا خلاف الواقع، وهو أنه لا فساد فيهما، فلابد أن يكون الإله المستحق للعبادة الذي هو الرب حقاً واحداً لا أكثر. وأن كل إله معبود غيره باطل غير مستحق للعبادة .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض) (153) .
ص138(1/102)
وبحجة انفراد الله بالربوبية والقدرة والخلق رد الله شرك النصارى الذين قالوا بألوهية عيسى عليه السلام. قال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة /17] .
فإذا كان عيسى عليه السلام لا يقدر على الامتناع من إيقاع الإهلاك به فكيف يكون ربا حلت فيه حقيقة الإله التي يسمونها اللاهوت؟ إنما هو مخلوق مربوب لأنه ليس له الملك والسلطان الذي يدفع به عن نفسه الهلاك. يقول تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة /73] .
2- وأما الشرك في الصفات والأفعال فيكون باعتقاد شريك له في ذلك، فكما أن لله الوحدانية في الذات فكذلك له الوحدانية في الأسماء والصفات والأفعال. فله سبحانه وتعالى الكمال المطلق في ذلك بحيث لا يتصور فيه نقص بحال .
يقول الله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [الشورى /11] .
بل هو سبحانه متصف بالكمال المطلق، لا يشركه فيه غيره، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل /60] .
يقول الإمام ابن كثير في تفسيرها: (أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه) (154) .
ص139
ومثله قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل /74]. ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالاً) (155) .(1/103)
وقال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1}اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{. والأحدية هنا ليست مجرد تقرير أنه واحد، بل المعنى أنه المتفرد المتوحد بصفات الكمال المطلق، بحيث لا يشاركه في ذلك غيره .
وكما أن الله هو المتفرد بصفات الكمال فهو أيضاً المتفرد بربوبية خلقة. وربوبية الله لخلقه تشمل ما يختص به الله وحده من معاني الربوبية، وهي الخلق والملك والتدبير والإنعام. ولذلك كانت هذه الخصائص هي الدلائل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة .
وعلى هذا. فإثبات صفة من صفات الله أو أفعال أو ما يختص به لغيره شرك في الربوبية، ولو مع اعتقاد تلك الصفة للرب، واعتقاد أن الموصوف بتلك الصفة مخلوق وليس ربا .
فمن وصف مخلوقاً بأنه يعلم الغيب، أو أنه يتصرف في خلق الله بما لا يقدر عليه إلا الله، أو نحو ذلك من صفات الكمال الذاتية أو الفعلية، أو ما يتعلق بخصائص الربوبية فقد أشرك بالله في ربوبيته .
ومما يمكن التمثيل به هنا فيما يتعلق باعتقاد التصريف والتدبير لغير الله قول الخميني عن الأئمة عنده: (إن للإمام مقاماً محموداً، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون. وإن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول
ص140
الأعظم صلى الله عليه وسلم والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنواراً فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى مالا يعلمه إلا الله. وقد قال جبرائيل - كما ورد في روايات المعراج -: لو دنوت أنملة لاحترقت، وقد ورد عنهم (ع): أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل. ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام، لا بمعنى أنها خليفة أو حاكمة أو قاضية، فهذه المنزلة شيء آخر وراء الولاية والخلافة والإمرة ... ) (156) .(1/104)
فالأئمة عند الخميني - إمام الرافضة - لهم سلطان على جميع ذرات الكون، فالكون بذلك خاضع لولايتهم وسيطرتهم الكونية .
فأي شرك في الربوبية أعظم من هذا الشرك .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: ( وقد فهم الأذكياء من غير المسلمين نتيجة هذه العقيدة ولوازمها الفاسدة، يقول البطريق هوجيس: إن الشيعة إنما يخلعون على الأئمة صفات الله تعالى) (157) .
ومما يمكن التمثيل به هنا أيضاً فيما يتعلق بما يختص به الله ولا ينبغي لغيره أمر التشريع والتحليل والتحريم. فذلك لله وحده كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف /54]. فكما أن الله هو الخالق عز وجل فهو صاحب الأمر الكوني والأمر الشرعي. والحكم الكوني والحكم الشرعي .
ولذلك سمى الله الذين يتخذهم الناس مشرعين شركاء فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى/21]. فإذا لم يكن الله قد شرع لهم. فالتزامهم بشريعة أحد غيره يلزم منه
ص141
اتخاذ شريك مع الله، فلزم أن يكون ما تمسكوا به باطلاً لا أصل له، وأن يكونوا قد وقعوا في الشرك .
وهذا هو معنى قول الله تعالى عن أهل الكتاب: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة/31]. فهم لم يكونوا يسجدون لأحبارهم ورهبانهم، ولا يتقربون إليهم بالشعائر، وإنما كانوا يطيعون بالرضى بما يضعونه من التشريع من دون الله، ويقبلون منهم ذلك. مع علمهم بذلك .
ومقتضى اعتقاد الرافضة أيضاً أن للحاكم تعطيل ما يشاء من أحكام الإسلام إذا رأى أن ذلك من مصلحة الحكومة .(1/105)
يقول الخميني مبرراً ذلك: (إن الحكومة هي فرع من ولاية رسول الله المستقيمة، ومن أحكام الإسلام الأولية، ومقدمة على جميع الحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج، فيجوز للحاكم أن يعطل المساجد عند اللزوم ويخرب مسجداً. ويستطيع أن يلغي أي حكم من أحكام الإسلام - سواء كان من العبادات أو من غير العبادات - إذا كان مخالفاً لمصالح الإسلام، ويعطل الحج الذي هو من فرائض الإسلام المهمة إذا اقتضت ذلك مصلحة المملكة الإسلامية، لأن هذه الحكومية هي ولاية إلهية مطلقة ) ( 158)
ص142
2- شرك الطلب :
وحقيقة اتخاذ واسطة بين المخلوق والخالق، سواء كانت تلك الواسطة فيما يتعلق بالتدبير والتصريف، أو فيما يتعلق بالتشفع إلى الله بتقريب طالب الشفاعة .
واتخاذ تلك الوسائط قد يكون بتعلق القلب بها من جهة الاستعانة وطلب جلب الخير منها ودفع الضر بها فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وقد يكون بالتقرب إليها بالعبادة رجاء خيرها ودفع الضر بها أيضاً .
وليس معنى اتخاذ وسائط من دون الله أن يعتقد فيها الاستقلالية بالتأثير، بل المشرك هو من اعتقد لغير الله من تلك الوسائط ما هو خاص بالله وحده .
فهو حين يتخذ الوسائط لا ينكر أن الله هو الخالق وهو المدبر والمصرف لجميع مخلوقاته، وهو الكامل المطلق المستحق للألوهية والعبادة. وإنما يتخذ الوسائط ظناً أنها تكون مصدر خير وعطاء لمن كان له بها علاقة .
وهذا الظن في تلك الوسائط مصدره أن لها منزلة عند الله تعطي بها من تشاء ما تشاء وتقرب إلى الله من تشاء .
وعلى هذا يستعين بها المشرك في قضاء حاجاته وطلب القرب من الله، لا أنه يعتقد فيها أنها تخلق ونحو ذلك من صفات الربوبية وخصائصها .
وهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى عن المشركين في سبب عبادتهم
ص143
لأصنامهم وأنهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر /3].(1/106)
يقول قتادة رحمه الله: (كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا: الله. فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام ؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده) (159) .
لكن المشركين لم يكتفوا باتخاذ الوسائط حتى اتخذوا ما يذكرهم بها من المحسوسات من أصنام وأحجار وكهوف ومغارات وغير ذلك تعلقوا بها انحرافاً في الخيال وتعلقا بالوهم .
وعلى هذا فلا اعتبار لتلك الأحجار والأشجار ونحو ذلك لذاتها هي، وإنما لأجل تعلقها بما اتخذوه واسطة بينهم وبين الله. وقد يصورون الصنم ثم يتخذون غيره مكانه، لأن ما اتخذوه لأجله لا يتعدى مجرد التذكير بالوسائط الأصلية .
والشرك باتخاذ الوسائط طلباً للرزق والعطاء هو شرك قوم إبراهيم عليه السلام، الذين صوروا أصناماً على هيئة الكواكب يدعونها ويستجلبون منها الخير .
وهذا الشرك هو أصل التنجيم الذي حقيقته النظر في أثر الكواكب والنجوم على حياة البشر من جهة السعادة والشقاوة .
وأما الشرك باتخاذ الوسائط طلباً للرزق والعطاء هو شرك قوم إبراهيم عليه السلام، الذين صوروا أصناماً على هيئة الكواكب يدعونها ويستجلبون منها الخير .
وهذا الشرك هو أصل التنجيم الذي حقيقته النظر في أثر الكواكب والنجوم على حياة البشر من جهة السعادة والشقاوة .
وأما الشرك باتخاذ الوسائط من جهة التقديس والتعظيم والتشفع فهو شرك قوم نوح عليه السلام .
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح / 24] .
ص144
( أسماء رجال صالحين، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت) (160) .
وبهذا يظهر من حيث الجملة حكم اتخاذ الوسائط، وأنه شرك في الربوبية. فضلاً عن كونه شركاً في الألوهية .(1/107)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين ) (161) .
وقد أبطل الله هذا الشرك بتقرير حقيقتين :
الأولى :
إنه لا يملك أحد الشفاعة عنده إلا إذا أذن بذلك، أما أن يكون مجرد جاه الشافع ومنزلته موجبة لحصول المراد من الله، ومرجحاً في تحقيق المطلوب، أراد الله أو لم يرد، فهذا لا يكون. لأن نفاذ إرادة المخلوق على الخالق نوع ملك للمخلوق، وهي تقييد فرادة الخالق بينما هي إرادة مطلقة نافذة على جميع الخلق .
إنه عز وجل مالك الملك ورب جميع المخلوقات، وأن له التصريف والتدبير مطلقاً، وبذلك يعلم بطلان شرك اتخاذ الوسائط رجاء
ص145
النفع بالرزق والعطاء، وهذا هو مقتضى عموم قدرته عز وجل. ولابد من تفصيل القول في هاتين الحقيقتين :
***
أولاً: شرك الشفاعة :
وحقيقته: طلب الشفاعة من غير الله تعالى، على جهة أن المطلوب يملك الشفاعة ويستحق الإجابة على الله، وأن للشافع حقاً على الله تعالى، كما يكون من شفاعة من لهم جاه ومنزلة عند الملوك، فقد يجيبونهم إلى ما شفعوا فيه وإن كانوا يكرهون ذلك، وإنما أجابوهم رغبة أو رهبة، وذلك ولا شك تنقص لربوبية الله تعالى، وتقييد لإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى. فالكلام في استحقاق الله للشفاعة وكونها حق خالص له وحده فرع من الكلام في إرادة الله وعمومتها وشمولها، وكونها نافذة في جميع مخلوقاته .
فمن أثبت لغير الله حق الشفاعة عند الله فقد قيد إرادة الله بإرادة المخلوق، وجعل إرادة المخلوق نافذة وحاكمة على إرادة الله سبحانه بينما المخلوق هو الذي لا يكون له فعل إلا بإرادة الله تعالى، فمشيئة المخلوق محكومة بمشيئة الله، وقد قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير /29] .(1/108)
فالعبد هو الذي تقيد مشيئته بمشيئة الله، وليس الله هو الذي تقيد مشيئته بمشيئة العبد .
ولأن مشيئة الله نافذة على كل مخلوق، وهو سبحانه لا مكره له، ولا استحقاق لأحد عليه، فمقتضى ذلك أن لا يكون لأحد حق الشفاعة عنده، بل الشفاعة لله وحده، يأذن فيها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء .
ص146
ولهذا نفى الله أن يكون غيره يملك الشفاعة من دونه في آيات كثيرة فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة /4] .
وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر / 18] .
ويقول تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [43-44] .
وقال تعالى: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام /51] .
ويقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس/18]. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة .(1/109)
وقد فهم الوعيدية من الخوارج والمعتزلة هذه الآيات وأمثالها على أنها دالة على نفي الشفاعة مطلقاً، ولم يفرقوا بين الشفاعة المنفية التي هي بمعنى نفي ملكية الشفاعة بغير إذن الله واستحقاق الإجابة على الله، وبين الشفاعة التي يأذن فيها لمن يشاء من عباده كما وردت في ذلك نصوص أخرى .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التفريق بين الشفاعة المنفية والشفاعة المثبتة: (الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته. فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعاً له أي تابعاً له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة
ص147
ويكون الأمر كله للآمر المسؤول) (162) .
والله مع أنه مالك الشفاعة فإنه قد يأذن فيها لمن يشاء من عباده، ولا يلزم من ذلك أن يكون المأذون له في الشفاعة قد ملكها مع الله، بل هي لله وحده قبل الإذن وبعده. وإنما يكرم بها الله بعض عباده ويشرفهم فيقبل شفاعتهم إذا كانت شفاعتهم عنده مرضية شرعاً .
كما أنه لا يلزم أن من أذن الله له في الشفاعة وأكرمه بذلك أن يكون الإذن له مطلقاً، لأنه لا فرق في الحقيقة بين ملكية الشفاعة والإذن المطلق فيها، وإنما يكون الإذن مقيداً في كل شفاعة على الخصوص .
ولهذا لم يقبل شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أمه، ولا في أن يستغفر لبعض المنافقين، كما لم يؤذن لإبراهيم عليه السلام في أبيه، ولا لنوح عليه السلام في إبنه، مع أنهم أعظم الناس جاها ومنزلة عند الله، وإنما منع قبول الشفاعة منهم عدم رضى الله عن عمل المشفوع لهم، لكونهم على الكفر، وسيأتي الكلام عن هذا قريباً .(1/110)
ومن كل ما تقدم تبين أن من جعل المرجح والأصل في قبول الشفاعة مجرد إرادة الشافع، وأنه يشفع عند الله كما يشفع خواص الملوك ومن لهم منزلة عندهم، فإنه يكون بذلك مشركاً، لأنه قد جعل على الله ضرورة من غيره، وقيد إرادة الله ومشيئته بإرادة المخلوق، مهما يكن جاهه ومنزلته عند الله .
وحقيقة الإذن للشافع في الشفاعة أن يقبل الله منه شفاعته فتكون نافعة كما في قوله تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ/23]. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه /109] .
والمقصود من الآيتين أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا شفاعة من أذن
ص148
له فقبل شفاعته التي تتضمن الشفاعة بما يحبه الله. فالشفاعة إنما تكون نافعة إذا قبلها الله وأذن للشافع فيها إذنا شرعياً، والله لا يأذن فيها الإذن الشرعي إلا إذا كانت شفاعة بما يحبه ويرضاه .
فلابد من الإذن للشافع والرضى عنه، ولابد أن تكون الشفاعة موافقة لشرع الله، وهذان هما شرطا الشفاعة المقبولة .
1-فأما اشتراط الرضى عن الشافع والإذن له فقد ورد في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف/86] .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (هذا استثناء منقطع. أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له) (163) .
فليس المقصود نفي الشفاعة مطلقاً، لوجود الاستثناء فيها، وليس الاستثناء متصلاً، لأن المأذون له في الشفاعة لا يؤذن له فيها إذنا مطلقاً ولا يملكها بمجرد الإذن فيها .
ومما ورد في ذلك من الآيات أيضاً قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم /87] .(1/111)
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [الأنبياء /28] .
فرضى الله عن الشافع شرط في الإذن له في الشفاعة. ومثلها قوله تعالى: {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [ النجم /26] .
هذا فيما يتعلق بالإذن للشافع والرضى عنه .
2- وأما شرط أن تكون الشفاعة مرضية لله أيضاً فقد جاءت آيات
ص149
تنص على ذلك، كمثل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه /109] .
وقد تقدم أن الإذن للشافع لا يكون إلا إذا رضي الله عنه، ولا يرضى عنه إلا إذا كان على التوحيد. وأما رضى الله لقوله فالمقصود رضاه لشفاعته، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت حقاً وصواباً. وقوله تعالى: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} موافق لقوله تعالى في الآية الأخرى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا {37} يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا {38}} [النبأ / 37-38]. فإذا لم تكن الشفاعة بالحق والصواب لم تقبل، ولو تحقق الشرط الأول الذي هو الرضى عن الشافع .
ولهذا لم يقبل الله شفاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أن يستغفر لأمه ، بل قال صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن استغفر لها فلم يأذن لي ) (164) .
ولم يأذن الله له صلى الله عليه وسلم ولم يقبل شفاعته في بعض المنافقين مع استغفاره لهم، بل قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة/80] .(1/112)
فلم تقبل شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمه، ولا في أولئك المنافقين، لأنهم على الكفر، والكافر لا يغفر الله له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء /48] .
ومثل ذلك شفاعته إبراهيم عليه السلام في أبيه أن يدخله الله الجنة فلم يقبل شفاعته، وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
ص150
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون. فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين " (165) .
فالسبب في عدم قبول شفاعة إبراهيم عليه السلام مع عظيم منزلته عند الله هو كفر أبيه وأن الله لا يدخل من كان كافراً الجنة .
ومثل ذلك أيضاً شفاعة نوح عليه السلام في ابنه أن ينجيه الله من العذاب العام الذي حل بالقوم الكافرين الذين كذبوه وكان منهم ابنه. قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود / 45/46) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً) (166) .
ثانياً: الشرك بسؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله :
خلق الله المحلوقات على مقتضى أسباب وسنن جارية قدرها الله تعالى. وهو مع ذلك خالق نتائجها لا تستقل تلك الأسباب بإيجاد نتائجها بنفسها .
وعلى هذا فاعتبار استقلالية السنن بإيجاد الموجودات شرك في التوحيد، وتعطيل تلك السنن والأسباب عن أن تكون أسباباً قدح في العقل، لأن هذا من العلم الضروري. ويدخل في جملة تلك الأسباب(1/113)
ص151
قدرة الإنسان واستطاعته، التي هي مناط تكليفه، كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة / 286] .
وإذا كان اعتقاد استقلالية الأسباب بإيجاد نتائجها شركاً فإن تعلق القلب بمخلوق والطلب منه مالا يقدر عليه إلا الله شرك أيضاً. ووجه ذلك أن ما لا يقدر عليه إلا الله لا يسأل إلا من الله وحده وسؤال ذلك من غيره فيه نسبة ما هو خاص بالله وحده لغيره من المخلوقين، كنسبة صفة من صفاته التي يخص بها لغيره من المخلوقين .
ولهذا كانت الطيرة شركاً، وكان تعليق التمائم شركاً، وكان قول مطرنا بنوء كذا شركاً، ونحو ذلك من التعلق بما ليس أسباباً في الحقيقة. ولو أن الشرك هنا قد يكون شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر بحسب تعلق القلب بتلك الأسباب .
والله تعالى مع أنه يجري الأمور في الغالب حسب السنن الجارية العادية فإنه قد يجعل سنناً خارقة للعادة، فيجعل أسباباً منتجة لما ليست له في الأصل، تنبيهاً لعباده أنه القادر على كل شيء، وتأييداً لبعض خلقه بآيات من ذلك .
ومن ذلك الآيات التي يؤيد الله بها رسله، التي تكون مخالفة للسنن الجارية، بحيث لا تكون مجرد استطاعتهم كافية في فعلها .
وعلى هذا فإن تلك الآيات والمعجزات والكرامات لا تنسب إلى من فعلها من الأنبياء وغيرهم إلا على جهة أنها معجزات أو كرامات، لا على أنها أفعالهم هم .
ومقتضى ذلك ألا يسأل الأنبياء وغيرهم ممن أيدهم الله بذلك أن يفعلوا شيئاً من ذلك على جهة نسبته إليهم، وأنهم يقدرون على فعله إذا شاؤوا .
ص152
فلا يقال عن موسى عليه السلام إنه قد فرق البحر بعصاه، ولا ينسب ذلك إليه إلا على جهة بيان أن ذلك مما أيده الله به من المعجزات الخارقة .(1/114)
ولا يقال أيضاً عن عيسى عليه السلام إنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً. بل إنما ينسب إليه ذلك على جهة بيان أن ذلك مما أيده الله به من المعجزات .
ولهذا تكرر بيان أن ذلك كان بإذن الله بعد كل آيه يذكر أنه أيده بها الله تأكيداً لهذا المعنى، قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ..... الآية } [آل عمران / 49] .
ومعلوم أن عيسى عليه السلام وجميع المخلوقين لا يفعلون شيئاً إلا بإذن الله، ولو كان مما هو في استطاعتهم، لكن إنما تكرر بيان ذلك هنا لئلا يظن أن ذلك من فعله هو، وأنه ينسب إليه كما ينسب فعله الجاري على السنن العادية .
ولهذا لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما يقدر عليه، مع أنه كان مؤيداً بالمعجزات الكثيرة التي أظهرها الله تعالى على يديه، لعلمهم أن ذلك لا ينسب إليه على أنه فعله وأنه لا يستطيع أن يفعلها بمجرد إرادته .
وإنما كانوا يطلبون منه أن يدعو الله لهم، كما فعل ذلك الرجل الذي جاءه وهو يخطب فقال: يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قزعة فما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال. ثم جاءه في الجمعة الأخرى فقال: (يا رسول
ص153
الله: تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا. فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انجابت ) (167) .(1/115)
فهذا الرجل إنما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم أن ينزل المطر، لم يسأل هو أن يفعل ذلك، وكذلك لم يسأله الصحابة تكثير الطعام أو نبوع الماء من بين أصابعه أو شفاء المرضى أو شق القمر أو نحو ذلك من الآيات الكثيرة التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا فلا يستغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله، هذا في حال الحياة، فكيف إذا كان المطلوب منه ميتاً لا يجيب من دعاه. ولا يخرج عن هذا الباب قول ربيعة بن كعب رضي الله عنه وقد خيره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأله حاجة فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة) قال: "أو غير ذلك ؟" فقال: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" (168) .
فإن ربيعة رضي الله عنه لم يقصد أن يدخله النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، وأن ذلك في استطاعته، بل هذا مما لا يخطر على باله، وإنما أراد أن يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك .
وقد دلت على هذا الأصل الذي تقرر من أنه لا ينبغي سؤال غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله آيات كثيرة، كلها تبين عجز المخلوق عن إجابة من دعاه، وأن من استعان بغير الله وتوكل على غير الله بسؤال غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو فقد استعان بمن لا يقضي شيئاً، وإنما تعلق بالوهم والظن، كما قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [يونس/66] .
ص154
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}[العنكبوت/42] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف /197] .(1/116)
وقال تعالى : {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر / 38].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ {13} إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير { [فاطر/ 13-14] .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء / 56] .
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [الرعد /14] .
ويجمع ذلك كله: الآية الفاذة الجامعة وهي قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ... } [سبأ / 22-23] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (المشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل به من النفع، والنفع لا يكون إلا من فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكاً كان
ص155
شريكاً للمالك، فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده ) (169).
***(1/117)
إذا تقرر ما سبق من أن سؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله شرك من جهة كونه اتخاذ وسائط في جلب النفع ودفع الضر مما هو مختص بالله وحده، فقد ضل قوم في هذه المسألة حين ظنوا أن الشرك لا يكون إلا باعتقاد استقلال المطلوب منه في إيجاد مالا يقدر عليه إلا الله، لا مجرد اتخاذ واسطة في الطلب مع اعتقاد أن الخلق والتأثير لله وحده .
وأصل شبهتهم هو ما تقرر عندهم من حقيقة التوحيد الذي هو فيما يتعلق بهذه المسألة إفراد الله بالفاعلية والخلق، ثم ما رتبوه على ذلك من نفي قدره العباد أصلاً، تحقيقاً لإفراد الله بالقدرة على الإيجاد، ثم لما استقر عندهم أن هذه هي حقيقة التوحيد وأن هذا هو مقتضاه رتبوا عليه أن من سأل غير الله مالا يقدر عليه إلا الله فإنه لا يكون مشركاً بمجرد ذلك، ما لم يعتقد فيمن سأله الاستقلال بالخلق والقدرة من دون الله. وأن هذا لا يتعدى أن يكون خطأ في الأسباب كمن سأل مقعداً أن يعينه على حمل شيء ظناً منه أنه يقدر على ذلك ! .
يقول الشيخ الدجوي في تبرير شرك الطلب ( .... فالمستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالى أو راجع إليه، وذلك مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات فإن الله خالق كل شيء) (170)
ص156
ويقول النبهاني في ذلك أيضاً: (وأنت إذا نظرت إلى كل فرد من المسلمين عامتهم وخاصتهم لا تجد في نفس أحد منهم غير مجرد التقرب إلى الله لقضاء حاجاتهم الدنيوية والأخروية بالاستغاثات مع علمهم بأن الله هو الفعال المطلق المستحق للتعظيم بالأصالة وحده لا شريك له) (171) .
ويقول أحمد بن زيني دحلان: (الذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله، ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله ولا تأثير أحد سوى الله تعالى ) (172) .(1/118)
ويقول محمد المالكي: ( إنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله) (173) .
ويقول أيضاً عن حقيقة التوحيد والشرك: (الاعتقاد الصحيح أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده، فهو الخالق للعباد وأفعالهم، لا تأثير لأحد سواه، لا لحي ولا لميت، فهذا الاعتقاد هو التوحيد المحض، بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك ) (174) .
والحقيقة التي يجب التأكيد عليها هنا: أنه لم يقع في التاريخ الشرك باعتقاد استقلال أحد غير الله بالخلق والإيجاد، إلا ما يذكر عن الفلاسفة الذين يرون أن الموجودات قد وجدت بطريق الفيض الضروري عما يسمونه العقل الأول، ثم تتابع تسلسل الموجودات بطريق السببية الضرورية الحتمية من ذات الموجودات، لا من خلق الله وتدبيره الذي ليس له عندهم أي علاقة بالعالم لا علماً ولا إرادة ولا قدرة .
ص157
وأما الشرك الذي وقع فيه الجماهير من الناس قديماً وحديثاً فهو شرك الطلب منه العطاء والرزق مالك له على سبيل الاستقلال والخلق، بل على سبيل أن من يطلب منه ذلك قريب من الله، له عنده جاه ومنزلة، وأنه لذلك يعطي من يشاء ما شاء بمجرد إرادته هو .
وهذا هو الملك والشركة التي نفاها الله عز وجل في كتابه عن غيره لا مجرد ملك الاستقلال والخلق، مع أن هذا أيضاً شرك، بل هو أعظم من شرك الطلب .
إذا علم هذا فإن شرك الطلب من غير الله بهذا المفهوم هو قرين شرك الشفاعة، لكن شرك الشفاعة فيه رفع الشافع الطلب والدعاء إلى الله بحيث يستجيب الله للمشفوع له بمجرد إرادة الشافع، وشرك طلب الرزق والعطاء فيه استنزال الخير والعطاء من غير الله تعالى. ويجمعهما اعتقاد أن من سئل الشفاعة أو الرزق والعطاء نافذ الإرادة لأجل مكانته عند الله عز وجل. وهذه هي حقيقة الواسطة الشركية .(1/119)
يبين ما سبق أن مشركي قريش مع أنهم كانوا يطلبون من معبوداتهم رفع الشفاعة إلى الله، وجلب النفع ودفع الضر لم يكونوا يعتقدون فيهم أنهم مستقلون بالخلق والتدبير، بل صرحوا أنهم إنما اتخذوهم شفعاء لا غير .
يقول الله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس / 31] .
ويقول تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }[المؤمنون /88-89] .
فهم مقرون بأن الله هو مدبر الأمر، وأنه بيده ملكوت كل شيء،
ص158
ومع ذلك يطلبون الشفاعة وجلب النفع ودفع الضر من غيره، فأشركوا في الطلب لا في أصل الاعتقاد .
وشبهة هؤلاء المشركين فيما فعلوه هي أن هؤلاء الذين يطلبون منهم ذلك ويعبدونهم فليس ذلك على أنهم يخلقون ويرزقون ويدبرون الأمر على جهة الاستقلال عن الله، ولا على أنهم يستحقون العبادة لذاتها بل لأجل التقريب من الله .
يقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس/18] .
ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ... } [الزمر/3] .
ولكن هؤلاء المرجئة حين استقر عندهم أن الشرك لا يكون إلا باعتقاد الخلق والإيجاد لغير الله التزموا أن المشركين لم يكونوا صادقين في قولهم إن الله هو الخالق وهو مدبر الأمر !! ولم يكونوا جادين في أنهم إنما يعبدون غير الله من أجل التقريب والشفاعة، لا على جهة استحقاق العبادة من دون الله !! (175) .(1/120)
ولكن إذا لم يكونوا صادقين ولا جادين أفليس الله صادقاً في الإخبار عنهم بذلك ؟ .
وهؤلاء الذين ظنوا أن التوحيد هنا مجرد إفراد الله بالخالقية، وأن سؤال غير الله مالا يقدر عليه إلا الله لا يكون شركاً إلا إذا تضمن اعتقاد استقلال المسؤول بالإيجاد والخلق من دون الله قد رتبوا على هذه المقدمة نتيجة فيما يتعلق بالحكم على المعين الذي يسأل غير الله مالا
ص159
يقدر عليه إلا الله، فقالوا: إن الأصل فيمن قال ذلك أنه موحد لم يعتقد فيمن سأله الاستقلال بالخلق والإيجاد، وهذه القرينة كافية لصرف ظاهر كلام من يسند شيئاً إلى غير الله عن حقيقته، وأنه وإن قال ذلك فإنه في الحقيقة لم يعتقده، فوجب اعتبار المجاز، ومحمل الكلام على ذلك لأجل تلك القرينة .
يقول محمد علوي مالكي: (إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل إلى تكفيرهم ) (176).
ويقول محمد الظاهر: (إذا وجد في كلام المسلمين إسناد شيء لغير الله يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل لتكفير أحد من المسلمين، فإذا قال العامي من المسلمين: نفعني النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو الولي، فإنما يريد الإسناد المجازي والقرينة على ذلك أنه مسلم موحد لا يعتقد التأثير إلا لله وحده لا لغيره ) (177 .
ويقول آخر: ( هؤلاء مهما عظموا الأنبياء والأولياء فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جانب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه ) (178) .
وظاهر من كلام هؤلاء أن الشرك لا يكون باتخاذ الوسائط مطلقاً وإنما يكون باعتقاد الخلق والإيجاد لغير الله وقد تقدم بطلان هذا قريباً .
ثم إن ما قالوه من وجوب صرف كلام من أسند شيئاً لغير الله إلى
ص160(1/121)
المجاز وعدم الاعتقاد بالظاهر يستلزم ألا تكفر أحداً بقول مطلقاً، لاحتمال المجاز إما بالحذف وإما بالإضافة وإما بتغيير المعنى، ولا معنى لتخصيص الأخذ بالمجاز في قضية دون أخرى، لأن قرينة الوحدة الصارفة للكلام عن حقيقته هنا متحققة في كل من نطق بما هو كفر من المسلمين. هذا من حيث العموم .
وأما من حيث النظر اعتباراً المجاز في سؤال غير الله مالا يقدر عليه إلا الله فإنه خلاف الواقع الضروري الذي لا يمكن اعتبار المجاز معه .
وهذه أمثلة من الاستغاثات بغير الله يعلم قطعاً أن تعيين المخلوق بالطلب وإسناد الفعل إليه متحقق ولابد عند السائل .
من ذلك ما ذكره الشعراني في طبقاته عن أحمد البدوي يقول: (وكان سيدي عبد العزيز إذا سئل عن سيدي أحمد رضي الله عنه يقول: هو بحر لا يدرك له قرار، وأخباره ومجيئه بالأسرى من بلاد الإفرنج وإغاثة الناس من قطاع الطريق، وحيلولته بينهم وبين من استنجد به لا تحويها الدفاتر رضي الله عنه .
قلت: (يعني الشعراني): وقد شاهدت أنا بعيني سنة خمس وأربعون وتسعمائة أسيراً على منارة عبد العال رضي الله عنه مقيداً مغلولاً وهو مخبط العقل فسألته عن ذلك فقال: بينما أنا في بلاد الإفرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد فإذا أنا به فأخذني وطار بي في الهواء فوضعني هنا. فمكثت يومين ورأسه دائرة من شدة الخطفة) (179). عن أحمد البدوي يقول الشعراني أيضاً: (أخبرنا الشيخ محمد الشناوي رضي الله عنه أن شخصاً أنكر حضور (مولده أي مولد
ص161
البدوي) فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد رضي الله عنه فقال: بشرط ألا تعود ! فقال نعم، فرد عليه ثوب إيمانه) (180) .
وعن البدوي أيضاً ينقل الشعراني قوله: (وعزة ربي ما عصى أحد في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته، وإذا كنت أرى الوحوش والسمك في البحار وأحميهم من بعضهم بعضاً أفيعجزني الله عن حماية من يحضر مولدي) (181) .(1/122)
كل هذا عن رجل واحد وإلا فحكايات المستغيثين بالمخلوقين ونسبتها صراحة لغير الله، واعتقاد أمور لا يمكن بحال أن يقدر عليها إلا الله لا حصر لها .
فهل يقال إن ذلك أيضاً مما يعتبر فيه المجاز ؟!
والخلاصة: أن كل ما التزموه هنا من عدم التكفير بما هو كفر إنما هو نتيجة ضرورية لما قرروه في حقيقة التوحيد، إذ هو عندهم اعتقدي فقط .
وعلى هذا فلا اعتبار للإرادة التي يلزم عنها العمل في تحقيقه ومسماه .
فكما قالوا في تحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إنه مجرد تصديقه فكذلك قالوا في توحيد الله تعالى أنه مجرد اعتقاد وحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، دون النظر، إلى مجرد الاعتقاد بذلك لا يكفي في تحقيق التوحيد، بل حقيقة التوحيد وأصل الدين الذي أرسل الله من أجله الرسل وأنزل الكتب أمر وراء ذلك، ألا وهو إخلاص الدين لله
صـ162
وحده، وعدم مناقضته بأي قول أو عمل ظاهر، سواء كان ذلك الشرك الظاهر من جهة اتخاذ الوسائط في التشفع والطلب، أو كان من جهة صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى .
ولهذا لما أظهر الله الحق بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكان المتكلمون قد غلبوا على ديار الإسلام، وفشا فيها الشرك، من الاستغاثة بالأموات والذبح لهم وغير ذلك، اتخذوه عدواً واتهموه بأنه خارجي، وأنه يكفر المسلمين بما ليس كفراً، وأنه يقاتل المسلمين ويستحل دماءهم، ولم تزل افتراءاتهم بالباطل قائمة حتى اليوم، لكن الله قد أخنس دعاتهم بما ظهر وانتشر من الحق بعد أن كان غريباً لا يعرفه إلا القليل من الناس .
صـ163
3- شرك النية والإرادة والقصد .
لا يمكن أن يعيش الإنسان في هذه الحياة دون أن يكون له غاية يسعى إليها، ومراد مطلوب محبوب يكون نهاية أمله، وغاية قصده، وباعث سعيه وكدحه .
وهذه حقيقة نفسية لكل إنسان من حيث هو إنسان، فلا يمكن تخلف ذلك مطلقاً، بل هو من صميم التكوين الفطري الذي خلق الله الإنسان عليه .(1/123)
وعلى هذا فالناس لا يختلفون من جهة أن بعضهم لهم إرادات وغايات وبعضهم ليس كذلك، وإنما يختلفون في توجيه إرادتهم وما ينشأ عن ذلك من الاختلاف في غايتهم ومنتهى إرادتهم .
ولهذا كان أصدق الأسماء كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحارث وهمام) (182). لمطابقة ذلك الوصف لحقيقة النفس الإنسانية، وكون كل إنسان حارث عامل همام مريد. بصرف النظر عن كون ذلك الحرث والهم في حق أو باطل. بل مجرد وصفه بذلك هو تقرير للحقيقة كما هي، دون أن يستلزم ذلك مدحاً أو ذماً. وإنما يكون المدح والذم بحسب تحديد المراد والغاية التي يختلف الناس فيها .
ومن فضل الله ورحمته أن فطر كل إنسان على توحيده وابتغاء وجهه بحيث يكون ذلك أصلاً يولد عليه كل مولود .
وهذا هو معنى حديث الفطرة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد
صـ164
على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (183). فالفطرة هي الإسلام الذي أصله توحيد الله بالإرادة والمحبة، و أما الأديان المحرفة فهي مخالفة للفطرة، وانحراف عن الأصل الذي هو الإسلام .
ولهذا فإن القلب لا يمكن أن يطمئن ويستقر إلا إلى ما فطره الله عليه من إرادته ومحبته وحده. وكل إرادة ومحبة لغير الله فهي عذاب وصرف للفطرة عن أصلها، مهما يكن المراد المحبوب .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) (184). مع أنه دعاء بالتعاسة والانتكاس لمن كان عبداً للدينار فإنه أيضاً تقرير لواقع حاصل، وهو أن كل من كان معبوده المال فلابد أن يكون حاله من تعاسة إلى تعاسة، ومن انتكاس إلى انتكاس، لمخالفته لحقيقة فطرته بحب الله وإرادة وجهه وحدة .(1/124)
وهذه الإرادة والمحبة شاملة لحياة الإنسان كلها دون استثناء، وهي حقيقة العبودية وتحقيق الألوهية لله تعالى، والحكمة من خلق الله للإنسان كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات/ 56] .
ومع أن إرادة الله ومحبته هي الأصل الذي خلق عليه كل إنسان فإن الله قد شاء - لحكمه يعلمها - أن تكون عبادة الإنسان اختيارية، بحيث يمكن أن يفعل الشر كما يمكن أن يفعل الخير، فخلقه مهيأ لذلك .
قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس / 7-10] .
صـ165
ويقول تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان / 3] .
ويقول تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد / 10].
ولأجل هذا زين الله الحياة الدنيا ليتحقق الابتلاء، فلا يخلص لله إلا من تجاوز مغريات الدنيا الفاتنة، وجعل محبوبه ومراده هو الله وحده. وهذا هو معنى كون الجنة محفوفة بالمكاره، وكون النار محفوفة بالشهوات.
فالإنسان وهو في الحياة الدنيا بين خيارين، إما أن يريد الله والدار الآخرة، وإما أن تغره الدنيا فيكتفي بها، وتكون هي مراده و مطلوبه فتشغله شهواتها عن أن يخلص إرادته ومحبته لله .(1/125)
يقول تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ {14} قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ { [آل عمران /14 -15] .
ويقول تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الكهف / 7] .
ويقول تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف / 46] .
ويقول تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص / 60] .
ويقول تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر /39] .
صـ166
ومجموع هذه الدوافع الفطرية التي خلق كل إنسان على إمكان الاستجابة لها تتلخص في اتباع الهوى وحب الحياة والاكتفاء بها، واتخاذها غاية ومراداً محبوباً تنتهي عنده الآمال .
إن الإنسان - كل إنسان - واقع بين هذين الخيارين، وإما أن يختار الله والدار الآخرة والنعيم الأبدي الذي هو علم الغيب، وإما أن يختار الدنيا وزينتها وما فيها من نعيم حاضر، تكون الحياة هي كل أمله ونهاية مطلوبة، وفي سبيلها يسعى ويكدح .(1/126)
وهنا حقيقة مهمة، وهي أنه لا يمكن الزهد في الدنيا إلا بإخلاص الإرادة والمحبة لله وحده، وأن من ضعف إخلاصه لله زاد تعلقه بالدنيا ولا بد. فالقلب لا يفرغ عن الإرادة والمحبة مطلقاً، فمتى لم تتجه إرادته لله لغيره، ومن لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره ولا بد، فالقلب - كما تقدم - لابد له من محبوب مراد، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، وليس الحق إلا بإرادة الله وحده، والباطل كل مراد غيره ليست إرادته لأجله عز وجل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غير الله، فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصدق الأسماء حارث وهمام) والحارث الكاسب والهمام فعال من الهم. والهم أول الإرادة. فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلابد لها من مراد تنتهي إليه.
فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب، إما المال والجاه، وإما القصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس
صـ167
والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عبد من دون الله .
... بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعد من ذلك) (185).(1/127)
(ومن لم يكن مخلصاً لله عبداً له قد صار قلبه مستعبداً لربه وحده لا شريك له بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً خاضعاً له وإلا استبعدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه) (186) .
وهكذا يكون كل إنسان عابداً ولابد، لأنه مريد ولابد، والإرادة الناشئة عن محبة الله والافتقار إليه هي أصل الألوهية وحقيقة العبادة، فمن لم تكن عبوديته لله كانت لغيره أياً كان ذلك المعبود المراد.
ولهذا جاء في كتاب الله كثيراً المقابلة بين الإيمان بالله والدار الآخرة، وبين الاغترار بالدنيا والاطمئنان إليها. دلالة على أن من لم تكن عبوديته لله ومراده رضوان الله والدار الآخرة. فإنه يكون عبداً ولابد للدنيا، حيث آثرها وأحبها ورضي بها عن الدار الآخرة .
ولهذا سمى الرسول صلى الله عليه وسلم محب المال عبداً للدرهم والدينار، لأن العبودية عبودية القلب، وأصل العبودية حب المعبود واتخاذه غاية وإلهاً ومطلوباً مراداً .
صـ168
ولهذا كله كان من انصرف إلى الدنيا وآثرها عبداً لها، مشركاً في الألوهية، خالداً في النار، ويدل لذلك آيات كثيرة منها :
قول الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ {15} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود / 15- 16] .
وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى / 20] .(1/128)
وقوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء / 18] .
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38}فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39}وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40}فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات / 37-41]. وغير ذلك من الآيات ما في معناها كثير .
ومما ينبغي التأكيد عليه هنا أنه لابد من التفريق بين شرك الإرادة المستوجب للشرك الأكبر والخلود في النار، وبين الشرك الأصغر المستوجب لحبوط لعمل وإن لم يكن مخرجاً من الملة .
والضابط الفارق في ذلك هو النظر إلى النية والباعث على العمل، فمن كان عمله اتباعاً للهوى مطلقاً وإرادة الدنيا أصلاً كان مشركاً شركاً أكبر. ومن كان الباعث له على العمل حب الله وابتغاء رضوانه والدار الآخرة لكن دخل مع ذلك حب الجاه أو نحو ذلك من أسباب الرياء كان مشركاً شركاً أصغر .
صـ169
وهو الذي خافه الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته حيث قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال: الرياء) (187) .
وهذا الشرك يحبط العمل، وإن لم يكن صاحبه مشركاً شركاً أكبر. لأن شرط العمل المقبول أن يكون خالصاً لله موافقاً للسنة. فلو وافق السنة وكان الأصل به إرادة الله لكن دخل فيه الشرك من جهة تزيينه للناس لم يكن مقبولاً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) (188) .(1/129)
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا شئ)، فأعادها عليه ثلاث مرات. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا شئ) ثم قال: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وأبتغي به وجهه) (189) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضاً من عرض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا أجر له) فأعاد عليه ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أجر له). (190)
صـ170
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر) (191) .
وعن محمود بن لبيد (وهو من صغار الصحابة) رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس: إياكم وشرك السرائر) قالوا: يا رسول الله، ما شرك السرائر ؟ قال: (يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر) (192) .
فكل هذه الأحاديث تدل على أن الرياء وحب مدح الناس على الأعمال الصالحة، وتزيين العمل لأجلهم شرك أصغر يحبط معه العمل، وأن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لله تعالى .
صـ171
4-شرك التقرب والنسك .
كل ما ثبت أنه عبادة مشروعة وجوباً أو استحباباً فصرفها لغير الله شرك في العبودية، ومن تحقق منه ذلك كان مشركاً، سواء اعتقد مع ذلك استحقاق المعبود للعبادة من دون الله، أو اعتقد أنه لا يستحق العبادة لذاته، وإنما هو وسيط وشفيع إلى الله .
وذلك أن شرك العبادة لا يتضمن الشرك في الربوبية، لأن شرك العبادة متعلق بالإرادة ولازمها من العمل، وأما شرك الربوبية فمتعلق بالاعتقاد وإثبات الكمال لله في ذاته وصفاته وأفعاله .(1/130)
ولهذا ذكر الله عن المشركين أنهم كانوا في العبادة مع اعتقادهم بأن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد والرزق، وأن الذين يعبدونهم من دونه ليس لهم من ذلك شيء على جهة الاستقلال عن الله تعالى .
قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس / 31] .
فهم يعتقدون أن الله هو المتفرد بتدبير الأمور، لكنهم أشركوا بالله من جهة التوسط في الطلب أو العبادة. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة لمن تدبرها .
وهذا هو معنى قول الله تعالى عن المشركين: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف / 106].
يقول ابن عباس رضي الله عنه: (من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من
صـ172
خلق السموات، ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال ؟ قالوا: الله، وهم مشركون به) (193) .
فكما أن اعتقاد أن الله متفرد بالكمال في ذاته وصفاته وأفعاله لا يكفي في تحقيق التوحيد، بل لابد من إرادة الله بالقصد والعمل. فكذلك ليس الشرك محصوراً في الاعتقاد، بل هو شامل للشرك في الإرادة المستلزمة للعمل، بل إن الشرك في الإرادة هو حقيقة الشرك الذي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب من أجل إخراج الناس إلى توحيده وعبادته وحده، والعبادة ليست مجرد اعتقاد .
وغالب ما يكون من الذبح وتقريب القرابين والنذور لغير الله، فالغاية منه استجلاب الخير واستدفاع الضر ممن عبد بذلك .
وهذا الشرك مع أنه استغاثة بغير الله تعالى، ففيه عبادة غير الله بالتقرب والنسك الذي لا ينبغي صرفه إلا لله وحده، فهو ضلال وشرك في الطلب والعبادة معاً .(1/131)
ولهذا ورد كثيراً في كتاب الله نفي أن ينفع المعبودون من عبدوهم، بل ولا أن يضروهم شيئاً، وأن ذلك كله لله وحده، لا يملكه سواه، فلا يطلب غيره ولا يعبد غيره .
يقول الله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} [المائدة / 76] .
ويقول تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء / 66] .
ويقول تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ
صـ173
إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {16} إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت / 16 - 17] .
ويقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [النحل / 73] .
ونحو ذلك من الآيات كثير .
ومن جميع ما تقدم يتبين أن الشرك التقرب وعبادة غير الله ليس شركاً اعتقادياً يستلزم أن يكون المعبود عند من عبده مستحقاً للعبادة من دون الله، وإنما هو شرك في إرادة غير الله بالعبادة .
ولو كان من تحقق منه ذلك معتقداً أن الله هو الذي يستحق العبادة، وإنما يصرفها لغيره على جهة التوسط إلى الله لكان بذلك مشركاً به، سواء كان ذلك التوسط بالشفاعة عنده في قبول العبادة، أو في الشفاعة مطلقاً، أو رجاء نفع المعبود مع اعتقاد أنه ليس له التدبير والتصريف، وأن ذلك كله لله. لكن لجاه المعبود في كل - بحسب ظن المشرك - تصرف له العبادة التي هي حق الله الخالص .
وعلى هذا فكما يكون الشرك متعلقاً بالاعتقاد، فكذلك يكون بالإرادة والعمل، ولا فرق .(1/132)
لكن مرجئة المتكلمين لما ظنوا أن التوحيد هو مجرد اعتقاد وحدانية الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وأن ذلك مفهوم الألوهية، التزموا أنه لا شرك بالتقرب إلى غير الله بالعبادة إلا إذا تضمن اعتقاد استحقاق المعبود للعبادة من دون الله وأن المعبود متفرد بالخلق والتدبير .
واعتبار الإيمان مجرد اعتقاد أصل عام عندهم في التوحيد وفي الالتزام المجمل بالشريعة .
صـ174
فكما قالوا هنا أن التوحيد هو اعتقاد وحدانية الرب، فكذلك الالتزام بالشريعة هو مجرد اعتقاد أنها حق بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولهذا فإنه كما لم يكن عندهم شرك في الطلب والعبادة إلا باعتقاد ما يضاد حقيقة الوحدانية، لا بمجرد الشرك باتخاذ الواسطة، فكذلك لم يكن عندهم كفر بالتولي والإعراض وعدم الالتزام ما لم يكن ذلك عن تكذيب وجحود واستحلال، سواء في ذلك ما كان من جهة ترك العمل بالكلية، أو من جهة التشريع المضاد لحقيقة الالتزام المجمل .
وما يهمنا هنا في هذا المبحث هو كلامهم في حقيقة التوحيد والشرك، وأما ما يتعلق بالتزام المجمل بالشريعة وكلامهم فيه فله مجال آخر .
يقول الكمال بن الهمام في شرح المسامرة: (التوحيد هو اعتقاد الوحدانية في الذات والصفات والأفعال) (194).
ويقول الكستلي في حاشيته على شرح العقائد النسفية: (حقيقة التوحيد: اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصها، وأراد بالألوهية على ما صرح به: وجوب الوجود والقدم الذاتي، بمعنى عدم المسبوقية بالغير. وبخواصها: مثل تدبير العالم، وخلق الأجسام واستحقاق العبادة، و القدم الزماني مع القيام بنفسه...)(195) .(1/133)
ويقول الكمال بن الهمام في معنى الألوهية عندهم: (لما ثبت وحدانيته في الألوهية .. ثبت استناد كل الحوادث إليه تعالى) والألوهية: الاتصاف بالصفات التي لأجلها استحق أن يكون معبوداً، وهي صفاته التي توحد بها سبحانه فلا شريك له في شيء منها، وتسمى خواص الألوهية، ومنها الإيجاد من العدم، وتدبير العالم، والغنى المطلق عن الموجب
صـ175
والموجد في الذات، وفي كل الصفات، فثبت افتقار الحوادث في وجودها إليه) (196) .
ومن كلامهم يظهر جلياً أن تحقيق شهادة لا إله إلا الله هو اعتقاد تفرد الله ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله. ولهذا فلا فرق عندهم بين الإله والرب، ولا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، بل هما بمعنى واحد، بل يظنون منا يظن كثيرون اليوم ممن لا يفرقون بينهما أنهما وصفان مترادفان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام له عن المراد بالإله، وأنه بمعنى المألوه المعبود بحق: (ولكن أهل الكلام الذين ظنوا أن التوحيد هو توحيد الربوبية، وهو التصديق بأنه الله وحده خالق الأشياء ؛ اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله، اسم فاعل، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع كما يقوله الأشعري وغيره، ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع .
ومن قال: إن أخص وصف الإله هو القدم كما يقوله من المعتزلة قال ما يناسب ذلك في الإلهية ..) (197) .
وإذا كان التوحيد هو مجرد اعتقاد تفرد الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وكان الإله هو القادر على الاختراع، فإن مجرد الشرك في الطلب، وفي التقرب إلى الله بالعبادة لا يكون شركاً لذاته عندهم ما لم يتضمن شرك الاعتقاد .
وأما ما جاء من إطلاق الشرك فيما يتعلق بشرك الطلب وشرك العبادة والتقرب فلهم فيه تخريجان :
صـ176
الأول: أن ذلك مقيد بالشرك في الاعتقاد، لا بمجرد الإرادة والعمل. وهذا كما قالوا في كفر التولي والإعراض إنه مقيد بالتكذيب والاستحلال .(1/134)
الثاني: أن ذلك شرك، لأنه شرك أصغر، فهو من المعاصي التي لا يخرج بها فاعلها من الملة. كما قالوا في كفر التولي والحكم بغير ما أنزل الله إنه كفر دون كفر .
يقول أحدهم في ذلك: (اجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله، والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله) (198) .
ويقول سليمان بن عبد الوهاب في رسالته الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية: (من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله أن هذا هو الشرك الأكبر، الذي من فعله حبط عمله، وحل ماله ودمه ؟. لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد، ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد) (199).وقد اشتد الخلاف بين هؤلاء وبين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، حين بين لهم أنه كما يكون الشرك في الاعتقاد فإنه كذلك يكون باتخاذ الوسائط في الطلب وفي التقرب إلى غير الله بالعبادة، ولو لم يكن متضمناً الشرك في الاعتقاد .
ولازم كلامهم هنا: أن من تقرب إلى غير الله بالعبادة لا يكون
صـ177
مشركاً بمجرد ذلك، بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعض أتباع هؤلاء قد صرح بهذا، وأن منهم من كان يسجد للشمس والقمر والكواكب ويصوم لها ويذبح، وهو يظن مع ذلك أن توحيده لم ينتقض.
يقول رحمه الله: (وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خالق العالم، كما يظن من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، ويظن هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد .(1/135)
وكثير من أهل العلم يقول: التوحيد له ثلاث معان، وهو: واحد في ذاته لا قسيم له أو لا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وهذا المعنى الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما يوافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول ؛ وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول، بل التوحيد الذي أمر به أمر يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى، فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل وكتم الحق .
وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحداً، بل ولا مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له .
والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة
صـ178
التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف / 106] .
قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره .(1/136)
وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86}سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون / 84-89] .
وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت/ 61] .
فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابداً له دون سواه، داعياً له دون ما سواه، راجياً له خائفاً منه دون ما سواه، يوالي فيه، ويعادي فيه ويطيع رسله، ويأمر بما أمر به، وينهي عما نهى عنه. وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال/ 39] .
وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أنداداً، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر / 43 - 44] ).
... ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعونها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها، وينسك لها،
صـ179
ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً .
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك، فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهم لا يدخلونه في مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه) (200).
ومن جميع ما تقدم هنا في شرك التقرب والنسك، وما سبقه في شرك الطلب ندرك أن مرجئة المتكلمين لا يرونها شركاً بإطلاق، ما لم يتضمن ذلك عندهم الشرك في الاعتقاد. أما مجرد شرك الواسطة فلا .(1/137)
وأصل شبهتهم في ذلك كما سبق بيانه مفصلاً هو أن الشرك باتخاذ الوسائط في الطلب وفي التقرب والنسك من شرك الإرادة المتعلق بالاستعانة وتعلق القلب بغير الله، وتوجه الإرادة والقصد إلى غير الله .
وعلى هذا لا يكون الشرك عندهم إلا في اعتقاد شريك مع الله في ذاته بإثبات أكثر من رب، أو في صفاته باعتقاد المشابهة بينه وبين مخلوقاته فيها، أو في أفعاله باعتقاد أن لبعض خلقه استقلالاً بالخلق والايجاد .
والرد الجامع عليهم في كل ذلك هو إلزامهم بأن الشرك في الإرادة كالشرك في الاعتقاد ولا فرق، على ما سبق تفصيله .
صـ181
الفصل الثاني
كفر الرد
توطئة :
لابد لتحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من تصديقه والالتزام المجمل بالشريعة باطناً وظاهراً .
وكما أنه لا يكفي لتحقيق الإيمان مجرد تحقيق الالتزام بالشريعة دون التصديق فكذلك لا يكفي مجرد التصديق دون تحقيق الالتزام الإجمالي .
وذلك أن الإقرار بأن محمداً رسول الله يستلزم قبول ما جاء به تصديقاً وانقياداً، لأن قبول ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الخبر يكفى فيه مجرد الاعتقاد والتصديق، وأما الطلب فلابد مع التصديق من تحقيق الالتزام كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء/64] .
وعلى هذا فكفر الرد إما أن يكون بالتكذيب والاستحلال المناقض للتصديق، وإما أن يكون بالتولي والإعراض المناقض للالتزام، سواء الالتزام الباطن أو الالتزام الظاهر .
وكل هذا داخل في كفر العناد الذي يكون بعد تبين الحجة الرسالية وظهورها للمعين، بحيث لا يكون تكذيبه واستحلاله ولا تلبسه بما يناقض الالتزام المجمل عن تأول وشبهة يعذر بها .
لكن من قامت عليه الحجة بالرسالية فعاند واستكبر وكذب الرسول ولم يرض باتباعه قد لا يوفق إلى الهداية ومعرفة الحق بعد جحوده أولاً .
صـ182(1/138)
بل إن من عقوبة الله للمعاند أن يضله سواء السبيل، جزاء وفاقاً لما اختاره هو من ذلك {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم /75] فينقلب كفر العناد الذي يكون عن بينة إلى كفر ضلالة أو كفر غواية، بحيث يعلم الكافر آيات وتقوم بها الحجة عليه، لكنه لا يوفق لقبولها، بل يقوم بقلبه ما يحسب معه أنه على حق، وكذلك المتخاذل عن الطاعة قد يزين له عمله السيئ، وهذه غاية الخذلان، نعوذ بالله من ذلك .
والمقصود هنا بيان وتفصيل هذه الحقائق المجملة .
صـ183
1-كفر التكذيب والاستحلال .
لا يكون كفر التكذيب والاستحلال باعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاذب، وإنما يكون تكذيباً باللسان مع العلم بالحق في الباطن. وذلك أن التكذيب لا يتحقق إلا ممن علم الحق فرده، وأما من لم يتبين له الحق، وكان له شبه فلا يكون مكذباً ولا راداً للحق .
ولهذا نفى الله أن يكون تكذيب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة والباطن، وإنما باللسان فقط فقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام/33] وأثبت لهم اليقين مع جحودهم للحق في الظاهر فقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل /14] .
ويشمل كفر التكذيب من كان كافراً كفراً أصلياً، قامت عليه الحجة الرسالية فعاند وكذب الرسول ولم يقبل ما جاء به، فهذا كافر ظاهراً وباطناً، في أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يهودي ولا نصراني - ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) (201) .
كما يشمل كفر التكذيب من كان مسلماً ثم طرأ عليه التكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وهذا ظاهر، أو بأي شيء مما جاء به، بحيث لا يكون ذلك عن شبه يعذره الله بها .(1/139)
ويدخل كفر الاستحلال في عموم كفر التكذيب، لأن كل طلب - واجب أو مستحب - يستلزم ابتداء التصديق به، إذا قامت به الحجة على المعين .
صـ184
فإن ارتكب معصية مع اعتقاده أنه مخالف فإنه لا يكون قد نقض إيمانه بذلك، وإن كان الإيمان ينقص بارتكاب المعاصي .
لكن لو لم يعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق مع علمه بالحق في ذلك فإنه يكون مستحلاً للمعصية، ارتكب مع ذلك المعصية أو لم يرتكبها .
وكفر التكذيب والاستحلال هذا هو حقيقة الكفر عند المرجئة، إذ لا يكون الكفر عندهم إلا عندهم بما يناقض الاعتقاد والتصديق، الذي جعلوه حقيقة الإيمان، سواء في توحيد الله تعالى أو قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إن التوحيد عندهم هو مجرد توحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله دون أن يدخلوا أعمال القلوب في ذلك، وكذلك قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم هو اعتقاد أن ما جاء به حق وصدق دون شرط الالتزام .
وقد أخطأوا في قولهم إن الكفر هو التكذيب من وجهين :
الأول: حصرهم الكفر في مجرد التكذيب كما تقدم .
الثاني: ظنهم أن التكذيب يقوم بالباطن، بحيث ينتفي التصديق عن الكافر .
ولهذا لما فطن بعضهم لهذا التناقض التزم بأن أحكام الكفر على الظاهر فقط، مع احتمال تحقق الإيمان في الباطن، وأما أغلبهم فعلى أن الكفر لا يجامع التصديق، الذي هو حقيقة الإيمان عندهم، فعارضوا بذلك الضروريات، إذ من المعلوم أنه لا فرق بين التصديق والعلم الجازم، وأن العلم الجازم إذا تحقق لا يمكن دفعه عن النفس بمجرد الإدارة، لأن الإدارة تتبعه وهو لا يتبعها، وحاصل كلامهم في هذه المسألة هو التفريق بين التصديق بمعنى العلم الجازم والتصديق بمعنى الاعتقاد، فجعلوا الثاني اختيارياً دون الأول، وقالوا: إن الفرق
صـ185(1/140)
بين من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به - كعمه أبي طالب مثلاً - وبين من صدقه وآمن به هو الاعتقاد الاختياري الزائد عن التصديق الضروري، والحقيقة أن الكفر الباطن لا يكون بالتكذيب مع العلم بالحق، وإنما يكون بالظاهر فقط مع تحقيق التصديق الباطن .
فعلم أن الإيمان لا يمكن أن يكون مجرد التصديق، لانتفاء أن يجتمع الإيمان الباطن مع الكفر الظاهر، وعلم أيضاً أن التصديق الذي هو علم القلب الجازم لابد له من لازم، وهو عمل القلب لتحقيق الإيمان الباطن، وأن هذا اللازم ليس هو نفس التصديق الذي هو من باب الاعتقاد والمعرفة، وإنما لابد أن يكون الذي معه من باب الإرادة الاختيارية.
فإن التزموا أن ذلك من مسمى التصديق لزمهم أنه لابد في تحقيق الإيمان من العمل الظاهر، لأن الإرادة الجازمة أمر الله لابد معها من تحقق العمل في الظاهر، وإن قيل بل تكون إرادة جازمة في القلب دون اشتراط عمل في الظاهر رجع الأمر إلى أن الإيمان عندهم ليس من باب الإرادة، وإنما هو باب الاعتقاد فقط، وهذا هو حقيقة قولهم (202) .
صـ186
2-كفر الضلال والغي
الأصل في الكفر مطلقاً أنه إنما يكون عن عناد واستكبار وإعراض عن الحق، بعد معرفته وقيام الحجة به .
ولا يخرج كفر الضلال والغي عن هذه القاعدة. وذلك أن الأصل في كفر الضلال والغي أنه كفر عناد ترتب عليه تحقق الضلال والغي، جزاءً وفاقاً على إعراض العبد عن الحق، وعدم التزامه بأمر الله ونهيه .
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية /23] .(1/141)
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين: أحدهما: وأضله لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر: أضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه، والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس) (203).
والحقيقة أن سياق الآية يدل أن المراد بها المعنى الثاني دون الأول، لأن الإضلال كان نتيجة اتخاذ الهوى إلهاً متبعاً، وإنما المانع من قبول الحق اتباع الهوى .
ولا يعارض هذا المعنى الأول، فإن كل شيء لا يكون إلا حسب علم الله وتقديره عز وجل، لكن ليس هذا هو المراد بالآية .
ومما يدل على هذا الأصل أيضاً قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام / 110] .
صـ187
يقول ابن عباس رضي الله عنه: (لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء، وردت عن كل أمر) (204).
وقال رضي الله عنه في معنى قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: (أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون) (205) .
ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة /115] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (هداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا، فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولاً، بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه) (206) .
ونتيجة لذلك فلا يكون الإضلال من الله للعباد إلا بعد أن يتبين لهم أن ما هم عليه باطل، يلزمهم أن يتقوه ويجتنبوه .
ومما يدل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء /115] .(1/142)
فالمشاقة لا تكون إلا بعد التبين للحجة، وإضلال الله للعبد بتوليه ما تولى من الإعراض عن الحق ومشاقة الرسول إنما تكون أيضاً بعد ما تولى من الإعراض عن الحق وشاقة الرسول إنما تكون أيضاً بعد تبين الحجة .
والأصل في اشتراط قيام الحجة قبل إضلال الله للعبد مبنى على أصل آخر، وهو: أن من بلغه الحق فلا بد أن يقبله فيكون من المهتدين
صـ188
به، أو يرده ولا يكون ذلك لمجرد الترك وإنما يكون إتباعاً للهوى .
وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد يكون هو الذي اختار طريق الضلالة والغي بنفسه، وآثرها على طريق الهداية، ولهذا نجد أن الإخبار عن أهل الكتاب وما حصل منهم من التفرق يأتي مقروناً في كتاب الله ببيان أن تفرقهم وبغي بعضهم على بعض كان من بعد ما جاءهم العلم، كما قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران / 19] .
وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى / 14] .
وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة / 4] .
وعلى هذا فالسبب في الضلال الذي هو جزاء وعقوبة من الله هو ضلال العبد أولاً برده للحق، وكذلك السبب في الغي هو ترك الالتزام بأمر الله تعالى أولاً .
يقول الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف / 5] ويقول تعالى {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} [البقرة / 10] .
فزيغ القلب وضلاله وتحقق الغي فيه إنما هو بسبب زيغ وضلال وغي من العبد ابتداءً. ولا يكون ذلك ابتداءً من الله بالعبد .(1/143)
ويدل لهذا حديث حذيفة رضي الله عنه في عرض فتن الشبهات والشهوات على القلوب، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشر بها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين ،
صـ189
على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)) (207) .
والقول الجامع في هذه المسألة: أن فساد القلب باتباع الهوى، إما أن يكون متعلقاً برد الحق بعد تبينة اتباعاً للشبهات وهذا منشؤ الإبتداع .
وإما أن يكون بعدم الالتزام إما بترك المأمورات أو بارتكاب المنهيات اتباعاً للشهوات وهذه حقيقة المعصية.
1- فأما تحقق الضلال في القلب فقد يستولي على القلب بالكلية، بحيث ينتفي معه أصل الدين، وقد يكون أصل الدين ثابتاً في القلب مع تحقق الضلال المستوجب للوعيد بالنار، الذي هو وعيد الفرق الهالكة التي لم تخرجها بدعتها إلى الكفر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) (208) .
وقد ذكر الله عز وجل عن المنافقين أنهم قد ضلوا، وأنه قد ختم على قلوبهم فلا يؤمنون .
وضرب لهم مثلاً فقال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ {17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة / 17-18].
فهؤلاء المنافقون الذين بان لهم الحق وقامت عليهم الحجة فتركوها
صـ190(1/144)
اتباعاً لأهوائهم، كمثل الذي استوقد ناراً يستضيء بها، فلما تحقق ذلك له وأبصر انطفأت تلك النار، فحصل له من الظلمة مكان النور الذي كان فيه ما هو شبيه بحال المنافقين الذين اتبعوا أهوائهم، وتركوا النور الذي أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأعقبهم ذلك ضلالاً بعد الهداية به ومعرفته .
يقول ابن عباس رضي الله عنه: (هم قوم كانوا على هدى ثم نزغ منهم فعتوا بعد ذلك) (209). ويقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله: (هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ثم كفروا، فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون) (210) .
ولهذا ختم الله المثل بقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي لا يرجعون إلى الإيمان الذي تركوه. قال ابن عباس رضي الله عنه: (أي لا يرجعون إلى الهدى) (211) وقال قتادة: (أي لا يتوبون ولا يذكرون) (212) .
ثم يأتي مثل آخر يصور حقيقة نفوس المنافقين واضطرابهم، وعدم قرارهم على شيء، يقول تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ {19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ..} [البقرة / 19-20] .
فهم في شكوك وحيرة وضلال وتردد بين الإيمان والنفاق، وبين أن يلتزموا بالحق والهدى أو يتبعوا أهواءهم، فلا يقر لهم في ذلك قرار، ولا يجتمع لهم الأمران .
صـ191
يقول ابن عباس رضي الله عنه: (كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين) (213).(1/145)
ثم إن عقوبة الله للمعرض عن الحق إيثاراً للهوى واستحساناً لما يعرض له في ذلك من الشبهات أن يجازيه الله عز وجل باعتقاد أن الباطل الذي هو عليه إنما هو الحق، فضلاً عن عدم معرفته بالحق، وهذا غاية ما يكون من الضلال، إذ هو ضلال مركب، اجتمع فيه الجهل بالحق اعتقاد الباطل حقاً .
وفي مثل هذا جاء قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36}وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزحرف / 36 - 37] .
والذي يعشو عن ذكر الله هو الغافل المعرض المتعامي عنه، مع ظهور الحق، وقيام الحجة عليه به، فجزاؤه أن يقيض الله له شيطاناً يزيده ضلالاً، ويحسن له ما هو فيه من الباطل، حتى يحسب أنه الحق والهدى .
وعن هذا أيضاً يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. [الكهف /103-104] .
فهؤلاء أعظم الناس خسراناً وأشدهم ضلالاً، لأنهم مع ضلالهم يعتقدون في نفوسهم أنهم محسنون، وأنهم على الحق جزاء وفاقاً لهم، لاسترسالهم مع شبهاتهم وأهوائهم، حتى أصبحت لهم سجية وطبعاً لازماً، لا يعرفون غيره، ولا يرون الحق في سواه .
وسياق الآيات يدل على أن جزائهم بذلك إنما كان نتيجة إعراضهم
صـ192
أولاً. فقد قال تعالى قبل ذلك: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف / 101] .(1/146)
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: (أي تغافلوا، وتعاموا وتصاموا عن قبول الهداية واتباع الحق، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقال ههنا {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي لا يعقلون عن أمره ونهيه) (214)
ومما جاء في نفس هذا المعنى السابق قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف /30].
وقد تقدم أنه لا تحق الضلالة بالعبد إلا بسبب منه، حين يعرض عن الحق ويتبع هواه، وأن الإضلال لا يكون ابتداءً من الله بالعبد دون سابق اختيار منه .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في معنى قوله تعالى: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ}: (أي وجبت عليه الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية) (215) .
ولأجل ما وقع فيه هؤلاء من الشرك باتخاذ الأنداد من دون الله عن علم وبينة حقت عليهم الضلالة، حتى بلغ بهم الأمر أن يعتقدوا أنهم في شركهم ذلك على حق وأنهم مهتدون .
فالضلالة لم تحق عليهم إذن قبل التسبب منهم، بل كانوا قد أشركوا عن علم وبينة، ثم بلغ بهم الحال إلى أنهم كانوا مشركين عن جهل
صـ193
وغفلة، جزاء لهم على شركهم الأول .
هذا بإيجاز عن الكفر الباطن من جهة الضلال .
2-وأما الكفر من جهة الغي فسببه كما تقدم عدم الالتزام بالأمر، إما بترك المأمور به، وإما بفعل المنهي عنه، الذي يورث خذلان الله للعبد عن الطاعة وتزين ذلك له .
وذلك أن من ارتكب الخطايا وأصر عليها قد تحيط به، وتستولي على قلبه، وتطمسه حتى لا يبقى فيه ذرة من إيمان .(1/147)
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزغ واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلوا قلبه، وهو الران الذي ذكره الله {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين/14] (216) .
يقول الإمام ابن جرير في معنى الحديث: (أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص) (217) .
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود القلب كله) (218) .
صـ194
ويقول مجاهد رحمه الله عن الرين: (هو الذنب على الذنب، حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب) (219) .
وقال الأعمش: (أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه (يعني الكف) فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه، وقال بإصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم، وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها ثم قال: يطبع عليه بطابع، وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك الرين) (220) .
ويقول الفراء عن معناه: (كثرت المعاصي والذنوب منهم، فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها ..) (221).
ومن عقوبة الله للمتخاذل عن الطاعة أن يخذله الله عنها، فلا يريدها جزاء له على إعراضه الأول عن التزامها .
ومن ذلك ما جاء في شأن المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ولا عذر لهم. قال تعالى عنهم: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة /46] .
يقول ابن عباس رضي الله عنه: (يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج. وقال في رواية: حبسهم) (222) .(1/148)
وذلك أن الله أمرهم بالخروج، ولا يأمر إلا بما يحبه، لكنهم تخاذلوا عن ذلك فخذلهم الله، وعلم أنهم خرجوا لكان في خروجهم مفسدة، وهي
صـ195
إشاعة الفتنة بين المؤمنين، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة / 47] .
وعلى هذا فلو خرجوا لم يكن خروجهم طاعة، وقد علم الله منهم ذلك، فثبطهم عن الخروج، لكنهم لو استجابوا أول الأمر وانقادوا لوفقهم الله تعالى، وقبل منهم ذلك، وكان ذلك منهم طاعة لله تعالى .
ولا يكفي مجرد الخذلان والتثبيط، بل قد يصل الأمر إلى التزيين للمعصية والإعراض عن الطاعة، لأن العاصي إنما أصر على معصيته وأعرض عن الامتثال لأمر الله استحساناً لما فعل، فيوليه الله ما تولى عقاباً له وجزاء وفاقاً على ما حصل منه من ذلك .
يقول تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} [فاطر/ 8] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (تزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيئ العمل على حسنه، فإنه لابد أن يعرفه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينة سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحاً، وكل ظالم وفاجر وفاسق لابد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقة قبيحاً، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فربما رآه حسناً عقوبة له، فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم. ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالية وبالتعريف الأول) (223) .
صـ196(1/149)
بتوبة واستغفار، تجتمع عليه الذنوب حتى تهلكه وتطمس نور إيمانه، كما انطمس إيمان المبتدع بالشبهات التي آثرها على الحق الذي عرفه وقامت به الحجة عليه، وقد يخرج كل منهما إلى الكفر الأكبر والعياذ بالله، وهو مع ذلك يطن أنه يحسن صنعاً قال تعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف/17].
ولابد بعد كل هذا من التأكيد على أن كفر الضلال والغي مما لا يمكن الحكم به على المعين في الظاهرة، وإنما هو من أحكام الباطن، فإنه ليس كل ابتداع بدعة واعتذر فيها بشبهة يكون غير معذور بذلك، بل قد يكون مخطئاً مجتهداً مأجوراً، وقد يكون غير مأجور إذا لم يجتهد في دليل شرعي، ولا آثم إذا لم يبلغه الحق، وقد يكون غير معذور، ولا يمكن التفريق بين هؤلاء في الظاهر .
كما لا يمكن الحكم على من أصر على المعاصي - حاشا الصلاة - بالكفر، مع أنه قد يكون في الباطن ممن استولى الران على قلبه فطبع عليه، ويكون على الحقيقة كافراً، لكن للظاهر أحكاماً منضبطة لابد من تحقيقها، وليس كل من كان كافراً في الباطن يحكم بكفره في الظاهر، بل الناس إما كافر، وإما مؤمن، وإما منافق مسلم في الظاهر كافر في الباطن .
كما ينبغي التفريق بين فهم الدلالة الذي تقوم به الحجة وبين فهم الهداية والتوفيق الذي من حرمه ضل، فليس كل من حرم فهم الهداية يكون ولابد ممن لم يفهم الحجة. وحكم التكفير كتعلق بقيام الحجة على المعين، ولا تكون الحجة قائمة عليه إلا إذا فهمها ولم تكن له شبهة في عدم قبولها. وعلى هذا فلا يقال إن بلوغ الحجة وقيامها شيء وفهمها شيء آخر، إذا كان المراد بالفهم فهم الدلالة، فإنه إنما تقوم الحجة به، أما فهم الهداية فشيء آخر غير قيام الحجة وبلوغها .
صـ197
3-الكفر بترك جنس العمل .(1/150)
من الأصول التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، ومقصود أهل السنة بالعمل هنا العمل الظاهر الذي هو الذي مقتضى عمل القلب، إذ لا يمكن عندهم تحقق الإيمان في الباطن دون أن يكون له أثر في الظاهر، وهذا هو مدار النزاع بين أهل السنة والمرجئة في الإيمان، وإنما نفى دخول أعمال القلوب في الإيمان مرجئة المتكلمين، بحيث أصبح مذهبهم هو مذهب جهنم في الإيمان .
ونتيجة للخلاف بين أهل السنة والمرجئة في هذا الأصل فلابد أن يختلفوا في حكم من لم يحقق الالتزام الظاهر، فمن كان العمل عنده داخلاً في حقيقة الإيمان ومسماه كان الالتزام الظاهر شرطاً في تحقيق أصل الدين. وتبعاً لذلك فإنه كما يكون الكفر بعدم تحقيق الالتزام الباطن فكذلك يكون الكفر أيضاً بعدم تحقيق الالتزام الظاهر .
لكن ما معنى الالتزام الإجمالي في الظاهر عند أهل السنة ؟ .
تتلخص المسألة عندهم في أنه إذا كان العمل داخلاً في مسمى الإيمان وحقيقته فإنه مشروط من حيث الجملة لتحقيق أصل الدين والنجاة في الآخرة. فلابد إذن من الالتزام بجنس العمل وما دل الدليل على أن تاركه يكفر على الخصوص (224).
إذا تبين ذلك فإن هناك فرقاً بين الالتزام المجمل والالتزام التفصيلي، فليس من ترك بعض الواجبات والفرائض، أو ارتكب بعض المحرمات
صـ198
والكبائر يكون قد نقض الالتزام الإجمالي. بل ذلك مما ينقص به الإيمان، لكن لا ينتفي بالكلية .وأما تارك الصلاة فكافر على الصحيح .
وهنا وقعت الشبهة لمن خالف أهل السنة، فزعموا أن لا فرق بين ترك جنس العمل إذا كان داخلاً في أصل الدين وحقيقة الإيمان فإن ترك بعضه يعني انتفاءه بالكلية، ولهذا نفى المرجئة أن يكون العمل بالكلية داخلاً في مسمى الإيمان، فراراً من هذا الالتزام .(1/151)
كما أن أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام التزموا تكفير من حالف ما جعلوه من الالتزام الظاهر حداً أدنى للإسلام. وهؤلاء سبق تفصيل شبهتهم والرد عليها، وبقي القول هنا في بيان منهج المرجئة في هذه القضية وموقف أهل السنة منهم .
وهنا يقال: إن المرجئة لما قرروا أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان التزموا أن من ترك العمل بالكلية ليس كافراً. وأن من ناقض الالتزام الظاهر بمجرد العمل لا يكفر أيضاً، بل لابد في الحالين من إظهار ما يدل على كفره بالنطق الدال على الاستحلال والتكذيب ،وأن مجرد الرد بالعمل سواء كان ذلك بالترك أو بالفعل لا يكون كفراً لذاته مطلقاً. وقبل بيان شبهتهم وردها بالتفصيل لابد من رد مجمل عليها وهو أن يقال :
إن هناك فرقاً بين أصل الالتزام وبين مقتضياته ولوازمه، فإن من ترك بعض الواجبات لا شك أنه قد خالف حقيقة الالتزام الواجب، وأن إيمانه قد نقص بذلك، لكنه مع ذلك لم يهدم أصل التزامه. فإذا لم يلتزم بالعمل بالكلية فلا يمكن أن يكون محققاً للالتزام الإجمالي الباطن، لأنه حين إذ يكون موصوفاً بأنه غير ملتزم بالشريعة في الظاهر، وأنه ملتزم بها في الباطن، وهذا تناقض لا يمكن بحال .
صـ199
فالخلاف بين أهل السنة والمرجئة هنا يتحدد في عدم تفريق المرجئة بين ترك جنس العمل وترك آحاده .
ولما التزم المرجئة أن من ترك بعض العمل لا ينقص إيمانه قالوا وكذلك من ترك العمل بالكلية يمكن أن يكون مؤمناً كامل الإيمان .
وإنما يكفي لتحقيق الالتزام في الظاهر مجرد الإقرار، الذي هو عندهم إعلان وإخبار عن الإيمان الباطن .
وبدهي أنه إذا أمكن أن يكون تارك العمل بالكلية مؤمناً كامل الإيمان. فإنه لا يحكم بكفره وخروجه من الملة، لأن تحقق الإقرار يمنع من ذلك عندهم .(1/152)
يقول اللقاني في شرح الجوهرة: (المختار عند أهل السنة في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلاً محصل لأكمل الخصال) .
إلى أن قال في شرح قول الناظم: (والإسلام اشرحن بالعمل): (والإسلام اشرحن حقيقته بالعمل الصالح. أعني امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمراد الإذعان لتلك الأحكام، وعدم ردها سواء عملها أم لم يعملها) (225) .
ويقول أيضاً في بيان أن مجرد الإقرار يكفي لتحقيق الالتزام في الظاهر، وأن العمل ليس شرطاً في ذلك: (اعلم أن المدار في الإسلام على الإذعان للمذكورات(226)، وهو ظاهر في غير النطق، وأما هو فلابد من حصوله .
صـ200
ثم هو يفيد الإذعان برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فبالجملة: كلمة الشهادتين تكفي عن نفسها وغيرها، كالشاة من الأربعين تزكي نفسها وغيرها (227) .
ويقول البغدادي في بيان حقيقة الإيمان عندهم، وأن الكفر لا يكون بالرد، وإنما هو اعتقادي فقط: (الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً ويكون عاقبة لأجلها الجنة إن مات عليها وهي معرفة أصول الدين في العدل التوحيد والوعد والوعيد والنبوات و الكرامات، ومعرفة أركان شريعة الإسلام. وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر .
والقسم الثاني: إظهار ما ذكرنا باللسان مرة واحدة، وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة واستحلال الذبيحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين والصلاة عليه وخلفه .
والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار(228)ويصير به مقبول الشهادة .
والقسم الرابع منها: زيادة النوافل. وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية .(1/153)
والمعاصي أيضاً أقسام: قسم منها كفر محض كعقد القلب على ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات، أو الشك فيها أو في بعضها ومن مات إلى ذلك كان مخلداً في النار .
والقسم الثاني منها: ركوب الكبائر أو ترك الفرائض من غير عذر،
صـ201
وذلك فسق سقط(229) به الشهادة .
وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعزيز، وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات (230)، خلاف قول الخوارج أنه كافر وخلاف قول القدرية أنه لا مؤمن ولا كافر. وربما غفر الله له بلا عقاب، وإن عاقبه على ذنبه لم يكن عقابه مؤيداً ومآل أمره الثواب في الجنة بفضل الله ورحمته) (231) .
ولخص كلام البغدادي هنا: أن لما سماه الطاعات عنده ثلاث مراتب، هي الاعتقاد والإقرار والعمل، وأن لما سماه المعاصي مرتبتان، الأولى متعلقة بما يضاد الاعتقاد فتكون كفراً، وأما المرتبة الثانية فتتعلق بترك العمل، وهذه عنده ليست بكفر. وأما الإقرار فمشروط عنده مرة واحدة، لأن الغاية منه مجرد إجراء الأحكام الدنيوية بإظهار الاعتقاد الباطن .
وبهذا يظهر أن من ترك العمل بالكلية فهو عنده مؤمن، وفي أحكام الدنيا مسلم إذا أظهر مجرد الإقرار مرة واحدة، لأن الإيمان عنده اعتقادي فقط .
ويقول ملا علي قاري في بيان أنه يكفي في الإسلام ابتداءً واستمراراً مجرد الإقرار، وأما العمل فمن الكمال: (الإيمان مختص بالانقياد الباطني، والإسلام مختص بالانقياد الظاهري، كما يشير إليه قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات/14]. وكما يدل عليه حديث جبريل عليه السلام، حيث فرق
صـ202
بين والإيمان الإسلام، بأن جعل الإيمان محض التصديق، والإسلام هو القيام بالإقرار، وعمل الأبرار في مقام التوفيق) (232) .(1/154)
ومراد ملا علي قاري هنا أن وصف الإسلام يثبت ويبقى ثابتاً للمعين بمجرد الإقرار، وأن حقيقة الإسلام. وعنده كما عند جميع المرجئة أن العمل حينئذ معتبراً في الالتزام وتحقيق الإيمان، ولا يكون تاركه بالكلية كافراً .
وإذا علمنا جميع ما تقدم من حقيقة منهج المرجئة، وما افترضوه من أن من أقر ولم يلتزم بأي عمل لا يكفر، وندرك مدى الانحراف الذي وصل إليه هذا الاتجاه، ومدى الهوة التي وقع فيها أصحاب هذا الفكر في تصورهم لحقيقة الدين، وأنه يكفي في حقيقة مجرد إعلان التصديق بالإقرار مرة في العمر. وفي هذا جهل بحقيقة ما أرسل الله له الرسل وأنزل به الكتب، وإذ كيف يتحقق الإيمان بالرسول مع ترك طاعته بالكلية والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء :64] .
فالحكمة من إرسال الرسل هي أن يطاعوا طاعة لله تعالى، ومن نفي أن تكون طاعة الرسول غير لازمة بالكلية فقد ناقض أصل الحكمة من إرسال الله لهم. ولهذا علق الله الكفر بعدم طاعة الرسول فقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران/32]. ومعلوم بداهة أن طاعة الرسول لا تتحقق بمجرد الإقرار، وإنما هي الالتزام بالعمل .
ولهذا قرن الله تعالى في كتابه كفر التولي بكفر التكذيب، لأنه غيره، فكفر التولي إنما يكون عن الطاعة، وكفر التكذيب متعلق بالاعتقاد ،
صـ203
ولكن هما في الجنة سواء، يقول تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة / 31-32] كما قال تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل/15-16] وقال تعالى حكاية عن موسى وهارون عليهما السلام: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه / 48] .(1/155)
فعلم من هذا أن المتولي عن الطاعة كافر، كما أن المكذب كافر والتولي إنما يكون عن الطاعة كما قال تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح /16] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (التولي ليس هو التكذيب بل هو عن الطاعة فإن، الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي، فلهذا قال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة / 31-32]. وقد قال تعالى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور /47] فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول(233).
وبذا يظهر خطأ المرجئة فيما التزموه من القول بأن تارك جنس العمل لا يكفر، نتيجة لنفيهم أن يكون العمل من الإيمان، لكن هذا اللازم هو المقتضى الضروري لمذهبهم، إذ لا يمكن القول بكفر تارك جنس العمل مع نفي أن يكون العمل من الإيمان. فالمرجئة وإن أخطأوا في هذه المسألة فإنما التزموا بلازم مذهبهم في حقيقة الإيمان. فيكون الرد عليهم في ذلك بيان دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ليلتزموا
صـ204
بلازم ذلك، من القول بكفر تارك جنس العمل، وأن العمل قد يكون كفراً لذاته دون شروط استحلال .(1/156)
وبذا يظهر أيضاً خطأ بعض المنتسبين إلى السنة، الذين يسلمون بما أجمع عليه أهل السنة من الإيمان قول وعمل، ويدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، ويقولون إن الإيمان يزيد وينقص، ثم يقولون مع ذلك إن العمل كمالي للإيمان، وليس ركناً فيه ولا شرطاً في النجاة، ويتفقون مع المرجئة في القول بأن تارك جنس العمل لا يكفر .
وهذا ولا شك تناقض محض، إذ لا يمكن الجمع بين قول أهل السنة والجماعة بإن الإيمان قول وعمل، والقول بأن تارك جنس العمل لا يكفر. فإما أن يكون العمل من الإيمان فلا يكون التارك لجنس العمل مؤمناً، وإما أن يكون التارك لجنس العمل مؤمناً فلا يكون العمل من الإيمان.
والأساس الذي يقوم عليه الحكم بضرورة التلازم بين القول بأن العمل من الإيمان، والقول بأن العمل ركن فيه، بحيث يكون التارك له كافراً أن الإيمان المنجي من عذاب الكفار لا يتحقق بمجرد القول، بل لابد فيه من العمل. والذين قالوا إن العمل من الإيمان لكنه كمالي فيه يسألون عن إنسان تحقق منه الإقرار، ولم يلتزم بشيء من الأعمال الظاهرة عمداً وإصراراً على الترك، فما الذي ينجيه من عذاب الكفار ؟ إن قالوا إن ما حصل منه من الإقرار هو مناط نجاته كان إيمانه قولاً بلا عمل، فلا يكون العمل من الإيمان، وإنما يكون من ثمراته وكماله كما يقول المرجئة، وإن قالوا بل العمل من الإيمان لكنه ليس شرطاً في النجاة لزمهم التناقض في هذا الباب. فإما أن يلتزموا بقول أهل السنة في الإيمان، ويلتزموا بلوازم ذلك القول، وإما أن يخالفوهم في لوازم قولهم
صـ205
فيلزمهم موافقة المرجئة قي نفيهم أن يكون العمل من الإيمان. وكلام أهل السنة في الإيمان ودخول الأعمال فيه إنما هو عن الإيمان المنجي الذي يكون به التفريق بين المؤمن والكافر .(1/157)
وفي البيان هذا الأمر وحقيقة الفرق بين أهل السنة والمرجئة في هذا الباب يقول الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: (يقولون (أي المرجئة) الإيمان قول، ونحن نقول الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد ألا إله إلا الله مبصراً بقلبه على ترك الفرائض، وسمو ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليس بسواء، لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر ...)(234) .
فالإمام سفيان بن عيينة قد بين كلامه هذا ضرورة التلازم بين إدخال العمل في مسمى الإيمان، واشتراطه للنجاة في الآخرة. وجعل قول المرجئة خلاف ذلك. فمن قال إن النجاة تحصل بمجرد القول فقد التزم بقول المرجئة شعر أو لم يشعر. وليس في الكتاب ولا في السنة لا في حديث الشفاعة في الجهنميين ولا في حديث البطاقة ونحوه من أحاديث البشارة بالجنة ولتحريم النار على من قال لا إله إلا الله وغيرها من الأحاديث ما يخالف ذلك. وقد بين المحققون من أهل السنة معاني تلك النصوص بما يوافق هذا الأصل المجمع عليه. وما استدل به من خالف في هذا الأصل فإنما هي الشبهات، بين العلماء فسادها وردوا عليها. نسأل الله العون والتوفيق على تفصيل القول فيها، فإنها تحتاج إلى أبسط وبيان ليس هذا مقامه .
صـ206
4-كفر تارك الصلاة
تقرر فيما سبق حكم من ترك الالتزام بالعمل الظاهر، وأنه لا يكون مؤمناً، لاشتراط ذلك في تحقيق أصل الدين الذي لا تكون النجاة يوم القيامة إلا به، وتقرر أيضاً أن المراد باشتراط العمل الظاهر لتحقيق الإيمان هو الالتزام المجمل بالعمل .
لكنه قد وردت نصوص في حكم ترك الصلاة وعدم الالتزام بها على الخصوص، ولو مع الالتزام بغيرها من الأعمال، ومجمل دلالة هذه الأدلة الحكم بكفر تارك الصلاة الكفر الأكبر المخرج من الملة .
ومن هذه الأدلة :
1- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) (235).(1/158)
ووجه دلالة الحديث على كفر تارك الصلاة الأكبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل الصلاة عهداً بين المسلمين وغيرهم، والمراد بالعهد هنا الحد الذي يميز المسلمين عن غيرهم من الكفار .
وعلى هذا فمن لم يلتزم بذلك العهد فليس من المسلمين ،وإذا لم يكن منهم كان كافراً كفراً أكبر مخرجاً من الملة .
صـ207
فهذا الحديث صريح الدلالة على كفر تارك الصلاة، لذا لم يمكن تأويله عند من قالوا بعدم تكفير الصلاة إلا بدعوى أنه محمول على مجرد الزجر والتعليظ لا على الحقيقة، وأن ظاهره غير مراد. والذي حملهم على ذلك ما ادعوه من الأدلة على عدم تكفير تارك الصلاة. لكن جميع ما ذكروه ليس فيه الدلالة على دعواهم كما سيأتي. فكان يجب عليهم إجراء الحديث على ظاهره، وفهم تلك النصوص على وجه يتحقق به الجمع بينها وبين الأدلة على كفر تارك الصلاة .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد مناط الكفر في هذا الحديث، وأنه يكون بمجرد الترك، فإنه ليس لأحد أن يفسر ذلك بالجحود والاستحلال، إذ من المعلوم أن الترك لا يفسر بالاستحلال. وأنه ليس كل من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً يكون جاحداً لها منكراً لوجوبها .
كما لا يتصور أيضاً أن يكون المراد بالكفر في الحديث الكفر الأصغر، لأنه لا يكون حداً فاصلاً بين المسلمين والكفار، بل الكافر كفراً أصغر من المسلمين، ولو انتفى عنه وصف الإيمان الواجب.
ولهذا كانت الصلاة شعاراً ودلالة تميز المسلمين عن الكفار في أحكام الدنيا، وفي الآخرة أيضاً، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم) (236) هذا في الدنيا .
وأما في الآخرة فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وأنه يعرفهم بذلك (237).
صـ208(1/159)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فدل ذلك على أن من لم يكن غراً محجلاً لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من أمته) (238) .
2-ومما يدل أيضاً على كفر تارك الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه جابر رضي الله عنه: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (239) .
وهذا كالحديث الأول، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحد بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، فمن التزم بالصلاة فهو مسلم، ومن تركها فهو كافر .
ولا يقال هنا: لم لا يكن المراد بالكفر والشرك في الحديث الكفر والشرك الأصغر ؟
وذلك لأن الكفر والشرك هنا قد جاءا معرفين بـ (ال) التعريف الدالة على التخصيص والتحديد، فالمراد بالكفر على هذا: الكفر الأكبر المخرج من الملة، لا مطلق الكفر الذي قد يدخل فيه الكفر الأصغر عند التعميم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبه من شعب الإيمان يصير بها مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك
صـ209
الصلاة ) وبين كفر منكر في الإثبات ) (240) .
ومن تأمل هذا الحديث مع الحديث السابق وجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل مناط الحكم بالكفر فيهما ترك الصلاة، ومعلوم أنه ليس كل من ترك الصلاة لابد أن يكون جاحداً لوجوبها، بل قد يكون كذلك، وقد يكون مقراً بذلك، لكنه يتركها تهاوناً وكسلاً .
وبهذا يعلم أن من قال إن تارك الصلاة لا يكفر إلا إذا كان جاحداً لوجوبها قد جعل مناط الحكم في هذه المسألة غير ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم .(1/160)
ثم إنه على هذا التأويل لا فرق بين الصلاة وغيرها، ولا تكون إقامتها عهداً وحداً يعرف به المسلم من الكافر، لأن من ترك شيئاً من شعائر الإسلام جاحداً لوجوبه أو حتى لاستحبابه مع قيام الحجة عليه بذلك فإنه يكفر، لا فرق في ذلك بين الصلاة وغيرها .
ومن هذا نفهم دلالة تخصيص الرسول للصلاة دون غيرها، وأنه إنما أراد الترك ولو لم يكن جحود .
وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إنهم ميزوا الصلاة عن غيرها في هذا، فجعلوا تركها هو مناط الكفر دون غيرها من الأعمال .
يقول عبد الله بن شقيق رحمه الله: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) (241) .
وقد نقل الإمام ابن حزم ذلك عن كثير من الصحابة منهم عمر بن
صـ210
الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة التابعين (242). بل إن قول عبد الله بن شقيق رحمه الله السابق يدل على أن الصحابة قد أجمعوا على كفر تارك الصلاة، وهو ظاهر كلامه، لأنه إخبار عنهم كلهم أنهم كانوا يرون كفر تارك لصلاة. فعلم من كل هذا أنه لا اعتبار بقول من يقول من يخصص الترك بالجحود .
3-ومما يدل أيضاً على كفر تارك الصلاة ما ورد من إباحة الدم تاركها .(1/161)
ومن ذلك الحديث المتفق عليه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ؛ قال: فقسمها بين أربعة نفر .. فقال رجل من الصحابة: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. فقال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ؟ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله: اتق الله. فقال: ((ويلك، أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟) قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه ؟ فقال: (لا لعله أن يكون يصلي). قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم .. الحديث) (243) .
ووجه دلالة هذا الحديث - وما شاكله من الأحاديث في هذا الباب -
صـ211
على كفر تارك الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل إقامة الصلاة مانعاً من قتل من هم الصحابة رضوان الله عليهم بقتلهم، لما رأوا فيه من احتمال كفرهم. ولو لم يكونوا مقيمين للصلاة لم يمنع الصحابة من ذلك كما هو ظاهر للحديث. ولكان قتلهم إياهم لأجل أنهم كفار، ليس لدمائهم عصمة .
ولا يقال هنا: إن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً بدلالة هذا الحديث عند من يقول ذلك، والصحيح أن الحديث لا يدل على ذلك، وإنما يدل على خلافه .
والذي يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة(244) .(1/162)
وليس تارك الصلاة من أصحاب الحدود الذين يقتلون من المسلمين، بل لا يكون ذلك إلا في الزاني المحصن وقاتل النفس. فلم يبق إلا أن تكون إباحة دم تارك الصلاة من أجل ردته. ودلالة الأحاديث على أن من ترك الصلاة يقتل حداً لا كفراً غير صريحة، وإنما تدل على ذلك بطريق المخالفة والمفهوم، وأما حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) فصريح في أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث على سبيل الحصر .
ولهذا فإنه ليس كل من قال إن تارك الصلاة لا يكفر قال إنه يقتل. بل نقل القول بعدم قتله عن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وابن شهاب وأبي حنيفة وداود بن علي وابن حزم والمزني. قال الطحاوي :
صـ212
وإليه ذهب جماعة من سلف الأمة من أهل الحجاز والعراق (245) .
والحاصل: أنه لم يثبت أن القتل على ترك الصلاة يكون حداً، مع بقاء وصف الإسلام لمن أقيم عليه، فلزم أن يكون القتل لأجل انتفاء وصف الإسلام وثبوت وصف الكفر لمن تحقق فيه ذلك .
4-ومما يدل أيضاً على ما تقدم من أن الذي لا يقيم الصلاة فهو كافر كفراً بواحاً ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم ؟ قال: لا ما صلوا) (246) .
فهذه الأحاديث صريحة في أن الأئمة لا يقاتلون ما أقاموا الصلاة .
وجاء في حديث عوف بن مالك رضي الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟. قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ...)(247).(1/163)
لكنه قد ورد في حديث آخر إباحة قتالهم إذا كفروا كفراً ظاهراً بواحاً. فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا
صـ213
ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا تنازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (248) .
وفي مجموع هذه الأحاديث دلالة قاطعة على أن ترك الصلاة من الكفر الأكبر البواح المخرج من الملة. لأنه إذا لم يجز الخروج على الأئمة إلا إذا كفروا كفراً بواحاً، ثم جاز الخروج عليهم إذا تركوا الصلاة، دل ذلك على أن ترك الصلاة من ذلك الكفر. وليست دلالة الحديث محصورة فيمن ترك إقامة الصلاة من الولاة، وإنما ترك الصلاة وصف يتحقق معه الكفر مطلقاً في الولاة وغيرهم، وهذا ظاهر .
ومن مجموع هذه الأدلة وغيرها يظهر جلياً أن ترك الصلاة كفر أكبر مخرج من الملة، ولا يخالف هذه القاعدة أي دليل شرعي .
فأما قول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء/48] فلا منافاة بينه وبين ما تقرر من أن تارك الصلاة كافر.
وذلك أن الآية إنما تدل على أن الشرك لا يغفره الله تعالى، وأما ما دونه من الذنوب فقد يغفرها الله تعالى .
وإذا تقرر بالأدلة السابقة أن ترك الصلاة كفر لم يمكن أن تكون من الذنوب الداخلة تحت المشيئة بالمغفرة، لأن غاية ما تدل عليه الآية التفريق بين ما لا يغفره الله من الذنوب وبين ما تمكن دخوله تحت المشيئة. وإنما يدخل تحت المشيئة من الذنوب ما لا يكفر به صاحبه، وأما الذنوب المخرجة من الملة فإن الله لا يغفرها. فليس في الآية دلالة
صـ214(1/164)
على أن الله يغفر الكفر الذي ليس من الشرك، كسب الرسول صلى الله عليه وسلم وإهانة المصحف، ونحو ذلك. بل غاية ما فيها الدلالة على أن الله يغفر ما دون الشرك، وأما ما سوى الشرك مما هو كفر فليس في الآية نص على غفرانه، بل ذلك مناقض لصريح الكتاب والسنة .
وأما الاستدلال بعموم الأحاديث التي فيها أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. ولم يشترط إقامة الصلاة لذلك فلا دلالة فيها أيضاً على أن تارك الصلاة لا يكفر .
وذلك أن المراد بقول لا إله إلا الله تحقيقها، بالالتزام بمقتضياتها وترك نواقضها. وإذا تقرر أن الصلاة كفر فلا اعتبار بمجرد الإقرار بالشهادتين مع عدم الالتزام بأداء الصلاة .
وأما الاستدلال بحديث الجهنميين الوارد في الشفاعة للمؤمنين على عدم كفر تارك الصلاة لوصفهم في الحديث بأنهم (لم يعلموا خيراً قط) فإنه يدل على ذلك عند أصحاب هذا القول من جهة دلالته عندهم على أن العمل بالكلية من كمال الإيمان، لا من حقيقته المشروطة للنجاة. فيكون الرد عليهم ببيان التناقض بين القول بأن الإيمان قول وعمل والقول بأن العمل ليس ركناً في الإيمان، وإنما مجرد كمال له. وبيان أن هذا الحديث لا يعارض أصول أهل السنة في هذا الباب. فلا يكون فيه الحجة على عدم تكفير تارك الصلاة. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند بيان حكم تارك جنس العمل .
ثم إن ترك الصلاة لا يعرف إلا من جهة كونه ناقضاً، ولا يتحقق ذلك في المعين إلا بالإصرار على تركها، لأن المفترض فيمن أقر بالشهادتين إقامة الصلاة، ولهذا لا ينتظر من أقر بالشهادتين حتى تختبر حاله، وهل يقيم الصلاة أم لا حتى نحكم بإسلامه. وإنما نعتبر أن هذا هو الأصل حتى يثبت ما يخالفه من الإصرار على تركها، فنحكم بكفر
صـ215
من تحقق منه ذلك .
وهذه القاعدة ليست خاصة بترك الصلاة فقط، بل هي عامة في كل ناقض، فالأصل عدم تناقض حتى يثبت تحققه بيقين .
حقيقة الترك المكفر :(1/165)
ليس مناط التكفير في ترك الصلاة هو مطلق الترك لها، بحيث يلزم أن كفر كل من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات، وإنما مناط التكفير هو الترك المطلق، الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة، الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية، أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب، بحث يصدق على من تركها أن يقال إنه قد ضيع الصلاة وتولى عن إقامتها .
وبهذا يكون ترك الصلاة من حيث الجملة مناقضاً لتحقيق الالتزام بها، مع أنه قد يتحقق الالتزام الإجمالي بها مع ترك بعضها .
وفي بيان حقيقة الترك المكفر وأن المقصود بالترك المكفر ما كان متعلقاً بجنس الصلاة لا بمجرد بعض الصلوات يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم، في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل قد يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي وأمثاله من المنافقين، فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى) (249) .
صـ216
وفي نفس المعنى يقول الشيخ ابن عثيمين: (قال بعض العلماء: يكفر بترك فريضة واحدة، ومنهم من قال بفريضتين. ومنهم من قال بترك فريضتين إن كانت الثانية تجمع إلى الأولى، وعليه فإذا ترك الفجر فإنه يكفر بخروج وقتها، وإن ترك الظهر فإنه يكفر بخروج وقت العصر .
والذي يظهر من الأدلة أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة دائماً. فإن كان يصلي فرضاً أو فرضين فإنه لا يكفر، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة) فهذا ترك صلاة لا الصلاة، ولأن الأصل بقاء الإسلام، فلا نخرجه منه إلا بيقين، لأن ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين، فأصل هذا الرجل المعين مسلم) (250) .(1/166)
ولهذا كان الصحيح في معنى قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ..) الآية [مريم / 59]. أنه تركها الترك المجمل، لا مطلق الترك .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا، فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية، قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير، ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة، كما هو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة..) (251).
ثم ذكر رحمه الله القول الثاني في المراد بإضاعة الصلاة، وهو أن المقصود تأخيرها عن وقتها مع الأداء .
وقد ذكر الإمام ابن جرير رحمه الله القولين ثم قال: (وأولى التأولين في ذلك عندي بتأويل الآية قول من قال: إضاعتهموها تركهم إياهم ،
صـ217
لدلالة قول الله تعالى ذكره بعده على أن ذلك كذلك. وذلك قوله جل ثناؤه: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [الفرقان / 70]. فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن وهم مؤمنون. ولكنهم كانوا كفاراً لا يصلون لله، ولا يؤدون له فريضة..) (252).
ومما يدل أيضاً على أن المراد بترك الصلاة الذي هو مناط الكفر الترك المجمل لها، لا مطلق الترك، ولا مجرد عدم المحافظة على وقتها مع الأداء لها قول الله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة / 31-32] فجعل التولي هو مناط الكفر، ومعلوم أنه ليس كل من ترك صلاة أو بعض صلوات يكون متولياً عن أداء الصلاة من حيث الجملة .(1/167)
ومما يدل على أن من ترك بعض الصلوات لا يكون كافراً بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك) (253) .
والانتقاض هنا عام لترك الأداء لبعض الصلوات، ولعدم أدائها على الكمال ولو أديت، لا يخص بأحد المعنيين دون الآخر .
وعلى هذا الحديث - وغيره كما سيأتي - اعتمد من يقول بعدم تكفير
صـ218
تارك الصلاة. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في ذلك: (ووجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة: أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمداً، كما يقتضيه ظاهر اللفظ كما ترى) (254) .
والحقيقة أن أصل اللبس في حكم تارك الصلاة هو عدم التفريق بين الترك المطلق ومطلق الترك .
فمن قال بأن تارك الصلاة لا يكفر فهم أنه إذا التزم بذلك فلابد أن يكفر بمطلق الترك. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: (الترك الذي جعل الكفر معلقاً به مطلق عن التقييد، وهو يصدق بمرة، لوجود ما هية الترك في ضمنها) (255) .
إذا فهم هذا فإنه لا يتصور من الأئمة الذين قالوا بعدم تكفير تارك الصلاة القول بأن الإصرار على تركها أو تركها من حيث الجملة ليس كفراً، لإنهم إذا قيدوا عدم الحكم بتكفير تارك الصلاة بترك صلاة واحدة لم يلزم أن يقولوا إن من ترك الصلاة بالكلية فإن حكمه كذلك .
ومما يدل على لزوم التفريق بين الترك المطلق ومطلق الترك، وعلى أن المراد بالانتقاص في الحديث السابق العموم الذي يشمل ترك أداء بعض الصلوات الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :(1/168)
(خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد. فمن جاء بهن، لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله
صـ219
الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة) (256) .
فالحديث صريح في الدلالة على أن الانتقاص من الصلاة بعدم الإتيان ببعضها مع الالتزام بها في الجملة ليس كفراً، وأن من تحقق منه ذلك فهو تحت المشيئة، ومن كان كذلك لا يكون كافراً، لأن الكافر محكوم عليه بالخلود في النار .
وفي بيان معنى هذا الحديث وعدم معارضته للقول بتكفير تارك الصلاة يقول الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله: (من أتى بهن، لم يتركهن، وقد انتقص من حقوقهن شيئاً فهو الذي لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا بعيد الشبه من الذي يتركها أصلاً لا يصليها(257) .
وفي نفس المعنى يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (من كان مصراً على تركها لا يصلى قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن من حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات ...)(258) .
ومعلوم أن الوعيد في الحديث بدخول الجنة متعلق بالإتيان بالصلاة .
صـ220
وعدم تضيع شيء منها على جهة التعمد، وأن من ضيع شيئاً من الصلاة بأن ترك بعضها أو لم يؤدها على كمالها وإن أداها، فليس من أهل الوعد بدخول الجنة. ولا يقال بإمكان دخول تارك لصلاة بالكلية تحت المشيئة، لأن سياق الحديث في التضييع المتضمن عدم كمال المحافظة عليها، لا تضييعها بمعنى تركها جملة .
صـ221
5-الكفر بتحكيم القوانين .(1/169)
إذا أطلق وصف الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يشمل التشريع من دون الله وتبديل أحكام الشريعة وإلزام الناس بالقوانين الوضعية المخالفة لأحكام الله تعالى، كما يشمل حكم الحاكم أو القاضي المسلم في قضية معينة بما يخالف حكم الله تعالى، محاباة للمحكوم له، أو لرشوة، ونحو ذلك، مع الالتزام بتحكيم الشريعة، وعدم الاعتراض على أحكام الله تعالى .
ومعلوم أن الحاكم أو القاضي المسلم إذا خالف في قضية معينة فإن فعله يكون من الظلم المستوجب للذم والعقوبة، لكنه لا يكفر به ما لم يستحل ما فعل، وينكر حكم الله تعالى في تلك الواقعة المعينة. أهل السنة مجمعون على ذلك، ولم يخالف فيه إلا الخوارج .
وأما التشريع من دون الله تعالى وتبديل أحكامه والإلزام بالقوانين الوضعية فهو كفر لذاته، لا يشترط فيه الاستحلال، بل يكون الكفر به مترتباً على مجرد فعله عن علم وبينة بأن ذلك الفعل مخالف لحكم الله تعالى .
وذلك أن التشريع مما يختص به الله تعالى، فمن شرع من دونه، أو ألزم الناس بغير شرعه فقد نازع الله تعالى فيما يختص به، ومن رضي بذلك ولو لم يفعله فقد نقض توحيده وإيمانه بالله تعالى. فكما أن الله تعالى هو المتفرد بالربوبية والخلق فهو كذلك المتفرد بالأمر والتشريع كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف/54] والأمر إذا أطلق فقد يراد به الأمر الكوني كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس / 82]. وقد يراد به الأمر الشرعي كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ...} [السجدة / 24]. فيكون الأمر الشرعي مما يختص به الله تعالى كالأمر الكوني ولا فرق .
صـ222(1/170)
ولهذا عد الله المشرعين من دونه شركاء فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [ الشورى/ 21] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام / 137] .
وسمى الله الأحبار والرهبان أرباباً لما شرعوا من دون الله فأطاعهم الأتباع في ذلك، وعد ذلك عبادة لهم من دون الله فقال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة / 31] .
والكفر بالتشريع وتحكيم القوانين لا يقيد بمجرد اعتقاد كونها أفضل من الشريعة أو مساوية لها، أو اعتقاد جواز التحاكم إليها كما يقوله المرجئة، وإنما هو كفر لذاته ، للتعارض الضروري التام بين الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وبين مجرد التشريع وتحكيم القوانين. فإنه لا يتصور أن مؤمناً يفعل ذلك مع علمه بمخالفة تلك القوانين لأحكام الله تعالى، إذ لو كان راضياً بشريعة الله لامتنع أن يبدل أحكامها، أو يلزم الناس بما يعلم أنه يناقضها تمام المناقضة .(1/171)
ولهذا جعل الله تعالى طاعته وطاعة رسوله من لوازم الإيمان ومقتضياته فقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران / 32] فجعل مجرد التولي عن طاعة الله ورسوله كفراً بهما. وأي تول عن طاعة الله ورسوله أعظم من التشريع من دون الله، وتحكيم القوانين الوضعية، والإلزام بها فيما يخالف أحكام الله تعالى. وذلك أن القوانين إنما أرسل رسوله بالشريعة ليطاع بتلك الشريعة، لا لمجرد أن يصدق أن ما جاء به من عند الله من الشرائع حق وصدق، كما يقول هؤلاء المرجئة. وهذا هو معنى قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء / 64]، فمن ظن أنه يمكن أن يتحقق الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان بالقرآن وما أنزل الله من الوحي مع
صـ223
تنحيه الأحكام الشرعية والالتزام بالقوانين الوضعية المخالفة لها فقد ناقض الأصل الذي لأجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب .
وبهذا الإجمال يظهر أن مسألة التشريع من دون الله، وتحكيم القوانين فيما يخالف أحكام الشريعة ليست من جنس الحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة، مع الالتزام بالشريعة والتحاكم إليها .
إن الحالة الأولى تعتبر رفضاً للشريعة ونقضها لمبدأ الالتزام بالدين وخروجاً من الملة .
وأما الحالة الثانية فلا تعدو أن تكون معصية كأي معصية، لا تنقض أصل الدين، ولا تكون كفراً لذاتها، لأن المعاصي مع أنه خالف الالتزام الواجب، لكنه مع ذلك ملتزم بالشريعة، مستسلم لحكم الله، معتقد أنه قد ارتكب ذنباً. وهذا مالا يمكن بحال أن يتحقق فيمن بدل دين الله، ورفض شريعته، وشرع من دون الله .(1/172)
ويستمسك الذين لا يفرقون بين الحالتين، فلا يكفرون بالتشريع وتحكيم القوانين بأقوال للسلف، وردت في حكم من حكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة، وأن القاضي والحاكم الذي تحقق منه ذلك لا يكفر إلا بشرط الاستحلال .
وكلام السلف هنا صحيح، لكن فهم المرجئة المعاصرين قاصر عن إدراك حقيقته ومناطه .
ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44] أنه قال (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه). وقال (كفر دون كفر).
صـ224
لكن ابن عباس رضي الله عنه لم يكن يقصد بذلك من نحى الشريعة وتحاكم إلى القوانين الوضعية، لأنه لم يكن في عصره من فعل ذلك. وإنما يقصد الحاكم المسلم الملتزم بالحكم بشريعة الله، لكنه قد يجوز فيحكم بغير العدل في مسألة أو مسائل معينة، فهذا لا يكفر إلا إذا استحل ما فعل .
وما قاله ابن عباس رضي الله عنه حق، لكنه إنما ينطبق على الحكم بغير ما نأن
أنزل الله في قضايا معينة، دون أن يصل الأمر إلى حد التشريع من دون الله وتبديل أحكام الله تعالى .
وفي بيان مراد ابن عباس رضي الله عنه بذلك، ومتى يكون الحكم بغير الله ما أنزل الله من الكفر الأصغر يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قد شمل ذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: (كفر دون كفر) وقوله أيضاً: (ليس الكفر الذي تذهبون إليه). وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى .(1/173)
وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى، أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها كفراً) (259).
ومثله ما ورد عن أبي مجلز أنه جاءه أناس من الخوارج الإباضية فقالوا له: أرأيت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة /44]، أحق هو ؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ
صـ225
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة /45]، أحق هو ؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة / 47]، أحق هو: قال: نعم. فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون. فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله، ولكنك تعرف. قال: أنتم أولى بهذا مني، لا أرى وأنكم ترون هذا ولا تخروجون..) (260) .
وفي رواية أخرى لابن جرير أنه قال لهم: (أنتم أحق بذلك منا، أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم) (261) .
يقول الشيخ محمود شاكر في تعليقه على هذه الروايات (..من البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء، لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه، ولهذا قال لهم في الخبر الأول فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً. وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب .(1/174)
وإذن فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام. ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالأحكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل إعراض عن حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة - على اختلافهم - في تكفير القائل به والداعي إليه .
صـ226
والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله .
بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زمانا، ولعلل وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الأباضية من بني عمرو بن سدوس) (262).
ويقول الشيخ أحمد شاكر في ذلك أيضاً: (إن كلام ابن عباس وأبي مجلز وغيره حق لا مراء فيه، وهو لا ينطبق على واقعنا .. وهما لم يردا أبداً فيمن رد الأمر إلى شريعة غير شريعة الله عند التنازع ..) (263) .
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (الذي قيل فيه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنه عاص، وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، وأما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل) (264) .
وبهذا يعلم أن من اشترط الاستحلال في كفر بدل أحكام الشريعة لا متمسك له بما ورد عن بعض السلف في تفسير الآيات من أن المراد بها كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق .
ومع أن قول أولئك السلف صحيح في ذاته على ما قالوه، لكنه على الصحيح ليس هو المعنى المقصود أصلاً بالآيات، بل سياقها يدل
صـ227
على أن المراد بالكفر والظلم والفسق فيها الكفر الأكبر والظلم الأكبر والفسق الأكبر .(1/175)
والذي يقطع في الدلالة على ذلك ما صح في سبب نزول الآيات. فقد ورى الإمام مسلم وغيره عن البراء بن عازب قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، لكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة / 41]، إلى قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} [المائدة / 41] يقول: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44]. الآيات كلها في الكفار (265) .
فاجتماع اليهود على تشريع حكم في حد الزنى، مخالفة حكم الله في ذلك، وجعله في مقام الإلزام، وتبديل دين الله، هو سبب كونهم من المسارعين في الكفر، وليس المراد في ذلك قطعاً الكفر الأصغر، كما أنه لا اشتراط للاستحلال هنا، بل مناط الكفر هو ما فعلوه من
صـ228
التشريع وتبديل حكم الله.(1/176)
وقد جاء الحكم عاماً بكفر اليهود وكفر من فعل فعلهم في قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44] الآيات. فالآيات وإن نزلت بسبب ما فعله اليهود من التشريع إلا أنها حكم عام ينطبق على كل من شرع من دون الله وبدل أحكامه (266).
وقد ورد في سبب نزول آيات المائدة روايات أخرى، ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك كان سبب ما كان بين بني قريظة وبني النضير، حين اتفقوا على أنه إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وفي روايات فديته مائة وسق، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة ودي بمائة وسق من تمر، وفي رواية خمسون وسقاً. لأن بني النضير قد قهرت بني قريظة، فاصطلحوا على ذلك. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلت الطائفتين للنبي صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة، فطلبوه ليقتلوه، وفي رواية أنهم طلبوا ديته مائة وسق. فأبت بنو النضير، وتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآيات (267) .
وسواء كان سبب نزول الآيات هو ما ذكره البراء بن عازب رضي الله عنه، أو كان ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، أو كانت كلتاهما سبباً لنزول الآيات - كما يقول الإمام ابن كثير رحمه - فإن العلة التي
صـ229
هي مناط الكفر في الآيات هي التشريع من دون الله تعالى. إما بتشريع الجلد والتحميم مكان الرجم كما في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه، وإما بتشريع الدية بين الطائفتين بما يخالف حكم الله عندهم كما في رواية ابن عباس رضي الله عنهما. فكان ما فعلوه على كل حال والتزموا به، وجعلوه شريعة بينهم، وتركهم حكم الله الذي يعلمونه في كتبهم هو سبب حكم الله بكفرهم .
فمن فعل كما فعلوا، فبدل أحكام الله تعالى، وحكم القوانين الوضعية، وألزم الناس بها فحكمه حكمهم، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .(1/177)
فكيف يقال بعد كل هذا إن من فعل فعل اليهود من التشريع من دون الله لا يكفر بمجرد فعله حتى يظهر لنا أنه مستحل، ولا يكون ذلك إلا بنطقه بذلك ؟! .
والذي يبين فساد هذا القول أن الله قد جعل الحكم بغير الشريعة هو مناط الكفر، ولم يذكر الاستحلال والجحود، بل الجحود كفر ولو لم يكن معه تحكيم لغير الشريعة، فالجاحد المستحل كافر، شرع من دون الله أو لم يشرع .
فدل هذا على أن القول بأن المراد في معنى الآية في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44] ومن لم يحكم جاحداً منكراً، تنزيل لحكم الله على غير مناطه الذي هو الأصل في معنى الآية، وهو مجرد التشريع والحكم بغير الشريعة التزاماً بغيرها .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في رد قول من اشترط الجحود والاستحلال في تكفير من شرع من دون الله: (ذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو أن من لم
صـ230
يحكم بما أنزل الله منكراً له أو راغباً عنه لاعتقاده بأنه ظلم، مع علمه بأنه حكم الله، أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان. ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد، والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمناً مذعناً لدين الله، يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكماً، ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكماً آخر بإرادته، إعراضاً عنه وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه .
والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفاً لحكم الله. ولا يكتفوا بعدم مساندته عليه ومشايعته فيه. فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر ) (268).(1/178)
ولزيادة البيان في حكم هذه المسألة، والنص على أن التشريع من دون الله كفر يخرج عن الملة، وأن التشريع والحكم بشريعة غير شريعة الله كفر، والفرق بين هذه المسألة ومسألة الحاكم المسلم الذي يحكم بخلاف الحق في مسألة معينة. ولأجل ذلك كله لابد من استعراض أقوال أئمة أهل السنة في هذه القضية، وخصوصاً الذين كانت كلماتهم وفتاويهم بياناً لحكم ما عاينوه وشهدوه من تحكيم لغير الشريعة في بلاد المسلمين .
ولم يكن ذلك إلا في حالتين. الأولى منهما: يوم غلب التتار على بعض بلاد المسلمين وحكموا فيها ما يسمى الياسق، وهو قانون ملفق من مجموع ديانات منها الإسلام، مع ما رآه جنكيز خان برأيه ووضعه في كتابه ذلك .
صـ231
والحالة الثانية: هي ما حصل بعد سقوط الخلافة العثمانية من تشتت بلاد المسلمين وخضوعها للحكم العلماني الغربي، ثم نزوح الاستيلاء الغربي المباشر في الظاهر، مع البقاء على القوانين الوضعية المختلفة مصدراً للتحاكم والتقاضي في كثير من بلاد المسلمين .
وهذه هي الحالة التي تعيشها أغلب بلاد المسلمين اليوم، حيث أقصيت الشريعة وترك أمر التحاكم إليها، وإن حكم بها في بعض الشؤون والأحوال الشخصية فعلى أنها مصدر محكوم، لا نفاذ له لذاته ولا اعتبار له إلا بما تسمح به سلطة القانون الوضعي الذي هو الأصل .
ولا عبرة هنا بالالتزام ببعض الشريعة مع كون القوانين الوضعية هي الأصل المتحاكم إليه، لأن أخص خصائص الشريعة أن تكون حاكمة مهيمنة على غيرها، لأنها حكم الله وشرعه، فإذا كانت محكومة بغيرها فقدت خاصيتها التي هي الحكم على غيرها، فلم يكن لها اعتبار حينئذ .
ونعود إلى بيان هذه القضية وبعض كلام أئمة أهل السنة في ذلك زيادة على ما سبق .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة / 50] .(1/179)
يقول: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، عدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق. وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية
صـ232
والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فمن فعل ذلك منهم فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير ) (269).
ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام - كائناً من كان - في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه ) (270).
وقد أفراد الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمة الله عليه هذه المسألة برسالة مستقلة، فصل فيها القول بما لا مزيد عليه .
وقد افتتح هذه الرسالة بقوله: (إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء / 59] .(1/180)
ثم تكلم عن اشتراط التحاكم إلى الشريعة في تحقيق الإيمان، وأنه (لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد
صـ233
أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر) (271).
ثم بين أنه: (من الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، وإما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد) (272) .
ثم ذكر خمسة أنواع للكفر الاعتقادي المخرج من الملة. أربعة منها تدور على الاستحلال والجحود والإنكار لشريعة الله .
ثم قال فيما يتعلق بالتقنين والتشريع الذي هو مجال الكلام هنا:
(الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع. ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريقاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم .
فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول
صـ234
الله بعد هذه المناقضة ) (273) .(1/181)
فهذا النوع الخامس، وهو تحكيم القوانين الوضعية كفر مخرج من الملة، ولو زعم من حصل منه ذلك أنه يعتقد صلاحية الشريعة للحكم، أو زعم أنه يعتقد بطلان القوانين مع حكمه بها، فإنه لا يقبل منه ذلك بل يكون كافراً بمجرد الفعل، إذا علم مخالفتها للإسلام ولم يكن له في ذلك شبهة، والذين أولوا مراد الشيخ بهذا النوع الخامس وزعموا أنه عنده مقيد بالجحود والاستحلال لم يفهموا مراده في أحسن أحوالهم، إذ كلامه هنا واضح في عدم التقييد بذلك، وقد بين رحمه الله في موضع آخر هذه القضية فقال: (لو قال من حكم القانون أنا أعتقد أنه باطل فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل ) (274) .
وفيه بيان الحكم في هذه المسألة يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم إنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم) (275) .
وفي نفس المعنى يقول أيضاً: (من هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أن كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية) (276) .
صـ235
ويقول الشيخ عبد الرازق عفيفي رحمه الله في حكم هذه المسألة: (من كان منتسباً للإسلام، عالماً بأحكامه، ثم وضع أحكاماً، وهيأ لهم نظماً، ليعملوا بها، ويتحاكموا إليها، وهو يعلم أنه تخالف أحكام الإسلام فهو كافر خارج من ملة الإسلام .
وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك، ومن أمر الناس بالتحاكم إلى تلك النظم والقوانين، أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام .(1/182)
وكذا من يتولى الحكم بها، وطبقها في القضايا، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره ، مع علمه بمخالفتها للإسلام .
فجميع هؤلاء شركاء في الإعراض عن حكم الله، ولكن بعضهم يضع تشريعاً يضاهي به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينه، وبعضهم بالأمر بتطبيقه أو حمل الأمة على العمل به. أو ولي الحكم به بين الناس، أو نقد الحكم بمقتضاه، وبعضهم بطاعة الولاة، والرضا بما شرعوا لهم ما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطاناً .
فكلهم قد اتبع هواه من الله، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وكانوا شركاء في الزيغ والإلحاد والكفر والطغيان ، ولا ينفعهم عملهم بشرع الله واعتقادهم ما فيه، مع إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه بتشريع من عند أنفسهم، وتطبيقه والتحاكم إليه، كما لم ينفع إبليس عمله بالحق واعتقاده إياه، مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقياد إليه) (277) .
وفي بيان حكم هذه المسألة يقول الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله: (ونرى فرقاً بين شخص يضع قانوناً يخالف الشريعة ليحكم الناس
صـ236
به وشخص آخر يحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله، لأن من وضع قانوناً ليسير الناس عليه وهو يعلم مخالفته للشريعة، ولكنه أراد أن يكون الناس عليه فهذا كافر كفراً مخرجاً من الملة، ولكن من حكم في مسألة معينة، يعلم فيها حكم الله، ولكن لهوى في نفسه، فهذا ظالم أو فاسق، وكفره - إن وصف بالكفر - كفر دون كفر) (278)
وفي ذلك يقول أيضاً: ( من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به أو احتقاراً مخرجاً من الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية، لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق. إذ إن من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه .(1/183)
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به ولم يحتقره ولم يعتقد أن غيره أصلح منه لنفسه أو نحو ذلك فهذا ظالم وليس بكافر، وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم .
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ولا احتقاراً، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح وأنفع للخلق أو مثله، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوك له أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق وليس بكافر. وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم .
.... وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله، لأن المسائل التي
ص237
تعتبر تشريعاً عاماً لا يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط. لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام، وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه) (279) .
وفي بيان خطورة القول بأن تحكيم القوانين الوضعية ليس كفراً مخرجاً من الملة. وبيان ارتباط ذلك بشبهة المرجئة في هذا الباب يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (وهذا الإرجاء - تأخير العمل عن حقيقة الإيمان - أخطر باب لإكفار الأمة، وتهالكها في الذنوب والمعاصي والآثام، وما يترتب على ذلك من انحسار في مفهوم العبادة، وتمييع التوحيد العملي - توحيد الألوهية - وكان من أسوأ آثاره في عصرنا شرك التشريع ؛ بالخروج على شريعة رب الأرض والسماء بالقوانين الوضعية، فهذه على مقتضى هذا الإرجاء ليست كفراً، ومعلوم أن الحكم بغير ما أنزل الله معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله) (280) .(1/184)
ويقول سيد قطب رحمه الله في نفس القضية: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) بهذا الحسم الصارم الجازم، وبهذا التعميم الذي تحمله (من) الشرطية وجملة الجواب، بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله في أي جيل ومن أي قبيل .
والعلة التي أسلفنا، هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله يرفض ألوهية الله، فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية، ومن يحكم بغير ما أنزل الله يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر. وماذا يكون
ص238
الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان والعمل - وهو أقوى تعبيراً من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان ؟! .
إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة، والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه، وليس لهذه المماحكة من قيمة أو أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد) (281) .
وبعد كل هذا وما سبق وما سيأتي، فإنه لا يمكن أن يقال إن التشريع من دون الله كفراً، وأن من تعمد أن يشرع ويبدل دين الله لا يكفر بمجرد فعله حتى يكون مستحلاً معتقداً جواز فعله .
ص239
حكم المعين
لا يخلو حال من التزم بغير الشريعة سواء كان مسرعاً أو حاكماً من ثلاثة احتمالات :
الأول: أن يكون جاهلاً بلزوم الالتزام بالشريعة ، غير جاهل ولا متأول .
الثالث: أن يكون عالماً بلزوم الالتزام بالشرعية، لكنه يجهل أن فعله يتعارض مع أصل الالتزام بالشريعة، لعدم علمه بالحكم الشرعي في ذلك. فلا يكون فعله رداً لها، أو متأولاً غير قاصد رد حكم الله ولو علمه .(1/185)
فمن كان جاهلاً أنه يلزمه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالشريعة إجمالاً فهو كافر كفراً أصلياً. لأن من شروط تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله العلم بمدلولها، الذي هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بالشريعة، تصديقاً والتزاماً إجمالياً، يقتضي التصديق والالتزام التفصيلي. وهذا الأمر لا يعذر فيه أحد بجهل أو تأول أو إكراه، فلا يتحقق الإيمان إلا به، ولا تكون النجاة في الآخرة دون تحقيقه .
لكنا لا نعلم ذلك من حال المعين بمجرد فعله الظاهر، لأنه كما قد يكون جاهلاً بوجوب الالتزام بالشريعة لتحقيق أصل الدين، فقد يكون غير جاهل، فلا يجوز الجزم بكفر من ظهر منه ذلك إلا ما أطلعنا عليه بإخبار المعين عن نفسه بذلك، أو اعترافه به بما لا يحتمل معه إلا أن يكون جاهلاً بحقيقة اشتراط الالتزام بالشريعة في أصل الدين .
صـ240
وأما من كان غير جاهل بلزوم الالتزام بالشريعة في تحقيق أصل الدين - كما هو مفترض في كل من أقر بالإسلام - ورد الشريعة بالتزامه بغيرها تعمداً لذلك فهو كافر، ولا ينظر لكونه مستحلاً أو غير مستحل، جاحداً أو غير جاحد. وهذا هو مناط النزاع بين أهل السنة والمرجئة. فهو نزاع إذن في الحكم على المعين ناتج عن النزاع في حقيقة الإيمان والكفر على ما سبق بيانه .
وأما العالم بلزوم الالتزام بالشريعة لتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، لكن تحققت منه المخالفة في الظاهر بالالتزام بغير الشريعة، ولكن لا على جهة رفض الشريعة وردها، بل قد يكون عن ظن بأن فعله لا يناقض حقيقة الالتزام. فهذا لا يحكم بكفره بمجرد الفعل .
وهنا لابد من إقامة الحجة على المعين، شبهته، حتى يعلم أن ما يفعله هو رد لشريعة الله، فإن أصر على فعله كفر، لأنه حينئذ يكون قد فعل ما فعل رداً ورضاً للشريعة، وهذا هو مناط التكفير هنا .(1/186)
وإذا تأملنا هذه الحالة والتي قبلها وجدناها من حيث الظاهر سواء، لاتفاقهما في العمل الظاهر. ونتيجة لذلك فإنه يلزم التبين عن حال المعين قبل تكفيره، وهل فعل ما فعل رداً للشريعة أم أن له شبهات وتأولات، فإن كانت الأولى كان كافراً، وإن كان ممن يعذر بجهل أو تأول لم يحكم بكفره حتى تقام الحجة عليه وتزال شبهته .
وفي هذه المسألة وحكمها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر. فمن استحل أن يحكم بين الناس بما عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر. فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية وكأوامر المطاعين .
صـ241
فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة ،وهذا هو الكفر .
فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم، التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً ) (282) .
وملخص كلام شيخ الإسلام رحمه الله هو :
1- أنه قد يحصل ممن هو مسلم التزام بغير الشريعة في الظاهر، لكن لا على جهة رد الشريعة ورفضها، بل قد يكون ذلك عن جهل أو شبهة .
2- أن من تحقق منه ذلك في الظاهر لا يكفر بمجرد فعله، وإن كان فعله كفراً، حتى يعرف أن فعله يناقض حقيقة الالتزام بالدين الذي يفترض أم يعمله .(1/187)
3- أن من أصر على فعله بعد التعريف والبيان يكفر، ويسميه شيخ الإسلام هنا مستحلاً، وهذا ليس الاستحلال الذي يقصده المرجئة ويشترطونه في تكفير من شرع من دون الله، لأن الاستحلال عندهم لا يمكن الاطلاع عليه إلا من جهة النطق به، وأما مجرد الفعل فلا دلالة فيه عندهم على الاستحلال قبل التعريف أو بعده .
ولهذا ذكر الإمام ابن تيمية أن تحكيم غير الشريعة كفر، والمرجئة لا يقولون بذلك فيما يتعلق بالوصف الشرعي. وأن من أصر على تحكيم غير الشريعة بعد التعريف يكفر ويكون مستحلاً. والمرجئة لا يقولون
صـ242
بذلك في حكم المعين، والعبرة بحقائق الألفاظ لا بصورها .
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا عن آيات المائدة وحكم المعرض عن شرع الله: (في الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملاً على الهدى والنور، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل به، والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثراً لغيره عليه فهو كافر به. وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به، أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله. وهذا العاصي بترك الحكم الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره ) (283) .
وفي بيان الفرق بين الحكم على الفعل والحكم على الفاعل. واشتراط انتفاء الشبهة في تكفير من حكم بالقوانين الوضعية يقول الشيخ محمد ابن عثيمين حفظه الله: (من وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله، وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين فهو كافر، لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر فمعنى ذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر.
ولكن قد يكون الواضع له معذوراً، مثل أن يغرر به، كأن يقال إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس ) (284).(1/188)
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله في نفس القضية: (من المتفق عليه أن من يستحدث من المسلمين أحكاماً غير ما أنزل الله،
صـ243
ويترك الحكم بكل أو بعض ما أنزل، من غير تأويل يعتقد صحته فإنه يصدق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق، كل بحسب حالته ) (285).
مناط كفر المحكومين بغير الشريعة :
هذا الذي سبق كان في حكم المشرع والحاكم بغير الشريعة، وأما المحكوم بذلك فمناط كفره رضاه وقبوله لغير الشريعة، لأن الراضي بالكفر كفاعله، وهم لم يحصل منهم تشريع وتبديل لأحكام الله، فبقي النظر في قبولهم لذلك التشريع ورضاه به .
يقول الله تعالى في شأن بعض من أعلن أسلامه لكنهم يريدون التحاكم إلى غير الشريعة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا .....الآيات} [النساء /60-61].
والآيات نص على أن من رضي بغير حكم الله فهو كافر، وإن زعم أنه مسلم، لأنه لا يمكن أن يكون مسلماً ملتزماً بشريعة الله من يختار ويؤثر التحاكم إلى غيرها من سبل الطاغوت الذي هو كل معبود غير الله، سواء في التقرب والنسك أو في الطاعة في التشريع، فكلها شرك بالله تعالى .
وعلى هذا فمن آثر التحاكم إلى غير الشريعة على التحاكم إلى
صـ244
الشريعة مع إمكان أن يتحاكم إلى شرع فلا يكون إلا راغباً بغير الشريعة كافراً بذلك. كما ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله أن جنكيز خان كان قد وضع للتتار كتاباً يتحاكمون إليه، ويحكمون به، وأنه شئ اقترحه من عند نفسه، وتبعوه عليه، وكان قد غلب بلاد المسلمين .(1/189)
قال ابن كثير: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا (286) وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين (287) .
ولا يلزم من هذا أن كل من تحاكم إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية لابد أن يكون كافراً، بل قد يضطر المسلم لتخليص حقوقه ونحو ذلك إلى التحاكم إليها، مع عدم رضاه عنها، فلا يكون كافراً بل يكون حكمه حكم المضطر .
وإذا تبين أن مناط كفر المحكومين بغير الشريعة أن يقبلوا ذلك ويرضوا به، فمتى يتحقق ذلك في المعين بالنسبة لأحكام الظاهر، بحيث يحكم عليه بأنه قد قبل غير الشريعة، ورضي به، وقدمه على حكم الشريعة ؟.
وللإجابة على ذاك لابد من التأكيد على ثلاثة أمور :
الأول: إن الأصل فيمن أظهر الإسلام أن نحكم له به، وألا نزيل عنه ذلك الوصف بمجرد الشك والظن والاحتمال، حتى يظهر ما يناقض الحكم بكفره، لأن التظاهر بالإسلام من حيث الأصل قاطع في الدلالة
صـ245
على الحكم للمعين بالإسلام، فلا يزيله إلا اليقين المبني على بينة ظاهرة قاطعة في الدلالة على الكفر، أو عدم اعتبار الإقرار .
وعليه فلا اعتبار لقول من يشترط التبين لإثبات وصف الإسلام، وعدم الاكتفاء بالإقرار أو التظاهر ببعض خصائص الإسلام في ذلك سواء قيل مع ذلك بالتوقف عن وصف الكفر أيضاً، أو قيل إن الأصل في الناس هو الكفر.(1/190)
الثني: إن عدم الإنكار الظاهر باليد واللسان لا يعني مشايعة الذين يحكمون بالقوانين الوضعية، ويبدلون شرع الله، وذلك أنه ليس كل أحد يستطع الإنكار في الظاهر، فبعض المسلمين مع عدم رضاهم عن القوانين الوضعية وعمن يحكمون بها لا يمكنهم أن ينكروا ذلك إلا بأن يكرهوه بقلوبهم، وهم لا يكلفون أكثر من وسعهم، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (288). ففي هذا الحديث إيجاب الإنكار للمنكر بحسب القدرة، حتى يكون الإنكار بالقلب الذي ينتفي الإيمان بانتفائه. وحقيقته كره القلب للمنكر، الذي يقتضي اجتنابه في الظاهر، ما لم يكن ثمة إكراه معتبر يبيح التظاهر بما ليس في القلب. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع) (289) .
صـ246
ولهذا كان إنكار القلب يقتضي عدم الرضى والمتابعة على الكفر والمعصية جهاداً كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) (290) .
والخلاصة أن المتابعة المكفرة للذين يحكمون بالقوانين الوضعية لا تكون بمجرد عدم الإنكار عليهم في الظاهر، مع أن عدم الإنكار مع القدرة دليل على ضعف الإيمان، و وإنما ينتفي ويثبت وصف الكفر مع المشايعة لهم على نفس التشريع من دون الله، الذي هو مناط كفر المشرعين .(1/191)
الثالث: إن المتابعة للمشرعين من دون الله بالعمل الظاهر لا تكون كفراً مطلقاً. بل قد تكون متابعة لهم على المعصية، مع تحقق الإيمان وعدم انتفائه بالكلية ، كمن زنى أو شرب الخمر أو نحو ذلك في بلاد تكون تلك المعاصي مباحة في قوانينها. ما لم يوافقهم على نفس التشريع المخالف للشريعة. وعلى هذا يدل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام /121]. فليس كل من أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه يكون مشركاً. لكن من فعل ذلك طاعة وقبولاً لتشريع غيره كفر. فيكفر بمجرد قبوله لذلك، ولو لم يأكل من الميتة.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول
صـ247
غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك ) (291)
ويقول الشيخ الشنقيطي في معنى الآية: (... ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها، فقال: (الله قتلها) فأوحى أن يقولوا له: ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم إذن أحسن من الله، أنزل الله: {لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)... وهو قسم من الله أقسم به جل وعلا في هذه الآية الكريمة على أن من أطاع الشيطان في تشريعه تحليل الميته أنه مشرك، وهو شرك أكبر مخرج عن الملة الإسلامية بإجماع المسلمين) (292) .(1/192)
ومثل ذلك أيضاً ما ورد من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في معنى قول الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ.. الآية} [التوبة / 31]. قال عدي رضي الله سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم) (293).
وفي رواية الترمذي: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه) (294) .
ومعنى الآية أن أهل الكتاب قد أشركوا بالله حين قلبوا التشريع من أحبارهم ورهبانهم، لأن ذلك من خصائص الرب، ومن ادعاها ادعى
صـ248
بعض صفات الربوبية، ولهذا سمى الشياطين شركاء، لما أطاعهم المشركون في قتل أولادهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام /137] .
لكن الطاعة في التشريع واستحلال المحرمات غير الطاعة في مجرد المعصية. ومناط الكفر هو مشايعة الشركاء المشرعين من دون الله، بقبول التشريع منهم وتحليلهم للمحرمات، فإن حصل اتباع وطاعة لهم على الفعل بمجرد المعصية دون الرضى بتشريعهم وقبوله لم يكن ذلك شركا مخرجاً من الملة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح آية التوبة وحديث عدي السابق: (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم وتحريم ما أحل يكونون على وجهين :
أحدهما: أن يعلموا أنههم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنه خالفوا دين الرسول، فهذا كفر. وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين، مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء .(1/193)
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً (295). لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من
ص249
المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب) (296) .
ومما تقدم يتبين الفرق بين الحاكم والمشرع بغير الشريعة، ويبين المحكوم بذلك، وأنه يشترط في تكفير المحكوم بغير الشريعة رضاه وقبوله الذي لا يتحقق بمجرد السكوت عن الإنكار وعدم الاعتراض، بل لابد من دلاله قاطعة من قول أو فعل ظاهر، ليس مجرد معصية. بخلاف المشرع والحاكم بغير الشريعة المضاهي للشريعة بأحكام القوانين الجاهلية، فإنه يكفي في تكفيره مجرد فعله ذلك، دون شرط التكذيب والاستحلال، لكن ينظر في قيام الحجة عليه، لإمكان أن يكون فعله من جهة ظنه عدم التعارض بين ما فعله وبين حقيقة الالتزام بالشريعة المفترض أن يعلمها .
ص251
الفصل الثالث
شرك دون شرك، وكفر دون كفر
وردت نصوص كثيرة بإطلاق وصف الكفر أو الشرك أو نفي وصف الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر .
من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (297) .
ومنها ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان" (298) .
ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (299). وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل يدعي إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر " (300)،
ص252
وقوله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد أشرك) (301). وقوله صلى الله عليه وسلم :(إن الرقى والتمائم والتولة شرك) (302) ونحو ذلك من النصوص .(1/194)
وقد اختلف في معنى هذه النصوص وأمثالها، بناء على الاختلاف في حقيقة الإيمان والكفر، فذهب كل من المرجئة والخوارج إلى أن الإيمان مرتبة واحدة لا يقبل الزيادة والنقصان، فكذلك الكفر يكون مرتبة واحدة تبعاً لذلك.
وأصل منهج المرجئة والخوارج على ما بين مذهبيهما من اختلاف وتضاد أن الإيمان إذا كان حقيقة واحدة تنتفي بالكلية إذا انتفى بعضها، وتصبح حقيقة أخرى، كالعدد عشرة مثلاً، إذا نقص منه واحد وأصبح تسعة، فاختلف حقيقة العدد يتخلف بعضه .
وأساس شبهتهم أنهم لم يفرقوا بين ما هو شرط في أصل الإيمان كالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، مع توحيد الله تعالى، فإنه لا يكفي أحد هذين الأصلين عن الآخر. وبين مالا يكون شرطاً في أصل الإيمان فلا يقتضي تخلفه عدم وجودها بالكلية. كالمرتكب لبعض الكبائر فإن إيمانه ينقص، لكنه لا يذهب بالكلية إلا بالكفر .
ومما يمثل به علماء أهل السنة هنا الشجرة حين يقطع بعض أغصانها، فإنها شجرة مع ذلك النقص، وقد ضربها الله مثلاً لكلمة التوحيد في قوله تعالى :{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
صـ253
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) .. الآية [إبراهيم /24-25] .
ومع اتفاق كل من المرجئة والخوارج في أصل الشبهة والمنهج، نفيض في معاني النصوص السابقة وأمثالها .
فأما المرجئة فألغت دلالتها الشرعية بالكلية، وأما الخوارج فاعتمدتها في التكفير بالكبيرة، وهذا تفصيل أقوالهم في ذلك .
منهج المرجئة :
ألغى المرجئة الدلالة الشرعية لهذه النصوص، وأبقوها على دلالتها اللغوية. فقالوا المراد بالكفر في النصوص كفر مجازي لا كفر حقيقي، لأنه لا يكون الكفر حقيقياً عندهم إلا إذا ذهب معه الإيمان بالكلية .(1/195)
وأما الأحاديث التي فيها نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر فقالوا: إن المراد بها النهي والزجر، لا الإخبار عن انتفاء الإيمان، أو إن المراد بها مجرد الوعيد الذي لا يتضمن نفي الإيمان حقيقة، وبهذا تنتفي دلالتها بالكلية. لأن النهي لا يتضمن الدلالة على أن من ارتكب تلك الكبائر لا يكون مؤمناً، بل يكون المعنى على قولهم: إن من شأن المؤمن أن لا يرتكب الكبائر، لكن من ارتكبها لا يكون بذلك قد نقص إيمانه .
والعجيب مع هذا أن يقال إن الخلاف بين أهل السنة وبين المرجئة في هذه المسألة خلاف صوري لا حقيقي.
صـ254
وممن مال إلى هذا شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله إذ يقول: (إن أهل السنة(303) اختلفوا لفظياً لا يترتب عليه فساد، وهو: أنه هل يكون الكفر على مراتب، كفراً دون كفر ؟ كما اختلفوا: هل يكون الإيمان على مراتب إيماناً دون إيمان ؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان، هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ،ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً ولا نطلق عليها اسم الكفر. ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال: هو كفر عملي لا اعتقادي، والكفر عنده مراتب كفر دون كفر، كالإيمان عنده. ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان قال: هو كفر مجازي غير حقيقي، وإذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة .
وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة/143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، إنها سميت إيماناً مجازاً، لتوقف صحتها على الإيمان، أو دلالتها على الإيمان ...)(304) .(1/196)
والحقيقة أن الخلاف هنا ليس لفظياً، بل هو حقيقي يترتب عليه الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، وهل يمكن إطلاق وصف الإيمان على الفاسق أم يقال هو مسلم ولا يقال هو مؤمن، وهل يمكن الاستثناء في الإيمان أم لا، بل إنه يلزم من لا يقول بأن العمل من الإيمان من مرجئة الفقهاء أن يلتزموا بما التزم به مرجئة
صـ255
المتكلمين (305) من أن تارك جنس العمل والحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر
صـ256
وهذا خلاف إجماع أهل السمة في هذه القضية .
وقد بنى الذين يقولون إن الخلاف بين عموم أهل السنة ومرجئة الفقهاء صوري قولهم على أمرين :
الأول: أن مرتكب الكبيرة لا يكفر عندهم جميعاً، بخلاف الخوارج والمعتزلة .
يقول شارح الطحاوية رحمه الله: (الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الخوارج لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي) (306) .
والحقيقة أن أهل السنة لا يقولون بأن مرتكب الكبيرة قد انتفى إيمانه بالكلية، لأنه لو كان كذلك كافراً، لكنهم لا يثبتون له وصف الإيمان، وإن كان معه أصله، فليس مرتكب الكبيرة عندهم مؤمناً وإن كان معه إيمان. بل يقولون هو مسلم، ولا يقولون هو مؤمن، خاصة فيما ورد الدليل فيه بنفي الإيمان ، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فمن قال إن الزاني حين يزني يكون مؤمناً لابد أن يعارض الحديث. فإن قال: وهل يكفر الزاني حين يزني ؟
صـ257
قيل: الإيمان المنفي هنا هو الإيمان الواجب لا مطلق الإيمان، وهذا مناط النزاع في القضية، فإما أن يلتزم بأن الزاني مؤمن بإطلاق، وإما أن يوافق الحديث في نفي الإيمان عنه، ثم يفصل في المقصود بالإيمان المنفي فيه، كما هو منهج أهل السنة في ذلك .(1/197)
والقول بأن الزاني والسارق وشارب الخمر ليسوا مؤمنين وإن كانوا مسلمين هو مقتضى قول جمهور أهل السنة الذين يفرقون بين الإسلام والإيمان، وأما من يقول بالترادف بينهما من أهل السنة فقد يقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، وقد يقولون مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يقولون هو مؤمن دون تقييد كما تقوله المرجئة .
وأما تأول الحديث على أن معناه النهي لا الإخبار فهو إخراج له عن حقيقة دلالته.
وإذا قبل منهم هذا التأويل في مثل هذا الحديث فكيف يتأولون مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (307). ومثل حديث: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ) (308) , ونحو ذلك من النصوص الصريحة القاطعة في الدلالة على الخبر بنفي أن يكون من فعل ذلك مؤمناً. فالقول أيضاً بأن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه مؤمن، أو أن من لم يأمن جاره بوائقه مؤمن معارضة للحديث ظاهره .
لكنهم تأولوا مثل هذه الأحاديث على أن المراد بها الوعيد لا نفي الإيمان حقيقة، وهذا تخريج لا تحتمله تلك النصوص وأمثالها. وعلى التسليم بأن
صـ258
المراد بها الوعيد فإن ذلك لا يعني نفي أن تكون دالة على نفي الإيمان الواجب، وأن من ارتكب تلك المعاصي فليس بمؤمن بنص الأحاديث .
وقد استشنع الإمام القاسم بن سلام مثل هذا التأويل فقال: (وأما القول الثني المحمول على التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له. وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكناً في العقوبات كلها) (309) .
وبهذا يعلم أن من ذهب إلى نفي الدلالة الشرعية لهذه النصوص فإنه لابد أن يتناقض وأن القول ما يؤول إلى معارضتها وتحريفها .(1/198)
وأما الأمر الثاني الذي يعتمد عليه من يقول بأن الخلاف في هذه المسألة صوري فهو: أن الجميع متفقون على أن العمل مطلوب، سواء سمي إيماناً أم لم يسم .
يقول شارح الطحاوية: (لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعني به عند الإطلاق قولهم الإيمان قول و عمل، لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان ؟ أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له، لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً ؟ هذا محل النزاع) (310) .
صـ259
والجواب: أن الخلاف في هذه المسألة ليس في كون العمل مطلوباً أم لا، ولا هل يدخل مرتكب الكبيرة تحت الوعيد أم لا، فكلهم متفقون على ذلك، وإنما الخلاف في أن مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أم لا، وما يترتب على ذلك من مسائل الأسماء .
فإن قيل لا خلاف في الأحكام الدنيوية، من إقامة الحدود على من يقام عليه الحد من مرتكبي الكبائر، وفي الأحكام الأخروية، من أن مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد، قيل: نعم، وهذه مسائل الأحكام. وليست مناط النزاع .
وإنما الخلاف في مسائل الأسماء، وهو حقيقي فيها، فلا يصح إطلاق القول بأن الخلاف في هذه المسألة صوري بعد هذا. ثم لماذا تحمل النصوص التي فيها إطلاق الإيمان على العمل على المجاز، مع أنها إنما تحمل على الحقيقة، ولا مجال فيها للمجاز ؟ .
منهج الخوارج وأصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام :
وأما الخوارج قديماً وحديثاً فيرون أن المراد بالنصوص التي فيها إثبات وصف الكفر أو الشرك الحقيقة لا المجاز، وكذلك النصوص التي فيها نفي الإيمان، كما سبق ذكرها. لكن لما كان الإيمان عندهم مرتبة واحدة - كما عند المرجئة - فكذلك الكفر مرتبة واحدة، ومعنى ذلك أن المراد بنفي الإيمان هنا نفيه بالكلية، وأن المراد بالكفر والشرك الكفر والشرك المخرج من الملة .(1/199)
يقول شكري مصطفى: (إن لفظة الكفر ما جاءت في الشريعة إلا لتدل على عكس الإيمان وانتفائه، وهى تعبر عن حكم عام يشتمل على عدة أنواع منه، لكل نوع منها اسم علم خاص به، كالفسق والظلم
صـ260
والخبث .. فحينما يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) فإن جميع الثلاثة كفر من حيث الكم العام مختلفين من حيث أسماء الأعلام ومداخل الكفر ) (311). وهذا عن كون الإيمان مرتبة واحدة عندهم وكذلك الكفر .
أما عن الكفر الأصغر فيقول شكري أيضاً في نفيه: (لم يحدث أن فرقت الشريعة بين الكفر العملي والكفر القبلي، ولا أن جاء نص واحد يدل أن يشير إلى أدنى إشارة إلى أن الذين كفروا بسلوكهم غير الذين كفروا بقلوبهم واعتقادهم، بل كل النصوص تدل على أن عصيان الله عملاً والكفر به سلوكاً وواقعاً هو بمفرده سبب العذاب والخلود في النار والحرمان من الجنة - نعوذ بالله من ذلك - بل أكثر من ذلك .
أما شرط الاستحلال والجحود القلبي أو اللساني فشرط زائد متكلف، ما اشترطه عقل ولا كتاب ولا سنة، ولا يجيزه التعامل الواقعي الملموس بين الناس .
فإن العقل والواقع والشرع كل هؤلاء لا يفرق من حيث النتيجة الحقيقية بين من جحد حقاً لأحد من الناس بلسانه، وبين من أمر به ثم اشتركا جميعاً في منعه وجحده بالسلوك والجارحة. بل لعل المقر بلسانه الجاحد بسلوكه أكبر جرماً عند الناس وأغيظ لهم من الآخر) .
ثم يقول: (وقد جاءت النصوص متواترة يصدق بعضها بعضاً قرآناً وسنة على أن سبب كفر الكافرين ودخولهم النار ودخولهم فيها وحرمانهم من الجنة هو ما كانوا يعملون، وما كانوا يكسبون، وما كانوا يقترفونه وما كانوا يجترحونه عامة ومفصلة وفي مثل قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء / 93]. وقوله
صـ261(1/200)
صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام. لا يدخل الجنة قتات) (312) (من ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) (313). (أي عبد أبق من مواليه، فقد كفر حتى يرجع إليهم) (314)
(إثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) (315 )، (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)(316). (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) (317) (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) (318). (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه) (319). (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) (320) .(ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) (321))(322) .
وهذا منهج ظاهر البطلان كالذي قبله، فإن من المعلوم أن الرسول
صـ262
صلى الله عليه وسلم لم يكن يكفر الزاني ولا السارق ولا شارب الخمر، مع قوله فيهم أنهم غير مؤمنين، فدل ذلك أنهم لا يكفرون بذلك، وأن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص لا مطلق الإيمان. ولهذا شرعت الحدود في هذه القضية وأمثالها، والحد لا يطبق إلا على مسلم .
ويدل لذلك أيضاً حديث أبي ذر وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة: قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق. قلت وإن زنى وإن سرق. قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً. ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر) (323) .(1/201)
ومثله حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (بايعوني على أن تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله. إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) (324).
ومن هذين الحديثين يتبين أن من أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه غير مؤمن وهو الزاني والسارق أخبر أيضاً أنه يدخل الجنة إذا كان موحداً، وأن من أصاب من ذلك شيئاً فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولا يكون ذلك إلا للمسلم .
منهج أهل السنة :
من المعلوم أن للدين ثلاث مراتب، هي الإسلام والإيمان والإحسان،
صـ263
كما في حديث جبريل المشهور .
وعليه فمن كان محسناً فلابد أن يكون مسلماً مؤمناً، ومن كان مؤمناً فلابد أن يكون مسلماً، لكن من كان مسلماً لا يلزم أن يكون مؤمناً، ولا محسناً من باب أولى .
لكن الإحسان كما هو وصف زائد عن الإسلام والإيمان فإنه يشمل الإسلام والإيمان، وهما من هذه الجهة إحسان. والإيمان كما هو وصف خاص أيضاً زائد عن الإسلام فإنه أيضاً يشمل الإسلام، وهو من هذه الجهة أيضاً إيمان .
ويترتب على ما سبق القول بأن للإيمان من حيث العموم مرتبتين: الأولى: وهي الإسلام الذي هو أصل الدين، وهو الإيمان المجمل. والثانية وهي الإيمان الواجب. ونفي المرتبة الأولى يتضمن نفي المرتبة الثانية، ولكن نفي المرتبة الثانية لا يتضمن نفي المرتبة الأولى .
ويترتب أيضاً على ما سبق أن الكفر أيضاً مرتبتان هما: الكفر المخرج من الملة، المقابل للإيمان المجمل. والكفر الذي لا يخرج من الملة ويقابل الإيمان الواجب الذي هو زائد عن مرتبة الإيمان المجمل .(1/202)
إذا تبين هذا فإنه لا يلزم من إطلاق وصف الكفر أن يراد به الكفر المخرج من الملة، بل قد يراد به الكفر الأصغر. كما أنه لا يلزم من نفي الإيمان نفيه بالكلية، بل قد يكون المراد نفي الإيمان الواجب، مع بقاء وصف الإسلام .
وعليه فلا يقال للزاني حين يزني، ولا للسارق حين يسرق، ولا لشارب الخمر حين يشربها، إنهم مؤمنون لنفي ذلك بصريح الحديث، لكن لا يقال إنهم بمجرد فعلهم ذلك قد خرجوا من الملة، لأن الإيمان منفي عنهم ليس الإيمان مطلقاً، وإنما هو الإيمان الواجب الذي هو
صـ264
كمال الإيمان. ولا يقال أيضاً لكل من حلف بغير الله أو قال لمسلم إنه كافر أو سابه أو قاتله إنه يكفر بكل ذلك الكفر المخرج من الملة، لأن الكفر المراد في هذه النصوص وأمثالها هو ما يقابل وصف الإيمان الواجب الذي لا ينتفي وصف الإسلام بمجرد انتفائه .
وبهذا نأخذ الأدلة الشرعية على ظاهرنا دون تعسف، ولا تأول لها على غير معانيها. ودون غلو وإفراط وإنزالها غير منازلها بدعوى المجاز فيها. فنثبت أن الإيمان المنفي في مثل هذه النصوص إيمان حقيقي، وأن الكفر أيضاً كفر حقيقي. لكنه هنا ليس كل الإيمان ولا الكفر الأكبر .
وكل قول غير هذا القول فلابد فيه من التناقض والاضطراب ومخالفة صريح الأدلة، ولا يمكن فهم النصوص في هذا الباب إلا على هذا الوجه .
وهذا الذي تلخص هنا هو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها، لا يختلفون في ذلك. لأنهم قد اتفقوا قبل على مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص. وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه: (كان يدعو غلمانه غلاماً غلاماً فقول: ألا أزوجك ؟ ما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان) (325).
وسأله عكرمة رضي الله عنه، كيف ينزع منه الإيمان ؟ قال: (هكذا - وشبك بين أصابعه ثم أخرجها - فإن تاب عاد إليه هكذا - وشبك بين أصابعه) (326) .(1/203)
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده) (327).
صـ265
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ينكر على من شهد لنفسه بالإيمان. ويقول: ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله (328) .
وقال عنده رجل أنا مؤمن. فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: (أفأنت من أهل الجنة ؟ فقال: أرجو. فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى) (329) .
وأخذ عنه ذلك إبراهيم النخعي رحمه الله فكان يقول: (إذا قيل لك أمؤمن أنت ؟ فقل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ) (330) .
ولهذا لما سئل بعض السلف عن حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ما معناه ؟ دور دائرة واسعة وقال هذا الإيمان، ودور دائرة صغيرة في وسط الكبيرة وهي الإسلام، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله (331).وكان الحسن ومحمد بن سيرين رحمهما الله يقولان: مسلم ويهابان: مؤمن(332)ولهذا كان حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان فيجعل الإسلام عاماً والإيمان خاصاً(333). وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن المصر على الكبائر يبطلها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام. هل يكون مصراً إن كانت هذه حاله ؟ قال: (هو مصر، مثل قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، يخرج من الإيمان ويقع
صـ266
في الإسلام). ومن نحو قوله: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن) ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فقيل له: ما هذا الكفر ؟ فقال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، وكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه ) (334).(1/204)
وقد تتابع على هذا أئمة أهل السنة، مقتدين في ذلك بما ثبت في ذلك عن الصحابة ومن بعدهم، كلهم يقرر هذه القاعدة، وهي أن نفي الإيمان لا يلزم منه نفيه بالكلية، وأن إثبات وصف الكفر لا يلزم منه أنه الكفر المخرج من الملة .
يقول الإمام ابن جرير رحمه الله: (والصواب من القول في ذلك عندنا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) قول من قال: (يزول الاسم الذي هو معنى المدح إلى الاسم الذي هو بمعنى الذم، فيقال له: فاسق، فاجر، زان، سارق، وذلك أن الاختلاف بين جميع علماء الأمة أن ذلك من أسمائه، ما لم يظهر منه خشوع التوبة فيما ركب من المعصية .. فإن قال لنا قائل أفيزيل عنه إسم الإيمان بركوبه ذلك ؟ قيل له: يزيله عنه بالإطلاق ويثبته له بالصلة والتقييد .
فإن قال: وكيف يزيله عنه بالإطلاق ويثبته له بالصد والتقييد ؟ قيل: يقول: مؤمن بالله ورسوله مصدق قولاً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يقال مطلقاً هو مؤمن) (335) .
ويقول الإمام ابن الصلاح رحمه الله: (إن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان وإن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فهذا والحمد لله
صـ267
الهادي تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون .. وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم) (336) .
ويقول الإمام الخطابي رحمه الله: (إن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال. فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً. وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها) (337).
ضابط الشرك والكفر الأصغر :
الشرك والكفر الأكبر المخرج من الملة هو ما ناقض أصل الدين الذي هو توحيد الله والالتزام بالشريعة إجمالاً .(1/205)
أما الشرك والكفر الأصغر وتخلف الإيمان الواجب فيكون بما دون ذلك، بحيث لا ينقض أصل الدين، ولا يكون أيضاً من اللمم المعفو عنه كما قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء / 31] .
فكل ما ثبت بنص أنه شرك، لكن دلت الدلائل على أنه ليس شركاً مخرجاً من الملة فهو شرك أصغر، وكل ما ثبت بنص أنه كفر، لكن دلت الدلائل على أنه ليس كفراً مخرجاً من الملة فهو كفر دون كفر، وكذا ما ورد فيه الوعيد بنحو ليس منا، أو تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نفى
صـ268
عنه وصف الإيمان، فكل ذلك من الكبائر .
ولهذا عمم الإمام أحمد رحمه الله القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً فقال: (من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان) (338).
يقول الإمام محمد بن نصر المروزي تعليقاً على كلام الإمام أحمد السابق: (صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفته عنه كما نفه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك ) (339) .(1/206)
والكبيرة إما أن تتعلق بالشرك على نحو لا يناقض أصل التوحيد. وإما أن تتعلق بعدم الالتزام بالشريعة، ولكن على نحو لا يتناقض أصل الالتزام بها، سواء كان ذلك من جهة المعصية أو من جهة البدعة. فإن من زنى أو سرق لم يلتزم بأمر الله له باجتناب ذلك، لكنه لم ينقض أصل التزامه بأمر الله بالكلية. وكذلك من علم الحق المخالف لبدعته فأصر عليه تغليباً لشبهته فإنه لا يقال إنه استسلم لله بقبول خبرة استسلاماً تاماً، لكنه مع ذلك لم يرده تكذيباً واستحلالاً، بل لشبهة عرضت له .
فأما الشرك فنحو الرياء، كما ورد بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يكون أصل العمل لله، لكن دخل عليه الشرك في تزيينه للناس .
صـ269
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وقول الرجل للرجل (ما شاء الله وشئت) و( هذا من الله ومنك) و (أنا بالله وبك)، و (مالي إلا الله وأنت) و (أنا متوكل على الله وعليك) و (ولولا أنت لم يكن كذا وكذا). وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده) (340) .
وأما الكفر الأصغر فبنحو الحكم بغير الشريعة في قضية معينة لأجل الشهوة، وهذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44]، أما رفض الشريعة بالكلية، وتحكيم القوانين الوضعية، فكفر أكبرهم لم يظن ابن عباس رضي الله عنه ولم يخطر على بال أن من يدعي الإسلام يمكن أن يتعمده ، ودلالة الآية على الكفر الأكبر - على الصحيح - هو المعنى المقصود بها أصلاً، وقول ابن عباس رضي الله عنه لا يناقض ذلك ولا يمنع أن يكون الحاكم في قضية معينة بغير الشرع لأجل الشهوة كافراً كفراً أصغر .(1/207)
والشرك الأصغر وإن كان من الكبائر، لكنها على مراتب، وبعضها أكبر من بعض، كما في الحديث: (ألا أنبؤكم بأكبر الكبائر ... الشرك بالله وعقوق الوالدين ...لحديث) (341) وعليه يفهم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً) (342) فمراده: أن الشرك بالحلف بغير الله وإن كان من الكبائر لكنه
صـ270
أكبر من الحلف الكاذب. وعلى هذا يمكن أن يفهم قول الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله عن الشرك الأصغر إنه أكبر من الكبائر(343)، وهو كقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن الشرك الأصغر إن رتبته فوق رتبة الكبائر(344)، ولا يلزم من قولهما إخراج الشرك الأصغر عن مسمى الكبائر، بل كأن أنه أكبر من جميعها .
ومما يبين ذلك: أن الشرك الأصغر لا يختص عن الكبائر بحكم يثبت له دونها فيما يتعلق بأحكام الوعيد، وأما القول بأن الشرك الأصغر لا يغفره الله، ولا يدخل تحت المشيئة - وإن دخل تحت الموازنة - فلا يصح، ولا دليل على تخصيصه بذلك، لأن المراد بقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء / 48] الشرك الأكبر، وهو كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة / 72]، وكقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر / 65]. والذين يقولون بالموازنة كالإمامين ابن حزم وابن القيم رحمهما الله، لا يلتزمون تحديد شيء من الذنوب بأنه لا تغفر ولا تدخل تحت المشيئة، لا الشرك الأصغر ولا غيره من الكبائر، وإنما يعممون القول بأن من رجحت سيئاته بحسناته لابد أن يعذب(345) .
ثم إن هناك دلالات تفصيلية أن المراد بالنص الشرك أو الكفر الأصغر. من ذلك صريح النص عليه - وهذه أقوى دلالة - ذلك كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر .
صـ271(1/208)
قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر ؟ قال: الرياء (346).
ومن ذلك دلالة نصوص أخرى - وهذا باب واسع - ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) (347) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) (348). مع قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات / 9] فالكفر المراد في الحديث ليس الكفر المخرج من الملة، وإلا لما أثبت الله لمن تقاتلوا وصف الإيمان الذي هو في الآية الإسلام الظاهر .
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وفي رواية (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما) (349).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث: (فقد سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه) (350) .
ومن ذلك أيضاً عدم ترتب حد الردة على فاعلة، وإن أقيم عليه حد العصاة، كما في الزاني والسارق مع نفي الإيمان عنهما .
ومن الدلالات على الشرك والكفر الأصغر أن يأتي منكراً غير معرف،
صـ272
فإن جاء معرفاً بأل دل على أن المقصود به الكفر المخرج من الملة، لا مطلق الكفر الذي يصدق على الكفر الأصغر كما يصدق على الكفر الأكبر .
ولهذا فإن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر لمجيء الحديث في حكم تاركها على التعريف، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) (351) .
ويؤيد ذلك دلالة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر(352). فإذا كان الحد الذي بين المسلمين والكفار هي الصلاة فإن تركها كفر أكبر .(1/209)
ومن الدلالات أيضاً على الشرك والكفر الأصغر ما فهمه الصحابة من النص، فإنهم أعلم الأمة بمعاني نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك حديث (الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل ) (353) فإن آخر الحديث - على الصحيح - هو من قول ابن مسعود رضي الله عنه - وهذا مذكور عن جمع من المحدثين (354) - ومعناه: وما منا إلا ويقع له شيء من التطير
(1) أخرجه البخاري / كتاب الأدب ( 610) ومسلم / كتاب الإيمان (60) .
(2) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / (537) .
(3) انظر : " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " (7/141، 476، 550).
(4) " الإيمان " لابن تيمية ( ص/240).
(5) " مقالات الإسلاميين" للأشعري (ص/116).
(6) نفس المرجع السابق (ص/97).
(7) ذكرياتي مع جماعة المسلمين ( التكفير والهجرة). عبد الرحمن أبو الخير .
(8) المرجع السابق .
(9) عن حقيقة الإرجاء وتطوره الفكري وما انتهى إليه واستقر عليه انظر : ( ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ) للأخ د. سفر الحوالي .
(10) العلات : الزوجات لرجل واحد .
(11) أخرجه البخاري / كتاب الأنبياء / (3443). ومسلم / كتاب الفضائل/ (2365). و أبو داود / كتاب السنة/ (4675).
(12) أخرجه مسلم / كتاب الإيمان / (27).
(13) رواه البخاري / كتاب العلم / (128).
(14) رواه مسلم / كتاب الإيمان / (33).
(15) رواه مسلم / كتاب الإيمان / (29). والترمذي / كتاب الإيمان / (2640).
(16) " الترغيب والترهيب " للمنذري (3/220) .
(17) " اشتقاق أسماء الله الحسنى" للزجاجي (ص/24) .
(18) "الصحاح" مادة (أله) (6/2223).
(19) "لسان العرب" (1/114).
(20) " النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/62).
(21) " لسان العرب " (13/468).
(22) "مدارج السالكين" (1/31).
(23) أخرجه أبو داود / كتاب الأدب / رقم (4950). و أحمد (4/345).
(24) " درء تعارض العقل والنقل" شيخ الإسلام ابن تيمية " (8/464- 465) .(1/210)
(25) رواه البخاري / كتاب التوحيد / (7373). ومسلم / كتاب الإيمان / (30). والترمذي/ كتاب الإيمان/ (2645).
(26) " مجموع الفتاوى" شيخ الإسلام ابن تيمية (1/23-25).
(27) " مدارج السالكين" للإمام ابن القيم (3/35-36).
(28) المرجع السابق (3/26).
(29) " العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص/37).
(30) أخرجه البخاري / كتاب التفسير / (4780). ومسلم / كتاب الجنة / (2824). والترمذي / كتاب التفسير/ (3195).
(31) رواه مسلم / كتاب الإيمان / (181). والترمذي في صفة الجنة (2555) .
(32) " الاستقامة" - لابن تيمية - نقول مختارة من (جـ2/107- 120) وانظر أيضاً " درء التعارض" لابن تيمية (6/86- 69). و "مدارج السالكين" لابن القيم (2/80- 84).
(33) أخرجه البخاري/ كتاب الإيمان / (16). ومسلم/ كتاب الإيمان / (43). والترمذي/ كتاب الإيمان / (2926). والنسائي / كتاب الإيمان / (4988). وابن ماجه/ كتاب الفتن / (4033).
(34) " مفتاح دار السعادة" لابن القيم (491) .
(35) " تفسير ابن كثير" (4/571).
(36) " شأن الدعاء" للخطابي (85).
(37) انظر " مجموع فتاوى - شيخ الإسلام ابن تيمية " (17/216).
(38) بمعنى أنه بلغ الغاية والكمال المطلق فيه .
(39) انظر هذه الأقوال في " مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (17/216).
(40) " درء تعارض العقل والنقل" (6/77).
(41) " تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي" (1/32).
(42) أخرجه النسائي (1305) وأحمد (5- 191). والحاكم (1/524 - 525) وصححه. ووافقه الذهبي.
(43) " مفتاح دار السعادة" لابن القيم (2/489- 490).
(44) أخرجه البخاري / كتاب الجهاد / (2886).
(45) اخرجه الترمذي (3561). و أبو داود (1427). والنسائي (1747). وابن ماجه (1179).
(46) " معارج القبول" الشيخ حافظ الحكمي (2/400- 401). وانظر " جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص/33-35).(1/211)
(47) أحرجه الترمذي / كتاب المناقب / (3789). وحسنه، والحاكم (3/150) وصححه ووافقه الذهبي. وضعفه الألباني في تخريجه لفقه السيرة للغزالي (ص/20).
(48) " مجموع مؤلفات الشيخ - العقيدة والآداب الإسلامية " (ص/382).
(49) أخرجه الترمذي/ صفة القيامة/ (2516) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(50) " تفسير ابن كثير" (3/529).
(51) أخرجه البخاري / كتاب التهجد/ (1130). ومسلم / كتاب صفات المنافقين / (2819). والترمذي/ كتاب الصلاة / (412). والنسائي / في قيام الليل / (1644).
(52) رواه البخاري / كتاب المغازي / (4281).
(53) رواه البخاري أيضاً / كتاب المغازي / (4292).
(54) " زاد المعاد" لابن القيم (4/407- 408).
(55) " العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (29-30).
(56) " مدارج السالكين" الإمام ابن القيم (2/192).
(57) " تفسير ابن كثير" (1/520)
(58) انظر : البداية والنهاية " لابن كثير (3/41-43).
(59) انظر كلاماً نفيساً عن هذه المسألة في " التسعينية" لشيخ الإسلام ابن تيمية من الوجه الثامن عشر إلى الوجه الثاني والعشرين .
(60) رواه الترمذي / كتاب الاستئذان / (2733). وقال هذا حديث حسن صحيح. والنسائي / كتاب تحريم الدم/ (4078). و أحمد في المسند (4/240).
(61) "زاد المعاد" للإمام ابن القيم (3/629- 630). (3/638- 639). وانظر " تفسير ابن كثير" (1/368). و "السيرة النبوية الصحيحة" د. أكرم العمري (ص/542). وأصل القصة في الصحيحين. وانظر البخاري/ كتاب المغازي/ (4380). ومسلم / فضائل الصحابة/ (2420).
(62) " فتح الباري" (8/95).
(63) " مجموع الفتاوى" (7/530- 531).
(64) انظر للتفصيل في ذلك " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (12/484- 501) وهذا اقتباس منه.
(65) ستأتي مناقشة هذه الآراء بالتفصيل في الفصل القادم.
(66) بل و أصل ضلال كل من خالف أهل السنة في مسمى الإيمان كما سبق بيانه.
(67) " أصول الدين" الرازي (ص/ 128).(1/212)
(68) قال الإمام العراقي في " تخريج الإحياء" (1/118): أخرجه الطبراني في الأوسط. وإسناده ضعيف.
(69) هذا مما يدل على جهل هؤلاء بحقيقة قول السلف في مسمى الإيمان، فإن أهل السنة لا يلتزمون بقول المعتزلة ولا يلزمهم، وقد دخل سوء الفهم على هؤلاء من عدم تفريقهم بين جزء العمل وجنس العمل، وما هو المشروط في تحقيق أصل الدين عند أهل السنة منهما.
(70) وهل يكلف المؤمن بالعمل قبل أن يجب عليه؟ بل يعكس عليه السؤال ويقال لو بقي حياً وامتنع عن العمل فهل يكفي مجرد إقراره، وهذا مناط النزاع.
(71) بدأ الآن في إبطال أن يكون للإيمان حد أدنى من الأعمال، و إذا ثبت ذلك عنده فليست الأعمال كلها شرطاً في أصل الدين، بناء على قاعدتهم في أن حقيقة الإيمان ثابتة، يستوي فيها جميع أفراد المعينين كما سبق بيانه.
(72) لأن ركن الماهية لا يمكن تخلفه كما يقولون. ونعود إلى التنبيه إلى أن هذا الإشكال مبني على عدم فهم قول أهل السنة في العمل المشروط في أصل الدين، و أنه جنس العمل لا آحاد العمل، وإنما يعرف تركه في الظاهر من جهة الإصرار على ذلك.
(73) " سفينة الراغب ودفينة المطالب" محمد راغب باشا (ص/199)
(74) " شرح العقائد النسفية" سعد الدين التفتازاني (ص/444- 445).
(75) "المسامرة بشرح المسايرة" للكمال بن الهمام (ص/292- 293).
(76) " الإرشاد" للجويني (ص/333- 334).
(77) أخرجه البخاري / كتاب الإيمان / (53). ومسلم / كتاب الإيمان /(17). و أبو داود / كتاب الأشربة / (3692). والترمذي / كتاب الإيمان / (1714) والنسائي / كتاب الإيمان /(5031)
(78) " شرح السنة" (1/38).
(79) نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في / كتاب الإيمان / صلى الله عليه وسلم (192).
(80) "التمهيد" (9/238).
(81)تعظيم قدر الصلاة" لمحمد بن نصر المروزي" (2/791- 792).
(82) "حاشية إسماعيل الكلبنوي على شرح جلال الدين الدواني " (2/287- 288).(1/213)
(83) " المسامرة شرح المسايرة" للكمال بن الهمام (ص/304).
(84) " الإيمان" لابن تيمية (ص/197).
(85) أخرجه البخاري / كتاب المغازي / (4269). وأخرجه مسلم/ كتاب الإيمان / (96).
(86) أخرجه مسلم / كتاب الإيمان / (96).
(87) أخرجه البخاري / كتاب الديات / (6865). وأخرجه مسلم / كتاب الإيمان / (95).
(88) " الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" لعلاء الدين الفارسي. تحقيق شعيب الأرناؤوط وحسين أسد (1/328، 329).
(89) رواه البخاري / كتاب المغازي / (4339). والنسائي في أدب القضاة / (5405).
(90) " جامع العلوم والحكم" ابن رجب (ص/79).
(91) " الإيمان " لابن تيمية (ص/280).
(92) المرجع السابق (ص/240).
(93) المرجع السابق (ص/242).
(94) أي: من قال إن الإنسان يدخل الإسلام بنطقه الشهادتين. لكن لا يعني هذا بقاء وصف الإسلام بمجرد ذلك الإقرار دون الالتزام بمقتضياته.
(95) المرجع السابق (ص/256).
(96) أي: لطمتها لطمة.
(97) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / رقم (537) والنسائي / كتاب الصلاة / (1218) و أبو داود / الإيمان والنذور/ (3282). ومالك / العتق والولاء / (2/776- 777).
(98) " الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص/201- 202).
(99) أخرجه البخاري / كتاب مناقب الأنصار / (3884). وأخرجه مسلم / كتاب الإيمان / (25).
(100) رواه الترمذي / كتاب الاستئذان / (2733). وقال : هذا حديث حسن صحيح. والنسائي / كتاب تحريم الدم/ (4078).
(101) وهذا حكم خاص في حالة معينة، بحسب ما علمه الإمام الشافعي رحمه الله كما قيل له ؛ وأنهم لا يريدون بإقرارهم البراءة من دينهم بمجرد الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة .
(102) " الأم" للإمام الشافعي (6/171- 172).
(103) لأنه إذا شهد لله بالوحدانية فقد تخلى عن أصل دينه الذي كان عليه ودل ذلك على قبوله للإسلام والتزامه بالشريعة .(1/214)
(104) لأنه مجرد إقراره لله بالوحدانية وتوحيد الله لا يعني عنده الخروج عما هو عليه من ملة الكفر، بل لا يكون ذلك إلا بالشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
(105) لاحظ أن الأصل غير ذلك و أن كل من شهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة فإنما يقصد بها العموم، إلا إذا علمنا من معين خلاف ذلك كما هنا، فلابد من استيفاء ذلك على الخصوص أيضاً .
(106) هذا في حكم المرتد ؛ وليس كل من أراد الدخول في الإسلام نتبين منه الالتزام التفصيلي.
(107) انظر : " نيل الأوطار" للشوكاني (8/12).
(108) أخرجه البخاري (391)، والنسائي (4997).
(109) " فتح الباري" (1/497)، وانظر أيضاً " شرح العقيدة الطحاوية" (ص/15).
(110) " تيسير العزيز الحميد" سليمان بن عبد الله آل الشيخ (ص/127). وانظر : " درء التعارض" لابن تيمية (7/434).
(111) للتفصيل في ذلك انظر مثلاً :" المغني" لابن قدامة (5/748).
(112) " المصطلحات الأربعة في القرآن " أبو الأعلى المودودي (ص/7-8)
(113) راجع الفصل الثاني من الباب الثالث .
(114) المرجع السابق (ص/11).
(115) " أبو الأعلى المودودي. فكره ودعوته " أسعد جيلاني (ص/274).
(116) انظر عن مفهوم وحقيقة شهادة : ( لا إله إلا الله ) الفصل الأول من هذا الباب .
(117) " التكفير والهجرة وجهاً لوجه" رجب مدكور (ص/215).
(118) " التكفير والهجرة وجهاً لوجه" رجب مدكور (ص/68-69).
(119) " التوسمات - مخطوط" (3/32).
(120) أصحاب فكرة الحد الأدنى هؤلاء يجعلون سائر الواجبات والفرائض من القسم الأول، بحيث تكون كل فريضة شرطاً في قبول جميع الفرائض، بينما الحق خلاف ذلك بإجماع سلف الأمة وأئمتها. فإن ما هو شرط من أصل الدين من الالتزام الظاهر. هو العمل من حيث الجملة، وليس كل فريضة لذاتها.(1/215)
(121) لما لم يلتزم هؤلاء بهذه القاعدة جعلوا الكفر مرتبة واحدة، ونفوا أن يكون هناك كفر دون كفر، و أن يجتمع بعض شعب الكفر مع شعب الإيمان. وسيأتي تفصيل ذلك .
(122) "مجموع الفتاوى" شيخ الإسلام ابن تيمية (7/518- 520).
(123) رواه البخاري / كتاب الإيمان / (25). ورواه مسلم / كتاب الإيمان / (22).
(124) " التكفير والهجرة وجهاً لوجه" رجب مدكور (ص/49).
(125) أخرجه البخاري / كتاب الديات / (6878) ومسلم / القسامة / (1676) وأبو داود/ كتاب الحدود / (4352) والترمذي / كتاب الديات / (1402). والنسائي / تحريم الدم / (4016).
(126) " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " (19/89).
(127) ما ورد من قتل شارب الخمر في الرابعة منسوخ بهذا الحديث وغيره. وقد استوعب الكلام في هذه المسألة وتحقيقها الإمام ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري" (12/75-81).
(128) انظر " جامع الأصول " لابن الأثير (10/78-79).
(129) " فتح الباري" لابن حجر (1/76).
(130) المرجع السابق، ونفس الجزء والصفحة .
(131) " التوسمات- مخطوط" (3/9)
(132) " التكفير والهجرة وجهاً لوجه" رجب مدكور (ص/155).
(133 ) أي آية النساء وهي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الممتحنة/12].
(134) رواه البخاري / كتاب التفسير / (4894).
(135) " التكفير والهجرة وجها لوجه" رجب مذكور (ص107- 108)
(136) المرجع السابق (ص/108-109).
(137) متفق عليه - وسبق تخريجه قريباً .
(138) أخرجه البخاري / كتاب الجزية والموادعة (2716).(1/216)
(139) أخرجه مسلم / كتاب الجهاد / (1767).
(140) الموطأ / باب ما جاء في إجلاء اليهود عن المدينة / (2/892- 893).
(141) أخرجه البخاري/ كتاب التفسير - تفسير سورة النساء/ باب (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا). (8/258). وأخرجه مسلم في / كتاب التفسير/. برقم (3052). ورواية الترمذي في/ كتاب التفسير/ باب: ومن سورة النساء رقم (3033).
(142) "فتح القدير" الإمام الشوكاني (1/501).
(143) " التكفير والهجرة وجهاً لوجه" رجب مدكور (ص/179- 180)
(144) المرجع السابق (ص/181- 182).
(145) "التكفير والهجرة وجهاً لوجه" رجب مدكور (ص/148).
(146) المرجع السابق (ص/129).
(147) انظر " تفسير : الشيخ السعدي" (7/358).
(148) أخرجه البخاري / كتاب التفسير / (4891). وأخرجه مسلم / كتاب الإمارة / (1866).
(149) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / رقم (537).
(150) "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (2/132) .
(151) أنظر "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/122) .
(152) "تفسير ابن جرير" (18/49) .
(153) "تفسير ابن كثير" (3/176). وأنظر "تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي" (5/220-221) .
(154) "تفسير ابن كثير" (2/574) .
(155) نفس المرجع (2/579) .
(156) "الحكومة الإسلامية" الخميني (ص/47-48) .
(157) "المرتضى" لأبي الحسن الندوي (ص/247) .
(158) المرجع السابق (ص/249)
(159) "فتح القدير" للشوكاني (4/449) .
(160) رواه البخاري / كتاب التفسير / (4920) .
(161) "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (1/124) .
(162) "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (1/118) .
(163) "تفسير ابن كثير" (4/137) .
(164) رواه مسلم / كتاب الجنائز / (976). والنسائي في / كتاب الجنائز / (2024). وابن ماجة / كتاب الجنائز / (1572) .
(165) أخرجه البخاري / كتاب الأنبياء / (3350) .(1/217)
(166) "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"لابن تيمية - رحمه الله - (ص/7) .
(167) أخرجه البخاري / كتاب الاستسقاء / (1013). ومسلم / كتاب الاستسقاء / (897). وأبو داود / كتاب الصلاة / (14174) .
(168) رواه مسلم / كتاب الصلاة / (489). والنسائي / كتاب التطبيق / (1138) .
(169) "مدارج السالكين" لابن القيم (1/343) .
(170) عن كتاب : "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب عرض ونقض" عبدالعزيز العبداللطيف (ص/354-355) .
(171) المرجع السابق (ص/354) .
(172) المرجع السابق (ص/196) .
(173) "مفاهيم يجب أن تصحح" محمد علوي مالكي (ص/15) .
(174) المرجع السابق (ص/16) .
(175) أنظر "مفاهيم يجب أن تصحح" لمحمد علوي مالكي (ص / 26-27) .
(176) المرجع السابق (ص/25) .
(177) عن كتاب "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب" عبدالعزيز العبداللطيف (ص/197) .
(178) المرجع السابق (ص/195) .
(179) (الطبقات الكبرى) للشعراني (1/162 - 163) .
(180) المرجع السابق (1/162) .
(181) المرجع السابق (1/162) .
(182) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب (4950) .
(183) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، (1358)، ومسلم، كتاب القدر، (2658). وأبو داود، كتاب السنة، (4714). والترمذي، كتاب القدر، (2139) .
(184) رواه البخاري، كتاب الجهاد، (2887) .
(185) (العبودية) للإمام ابن تيمية (ص / 32) .
(186) المرجع السابق (ص / 43) .
(187) أخرجه أحمد (5/ 428 - 429). وقال العراقي في (تخريج الإحياء) ( 3/294) : رجاله ثقات .
(188) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (2985) .
(189) أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، (3140). وحسنه العراقي في تخريج الاحياء) (4/384). وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) ( 6/28) إسناده جيد .
(190) رواه أبو داود كتاب الجهاد، (2516). والحاكم (2/85) وصححه، ووافقه الذهبي. وأحمد (2/290 - 366) .
(191) رواه الحاكم (4/329). وصححه ووافقه الذهبي .(1/218)
(192) أخرجه ابن خزيمة (937). والبيهقي في السنن (2 / 290 - 291) .
(193) (تفسير ابن كثير) (2/ 594) .
(194) (المسايرة شرح المسامرة) للكمال ابن الهمام ( ص/43) .
(195) (حاشية الكستلي على شرح العقائد النسفية) (ص /63) .
(196) (المسايرة شرح المسامرة) للكمال ابن الهمام ( ص /58) .
(197) (درء تعارض العقل والنقل) لابن تيمية، (9/377) .
(198) عن كتاب (دعاوى المناوئين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عرض ونقد) للأخ عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، (ص /197) .
(199) المرجع السابق ( ص / 198) .
(200) (درء التعارض) (1 / 225 - 228) .
(201) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، (153) .
(202) انظر أيضاً : الكلام عن الفرق بين مرجئة الفقهاء ومرجئة المتكلمين في فصل : كفر دون كفر من هذا الباب. وفصل : العلاقة بين الظاهر والباطن من الباب الثالث .
(203) (تفسير ابن كثير) (4/151).
(204) (تفسير أبن كثير) (2/166).
(205) (شفاء العليل) لابن القيم. (ص / 100)
(206) المرجع السابق (ص/79 - 80)
(207) رواه مسلم، كتاب الإيمان، (144) .
(208) أخرجه أبو داود في كتاب السنة (4596). والترمذي، كتاب الإيمان ،(2642)، وقال حديث حسن
(209) (تفسير ابن كثير) (1/45)
(210) المرجع السابق (1/55) .
(211) المرجع السابق (1/55).
(212) المرجع السابق (1/55) .
(213) المرجع السابق (1/56) .
(214) (تفسير ابن كثير) (3/107)
(215) (تفسير كلام المنان) عبد الرحمن السعدي، (3/18).
(216) أخرجه الترمذي، كتاب التفسير، (3331). وقال حديث حسن صحيح.
وابن ماجه، كتاب الزهد، (4244). وأخرجه الحاكم (2/517). وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي .
(217) (جامع البيان) لابن جرير (1/113) .
(218) (شفاء العليل) لابن القيم (ص/94).
(219) المرجع السابق والصفحة .
(220) (تفسير ابن كثير) (1/47) .
(221) (معاني القرآن) للفراء (3/246).
(222) (شفعاء العليل) لابن القيم (ص/101)(1/219)
(223) المرجع السابق، (ص/103-104)
(224) وانظر ما تقدم في فقرة (الالتزام الظاهر) من الباب الأول .
(225) (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد) اللقاني (ص/47)
(226) يقصد أركان الإسلام .
(227) المرجع السابق ص (3/45)
(228) يقصد أنه لا يكون من أهل الوعيد .
(229) هكذا، ولعلها : تسقط.
(230) لاحظ أن القسم الأول مجرد اعتقاد، كما هو الأصل في مفهوم الإيمان عندهم.
(231) (أصول الدين) للبغدادي (ص/268-269)
(232) (شرح الفقه الأكبر) (ص/130-131).
(233) (مجموع الفتاوى) (7/142) .
(234) (السنة) لعبد الله بن أحمد (1/347 - 348)
(235) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، (2623). والنسائي، كتاب الصلاة، (463) .
والحاكم (1/7) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/226)
(236) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، (391). والنسائي، كتاب الإيمان ،(4997) .
(237) رواه البخاري، كتاب الوضوء، (136). ومسلم، كتاب الوضوء، (246) .
(238) (مجموع الفتاوى) (7/612) .
(239) رواه مسلم، كتاب الإيمان (82). وأبو داود، كتاب السنة (4678). والترمذي، كتاب الإيمان (2622) .
(240) (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية (ص / 70)
(241) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، (2622). وصححه الشيخ الألباني. وانظر (السلسلة الصحيحة) (1/130) .
(242) انظر : (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم (3/229) .
(243) رواه البخاري، كتاب المغازي (43661)، ورواه مسلم، كتاب الزكاة (1064) .
(244) أخرجه البخاري، كتاب الديات (6878). ومسلم كتاب القمامة (1676). وأبو داود، كتاب الحدود(4352). والترمذي، كتاب الديات (1402). والنسائي، كتاب تحريم الدم (4017) .
(245) انظر : (المحلى) (11/379). و(التمهيد) لابن عبد البر (4/240) .
(246) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة (1854). والترمذي، كتاب الفتن (2266). وأبو داود، كتاب السنة (4760) .
(247) أخرجه مسلم. كتاب الإمارة (1855) .(1/220)
(248) أخرجه البخاري، كتاب الفتن (7055-7056). ومسلم، كتاب الإمارة (1709). وأحمد (5/314 - 321) .
(249) (مجموع فتاوى ابن تيمية) (7/617)
(250) (الشرح الممتع على زاد المستنقع) (2/25 - 26)
(251) (تفسير ابن كثير) (3/128)
(252) (جامع البيان) لابن جرير (16/99) .
(253) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة (864). والترمذي، كتاب الصلاة (413). والنسائي، كتاب الصلاة (465). وانظر (نيل الأوطار) للشوكاني (1/374) فقد نقل أقوال بعض الأئمة في تصحيحه .
(254) (أضواء البيان) للشيخ الشنقيطي (4/319) .
(255) (نيل الأوطار) للشوكاني (1/372) .
(256) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة (425). والنسائي، كتاب الصلاة، (461). وأحمد (5/317). ومالك في الموطأ (1/123). وقال ابن عبد البر : هو صحيح ثابت لم يختلف عن مالك فيه. (التمهيد) (23/288). وانظر (صحيح الجامع) للألباني برقم (3238).
(257) (تعظيم قدر الصلاة) (2/971).
(258) (مجموع الفتاوى) (22/49) .
(259) (تحكيم القوانين) ص(7)
(260) (جامع البيان) لابن جرير (6/252)
(261) المرجع السابق (6/253) .
(262) (عمدة التفسير) أحمد شاكر (4/157)
(263) المرجع السابق.
(264) (مجموع فتاوى الشيخ) (12/280).
(265) أخرجه مسلم في، كتاب الحدود، (1700). وأبو داود في، كتاب الحدود (4448) .
(266) وأنظر (فتح الباري) (13/129)
(267) أخرج إحدى الروايتين أبو داود. كتاب الديات (4494) وكتاب الأقضية (3591). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3772). والنسائي كتاب القسامة (8/18). وأخرج الأخرى أحمد (1/246). وقال أحمد شاكر في تخريجه للمسند رقم (2212) إسناده صحيح. وأخرجها النسائي. كتاب القسامة (8/19) .
(268) (تفسير المنار) محمد رشيد رضا ص (6/417)
(269) (تفسير ابن كثير) (2/68)
(270) (عمدة التفسير) الشيخ أحمد شاكر (4/174)
(271) (تحكيم القوانين) (ص/2)
(272) المرجع السابق (ص/4) .
(273) المرجع لسابق (ص / 6)(1/221)
(274) ((مجموع فتاوى الشيخ) (6/189) .
(275) (أضواء البيان) (4/83-84).
(276) المرجع السابق ( 3/ 439) .
(277) رسالة : الحكم بغير ما أنزل الله. ملحقة بكتاب : (شبهات حل السنة) للشيخ عبد الرازق عفيفي (ص / 64 - 65).
(278) لقاء مفتوح رقم (26) ص (32-33) .
(279) "شرح الأصول الثلاثة" (ص/158-159) .
(280) "تحريف النصوص" بكر أبو زيد (ص/123) .
(281) "الظلال" سيد قطب (2/898) .
(282) (منهاج السنة النبوية) لابن تيمية (5/130)
(283) (تفسير المنار) محمد رشيد رضا (6/404)
(284) (القول المفيد على كتاب التوحيد) الشيخ محمد بن عثيمين (2/268 - 269)
(285) (التشريع الجنائي الإسلامي) عبد القادر عودة (2/709) .
(286) اسم كتاب جنكيز خان الذي وضعه ليكون قانوناً وتبعه أولاده على الحكم به .
(287) (البداية والنهاية) لابن كثير (13/119)
(288) رواه مسلم، كتاب الإيمان (49). والترمذي، كتاب الفتن (2173). و أبو داود (1140) و(4340). والنسائي، كتاب الملاحم (5008). وابن ماجه في الفتن (4013) .
(289) رواه مسلم، كتاب الإمارة (1854). والترمذي، كتاب الفتن (2266). وأبو داود، كتاب السنة (4760).
(290) رواه مسلم، كتاب الإيمان (50)
(291) (تفسير ابن كثير) (2/172) .
(292) (تمام النعمة بالدين الكامل) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص/19) .
(293) انظر : (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) للسيوطي (2/230) .
(294) رواه الترمذي ،كتاب التفسير (3094). وحسنه الألباني في غاية المرام رقم (6) .
(295) هكذا. ومراد شيخ الإسلام هنا أن يكون اعتقادهم صحيحاً، لكن أطاعوهم بمجرد الفعل، كغيرهم من العصاة. وعلى هذا تكون صحة العبارة (أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا .. ) وانظر : "فتح المجيد" تحقيق : الفريان (1/213) .
(296) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (7/70) .(1/222)
(297) أخرجه البخاري في، كتاب المظالم، والأشربة، والحدود، والمحاربين. ومسلم، كتاب الإيمان، (57). وأبو داود، كتاب السنة، (4689) .
(298) أخرجه أبو داود، كتاب السنة (4690). والترمذي، كتاب الإيمان (2627) .
(299) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، (6044). ومسلم، كتاب الإيمان، (64). والترمذي، كتاب البر والصلة، (1984). والنسائي، كتاب تحريم الدماء، (4105) .
(300) أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، (6766 ،6768). ومسلم، كتاب الإيمان، (63). وأبو داود، كتاب الأدب، (5113) .
(301) أخرجه الترمذي ، كتاب الإيمان والنذور، (1535) وحسنه. أبو داود (3251). وأحمد (2/34 - 76). والحاكم (1/18). وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي .
(302) أخرجه أبو داود (3883). وابن ماجه (3530). والحاكم (4/417 - 418)، وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي .
(303) يقصد المحدثين الأحناف .
(304) (شرح الطحاوية) لابن أبي العز، تحقيق شعيب الأرناؤوط (ص / 298).
(305) يتفق المرجئة جميعاً على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان ولا من حقيقته، ومن ثم فالظاهر ليس لازماً للباطن عند جميعهم، إلا بما يدل على الباطن، من جهة الإقرار باللسان فقط .
لكنهم يختلفون بعد ذلك في حقيقة الإيمان الباطن، من حيث القول بأن عمل القلب وإرادته داخل في حقيقة الإيمان أم لا. فعند مرجئة الفقهاء أنه من الإيمان، لكنهم لم يلتزموا بلازم ذلك وهو أنه لابد من العمل الظاهر، لأن هذا هو مقتضى القول بأن عمل القلب من الإيمان، فإن الإرادة التامة مع القدرة لابد أن يتحقق معها عمل في الظاهر، فإذا لم يكن عمل في الظاهر مع القدرة دل ذلك على عدم تحقق الإرادة وعمل القلب في الباطن .(1/223)
وأما مرجئة المتكلمين فعندهم أن الإيمان ليس إلا التصديق، وأن عمل القلب من ثمراته، كالعمل الظاهر، وليس من حقيقته. ولهذا ناقضوا أنفسهم حين زعموا أن حكم عليه الشرع بالكفر في الظاهر فلا بد ألا يكون عنده تصديق في الباطن، ولم يفرقوا بين الكفر الذي يقتضي التكذيب، والكفر الذي قد لا ينتفي معه التصديق، ولكن عمل القلب كمن سجد لصنم أو قتل نبياً أو داس المصحف ونحو ذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نقد هذا المنهج : (قول القائل الطاعات ثمرات التصديق الباطن يراد به شيئان :
1-يراد به إنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا هو مذهب السلف وأهل السنة .
2-ويراد به أن الإيمان قد يكون سبباً، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم. وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم غطوا في ثلاثة أوجه :
أحدهما : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب تصديق بلا عمل للقلب كمحبة الله وخشيته .
الثاني : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون عمل في الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة .
الثالث : قولهم كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية، لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية المرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف والحديث، فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف). ) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) ( 7/363 - 364). وانظر أيضاً نفس المرجع ( 7/188 - 195) .
(306) (شرح العقيدة الطحاوية) (ص /309)
(307) رواه البخاري، كتاب الإيمان، (13). ومسلم، كتاب الإيمان، (45). والترمذي (2517). والنسائي (5016) .
(308) أخرجه البخاري، كتاب الآداب، (6016). ومسلم كتاب الإيمان، (46) .(1/224)
(309) (كتاب الإيمان) للقاسم بن سلام (ص/ 88) ضمن مجموعة أربع رسائل، تحقيق وتخريج الشيخ الألباني .
(310) (شرح العقيدة الطحاوية) ابن أبي العز (ص/310) .
(311) انظر كتاب : (الحكم بغير ما أنزل وأهل الغلو) محمد سرور (ص / 161) .
(312) أخرجه البخاري، كتاب الأدب (6056). ومسلم، كتاب الإيمان (105). وأبو داود، كتاب الأدب (4771). والترمذي، كتاب البر والصلة (2027) .
(313) سبق تخريجه قريباً .
(314) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان (68) .
(315) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان (67) .
(316) سبق تخريجه قريباً .
(317) سبق تخريجه قريباً .
(318) أخرجه البخاري، كتاب الفتن (7076). ومسلم، كتاب الإيمان (66). وأبو داود (4686). والترمذي (2194). وابن ماجه (3943) .
(319 سبق تخريجه قريباً .
(320) أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، (7212). ومسلم، كتاب الإيمان، (103). والترمذي، كتاب الجنائز، (999). والنسائي، كتاب الجنائز، (1860) .
(321) أخرجه البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، (2353). ومسلم، كتاب الإيمان، (108). وأبو داود، كتاب البيوع، (3474). والنسائي، (4462) .
(322) (الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو) محمد سرور، (ص / 167 - 168).
(323) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، (5827) .ومسلم، كتاب الإيمان، (94) .وأحمد، (5/166) .
(324) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان (18). وكتاب، التفسير، (4894) .
(325) انظر (فتح الباري) (12/59) .
(326) رواه البخاري، كتاب الحدود، (6808) .
(327) (كتاب السنة) لعبد الله بن الإمام أحمد رحمهم الله (1/344).
(328) المرجع السابق، (1/322) .
(329) (كتاب الإيمان) لأبي القاسم بن سلام، ضمن مجموعة رسائل أربع (ص / 67) .
(330) المرجع لسابق، (ص / 68) .
(331) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) (7/319) .
(332) المرجع السابق والجزء والصفحة .
(333) المرجع السابق، (7/ 319 - 320) .
(334) المرجع السابق، (7/329) .(1/225)
(335) (تهذيب الآثار) لابن جرير الطبري (2/176) .
(336) (صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط) لابن الصلاح (ص / 359) .
(337) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) ص (7/359) .
(338) المرجع السابق (7/352 - 353) .
(339) المرجع السابق والجزء والصفحة .
(340) (مدارج السالكين) لابن القيم (1/344) .
(341) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، (2654). ومسلم، كتاب الإيمان، (87) .
(342) أخرجه عبد الرزاق (8/469). والطبراني في الكبير (8902). وقال المنذري والهيثمي : رواته رواة الصحيح .
(343) كتاب التوحيد. ضم مجموع مؤلفات الشيخ، القسم الأول (ص / 28) .
(344) انظر : (إعلام المعوقين) (4/ 304) .
(345) انظر : الفصل لابن حزم ) (4/47 - 53)، و (طريق الهجرتين) لابن القيم (ص / 384 - 387) .
(346) رواه أحمد (5/428- 429). قال ابن حجر : إسناده حسن. (بلوغ المرام) (ص /187) .
(347) سبق تخريجهما قريباً .
(348) سبق تخريجهما قريباً .
(349) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، (6103). ومسلم، كتاب الإيمان، (60). والترمذي، كتاب الإيمان، (2639). وأبو داود كتاب السنة، (4687).
(350) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) ص (7 / 355).
(351) أخرج مسلم، كتاب الإيمان، (82). والترمذي، كتاب الإيمان، (2622) .وأبو داود، كتاب السنة، (4678) .
(352) رواه الترمذي (2623). والنسائي (463).
(353) رواه أحمد (1/389). وأبو داود (3910). والترمذي (1614)، وقال حسن صحيح. وابن ماجه (3538) .
(354) راجع أقوالهم في كتاب المنهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، جاسم الدوسري، ( ص / 162) .
??
??
??
??
الدرر السنيةwww.dorar.net
13(1/226)