رَكائزُ الإيمانِ
تأليف
العلامة محمد قطب
حققه وخرج أحاديثه ونسقه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ - 2009م
((بهانج - دار المعمور ))
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فإنَّ الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات : 56) . ولذا كان التوحيد والعقيدة الصحيحة المأخوذةُ من منبعها الأصلي وموردها المبارك كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي الغاية لتحقيق تلك العبادة ، فهي الأساس لعمارة هذا الكون ، وبفقدها يكون فساده وخرابه واختلاله ، كما قال الله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } (الأنبياء : 22)
ولذا ينبغي أن يكون متقرِّرا لدى كلِّ مسلم وواضحا لدى كلِّ مؤمن أنَّ العقيدة لا مجال فيها للرأي والأخذ والعطاء ، وإنَّما الواجب على كلِّ مسلم أن يعتقد عقيدة الأنبياء والمرسلين ،وأن يؤمن بالأصول التي آمنوا بها ودعوا إليها دون تشكُّكٍ أو تردُّدٍ ، قال تعالى :{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (البقرة : 285) .
فهذا شأنُ المؤمنين ، وهذا سبيلهم : الإيمان والتسليم والإذعان والقبول ، وعندما يكون المؤمن كذلك ترافقه السلامة ، ويتحقق له الأمن والأمان ، وتزكو نفسُه ، ويطمئنُّ قلبُه ، ويكون بعيدًا تمام البعد عمَّا يقع فيه ضلَّال الناس بسبب عقائدهم الباطلة من تناقض واضطراب وشكوك وأوهام وحَيرة وتذبذب .
والعقيدة الإسلامية الصحيحة بأصولها الثابتة وأسسها السليمة وقواعدها المتينة هي - دون غيرها - التي تحقِّق للناس سعادتهم ورفعتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة ؛ لوضوح معالمها(1/1)
، وصحَّة دلائلها ، وسلامة براهينها وحججها ، ولموافقتها للفطرة السليمة ، والعقول الصحيحة ، والقلوب السويَّة .
وهذا الكتاب الذي نقدِّمُ له هو من أفضل ماكتب في هذا الموضوع الجلل .
وصاحبه عالم جليل أمضى حياته في خدمة هذا الدين والذبِّ عنه وهو العلامة (( محمد قطب )) حفظه الله .
وطريقته في عرض أركان الإيمان تختلف عن سائر الطرق الأخرى ، حيث إنه سلك منهج القرآن الكريم في عرضها ، وهو أدقُّ عرضٍ وأوفاهُ .
وقسمه للأبواب التالية :
الباب الأول= الإيمان بالله ...
الباب الثانى= الإيمان بالملائكة
الباب الثالث= الإيمان بالكتب السماوية
الباب الرابع= الإيمان بالرسل
الباب الخامس= الإيمان باليوم الآخر
الباب السادس= الإيمان بالقدر
ثم خاتمة عن العقيدة الإسلامية خصائصها وأثرها في الحياة الإنسانية
والآيات الواردة في الكتاب كلها معزوة لسورها بارقامها ، ولكنها في هذه النسخة بلا تشكيل ، والأخطاء المطبعية فيها قليلة ، وقد قمت باستبدالها من نسخة أخرى مشكلة الآيات ، وشرحت بعض الآيات في الهامش
وأما الأحاديث ، فقد ذكرها دون تشكيل ، وعزاها في الأغلب لمصادرها ، لكنه لم يخرجها من مظانها ، فوقعت أخطاء مطبعية فيها وأخطاء في العزو أحياناً ، وأحياناً يذكر الحديث ولا يذكر من أخرجه ، والغالب أنه لا يذكر الحديث كاملاً .........
وقد قمت بتخريج أحاديثه كاملة،وبعض الأحاديث استبدلتها بما هو أصح منها ، والقليل جدا قد حذفته لعدم صحته بتاتاً ، وقد ذكرت الأحاديث كاملة ، غير مختصرة ، وقد زدت بعض الأحاديث الضرورية إما في الأصل ، وبينت ذلك أو في الهامش ، وفي بعض(1/2)
الأمكنة أشار المؤلف لبعض الأحاديث إشارة كما في كيفية الوحي ولم يذكرها ، فأتيت بها من مظانها ، وووضعتها في المكان المناسب ليستقيم الدليل ، وبعض الجزئيات تركها المؤلف ، فذكرت بعض الأحاديث الصحيحة التي تدلُّ عليها .
وهذا العلم عبارة عن بناء مترامي الأطراف ، وكلُّ واحدٍ منا يمسك بطرف منه ، ليتمَّ التكاملُ بينها .
ونظرا لأهمية هذا الكتاب فقد قمت بتنسيقه وفهرسته أيضاً على الورد، وقد أخذ وقتا طويلاً ، وفي الشاملة 3 ليعمَّ به النفع .
فجزى الله عنا مؤلفه خير الجزاء ، وجزى الله تعالى من قرأه أو دلَّ عليه أو نشره .
قال تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) [الزمر : 54 - 59] .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
2 جمادى الآخرة لعام 1430 هـ الموافق ل 26/5/2009 م
- - - - - - - - - - - - - -(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له. ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله0
وبعد، فقد جاء فى الحديث الذى رواه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ « أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ ». قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِى « يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ».. أخرجه مسلم (1)
تلك من حقائق الدين التى يتعين على كل مسلم أن يعلمها ليقوم بها على وجهها الصحيح. وما تزال أيال من المسلمين بعد أجيال تتعلم هذه الحقائق لتتعرف على الطريقة الصحيحة لعبادة الله جل وعلا، وهو القائل سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات 0
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (102 ) -الأُنف : المستأنف الذى لم يسبق به قدر -يتقفر : يطلب ويتتبع ويجمع(1/4)
وحقائق الإسلام ثابتة لا تتغير منذ أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، المرجع فيها هو كتاب الله المنزل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن علماء الأمة فى كل جيل يتناولونها بالشرح والتفسير من خلال الواقع الذى يعيشه كل جيل، وما جد فيه من نوازل، وما حدث فيه من انحراف فى الفهم أو السلوك، لكى تظل فى حس الأجيال كلها على وضوحها واستقامتها لا يعتريها غبش ولا انحراف0
وإن جيلنا الذى نعيش فيه لهو من أحوج الأجيال إلى التعرف على حقائق دينه، بسبب الغربة التى ألمت بالإسلام فى قلوب أهله، تلك الغربة التى أخبر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أوحى إليه ربه - فقال عليه الصلاة والسلام : « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ». (1) 0
وهذا الكتاب الذى بين يدى القارئ يتناول ركائز الإيمان المذكورة فى الحديث المشار إليه آنفاً، وهى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره 0
وقد راعيت فى هذا الكتاب أن تكون عبارته مبسطة قدر الطاقة، وأن أعقد صلة وثيقة بين القارئ وبين كتاب الله، المرجع الأول الذى نستقى منه حقائق الدين. فأذكر فى كل مسألة دليلاً أو دليلين من كتاب الله، مشروحين مفسرين بما يبرز الدلالة المستخرجة منهما، ثم أورد نصوصاً أخرى من كتاب الله أترك للقارئ أن يتملاها ويتدبرها بنفسه، ليستخرج دلالتها على ضوء ما قدمت له من النصوص المشروحة، ليتعود القارئ أن يتدبر آيات الله عند تلاوتها، فقد أمرنا بالتدبر مع التلاوة. قال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء وقال تعالى : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص 0
وبعد، فأرجو أن أكون قد وفقت إلى شىء مما قصدت إليه من تأليف هذا الكتاب.. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود 0 ... ... ... ... ...
محمد قطب
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) -صحيح مسلم- المكنز - (389 )(1/5)
الباب الأول
الإيمان بالله تعالى
? أصول العقيدة الإسلامية
? الدين والفطرة 0
? طريقة القرآن فى هداية النفس البشرية 0
? تيقظ الإيمان المركوز بالفطرة وقت الشدة 0
? القرآن يتولى الرد على دعاوى المبطلين 0
? تثبيت الإيمان 0
? تحكيم شريعة الله 0
? الإيمان بأسماء الله وصفاته 0
? الإنحراف عن الإيمان والتوحيد 0
? الشرك أسبابه ودوافعه وآثاره 0
? الإلحاد وآثاره فى واقع البشرية المعاصر 0(1/6)
الباب الأول
الإيمان بالله
الإسلام بمعناه العام هو إسلام الوجه لله والخلوص من الشرك وأهله، أى التوجه الكامل إلى الله،والخضوع الكامل لأوامر الله 0
يقول الله سبحانه وتعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (112) سورة البقرة 0
ويقول : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (125) سورة النساء 0
وإسلام الوجه لله، بمعنى إسلام النفس كلها لله، هو الأمر الذى يطلبه الله من البشر كافة بما أنه هو خالقهم سبحانه وخالق هذا الكون كله والمتصرف فيه وحده. فهو حق الإله على الخلق، وهو كذلك مقتضى عبودية الخلق لربهم وخالقهم 0
وهذا الإسلام هو الذى كان عليه آدم ونوح والنبيون من بعده إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان الاعتقاد واحداً وإن اختلفت الشرائع فى الأحكام الفرعية؛ وكان عليه كذلك كل من اتبع الأنبياء منذ مولد البشرية 0
جاء فى القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ البقرة : 130 ، 131 ] .0
ويقول الله عن التوراة : {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة(1/7)
ويقول عن يعقوب وبنيه : {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (133) سورة البقرة
وجاء على لسان يوسف عليه السلام : {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (101) سورة يوسف
فالإسلام بهذا المعنى العام هو دين الأنبياء جميعاً ودين المؤمنين بالله ورسله من لدن آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها 0
ولكن الله تفضل على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فخصها باسم ((الأمة المسلمة)) وباسم ((المسلمين))، قال تعالى : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) [ الحج : 78 ] 0
وقد تحقق معنى الإسلام فىهذه الأمة بأكثر مما تحقق فى أى أمة من قبل حتى استحقت أن يصفها الله بقوله سبحانه : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
والآن فلننظر فى عقيدة هذه الأمة التى رفعتها إلى هذه المنزلة السامية والتى استحقت عليها هذا التكريم الربانى، بأن يكون اسمها الأمة المسلمة،وأن تكون ((خير أمة أخرجت للناس))0
أصول العقيدة الإسلامية
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا ، إِذْ جَاءَ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ ، فَوَضَعَ رُكْبَتَهُ عَلَى رُكْبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِسْلاَمُ ؟ قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ،(1/8)
وَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَحَجُّ الْبَيْتِ ، قَالَ : صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا مِنْ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ ، وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ. قَالَ : فَأَخْبِرْنِي : مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ ، قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : فَعَجِبْنَا مِنْ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ ، وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ. قَالَ : فَأَخْبِرْنِي : مَا الإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : مَا الْمَسْؤُولُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، قَالَ : فَمَا أَمَارَتُهَا ؟ قَالَ : أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. قَالَ : فَتَوَلَّى وَذَهَبَ. فَقَالَ عُمَرُ : فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ثَالِثَةٍ ، فَقَالَ : يَا عُمَرُ ، أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ." (1) 0
... فيتبين من هذا الحديث أن هناك أصولاً ستة للعقيدة الإسلامية 0
1- الإيمان بالله 0
2- الإيمان بالملائكة 0
3- الإيمان بالكتب السماوية 0
4- الإيمان بالرسل 0
5- الإيمان باليوم الآخر 0
6- الإيمان بالقضاء والقدر 0
والإيمان يبالله هو موضوع حديثنا فى هذا الباب. ولكنا نعرض عرضاً موجزاً لهذه الأصول الستة لكى نتبين المقصود من كل منها0
(1) فالإيمان بالله يعنى الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى وبوحدانيته فى الألوهية والربوبية والأسماء والصفات التى وصف بها نفسه فى القرآن الكريم، أووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - 0
(2) والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بوجودهم، وبأنهم خلق من خلق الله، يعبدونه سبحانه وتعالى، ولا يفترون عن عبادته ليلاً ونهاراً، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وأن لهم أعمالاً كلفهم الله بها وهم يؤدونها فى طاعة كاملة لله، ومن بينها
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 389) (168) وصحيح مسلم - (9) 0(1/9)
التنزل بالوحى على رسل الله وأنبيائه، ومن بينها كتابة أعمال البشر وتسجيلها، ومن بينها التنزل على قلوب المؤمنين بالطمأنينة والبشرى00إلخ 0
(3) والإيمان بالكتب السماوية يتضمن الإيمان بكل ما أنزل الله على رسله من الكتب بما فيها القرآن الكريم، وإن كانت الكتب السماوية السابقة كلها قد حرفت إلا القرآن الكريم وحده حفظه الله وقال سبحانه : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر 0
(4) والإيمان بالرسل يقتضى الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى البشرية رسلاً متعددين، منهم من قصه الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن، ومنهم من لم يقصصه عليه كما قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) [ النساء : 163 ، 164 ] 0
وأن هؤلاء الرسل جميعاً قد أوحى الله إليهم أن يبشروا الناس وينذروهم. يبشروهم بالجنة لمن أطاع الله ورسله، وينذروهم بالنار لمن عصى الله ورسله، كما قال تعالى بعد الآيتين السابقتين : {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء
(5) والإيمان باليوم الآخر : معناه الإيمان بالبعث بعد الموت، وأن الله يبعث الناس جميعاً يوم القيامة ويحشرهم إليه، ويحاسبهم على كل شىء فعلوه فى الدنيا ثم يجزيهم به : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
كما يشمل الإيمان بالجنة والنار وكل ما جاء فى القرآن والحديث عن البعث والحشر والحساب والجزاء 0
(6) والإيمان بالقضاء والقدر يقتضى الإيمان بأن كل ما يحدث للإنسان من خير أو شر هو مقدر له : عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ قَالَ أَتَيْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ وَقَعَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ(1/10)
مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِى بِشَىْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِى.فَقَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ. قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ - ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ - ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِى عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ (1) . ، كما يقتضى الإيمان بالعدل الإلهى فيما يجرى به القضاء والقدر 0
تلك هى الأصول الستة للعقيدة الإسلامية، وأولها وأعظمها الإيمان بالله، الذى سنفرد له الحديث فى هذا الباب 0
الدين والفطرة
كل مولود يولد على الفطرة 0
والفطرة بذاتها تتجه إلى الله، عالمة بوجوده سبحانه، ومؤمنة بأنه إله واحد لا يوجد فى الكون كله سواه 0
كيف تهتدى الفطرة إلى خالقها؟
إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا فى كتابه الكريم أنه حين خلق الخلق عرفهم بنفسه، وبأنه جلت قدرته هو ربهم الذى خلقهم، والذى ينبغى أن يدينوا له بالعبودية : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (172) سورة الأعراف 0
والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا كذلك: « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ »
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4701 ) صحيح -السماط : الجماعة من الناس(1/11)
. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم متفق عليه0 (1)
والحقيقة أن الفطرة البشرية تتيقظ لوجود الخالق فى سن مبكرة جداً، أصغر بكثير مما نظن!
فنحن نظن عادة أن الشخص الكبير وحده هو الذى يتفكر فى وجود الله سبحانه وتعالى وفى وحدانيته. ولكنا إذالا حظنا حياة الطفل الصغير نجد أنه فى مرحلة معينة من عمره يبدأ يسأل والديه أسئلة لا تنتهى:
من الذى عمل السماء؟ لماذا كانت السماء زرقاء؟ أين تذهب الشمس فى الليل؟ لماذا لا تظهر الشمس لنا فى الليل؟ أين يذهب النور حين يأتى الظلام؟ لماذا تلمع النجوم؟ أين تنتهى الأرض؟ لماذا كانت هذه الزهرة ذات رائحة والزهرة الأخرى ليس لها رائحة؟ من أين جئت؟ أين كنت قبل أن أجئ؟ 000 إلخ0
فما معنى هذه الأسئلة فى الحقيقة وما دلالتها؟
إن دلالتها الحقيقية أن فطرة هذا الطفل قد بدأت تستيقظ، بدأت تتعرف على خالق السماوات والأرض من خلال مخلوقاته المشهودة المحسوسة، بدأت رويداً رويداً تتعرف على حقيقة الألوهية التى أشهدها الله عليها منذ خلقها، وبدأ إدراكها لها ينمو كما تنمو البذرة الكامنة فى باطن الأرض، حتى تترعرع وتخضر0
وأن هناك تأثيرات عدة تقع على حس الإنسان فتوقظه إلى حقيقة وجود الله ووحدانيته وتفرده 0
? عوامل إيقاظ الحس على حقيقة وجود الله :
1- الكون بضخامته الهائلة ودقته المعجزة لابد أن يوقظ الإنسان إلى هذه الحقيقة :
فهذه الأبعاد الهائلة فى السماوات والأرض، وهذه الأجرام السماوية الضخمة التى لا يحصيها العد 000 من أوجدها ؟
إن الأرض - وهى جرم صغير جداً بالنسبة للأجرام السماوية - تحتوى من الجبال والسهول والمحيطات والبحار والأنهار ما نستغرق سنوات العمر كلها فى محاولة التعرف
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1358 ) وصحيح مسلم- المكنز - ( 6926)(1/12)
عليه، ثم لا نستطيع أن نتعرف إلا على جزء يسير منه، فكيف - مثلاً - بالمجموعة الشمسية التى تكون أرضنا جزءاً منها؟ وكيف بالمجرة التى تعد مجموعتنا الشمسية جزءاً ضئيلاً منها، وكيف بالكتل السماوية الأخرى التى تشمل ملايين وملايين من مثل مجرتنا؟ وملايين وملايين النجوم التى تعد شمسنا صغيرة بالقياس إليها؟!
والكون مع ضخامته هذه دقيق دقة معجزة.. فالليل والنهار يتعاقبان فى دقة متناهية إلى حد أننا نضبط ساعاتنا عليها! والحقيقة أن الكون كله مضبوط فى دورته الفلكية لدرجة أن ساعات المراصد - التى هى أدق الساعات التى بين أيدينا، والتى نضبط عليها ساعات الإذاعة وغيرها، والتى تقيس الوقت بجزء على ألف من الثانية - هى ذاتها تضبط على دورة الفلك المتناهية فى الدقة، والتى لا تضطرب دورتها على مر العصور والأجيال، إلى أن يشاء الله 000
ثم إن كل كائن من الكائنات التى خلقها الله يتسم بهذه الدقة المعجزة سواء أكان من الكائنات الحية أم الكائنات الجامدة 0
هل رأيت إلى الخلية الحية الدقيقة المتناهية فى الصغر حتى إنها لا ترى إلا بالمجهر؟ ومع ذلك فهى تنمو وتنقسم وتقوم بمهام عجيبة غاية فى العجب، يقف الإنسان إزاءها حائراً، خاشعاً أمام قدرة الله. فمن الذى أودعها سر الحياة؟ ومن الذى هداها لهذا النشاط العجيب الذى تقوم به إلا الله سبحانه وتعالى؟!
إن الجرثومة لا يمكن أن ترى بالعين، ومنها نوع دقيق يسمى ((الفيروس)) لا يرى حتى بالمجهر العادى، ومع ذلك فأنت تعرف مما درست فى العلوم أنها يمكن أن تصيب الإنسان بأفتك الأمراض ما لم يتحصن ضدها بالأدوية أو الأمصال0
والكائن المتعدد الخلايا- وفى قمته الإنسان - يكون فى منشئه خلية واحدة ملقحة، ثم تظل تنقسم وتنمو حتى تصبح كائناً متكاملاً. فأى قدرة تمنحه الحياة والحركة والنشاط غير قدرة الله؟
وإن أعجب ما فى عملية الانقسام هذه أن الخلايا تكون كلها متماثلة - لظاهر العين - فى نشأتها الأولى، ثم يصدر إليها الأمر فتتخصص وتتشكل بشكل معين؛ فخلية تتجه إلى(1/13)
مكان معين وتصبح أذناً أو جزءاً من أذن. وخلية تتجه إلى مكان آخر فتصبح عيناً أو جزءاً من عين. وثالثة تصبح خلية من خلايا المخ. ورابعة تتحول إلى عظام.. وهكذا . فأى أمر هذا الذى صدر إليها فأطاعته ونفذته بهذه الدقة العجيبة وهى شىء لا يكاد يرى العبين؟ إنه أمر الله الخالق المبدع. يأمرها فتطيع، وتتحرك بمقتضى مشيئته سبحانه فتتكون كما أرادها الله، وتقوم بالدور الذى أراده لها الله0
وهل رأيت إلى تلك الزهرة الجميلة ذات الرائحة العطرة والألوان المتعددة المتداخلة؟
من الذى أودع فيها هذا العظر؟ وكيف تجمعت فيها تلك الألوان ؟
ترى لو حاولت أنت أن تعطر زهرة واحدة عطراً يفوح من الصباح إلى المساء دون أن يتبدد ويضيع، ولو حاولت أن تلون بكل ما لديك من ألوان زهرة واحدة بحيث تبقى ألوانها ما بقيت الزهرة، فكم يكلفك ذلك من الجهد؟ وإلى أى مدى تنجح محاولتك؟
ولو أن كل البشر علىظهر الأرض شغلوا أنفسهم بهذه المهمة بالنسبة لكل الزهور النابتة على سطح الأرض أو فى جوف البحر. فهل يستطيعون؟ وإن استطاعوا فكم يبقى من وقتهم وجهدهم ليقوموا بغير ذلك من الأعمال؟
ولكن الزهرة - وملايين الزهور فى الأرض - تخرج هكذا معطرة ملونة بهيجة المنظر من عند الله، بغير جهد على الإطلاق! ودون أن يشغله هذا الأمر سبحانه عن تدبير الكون الهائل العريض كله : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) سورة البقرة 0
لأنه سبحانه يقول للشىء {إ كُنْ فَيَكُونُ} (82) سورة يس 0
2- ظاهرة الموت والحياة كذلك تلفت حس الإنسان إلى قدرة الله المعجزة التى تحيى وتميت 0
فما الحياة فى حقيقتها؟ إنها سر معجز لا يعلم أحد كنهه ولا يستطيع تفسيره. وكل ما حاوله البشر حتى اليوم هو تفسير بعض ظواهر الحياة من حركة ونمو ووظائف مختلفة تقوم(1/14)
بها الأعضاء . أما الحياة ذاتها : فما هى؟ وكيف توجد فى الكائن الحى؟ ثم كيف توجهه إلى أداء وظائفه التى يقوم بها؟ هذا كله سر مبهم لا يقدر البشر على إدراكه. وعبثاً حاول البشر - بكل علمائهم، وبكل ما لديهم من علم - أن يخلقوا خلية واحدة، واحدة فقط، من بلايين البلايين من الخلايا الحية التى يزخر بها الخلق الربانى، والتى أوجدها الله بعلمه وقدرته دون شريك0
3- الرزق الجارى على الإنسان، سواء فى صورة مطر هاطل من السماء، أو زرع نابت من الأرض، أو أسماك وطيور وحيوان، أو كنوز ومعادن فى باطن الأرض، أو هواء بتنفسه، أو ريح تجرى سفنه فى البحر، أو طاقات تدير آلاته كطاقة البخار أو طاقة الكهرباء أو طاقة الذرة أو طاقة الوقود أو طاقة الماء المنحدر من المرتفعات.. كل ذلك من يجريه إلا الله؟ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (58) سورة الذاريات 0
4- الأحداث التى تجرى فى الكون وفى حياة الإنسان، من فرح وحزن، وضحك وبكاء، وفقر وغنى، وصحة ومرض، وموتى يموتون، ومواليد يولدون فى كل لحظة من لحظات الليل والنهار ... من ذا الذى يحدثها ويرتبها ويدبرها إلا الله مدبر كل شىء فى هذا الكون؟!
5- الغيب المجهول الذى لا يعلمه إلا الله يتشوف (1) الإنسان لمعرفته فلا يستطيع مهما حاول، ويريد أن يعرف كطيف ستكون حياته فى المستقبل. بل يريد أن يعرف ماذا يكون نصيبه فى العام المقبل. بل يريد أن يعرف ما يحدث بعد شهر أو أسبوع أو يوم000 بل يريد أن يعرف ماذا يحدث بعد ساعة من الزمان بل بعد لحظة واحدة من الزمن المقبل، لا يستطيع أن يعرف ما وراءها، وما تجلبه إليه من خير أو شر ... فمن ذا الذى يعلم ذلك الغيب المجهول كله علم شمول وإحاطة واطلاع إلا الله وحده الذى يخلق كل شىء ويعلمه، ولا يند عن علمه شىء فى السماوات ولا فى الأرض؟!
وكثير من الأمور وكثير، يلقى تأثيره على القلب البشرى فيستيقظ لحقيقة الألوهية. يعرف أن الله موجود، وأنه واحد لا شريك له، وأنه سبحانه متفرد بالكمال والقدرة،
__________
(1) أى يتطلع بشدة وبتشوق 0(1/15)
وبالجلال والعظمة، وبالسلطان الذى لا تحده حدود. فيكون على الفطرة السوية، ويكون كما خلقه الله فى أحسن تقويم : ((لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم))(التين : 4) 0
ويكون مهتدياً مؤمناً، مرضياً عنه فى السماوات والأرض، عمره فى الأرض مبارك بالأعمال الصالحة، وله فى الدار الآخرة جنة عرضها السموات والأرض، ورضوان من الله أكبر 0
ولكن الفطرة تمرض أحياناً وتنتكس فيصبح الإنسان أسفل سافلين: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، (1) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) [ التين : 4 - 6 ]
يتبلد الحس أحياناً فينسى آيات الإعجاز فى الكون والحياة. ينسى القدرة المعجزة التى تجرى الرزق وتجرى الأحداث وتشمل بعلمها الغيب 0
? أسباب تبلد الحس عند الإنسان :
1- تكرار المشهد : إن الإنسان حين يمر بتجربة جديدة يكون متفتحاً لها بكل حواسه. فإذا رأى مشهداً لأول مرة، أو سمع شيئاً جديداً لأول مرة، أو ذهب إلى مدينة جديدة أو شارع أو مسكن جديد، فإنه يكون منتبهاً بكل حواسه، يريد أن يتعرف على تفصيلات الشىء الجديد، ويكون له فى نفسه وقع بالغ لأنه جديد عليه. ولكنه حين يألف المشهد أو المكان، وتتكرر رؤيته له، فإن حواسه تمر عليه بغير انتباه كبير، بل قد تمر عليه بغير انتباه على الإطلاق!
وكذلك يفعل الإنسان أحياناً مع الله! ينسى أنه الخالق وأنه المدبر وأنه الرازق وأنه المحي والمميت!
ويمر بهذا الكون فلا يلتفت إلى شىء من الآيات فيه !
لا يلتفت إلى الشمس البازغة، ولا إلى النور حين يدبر ويبتلعه الظلام!
لا يلتفت إلى الزهرة الجميلة المعطرة البهيجة الألوان !
لا يلتفت إلى صوت الطائر الرقيق الذى يغنى مرفرفاً بجناحيه فوق الغصن!
__________
(1) أى حين يكفر بالله ويحيد عن الطريق المستقيم 0(1/16)
لا يلتفت إلى الماء الهاطل من السحاب، ولا إلى الرعد والبرق فى السماء!
لا يلتفت إلى الطفل الذى ولد ولا الإنسان الذى مات !
لا يلتفت إلى عجزه المطلق إزاء قدرة الله!
2- أو يتبلد حسه أحياناً لسبب آخر؛ لأنه مشغول بطعامه وشرابه وشهواته، مشغول بمتاع الدنيا القريب، فيلهيه ذلك المتاع عن التدبر فى آيات الكون والتقرب إلى خالق الكون والحياة، ويلهيه عن ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب 0
3- أو يتبلد حسه لأنه لا يريد أن يلتزم بأوامر الله، يريد أن يطغى فى الأرض ويتبع هواه، يريد أن يتجاوز الحلال الذى أحله الله لأنه فى نفسه شراهة لا تقنع بما أحله الله. أو يريد أن يسيطر على الآخرين ويستعبدهم لأهوائه فيعتدى على أموالهم، أو أعراضهم أو دمائهم بغير حق، ويريد أن يكون إلهاً فى الأرض يطاع من دون الله0
4- أو يتبلد حسه لأن فى نفسه كبراً يستكبر به على عبادة الله 0
5- أو يتبلد حسه لأنه مفتون بما بين يديه، مفتون بعقله أو بجسمه أو بماله أو بأى شىء مما حباه الله إياه، فيعتقد أنه من عند نفسه، وينسى أنه من عند الله !
يتبلد الحس وتمرض النفس لسبب من هذه الأسباب، أو لغيرها مما يلم بالنفس من انتكاسات وانحرافات، فتنسى الله النسيان كله، أو تشرك به سواه، وتتوهم أن أحداً أو شيئاً ما فى هذا الكون كله له شأن مع الله !
عندئذ لا يعود الإنسان كما خلقه الله على الفطرة السوية فى أحسن تقويم، وإنما يصبح أسفل سافلين، فيتملكه الشيطان يصرف شئونه بعيداً عن الهداية الربانية، وبعيداً عن رضوان الله (1) 0
__________
(1) - ففي صحيح مسلم- المكنز - (7386 ) عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِى خُطْبَتِهِ « أَلاَ إِنَّ رَبِّى أَمَرَنِى أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِى يَوْمِى هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِىَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِى فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِى قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ - قَالَ - وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِى لاَ زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً وَالْخَائِنُ الَّذِى لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ». وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ « وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ ».
يثلغ : يكسر -اجتال : أضل -الزبر : العقل -الشنظير : سيئ الخلق -نغزك : نعينك 0(1/17)
ولكن الله - من رحمته بعباده - لا يتركهم هكذا بغير هداية، بل يرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى الهدى ويعيدونهم إلى الحق 0
ولقد أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليكون خاتم النبيين، ويكون بشيراً ونذيراً للناس كافة إلى يوم القيامة. وأنزل عليه القرآن الكريم يهدى للتى هى أقوم، وتكفل سبحانه بحفظه فقال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر 0
وجعله شاملاً لكل ما يرد الفطرة إلى سلامتها، وينفى عنها خبثها وأمراضها، ويدلها على حقيقة الألوهية، ويعرفها بالله الحق، خالق الكون ومدبره، ومالك الأمر كله بغير شريك0
والآن، فلنعرض طريقة القرآن فى هداية النفس البشرية، وردها عما تنحرف إليه من شتى الضلالات0
طريقة القرآن فى هداية النفس البشرية وردها عن شتى الضلالات
إذا تدبرنا القرآن الكريم - وبصفة خاصة ما يتناول موضوع العقيدة - نجد أن القرآن يستخدم وسائل شتى وأساليب متنوعة لتوضيح العقيدة السليمة وتصحيح الانحرافات التى يقع فيها الناس حين تستولى عليهم الجاهلية وتبعدهم عن الهخدى الربانى، ثم لتثبيت هذه العقيدة وتعميق أثرها فى النفس0
ومن هذه الوسائل :
1- إثارة الوجدان لتدبر آيات الله فى الكون، وإزالة التبلد الذى يقع فى حس الإنسان من المشاهد المكرورة. وذلك يشمل الحديث عن الكون بضخامته الهائلة ودقته المعجزة، وظاهرة الموت والحياة، وإجراء الرزق، وإجراء الأحداث، وقدرة الله التى لا تحد، وعلم(1/18)
الله الشامل للغيب، كل ذلك بطريقة فذة تجعل الإنسان يستقبل هذه الأمور كلها كأنه يراها ويلاحظها لأول مرة، فينفعل بها وجدانه، ويستيقظ لحقيقة الألوهية0
2- إثارة العقل ليتفكر فى خلق الله، ليدرك أن لهذا الكون خالقاً، وأنه لا يمكن أن يكون له شريك فى الخلق ولا فى الرزق ولا فى تدبير الأمر. وهذا يشمل كل الإشارات السابقة ولكن بطريق آخر غير إثارة الوجدان والانفعال. هو طريق التفكير والتدبر المنطقى. وإن كان يلاحظ أن الطريقتين كثيراً ما تقترنان معاً فى آيات كثيرة من آيات القرآن، فيخاطب الوجدان ويخاطب العقل فى آن واحد 0
3- مواجهة الإنسان بحقيقة ما يدور فى داخل نفسه وقت الشدة من اللجوء إلى الله ونسيان الشركاء، ومن الغفلة والنسيان والبغى فى الأرض بغير الحق بمجرد زوال الأزمة ونجاته من الخطر. وهى حقيقة كثيراً ما ينساها الإنسان فيذكره القرآن بها ليصحح سلوكه تجاه الله، ويستقيم على العقيدة السليمة
4- مناقشة الانحرافات كلها التى يقع فيها الجاهليون تارة بالدليل العقلى وتارة بالديل الوجدانى، ودحضها وبيان تفاهتها وعدم قيامها على أى أساس صحيح. ونلاحظ هنا كذلك أنه كثيراً ما يقترن الدليل العقلى بالدليل الوجدانى فى مناقشة الانحرافات0
5- التذكير الدائم بقدرة الله التى لا تحد، وعظمته وجلاله حتى يخشع القلب ويستسلم لله.
6- التذكير الدائم بأن الله مع الإنسان يراه ويراقبه ثم يحاسبه يوم القيامة على ما عمل من خير أو شر، وإشعار الإنسان بعلم الله الشامل الذى لا يغيب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض، ولا يخفى عليه من عمل الإنسان شىء حتى السر وما هو أخفى من السر0
7- التذكير الدائم بالله سبحانه وتعالى فى حالتى السراء والضراء، ففى السراء ينبغى على الإنسان أن يذكر الوهاب المنعم فيشكره. وفى الضراء فيصبر الإنسان لقضاء الله ويتوجه إليه ليكشف عنه الضرر0
8- إيراد القصص التى تثبت الإيمان، بذكر الأنبياء وصبرهم على الأذى ونصر الله لهم فى النهاية، والكفار وعنادهم وتدمير الله عليهم فى النهاية0
9-(1/19)
رسم الصور المحببة للمؤمنين وصفاتهم وما ينالهم من جزاء، والصور الكريهة المنفرة للكافرين وما ينالهم من جزاء 0
وفى الفصول القادمة نتحدث عن هذه الوسائل بشىء من الشرح والبيان 0
القرآن والوجدان
قلنا إن الإنسان يتبلد حسه على المشهد المكرر فينسى دلالته الحقيقة . ينسى إعجاز القدرة الربانية لأنه ألف مشهد الليل والنهار، ومشهد الشمس والقمر، والسحاب والمطر، والنبات المخضر... ولم تعد هذه المشاهد تهز وجدانه أو تلفت حسه إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، وإلى أنه خالق عظيم مدبر حكيم متصف بالكمال متفرد بالخلق والإبداع0
والقرآن - بطريقته الجميلة المعجزة - يزيل تلك الغشاوة التى ترين على القلب وتجعل الحس يتبلد. ويعرض آيات الله فى الكون فى صورة حية ينفعل بها الوجدان كأنها جديدة يشهدها الإنسان لأول مرة! وحين ينفعل بها الوجدان ويتأثر، ويتحرك الخيال لتتبع المشهد المعروض، وتتحرك المشاعر بشتى الانفعالات، عندئذ يوجهه إلى أن وراء هذه المشاهد كلها قدرة الله المعجزة، وأن صانعها وبارئها هو الله 00 فينبغى إذن عبادة ذلك الإله القادر، والتوجه إليه وحده بالعبادة دون سواه0
بهذه الطريقة الحية الجميلة يتحدث القرآن عن :
مشاهد الكون التى تصور ضخامة الكون ودقته المعجزة فى ذات الوقت 0
ظاهرة الموت والحياة مع عرض تفصيلة أحياناً لمراحل الحياة النباتية والإنسانية0
ظاهرة جريان الرزق على الناس والدواب كذلك 0
ظاهرة جريان الأحداث، سواء الأحداث الكونية أم الأحداث الواقعة فى محيط الإنسان القريب0
علم الله الشامل للغيب 0
وفى كل مرة يعقب بأن الله هو الصانع لهذا كله، فهو الجدير وحده بالعبادة وبالتوجه وبالدعاء وبالخشية وبالرجاء0(1/20)
وفى كل مرة يعقب بأن الله هو الصانع لهذا كله، فهو الجدير وحده بالعبادة وبالتوجه وبالدعاء وبالخشية وبالرجاء0
والآن فلنعرض أمثلة كل واحد من الموضوعات السابقة، وإن كان كثير منها يأتى مقترناً بعضه ببعض فى آيات القرآن 0
1- آيات فى الكون :
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ النحل : 10 - 18 ] .0
ففى هذه الآيات عرض لبعض آيات الله فى الكون بطريقة تزيل عن الحس تبلده إزاء المشهد المكرور، بأن تلفت هذا الإنسان صاحب الحس المتبلد إلى جوانب إما أنه نسيها، وإما أنه لم يلتفت إليها أصلاً. فحين يدركها أو يتذكرها تصبح المشاهد جديدة فى حسه، وينظر إليها برؤية جديدة غير التى كان يراها بها من قبل، فينفعل بها وجدانه وتتحرك عواطفه0
فالإنسان ذو الحس المتبلد قد يرى الماء النازل من السماء فلا يتذكر أن هذا المطر هو الذى يتحول إلى عيون وينابيع وآبار وأنهار يشرب منها. أو هو من الجانب الآخر قد يشرب الماء الذى يجده أمامه ميسراً، وينسى أن هذا الماء لم يوجد فى الأرض من تلقاء نفسه، بل أنزل الله له فى صورة مطر، لا ينزل إلا بقدرة الله، وبحسب القوانين والسنن التى أودعها الله فى الكون، فأجرى بها السحاب وأنزل منه الماء. فالنص القرآنى يوقظه إلى هاتين(1/21)
الحقيقتين فى آن واحد : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (10) سورة النحل ،كما يلفته أيضاً إلى الشجر النابت من هذا الماء، فلا يعود المطر النازل من السماء ظاهرة مكررة مألوفة منقطعة فى حسه عن الله الذى أنزله من السماء، إنما تصبح موصولة بقدرة الله، فتحيا فى النفس وتؤثر فيها، بربطها بالله المنعم الوهاب 0
ويستمر السياق يعرض أنواعاً من النبات الذى أشارت إليه الآية السابقة، فيذكر الزرع بعمومه، والزيتون والنخيل والأعناب، ((ومن كل الثمرات))0
وهذه الطريقة فى ذكر بعض الأنواع بالتفصيل والإشارة العامة إلى بقيتها تجعل الخيال يتحرك لتقصى ما لم يذكر بتفصيله بعد أن تتبع المذكور منه بالفعل! وهكذا يشترك الخيال مع الوجدان فى تصور المشهد، ويعطى له حيوية جديدة فلا يعود هو المشهد المكرر المألوف الذى تبلد عليه الحس!
ثم يشير السياق إلى الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. وكلها مشاهد مألوفة مما يتبلد عليه الحس بالتكرار، ولكن السياق يذكر أمراً جديداً يغير وضعها فى النفس، ويجعلها كأنها تعرض لأول مرة، ذلك هو قوله تعالى : ((وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره))0
فالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم لم تعد تلك الظواهر الكونية المعتادة التى ألفها الحس ففقدت دلالتها فى النفس،، إنما هى كائنات مسخرة بأمر الله. ولا شك أن هذا المعنى قد غير صورتها تماماً عن الصورة المعهودة التى تبدو فيها هذه الظواهر وهذه الأجرام السماوية كأنها قائمة بذاتها، مستقلة عن أى شىء بحركتها! كلا! إنها تقوم بعمل معين. تقوم بتكليف ربانى كلفها الله إياه، وإذن فحركتها الدائبة ليست حركة آلية كما يتصورها الحس المتبلد، إنما هى حركة حية ذات غاية وهدف، وكل جزء من هذه الحركة فى ليل أو نهار هو قيام بجزء من التكليف الذى يبلغ غايته يوم يغير الله نظام هذا الكون كله فى اليوم الموعود. وذلك فضلاً عن التذكير بنعمة الله فى قوله تعالى : ((وسخر لكم(1/22)
الليل والنهار000)) والملحوظ أن جو السورة كلها هو جو تذكير الإنسان بنعمة الله عليه، لكى يتحرك وجدانه لشكر أنعم الله، بالتوجه إليه وحده دون سواه0
ثم يخطو السياق خطوة أخرى بلفت الحس إلى اختلاف الألوان فيما خلقه الله على ظهر الأرض من كائنات : ((وما ذرأ لكم فى الأرض مختلفاً ألوانه))0
ونلحظ هنا كذلك نوعاً آخر من إثارة الخيال لتتبع المشهد؛ فالآية تقول : ((وما ذرأ لكم فى الأرض مختلفا ألوانه)) ((ما)) بدون تخصيص شىء بعينه، نباتاً كان أو حيواناً أو غيره.. فهنا ينطلق الخيال يتتبع كل ما ذرأ الله فى الأرض من الأشياء المختلفة الألوان، فتصبح هذه الأشياء حية فى الوجدان، وتتخذ صورة أخرى غير ما كانت عليه فى عهد التبلد والنسيان0
ثم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (14) سورة النحل 0
هل يمكن أن يمر الإنسان بالبحر بعد قراءة هذه الآية دون أن يتحرك وجدانه ؟
إن البحر هنا كله حركة وحياة، مرتبط بحس الإنسان بصلات قوية، فمنه يستخرج اللحم الطرى ليأكل، والحلية ليتزين، وفيه تمخر الفلك لتنقل البضائع والأرزاق.. إنه ليس ماء وأمواجاً فحسب، إنه عالم كامل ملئ بالحركة والنشاط، وكله من فضل الله. أفلا نشكر الله على فضله؟
ثم يذكر السياق من المشاهد الكونية الجبال والأنهار والطرق والعاملات والنجوم بذات الأسلوب الذى يلفت إليها الحس ويحرك الخيال، ويذكر فى كل مرة بأنها نعمة من نعم الله على الإنسان0
وبعد هذا العرض الحى لتلك المشاهد، الذى يخرج الحس من تبلده، فيعود يستعرض الأشياء كأنها جديدة عليه، وينفعل بها ويتحرك معها 000 بعد هذا العرض كله يعقب بالحقيقة الكبرى التى يريد أن ينبه الإنسان إليها : ((أفمن يخلق كمن لا يخلق))؟(1/23)
ويجئ السؤال بعد إثارة الوجدان بآيات الله فى الكون على هذا النحو، فيتلقى إجابته من داخل النفس مؤكدة لا لبس فيها :
لا يا رب! ليس الذى يخلق كالذى لا يخلق! سبحانك أنت الخلاق العظيم.
ويختم السياق بما يزيد الوجدان إثارة ويزيد النفس ارتباطاً بالله : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (18) سورة النحل 0
والآن، وقد استعرضنا هذا النموذج مفصلاً، تستطيع على ضوئه أن تقرأ النماذج الأخرى المشابهة فى القرآن الكريم، ونكتفى بإثبات نموذجين اثنين منها :
( المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ، اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [ الرعد : 1 - 4 ] .
( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) [ الروم: 17 - 25 ] . 0(1/24)
2- ظاهرة الموت والحياة :
يتحدث القرآن كثيراً عن ظاهرة الموت والحياة ليهز الوجدان بهذه الظاهرة المعجزة التى كثيراً ما يمر الإنسان بها دون أن يلتفت إليها، أو دون أن يعطيها حقها من الاهتمام، مع أنها جديرة - حين يلتفت إليها - أن تبعث فى نفسه هذا التساؤل : من الذى خلق الحياة فى الخلية الحية سواء أكانت نباتية أم حيوانية إنسانية؟ أى قدرة معجزة هى التى جعلت تلك الخلية تتحرك وتنمو وتكبر وتتشكل فى أشكال شتى؟ أمن ذات نفسها؟ فلماذا إذن لا تتصرف الخلية الميتة على نفس الصورة؟ أليس هناك سر معجزة فى هذه الخلية الحية؟ أليس الخالق سبحانه هو الذى أودع فيها ذلك السر المعجز: سر الحياة؟!
ثم حين تموت تلك الخلية الحية، ويموت الكائن الحى: أين تذهب الحياة التى كانت سارية فيه؟ إننا نقول فى بساطة إن ذلك الكائن قد مات، سواء أكان نباتاً أم حيواناً أم إنساناً. ولكن هل الأمر بهذه البساطة فى الحقيقة؟ أليست ذات القدرة المعجزة التى وهبت الحياة للكائن الحى هى التى استردتها منه وتركته ميتاً بلا حياة ؟!
إن العلم يحدثنا عن بعض مظاهر الحياة والموت، يقول لنا إن مظاهر الحياة فى الكائن الحى أنه يتغذى، وأنه ينمو، وأنه يتحرك، وأنه يتكاثر.. ويقول لنا إن موت الكائن الحى هو وقف تلك الأعمال كلها، فلا يعود يتغذى أو ينمو أو يتحرك أو يتكاثر 00
نعم! ولكن العلم لم يقل لنا، ولا يستطيع حتى اللحظة أن يقول لنا ما سر الحياة ذاتها، وما الذى يجعل الخلية الحياة تتصرف على هذا النحو، وعلى هذا النحو بالذات؟
ثم إذا سألنا العلم : لماذا تموت الخلية ولا تظل حية أبداً؟ ! لم يستطع أن يجيبنا إلا بأن الخلية تهرم وتضعف ثم تموت! نعم! ولكن لماذا يحدث ذلك؟! لماذا لا تستمر فى الحياة؟ إن كل كائن حى يتشبث بالحياة ولا يحب أن يموت أبداً. حتى الذبابة إذا أردت أنتقتلها تفر منك لتبعد عن الموت.. ولكن لماذا تموت كل الكائنات؟ ترى لو كان أمر حياتها بيدها هل كانت تتخلى عن الحياة أبداً؟ كلا! ولكنها تموت لأن الله قضى عليها الموت! وهذا هو السر الحقيقى وراء كل الأسباب الظاهرة للعين!
الموت والحياة إذن كلاهما من عند الله. كلاهما مشيئة ربانية وقدر ربانى 0(1/25)
وهذا هو الذى يغب عن الوجدان حين يتبلد حس الإنسان على المشاهد المكرورة. ويغيب عن العقل حين تنطمس بصيرة الإنسان لسبب من الأسباب الكثيرة التى ذكرناها من قبل، فيقول كما يحكيه القرآن عن الدهريين (1) : {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (24) سورة الجاثية
أو يقول إن "الطبيعة" هى التى تخلق الحياة وتسلبها من الكائن الحى كما يقول دارون!
ويجئ القرآن فيزيل تلك الغشاوة عن النفوس، ويتحدث عن ظاهرة الموت والحياة حديثاً يهز الوجدان فيصحو من تبلده، ويتيقظ لحقيقة الألوهية التى يرجع إليها الموت والحياة0
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) [ الملك : 1 - 4 ]
فالله الذى بيده الملك، والذى هو على كل شىء قدير، هو الذى خلق الموت والحياة، وما يستطيع غيره سبحانه أن يخلق الموت والحياة، فهما - بأسرارهما المعجزة - لا يقدر عليهما إلا من كان بيده مللك كل شىء، وكانت له القدرة التى لا يحدها شىء، ولا يعجزها شىء!
وهذا الإله القادر - سبحانه - الذى خلق الموت والحياة بقدرته، قد خلقهما لحكمة ((ليبلوكم أيكم أحسن عملا))، فاقتضت مشيئته أن يعيش الإنسان فترة معينة من الزمن على هذه الأرض، يعمل فيها وينشط ويتحرك ثم يموت، ليبعث مرة أخرى ويحاسب على أعماله. وكذلك قضى - لحكمة يريدها- أن تموت الكائنات الحية كلها بعد فترة معينة من الحياة، هو الذى يقدرها سبحانه لكل واحد من الأحياء، التى تبلغ ملايين الملايين من المخلوقات منذ أنشأ الله الحياة على الأرض، إلى أن تقوم الساعة فى اليوم الموعود 0
__________
(1) أطلق عليهم اسم الدهريين لأنهم قالوا : (وما يهلكنا إلا الدهر) فنسبوا الموت للدهر بدلاً من الله 0 كما أنهم أنكروا أن الله يبعث الموتى0(1/26)
والسياق القرآنى يلفت النظر إلى ظاهرة الحياة والموت فى وسط الحديث عن آيات القدرة فى الكون، ليوقظ الحس المتبلد إلى أن هذه الظاهرة من الضخامة والإعجاز بحيث تقترن بآيات الخلق المعجزة التى لا يقدر عليها إلا الله، فمن قبلها أشار إلى أن الله بيده الملك وأنه على كل شىء قدير، ومن بعدها يعود إلى ذكر الخلق: ((الذى خلق سبع سموات طباقاً)) ثم حين يقول : ((ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت))، فهو يدعو الإنسان إلى النظر فى الكون الواسع، يتملاه بخياله، ويتأمل فيه بفكره، ليرى : هل هناك اضطراب أو خلل أو نقص فى هذا الخلق الذى خلقه الله؟ :((فارجع البصر هل ترى من فطور)) ؟
وحين يتملى الإنسان ببصره وخياله وفكره هذا الكون الواسع وآيات القدرة فيه، ينفعل وجدانه بعظمة الله، وقدرته المعجزة، فإذا السياق القرآنى يطالبه بأن يرجع البصر كرة أخرى، ليبحث عن النقص أو الخلل فى خلق الله! فهل يستطيع شيئاً من ذلك؟ أم يعود البصر عاجزاً حسيراً لا يقدر على هذه المهمة : ((ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير))! وعندئذ يكون الوجدان قد بلغ أقصى انفعاله، ووصل إلى غاية تأثره، فيقر إقراراً لا مهرب له منه بعظمة الله وجلاله، وقدرته التى لا تحدها حدود 0
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ، وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ، فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) [ المؤمنون : 12 - 19 ] .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) [ الزمر : 21 ]
3- الرزق :(1/27)
من أشد الأمور التى تربط القلب المؤمن بالله، بينما يغفل عنها الحس المتبلد، أمر الرزق الذى يجريه الله على الإنسان من السماء والأرض0
فالمؤمن يشعر شعوراً دائماً بفضل الله عليه ورحمته؛ لأن الرزق الذى يفيضه الله على الإنسان من السماء والأرض0
فالمؤمن يشعر شعوراً دائماً بفضل الله عليه ورحمته؛ لأن الرزق الذى يفيضه الله على الإنسان دائم لا ينقطع، ولو انقطع لحظة واحدة لما أمكن للإنسان أن يعيش0
وقد نتصور أحياناً أن الرزق محصور فى الطعام والشراب، أو الملبس والمسكن، أو المال الذى نشترى به الأشياء، ولكن الرزق فى الحقيقة أوسع من هذا بكثير ، لا يمكن للإنسان أن يحصيه : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (18) سورة النحل
فهل خطر ببالك أن الهواء الذى تتنفسه مكون من عناصر رتبت ترتيباً ربانياً بنسب معينة لتجعل الحياة صالحة على ظهر الأرض، وأنه لو قلت نسبة الأكسجين فى الهواء لتعذرت الحياة، ولو زادت لاشتعل كل ما على الأرض؟!
وهل خطر ببالك أن الجاذبية القائمة بين الأرض والشمس من جهة، وبين الأرض والقمر من جهة أخرى قد قدرها الله سبحانه بحسبان دقيق : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (5) سورة الرحمن. بحيث إنه لو كان جذب الشمس للأرض أكبر من قدره الحالى لاقتربت من الشمس أكثر، وصارت الحرارة عليها لا تطاق، فماتت لك الأحياء، ولو كان جذبها للأرض أقل لابتعدت عن الشمس أكثر، فصارت البرودة عليها لا تطاق، ولماتت كل الأحياء! وأنه لو اقترب القمر إلى الأرض فزادت الجاذبية بينه وبينها لطغى الماء - وقت المد - فأغرق كل سطح الأرض وأهلك كل الأحياء؟!
وهل عرفت أن دورة الليل والنهار لازمة لحياة الأحياء، ولولاها ما استقامت الحياة ولا ترعرعت الأرض، لأن الكائنات الحية كلها تحتاج إلى وقت تسكن فيه، ووقت من نوع آخر تنشط فيه؟
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ(1/28)
يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ، وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ القصص : 71 - 73 ] 0
ذلك - وغيره - ومن ألوان الرزق التى ننساها أحياناً ونحن نعدد الأرزاق التى أفاضها الله على الإنسان، هى - إلى جانب أنواع الرزق الأخرى - نعم ربانية يذكرها القلب المؤمن بالحمد والشكر. ولكن الحس المتبلد يمر عليها بغير التفات، أو يجنح به الغرور أحياناً أن يقول كما يروى القرآن عن قارون: : ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [ القصص : 78 ] أى حصلته بقدرتى وجهدى لا من عند الله !
لذلك يعرض القرآن موضوع الرزق بطريقة تهز الوجدان المتبلد ليتيقظ إلى الحقيقة، وهى أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الأرزاق كلها من عند الله، وأن الإنسان مهما بذل من جهد فهو لا ينشئها فى الحقيقة، إنما يعمل فيها بسنة الله ومشيئته، ولكن المنشئ هو الله0
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) [ الواقعة : 63 - 74 ] .
إن الإنسان يحرث الأرض ويلقى البذور فيها فيخيل إليه أنه هو الذى زرع! أى أنه هو الذى أنبت الزرع! فهل حقيقة هو الذى يصنع ذلك؟ وهل هناك قوة فى الوجود كله - إلا القدرة الربانية المعجزة - تستطيع أن تحرك البذرة للنمو، وتخرج منها ذلك الزرع المختلف الألوان والأشكال والطعوم؟ ترى لو أن الله لم يودع هذه البذرة سر الحياة، هل كان أهل الأرض جميعاً يستطيعون أن يحركوها من مكمنها لتنمو وتثمر؟! من أجل ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ((أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون))؟ ثم يلفت الحس إلى جانب آخر من المسألة يغفل عنه الإنسان حين يتبلد حسه على المشهد المركور، فينسى ما فيه من(1/29)
إعجاز الله القدير، إن الإنسان تعود أن يرى الزرع نامياً ينتقل من مرحلة إلى مرحلة حتى تطلع الثمرة، فيظن - فى غفلته- أن الأمور تسير هكذا من تلقاء ذاتها. وأنه لابد حين يضع البذرة أن تنمو حتى تخرج له الثمرة، وينسى أن الله هو الذى يخرجها له، من أجل ذلك يقول الله له : ( لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) فلو شاء الله لم ينتبه أصلاً، ولو شاء كذلك أنبته ثم جعله حطاماً دون أن يثمر! ولو حدث ذلك لظللتم تقلبون القول بينكم، تقولون: غرمنا جهدنا ومالنا ولم يثمر الزرع، أو تقولون: وقع علينا الحرمان!
والإنسان يرى الماء نازلاً من السماء ولكنه يغفل - حين يتبلد حسه- عن أن الله هو الذى أنزله، فيتوهم أنه ينزل هكاذ من تلقاء نفسه، أو قد يصيبه الغرور كما وقع من الإنسان المعاصر الذى يعيش فى الجاهلية الحديثة المسيطرة على الناس فى أوربا مع كل ما عندهم من التقدم المادى، فيظن أنه هو الذى ينزل المطر من السماء؛ لأنه استطاع أحياناً أن يلقى مواد معينة بالطائرات فوق السحب فيسقط المطر !
يغفل هؤلاء وهؤلاء عن الحقيقة، وهى أن الله سبحانه وتعالى هو الذى ينزل المطر فى الحقيقة، بمشيئته وقدره، وبالسنة التى أودعها فى الكون لتؤدى إلى تحقيق مشيئة الله وقدره. فإذا كان بخار الماء يتثاقل حين يبرد السحاب فى طبقات الجو العليا، أو حين يصطدم السحاب بجبل مرتفع، فلا يعود الهواء قادراً على حمله، فينزل فى صورة مطر.. فمن الذى صنع ذلك كله؟ من الذى جعل هذا من طبيعة بخار الماء؟ ترى لو أن الله لم يودع بخار الماء هذه الخصائص أكان المطر ينزل من تلقاء نفسه حين يتكاثف؟! وإذا كان إلقاء بعض المواد على السحاب بالطائرات يؤدى ذات الهدف فيجعل بخار الماء يبرد فيتكاثف فينزل فى الصورة التى يسمونها ((المطر الصناعى))! فهل كانت طائرات الأرض كلها، والبشر جميعاً يقدرون على شىء من ذلك لو لم يسخر الله الماء لينزل من السماء إلى الأرض بحسب سنن معينة أودعها فيه (1) ؟!
__________
(1) - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » . قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِى وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ » صحيح البخارى- المكنز - (846 )
السماء : المطر -النوء : المنزلة من منازل القمر وكانت العرب تنسب المطر إليها(1/30)
ومرة أخرى يلفت القرآن الحس إلى جانب آخر من المسألة، فإن المطر ينزل فى صورة ماء عذب سائغ للشراب، فيظن الحس الغافل أنه ينزل على هذه الصورة من تلقاء نفسه! فيذكره القرآن بالحقيقة، إن الله هو الذى أنزله فى صورته العذبة تلك رحمة منه بخلقه، وإنه لو شاء لجعله مالحا شديد الملوحة لا يصلح للشرب ولا لتنمية النبات. افلا يستحق الله الشكر على نعمته تلك؟
والإنسان يوقد النار وينسى قدرة الخالق من ورائها، حين يراها ميسرة بين يديه يشعلها حين يشاء. فمن أنشأ الشجرة التي تتوهج الشجرة التي تتوهج منها النار؟ اليس هو الله سبحانه وتعالى الخالق المنعم الوهاب؟ وما يصدق على الشجرة يصدق على غيرها من الأوان الوقود الموجود اليوم.. كله من عند الله.
ثم يذكر القرآن الإنسان بجانب آخر من المسألة: عن الله قد جعل هذه النار التي يوقدها الإنسان في الأرض تذكرة تذكره بالنار الكبرى التي تنتظره في الآخرة لو عصى الله، في ذات الوقت الذي جعلها متاعًا للمسافرين المحتاجين للدفْ ولما ينضجون عليه الطعام.
وينتهي السياق حين يهز الوجدان بذلك العرض كله بدعوة الإنسان ـ وهو في حالة تأثره وانفعاله الوجداني ـ أن يسبح باسم ربه العظيم، الذي أفاض عليه كل تلك الأرزاق!
( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ( ) ، اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) [ إبراهيم : 31 - 34 ] .(1/31)
( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ ، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [ النحل : 66 - 69 ]0
4- الأحداث الجارية :
تجرى الأحداث حول الإنسان وفى خاصة نفسه من مولده إلى مماته. بعضها أحداث كونية كالليل والنهار وتعاقبهما المستمر، وطلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وتدرج أوجهه من أول الشهر حتى يكون بدراً ثم يتضاءل حتى يختفى، والسحاب والمطر والبرق والرعد وتعاقب الفصول.. إلخ. وبعضها أحداث فى محيط البشر من ميلاد وموت، وصحة وضعف، وطفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، وغنى وفقر، وعز وذل 000 إلخ 0
? أثر الأحداث التى تجرى فى الحياة على المؤمن :
تمر هذه الأحداث على المؤمن فيجد لنفسه فيها عبرة،ت يعلم أن من ورائها تدبيراً حكيماً لإله حكيم، هو الذى يجرى الأحداث بعلمه وحكمته وقدرته، وهو الذى يدبر أمر الكون كله، فلا يحدث فى هذا الكون الهائل العريض إلا ما يريده الله، ولا يتم أمر من أمور الكون إلا على الصورة التى يريدها الله0
? أثر الأحداث التى تجرى فى الحياة على الغافل :
أما الغافل المتبلد الحس فيمر بهذه الأحداث، سواء منها الأحداث الكونية أو الأحداث التى تقع فى محيط البشر، دون أن يتنبه من غفلته، ودون أن يتيقظ لما فيها من دلالة على وجود الله، وتفرده بالملك فى هذا الكون، وتفرده بتدبير الأمر كله، ومن ثم تمر به الأحداث وهو سادر فى غفلته لا يفيق!
ويجئ القرآن فيهزه من غفلته هزاً ليطلع على الحقيقة الكامنة وراء الأحداث! وكما يعالج القرآن آيات الله فى الكون، وظاهرة الموت والحياة، وجريان الرزق، فيحيلها جديدة حية(1/32)
كأنما يتلقاها الإنسان لأول مرة، كذلك يعالج أمر الأحداث الجارية بما يزيل عن النفس غشاوتها، ويزيل عن المشاعر تبلدها، فينفعل الوجدان ويتأثر، ويتيقظ القلب ويستشعر0
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (164) سورة البقرة
فى هذه الآية الواحدة يلفت القرآن الحس البشرى إلى مجموعة كبيرة من الأحداث الكونية التى يمر بها الإنسان الغافل دون تنبه إلى دلالتها، بحكم الإلف والعادة. ولكن القرآن يوقظ هذا الحس المتبلد ليرى هذه الآيات الكونية ويدرك أنها لا يمكن أن تحدث من تلقاء نفسها، ولكن وراءها تدبيراً وحكمة 0
وإذا تدبرنا الآية نجد أن القرآن يصل إلى الغاية المقصودة - وهى إيقاظ الحس المتبلد - بطريقتين فى آن واحد :
الأولى : هى حشد عدد كبير من الأحداث الجارية فى معرض واحد، فهناك السماوات والأرض، وهناك اختلاف الليل والنهار ( بمعنى تعاقبهما المستمر، وبمعنى اختلاف طولهما على مدار الفصول) ، وهناك جريان السفن فى البحر، وهناك المطر النازل من السماء، والحياة النابتة فى الأرض، والدواب المنبثة فى أرجائها، وهناك تصريف الرياح، وهناك جريان السحاب المعلق بين السماء والأرض... وهذا الحشد ذاته يوقظ الحس. فقد يتبلد هذا الحس فلا يلتفت لتلك الأحداث الجارية وهى فرادى، كل منها يقع على حدة فى وقت منفصل عن الآخر، ولكنها حين تحشد هكاذ وتعرض بهذا التوالى وبذلك التجمع فإن الحس لابد أن يستيقظ،وهو يتتبعها بخياله واحدة إثر الأخرى، فلا يجد فرصة يغفل فيها أو يستنيم، وهى تلاحقه بهذه السرعة، لا يكاد ينتهى من تتبع واحدة حتى تكون الأخرى قد لحقته!
والثانية : هى ربط الوجدان بهذه الأحداث عن طريق لفت الحس إلى الحركة الدائبة فى هذا الكون. فالمشهد الثابت الذى لا يتحرك قد يسهل على الحس أن يتعود عليه فيتبلد(1/33)
ولا يعود المشهد يثيره. أما الحركة المستمرة فلا يمكن للحس أن يتبلد إزاءها، ولابد أن يلتفت ويتيقظ0
فالآية تبدأ بخلق السماوات والأرض، وهو حدث قديم لم يشهده الإنسان ولكنه يرى آثاره ماثلة أمامه. ولكن السياق القرآنى لا يدع صورة الخلق ساكنة أمام الحس بل يحرك الصورة بتحريك مفرداتها. فالليل والنهار يدوران ويختلف طولهما فى أثناء تعاقبهما المستمر، والفلك تجرى فى البحر بما ينفع الناس، والماء النازل من السماء يتسم بالحركة كذلك، وهى حركة النزول نحو الأرض. ولكن الحركة لا تنتهى هنا: فمن هذا المطر النازل يخرج النبات الحى من الأرض التى كانت مجدية من قبل، والتعبير القرآنى يقول : ((فأحيا به الأرض بعد موتها)) فيصور الأرض كانت ميتة فتحركت بالحياة بعد نزول المطر، كما يقول: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5) سورة الحج ، ولكن الحركة لا تنتهى هنا كذلك؛ بل تستمر لتصور الدواب جاءت تسعى أكل النبات الذى أخرجته الأرض بالمطر، والتعبير القرآن يقول : ((وبث فيها من كل دابة)) والبث حركة فى جميع الاتجاهات فى وقت واحد . ثم يجئ ذكر الرياح وهى متحركة بطبيعة الحال، فإنها لا تسمى رياحاً إلا إذا تحركت حركة شديدة ملموسة. وأخيراً يذكر السحاب متحركاً كذلك مسخراً بين السماء والأرض، وهكذا تشمل الحركة كل الكائنات، ويتملاها الحس فى حركتها الدائبة فينفعل بها ويتحرك معها0
ولا تنس كذلك أن التعبير القرآنى يلفت الحس البشرى فى أثناء عرض هذه الحركة المستمرة إلى الله سبحانه وتعالى، الذى تحرك قدرته كل هذه الأحداث: { وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (164) سورة البقرة، وهكذا يذكر لفظ الجلالة الصريح مرة ويعود الضمير عليه مرتين متواليتين بعد قوله (فأحيا) وقوله (وبث)، ثم يلفت إليه الحس مرتين أخريين فى قوله تعالى : ((وتصريف الرياح)) وقوله : ((والسحاب المسخر))، إذ الإشارة واضحة إلى أن الذى يصرف الرياح هو الله، والذى يسخر السحاب هو الله0(1/34)
وبهذه الوسائل كلها يوقظ القرآن وجدان البشر إلى الأحداث الجارية فى بنية الكون وفى حياة الناس 0
( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ آل عمران : 26 ، 27 ] .
( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ، فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) [ الروم : 48 - 54 ]
5-علم الله الشامل للغيب :
يتشوق الإنسان دائماً إلى معرفة الغيب، يحب أن يعرف ماذا سيحدث له فى الغد القريب والغد البعيد
وسواء كان هذا الغيب أملاً منشوداً يسعى الإنسان لتحقيقه، أو كان شيئاً مؤلماً يحب الإنسان أن ينجو منه، أو خيراً يحب أن يستزيد منه، أو شراً يحب أن يتخلص منه،000 فهو دائم التطلع إلى معرفة هذا الغيب بأى شكل من الأشكال0
ومع ذلك فإنه لا يستطيع.. يلجأ أحياناً إلى تفسير ما يرى من رؤى وأحلام، لعلها تكشف له جانباً من الغيب المجهول.. ويلجأ أحياناً إلى أحاسيسه البطانية يحاول أن يستشف المجهول00(1/35)
وقد يلجأ - إذا لم يعصمه دينه وإيمانه - إلى العرافين والعرافات يحاول أن يستخلص من أفواههم شيئاً عن هذا الغيب.. ولكنه مهما فعل يعلم أنه عاجز عن معرفة الغيب، وأن كل محاولاته فى هذا السبيل ظنون وحدس لا تعتمد على علم، بل يعضها خداع محرم جاء الشارع الكريم يتوعد متعاطيه والمصدق به.
وعلى هذا يجب أن يؤمن الإنسان بقدرة الله الذى يعرف الغيب كله لأنه سبحانه هو العليم بكل ما فى السماوات وما فى الأرض، وكل ما حديث فى الماضى، ويحدث فى الحاضر والمستقبل، لأنه سبحانه هو منشئ الأحداث ومجريها فى الماضى والحاضر والمستقبل، فهى معلومة له بكل تفصيلاتها، حاضرة عنده سبحانه لا تغيب0
ولكن الإنسان قد يتبلد وينسى ... عندئذ يحركه القرآن من تبلده، ويذكره من غفلته، بطريقة تهز الوجدان هزاً وتجعله لا يستطيع أن يفلت من التأثر :
( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ، سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) [ الرعد : 8 - 11 ] 0
تدبر هذه الآية الأولى فى السياق: هل تصورت أبعادها؟! راجع نفسك جيداً وتأكد من الأمر00
كلا! إنك لم تتصور كل أبعادها، وأغلب الظن أنك لن تستطيع!
هل تصورت ((ما تحمل كل أنثى))؟
إن السياق لم يحدد أى الإناث بالذاتن فالتعبير يشمل إناث الإنسان، وإناث الحيوان، وإناث الطير، وإناث الأسماك فى البحر، وإناث الحشرات والهوام ... ومع ذلك فلنفترض أن السياق اقتصر على إناث الإنسان فحسب ... فهل تصورت الأمر؟
هل تصورت ((كم)) أنثى من إناث الإنسان على ظهر الأرض؟! هل تستطيع أن تحصيهن عداً؟!(1/36)
وهب أنك استطعت باستخدام كل الوسائل المتاحة لك أن تحصى كم أنثى هناك فى كل قارات الأرض، وسهولها وجبالها ووديانها وغاباتها وكهوفها ومغاراتها وقصورها وبيوتها وأكواخها وخيامها وجزرها النائية ومدنها المعمورة ... فما الذى أحصيته؟ إنه عدد الإناث الأحياء اليوم فى جيلك هذا الذى تعيش فيه! فكيف بكل الإناث للواتى عشن منذ بدء الخليقة حتى ذلك الجيل؟ وكيف بكل الإناث اللواتى سيعشن من بعد إلى زمن لا يعلمه إلا الله؟!
هل يقدر على إحصائهن إلا الله؟ !
وهذه مرحلة واحدة من هذا الأمر الهائل الذى تصورت لأول وهلة أنك أحطت بأعاده!
فلننتقل - بخيالنا - إلى مرحلة تالية : ((الله يعلم ما تحمل كل أنثى))0
هذه ((كل أنثى)) تحمل فى بطنها جنيناً.. فهل تتبعت الأمر بخيالك لتعلم أى شىء هو الذى أحاط به علم الله؟!
هل تتبعت بخيالك ((أنواع المعلومات)) التى يعلمها الله عن كل جنين من هذه الأجنة؟!
ذكر أم أنثى؟! ما لونه؟ أبيض أم أسود أم أحمر أم أصفر ... . ؟ ما شكله؟ ما قسماته؟ كيف أنفه؟ كيف فمه؟ كيف عيناه؟ ما لون عينيه؟ ما لون شعره؟ جميل الطلعة أم غير جميل؟ ما طوله؟ ما حجمه؟ فى أى مرحلة هو من مراحل نموه: نطفة؟ أم علقة؟ أم مضغة؟ أم ... .. ؟ أم ... ... ؟
هل انتهت ((أنواع المعلومات)) عند هذا الحد؟ كلا ! لم تنته بعد 000
قد يقف خيالك هنا عاجزاً عن تتبع هذه المعلومات وإحصائها بالنسبة لكل جنين تحمله كل أنثى. ومع ذلك فإن علم الله الشامل، الذى يشملها جميعاً، لا يتوقف عند هذا الحد.. بل يشمل ((معلومات)) أخرى قد لا تلتفت أنت إليها لأول وهلة.
ما اسم هذا الجنين حين يولد؟ أى ما اسم كل جنين تحمله كل أنثى منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة؟
ما عمره الذى سيقضيه فى الأرض؟ هل سيولد حيا أم ميتاً؟ وإن كان حياً فكم يعيش؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ(1/37)
عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5) سورة الحج 0
ما درجة ذكائه؟ ما خصاله التى يحملها؟ طيب أم شرير؟ شجاع أم جبان؟ كريم أم بخيل؟ ما قدره المقدور له فى الأرض؟ ما الأحداث التى تجرى فى حياته؟
ثم ... أخيراً ... أشقى هو أم سعيد ... . أى من أصحاب النار أم من أصحاب النعيم (1) ؟
إن هذه (بعض) المعلومات التى يشملها علم الله الشامل بالنسبة لكل جنين تحمله كل أنثى من بدء الخليقة إلى قيام الساعة، وغيرها وغيرها كثير لا يحصيه إلا الله00
فهل تصورت الآن الأمر على حقيقته؟! هل تصورت أبعاد هذه الحقيقة التى تذكرها الآية: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ (2) وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (8) سورة الرعد
يعلم ازديادها بالحمل وغيضها بتفريغ ما تحمل0وعد بخيالك مرة أخرى فتتبع كل أنثى .. وحاول أن تتصور - مجرد تصور- ما يحيط به علم الله الشامل من حملها وولادتها، وكل مرحلة من مراحل الحمل شهراً بعد شهر حتى تضع حملها، وتكرار ذلك مع كل أنثى على حدة، وتكراره على نطاق الأرض كلها وما تحتويه من إناث!
((وكل شىء عنده بمقدار)). مرة أخرى هل تصورت أبعاد الأمر ((كل شىء)) عنده بمقدار00
__________
(1) - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ « إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِى ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِى ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَالَّذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ».صحيح مسلم- المكنز - (6893)
(2) أى تنقص وتنكمش 0(1/38)
لقد تعب خيالك وكد ليتتبع شيئاً واحداً من كل شىء.. هو ((ما تحمل كل أنثى)) .. فكيف إذا أراد خيالك أن يتتبع ((كل شىء))؟!
هل تطن أنك تستطيع؟ أنت والبشر جميعاً فى كل الأرض؟ ومع ذلك فعلم الله الشامل يعلم ((كل شىء)) ... وليس هذا فحسب، بل إنه يخلق ((كل شىء)) كذلك بمقدار0
وسواء كان معنى ((المقدار)) هنا هو القدر الذى يخلق الله به كل شىء، أو هو ((القدر)) المحدود لكل شىء، فإن الخيال البشرى يعجز عن مجرد التصور فضلاً عن الإحاطة فضلاً عن الإحصاء!
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ (1) الْمُتَعَالِ} (9) سورة الرعد ،وقد رأيت طرفاً واحداً من علم الله للغيب، لم يستطع خيالك تتبعه ولا إحصاءه، فكيف بالغيب كله والشهادة؟
والناس حين يسرون القول يتصورون فى غفلتهم أحياناً أنهم يسرونه على الله! وحين يستخفون عن أعين الناس بأعمالهم أو سرائرهم يظنون أنهم يستخفون كذلك على الله!
ولكن الله يشمل علمه كل الغيب، يستوى عند المسر بالقول والجاهر به، والمستخفى والمستعلن على السواء0
((له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه)). أى أن هناك ملائكة تتعقب كل أعماله وتسجلها عليه0
((من أمر الله)) أى بأمر الله0
فأين يغيب شىء واحد من أعمال الإنسان عن علم الله؟!
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (59) سورة الأنعام ،فأين يغيب شىء واحد من أعمال الإنسان عن علم الله؟!
{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان 0
__________
(1) أى الشىء المشهود 0(1/39)
الدليل العقلى
كما يخاطب القرآن الوجدان البشرى ليوقظه إلى حقيقة الألوهية، فإنه كذلك يخاطب العقل البشرى ليفكر ويتدبر، وينظر فى آيات الله فى الكون، ليعرف دلالتها. وإليك نماذج من الأسئلة التى ترد على العقل ليتفكر ويتدبر 0
1- هل يمكن أن يوجد هذا الكون الهائل بغير خالق؟
2- هل يمكن أن يدبر شئون هذا الكون الضخم إلا إله قادر عليم حكيم؟
3- هل يمكن أن يكون لهذا الإله شريك فى الملك أو شريك فى التدبير؟
4- هل آيات القدرة المبثوثة فى تضاعيف الكون تشير بأن هذا الإله يمكن أن يعجز عن أمر من أمور الخلق أو التدبير أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة أو البعث أو الجزاء؟
وتلك كلها أمور سبق للقرآن أن خاطب فيها الوجدان، ولكن القرآن يخاطب الإنسان كله: وجدانه وعقله. فكما عرض هذه الأمور كلها على الوجدان عرضاً مؤثراً ينتهى باقتناع الوجدان وإدراكه لحقيقة الألوهية، فكذلك يعرضها على العقل، يناقشه، ويوقظه للتفكير المنطقى السليم، الذى يؤدى فى النهاية إلى الغاية ذاتها، وهى إدراك حقيقة الألوهية، ومن ثم وجوب الإيمان بالله الواحد دون شريك0
والآيات التى تخاطب العقل وتدعوه إلى التأمل والتدبر كثيرة فى القرآن نجتزئ بذكر نماذج منها: ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) [ الذاريات : 20 ، 21 ] ولو تأمل الإنسان بعقله الآيات المبثوثة فى الأرض، والآيات المبثوثة فى النفس لأصابه العجب والذهول لكل آية من هذه الآيات المعجزة، التى تنم كل منها على وجود الخالق سبحانه، وعلى قدرته المع=جزة التى لا تقف عند حد .
فالأرض جرم صغير بالنسبة للأجرام السماوية الضخمة التى يزخر بها هذا الكون، لا تعدو أن تكون كحبة الرمل بالنسبة للصحراء الواسعة التى لا يأتى البصر على آخرها. ومع ذلك ففيها - على ضآلتها- من آيات الله المعجزة ما يعجز الخيال عن تتبعه فضلاً عن إحصائه، وفيها من الخصائص التى أودعها الله بها ما تذهل له العقول.(1/40)
فقد هيأها الله - وحدها فيما نعلم حتى اليوم من الأجرام الأخرى - بخاصية الحياة، وجعل لها من الظروف ما يجعل الحياة عليها ممكنة الوجود والاستمرار. فكتلتها محسوبة بحساب ربانى دقيق يجعل جاذبيتها تحتفظ حولها بغلاف جوى لا يتبدد، وفى هذا الغلاف يوجد الأكسجين المطلوب لتنفس الكائنات الحية، وبالقدر المطلوب لتنفس هذه الكائنات بلا زيادة فيه ولا نقصان؛ لأن الزيادة والنقصان كلتاهما ضارة بهذه الأحياء! وحرارتها محسوبة بذلك الحساب الربانى الدقيق، بالصورة التى تحتملها الكائنات الحية فلا تموت من شدتهات ولا من ضعفها! والأقوات فيها محسوبة بحيث تفى بحاجة تلك الكائنات من الغذاء مع توازن دقيق بين هذه الكائنات وبين أقواتها : ( وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) [ الحجر : 19 ] . ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) [ فصلت : 10 ]
وعلى ذلك التوازن فى الأرض بين الكائنات الحية والتوازن فى الأقوات، فقد ذكرت الأنباء أن الشيوعيين فى الصين سولت لهم أنفسهم الشريرة أن يقتلوا جميع العصافير الموجودة فى الصين بحجة أنها تأكل عشرة فى المائة من مجموع الغلال التى يزرعونها! فجندوا فى كل القرى والمدن فرقاً تتناوب الضرب على الدفوف وقطع الصفيح ليل نهار لمدة ثلاثة أيام، فكلما أرادت العصافير أن تأوى إلى عشوشها لتنام أوتستريح أزعجها الصوت فعادت إلى الطيران، حتى هلكت جميع العصافير من الجوع والعطش والتعب وعدم النوم. وفرح الشريرون بأنهم قضوا على تلك المخلوقات الصغيرة اللطيفة، واطمأنوا إلى أن المحصول سيصل إليهم كاملاً غير منقوص! ولكن الله كان لهم بالمرصاد! فإن الحشرات الضارة التى كانت تلك العصافير تأكلها فتمنع أذاها عن الزرع بحكمة الله وتدبيره، انتشرت فى الأرض بعد موت العصافير فأكلت خمسين فى المائة من المحصول! وهكذا حين أراد البشر الضالون أن يعبثوا بالتوازن الذى أوجده الله فى الأرض بحكمته أصابهم الجزاء الرادع من عند الله، وكانت هذه آية لهم لو كانوا يعتبرون!
وهكذا لو مضينا نتتبع آيات الله فى الأرض: فى الكبيرة والصغيرة، لوجدنا عجائب لا تنتهى. {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ(1/41)
صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (4) سورة الرعد
فالأرض فيها قطع متجاورات تختلف بنية كل منها عن الأخرى رغم تجاورها. بعضها ينبت الزرع وبعضها لا ينبته، وبعضها يصلح لأنواع معينة من الزرع دون غيرها.. وتلك وحدها عجيبة.
ثم إن الأرض الواحدة تنبت أنواعاً شتى من الزروع والنخيل والأعناب.. كلها يسقى بماء واحد، ولكن بعضها يختلف عن بعض. حتى النوع الواحد كالنخيل تخرج منه النخلة المفردة والنخلة المزدوجة ... وتلك عجيبة أخرى0
ثم إن هذه الزروع مختلفة الطعوم والمذاقات، يفضل الناس فى طعامهم بعضاً منها على بعض.. وتلك عجيبة ثالثة 0
ثم إن الطعم الواحد قد يفضله إنسان ولا يفضله إنسان آخر حسب ذوقه الخاص المركب فى طبعه.. وتلك عجيبة رابعة.. وصدق الله العظيم: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .
أما الآيات فى الأنفس فإنها أعجب! فالخلية الواحدة الملقحة التى يتكون منها الجنين تشتمل على كل خصائص الجنس البشرى وهى لا تكاد ترى! فينمو منها إنسان كامل فيه كل خصائص الإنسان!
ثم إنها تنقسم وتتخصص فى أثناء نمو الجنين، فيصبح جزء منها رأساً، وجزء آخر يداً، وجزء ثالث قدماً .. وهكذا 0
ثم إنها تحتوى كذلك على جزئيات تحمل الخصائص الوراثية التى يرثها الجنين من الأب والأم أو الأجداد. فقد يحمل الجنين صفة من الأب كلون الشعر مثلاً، وصفة من الأم كلون العينين، وصفة من أحد الجدود كالطول أو القصر أو شكل الأنف أو شكل الأذن.. بل الأعجب من ذلك وراثة الصفات النفسية والعقلية كالكرم أو البخل، والشجاعة أو الجبن، والذكاء أو الغباء، والميل إلى العلوم أو الميل إلى الآداب!
وهذه الصفات العقلية ذاتها.. ما هى؟ كيف توجد؟ وأين توجد؟ كيف يفكر العقل؟ كيف يتذكر الإنسان ما يتذكر؟(1/42)
إن كل أبحاث العلم حتى هذه اللحظة قد عجزت عن أن تقول لنا كيف يفكر العقل وكيف يتذكر! وأين تكون الأفكار وأين تختزن المعلونمات وكيف يستدعيها الإنسان حين يريد استدعاءها، وكيف تخطر على باله أحياناً بغير استدعاء!
والصفات النفسية كذلك.. ما هى؟ كيف توجد؟ وأين توجد؟ كيف تتكون فى النفس صفة الكرم أو البخل أو الشجاعة أو الجبن؟ وفى أى مكان تكمن هذه الصفة فى الإنسان؟ فى جسمه؟ أين؟ فى مخه؟ أين؟ هل هى شىء معنوى أم مادى؟ وفى كلا الحالين كيف تؤثر فى تصرفات الإنسان وسلوكه؟
وأعجب من ذلك : كيف تورث؟!
ولو مضينا نتتبع خصائص الإنسان، وآيات الله فى الأنفس، لما أنتهينا من العجب لكل خصيصة وكل آية، ولأدركنا أن هذا كله لا يمكن أن يحدث من تلقاء نفسه بهذه الدقة المذهلة. لابد له من موجد، ولابد أن يكون هذا الموجد حكيماً غاية الحكمة وقادراً إلى حد الإعجاز، وإلا ما استطاع أن ينشئ هذا الخلق الدقيق المعجز، الذى تحتوى كل جزئية منه على عجائب لا يحصرها العقل0
ومن أجل ذلك يقول الله بحق : ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) ؟!
( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا ( ) آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) [ الأنبياء : 21 ، 24 ] .
في هذه الآيات يخاطب القرآن العقل لكي يتدبر الأمر ويستخلص نتيجة منطقية لما يرى حوله من الآيات ، ويطالبه أن يأتي بالبرهان على ما يدعي مخالفاً للحق الظاهر .
فالحق الظاهر أن هذا الكون متناسق إلى أبعد ما يتصور العقل من التناسق : ( مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) [ الملك : 3 ، 4 ](1/43)
فدورة الفلك المضبوطة التى لاتختل قيد شعرة فى هذا الكون العريض كله، ودورة الليل والنهار الناشئة من حركة الأفلاك، والتى تأتى فى موعدها المضبوط بالدقيقة والثانية وأجزاء الثانية على مدار الفصول وعلى مدار القرون والأجيال00
وخواص المادة التى أودعها الله فيها لا تخطئ مرة واحدة على مر الزمن ولا تختلف مرة عن مرة. فالحديد هو الحديد، والنحاس هو النحاس، والأكسجين هو الأكسجين، لا يتغير تركيبها ولا خواصها، ولا يتغير سلوكها إزاء ابلحرارة والبرودة أو إزاء الضغط أو فى تفاعلاتها الكيماوية مع غيرها من العناصر. لا يحدث مرة واحدة أن يتكون الماء إلا من ذرة من الأكسجين وذرتين من الأيدروجين. ولا يحدث مرة أن يسخن الحديد فلا يتمدد. ولا يحدث مرة أن يطرق النحاس فلا ينطرق0
والذرة التى هى أبسط التكوينات التى أمكن للعلم حتى اليوم أن يكشف عنها فى نظامها الدقيق العجيب المكون من نواة (هى البروتون)، وأجسام صغيرة غاية فى الدقة (هى الالكترونات)، تدور حولها فى نظام دقيق، متجاذبة معها ومتعادلة فى الشحنة الكهربائية فى وضع يشبه الشمس ومن حولها الكواكب0
والخلية الحية وسلوكها العجيب فى غذائها وإفرازها ونموها وتكاثرها .. والكائنات الحية وخصائصها التى تميز كل جنس منها عن الآخر، وتميز كل نوع من أنواع الجنس عن الآخر.. فللنبات عامة خصائصه، ولكل نوع من النبات خصائصه . وللحيوان خصائصه، ثم لكل نوع من أنواعه خصائصه0
ثم الإنسان أعقد الكائنات الحية وأرفعها ... وكل جزء فى تكوينه عجيبة فى تناسقه وأداء وظيفته0
هل يمكن مع ذلك كله أن يكون فى السماوات والأرض إلا إله واحد مسيطر مدبر حكيم هو الله سبحانه وتعالى؟ ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )
أليس كل إله يخلق بمفرده كيف يشاء؟ فكيف يتطابق الخلق الصادر عن واحد من الآلهة مع الخلق الصادر عن إله غيره؟ كيف تكون الشجرة التى يخلقها واحد من الآلهة متطابقة تماماً فى كل أحوالها مع الشجرة التى يخلقها إله آخر؟ كيف يكون الماء الذى يخلقه أحد(1/44)
الآلهة هو الماء نفسه الذى يخلقه الإله الآخر من ذرة من الأكسجين وذرتين من الأيدروجين؟
كيف تنتظم دورة الفلك التى ينشئها إلاهان مختلفان، ويشرف على شئونها أكثر من إله؟
هل يمكن أن تنتظم إذا تعددت الإرادة التى تهيمن عليها والسلطان الذى يسيرها؟
ألا يحدث أن واحداً من الآلهة يريد الشمس أن تشرق من المشرق وآخر يريدها أن تشرق من المغرب! فكيف يصير الأمر ؟
ألا يحدث أن واحداً من الآلهة يريد للإنسان أن يستوى على قدميه ويسعى فى الأرض يبتغى الرزق ويعمر الأرض، وآخر يريد له أن يمشى على أربع كالحيوان، أو يبقى لاصقاً بالطين على ساق واحدة كالنبات؟ فكيف يصير الأمر؟
ألا يحدث أن واحداً من الآلهة يريد للحديد أن يكون صلباً تصنع منه الأدوات الصلبة التى تعين الإنسان على عمارة الأرض وتعينه على صنع السلاح الذى يقاتل به لإعلاء كلمة الله : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد 0
بينما إله آخحر يريد أن يكون الحديد طرياً ليناً عديم الشكل؟ فكيف يصير الأمر؟
هل ينضبط شىء حينئذ فى الكون كله؟ وهل يستقيم الأمر؟ أم يصبح الكون فوضى، تتصادم فيه الأفلاك وتتعارض، وتتصادم فيه الإرادات المشرفة عليه وتتعارض، ويصبح كالعقد المنفرط لا يجمعه نظام؟
من أجل ذلك يخاطب القرآن العقل فيقول له : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22) سورة الأنبياء
ثم يخاطبه مرة أخرى متحدياً بعد هذا البيان : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} (24) سورة الأنبياء(1/45)
نعم! فليبحث العقل عن برهان! إن الأمر ليس فوضى، يقول فيه القائل بهواه! بل لابد لكل قول من برهان. فهاتوا برهانكم! هل تستطيعون أن تبرهنوا - والكون بهذا الاتساق المعجز - أن هناك إرادة أخرى تسيطر على الكون غير إرادة الله؟
فإن عجز العقل عن البرهان - وهو لا محالة عاجز - ليتدبر أمره وليؤمن بالله الواحد الذى لا شريك له فى المالك ولا فى السلطان . {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (91) سورة المؤمنون 0
فى مثل المناقشة العقلية التى ذكرناها فى الفقرة السابقة، يجرى السياق هنا مناقشة مع العقل البشرى، يقدم لها بمجموعة من الآيات يلفت فيها العقل إلىبعض الحقائق المسلمة التى لا يجادل فيها أحد، أو ينبغى ألا يجادل فيها :
( قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ، بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) [ المؤمنون : 84 - 91 ]0
فإذا سلم الإنسان ابتداء بأن الأرض ومن فيها من صنع الله وإنشائه وهو مالكها، وإذا سلم بأن السموات السبع هى لله، هو منشئها وهو ربها ورب العرش العظيم، وإذا سلم بأن ملكوت كل شىء لله، هو المدبر فيه وحده، وهو الذى يجير بقوته ولا يجار عليه؛ لأنه صاحب العظمة والسلطان.. بدهيات لا يملك عقل أن ينكرها، وإلا جابه هذا السؤال الوارد فى سورة الطور: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) [ الطور : 35 ]. وهو سؤال مسكت ملجم يتحدى كل منكر (1) 0
__________
(1) سنتحدث عن الآية فى فقرة مستقبلة بإذن الله0(1/46)
إذا سلم الإنسان بكل هذا فقد لزمه - منطقياً - أن يسلم بالنتيجة التى تؤدى إليها هذه المقدمات، وهى أنه إله واحد لا شريك له ولا يمكن أن يكون له شريك. لذلك يكرر السياق التذكير بعد كل مقدمة من المقدمات: ((أفلا تذكرون)) ؟ ((أفلا تتقون))؟ ((فأنى تسحرون))؟!
ولكن السياق لا يكتفى بالتذكير المصحوب بالتقريع؛ بل يمضى مع العقل البشرى خطوة أخرى فى المناقشة فيعرض أمامه هذه الحقيقة ليتدبرها :
لنفرض جدلاً أنه كان مع الله آلهة أخرى فكيف يكون الموقف؟
( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ )
فى الفقرة السابقة (رقم2) فى آية سورة ((الأنبياء)) كان يعرض أمر الفساد الذى كان لابد أن يحدث فى السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )
وما دام هذا الفساد غير حادث، والكون منضبط فى حركته كما نرى، فقد انتفى إذا وجود آلهة غير الله .
وفى هذه الآية من سورة ((المؤمنون)) يعرض الأمر من الوجهة الأخرى، وجهة الآلهة ذاتهم - لو أنهم أكثر من إله واحد - وما كان لابد أن يحدث بينهم من صراع ونزاع: ((إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض))0
فإذا كان كل إله خلق جزءاً من الخلق فهل يعقل أن يتنازل عن خلقه لإله آخر؟ أم المعقول والبدهى أن يتشبث بخلقه ويستحوذ عليهم ويحاول أن تكون له السيطرة عليهم وحده؟ وعندئذ ماذا يحدث؟! يحدث نزاع بين الآلهة المزعومة على السيطرة! هذا يريد أن يسيطر وهذا يريد أن يسيطر! كل منهم يريد أن تكون له وحده الكلمة النافذة فى الكون ويكون أمره هو المطاع! هذا يصدر أمراً ويطلب تنفيذه، وذاك يصدر أمراً مضاداً ويطلب تنفيذه. وكل يتشبث بكلمته زاعماً أنه هو الأعلى وهو الأحق بأن تسمع كلمته ويطاع!
فهل هذه الآله - المتوهمة- تستحق الاحترام وهى هكذا تتعامل مع بعضها البعض؟!(1/47)
كلا ! ما كان حال الكون ليستقر لو أنها آلهة متعددة تتصارع فيما بينها وتتنازع. وما كان الكون ليبدو متناسق الصنعة متناسق التدبير 0
والعقل البشرى مكلف أن يفكر ويتدبر.. فما دام الإنسان قد سلم - أو ينبغى أن يسلم - بأن الأرض لله، والسماوات السبع لله، والملكوت لله، والتدبير لله. . فماذا بقى إذن من عمل تقوم به تلك الآلهة الأخرى المزعومة؟
وما دام الكون فى سيره لا يبدو عليه الخلل والاضطراب، بل يظهر فيه الاتساق الكامل والانضباط، أفلا يدل ذلك على وحدة السيطرة التى تدبر شئونه وترعاه؟!
( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ، أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) [ النمل : 59 - 64 ] 0
هنا فى الحقيقة خطاب للوجدان والعقل فى آن واحد. وقد أسلفنا القول إن القرآن كثيراً ما يقرن خطاب الوجدان مع خطاب العقل فى سياق واحد. ولكنا هنا سنركز تركيزاً أكبر على أدلة العقل وبراهينه، وفيما مضى من الحديث عن الوجدان فى الفصل السابق ما فيه الكفاية 0
يبدأ السياق بسؤال فى الآية الأولى بعد حمد الله والسلام على عباده الذين اصطفاهم بالنبوة والرسالة، وهذا السؤال يواجه الإنسان كله، وعقله بصفة خاصة: ((الله خير أما يشركون))0(1/48)
والإجابة عن السؤال تقضتى الموازنة - إن كان هناك مجال للموازنة - بين الله سبحانه وتعالى وبين الآلهة المزعومة التى يعبدها بعض الناس مع الله أو من دون الله، ليتبين أيهما خير : آلله أم تلك الإلهة المدعاة؟
والسياق القرآنى يبادر العقل بما يعينه على معرفة الإجابة الصحيحة، إن كان - لسبب من الأسباب- يجهلها! فيقدم له أول المعينات فى صورة سؤال آخر لو اهتدى لإجابته - وهى بدهية فى الحقيقة - لا هتدى فى ذات الوقت لإجابة السؤال الأول الذى تصدر السياق، وهو قوله تعالى : ((آلله خير أما يشركون))؟
تسأل الآية الثانية فى السياق: من الذى خلق السموات والأرض؟ ومن الذى أنزل عليكم من السماء ماء فأنبت به حدائق بهيجة المنظر ما كان لكم أن تنبتوا شجرها لولا ما أنزل الله لكم من السماء من ماء، ولولا ما أودع فيها هى ذاتها من خاصية النمو حين ينزل عليها الماء؟
وقبل أن يجيب الإنسان الذى يوجه له ذلك السؤال، يبادره السياق بسؤال ثالث يحمل فى طياته فى الحقيقة إجابة السؤال السابق : يقول ((أإله مع الله))؟!
وهكذا يحاصره السياق حصاراً كاملاً بحيث لا يجد مفراً من الإجابة الوحدية التى يستقيم بها الأمر كله!
((أإله مع الله))؟ كلا!
وإذا فالسؤال السابق ليست له إلا إجابة واحدة كذلك: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (60) سورة النمل
وإذا فالسؤال الذى صدر به السياق قد تحددت إجابته على وجه التأكيد : ((آلله خير أما يشركون))؟ بل الله!
ولقد كان يكفى العقل والوجدان معاً هذه الجولة لتقر النفس بألوهية الله الواحد بلا شريك. ولكن الله العليم الخبير يعلم من أحوال النفس البشرية أنها تحتاج إلى التذكرة مرة ومرة ومرة. ومن ثم يبدأ السياق على النسق ذاته جولة ثانية وثالثة ورابعة .. وخامسة 0(1/49)
{أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (61) سورة النمل
فإذا كانت الجولة الأولى مع خلق السماوات والأرض ومع الماء النازل من السماء إلى الأرض، ومع الحدائق النابتة من نزول الماء، فهذه الجولة كلها فى الأرض، تذكر جعل الأرض مستقراً للإنسان يجد فيها رزقه ومعاشه ومتاعه المقدر له إلى حين، وتذكر جعل الأنهار خلال هذه الأرض، ودجعل الرواسى لها لتكون سبباً فى استقرارها، وجعل الماء العذب الذى أعده الله لشرب الكائنات الحية محجوزاً عن الماء المالح الذى تعج به البحار والمحيطات ... وكلها من آيات رحمة الله بالإنسان كما أنها من آيات قدرته. فمن غير هذا الإله القادر يستطيع أن ((يجعل)) كل هذه الأشياء على صورتها التى هى عليها؟ وعندئذ يجئ التعقيب فى مكانه: أإله مع الله؟ وإجابته قد تقررت منذ الجولة السابقة، ولكنه المزيد من التوكيد 0
أما الجولة الثالثة ففى محيط البشر، تذكرهم بما يقع لهم ولكنهم ينسونه فى غفلتهم: أمن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف ما به من سوء؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض جيلاً بعد جيل، ترثون الأرض بعد آبائكم وتتمكنون فيها وتسخرونها لمعايشكم؟ أيتم ذلك من تلقاء نفسه؟ وكيف يتم إذا لم يخلقكم الله أصلاً من أصلاب آبائكم؟ وكيف يتم إذا لم يبق الله الأرض لترثوها منهم؟ ! ثم يجئ التعقيب المكرر، ليزيد الأمر توكيداً فى النفس: أإله مع الله؟ والإجابة هى الإجابة بكل تأكيد0
والجولة الرابعة مع البشر كذلك، ولكنها تذكر نعماً أخرى من نعم الله على الإنسان: من يهيدكم فى ظلمات البر والبحر؟ فإذا كان ضوء الشمس يهديكم بالنهار ولكنكم تنسون النعمة وتغفلون نعنها، فإنكم أولى أن تتذكروا الهداية فى الليل والظلمة محيطة فى البر وفى البحر. فهنا تتلمسون الهداية فلا تجدونها إلا بعون الله لكم سواء بالنجوم تحدد لكم اتجاهكم، أو بالقمر يرسل نوره فكيشف جانباً من الظلمة، أو فيما هداكم الله إلى عمله من المشاعل والمصابيح التى تنير الظلام. ثم نعمة أخرى يذكر الله بها الإنسان: ومن يرسل(1/50)
الرياح تبشر برحمة الله المتمثلة فى السحاب والمطر! ((أإله مع الله))؟ كلا! ((تعالى الله عما يشركون))!
وتجئ الجولة الأخيرة كالأولى تشمل السماوات والأرض وتربط ما بين السماوات والأرض، وتزيد عليها ذكر البعث: من الذى يبدأ الخلق ثم يعيده؟ أهناك غير الله من تبلغ قدرته أن يخلق من لا شىء؟ ومن يعيد الخلق حين يشاء؟ ومن يرسل لكم الرزق من السماء والأرض؟ ((أإله مع الله؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))!
وحين يصل السياق إلى غايته يكون الوجدان والعقل قد وصلا كذلك إلى غايتهما من التمثل لهذه الحقيقة الكبرى: حقيقة وحدانية الله بلا شريك . فإذا جاء التحدى الأخير: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) فليس له جواب إلا الاقتناع الكامل والتسليم0
( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ، فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ، قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ، قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ ( ) إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) [ يونس : 31 - 36 ] 0
السياق هنا قريب من السياق السابق فى آيات سورة ((النمل)) ولكنه يختلف عنه فى أمرين:
الأمر الأول: أنه فى السياق كان يذكر آيات الله فى السماوات والأرض والناس ثم يسأل: أإله مع الله؟ وتكون الإجابة الضمنية الطبعية هى : لا ! ليس مع الله إله. ليس لله شريك فى الخلق ولا فى الملك ولا فى التدبير0
أما هنا فالسياق يشير إلى الشركاء بالذات، ويركز عليهم، يركز عليهم لينفى وجودهم، ولكنه لا ينفيه نفيناً مباشراً، إنما من خلال سؤال مكرر: هل من شركائكم - المزعومين(1/51)
بطبيعة الحال - من يفعل كذا أو كذا مما يفعله الله؟ فإذا كان الجواب النفى - ولابد أن يكون بداهة كذلك - فماذا يفعل الشركاء إذن؟ وإن لم يكن لهم عمل فما معنى وجودهم؟ إنهم إذن لا وجود لهم ما داموا لا يعملون شيئاً على الإطلاق!
والأمر الثانى : أنه ينبه العقل الغافل إلى طريق التفكير الصحيح. إنه لا يجوز للعفل -الذى خلقه الله للتفكر والتدبر - أن يأخذ الأمور بالظن، دون تمحيص وبرهنة وإثبات. والظن لا يغنى شيئاً عن الحق. فعلى الذين يأخذون القضية بالظن أن يتخلوا عن هذا الطريق الخاطئ ويتبعوا الطريق الصحيح، طريق الدليل الصحيح والبرهان0
تبدأ الآية الأولى بسؤال حاشد : من يرزقكم من السماء والأرض؟ من يملك السمع والأبصار؟ من يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى؟ من يدبر الأمر؟ وهى لمحات سريعة فى مجالات شتى فى آن واحد، تحاصر العقل وتحصره فى إجابة واحدة: ((فسيقولون الله))! وإذا كان الأمر كذلك أفلا تتقون، وقد عرفتم الإجابة الصحيحة على السؤال!
{فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (32) سورة يونس الله الذى عرفتموه، وعرفتم أنه هو الذى يرزقكم من السماء والأرض ويملك سمعكم وأبصاركم ويخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويدبر الأمر 000 هو ربكم الحق. لا ربوبية لغيره، فكيف تتجهون إلى غيره؟ كطيف تحيدون عن الحق الواضح فتضلون؟ فإن من تجاوز الحق فليس أمامه سوى الضلال0
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (33) سورة يونس ، لأنهم يصرون على مجاوزة الحق فيقعون فى الضلال0
ثم تجيء المناقشة التي أشرنا إليها : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ؟ فإذا كان الجواب بالنفي - كما لا بد أن يكون - ( قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) . فإذا اتضح هذا الأمر : أن الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، بينما الشركاء المزعومون لا يبدءون خلقاً ولا يعيدون ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ؟ أنى تصرفون عن الحق وتتبعون الزور والإفك ؟
ثم مناقشة أخرى : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) ؟ والجواب - كالمرة السابقة - بالنفي . فلم يؤثر عن أحد من أولئك الشركاء المزعومين أنه أنزل لهداية(1/52)
البشرية كتاباً ولا أرسل رسولاً ! فإذا كان الأمر كذلك ( قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) فيرسل الرسل وينزل الكتب ويدعو الناس إلى ما فيه صلاح الدنيا وصلاح الآخرة . ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ يونس : 25 ] .
ثم يمد السياق المناقشة خطوة أخرى : إذا كان الله يهدي للحق ، والشركاء المزعومون لا يهدون إلى الحق .. فمن أحق أن يتبع ويُطاع : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) ؟ آلله أحق أن يتبع أم أولئك الذين لا يهتدون من ذات أنفسهم ويحتاجون هم أنفسهم إلى من يهديهم ؟! والإشارة هنا إلى الأصنام التي كان العرب يعبدونها في الجاهلية ، ولكنها في الحقيقة تنطبق على كل من يتوجه إليه الناس في كل جاهلية ، ممن لا يملكون لأنفسهم الهدى ، ويتصدون لهداية الناس ! فإلى أي شيء يهدونهم إلا إلى الضلال ؟ ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟
أين عقولكم التي تفكرون بها ؟ وكيف أدت بكم هذه العقول إلى هذا الحكم الفاسد الذي تحكمون به في القضية ، فتقولون - بألسنتكم أو بأفعالكم - إن هؤلاء الشركاء أولى بالاتباع من الله ، وهم لا يملكون الهدى لأنفسهم فضلاً عن هداية الناس ؟
السبب هو أنهم لا يحكِّمون عقولهم في الحقيقة . ولو حكَّموها لحكمت بالصواب ، فالأدلة قائمة والبراهين موجودة ، ولكنهم يتبعون الظن فيضلون عن الصواب : ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) . والله أعلم بهم : ( إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) .
* ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) [ الطور : 35 ] .0
هذه الآية تحمل أكبر تحد للعقل البشرى الضال خلال التاريخ.. وكأنها نزلت للضالين اليوم الذين ينكرون وجود الله ويلجون فى الغى والإلحاد 0
إن الذين يلجون فى الغواية إلى هذا الحد لا ينكرون وجود الله فى الحقيقة. فلا يمكن للفطرة - مهما ضلت - أن تنكر وجود الله الخالق. ولكنهم - لسبب من الأسباب - يكابرون، ويتظاهرون بالإنكار0(1/53)
وحتى أولئك الذين يعيشون فى ظل الإلحاد، فى الدول الشيوعية، ويدرس لهم الإلحاد فى المدارس، ويتربون عليه، ويلقنونه فى كل حصة من حصص الدراسة.. حتى هؤلاء لا تقر نفوسهم بإنكار وجود الله إلا مجاراة للأوضاع، وخوفاً من سطوة الدولة الكافرة هناك. وإليك مثالاً يثبت لك هذه الحقيقة0
حين صعد ((جاجارين)) رائد الفضاء الأول إلى الجو (1) ، أخذته روعة الكون وذهل لما رآه 0
لقد رأى الكون على صورة أخرى غير التى نراها ونحن على سطح الأرض مغلفين بالغلاف الجوى. لم ير السماء زرقاء كما نراها نحن، إنما رآها سوداء تماماً، ورأى الكواكب والنجوم فى داخلها لامعة شديدة اللمعان. لقد كان المنظر - كما يصفه رواد الفضاء - يشبه قطعة من المخمل الأسود، مرصعة بالجواهر اللامعة0
وفوجئ ((جاجارين))بما رآه .. فوجئ بالتجربة الجديدة والمشهد الجديد 00 والمشهد الجديد كما ذكرنا آنفاً يوقظ الحس من غفلته، ويوقظ المشاعر من سباتها، ويجلى الكون جديداً كأنما يواجهه الإنسان لأول مرة، فيدرك من دلائل إعجازه ما كان غافلاً عنه من قبل، ويحس بيد الله المبدعة وآثارها فى تضاعيف هذا الكون0
وهذا هو الذى حدث لجاجارين 00 لقد نسى كل إلحاده الذى ربته المدرسة عليه 00 نسى كل الدروس التى لقن فيها أنه لا وجود لله00 وأخذ يحملق فى الكون مدهوشاً من صنعة الله، مبهوراً بما رآه من إعجاز00
وحين هبط إلى الأرض كان أول تصريح أدلى به للصحفيين الذى استقبلوه: ((حين صعدت إلى الجو أخذتنى روعة الكون فمضيت أبحث عن الله))!
وهكذا تنطق الفطرة حين تواجه الحقيقة! وهذا على الرغم من كل الإلحاد الذى لقن لجاجارين (2) !
__________
(1) هو أول رائد فضاء انطلق إلى طبقات الجو العليا فى داخل صاروخ، وهو روسى الجنسية 0
(2) من طريف ما يروى أن الدولة غضبت على جاجارين بسبب هذا التصريح، وأمرته أن يضيف إليه ما ينفيه فقال : ((0000 فبحثت عن الله فلم أجده!!)) ونشرت الصحف تصريحه الثانى بعد الأول بساعات!!(1/54)
كلا! إن الفطرة لا يمكن أن تنكل أبداً عن الشهادة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (172) سورة الأعراف 0
إنما الذى يحدث أن الإنسان الضال يكابر فى هذه الحقيقة لأنه لا يريد أن يخضع لله. ولو أقر علانية بوجود الله للزمه أن يطيعه وأن يعبده، وهو - لأمر من الأمور - لا يريد . وبدلاً من أن يبدو مقصراً وناكلاً- باعترافه - فإنه ((يتفلسف)) فيدعى أنه لا يؤمن بوجود الله 0
كيف تم 000؟ بغير خالق؟ هكذا من العدم؟! ثم كيف انتظم بعد أن تم؟ ثم كيف حافظ على نظامه كل تلك الملايين من السنين، التى لا يحصيها العقل البشرى، دون أن يحدث فى نظامه خلل أو اضطراب؟!
هل يتم ذلك كله بغير خالق؟! هل يتقبل العقل هذا القول، حتى إن ضل هذا العقل وسار فى الظلمات؟
يقولون إن ((الطبيعة)) هى الخالق! كذبوا! ... وما الطبيعة؟!
يقولون إن الطبيعة تخلق كل شىء ولا حد لقدرتها (1) ! سبحانه الله! أليس هذا هو الله؟ هو الذى يخلق كل شىء ولا حد لقدرته؟! فلماذا نسمى الله بالطبيعة؟ أى منطق فى هذه التسمية العجيبة؟ ألا إنه الهوى، وليس العقل، وليست ((الفلسفة))! الهوى الذى يمنع الإنسان من الاعتراف بالحق مع أنه - فى داخله- يعلم أنه الحق! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14) سورة النمل 0
ولكن القرآن يتحداهم.. يتحداهم منذ أربعة عشر قرناً.. وسيظل يتحداهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها0
( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) ؟ أما أنهم هم الخالقون فأمر لا يزعمه أحد من المضلين ! بقي السؤال الأول بغير جواب : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) ؟ وهو السؤال الملجم المُسكت ، الذي لا يملك أحد من المكابرين أن يرد عليه بالإيجاب .
__________
(1) هكذا يقول دارون، فيقر بالقدرة الإلهية، ولكنه لا ينسبها إلى الله!(1/55)
ولم يبق إلا أمر واحد ، هو أن يكون هناك خالق ، هو الذي خلق الخلق بقدرته ، وهو الذي يدبر الأمر وحده بلا شريك .. وذلك هو الأمر الذي لا تملك الفطرة أن تنكره وإن ضلت وإن أمعنت في الضلال .. إنما ينكره المكابرون باللسان ، لكبر في نفوسهم عن عبادة الله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ غافر : 56 ] 0
ونستعيذ بالله كما أمرنا الله، ونؤمن فى الوقت ذاته بأن أولئك الجاحدين لا يجحدون الله فى الحقيقة إنما هم فقط يتظاهرون .. وحتى إن وصلت الغاشية بهم إلى أن تغشى قلوبهم وأرواحهم، وسمعهم وأبصارهم، فهم عرضة لأن يتيقظوا لحقيقة الألوهية كما تيقظ لها جاجارين!
تيقظ الإيمان المركوز بالفطرة وقت الشدة
يعاند الإنسان ويكابر فى وقت الرخاء، بل قد يزيده الرخاء والأمن غفلة وبعداً عن الله إن كان من ذوى القلوب المريضة، ولكنه فى وقت الشدة لا يستطيع أن يستمر فى عناده ومكابرته!
أثر الشدة على الإنسان :
1- إنه من جهة ينكشف أمام نفسه، عاجزاً قليل الحيلة محتاجاً إلى العون، وتزول عنه عنجهيته الفارغة التى يستكبر بها على الله والناس!
2- ومن جهة أخرى يتيقظ الإيمان المركوز فى فطرته، والذى تشهد به الفطرة كما قال سبحانه وتعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (172) سورة الأعراف 0
3- إنه ينسى الشركاء المزعومين إن كان يعبد شركاء من دون الله أو مع الله. أو ينسى إلحاده إن كان من الملحدين المنكرين لوجود الله أصلاً، ويتوجه من أعماق قلبه إلى الله الحق، يدعوه ليكشف ما به من سوء!(1/56)
والقرآن يواجه الناس بحقيقتهم ليكشفها لهم، ويكشفهم هم أمام أنفسهم! بل إنه يواجههم بحقيقة أخرى، أشد دلالة على ما فى نفوسهم من انحراف 0
فياليتهم بعد أن عرفوا الله فى وقت الشدة، وانكشف لهم الحق من الباطل، وأدركوا أن الله وحده هو الذى يملك كشف الضر، وهو الذى تجب عبادته وحده دون شريك، والتوجهن إليه وحده دون شريك.. ليتهم بعد أن عرفوا كل ذلك قد استقاموا عليه!
ولكنهم - لما فى أنفسهم من اعوجاج ومرض- ما يكاد ينكشف عنهم الضر الذى دعوا الله من أجله مخلصين له الدين، حتى يعودوا إلى سيرتهم الأولى كأن لم يحدث شىء، وكأنهم لم يمروا بالشدة، ولم يؤمنوا بالله فى أثنائها!
وهذا الذى يواجههم به القرآن لعلهم يراجعون أنفسهم فيتخلون عن انحرافهم ويستقيمون : {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (12) سورة يونس 0
( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ يونس : 22 ، 23 ] .
هذه الآيات كلها من سورة يونس ، تصور حالة عامة للإنسان يصيبه الضر فيلتجئ إلى الله ، ويدعوه أن يكشف ما حل به من الشدة . والآية تصوره على جميع أوضاعه ، فإذا كان الضر الذي أصابه قد ألجأه إلى النوم على جنبه من مرض أو نحوه فإنه يدعو الله على حاله تلك : ( دَعَانَا لِجَنْبِهِ ) . وإن كان قاعداً أو قائماً دعا الله كذلك في قعوده أو قيامه . أي أنه حيثما كان وضعه في حالة وقوع الضر عليه فإنه يلتجئ إلى الله ضارعاً أن يصرف عنه ما به من سوء . وقد يكون الهم الذي حل به همّاً نفسيّا لا جسميّا ، وهو في هذه الحالة يدعو الله كذلك . يدعوه في كل وضع من أوضاعه : " لجنبه أو قاعداً أو قائماً " لأن الهمّ الذي ركبه يُلازمه في جميع أحواله ، فيلجئه إلى الدعاء في كل حال .(1/57)
فهل حين يكشف الله عنه الضر يتذكر ؟ هل يتذكر كيف كان في وقت الشدة ضارعاً إلى الله ، موقناً في دخيلة نفسه ألاّ منقذ له سواه ؟ كلا ! ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ) !
والتعبير القرآني بكلمة " مرَّ " يصور تصويراً دقيقاً حالة ذلك الإنسان وقو عوفي من البلاء الذي حل به ، سواء أكان جسمانيّا أو نفسيّا ، فإذا هو منتفش مزهو " يمر " دون مبالاة ولا اعتبار كأن لم يكن بالأمس القريب يجأر بالشكوى ويجأر بالدعاء ! لقد نسي ! ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) [ فصلت : 51 ] 0
أما الآيتان الثانيتان من سورة يونس فتصفان حالة خاصة . حالة قوم ركبوا في سفينة والجو رخاء والريح ساكنة ، وهي تجري بهم جرياً مطمئناً على صفحة الماء . فالقوم فرحون بركوبهم ، مستبشرون برحلتهم مستمتعون بها . وفجأة تهب الريح عاصفة فيتغير كل شيء في لمحة ! تتغير الملامح والمشاعر والأفكار ! فيحل القلق محل الطمأنينة والانزعاج محل الاستبشار . ويبدو الكرب على الملامح التي كانت وادعة ناعمة من قبل ! فلمن يلجئون عندئذ ؟ إنه لا ملجأ إلا إلى الله ! ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .
لقد تقطعت بهم الأسباب ، وتعلقت نفوسهم بقدر الله . علموا أنه لا منقذ لهم مما هم فيه من الكرب إلا رحمة الله . فالكرب أكبر من قوتهم ، وهم عاجزون إزاءه .. والإنسان يطغى ويستكبر وهو يحس بالقوة ، فيعتقد أنه لن ينهزم أمام شيء ! فإذا رأى قوته تتضاءل وتتضاءل حتى يدركها العجز ، ورأى الكرب يشتد حتى لم تعد له به قوة .. عندئذ يرى نفسه على حقيقتها ، ويزول عنه الكبر المزيف والطغيان . ويلجأ إلى القوة الحقيقية : قوة الله ، موقناً أنها هي وحدها التي تنقذه ، وأن كل ما عداها هباء ..
والتعبير القرآني يظهر هذه الحقيقة بوضوح : ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) . ففي تلك اللحظة الحرجة ، لحظة الانقطاع من كل أمل في الخلاص أو العون ، يكون إحساس الناس بالذات الإلهية واضحاً مستقراً عميقاً في النفس ، كأنما كان هناك ستار يغشّي هذه الحقيقة(1/58)
في النفس فانجاب الستار وانكشفت الحقيقة . ويكون التوجه إلى الله مخلصاً كذلك . فالخطر الداهم مفزع ، والملجأ الوحيد هو الله . عندئذ يتشبث الإنسان بالملجأ ، صادق الرغبة في الالتجاء . وحين يدعون الله مخلصين له الدين يكونون في لحظتها صادقين في قولتهم : ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) ذلك أنهم في فزعهم يشعرون أن الله قد يرضى عنهم ويخلّصهم مما هم فيه من الكرب إذا تابوا إليه من انحرافهم واستقاموا على أمره ، فيليجئهم الفزع إلى نية التوبة وإلى الوعد بالشكران . ولا يكون الشكران إلا بطاعة الله .
ولكن .. كم تبقى تلك المشاعر على إخلاصها ؟! فقط لحين تنتتهي الشدة ويزول الكرب ! ( فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) !! ما أسوأ هذا الإنسان وما أخسره !
لقد عاد الستار الذي كان يحجب حقيقة الألوهية في نفسه فانسدل كما كان ، وران على قلبه ما كان يرين عليه من قبل . ولم تكن تلك الصحوة إلا صحوة عارضة أنشأتها الشدة ، فلما زالت الشدة عاد إلى ما كان فيه من غفلة ، واستنام إلى ما كان فيه من بهتان !
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) .
نعم ! إنه متاع الحياة الدنيا ، ذلك المتاع الزائل الزائف هو الذي يلهيهم فينسيهم ربهم ، وينسيهم آخرتهم ، فيغرقون في هذا المتاع غافلين عن كل ما عداه .
ولكن بغيهم هذا هو في الحقيقة على أنفسهم . فماذا بعد ذلك المتاع القصير ، المحدود بسنوات العمر المعدودة ، ولو خلصت سنوات العمر كلها للمتاع ؟!
( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) . وعندئذ يذهب ذلك المتاع ، بل تذهب حتى ذكراه ، ولا يتبقى له إلا مصيره البائس الذي يذكر به فينساه (1) !
__________
(1) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ فِى النَّارِ غَمْسَةً. فَيُغْمَسُ فِيهَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَىْ فُلاَنُ هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ مَا أَصَابَنِى نَعِيمٌ قَطُّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلاَءً. فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِى الْجَنَّةِ. فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً فَيُقَالُ لَهُ أَىْ فُلاَنُ هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ أَوْ بَلاَءٌ فَيَقُولُ مَا أَصَابَنِى قَطُّ ضُرٌّ وَلاَ بَلاَءٌ ».سنن ابن ماجه- المكنز - (4464 ) صحيح 0(1/59)
تجد هذا المعنى مكرراً في القرآن في أكثر من موضع ، وتستطيع أن تراجع هذه الآيات :
( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) [ الأنعام : 63 ] .
( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً ) [ الإسراء : 67 ] .
( لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) [ فصلت : 49 ، 50 ]
القرآن يتولى الرد على دعاوى المبطلين
يبيِّن الله في كتابه الكريم حقيقة الألوهية للناس كافة . فقد نزل القرآن للبشرية كلها منذ بعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة . فلا نبيّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا كتاب يتنزل من عند الله بعد القرآن .
ولما كانت نقطة البداية بالنسبة للبشر جميعاً هي أن يتعرفوا على إلههم الحق لتستقيم أحوالهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فلا يعبدوا غيره ، ولا يتلقوا منهج حياتهم من غيره ، وإنما يعبدونه وحده سبحانه ، ويلتزمون بما أمرهم به ، فيكون لهم في الحياة الدنيا نظام رباني ينظم حياتهم ، ويكون لهم في الآخرة جزاء الحسنى : جنات تجري من تحتها الأنهار ..
لذلك فإن أهم ما يتولى القرآن بيانه للناس هو حقيقة الألوهية والربوبية .
وقد رأينا في الفصول الثلاثة السابقة كيف يتولى القرآن تعريف الناس بإلههم .
1- ... مرة بإيقاظ وجدانهم لآيات الله في الكون والحياة .
2- ... ومرة بمناقشة عقولهم بالبراهين والأدلة التي تبيِّن الحق .
3- ... ومرة بتذكيرهم بما يكون منهم في أحوال الشدة من اللجوء إلى الله وحده ونبذ كل شريك مع الله أو من دون الله .(1/60)
ولكن القرآن لا يكتفي بهذا البيان المتعدد الوسائل ، بل يتتبع دعاوى المبطلين واحدة واحدة يردّ عليها ويفندها ، حتى لا يبقى عذر لأحد من البشر جميعاً يتعلل به في الانحراف عن الإيمان بالله الحق .
ولقد كانت الدعوة الإسلامية تواجه وقت نزول القرآن ألواناً عديدة من الانحرافات تتعلق بحقيقة الألوهية والربوبية0
نماذج من الانحرافات التي كانت موجودة وقت نزول القرآن :
1- ... كانت الوثنية في الجزيرة العربية تعبد الأصنام وتعتبرها آلهة تُشارك الله في بعض صفاته ، كما كان بعضهم يعبدون الجن .
2- ... وكان المنحرفون من أهل الكتاب يزعمون لله ولداً : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ) [ التوبة : 30 ] .
كما كانت العرب في الجاهلية تقول : الملائكة بنات الله !
3- ... وكانت الجاهلية العربية تنكر على الله قدرته على البعث وتعد الحديث عنه جنوناً لا يتقبله العقل !
4- ... والدهريون ينفون البعث أصلاً ، أو ينفون أن يكون لله دخل بالأمر كله : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) [ الجاثية : 24 ] .
كما كان هؤلاء جميعاً يقعون في شرك واحد مشترك هو عدم اتباع ما أنزل الله ، والحكم بغير ما أنزل الله .
وتولى القرآن الرد على ذلك كله منذ أربعة عشر قرناً ، ففند تلك الدعاوى الباطلة كلها ، وأبطلها من أساسها ، وبين وجه الحق فيها .
واليوم ينظر الإنسان إلى البشرية الضالة في أرجاء كثيرة من الأرض ، فيجد ضلالات اليوم كضلالات الأمس :
( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [ البقرة : 118 ] .(1/61)
ويجد أن القرآن قد تولى الرد عليها سلفاً منذا أربعة عشر قرناً ، وما جاءوا في إفكهم بجديد ! ويحس الإنسان وهو يتلو القرآن ويتدبره كأنما يتنزل اللحظة للرد على أولئك الشاردين وردهم إلى دعوة الحق ! ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ صّ : 29 ] .
وفي هذا الفصل نستعرض ردود القرآن على دعاوى المنحرفين ، وسنرى أن بعضها قد ورد من قبل في أثناء شرح طريقة القرآن في بيان حقيقة الألوهية وبعضها لم يرد له ذكر من قبل ، وسنجد في النهاية أنه قد تجمَّع لدينا بعون الله بيان شامل بطريقة القرآن في معالجة الموضوع بتمامه .
1- الشرك :
كان المشركون يعبدون آلهة شتى في صورة أصنام ، أو يعبدون الملائكة أو يعبدون الجن ، ويزعمون أنها تشفع عند الله فيستجيب الله لشفاعتها ! أي أنهم يتوسلون بها إلى الله كما حكى عنهم القرآن : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) [ الزمر : 3 ] .
فبيَّن القرآن حقيقة الأمر في هذا الشأن بطريقتين :
الطريق الأول : بيان أن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون ، فلا هو في حاجة إلى معونة من أحد على الإطلاق في تدبير الأمر ، ولا هناك من يقوم أصلاً بالتدخل في أمر الله ! فما دام لا يوجد أحد يُشارك الله في الخلق - وهو أمر لا يجادل فيه أحد حتى المشركون - فكيف يوجد من يشاركه في التدبير ؟ ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [ الأعراف : 54 ] .
والطريق الثاني : بيان عجز أولئك الشركاء عن أن يملكوا لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونهم ؟! وأحياناً يجتمع الطريقان معاً في الآية الواحدة أو مجموعة الآيات ، وأحياناً يختص السياق بواحد من الطريقين :
( أ ) فمن أمثلة الطريق الأول : وإن كان يحوي إشارة إلى الطريق الآخر ) :
* ( وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا(1/62)
لِلشَّارِبِينَ ، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ، وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ، وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ، وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ) [ النحل : 65 - 73 ] .
فهنا عرض مستفيض لآيات من آيات الله في الخلق وفي الرزق معاً في سياق واحد . فآية في الماء النازل من السماء بقدرة الله يحيي الأرض بعد موتها وينبت فيها الزرع . وآية في الأنعام يخرج الله من بطونها لبناً خالصاً سائغاً للشاربين . ومن أين يخرج هذا اللبن ؟ من بين فرث ودم . والفرث هو بقايا الغذاء المهضوم في الأمعاء . وتحول العصارات الهضمية إلى دم ، ومرور هذا الدم على أعضاء الجسم المختلفة يعطي كل واحد منها غذاءه ، ثم قيام كل عضو بوظيفته بعد أن يتلقى غذاءه من الدم ، وقيام الغدد اللبنية في الضرع بإفراز اللبن ، أو بعبارة أخرى تحول الفرث إلى دم ثم تحوله إلى لبن : كل ذلك من آيات الله المعجزة في الخلق (1) ، وهو كذلك من آيات الله فى الرزق الذى من به على الإنسان0
وآية فى النحل التى تأكل من رحيق الزهور وتخرج منه هذا الغذاء العجيب الذى لا تنحصر فائدته فى خواصه الغذائية فحسب، بل هو شفاء لكثير من الأمراض. وهى كذلك آية فى الخلق وفى الرزق فى ذات الوقت، وآية فى خلق البشر واختلاف أعمارهم. ثم إشارة إلى وضع كان قائماً يومئذ عند العرب وهو وجود أرقاء بين أيديهم، يستخدمه القرآن
__________
(1) لم تكن الأسرار العلمية الخاصة بتحول الفرث إلى دم ثم تحوله فى الضرع إلى لبن معلومة للبشرية كلها وقت نزول القرآن، وإنما اكتشف ذلك كله من عهد قريب. وفى ذلك دليل لمن أراد الدليل على أن هذا القرآن من وحى الله، فما كان لبشر من علم يومئذ بهذه الأشياء 0(1/63)
لتقريب القضية إلى أذهان المخاطبين به يومئذ، فيقول إن الله فضل بعضهم على بعض فى الرزق فجعل بعضهم سادة وبعضهم عبيداً، فهل يقبل السادة المفضلون أن يشركوا معهم عبيدهم فى السيادة والسلطة فيصبحوا سواء هم وعبيدهم؟ فإذا كانوا لا يقبلون ذلك لأنفسهم فلماذا يقبلونه بالقياس إلى الله سبحانه وتعالى فيشركون معه عباداً من عباده فيجعلونهم آلهة مع الله؟
ثم يعود إلى آية أخرى في الخلق والرزق فيشير إلى أن الله جعل لكم من أنفسكم - أي من جنسكم - أزواجاً وجعل لكم عن طريق الزواج بنين وحفدة ، ورزقكم من كل الطيبات ... أفتكون نتيجة ذلك كله الكفر بدلاً من الشكر ؟ والكفر الذي يمارسونه هو الموضح في الآية الأخيرة : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ) .
وتبدو هذه العبادة شيئاً منكراً بعد عرض هذه الآيات كلها على الوجدان والعقل . ويبدو الذين يمارسونها قوماً ناقصي الآدمية ، لآنهم يؤمنون بالباطل على غير أساس ، ويجحدون الحق بغير برهان .
* ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ، أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ النمل : 59 - 64 ] .
( وقد سبق شرحه في الفصل السابق ) .
* ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [ الحج : 73 ] .(1/64)
( ب ) ومن أمثلة الطريق الثاني :
( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ) [ الأعراف : 191 - 198 ] .
بدأت الآية الأولى بسؤال يوضح مفرق الطريق ؛ فالإله الذي ينبغي أن يؤمن به الإنسان ويعبده هو الإله الخالق . فما بال هؤلاء المشركين يشركون آلهة لا تخلق شيئاً وهي ذاتها مخلوقة ، يصنعها الناس بأيديهم ثم يجعلونها آلهة ؟ ( والإشارات كلها هنا إلى الأصنام ) هل في ذلك منطق يقبله العقل أو تقبله فطرة سوية ؟
ثم يستطرد السياق فيشرح حال هذه الأصنام التي يعبدها المشركون ، فهي لا تستطيع نصر أنفسها إذا اعتدى عليها معتد فضلاً عن أن تنصر غيرها ! وهي لا تسمع لو دعاها أحد ، فسواء عليك أحَدّثتها أم لم تحدّثها فالنتيجة واحدة !
ثم يقرر السياق حقيقة تشمل كل معبود من دون الله : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) . ومع أن الإشارة ما زالت خاصة بالأصنام السابق ذكرها إلا أن هذا الوصف يدخل فيه كل من يَعْبُد وكل ما يُعْبَد من دون الله ، سواء أكانوا أشخاصاً من البشر أحياء أو أمواتاً ، أو كانوا من الجن أو الملائكة ، أو كانوا شجراً أو حجراً أو شمساً أو نجماً أو كوكباً من الكواكب . كلهم مخلوقات من مخلوقات الله ، ومن ثمّ فهم عباد لله : ( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) فلا ينبغي التوجه إليهم بالعبادة أو الدعاء .(1/65)
ويستمر السياق في وصف تلك الأصنام المشار إليها في الآيات : هل لها أرجل أو أيد أو أعين أو آذان ، لتمشي أو تبطش أو تبصر أو تسمع ؟ فلأي شيء يا تُرى يعبدها أولئك العابدون ، وهم يرونها أمام أعينهم بهذا العجز المزري ؟!
ثم يتوجّه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدّاهم أن يضرّوه بأصنامهم تلك - وقد كانوا يهدِّدون الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تلك الآلهة المزعومة ستصيبه بالضرر نتيجة مهاجمته إياها ! - فيقول الله تعالى له : قل لهم : هلموا كيدكم الذي تهددون به ، ولا تتأخروا ( لا تنظروني ) وأروني ماذا تستطيع آلهتكم أن تصنع ! إن الله هو الذي يتولاني ، وهو يتولى المؤمنين الصالحين ويحميهم ويرعاهم ، أما آلهتكم فلا تستطيع أن تنصركم إن أراد الله بكم ضرّا ولا تستطيع حتى أن تنصر نفسها ، وهي لا تسمع ولا تبصر . فهي لا تستحق العبادة ولا الدعاء .
* ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ، وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) [ الفرقان : 1 - 3 ] .
* ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) [ الاحقاف : 5 ] 0
2- ادعاء الولد لله :
يشترك في هذه الضلالة اليهود والنصارى ومشركو العرب ، وهي ضلالة واحدة وإن اختلفت صورها . فاليهود يقولون : عُزير ابن الله ، والنصارى تقول : المسيح ابن الله ، ومشركو العرب يقولون : الملائكة بنات الله .
والقرآن يتناول هذه الضلالة فيفنِّدها على نحو يُماثل ما يفنِّد به ضلالة الشرك ، لأنها شرك في الحقيقة وإن اتخذت صورة محددة ، هي نسبة الولد لله سبحانه وتعالى :
* ( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ، فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ(1/66)
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ، وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [ الأنعام : 95 - 103 ]0
هذا النص الشامل يناقش قضية البنوة عامة، ويدخل فيه كل من يدعى لله ولداً (1) : ( وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) . وهو يبدأ بعرض رائع لآيات الله في الكون ، يشمل مجالات واسعة من السماوات والأرض والإنسان والنبات ، تملأ الوجدان بحقيقة الألوهية ، وتعرِّف الناس بربهم الحق ، بحيث تبدو ضلالة المضلين بعدها غير ذات معنى ، وغير ذات موضوع .
تبدأ الآيات بتقرير أن الله هو الذي يفلق الحب والنوى ليخرج منه أنواع الزرع المختلفة . وهي حقيقة يغفل عنها الناس أحياناً فيحسبون أن الزرع ينبت من تلقاء نفسه ، وما عليك إلا أن تبذر البذرة في الأرض وترويها بالماء ! نعم إنك تصنع ذلك ، ولكن من الذي يفلق الحبة أو النواة في باطن الأرض ليخرج منها النبتة الصغيرة التي تظل تنمو حتى تثمر ؟! أليس هو الله الخالق سبحانه ؟ أليس هو الذي أودع فيها خصائص النمو ؟ أو ليس هو الذي يأذن لكل حبة بذاتها أن تنمو .. وإلا فلا نماء ولا إنبات ؟!
__________
(1) الولد فى اللغة بمعنى المولود فيشمل البنين والبنات 0(1/67)
والله هو الذي يخرج الحي من الميت ( كما ينبت الزرع من الأرض المجدبة ) ، ويخرج الميِّت من الحي ( بعد أن تنتهي دورة الحياة في الكائن الحي فيموت ) وكلاهما يتم بقدر من الله .
ويجيء التعقيب بعد ذلك : ( ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ؟
ذلك هو الله الحق ، الذي ينبت الزرع ويحيي ويمت . وهذه مجالات من مجالات قدرته . فهل من الشركاء من يفعل شيئاً من ذلك ؟ فأنى تصرفون عن الحق وتتعاطون الإفك ؟
وإذا كانت الجولة الأولى في الحَبِّ والنَّوى ، والحي والميت على الأرض ، فالجولة الثانية في الأفلاك : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )
إن الله فالق الحب والنوى هو كذلك فالق الإصباح، أى مخرج الصبح من باطن الظلمة، كما تخرج النبتة المشرقة من باطن الأرض المظلم (1) . وهو الذى جعل الليل سكناً. فمن حكمته سبحانه أن جعل أكثر الكائنات الحية التى خلقها تنشط للنور فى النهار وتسكن للظلمة فى الليل (2) . وبمناسبة الحديث عن النهار والليل يأتى الحديث عن الشمس والقمر فيقول : ((والشمس والقمر حسباناً)) أى أن الله جعل الشمس والقمر حسباناً، تحسب بهما الأيام والشهور والسنين كما أن لكل منهما دورة محسوبة بالحساب الربانى الدقيق الذى لا يختل قيد شعرة ((ذلك تقدير العزيز العليم))، وبسبب هذا الانضباط الدقيق يحسب بهما الإنسان الوقت، ويتعلم الإنسان الدقة من دقة الكون من حوله !
( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) فتعرفوا بها اتجاهكم في ظلمة الليل حيث لا نور ولا دليل .
( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) وأي إنسان يطلع على هذه الآيات ويعلم دلالتها لا بد أن يهتدي إلى الله الواحد الذي لا ينبغي له شريك .
ثم هذه جولة ثالثة في محيط الإنسان :
__________
(1) تأمل روعة الأسلوب القرآنى وبلاغته الأخاذة 0
(2) هناك من خلق الله كائنات تنشط فى الليل وتسكن فى النهار ولكن الإشارة هنا للإنسان خاصة ثم لمعظم الكائنات 0(1/68)
( وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) من آدم الذي خلقه الله من تراب ، ثم جعل منه زوجه حواء .
( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) إذ جعل الله النسل بعد ذلك يأتي بالتزواج ، الذي يتم فيه التقاء الخلية المذكرة المستقرة في صلب الرجل بالخلية المؤنثة في مستودعها بالرحم .
( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ) فالأمر في حاجة إلى تدبّر واعٍ يدرك هذه المعجزة فيدرك عظمة الصانع الحكيم .
وهذه الجولة الأخيرة في عالم النبات :
( وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ) ، فالنبات كله يحتاج إلى الماء ، ولا يخرج من الأرض بغير ريّ :
ثم يأخذ السياق في التفصيل بعد الإجمال :
( فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) .
فهذا هو النبات كله يخرج أخضر طريا في مبدأ الأمر ثم يأخذ طريقه في النمو ، فيخرج منه الحب المتراكب ( مثل سنابل القمح والشعير وغيرها ) ، ويخرج منه النخل بأنواعه ، والأعناب والزيتون والرمان ، مختلف الأشكال والألوان والروائح والمذاقات ، بل إن كل نوع من هذه الأنواع تجد في ثماره المتشابه وغير المتشابه ...
وحين يتملى الإنسان بخياله هذه اللوحة الجميلة الممتلئة بأشكال النبات المختلفة ، فإن وجدانه ينفعل بها ، ويحب أن يتأمل فيها ويشبع نظره منها ..
والسياق القرآني بالفعل يدعوه إلى ذلك !
إنه هنا لا يدعوه إلى الأكل منها ! ففي مكان آخر من السورة يذكر الأكل : ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [ الأنعام : 141 ] .(1/69)
ولكنه هنا في هذا السياق لا يأمر بالأكل ولا يوجّه إليه ، إنما يوجّه إلى شيء آخر : ( انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ) .
انظروا إلى هذا الجمال البديع الذي أخرجته يد الصانع المبدع ..
املئوا وجدانكم ومشاعركم بهذا الجمال ، ثم تدبروا ... فماذا تجدون في هذا المنظر الرائع الأخاذ ؟
( إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فكل من ينظر ويتدبر يجد الآيات التي تهديه إلى الإيمان .
وهنا - والوجدان في قمة تأثره - يعرض السياق ضلالة المشركين فتبدو - بعد هذه الآيات كلها - سخفاً لا معنى له وأمراً تشمئز منه النفس ولا تسيغه : ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ) فهم من خلقه ، ومع ذلك فهؤلاء المشركون يجعلونهم شركاء له !
( وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) اختلقوا بنين وبنات نسبوهم إلى الله بغير علم .. وأي علم هذا الذي ينتج هذه الأضاليل ؟! ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) .
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) الذي أبدعها على غير مثال . ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
يناقشهم بمنطقهم : كيف يكون له ولد وليست له زوجة ؟ وقد نسوا - وهم يلفِّقون هذه الأبناء والبنات لله - نسوا أن يلفِّقوا له زوجة كذلك لتلد هؤلاء البنين والبنات !
ثم إنه سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء - وهم يُقرُّون بذلك - فأي شيء يدعو الخالق أن يتخذ بنين وبنات ؟ ما حاجته إليهم وهو الذي يقول للشيء كن فيكون ، وهو صانع هذه الآيات المعروضة في السماوات والأرض ... ( وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ؟
ثم يجيء التعقيب الأخير بعد عرض آيات الخلق ، ومناقشة الضالين في ضلالتهم ، يحسم الأمر كله :
( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) . ذلكم ... الخالق الذي رأيتم آيات خلقه .. هو ربكم الذي لا إله إلا هو .. فاعبدوه(1/70)
وحده مخلصين له الدين ، لا تشركوا به شريكاً من ولد مزعوم أو آلهة مدّعاة .. وهو المسيطر المتصرف في كل شيء : ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) . ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) . لا تراه الأبصار في الدنيا ، بينما يرى هو سبحانه كل الأبصار من عليائه ، وهو اللطيف الخبير بخلقه وما يدور في نفوسهم من أفكار ومشاعر ، سواء منهم المهتدي والمُمْعن في الضلال .
* ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ، وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) [ مريم : 88 - 95 ] 0
3- إنكار البعث :
كان من أشد ضلالات العرب في الجاهلية إنكارهم على الله أنه يستطيع أن يبعث الموتى بعد أن ماتوا وتحولوا إلى تراب ! وبلغ بهم الأمر في التكذيب أنهم كانوا يعجّبون من الرسول صلى الله عليه وسلم حين يحدثهم بأمر البعث حتى روى القرآن عنهم : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) [ سبأ : 7 ، 8 ] .
وكان القرآن يعالج هذا الأمر بتعريفهم بقدرة الله الخالق ، التي لا تنتهي عند حد ، ولا يُعْجِزُها شيء في السماوات والأرض ، وأن الذي خلق الخلق أول مرة من العدم قادر على أن يعيد خلقه مرة أخرى ، ثم يريهم من آيات الأحياء حولهم ما يلفت نظرهم إلى عملية إخراج الحي من الميت معروضة أمامهم في كل لحظة . والذي يستطيع أن يخرج الحي من الميت يستطيع حين يشاء أن يبعث الموتى ويردهم إلى الحياة :
( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ، أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا(1/71)
مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ، رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ، أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [ ق : 1 - 15 ] .
تعرض الآيات مجالات القدرة الإلهية المعجزة التي تخلق وتحيي الموات ، فيبدو إنكار البعث بعدها تفاهة في الفكر وسخافة في العقل ، لا تصدر عن إنسان سويّ التفكير .
تبدأ الآية الأولى بذكر القرآن المنزل من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى ، ولكن الكافرين الذين نزل القرآن لهدايتهم عجبوا حين جاءهم المنذر صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن البعث فقالوا : ( هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) . وموضع العجب عندهم أنهم لا يتصورون أن الله يقدر على بعثهم بعد أن يصيروا تراباً فيقولون : ( ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .
ثم تقرر الآيات أن الله العليم سبحانه يعلم كل من يموت منهم فلا يضيع منهم أحد خارج علم الله ، وأن عنده سبحانه كتاباً مسجلاً فيه كل شيء . وذلك ردّاً على توهمهم أنهم إذا ضاعوا في الأرض وأصبحوا تراباً فقد ضاع كل أثر لهم على الإطلاق ! فهم يحسبون أنه ما دام قد ضاع منهم فقد ضاع من الله أيضاً ولم يعد الله قادراً على الإتيان به فضلاً عن بعثه من جديد !
ثم يلفت السياق نظرهم إلى آيات الخلق من فوقهم ومن حولهم . فهذه السماء الضخمة وهذه الأرض الممتدة إلى آخر مدى النظر وما فيها من جبال وزروع ..
ثم يعدّد الآيات الدالة على قدرة الله عى الإنشاء والإحياء ، فمن الماء النازل تنبت في الأرض جنات من الفاكهة وزروع تنتج الحب والنخيل الباسقات وكلها رزق للعباد . وبالمطر يحيي الله الأرض الموات المجدبة . وبالكيفية ذاتها يحيي الموتى . ويخرجهم من الأرض كما يخرج النبات والزرع . إن عملية الإحياء واحدة في الحالين ، والذي يقدر(1/72)
على الأولى يقدر على الثانية ، ولكن البشر المطموسي البصيرة لا يدركون هذه الحقيقة ، فيسلمون بالأولى ولا يسلمون بالثانية .
ويذكر السياق أنهم ليسوا وحدهم الين يكذبون بالبعث ؛ فقد كذبت قبلهم جاهليات كثيرة يعدد منهم السياق قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاداً وفرعون وإخوان ولوط وأصحاب الأيكة ( الذين أرسل إليهم شعيب ) وقوم تبع . ثم يقدم النذير للعرب المنكرين : إن هؤلاء الأقوام كلهم كذبوا فدمَّر الله عليهم وحقّق فيهم وعيده ، وهؤلاء إن أصروا على تكذيبهم فليس لهم عند الله إلا ذات المصير .
ويختم السياق بهذا السؤال الإنكاري الذي يقرر الحقيقة : ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) ؟ لقد خلق الله الكون كله من قبل ، وها هم أولاء يرون الكون متماسكاً أمامهم مما يدل على عظمة الخالق وقدرته ، فعلى أي أساس يشكون في قدرته على البعث ؟!
* ( المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ، اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ) [ الرعد : 1 - 5 ]
* ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ يس : 78 - 83 ] 0(1/73)
تثبيت الإيمان
لا ينتهى دور القرآن مع النفس البشرية عند بيان العقيدة السليمة ومناقشةن الانحرافات التى تقع فيها الجاهلية بشأن حقيقة الألوهية والربوبية، إنما يخطو خطوة أخرى ليصل إلى تثبيت تلك العقيدة الصحيحة، وتركيز الإيمان بالله الواحد المنزه عن الشريك والشبيه 0
ووسيلته الكبرى إلى ذلك هى التذكير : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (55) سورة الذاريات 0
وسائل تثبيت الإيمان فى النفس البشرية :
1- التذكير الدائم بعظمة الله التى لا تحد، وآيات قدرته فى الآفاق والأنفس، حتى يخشع القلب ويستسلم لله 0
2- التذكير الدائم بأن الله مع الإنسان يراه ويراقبه ويحصى عليه أعماله، ثم يحاسبه عليها يوم القيامة، حتى تصبح تقوى الله جزءاً لا يتجزأ من مشاعر القلب، وركيزة ثابتة فى الضمير0
3- كذلك يوجه القرآن القلب البشرى إلى ذكر الله دائماً فى حالة السراء والضراء، ففى السراء يذكر الله شاكراً لأنعمه، وفى الضراء يذكر الله صابراً ومتطلعاً إليه سبحانه ليكشف عنه السوء
4- يورد القرآن القصص التى تثبت الإيمان، قصص الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين الذين صبروا على الأذى حتى جاءهم نصر الله، وقصص الكفار الذين كذبوا وعاندوا حتى دمر الله عليهم بكفرهم0
5- أخيراً يرسم القرآن صوراً محببة للمؤمنين وصفاتهم، وما ينتظرهم من الجزاء فى الآخرة مخلدين فى الجنات، وصوراً كريهة منفرة للكافرين وصفاتهم، وما ينالهم من العذاب يوم القيامة0
ويظل القرآن يكرر هذه التوجيهات حتى ترسخ فى النفس، وحتى يصبح الله حاضراً فى القلب لا يغفل الإنسان عن ذكره، فتستقيم مشاعره، ويستقيم سلوكه، ويصبح عبداً(1/74)
ربانياً مقرباً إلى الله فى الدنيا والآخرة، فيرزقه الله الطمأنينة والسعادة فى الدنيا، ويمنحه فى الآخرة جنته ورضوانه0
وفيما يلى نعرض نماذج من آيات الكتاب الكريم كما فعلنا فى الفصول السابقة من الكتاب :
1- التذكير بعظمة الله وآيات قدرته فى الآفاق والأنفس :
سبق لنا أن ذكرنا نماذج من الآيات فى الفصول السابقة كلها تتحدث عن عظمة الله التى لا تحد، وقدرته التى لا يعجزها شىء فى السماوات ولا فى الأرض. وبينا أن القرآن يستخدم آيات الله فى الكون حين يخاطب الوجدان، وحين يخاطب العقل، وحين يرد على دعاوى المبطلين، سواء فى الشرك أو فى ادعاء الولد أو فى إنكار البعث أو إنكار وجود الله، إن وجد فى الأرض من ينكر وجود الله !
وقد كانت النماذج السابقة كلها تكفينا لبيان اهتمام القرآن بإبراز هذه الآيات، لتوضيح العقيدة السليمة وتركيزها فى النفس كذلك 0
ولكن كثرة النماذج فى القرآن الكريم تجعلنا لا نكتفى بما سردناه منها من قبل، على كثرته، بل نضيف إليه نماذج جديدة، تستطيع أن تراجعها على ضوء الأمثلة المشروحة فى الكتاب من قبل. ولكن ينبغى أن نعرف أن القرآن لا يعرض هذه الآيات لكى تكون مجرد معلومات تستقر فى ذهن الإنسان وينتهى بها الأمر هناك، وإنما يريد الله سبحانه وتعالى من التذكير المستمر فى القرآن بآياته فى الأنفس والآفاق أن تؤثر هذه الحقائق فى القلب البشرى تأيراً دائماً لا ينتهى عند لحظة التأمل العارضة، بل يظل فى القلب ويستقر فيه، حتى يتحول الإيمان بالله إلى حقيقة تراكزة فى نفس الإنسان، تنعكس فى سلوكه الواقعى 0
فما قيمة أن أعرف أن الله خلق السماوات والأرض، وأن له آيات معجزة فى كل شىء خلقه، ثم ينصرف قلبى بعهد ذلك عن ذكر الله، وينصرف عن طاعته فيما أمر به وما نهى عنه؟!(1/75)
وما قيمة أن أعرف أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، وأنه خلق الكون بقدرته، وأبدع فيه ما أبدع، ثم لا أسأل نفسى حين أقوم بعمل من الأعمال: هل هذا العمل يرضى الله أم لا يرضيه؟!
كلا ! لا قيمة إذن لهذه المعرفة !
ولقد كان العرب في الجاهلية يعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ، وهو الذي خلقهم هم أنفسهم ، والقرآن يسجل عليهم ذلك : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [ لقمان : 25 ] . ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [ الزخرف : 87 ] . ولكنهم - مع علمهم بهذا - لم يكونوا يعبدون الله حق عبادته ، وكانوا يشركون به آلهة أخرى ، ويخالفون عن أمره فيما أمر به وما نهى عنه ، ولذلك لم تنفعهم معرفتهم شيئاً ، وسماهم الله جاهليين ، وقال عنهم إنهم لا يعلمون .
إنما يريد الله سبحانه وتعالى من عباده أن يعرفوا عظمته وجلاله ليعبدوه حق عبادته ويطيعوه في سلوكهم الواقعي . ولذلك يظل يذكرهم بآياته في السماء والأرض وفي أنفسهم حتى تخشع قلوبهم ، ويستقر فيها الإيمان ، ويتحول إلى عمل في واقع الأرض
( أ ) آيات الخلق والإبداع فى السماوات والأرض :
* ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ، لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ، وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) [ يس : 33 - 40 ] .
* ( وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ(1/76)
مَّعْلُومٍ ، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) [ الحجر : 19 - 22 ] .
* ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ) [ نوح : 15 - 20 ] .
* ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ، وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ، وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ، وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ، وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا ، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) [ النبأ : 6 - 16 ] .
* ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ، وَعِنَبًا وَقَضْبًا ، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ، وَحَدَائِقَ غُلْبًا ، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ، مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) [ عبس : 24 - 32 ] .
* ( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) [ الغاشية : 17 - 20 ] 0
(ب) آيات القدرة المعجزة فى الأنفس :
* ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ النحل : 78 ] .
* ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) [ الفرقان : 54 ] .
* ( ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ) [ السجدة : 6 - 9 ] .(1/77)
* ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ، أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ، مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ، إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ، إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ) [ ص : 67 - 71 ] .
* ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) [ الزمر : 6 ] .
* ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) [ الطارق : 5 - 7 ] 0
(ج) فى نعم الله على العباد :
* ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 5 - 8 ] .
* ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ، وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ، فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) [ المؤمنون : 17 - 22 ] .
* ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ، وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ) [ الزخرف : 10 - 14 ] .(1/78)
* ( اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ الجاثية : 12 ] .
* ( وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) [ الرحمن : 10 - 13 ] .
* ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) [ الملك : 15 ]
( د) فى تدبير الكون بغير شريك :
* ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ هود : 6 ] .
* ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ) [ النور : 43 ] .
* ( وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ) [ فاطر : 11 - 13 ] 0
* ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا(1/79)
أَتَيْنَا طَائِعِينَ ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) [ فصلت : 9 - 12 ] . (1)
* ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) [ الرحمن : 29 ] .
* ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ المجادلة : 21 ] .
(هـ) فى تأييد الرسل بالمعجزات :
* ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ، قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ، قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ، لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) [ طه : 17 - 24 ] .
* ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) [ المائدة : 110 ] .
* ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ، قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) [ مريم : 7 - 9 ] .
* ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) [ الأنبياء : 68 - 70 ] .
* ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [ سبأ : 10 ، 11 ] .
__________
(1) هذه الأيام الأربعة يدخل فيها اليومان السابقان اللذان خلق الله فيهما الأرض، فتكون بالإضافة إلى اليومين المذكورين فى الآية التالية، الخاصين بخلق السماوات ستة أيام فى مجموعها 0(1/80)
* ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) [ سبأ : 12 ، 13 ] .0
2- التذكير بمراقبة الله للإنسان :
* ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ يونس : 61 ] .
* ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) [ طه : 7 ] .
* ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) [ لقمان : 16 ] .
* ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) [ سبأ : 2 - 5 ] .
* ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ المجادلة : 7 ] .
* ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) [ الأعلى : 7 ] 0
3- توجيه القلب البشرى إلى ذكر الله :
* ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [ البقرة : 186 ] .
* ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [ الأعراف : 55 ] .(1/81)
* ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ الرعد : 28 ] .
* ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ النور : 36 - 38 ] .
* ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) [ الزمر : 23 ] .
* ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [ غافر : 60 ] 0
4- قصص الأنبياء :
ترد هذه القصص فى كثير من سور القرآن وخاصة فى سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة هود، وسورة مريم، وسورة طه، وسورة الأنبياء، وسورة الشعراء، وسورة النمل، وسورة القصص. ويمكنك مراجعة هذه السور فى المصحف، وستجد قراءتها سهلة ميسرة. وستجد خاصة فى ((الأعراف)) و((هود)) و((الشعراء)) أن القرآن يلفت نظرنا إلى أمور معينة فى حياة هؤلاء الأنبياء :
أولاً : أنهم كلهم جاءوا بكلمة واحدة هى ((لا إله إلا الله)) ((اعبدوا الله ما لكم من إله غيره))، وهذا يبين لنا أن أهم شىء يرسل الله الرسل من أجله هو تعريف البشر بربهم وخالقهم، ليعرفوا أنه إله واحد وليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً 0
ثانياً : أنهم كلهم قد لقوا التكذيب من قومهم، وتعرضوا للاضطهاد والإيذاء والتهديد بالقتل أو الطرد، ولكنهم لم يتنازلوا عن رسالتهم، ولم يتخلوا عن دعوتهم، وهذا يبين لنا أن العقيدة هى أغلى شىء فىحياة الإنسان، وأنه مهما أوذى فى سبيل عقيدته فلا ينبغى له أن يفرط فيها أو يتساهل فى أمرها 0(1/82)
ثالثاً : أنهم حين تعرضوا للتكذيب والاضطهاد لجئوا إلى ربهم، يشكون إليه ما فعله قومهم بهم، ويستغيثون به أن يفرج كربتهم وينجيهم ومن معهم من المؤمنين، ولكنهم صبروا على الأذى ولم يغيروا موقفهم، وهذا يعلمنا أن المؤمن فى موقف الشدة يلجأ إلى الله، ويتوجه إليه بالدعاء لكى يخلصه من شدته، ولكنه يثبت ويصبر حتى يأتى نصر الله، ولا يضعف ولا ينهار 0
رابعاً : أن الله كان دائماً ينصر رسله والذين آمنوا فى نهاية الأمرـ، بعد أن يصبروا على الشدائد ويحافظوا على عقيدتهم ولا يتخلوا عنها أبداً. وهذا يعلمنا ألا نقنط من رحمة الله أبداً مهما اشتد بنا الضيق، ونتطلع إلى الله دائماً أن يرفع عنا الكرب ما دمنا محافظين على صلتنا بالله، مستقيمين على أمره، مهتدين بهداه 0
خامساً : وفى القصص عبرة أخرى كذلك هى أن أهل الباطل مهما بدا فى وقت من الأوقات أنهم متمكنون فى الأرض ومسيطرون، فإن الله يملى لهم ولكنه لا يفلتهم من عقابه فى الدنيا ولا فى الآخرة. عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) (1) 0
وإليك بعض النماذج من القصص القرآني :
* ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ) [ الأعراف : 59 - 64 ] .
* ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ، قَالُواْ يَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4686 )(1/83)
صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ، وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ، فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ، كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ) [ هود : 61 - 68 ] .
* ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ، قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) [ إبراهيم : 9 - 14 ] .
* ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ، قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ(1/84)
الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ، تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ، فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) [ الشعراء : 69 - 104 ] .
* ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ، وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ، فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [ العنكبوت : 38 - 40 ] .
* ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ) [ الأحقاف : 21 - 26 ] 0
5- صور المؤمنين والكافرين :(1/85)
يرسم القرآن صوراً وضيئة وجميلة للمؤمنين يعرض فيها خصالهم وأحوالهم، وأثر الإيمان فى قلوبهم وسلوكهم، تجعلنا نحبهم ونحب أن نكون منهم، لتنطبق علينا تلك الأوصاف الجميلة، ولنحظى برضاء الله فى الدنيا والآخرة0
كما يرسم القرآن فى ذات الوقت صوراً منفرة للكافرين وخصالهم وأحوالهم، وأثر بعدهم عن الإيمان فى قلوبهم وسلوكهم تجعلنا ننفر منهم ونكره أن نكون مثلهم، حتى لا نتعرض لمقت الله وغضبه فى الدنيا والآخرة.
كما يرسم القرآن فى ذات الوقت صوراً منفرة للكافرين وخصالهم وأحوالهم، وأثر بعدهم عن الإيمان فى قلوبهم وسلوكهم تجعلنا ننفر منهم ونكره أن نكون مثلهم، حتى لا نتعرض لمقت الله وغضبه فى الدنيا والآخرة0
وهذه الصور والأوصاف كثيرة فى القرآن؛ لأن فيها دروساً تربوية يربينا بها الله سبحانه وتعالى حتى تستقيم فطرتنا ويستقيم سلوكنا وتصلح أحوالنا 0
وإليك بعض النماذج منها :
* ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ، وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) [ الرعد : 19 - 24 ] .
تبدأ الآيات بموازنة بين المؤمنين والكافرين يتبين منها لأول وهلة أنهم مفترقون بعضهم عن بعض في صفاتهم ومقومات حياتهم وفكرهم . والقرآن يصف المؤمنين بأنهم هم الذين يعلمون أن ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه هو الحق ، بينما يصف الآخرين بأنهم عُمْيٌ . ثم يسأل هذا السؤال الإنكاري ( أي الذي جوابه دائماً : لا ) " ((1/86)
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) ؟ والجواب لا بد أن يكون : لا ! فمن يقول إن الأعمى كالبصير ، وإن من يعلم كمن لا يعلم ؟!
والتعبير القرآني الجميل يوحي إلينا بأن من يعلم أن القرآن والوحي حق هو المبصر ، الذي يسير في الطريق على نور ، ولا يتخبط في سيره لأنه يرى ما حوله . بينما الذي يشك في الوحي ولا يتبعه هو الأعمى الذي يتخبط في الطريق لأنه لا يراه . وهذه حقيقة ، فإن المؤمن يعرف - من وحي إيمانه - ما هي غايته في الحياة ، وما الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليصل إلى غايته . فغايته هي إرضاء الله سبحانه وتعالى والتقرب إليه ، ووسيلته هي الأعمال الصالحة ، هي الطاعة لأوامر الله . بينما الكافر لا يعرف لماذا يعيش ، إلا لإرضاء ملذاته القريبة ، غافلاً عن النهاية التي تنتظره في آخر الطريق .
ثم يجيء التعقيب في نهاية الآية : ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) ، فالذين لهم عقول هم الذين يتذكرون ، وغيرهم لا يتذكر ولا يعتبر . والتعبير القرآني يوحي إلينا مرة أخرى أن الكافر ليس من أولي الألباب ، أي ليس له عقل . ذلك لأنه لا يفكر بهذا العقل الذي وهبه له الله ليفكر ويتدبر ، ويعرف عن طريق تدبره حقيقة الألوهية والربوبية .
( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) . وأولو الألباب هم الذين وصفتهم الآية بأنهم الذي يعلمون أن ما أُنْزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق . ولكن الآية الثانية تبيِّن لنا حقيقة عظيمة ينبغي لنا أن نتدبرها .
هل المطلوب من الإنسان هو أن " يعلم " مجرد علم بأن القرآن حق ؟ فقط ؟! وهل يكفي هذا عند الله ؟
إن الآية الثانية وما بعدها تبين لنا أثر هذا العلم في حياة الإنسان وسلوكه وتفكيره وشعوره ، فهؤلاء الذين علموا أن القرآن حق يصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم ( يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) .
إذن فليس المطلوب هو مجرد " العلم " ! بل إن هذا العلم ينبغي أن يحدث آثاره في حياة الإنسان ، وإلا أصبح بلا معنى ، وأصبح وجوده وعدمه سواء .(1/87)
إن الصفة الكبرى التي يتصف بها أولئك العالمون بأن القرآن حق هي أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . ولا تحدد الآية عهداً معيناً ولا ميثاقاً معيناً ، إنما تشمل كل عهد وكل ميثاق مع الله . والعهد الأكبر هو الذي أودعه الله في الفطرة وأشهد الفطرة عليه ، وهو عبادة الله الواحد بلا شريك : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) [ الأعراف : 172 ] .
وكذلك العهد التي تذكره سورة يس : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) [ يس : 60 ، 61 ] .
ولا تنتهي صفة المؤمنين بأنهم هم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ، بل يستمر السياق فيصفهم بأوصاف جميلة أخرى : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) . ( يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) أي : يصلون كل ما أمر الله به أن يوصل ، لأن " ما " تفيد العموم . والتعبير بإطلاقه هكذا دون تحديد يشمل كل شيء أمر الله بوصله . وفي مقدمة كل شيء صلة الإنسان بربه بطبيعة الحال ، فهذه أول صلة أمر الله بها أن توصل : صلة العبادة الحقة لله . ويأتي بعدها صلات الإنسان بوالديه ، وصلاته بذوي قرباه ، وصلاته بالمسلمين جميعاً يحب لهم الخير ، ويحب لهم كما يحب لنفسه . وهكذا يشمل هذا التعبير الموجز كثيراً من تصرفات الإنسان .
ومع القيام بهذه الصلات التي أمر الله بوصلها فهم يخشون ربهم ، وهذه الخشية تجعلهم يتصرفون في أمورهم بما يرضي الله ، فيتعاملون بالصدق والأمانة والإخلاص ، خشية أن يغضب الله عليهم ، وكذلك يخافون سوء الحساب ، فيتجنبون الأعمال والأقوال التي تعرضهم للحساب الشديد .
( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ) ، فهم يصبرون على الشدائد لأنهم يبتغون وجه الله ، ويتطلعون إليه بالرجاء ، ولكنهم صابرون ، لأنهم يعلمون أن ما أصابهم هو قدر من الله ، فيرضون به تقرباً لله وتحبباً إليه ليرضى عنهم .(1/88)
( وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ) ، وإقامة الصلاة تقتضي توفية كل أركانها ، وأدائها بالوقار والخشوع اللازم لها .
( وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً ) ، فهم لا يبخلون بأموالهم ، وكذلك لا ينفقونها رياء ، وإنما ينفقونها لوجه الله في السر والعلانية .
( وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) ، يتلقون السيئة ويردون عليها بالحسنة نبلاً منهم وترفعاً ، وتقرباً إلى الله ، لا ضعفاً ولا استخذاءً ، وإنما كما يقول الله سبحانه وتعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [ آل عمران : 134 ] .
وهكذا رأينا أن أولي الألباب ، الذين يعلمون أن القرآن حق ، يتصفون بكل هذه الصفات النبيلة الرائعة . تصرفاتهم نظيفة ، مشاعرهم نظيفة ، كل سلوكهم جميل . لماذا ؟ لأنهم عرفوا الحق ، وهذه هي المعرفة التي يريدها الله من عباده . فحين يعرفون حقيقة الألوهية ينعكس ذلك على سلوكهم فيصبح على هذه الصورة الرفيعة المحبوبة التي يحبها الله ويحبها الناس .
وما جزاؤهم على ذلك كله ؟!
( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) لهم العاقبة الحسنة في الدار الآخرة .
( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) ، ويا لها من جائزة جميلة على السلوك الجميل !
ولكن الله يتفضل عليهم بأكثر من ذلك ! ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) ، فهم لا يدخلون وحدهم ، ولكن يدخل معهم الأشخاص الذين يحبونهم من آباء وأزواج وذرية . فيا لها من متعة : متعة الصحبة في جنات النعيم ، جزاء الاستقامة على أمر الله .
وهل ينتهي الأمر عند ذلك ؟ كلا ! إن فضل الله يشملهم بأكثر من ذلك !
أرأيت حين تكون ضيفاً عند أحد الناس ، فيدخل من باب الحجرة فيحييك . أليس ذلك يسر قلبك ويشعرك بالحفاوة والتكريم ؟ وإذا كرر الدخول عليك بالتحية ؟ ألا يسرك(1/89)
ذلك أكثر ؟ وإذا كان أهل البيت كلهم يجيئون إليك ويظهرون حفاوتهم بك فكيف يكون شعورك ؟ ألا تحس بالسعادة والرضى والارتياح ؟
إن الله يحتفي بك في الجنة ، فيرسل ملائكته يحيونك ! ( وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ) ، يدخلون عليهم بالتحية والحفاوة والتكريم ، يقولون : ( سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) .
ألا يروقك هذا النعيم ؟! ألا تحب أن تكون واحداً من هؤلاء الذين يكرمهم الله هذا التكريم ؟ بلى ولا شك !
والآن قارن حال الفريق الآخر ، الذي رفض الهدى وأصر على أن يكون أعمى لا يبصر . إنه يمثل الصورة المقابلة تماماً في كل شيء ! ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [ الرعد : 25 ] .
فمن أي الفريقين تحب أن تكون ، بعد أن رأيت مصير هؤلاء ومصير هؤلاء ؟!
* ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ، إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ، وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ، إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ، وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ، وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ، أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) [ الفرقان : 63 - 76 ] .(1/90)
* ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) [ الذاريات : 15 - 19 ] .
بهذه الوسائل كلها يصل القرآن إلى تثبيت الإيمان في القلب البشري .
فحين يحس الإنسان بوجود الله معه في كل لحظة ...
حين يحس بآيات القدرة في كل شيء في الكون من حوله ، وفي ذات نفسه ..
حين يحس أن ماضي البشرية كله كان يهيمن عليه قدر الله وتدبيره ... وأن الحاضر كذلك والمستقبل ..
حين يحس أن الدنيا كلها ملك لله ، والآخرة كذلك ...
حين يحس أن أعماله كلها محسوبة عليه ، وسيحاسب عليها ..
حين يرى صور الرسل الكرام وصبرهم وتضحياتهم ..
حين يرى صور المؤمنين كريمة نظيفة جذابة ، وصور الكافرين قبيحة منفِّرة ..
حينئذ يمتلئ قلبه بخشية الله وتقواه ، وبالتطلع في ذات الوقت إلى حبه ورضاه ..
وذلك هو الإيمان الصادق الذي يحبه الله ، ويقرب به عبده إليه ، فيصبح واحداً من أولياء الله ، الذين يقول الله عنهم في كتابه الكريم : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ يونس : 62 ]
تحيكم شريعة الله
مر بنا الفصل السابق ونحن نتحدث عن صور المؤمنين والكافرين أن معرفة الحق المنزل من عند الله لابد أن يكون لها مقتضى واقعى فى حياة البشر. فهى ليست معرفة تختزن فى الذهن، إنما ينبغى أن تتحول إلى سلوك واقعى0
وأول مجال لتطبيق هذه الحقيقة، وأبرز صورة لها، هى تحكيم شريعة الل÷ والتقيد فى أمور الحياة كلها بمنهج الله0
إن شهادة ((لا إله إلا الله)) هى أول ما ينطق به المسلم، وهى مع تكملتها ((محمد رسول الله)) إعلان الدخول فى الإسلام0(1/91)
فما معنى هذه الشهادة؟ وما مقتضاها؟
معناها أن الشخص الذى ينطق بالشهادة قد أقر بالعبودية لله وحده، فقد أقر بأنه لا يوجد إله إلا الله، أى لا يوجد معبود بحق إلا الله. فمن شأن الإله أن يعبد، وما دام لا يوجد إلا إله واحد هو الله سبحانه وتعالى، فليس هناك إذن من تنبغى له العبادة إلا الله، ولا يجوز التوجه بالعبادة لسواه 0
فما معنى العبودة لله؟
ترى إذا نحن نطقنا بالشهادة بألسنتنا وحدها ولم نقر بها فى قلوبنا نكون قد عبدنا الله؟!
وإذا نحن نطقنا بها بألسنتنا ثم أعلنا - بأقوالنا - أن أوامر الله ليست ملزمة لنا، وأن من حقنا أن نخالفها كلها، أو نتخير منها أشياء ننفذها وأشياء أخرى لا نلتزم بتنفيذها.. هل نكون قد عبدنا الله هل تكون قلوبنا قد أقرت بالفعل بالعبودية لله وحده؟
كلا! فالإقرار معناه الالتزام! وإلا فهى كلمة تقال باللسان، ولا رصيد لها من الواقع!
وقد أنزل الله شريعة معينة تحتوى أحكام الحلال والحرام، وأمر بتنفيذ هذه الشريعة فى واقع الأرض. فإذا جاء إنسان يقول بلسانه: ((لا إله إلا الله، محمد رسول الله))، ثم يرفض أن يتحاكم إلى شريعة الله، ويضع لنفسه حلالاً غير ما أحل الله، وحراماً غير ما حرم الله، فما قيمة الكلمة التى يقولها بلسانه؟ هل هى كلمة صادقة؟ وهل تنفعه عند الله؟
( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) [ آل عمران : 19 ] . والإسلام كما قلنا في أول الكتاب هو إسلام لوجه الله ، أي التوجه الكامل إلى الله ، والخضوع الكامل لأوامر الله . التوجه الكامل لله في الاعتقاد ، فلا يعتقد أن هناك من يخلق أو يرزق أو يضر أو ينفع أو يحيي أو يميت إلا الله . والتوجه الكامل لله في شعائر التعبد ، فلا يصلي إلا لله ، ولا يصوم إلا لله ، ولا يزكي إلا لله ، ولا يحج إلا لله . والتوجه الكامل لله في الدعاء ، فلا يدعو إلا الله . والتوجه الكامل لله في أصول الحكم ، فلا يحكم إلا بما أنزل الله . والتوجه الكامل لله في الأخلاق والسلوك ، فلا يتخذ قيماً أخلاقية ولا قواعد سلوكية إلا ما أمر به الله .
هذا هو الإسلام الحقيقي ، وهذا هو المدلول الحقيقي لشهادة أن لا إله إلا الله
هذا هو الإسلام الحقيقى، وهذا هو المدلول الحقيقى لشهادة أن لا إله إلا الله.(1/92)
والمجتمع المسلم هو المجتمع الذى يلتزم بهذا الأمر. فتكون أحكامه،وتكون أفكاره ومعتقداته وأخلاقه وسلوكه جميعها مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله 0
وحين يتم ذلك يكون الله هو المعبود حقاً فى ذلك المجتمع 0
إنه لا يكفى أن نعبد الله داخل المسجد، بإقامة الشعائر التعبدية هناك، إذاكنا نخرج من المسجد فتكون لنا وجهة أخرى غير الله، ومصدر آخر نتلقى منه أفكارنا ومعتقداتنا وسلوكنا وأحكام حلالنا وحرامنا غير الله.
ما قيمة تلك الشعائر التعبدية التى أقمناها إذن داخل المسجد ؟
إن القيام بالعبادة داخل المسجد يجب أن يكون معناه الحقيقى أننا أقررنا وشهدنا بالعبودية لله وحده، فجئنا نؤدى فرائض العبادة التى أمرنا بها الله. فإذا كنا بمجرد خروجنا من المسجد نتجه إلى مصدر آخر غير الله، نستمد منه أحكامنا وشرائعنا ومنهج حياتنا، فمعنى هذا أننا اتخذنا إلهين اثنين فى الحقيقة لا إلهاً واحداً! فالإله الأول هو الذى عبدناه داخل المسجد بشعائر التعبد من صلاة ودعاء، والإله الثانى هو الذى عبدناه خارج المسجد، وتلقينا منه أحكام الحلال والحرام، وتنظيمات المجتمع وعلاقات الأفراد! والله يقول لنا محذراً فى كتابه العزيز :
( وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) [ النحل : 51 ] .
فهل نكون قد عبدنا الله الواحد - الذي أقررنا بوحدانيته بألسنتنا - إذا خصصناه بجزء واحد من العبادة ثم أخرجنا بقية العبادة عن اختصاصه سبحانه وتعالى ؟ أم نكون في الحقيقة قد أشركنا به إلهاً آخر ، وكذبنا في شهادتنا التي شهدناها بألسنتنا ، لأننا نقضناها في واقع حياتنا ؟
وهل يتقبل الله منا ذلك ؟ هل يتقبل منا أن نذهب لعبادته داخل المسجد ، ولو تنسَّكنا هناك وذرفنا الدموع من شدة التأثر ، ثم نوليه ظهورنا أول ما نخرج من المسجد ، ونتجه إلى سواه ، نستمد منه منهج الحياة ؟(1/93)
فلننظر ماذا يقول الله لنا في هذا الأمر الخطير : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [ النساء : 65 ] .
فيقرر الله بكلام واضح حاسم أن الإيمان ليس زعماً باللسان ، وإنما محك الصدق في هذا الزعم هو التحاكم إلى شريعة الله .
ولنتدبر الآيات الخاصة بهذا الشأن من أولها :
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ (1) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) [ النساء : 60 - 65 ] .0
بدأت الآيات بذكر قوم يزعمون أنهم آمنوا بالله وآمنوا بالقرآن ، ثم هم يريدون أن يتحاكموا لغير شريعة الله ، ثم انتهت بتقرير رباني حاسم أنهم لا يؤمنون حتى يتحاكموا إلى شريعة الله ، ويسلموا في داخل أنفسهم أنها هي الشريعة التي يجب التحاكم إليها ، وإلا فهم على وضعهم الحاضر غير مؤمنين .
والقرآن واضح جداً في تقرير هذه الحقيقة . خذ مثلاً هذه الآيات من سورة النور :
( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ، وَإِن يَكُن
__________
(1) -كل حكم غير حكم الله فهو طاغوت. ولفظ الطاغوت يطلق فى القرآن على كل شىء يتبعه الناس ويعبدونه غير الله، فالأصناعم طواغيت، وحكم غير الله طاغوت 0(1/94)
لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [ النور : 47 - 52 ] .
فهؤلاء قوم يقولون آمنا بالله وبالرسول . أي يقولون : نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله ! ويزيدون على ذلك فيقولون : أطعنا ! فيزعمون الطاعة كذلك ! ( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) .
فما هو التولي الذي حدث من هذا الفريق فنفى عنه صفة الإيمان وقال الله عنه : ( وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) .
هذا هو الذي تبينه الآية التالية : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ) .
فهذا الفريق الذي ينفي الله عنه الإيمان هو الذي يدعى لتحكيم شريعة الله فيعرض عنها . وسواء أكان إعراضاً قلبياً ، أم إعراضاً ظاهراً ، فكلاهما ينفي الإيمان ويلغي حقيقة الشهادة التي ينطقون بها بأفواههم ؛ لأن الله يقرر في آية سورة النساء التي سبقت الإشارة إليها أن التسليم القلبي شرط للإيمان : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) .
ثم يمضي السياق بين حال أولئك المنافقين : أنهم إذا أعجبهم حكم الله في أمر من الأمور ، أو رأوه يحقق مصلحة لهم يأتون إليه مذعنين ، ويندِّد القرآن بهم على هذا السلوك المعوجّ ، الذي يتحاكمون فيه إلى شريعة الله مرة ويعرضون عنها مرة حسب الأهواء والمصالح بعد أن ثبت عليهم وصف عدم الإيمان .
أما المؤمنون فحالهم مختلف ، وآية إيمانهم أنهم يتحاكمون إلى شريعة الله . ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .(1/95)
وتقرر الآية الأخيرة أن هؤلاء الذين يتحاكمون إلى شريعة الله ، ويطيعون الله ويخشونه هم الفائزون حقا .
من ذلك يتبين لنا بوضوح أن المحك الحقيقي للإيمان هو التحاكم إلى شريعة الله . وأن الناس إن قالوا بألسنتهم : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وإن أدُّوا جزءاً من العبادة المفروضة ثم رفضوا الالتزام ببقيتها فما هم بمؤمنين .
ويتبين لنا كذلك أن العبودية لله وحده - وهي مفهوم الإقرار بالشهادة - لا تتحقق في عالم الواقع حتى يُعْبَد الله عبادة شاملة ، تشمل أصول الاعتقاد ، وشعائر التعبد ، والتحاكم إلى شريعة الله ، وتطبيق منهج الله في كل مجال من مجالات الحياة . وأن التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله لون من الشرك لا يختلف عن شرك العبادة بحال من الأحوال . يقول الله حكاية عن المشركين أنهم يقولون : ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) [ النحل : 35 ] .
والسياق يندّد بهم لأنهم يدّعون أن هذا الشرك الذي يمارسونه هو بأمر الله ومشئيته ، مع أن الله أرسل إليهم الرسل يَنْهَوْنَهُم عن الشرك . ولكن المهمّ في الآية أن المشركين يحددون شركهم في أمرين : ( مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) ، ( وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) . فالتحليل والتحريم بغير إذن من الله كعبادة الأصنام والأوثان سواء بسواء .
والإسلام ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة ، وليس هناك دين منزل من عند الله هو عقيدة فقط بغير شريعة تحكم الحياة . إنما البشر هم الذين يصنعون ذلك من عند أنفسهم فيشركون ! ولنرجع إلى القرآن لنرى حقيقة هذا الأمر :
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ(1/96)
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ المائدة : 44 - 47 ] .
فالتوراة التي أنزلت إلى اليهود فيها عقيدة وشريعة . والإنجيل الذي أنزل على النصارى فيه عقيدة وشريعة . وكذلك القرآن :
( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [ المائدة : 48 - 50 ] .
حقيقتان تقررهما هذه الآيات :
الأولى : أن كل دين منزل من عند الله هو عقيدة وشريعة في ذات الوقت . عقيدة تحكم الوجدان ، وشريعة تحكم واقع الحياة .
والثانية : أن كل حكم غير حكم الله فهو جاهلية ، وأنه لا يوجد إلا نوعان اثنان من الحكم : حكم الله وحكم الجاهلية . فالمؤمنون هم الذين يتبعون حكم الله ، أما الذين يتحاكمون لغير ما أنزل الله ، أي يتبعون حكم الجاهلية فما أولئك بالمؤمنين .
وإذا كانت تلك هي حقيقة الدين الرباني ، فإن البشر من عند أنفسهم هم الذين فَصَلُوا العقيدة عن الشريعة ، وجعلوا الدين عقيدة فقط ، وقالوا إن الدين صلة بين العبد والرب مكانها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة ! إنما واقع الحياة تحكمه شرائع يضعها البشر لأنفسهم . وبذلك خرجوا من دين الله وأصبحوا في الجاهلية ! وهذا ما وقع للنصارى في أوربا بصفة خاصة ، إذ فصلوا العقيدة عن الشريعة وفصلوا الدين عن الدولة ، ووقعوا في(1/97)
هذا الفصام النكد الذي يقسم الحياة قسمين : قسما من اختصاص الله سبحانه وتعالى يُمَارس في داخل الكنيسة ، وقسماً لا علاقة له بالله يُمَارس في واقع الحياة .
وامتد بهم الفصام النكد ففصلوا بين الدين والعلم ، وبين الدين والسياسة ، وبين الدين والاقتصاد ، وبين الدين وعلاقات المجتمع .. بل فصلوا بين الدين والأخلاق !
وماذا كانت النتيجة ؟ كانت النتيجة هي الحيرة والقلق والاضطراب الذي يحكم حياتهم ، وحالات الجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية المتزايدة ؛ لأن النفس البشرية الواحدة يحكمها إلهان مختلفان أو آلهة متعددة : إله في داخل الكنيسة ، وإله أو آلهة متعددة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والفكر والأخلاق . والله يمثل لهذه الحالة في القرآن فيقول :
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) [ الزمر : 29 ] .
والمثل مضروب لتقريب حقيقة الألوهية للعرب المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ، وقد كان عندهم نظام الرق ؛ فيقول لهم : هذا عبد يملكه شركاء متشاكسون كل منهم يأمره بأمر يختلف عن صاحبه ويجذبه إلى ناحيته ، فهل تكون حاله في هدوء وسكينة وسلام مثل العبد الذي يملكه رجل واحد فيوجّه إليه أوامر واحدة في اتجاه واحد ؟ طبعاً لا يستوون !
وهذا نفسه هو حال الجاهلية المعاصرة حين تعبد إلهاً في المعبد ، وآلهة أخرى متشاكسة خارج المعبد ، فلا تعرف السلام ولا الهدوء ولا الطمأنينة ، إنما يحكم حياتهم القلق والاضطراب .
ولقد كان المسلمون بمنجاة من هذا كله وهم يعبدون إلهاً واحداً لا شريك له ، يعبدونه في المسجد وخارج المسجد . يتوجهون إليه باعتقاد صحيح في وحدانيته ، ويتوجهون إليه بشعائر التعبد ، ويتوجهون إليه في شئون حياتهم المختلفة ، فيتحاكمون إلى شريعته وينفذونها في واقع الحياة . وكانوا بذلك كما وصفهم الله في كتابه : ( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [ آل عمران : 110 ] .(1/98)
ولكن المسلمين ظلوا يبعدون عن حقيقة دينهم فهماً وسلوكاً حتى أصابهم الضعف فتمكن منهم أعداؤهم .
وحين تمكَّنوا منهم فقد أرادوا أن يقضوا على عنصر القوة في كيانهم لكي لا يعودوا إلى النهوض مرة أخرى . وكان أول ما اتجهوا إليه في البلاد الإسلامية التي حكموها هو تنحية شريعة الله عن الحكم ووضع القوانين الوضعية بدلاً منها .
ثم ظلوا يعملون ، ومعهم أدواتهم من العملاء الذين تأثروا بهم ، على حصر الإسلام رويداً رويداً في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية ، لا صلة له بالسياسة ولا الاقتصاد ولا علاقات الأفراد في المجتمع ولا القيم الخلقية ولا السلوك الواقعي ..
ونرى أثر ذلك واضحاً في البلاد التي لا تحكم بشريعة الله ، وتروح تستورد المبادئ والنظم من الشرق والغرب ، فتكون النتيجة هي التبعية للشرق والغرب ، وزوال العزة التي كانت لهم يوم أن كانوا مؤمنين : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [ المنافقون : 8 ] .
وتكون النتيجة هي شيوع أمراض الجاهلية في المجتمع الإسلامي ، من تحلل خلقي وفكري ، وقلق وحيرة واضطراب ، وقبل ذلك كله غضب الله وسخطه على الذين خالفوه عن أمره ، وخرجوا عن طاعته : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
ودين الله واضح لا لبس فيه :
( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) [ يوسف : 40 ] .
( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [ الشورى : 21 ] .
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) [ الأحزاب : 36 ] .
( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ) .
فلنعبد الله مخلصين له الدين ، ولتكن آية إخلاصنا تحكيم شريعة الله ، لكي نكون حقّاً مسلمين .(1/99)
الإيمان بأسماء الله وصفاته
( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ الأعراف : 180 ] .
( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ الحشر : 22 - 24 ] .
قلنا في الفصول الأولى من الكتاب إن القرآن يُعرِّف البشر بالله سبحانه ، لكي يعبدونه حق عبادته ، ويتوجهوا إليه وحده في كل أمورهم بغير شريك . فإنك لا تستطيع أن تقوم بالعبادة الحقيقية ولا التوجه الحقيقي إذا كنت لا تعرف من الذي تعبده وتتوجه إليه ، أي إذا لم تعرف صفاته التي يتصف بها ، حتى تكون عبداتك عن معرفة وعلم .
والله يصف نفسه في كتابه الكريم بالصفات التي يريد منا سبحانه وتعالى أن نعرفه ونصفه بها . فليس لنا أن نبتدع من عندنا صفات لله غير التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا لا يليق بجلال الله وعظمته ، ولا بالأدب الواجب من العباد نحو ربهم وخالقهم .
وحين يقرأ الإنسان القرآن بحس متفتح ، ويتدبر آياته ، فإن قلبه يمتلئ بالخشوع لله ، والخشية منه سبحانه ، والتطلع إليه في ذات الوقت بالحب والرجاء ..
من الذي يقرأ قوله تعالى : ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الحشر : 21 ] .
أو قوله تعالى : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) [ الزمر : 23 ] .(1/100)
أو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) [ الزمر : 17 ، 18 ] .
من الذي يقرأ هذه الآيات وأمثالها دون أن يمتلئ وجدانه بحبِّ الله والخشوع له ، والرغبة في التقرب إليه ، والعمل على رضاه ؟ وإذ يحسّ بهذه المشاعر فإن القرآن ييسر له التقرب إلى مولاه بأن يعرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله .
فحين يعلم أن الله رحيم ، وأنه يقول : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [ الزمر : 53 ] .
ويقول : ( فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [ البقرة : 160 ] .
ألا يجعله ذلك يتطلع لرحمة الله ، ويطمع في أن يغفر له الله ذنوبه حين يخلص إليه ويتوب !
وحين يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [ الذاريات : 58 ] .
وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عياده ويقدر : ( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ البقرة : 245 ] .
ألا يجعله ذلك يتطلع إلى الله ليبسط له في الرزق ، ويغدق عليه من نِعَمِه ، وهو المنعم الوهاب ؟
وحين يعلم أن الله هو الواحد القهار : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [ صّ : 65 ] .
( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) [ الرعد : 15 ] .
ألا يمتلئ قلبه رهبة من الله ، الذي يقهر بسلطانه كل شيء ، والذي تستجيب السماوات والأرض لقهره ، فلا تملك أن تخرج على طاعته ، والذي لا يتم في الكون كله إلا ما يشاء ؟(1/101)
وحين يعلم أن الله هو علام الغيوب ، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سبأ : 3 ] .
( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) [ سبأ : 2 ] .
( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) [ طه : 7 ] .
ألا يتحرز وهو يهم بأي عمل من الأعمال ، لأنه يعلم أن الله يراه ويراقبه ، بل يعلم حتى خلجات شعوره التي لا يحدث بها أحداً من البشر ، وأنه لا يمكن أن يتخفى عن الله في عمل أو فكر أو شعور ؟!
وحين يعلم أن الله هو المهيمن على السماوات والأرض ، لا يحدُث فيها شيء إلا بإذنه ، وهو وحده الذي يدبر الأمر ، ولا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) [ البقرة : 255 ] .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) [ النجم : 43 ] .
ألا يجعله ذلك يتوجه إلى الله وحده ، فهو العلي العظيم الذي لا يساويه أحد ولا يعلو عليه أحد ، ولا يتوجه إلى أحد سواه في السراء ولا في الضراء ، فلا أحد غيره يكشف السوء ، ولا أحد غيره يزيد السرور ؟
وهكذا .. وهكذا .. كلما علم صفة من الصفات ازداد معرفة بالله ، وازداد طاعة وتقرباً إلى الله .
من أجل هذا يكرر القرآن أسماء الله الحسنى، ويأمرنا أن ندعوه بها، ويعرفنا بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ » (1) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2736 ) وصحيح مسلم- المكنز - ( 6986)(1/102)
والمقصود بالإحصاء ليس مجرد ذكرها باللسان والقلب غافل عن معناها، بل المقصود أن يمتلئ القلب بها ويتدبرها فينعكس أثر ذلك فى السلوك0
نتبين من ذلك إذن أن أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة فى القرآن، هى مثل آيات قدرة الله فى الخلق وفى الرزق، وفى الإحياء والإماتة، وفى إجراء الأحداث وفى علم الغيب ... المقصود بها التعريف بالله، فتزداد معرفة العباد بربهم، ويعبدوه على بصيرة، ويبعدوا عن الشرك والضلال0
نعم! إن ضلالة البشرية الكبرى هى الشرك (1) .
والله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) [ الإخلاص : 1 - 4 ] يحب لعباده أن يهتدوا إلى حقيقته ، ولا يشركوا به ، ويحب أن يعاونهم على معرفة هذه الحقيقة ، وييسرها لهم ، لأنه بعباده رءوف رحيم . وكما يعرِّفهم بآيات قدرته في السماوات والأرض فإنه في ذات الوقت يعرفهم بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ولا انفصال بين هذه وتلك .
فهو حين يعرِّفهم بآيات الله في الخلق ، يعرِّفهم بأنه هو " الخالق " " البارئ " " المبدع " " بديع السماوات والأرض " .
وحين يعرِّفهم يآياته في الرزق ، يعرِّفهم بأنه هو " الرزاق " ذو القوة المتين .
وحين يعرِّفهم بهيمنته على كل شيء في هذا الكون ، يعرّفهم بأنه " المهيمن " وبأنه " يدبر الأمر " .
وحين يعرِّفهم بآياته في الإحياء والإماتة ، يعرِّفهم بأنه " هو يحيي ويميت " .
وحين يعرِّفهم بقدرته على البعث ، يعرِّفهم بأنه " يبعث من في القبور " .
وحين يعرِّفهم بأنه سبحانه وتعالى متفرد في كل شيء ، متفرد في الكمال وحده ، ومتفرد في كل شيء وحده ، فإنه يقول لهم : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ) [ الشورى : 11 ] .
__________
(1) إذا كانت هناك فى العصر الحاضر ضلالة أكبر هىالإلحاد وإنكار وجود الله أصلاً فهذه كما قلنا ضلالة مفتعلة وغير حقيقية. والفطرة - حتى فى ضلالها- تأباها، كما مر بنا من حديث رائد الفضاء الروسى جاجارين0(1/103)
ويقول لهم : ( وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ الروم : 27 ] .
ولقد اختلفت الفرق في تأويل الأسماء والصفات والأفعال وما كان ينبغي لها أن تختلف !
إن هذه الأسماء والصفات والأفعال الواردة في القرآن وفي الحديث يعرِّفنا الله بها على نفسه لتتعرف عليه . وما كان ينبغي أن تكون هي التي تضلِّلنا عن معرفة الله ! لولا أن هذه الفرق الضالة قد فتنت عن حقيقة الإسلام البسيطة الواضحة بنظريات وأفكار دخيلة على الإسلام . والقرآن - دليلنا وهادينا - واضح في هذا الأمر كل الوضوح .. فهو يحدِّثنا عن أسماء لله ، تدل على صفات ، وتنشأ عن أفعال :
" فالوهَّاب " اسم من أسماء الله الحسنى ، وهو صفة لله تعالى ، وينشأ عنها أن الله يهب ما يشاء لمن يشاء ..
و " الرزَّاق " اسم من أسمائه ، وهو كذلك صفة من صفاته ، وينشأ عنها أن الله يرزق العباد بما يشاء من رزق ..
ونحن نؤمن بهذه الأسماء لأنها وردت في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأننا نراها ونلمسها ونشهدها في الكون ومن حولنا وفي ذات أنفسنا ، كما قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) [ فصلت : 53 ] .
وكل تدبر في آيات الله في الكون وفي النفس يصل بنا إلى اليقين الكامل بأن كل ما وصف الله به نفسه هو الحق كل الحق ، فهو الواحد الأحد ، وهو المتفرد بالقدرة ، المتفرد بالملك ، المتفرد بالأمر والتدبير .
فعلينا إذن أن نؤمن بتلك الأسماء والصفات والأفعال ، وأن نقف كذلك عند ما جاء منها في القرآن والحديث ولا نزيد على ذلك .
وهذا هو مذهب السلف رضوان الله عليهم :
يؤمنون بها كما وردت ، ولا يؤوِّلونها ؛ لأن التأويل ليس من شأن البشر ، لا لهم طاقة به ، ولا ينبغي لهم أن يخوضوا فيه ، إنما يأخذون الأمر بالبساطة التي يوضِّحها القرآن والحديث .(1/104)
فهذه الصفات حقيقة ، ولكنها لا تشبه ما نراه من صفات البشر ، فالبشر عاجزون والله قادر ، والبشر ناقصون والله كامل ، والبشر محجوبون عن الغيب والله علام الغيوب ، والبشر محتاجون لمن يطعمهم ويسقيهم ويرزقهم والله هو الغني المستغني عن كل أحد وكل شيء ، والبشر فانون والله هو الدائم من الأزل إلى الأبد ..
فكيف تتماثل صفات الله مع صفات البشر ، وأفعاله مع أفعال البشر ؟
كلا !
( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) فصفاته هو متفرد بها سبحانه ؛ لأنها صفات الكمال ، وهو المتفرد وحده بالكمال .
والوجود كله يشهد بذلك التفرد ، وفطرة الإنسان من أعماقها تشهد به كذلك .
ولا حاجة بنا ، ولا حاجة للفطرة السوية ، بتأويلات الفرق المنحرفة ، سواء منها ما يعطل الصفات ، ومن يبحث في كيفيتها ولم يُؤْتَ القدرة على تكييفها ، ومن يشبّهها بأعمال البشر والله ليس له مثيل ..
إنما نقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
ونحمد الله على توفيقه 0
- - - - - - - - - - - - - -(1/105)
الانحراف عن الإيمان والتوحيد
الشرك والإلحاد كلاهما انحراف عن الإيمان والتوحيد . والفرق بينهما :
أن المشرك يعرف أن هناك إلهاً خالقاً لهذا الكون لكنه لا يفرده بالعبادة ، فيعبد آلهة أخرى مع الله أو من دون الله ، يقدم لها شعائر التعبد ، ومن أنواعها الدعاء والطاعة والاتباع ، والمحبة والولاء ، ويجعلها واسطة بينه وبين ربه .
أما الملحد - في اصطلاح المعاصرين اليوم - فهو الذي ينكر وجود الله أصلاً ، وينسب الخلق والموت والحياة لغير الله ، ولا يؤمن بالبعث .
والشرك والإلحاد كلاهما انتكاس يصيب البشر حين ينحدرون إلى الجاهلية ، فينحرفون عن الفطرة السوية التي خلقهم الله عليها . وإن كان الانحراف الغالب على البشر في جاهليتهم خلال عصور التاريخ المختلفة هو الشرك ، والنادر هو الإلحاد ، فيما عدا الجاهلية المعاصرة التي انحدر الناس إليها في العصر الحاضر والتي غلب عليها الإلحاد بصورة لا مثيل لها في التاريخ من قبل ، بسبب بعض العوامل التي سنتعرض لها إن شاء الله بشيء من التفصيل على صفحات الكتاب .
والقرآن يشير إلى هذا الانتكاس في قوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) [ التين : 4 - 6 ] .
كما يبين القرآن أن الأصل في الإنسان هو الإيمان والتوحيد ، فإن الله قد أشهد البشر جميعاً على أنه هو وحده ربهم بدون شريك ، وهم في عالم الذر قبل أن يولدوا : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [ الأعراف : 172 - 174 ] .(1/106)
والآيات تدل على أن الله قد ألهم البشرية كلها بأنه هو ربها وإلهها . وأنه ليس لها رب ولا إله غيره . وأنه أخذ عليها ميثاقاً بذلك : ( قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ) ، فلم يعد يقبل منهم أن يقولوا يوم القيامة : نسينا وكنا غافلين عن هذا الميثاق ! أو يحتجوا بأن آباءهم أشركوا وأنهم اتبعوهم في شركهم لأنهم من ذريتهم ! فشرك الآباء لا يبرِّر للأبناء أن يحيدوا عن ميثاق الفطرة ، لأنه عهد بينهم وبين الله ولا دخل للآباء فيه ! وإن كان الله من رحمته لا يحاسب الناس بميثاق الفطرة وحده ، وإنما يحاسبهم بعد تذكرتهم على يد الرسل . ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) [ النساء : 165 ] .
ولا يعذبهم حتى يبعث لهم رسولاً يبلغهم : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) [ الإسراء : 15 ] .
كذلك يقول الله في القرآن في سورة الروم عن أمر الفطرة : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [ الروم : 30 ، 31 ] .
فهاتان الآيتان تدلان على أن الدين القيم - وهو توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده دون شريك - هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها .0
كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا بأن الإسلام - أى إسلام الوجه لله وعبادته وحده دون سواه - هو دين الفطرة، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ » . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) . (1) 0
بل نجد في القرآن أن الكون كله ، وليس الإنسان وحده ، مفطور على عبادة الله ، بسماواته وأرضه ، وشمسه وقمره ، ونجومه وجباله ، ودوابه وشجره : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1359 )(1/107)
يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) [ الحج : 18 ] .
( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) [ النحل : 49 ] .
( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) [ الرعد : 15 ] .
فالتوجه لله بالعبادة - الذي تشير إليه الآيات بالسجود لأن السجود أبرز علامات العبادة - هو في فطرة الكون كله ، الذي فطره الله على عبادته وطاعته : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) [ فصلت : 11 ] .
والإنسان خَلقٌ من خلق الله ، مفطور مثل بقية الكون على التوجه لله بالعبادة . ولكن الله كرمه وفضله على كثير ممن خلق ، ومنحه الوعي والإدراك وحرية الاختيار : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ الإسراء : 70 ] .
( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) [ الإنسان : 2 ، 3 ] .
( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ النحل : 78 ] .
( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [ البلد : 8 - 10 ] .
ولكن الإنسان - بسبب هذا التكريم ذاته - قد اختلف أمره ؛ فبقى بعضه على الفطرة السويّة التي خلقه الله عليها ، أي بقى متجهاً بالعبادة لله وحده دون شريك ، وضل بعضه فوقع في الشرك والإلحاد : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) [ الحج : 18 ] .(1/108)
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) [ الشمس : 7 - 10 ] .
فأما الذين استقاموا على الدين القيم فعبدوا الله وحده دون شريك ، فهؤلاء بقوا كما فطرهم الله " في أحسن تقويم " ، وأما الذين انحرفوا عن العبادة الصحيحة بشرك أو إلحاد فقد انتكسوا فأصبحوا " أسفل سافلين " ولم يعودوا يستحقون التكريم الذي منَّ الله به على الإنسان ، بل أصبحوا موضع الإهانة عند الله : ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) ، واستحقوا غضب الله ولعنته ؛ لأنهم قابلوا الإحسان الرباني بالإساءة ، وقابلوا النعمة بالكفران !
والآن بعد أن عرفنا ذلك نعود فنتكلم عن الشرك والإلحاد كل على حدة
الشرك: أسبابه ودوافعه
إذا عرفنا أن الشرك انتكاسة تصيب الفطرة ، ومرض يصيب القلب ، فلنحاول أن نتعرف على أسبابه ، كما يحاول الطبيب أن يتعرف على أسباب المرض الجسدي ليعالجه .
فالأصل في الجسد هو السلامة والصحة ، ولكنه عرضة للإصابة بالمرض إذا لم يحافظ الإنسان على أسباب الصحة ، وعرضة لأن يتمكن منه المرض ويستفحل إذا لم يأخذ الإنسان بأسباب العلاج .
والنفس الإنسانية كذلك ، الأصل فيها هو السلامة والصحة ، ولكنها عرضة للإصابة بالمرض إذا ترك الإنسان نفسه بغير مراقبة دائمة لأعماله ولم يزنها بالميزان الصحيح . أو بعبارة أخرى إذا غفل الإنسان عن ذكر الله فوسوس له الشيطان وأبعده عن الطريق . وهي عرضة كذلك لأن يتمكن منها المرض ويستفحل إذا لم يسارع الإنسان إلى التوبة إلى الله والإنابة إليه والعودة إلى سبيله . فيصبح عندئذ ممن يقول الله عنهم : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ) [ البقرة : 10 ] .
وهذا المرض الذي يصيب القلب له عدة أسباب ودوافع ، بيَّنتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، نعرض جانباً منها فيما يلي:
1- الإعجاب والتعظيم :(1/109)
فطرت النفس البشرية على الإعجاب بالبطولة وغيرها كإعجاب الابن بوالديه وهو أمر فطري وشرعي ، يقول الله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) [ الإسراء : 23 ، 24 ] .
وتعظيم النبي المرسل مطلوب كذلك : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ النساء : 64 ] .
( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) [ النور : 63 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) [ الحجرات : 2 ، 3 ] .0
وتعظيم العلماء والصالحين من الأمة واجب ،فعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ ، إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ فِي حَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ ، أَمَا جِئْتَ لِتِجَارَةٍ ، أَمَا جِئْتَ إِلاَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا ، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ ، وَالْمَلاَئِكَةُ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ ، وَالْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا ، وَأَوْرَثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ." (1) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 289) (88) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ لَهُمُ الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا ، هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ عِلْمَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ. أَلاَ تَرَاهُ يَقُولُ : الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَالأَنْبِيَاءُ لَمْ يُوَرِّثُوا إِلاَّ الْعِلْمَ ، وَعِلْمُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - سُنَّتُهُ ، فَمَنْ تَعَرَّى عَنْ مَعْرِفَتِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الأَنْبِيَاءِ.(1/110)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : َقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا." (1)
ولكن الانحراف ينشأ من زيادة التعظيم حتى يصل إلى التقديس، فهنا يدخل فى دائرة الشرك؛ لأن التقديس لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده بغير شريك. وكل تعظيم وصل إلى حد التقديس، سواء كان لشخص مثل الصالحين والأنبياء والعلماء والعباد وغيرهم كالملائكة والجن أم لشىء مثل الشمس والقمر والنجوم وما فى هذا الوجود فهو شرك؛ لأنه توجه لغير الله بما لا ينبغى إلا له 0
ومن هذا اللون من الانحراف نشأ كثير من الشرك فى تاريخ البشرية، مما جاء ذكره فى القرآن والأحاديث النبوية0
يقول الله تعالى : ((قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ما له وولده إلا خساراً(21) ومكروا مكراً كباراً (22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا))(نوح:21-23)0
( ويقول ابن كثير في التفسير : " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح . وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس : " ويغوث ويعوق ونسرا " قال كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صوَّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم . فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقَوْن المطر فعبدوهم " (2) 0
كذلك وقع فريق من المنحرفين في الشرك بتقديس أنبيائهم : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) [ التوبة : 30 ] .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 688)(6937)
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 235) 0(1/111)
كذلك وقعوا في تقديس أحبارهم ورهبانهم : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ التوبة : 31 ] .
ووقع بعضهم في الشرك بسبب تعظيم الملائكة والجن - وهم خلق من خلق الله - فزعموا أنهم أبناء الله وبناته ، وقدَّسوهم على هذا الاعتبار ، فيقول الله عنهم : ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) [ الأنعام : 100 ] .
( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) [ الصافات : 158 ، 159 ] .
( وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ، وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) [ الزخرف : 19 ، 20 ] .
ووقع فريق آخر من البشر في الشرك بسبب تعظيم الأجرام السماوية إلى حد التقديس ، فعبدوا الشمس والقمر والنجوم ، فيقول الله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) [ فصلت : 37 ] .
وقال لبعضهم الذين عبدوا نجم الشِّعرى لشدة لمعانه في السماء : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ، وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ، مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) [ النجم : 43 - 49 ] .
وهكذا دخلت هذه الفرق الضالة كلها في الشرك من باب تعظيم الأشخاص ، أو أشياء هي من خلق الله ، فقد عبدوهم مع الله أو من دون الله ، وضلوا بذلك عن الفطرة السوية التي تتجه لله وحده تعبده بغير شريك
2- الميل إلى الإيمان بالمحسوس والغفلة عن غير المحسوس :(1/112)
في الإنسان - كما فطره الله - نزعتان فطريتان متكاملتان : إحداهما تنزع إلى الإيمان بالمحسوس ، أي ما يقع في دائرة الحس ويمكن للحواس أن تدرك وجوده بالنظر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس ، والأخرى تنزع إلى الإيمان بالغيب ، أي بما لا يقع في دائرة الحس ولا يمكن للحواس أن تدرك وجوده بطريق مباشر .
وإذا كان الإنسان يشترك في النزعة الأولى مع بعض المخلوقات الأخرى ، فقد خصَّه الله بالنزعة لثانية - وهي الإيمان بالغيب - وكرَّمه بها ، وفضَّله بها عن كثير ممن خلق . وكانت هذه الموهبة الربانية من عوامل رفعة الإنسان واتساع أفقه وعظمة روحه ، وانفساح المجال أمامه وراء المحسوسات القريبة إلى آفاق التفكير والتدبّر في الكون كله لينتفع به ويستدل به على عظمة خالقه ومبدعه .
ولكن فطرة الإنسان عرضة للمرض كما قلنا ، إذا لم يداوم على رعايتها وتقديم الغذاء الصلح لها ، من ذكر لله وتقرب إليه بالأعمال الصالحات ، وعندئذ يرين على القلوب ما يرين عليها من ظلمات : ( بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ المطففين : 14 ] .
ومن الأمراض التي تصيب فطرة الإنسان أن تغفل عن غير المحسوس ، وتحصر اهتمامها رويداً رويداً في دائرة المحسوس وحده ، ثم تمتد بها الغفلة حتى تستغني تماماً بعالم الحس عما وراءه ، بل تمتد بها الغفلة أحياناً أكثر من ذلك فتنكر ما وراء الحس إنكاراً كاملاً وتزعم
أنه غير موجود (1) 0
وفي المراحل الأولى من هذا الغفلة لا ينكر المشرك وجود الله ، ولكنه يتلمس صورة محسوسة قريبة يضفي عليها في خياله بعض خصائص الألوهية من نفع وضر ، وعلم للغيب ، وتصريف للأمر بالمشاركة مع الله ! فمع أنه يعلم أن الله هو الخالق ، وأنه لا يشاركه أحد في الخلق ، إلا أنه يزعم أن فلاناً من الناس ( نبيّاً كان أو وليّا من أولياء الله الصالحين ) أو الملائكة ، أو الجن ، أو صنماً من الأصنام يستطيع أن يضر أو ينفع ، أو يستجيب للدعاء ، أو يبسط الرزق لمن يشاء ، أو يعلم الغيب ويخبر به من يستطيع أن يتلقى عنه . وفي مثل هذه الصورة كان العرب في جاهليتهم . فقد ورد في القرآن أنهم يعرفون أن الله
__________
(1) سنرى فيما بعد أن هذا المرض الأخير هو أوسع ابواب الألحاد الذى شمل جانباً كبيراً من البشرية فى العصر الحاضر0(1/113)
موجود وأنه هو الخالق : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [ الزمر : 38 ، لقمان : 25 ] .
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) [ الزخرف : 87 ] .
ومع ذلك كانوا يشركون به الجن والملائكة والأصنام التي يعبدونها - في زعمهم - لتقربهم إلى الله زلفى !
ولكن الغفلة كما قلنا قد تمتد إلى أبعد من ذلك . فيغفل المشرك عن الله الذي : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [ الأنعام : 103 ] .
ويتصور أن الشيء المحسوس هو الله . فهنا لا يكتفي المشرك بأن يزعم لتلك المحسوسات بعض خصائص الألوهية ، بل يضفي كل خصائص الألوهية عليها . وفي مثل هذه الصورة كان المصريون في زمن الفراعنة إذ كانوا يزعمون أن " رع " - وهو قرص الشمس - هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي المميت ، وهو الذي يبعث الناس يوم القيامة ويحاسبهم ! كما كان المجوس ينسبون الخلق والضر والنفع والإحياء والإماتة للنار ! وفي مثل هذا المستوى كذلك كانت الجاهلية الرومانية والجاهلية الإغريقية والجاهلية الهندية والجاهلية الصينية .
وبعض هذه الجاهليات كان يضيف إلى ذلك الشرك لوناً آخر ، فيزعم أن فلاناً من البشر هو ابن الله ، ويضفي عليه بعض خصائص الألوهية أو كلها ، كما كانت الجاهلية الفرعونية تزعم أن الفرعون هو ابن الله ( ابن الإله رع ) ، وأنه يجلس عن يمينه يوم القيامة . والجاهلية الهندية تزعم أن البراهما خلقوا من رأس الإله ، وأنهم من أجل ذلك مقدسون ولا يحاسبون على أعمالهم ( بينما المنبوذون نجسون لأنهم مخلوقون من قدم الإله ولذك فهم مهينون ومحتقرون !! ) . ولا تختلف النصرانية المحرَّفة كثيراً عن ذلك ؛ إذ زعمت أن المسيح ابن مريم هو ابن الله . وقالت مرة إنه هو الله ، ومرة قالت إنه واحد من ثلاثة يكونون في مجموعهم إلهاً واحداً . وإلى ذلك يقول الله تعالى : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) [ المائدة : 72 ] .
( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ) [ المائدة : 73 ] .(1/114)
وقد وصل بنو إسرائيل إلى درجة أبشع من ذلك حين قالوا لموسى : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) [ البقرة : 55 ] .
وحين مرُّوا على قوم يعبدون الأصنام فقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً ( أي صنماً ) نعبده مثل هؤلاء القوم : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) [ الأعراف : 138 ] .
وحين عبدوا العجل واتخذوه إلهاً : ( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) [ طه : 87 ، 88 ] 0
كل هذا ونبيهم بين ظهرانيهم يعلمهم أمر دينهم (1) 0
أما الدرجة القصوى من هذه الغفلة فهى التى تؤدى إلى إنكار وجود الله ألبتة، وسنتحدث عنها حين نتحدث عن الإلحاد 0
3- الهوى والشهوات :
من الأمراض التي تصيب الفطرة كذلك وتوقعها في الشرك غلبة الهوى والشهوات . ذلك أن دين الله المنزَّل يشمل دائماً أحكاماً إلهية يأمر الله البشر أن يلتزموا بها وينفذوها لتستقيم حياتهم وتتوازن : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) [ الحديد : 25 ] .
وحين تكون الفطرة مستقيمة فإنها تتقبَّل ما فرضه الله عليها بالرضا ، وتجتهد في تنفيذه تعبداً لله وطمعاً في رضاه . ولكن حين يغلب عليها الهوى وحب الشهوات فإنها تضيق بما أنزل الله وتحب أن تتبع شهواها . وفي ذلك يقول الله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [ لقمان : 21 ] .
( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ) [ مريم : 59 ] .
( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ القصص : 50 ] .
__________
(1) كان موسى قد تركهم أربعين ليلة ليتلقى من ربه الشريعة المنزلة ففعلوا هذا الفعل الشنيع، مع أنه ترك أخاه هارون ليخلفه فى قومه مدة غيابه عنهم 0(1/115)
( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) [ الفرقان : 43 ] .
( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [ آل عمران : 14 ] .
ومن أجل هذه الشهوات يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة كما يصفهم الله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) [ النحل : 107 ، 108 ] .
( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) [ ابراهيم : 3 ] .
وهؤلاء يرفضون الهدى الرباني ، ويرفضون أن يعترفوا بالوحي المنزل من عند الله ، ولو استيقنوا في دخيلة أنفسهم أنه الحق ، لأنهم لو اعترفوا لكان عليهم أن يلتزموا ، وهم يكرهون الالتزام بما أنزل الله ، لأن شهواتهم تغلبهم وتثقل في حسهم . لذلك ينكرون أن ما جاء من عند الله هو الحق ، ويجادلون فيه بالباطل ، ويضعون قواعد وموازين للحياة وللأعمال غير ما قرر الله ، ثم يزعمون أنهم هم الذين على الحق ، وأن ما يتبعونه من نظم وقواعد وموازين أحق أن يُتَّّبَع مما أنزل الله ، فيقعون بذلك في الشرك - شرك الاتباع (1) 0
وعلى هذه الصورة، كانت الجاهلية العربية التى ذكرها الله فى القرآن ذكراً مفصلاً فى كثير من الآيات فى السور المكية خاصة. وعلى هذه الصورة كذلك نجد الجاهلية المعاصرة التى غرفت فى الشهوات إلى أذنيها، ورفضت الاعتراف بالوحى الربانى؛ لأنها تريد أن تتبع أهواءها ولا تريد أن تلتزم بما أنزل الله0
4- الكبر عن عبادة الله :
__________
(1) سنتكلم فى الصفحات التالية عن أنواع الشرك 0(1/116)
الكبر كذلك من الأمراض التى تصيب الفطرة فتنحرف بها عن صورتها السوية وتوقعها فى الشرك0
والكبر درجات تبدأ بالاستكبار على الناس وتنتهى بالاستكبار على عبادة الله. وكلها خلق مقيت مرذول لا يصدر عن نفس سوية مستقيمة؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ » (1) 0
وغالباً ما يكون الكبر في نفوس من حصلوا على شيء من متاع الحياة الدنيا ، من مال أو جاه أو سلطان . ولكنه ليس وقفاً عليهم ، ويمكن أن يتسرب إلى أي نفس مريضة فيصاب صاحبها بما يسميه المعاصرون " جنون العظمة " ولو كان من أحقر الناس !
ويبين لنا الله في كتابه الحكيم أن الكبر من أسباب الكفر والشرك ، كما جاء في قصة النمرود : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 258 ] .
وكما جاء في قصة فرعون : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) [ الزخرف : 51 ] .
( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ، فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى ، فَكَذَّبَ وَعَصَى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ، فَحَشَرَ فَنَادَى ، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ) [ النازعات :17 - 25 ] .
وكما كان من أمر الوليد بن المغيرة : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ، وَبَنِينَ شُهُودًا ، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (275 ) -البطر : التكبر على الحق فلا يقبله -الغمط : الاحتقار والاستهانة(1/117)
، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) [ المدثر : 11 - 26 ] (1) .
ثم بيَّن لنا الله أنها قاعدة شاملة وليست ظاهرة فردية : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ غافر : 56 ] .
وهذا الكبر عن عبادة الله أوضح ما يكون فى الجاهلية المعاصرة، فهو ليس وقفاً على أصحاب المال أو الجاه أو السلطان، إنما سرى المرض فى جسم الغرب حتى صار أتفه الناس شأناً يستكبر عن عبادة الله !
5- وجود الطغاة الذين يريدون أن يستعبدوا الناس لأنفسهم فيرفضوا أن يحكموا بما أنزل الله :
ومن أهم أسباب الشرك في تاريخ الجاهليات كلها وجود طغاة من البشر يريدون أن يستعبدوا الناس ، ويسخروهم في قضاء شهواتهم ، فيرفضوا الانصياع لما أنزل الله ، ويضعوا من عند أنفسهم تشريعات لم يشرِّعها الله ، فيحلّوا ويحرّموا من عند أنفسهم ، اتباعاً لأهوائهم ، ويفرضوا تشريعاتهم المزيفة على الناس بما يملكون في أيديهم من سلطان
هؤلاء الطغاة في الواقع ينصِّبون أنفسهم أرباباً من دون الله حين يعطونها حق التشريع من دون الله ؛ لأن الله وحده هو صاحب هذا الحق حيث إنه هو الخالق سبحانه وإنه هو العليم الخبير : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) [ الأعراف : 54 ] .
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَوْلُهُ : إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ إِلَى ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قَالَ : دَخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ ؛ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ : يَا عَجَبًا لِمَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِشَعْرٍ ، وَلَا بِسِحْرٍ ، وَلَا بِهَذْيٍ مِنَ الْجُنُونِ ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لَمِنْ كَلَامِ اللَّهِ ؛ فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ائْتَمِرُوا وَقَالُوا : وَاللَّهِ لَئِنْ صَبَأَ الْوَلِيدُ لَتَصْبَأَنَّ قُرَيْشٌ ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ قَالَ : أَنَا وَاللَّهِ أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ ؛ فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ ، فَقَالَ لِلْوَلِيدِ : أَلَمْ تَرَ قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ ؟ قَالَ : أَلَسْتُ أَكْثَرَهُمْ مَالًا وَوَلَدًا ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ : يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ . قَالَ الْوَلِيدُ : أَقَدْ تَحَدَّثَتْ بِهِ عَشِيرَتِي ؟ فَلَا يَقْصُرُ عَنْ سَائِرِ بَنِي قُصَيٍّ ، لَا أَقْرَبُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ ، وَمَا قَوْلُهُ : إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا إِلَى لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ " جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ ( 32830 ) وتفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 267) حسن لغيره(1/118)
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 216 ] .
فالله سبحانه وتعالى بحق ألوهيته وربوبيته لكل الخلق ، وبعلمه التام بكل شيء هو الذي يحق له أن يقول : هذا حرام وهذا حلال ، هذا حسن وهذا قبيح ، هذا مباح وهذا غير مباح .فإذا جاء أي إنسان فادعى لنفسه حق التحليل والتحريم ، والمنع والإباحة فقد جعل نفسه شريكاً لله ، بل جعل نفسه إلهاً من دون الله . ومن تبعه في ذلك فقد أشركه في العبادة مع الله ، أو أشرك به من دون الله !
وهؤلاء الطغاة ، الذين سماهم الله قي القرآن " الملأ " هم أول من يتصدى لتكذيب الرسل الذين يرسلهم الله لهداية البشرية : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) [ الأعراف : 59 ، 60 ] .( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) [ الأعراف : 65 ، 66 ] .
( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) [ الأعراف : 73 - 76 ] .
وهكذا دائماً يتصدى الملأ لتكذيب الرسول المبعوث من عند الله ، ثم لا يكتفون بالتكذيب بل يتبعونه بالتهديد .
وهذا الأمر الذي يبدو لنا غريباً لأول وهلة ليس غريباً في الحقيقة !
فهؤلاء الملأ يعرفون جيداً أن السلطة التي يستعبدون بها الناس ليست شرعية في الحقيقة ، لأنها مخالفة لما أنزل الله ، ولكنهم يتجاهلون ذلك ويمضون في غيهم طاغين مستكبرين .(1/119)
فإذا جاء الرسول من عند الله يقول : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) - وهو ما قاله كل رسول لقومه - فهو في الحقيقة ينادي برد الأمر إلى الله ، صاحب الحق وحده في التشريع للناس ، وفي تقرير الحلال والحرام والمباح وغير المباح .
ثم إنهم لا يكتفون بتهديد الرسل أنفسهم ، لكنهم يقفون بالمرصاد للناس الذين يستعبدونهم بسلطانهم ، خوفاً من أن يفروا من سلطانهم الجائر إلى الله .. فيهددونهم كما يهددون الرسل ، ويطلبون منهم أن يستمروا في ولائهم لهم ويمنعونهم من تقديم الولاء الخالص لله ! أي يأمرونهم بالشرك ويهددونهم بالقضاء عليهم إن أسلموا لله !
ووجود الطغاة من جانب يقابله وجود المستضعفين الذين يخضعون لهم من الجانب الآخر . الأولون يأمرون بالشرك والآخرون يطيعون ، خوفاً أو ذلاً .
يقول الله تعالى عن الأولين : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ، وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) [ إبراهيم : 28 - 30 ] .
ويقول عن الآخرين : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ سبأ : 31 - 33 ] .0
================
أنواع الشرك :
ليست الصورة الوحيدة للشرك هى السجود للأصنام كما يبدو لبعض الناس الذين يقرءون فى التاريخ أن العرب فى الجاهلية كانوا مشركين يعبدون الأصنام، فيتبادر إلى أذهانهم أن(1/120)
عبادة الأصنام هى السبب الوحيد فى وصف العرب بأنهم كانوا مشركين، ويظنون من جهة أخرى أن الصورة الوحيدة للشرك هى عبادة الأصنام0
لوكنا إذا رجعنا إلى القرآن، ثم أنعمنا النظر فى حياة الجاهلية العربية ذاتها، نجد أن عبادة الأصنام لم تكن إلا لوناً واحداً من ألوان الشرك فى الجاهلية العربية، فضلاً عن الجاهليات الأخرى التى مرت بها البشرية فى تاريخها الطويل0
حقيقة أن عبادة الأصنام واضحة ملموسة للشرك لا تحتاج إلى بيان. ولكن الشرك هو فى الحقيقة أوسع دائرة من عبادة الأصنام والسجود لها وتقديم القرابين إليها. وقد اتخذ فى الجاهليات المختلفة صوراً شتى، وما يزال يتخذ إلى هذه اللحظة أشكالاً متعددة فى حياة الناس فى الشرق والغرب، قد لا يلتفتون إليها ولا يدركون أنها ضروب من الشرك، حين يحصرون صورة الشرك فى أذهانهم فى عبادة الأصنام فحسب0
وفى الجاهلية العربية ذاتها كانت هناك ألوان متعددة من الشرك إلى جانب عبادة الأصنام، وعبادة الملائكة والجن، والظن بأنها تشفع لهم عند الله أو تقربهم إلى الله زلفى0
لقد كانت ((القبيلة)) ربا يعبد مع الله أو من دون الله!
انظر إلى قول دريد بن الصمة :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد !
فما معنى قوله ذلك ؟
معناه أنه لا يوجد عنده معيار للرشد أو الغى إلا ما تقوله قبيلته ((غزية)). بل معناه أسوأ من ذلك من الحقيقة، معناه أن الحقيقة هى التى تحل له وتحرم.. فإن غوت فهو يغوى معها، مع علمه بأنها غاوية؛ لأن الغى يصبح فى نظره حلالاً ما دامت القبيلة قد فعلته. وإن رشدت فهو يرشد معها، لا لأنه يرى أن الرشد هو الأصلح، بل لأن القبيلة قد فعلته فهو الحلال فى هذه اللحظة0
وفى كلتا الحالتين لا نجد أن الله موجود فى حسه! فهو لا يأخذ حلاله ولا حرامه من الله. ولا يتلقى منه الأمر ولا يرجع إليه فى التصرف. إنما يأخذ من القبيلة ويتلقى عنها، ويرجع(1/121)
إليها. وإذن فهى الرب الحقيقى بالنسبة إليه، وإن كان يعرف أن الله موجود، وأنه هو الذى خلقه وخلق السموات والأرض!
وكذلك كان عرف الآباء والأجداد عند هؤلاء الجاهليين ربّا يعبد من دون الله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [ لقمان : 21 ] .
وليس العرب وحدهم هم الذين قالوا ذلك في جاهليتهم ، ففي القرآن أيضاً أن هذا كان شأن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ) [ إبراهيم : 9 ، 10 ] .
وعلى ذلك نستطيع أن نعدد ألواناً مختلفة من الشرك - سواء في الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات - بجانب العبادة الخالصة للأصنام أو الأوثان بوصفها هي الله ، كاعتقاد الجاهلية الفرعونية أن ( رع ) " قرص الشمس " هو الإله ، واعتقاد المجوس أن النار هي الإله ، واعتقاد الأشوريين أن بعلاً هو الإله ، واعتقاد قوم نوح أن ودّا وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً هي الآلهة
فمن ضروب الشرك :
1- شرك التقرب والزلفى :
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) [ الزمر : 3 ] .
وهذا النوع من الشرك - كما ذكرنا من قبل - يمارسه الشخص الذي يعرف أن الله موجود ، وأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت ولكنه مع ذلك يتصور خطأ أن هناك كائنات أخرى لها بعض خصائص الألوهية ، وأنها من ثمَّ قريبة من الله ، وإذاً فالتقرب إليها يؤدي إلى القربى من الله !(1/122)
فمن تقرَّب من الصنم وتمسَّح به ، ومن صلى له وسجد ، ومن تقدم إليه بالقربان ، فقد أشرك .
ولقد يبدو لنا اليوم أن هذا اللون من الشرك ساذج جدّا وسخيف جدّا بحيث يستنكف منه الإنسان المعاصر ، الذي تيسرت له وسائل التعليم والثقافة ، واتسعت حصيلته العلمية والفكرية .
ومع ذلك فانظر إلى ملايين الناس التي تطوف حول أضرحة المشايخ والأولياء والقديسين في أرض الإسلام وخارج أرض الإسلام ، تطلب منهم أن يقربوهم إلى الله زلفى .
وانظر إلى الذين يخشون - في دخيلة أنفسهم - غضبة الذين يعظمونهم من ولاة وشيوخ وعظماء ، ولا يخشون غضب الله ، والذين يعتقدون فيمن يعظمونهم أنهم أقرب ضرّا لهم ونفعاً من الله سواء كانوا ملوكاً أو علماء أو رؤساء !
أتراهم قد بعدوا في هذا الأمر من عُبَّاد الجاهلية الذين قال الله عنهم : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) [ الزمر : 3 ] 0
2- شرك طلب الشفاعة من غير الله :
وقريب من شرك التقرب والزلفى شرك طلب الشفاعة من غير الله ؛ لأنه امتداد له في الحقيقة .
وقد كان العرب في الجاهلية يمارسون الشِّركَين معاً . فقد كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، وكانوا في الوقت ذاته يطلبون الشفاعة منهم لتوهُّمهم أنهم أصحاب كلمة مسموعة عند الله : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ يونس : 18 ] .
( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ الزمر : 43 ، 44 ] .(1/123)
وكما عبدوا الأصنام لتشفع لهم عند الله - وبخاصة اللات والعزى ومناة - فإنهم عبدوا الملائكة كذلك باعتبارها بنات الله حسب ادعائهم الباطل ، وأنها لذلك مسموعة الكلمة عند الله : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) [ الأنبياء : 26 - 28 ] .
ولقد يُخيَّل إلينا كذلك أن هذه القضية قد انتهت مع انتهاء الجاهلية العربية ، ولم يعد لها وجود . ولكن المتأمل في حياة الناس اليوم يجد نظائر لها في تشفيع الموتى من الأولياء والصالحين عند الله في قضاء المصالح وفي الرضا عن العباد .
وقضية الشفاعة كقضية الزلفى ، كلتاهما تنشأ من توهم أن هناك من يملك من الأمر شيئاً مع الله ، أو يملك التأثير في مشيئة الله وإرادته . وهو وَهْمٌ باطل لأن الله هو الغني ، وهو المدبر المهيمن على كل ما في الوجود ، ومشئيته هي النافذة وحدها في هذا الكون . فالخلق جميعاً عبيد له وأقربهم إليه أتقاهم له .
ولا ينفي هذا أن تكون هناك شفاعة بين يدي الله يوم القيامة يتقبلها سبحانه ويستجيب لها. ولكنها أولاً بإذن منه سبحانه للشافع أن يشفع ، وثانياً رضاه عن المشفوع له ، قال الله تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) [ النبأ : 38 ] .
وقال تعالى : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) [ الأنبياء : 28 ] .
وقال : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) [ النجم : 26 ] 0
3- شرك الطاعة والاتباع :
الأصل فى العبادة هو الطاعة. ومعنى عبادة الله طاعته فيما أمر به وما نهى عنه. فإن الإيمان الحقيقى بعظمة الله وألوهيته، وأنه هو الخالق لهذا الكون، والمدبر لكل شئونه، والمهيمن على كل شىء فيه، هذا الإيمان يؤدى إلى نتيجة لازمة هى الطاعة لهذا الإله المتفرد بالربوبية والألوهية دون شريك0(1/124)
أما الذى يصر على الغواية، ويرفض الانصياع لأمر الله، ويتوجه بالطاعة لغير الله يأخذ منه ما يحرم وما يحل، وما يباح وما لا يباح، فلا يمكن أن يكون فى دخيلة نفسه مقراً لله بالألوهية بغير شريك، ولو ادعى ذلك! إنما هو فى الحقيقة قد وضع غير الله فى مقام الألوهية واتجه إليه بالعبادة، أى بالطاعة التى كان ينبغى أن تحكون لله وحده دون سواه 0
يقول الله فى القرآن عن اليهود والنصارى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة 0
ويحدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - معنى العبادة، ومعنى اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله تحديداً واضحاً حاسماً فى قصة عدى بن حاتم حين جاء ليسلم على يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان نصرانياً من قبل: روى الإمام أحمد والترمذى وابن جرير - من طرق- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : " يَا عَدِيَّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ " قَالَ : فَطَرَحْتُهُ وَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَسْنَا نعَبُدْهُمْ ، فَقَالَ : " أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ ؟ " قَالَ : قُلْتُ : بَلَى . قَالَ : " فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ " (1) 0
فعديّ بن حاتم كان يظن أن العبادة هي الركوع والسجود فحسب ، لذلك قال إنهم لم يعبدوهم ! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم حقيقة الأمر كما علَّمه الله . بيَّن له أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله هي عبادة لهم ، ومن ثم فهي إشراك بالله ؛ لأن الطاعة في هذه الأمور إنما تكون لله وحده حيث إنه هو الإله المعبود بحق . فالتوجه بها لغير الله عبادة لمن تُوجِّه إليه ، وإن لم يكن معها ركوع ولا سجود ولا تقديم قرابين !! بل هي عبادة لغير الله وإشراك به حتى ولو ظل الركوع والسجود يُقدَّم لله وحده ولا يُقدَّم لغيره ! فالركوع والسجود لله ، والتلقي من عند الله في التحريم والتحليل كلاهما سواء ، ومجموعهما معاً هو العبادة . ولم يقل الله لعباده إذا
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ(15276 ) وسنن الترمذى- المكنز - (3378 ) صحيح لغيره(1/125)
ركعتم لي وسجدتم فقد تمت عبادتكم لي ، ولم يعد عليكم بأس في أن تطيعوا غيري في التحليل والتحريم .. إنما أمر الله عباده أن يسجدوا له ويركعوا ، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من حلال وحرام ، وأخبرهم بأن إسلامهم لا يتم بغير الأمرين معاً في ذات الوقت ، وأنهم إن توجهوا بهذا الأمر أو ذاك لغير الله فقد أشركوا : ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) [ فصلت : 37 ] .
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 3 ] .
فالسجود لغير الله في الآية الأولى ينفي العبادة لله . وعدم اتباع ما أنزل الله في الآية الثانية مرادف لاتباع الأولياء - أي الشركاء - من دون الله .
وكذلك يقول الله حكاية عن الكفار في تبرير شركهم : ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) [ النحل : 35 ] .
فهم يحددون الشرك الذي هم واقعون فيه بأمرين في ذات الوقت : العبادة بمعناها الظاهر أي الركوع والسجود وكذلك التحريم والتحليل بغير ما أنزل الله ، وهم هنا في الآية يحاولون تبرير هذا الشرك بشقيه بأنه راجع إلى مشيئة الله ، والله يكذِّبهم في ذلك ويقيم الحجة عليهم بأنه أرسل إليهم الرسل ليبلغوهم حقيقة الإسلام : ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [ النحل : 35 ، 36 ] .
وهذا اللون من الشرك هو الذي يعمُّ وجه الأرض اليوم .
فأما الأرض غير الإسلامية فقد حوت كل صنوف الكفر والشرك . ومن أبرزها شرك الطاعة في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله ، واتخاذ الأرباب المختلفة من دون الله .(1/126)
وأما الأرض الإسلامية فقد وقع من أهلها في هذا النوع من الشرك كل من رضي بشريعة غير شريعة الله ، مجلوبة من الشرق أو الغرب ، وكل من رفع رايةً للتجمع أو للجهاد غير راية الإسلام ، من قومية أو وطنية أو علمانية أو غيرها من الرايات التي لم يأذن بها الله .
وهؤلاء وهؤلاء يقيمون أرباباً - وإن كانت غير محسوسة - ويعبدونها من دون الله .
فالذي ينادي بالقومية أو الوطنية ويتخذ ذلك ذريعة لإقامة وطن لا تحكم فيه شريعة الله ، هو في الواقع يتخذ القومية أو الوطنية ربّا يعبده من دون الله ، سواء في ذلك من يقيم هذه الراية ومن يرضى بها ؛ لأن الأول يصدر باسمها تشريعات تحل وتحرم بغير ما أنزل الله ، والآخر يتلقى منها ويطيعها ولا يتوجه بالتلقي والطاعة إلى الله .
والذي ينادي بوجوب إفطار العمال في رمضان لأن الصيام يضر بالإنتاج المادي ، يتخذ الإنتاج المادي في الحقيقة ربّا من دون الله ، لأنه يطيعه مخالفاً أمر الله .
والذي ينادي بخروج المرأة سافرة متبرجة مخالطة للرجال باسم التقدم والرقيّ وباسم التحرر ، يتخذ التقدم والرقيّ والتحرر في الحقيقة أرباباً معبودة من دون الله ، لأنه يحل باسمها ما حرم الله ، ويطيعها من دون الله .
والذي يدعو إلى إبطال شريعة الله أو تبديل المثل الإسلامية التي تصون الأخلاق والأعراض لكي نبدو في نظر الغرب متحضرين غير متخلفين ، يتخذ الغرب وتقاليده أرباباً معبودة من دون الله ، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم ؛ لأن الغرب وتقاليده أثقل في حسِّه من أوامر الله ، وأولى بالاتباع والطاعة من أوامر الله !
وهكذا نجد صوراً متعددة من شرك الطاعة والاتباع تعم حياة الناس اليوم دون أن يتبينوا ما هم واقعون فيه من الشرك ، مع أن كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة حاسمة في هذا الأمر : أن العبادة هي التلقي من الله في كل شأن من شئون الحياة . وكما نتلقى من الله شعائر التعبد ، فنعبده سبحانه وتعالى بما تعبَّدنا به من صلاة وصيام وزكاة وحج ، كذلك نتلقى منه أمور حلالنا وحرامنا ، أي الشريعة التي تحكم أمور حياتنا في الصغيرة والكبيرة سواء ؛ لأن الله تعبَّدنا بتنفيذ شريعته كما تعبَّدنا بالصلاة والصوم والزكاة والحج ، وكلها سواء ، واعتبر التوجّه في هذه أو تلك لغير الله شركاً ،(1/127)
وقال عن الذين يفعلون ذلك : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [ الشورى : 21 ] .
وقد أمرنا الله بمفاصلة الواقعين في هذا الشرك : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 64 ] .
لذلك ينبغي علينا أن نتبين طريقنا جيداً في وسط هذا الشرك الذي يعم اليوم وجه الأرض ، وأن نجتهد ونتحرى ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً . وألا نتخذ أرباباً نتوجه لها بالعبادة من دون الله .
4- شرك المحبة والولاء :
وقريب من شرك الطاعة والاتباع شرك المحبة والولاء للمشركين والكفار . إن ولاء المسلم ينبغي أن يكون لله ولرسوله وللمؤمنين كما أمرنا الله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ المائدة : 55 - 57 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ المائدة : 51 ] .
وكذلك المحبة لا ينبغي أن تكون لغير الله ورسوله والمؤمنين . ولا ينبغي بحال من الأحوال أن تكون لشيء ولا لأحد يقع في دائرة الكفر والشرك : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) [ البقرة : 165 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا(1/128)
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) [ التوبة : 23 ، 24 ] .
( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) [ المجادلة : 22 ] .
إن العبادة ليست هي الشعائر التعبدية وحدها من صلاة وصيام وزكاة وحج ، كما يظن كثير من الناس في العصر الحاضر . ولا يكون الإنسان مسلماً موحداً بمجرد أن ينطق بشهادة التوحيد : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم يؤدي الشعائر التعبدية . وإنما يجب مع ذلك أن يعمل بمقتضى شهادة التوحيد ليكون موحِّداً حقاً . والتوجه بالولاء والمحبة للكفار والمشركين هو نقض لشهادة أن لا إله إلا الله ولو ظل الإنسان ينطقها بلسانه ويؤدي معها شعائر التعبد ! لذلك يصف الله موالاة اليهود والنصارى والكافرين بأنها ردة ، فيقول في سورة المائدة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ المائدة : 51 ] .
ثم يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [ المائدة : 54 ] .
إن التوحيد أمر هائل جدّا ، وليس مجرد كلمة تُنْطَق ! إنه أمر شامل يشمل كل عمل الإنسان وكل فكره ، ويشمل حتى مشاعره الداخلية التي قد يخفيها داخل نفسه ولا يُبيِّنها للناس .
ولا يتم التوحيد في حقيقة الواقع حتى تكون كل أعمال الإنسان وكل أفكاره وكل مشاعره مستقيمة على نهج واحد ، متوجهة كلها إلى الله ، مستمدة كلها من منهج الله .
أما إقامة منهج الحياة وسلوك الإنسان وفكره وشعوره على أسس تدين لغير الله ، فهو شرك لا يغفره الله ؛ لأنه نقض واقعي لشهادة التوحيد ولو ظلت تُنْطَق بالأفواه !
5- شرك الرياء :(1/129)
والمقصود بشرك الرياء هو التوجه بالعمل لغير الله. فقد يكون العمل فى ذاته سليماً فى صورته، كالصلاة مثلاً، ركعاتها مضبوطة، وقيامها وقعودها على الصورة التى بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن صاحبها لا يصليها لكى يؤدى الفريضة لله، ويتقرب بها إليه. إنما يصليها ليمدحه الناس ويقولوا عنه إنه من الصالحين.. فهنا لا يكون العيب فى صورة العمل، إنما فى التوجه به لغير الله0
وكذلك إذا أنفق ماله رئاء الناس، أو قام بأى عمل من الأعمال بغية امتداح الناس له وثنائهم عليه 0
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً ، فَأَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا ، فَهْوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » . (1) 0
وقد يكون العمل فى أصله موجهأً إلى الله، ولكن يدخل معه فى أثناء أدائه حب السمعة، والسعى إلىنيل المديح من الناس، فيكون شركاً كذلك، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ». (2) 0
ومن هنا ينبغى ان نتنبه لأنفسنا لكى لا نقع فى هذا اللون من الشرك. فإنه يكون أحياناً (أخفى من دبيب النمل)0
تلك كلها ألوان من الشرك يقع فيها البشر حين ينحرفون عن طريق الفطرة السوية كما فطرها الله . وهي كلها مجافية لحقيقة التوحيد .
ذلك أن حقيقة التوحيد التي تقر بها السماوات والأرض ، ويقر بها الإنسان المؤمن ، ليست شيئاً مظهريّا ولا أمراً جزئياً ، إنما هي الحقيقة الجوهرية في هذا الكون كله ، وهي الركيزة الكبرى للإنسان المؤمن ، مهما تنطلق تصوراته وأفكاره ، ومشاعره وسلوكه ، وكل شيء في حياته .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7458 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7666)(1/130)
ولا يتأتى أن يكون الإنسان موحداً في جانب من جوانب حياته ، ثم يتوجه في جوانب حياته الأخرى لغير الله ، فإنه بذلك يكون قد اتخذ إلهين ، والله يقول : ( وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) [ النحل : 51 ] .
وهذه الرهبة المذكورة في الآية هي الحصيلة الحقيقية للإيمان بأقسام التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات . وتنزيه الله عن كل شريك وتنزيه صفاته عن التشبيه والتأويل . ومؤداها هو التوجه لله وحده بالعمل كله ، سواء كان العمل صلاة ونسكاً ، أو سعياً في الأرض وراء الرزق ، أو كسباً أو إنفاقاً ، أو علماً أو سياسة أو اجتماعاً أو سلماً أو حرباً أو اعتقاداً .. إلخ : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
وأيّا كانت أنواع الشرك ، وهو لا يخرج في جميع أحواله عن أن يكون شركاً أكبر ينفي الإسلام بالكلية ، أو شركاً أصغر يبطل العمل الذي صاحبه ، أو شركاً خفيّا هو من أكبر الكبائر ، فإنه أمر باطل في حكم الله ، كما أنه قبيح مستنكر في حكم العقل . فأيما إنسان سليم العقل مستقيم التفكير لا يمكن أن يتقبل الشرك بالله في أية صورة من صوره . ولذلك يندد الله بالمشركين في كثير من المواضع بقوله تعالى : ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) لأن مقتضى العقل أن يتوصل الإنسان إلى حقيقة التوحيد ، ويصل بها إلى درجة اليقين . فهذا هو الكون مفتوحاً أمام الحس البشري ، هل فيه شيء واحد ينبئ بأن يداً غير يد الله قد تدخلت في خلقه أو في تدبيره ؟ وهل يمكن أن ينتظم سير الكون هذا الانتظام الدقيق لو كانت فيه إرادتان مختلفتان أو صنعتان مختلفتان ؟! : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) [ الملك : 1 - 4 ] .
إن النظر في أي شيء من خلق الله ، كبير أو صغير ، لينتهي بالعقل إلى نتيجة واحدة ، هي التوحيد .(1/131)
والقرآن يشير إلى تلك الحقيقة في مواضع شتى ، ويضرب للناس الأمثال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [ الحج : 73 ] .
فالذباب في نظر الناس من أهون الأشياء وأحقرها .. ومع ذلك ، فهل يستطيع أحد - غير الله - أن يخلق ذبابة واحدة ولو اجتمع كل أهل السماوات والأرض ؟!
بل إن الأمر أبعد من ذلك في العجز ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) ، فهم لا يعجزون فقط عن خلق الذباب ، بل يعجزون عن استرداد شيء سلبه الذباب منهم . إن الذباب يقف على الطعام فيقضم منه قضمة لا تكاد ترى ، أو يعلق بأرجله وأجنحته مثل ذلك .. فهل يستطيع أحد أن يسترد منه ما سلب من الطعام ؟!
ألا ما أعجز الناس .. والشركاء المزعومين !
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) [ العنكبوت : 41 - 43 ] .
وإذا كانت حقيقة الكون كله قائمة على توحيد الألوهية والربوبية ، بالاستجابة لأمر الله ، والعمل بمقتضى هذا الأمر كما قال الله عن السماوات والأرض : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) [ فصلت : 11 ] .
إذا كانت هذه هي حقيقة الكون فأي ظلم يوقع فيه الإنسان نفسه حين ينحرف عن هذه الحقيقة الهائلة التي تقوم عليها السماوات والأرض ؟
أي ظلم في إنكار الحق الذي يستجيب له الكون كله ويقر به ، وأي ظلم أن يورد الإنسان نفسه موارد الهلاك بهذا الإنكار ؟!
لذلك يصف الله الشرك بأنه ظلم ، ويصف المشركين بأنهم هم الظالمون : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) [ لقمان : 13 ] .(1/132)
وقال تعالى : ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ) [ يونس : 106 ] 0
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاللهِ يَمِينَ صبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ إِلَّا كَانَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1) 0
آثار الشرك
إذا كان التوحيد كما رأينا هو ما فطر الله عليه الإنسان السوى، وهو الذى يستقيم به الكون وحياة الإنسان، فإن الشرك الذى يقع فيه الإنسان الذى يقع فيه الإنسان له آثاره الوبيلة فى دنياه وآخرته، سواء أكان الواقع فيه فرداً أم جماعة 0
1- وأول آثار الشرك إطفاء نور الفطرة :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ » (2) .
إن الله سبحانه وتعالى حين خلق آدم استخرج ذريته من صلبه أمثال الذرّ ، فأخذ عليهم العهد والميثاق ألا يشركوا به شيئاً : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) [ الأعراف : 172 ] .
وعلى هذا فإن الشرك نقضٌ للميثاق الذي أخذه الله على البشر وهم في عالم الذر ، كما أنه انحراف عن الغاية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها ، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
إن الإنسان يستمد من حقيقة التوحيد إشراقته ونوره وسداد أمره ، فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء . وتصبح حاله وأعماله معتمة مظلمة ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
__________
(1) - شعب الإيمان - (6 / 482) (4502 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1385 )(1/133)
شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) [ النور : 39 ، 40 ] 0
2- ومن آثاره القضاء على منازع النفس السامية :
فالنفس المتعلقة بالله المتطلعة إلى رضاه لا تستغرقها شهوات الحس ولا تنصرف بكليتها إلى متاع الأرض القريب ، إنما تتطلع دائماً إلى المثل العليا والقيم الرفيعة ، وإلى الترفع عن الدنس في كل صوره وأشكاله ، سواء كان فاحشة من الفواحش التي حرّمها الله ، أو ظلماً يقع على الناس ، أو موقفاً خسيساً يقفه الإنسان من أجل شهوة رخيصة أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا .
ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشِّيها الشرك ، فإن النفس تنحطّ فتشغلها الأرض . يشغلها المتاع الزائل فتتكالب عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها . ويكون جهادها صراعاً خسيساً على هذا المتاع الزائل يتقاتل من أجله الأفراد والدول والشعوب .. وتصبح الحياة البشرية محكومة بقانون الغاب ، القوي ياكل الضعيف ، والغلبة للقوة لا لصاحب الحق .. وهو الأمر الذي نراه سائداً في الجاهلية المعاصرة في كل منحى من مناحي الحياة . ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) [ الحج : 31 ] 0
3- ومن آثاره القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه فى العبودية الذليلة :
إن العزة الحقيقة هي التي تُسْتَمدّ من الإيمان بالله الواحد : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [ المنافقون : 8 ] .
فالمؤمن على يقين من تلك الكلمة التي يردِّدها في كل صلاة : الله أكبر .. الله أكبر من كل شيء ومن كل أحد . ومن ثم يحسّ المؤمن الذي تعلق قلبه بالله أنه عزيز بتلك القوة المستمدة من العبودية الحقة لله الحق ، فهو الإله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت ، المالك للأمر كله بلا شريك . ومن ثم لا يعود يخشى الأشياء ولا الأشخاص ولا الأحداث : لأنه يعلم أن الله هو المدبر الحقيقي لكل ما في الكون ، وأن أحداً في الكون كله لا يملك(1/134)
شيئاً مع الله . فعلام إذاً يذل لغير الله ؟ علام يبذل من كرامته وعزته لبشر مثله ، عاجز ولو كانت في يده مظاهر القوة ، ضعيف وإن كان جباراً في الأرض ، محتاج مثله لما عند الله لأن الله هو الحي القيوم وكل ما عداه صائر إلى زوال ؟!
كلا .. لا يبذل المؤمن من عزته لأحد غير الله .
ولكن المشرك لا يعرف هذه العزة ولا يتذوقها .
إنه عبد .. ولكنها عبودية ذليلة لأنها ليست عبودية لله ، الكريم الرحيم ، الذي يُعزُّ عباده بعزته !
إنه عبد .. لبشر مثله يتحكم فيه فيذله ، أو عبد لشهواته : شهوة المال أو شهوة الجنس أو شهوة السلطان .. كلها عبودية ذليلة وإن بدت لأول وهلة متاعاً وتمكناً وتجبراً في الأرض
ثم يذهب هذا المتاع الزائل الذي تذل له أعناق الرجال ، ويأتي اليوم الذي يقفون فيه موقف الخزي الأكبر أما العزيز الجبار : ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [ الشعراء : 205 - 207 ] 0
4- ومن آثاره تمزيق وحدة النفس البشرية :
فالله سبحانه وتعالى فطر هذه النفس بحكمته ، وأنزل الكتاب الذي تعمل بمقتضاه هذه النفس فتكون على فطرتها السوية كما خلقها الله : ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [ الروم : 30 ] .
والدين القيِّم هو عبادة الله وحده بلا شريك : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ هود : 50 ] .
وهي الكلمة التي قالها نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعاً .
ويعلم الله سبحانه وتعالى أنه حين يعمل الإنسان بمقتضى كلمة التوحيد هذه فإن نفسه تكون " في أحسن تقويم " وتكون على استوائها ، لأنها تتجه كلها وجهة واحدة في جميع تصرفاتها . فالإنسان - المؤمن - يتجه بصلاته ونُسُكه إلى الله ، ويضرب في الأرض يبتغي الرزق فيتوجه إلى الله يطلب منه التوفيق والعون ، ويتوجه إليه بالعمل ذاته فيبتغي فيه(1/135)
الحلال الذي أحله الله ويتجنب الحرام الذي حرمه الله ، فيكون في كل لحظة ذاكراً لله لأنه يتحرى حلاله وحرامه في كل تصرف وفي كل موقف . كلما همَّ بحركة أو عمل أو هجس في نفسه هاجس سأل نفسه أولاً : أحلال هو فيأتيه ، أم حرام فعليه أن يتجنبه ؟
وكذلك هو إن ذهب يتعلم ، أو ابتغى أن يتزوج ، أو باع أو اشترى ، أو تعامل مع النس في أمر من أمور حياته : يتوجه إلى الله أولاً ويستلهم كتابه المنزل الذي يحوي تفاصيل ما أحل الله وما حرم ، وما أباح وما منع (1) .فإذاً هو في كل نشاط حياته متجه إلى الله سبحانه وتعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 163 ] .
عند ذلك تطمئن النفس وتستقر : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ الرعد : 28 ] .
وتكون قوة هائلة في ذات الوقت ، كحزمة الضوء التي تتجمَّع فتضيء أو تتجمع فتكون شعلة متقدة ..
قوة هائلة تنطلق في الأرض تبني وتعمر في كل اتجاه ، راضية مطمئنة ، نشيطة وثابتة في ذات الوقت ، كما كان ذلك الجيل الفذّ الذي بدأ به تاريخ الإسلام : ينشر الدعوة في أرجاء الأرض بسرعة لا مثيل لها في التاريخ ، ويقيم العدل الرباني في كل مكان ، ويحارب الكفر والشرك والطواغيت فيسحقها وينتصر عليها ، وينشئ حضارة فذة تجمع بين الروح والمادة ، وتعمل للآخرة دون أن تنسى عمارة الأرض :
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [ القصص : 77 ] .
وتلك هي حصيلة التوحيد . حصيلة تجمع النفس البشرية في اتجاه واحد ، إلى الله .
أما الشرك فهو يشتت تلك الوحدة التي فطر الله النفس البشرية عليها ، ويمزقها .
يصلي الإنسان - إذا صلى ! - لإله . ويبيع ويشتري ويبتغي الرزق باسم إله آخر يحل له الربا ويحل له الغش والخداع بغية الربح . ويمارس شهواته باسم إله ثالث يحل له العلاقات
__________
(1) وكذلك السنة النبوية المطهرة تحوى تفاصيل شرع الله وهى من عند الله لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يشرعها بوحى الله وأمره {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) سورة النجم ولقوله تعالى : {,, وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر 0(1/136)
غير المشروعة ويزيّن له الخبائث . وقد يتوجه إلى بشر مثله أو إلى صنم من الأصنام فيطلب منه البركة أو يطلب منه أن يقرّبه إلى الله زلفى .. وهكذا تتشتت نفسه في محاولة استرضاء هذه الأرباب المتعددة التي كثيراً ما يكون لكل منها مطالب تخالف مطالب الأخرى وتعارضها .
وفي النهاية يفقد نفسه بعد أن يفقد أمنه وطمأنينته : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) [ الزمر : 29 ] .
وأوضح مثال على ذلك تلك الجاهلية المعاصرة التي يمارسها الناس في أكثر أرجاء الأرض .
ولقد كانت هذه الجاهلية تبهر الناس وتخدعهم بالتقدم العلمي والمادي الهائل الذي حصلته . ولكنها تكشفت - حتى لأصحابها - عن تمزق نفسي لا مثيل له في التاريخ ، يتمثل في التزايد المستمر لحالات القلق والجنون والاضطراب العصبي والنفسي والانتحار والإغراق في المسكرات والمخدرات !
وأخيراً تصايح الشباب هناك بأنه يحسّ بالضياع ، ولا يجد لحياته معنى ، ولا يجد نفسه في اتجاه يكسبها الاستقرار والطمأنينة !
وتلك هي الحصيلة الأخيرة للشرك ، مهما بدا من مظاهر التقدم المادي والعلمي ، لأن النفس الممزقة بين الأرباب المختلفة لا يمكن أن تجد الطمأنينة أو تحس بالاستقرار
5- ومن نتائجه إحباط العمل :
( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الزمر : 65 ] .
والحبوط مأخوذ من " حبطت الناقة " إذا انتفخ بطنها وماتت نتيجة تناولها طعاماً سامّا ، ويراد به ضياع نتيجة العمل وانقلابه بالوبال على صاحبه .
والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أوحى إليك كما أوحى إلى النبيين من قبلك أن الشرك يحبط العمل ويفسده ، ويئول في النهاية إلى الخسران ، الخسران الأكبر في الآخرة بدخول النار والعياذ بالله .(1/137)
ولكنه لا يقتصر على الدار الآخرة ، فنحن نرى آثار ذلك الخسران في الحياة الدنيا بداية واضحة في الجاهلية المعاصرة ، كما أشرنا في الفقرة السابقة .
إن الناس في الجاهلية المعاصرة قد انتفخوا من كثرة ما أعطاهم الله استدراجاً عن طريق التقدم العلمي من سيارات وثلاجات وطائرات وصواريخ وقنابل ذرية ونووية وأموال وخيرات من كل الأنواع .
انتفخوا بكل ذلك حتى وصلت بهم " النفخة " إلى الاستكبار على الله ، يقول الله عن أمثالهم : ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) [ غافر : 83 ] .
ولكنه انتفاخ كانتفاخ الناقة الحابطة بالغذاء المسموم .
فاستثمار خيرات الأرض وصل حاليّا إلى حد لم يبلغه في التاريخ ، والفقر الجاثم على كثير من ربوع الأرض ليس له كذلك مثيل في التاريخ !
وتقدم الطب بلغ درجة لم يصلها من قبل قط ، ونسبة المرض كذلك في تزايد مستمر ، وتنشأ أمراض جديدة لا عهد للبشرية بها من قبل ، وآخرها مرض ونقص المناعة المتكسبة المسمَّى بالإيدز .
والتنادي بالحريات السياسية والحريات الإنسانية يشبه الدويّ في برلمانات الأرض ، وصحفها ووسائل إعمالها ، والعبودية التي يعيش الناس فيها في أكثر بقاع الأرض أبشع عبودية في التاريخ .
ووسائل المتاع التي اخترعها البشر ليتناولوا بها أكبر قسط من متاع الأرض لا مثيل لها في كثرتها وتنوعها واستغراقها لحياة الناس ، ودرجة الشقاء التي يحسها الناس من أول الاضطرابات النفسية إلى الجنون لا مثيل لها كذلك في كل التاريخ !
وصدق الله العظيم : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) [ الزمر : 65 ]
6- ومن آثار الشرك الأكبر خلود صاحبه فى النار :
( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ، إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ، لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ(1/138)
وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ) [ النساء : 116 - 121 ] .
وأي شيء يمكن أن يكون أفظع من ذلك وأبشع ؟
إن الحريق هو أفظع ما يتعرض له الإنسان في الحياة الدنيا لأنه شيء لا يطاق .. شيء لا تستطيع احتماله الأعصاب . ومع ذلك فما أهونه وأيسره بجانب حريق الآخرة .
إنه - مهما اشتد ومهما امتد - فلن يتجاوز دقائق قد تمتد إلى أيام .. ثم بعد ذلك إما أن يشفى صاحبه وإما أن يموت . فكيف إذا كان لا يشفى قط ومع ذلك لا يموت : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) [ النساء : 56 ] .
عذاب ساعة أو ساعات لا يحتمله الإنسان في الحياة الدنيا ، فهل يستطيع أن يحتمل العذاب الذي يصل إلى درجة الاحتراق الكامل ثم يعود الجلد - الذي يشتمل على أعصاب الحس - جديداً ، ليحس صاحبه العذاب من جديد .
فهل من الحكمة أن يعرض الإنسان نفسه - بارتكاب الشرك - إلى هذه الدرجة الفظيعة من العذاب ؟
إن الناس في الحياة الدنيا يتقون الحريق بكل وسيلة ، ويحاولون جهدهم ألا يصيبهم ذلك الحريق .
فما أغفل المشرك الذي يهرب جهده من لذعة عابرة في الدنيا ، ثم يركض بقدميه ركضاً ليلقي بنفسه في الحريق الذي لا يزول أبداً ولا يستطيع أن يخرج منه بعد أن يدخل فيه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) [ البقرة : 165 - 167 ] 0(1/139)
الإلحاد
الإلحاد الذي ينتشر اليوم في أوربا ، شرقها وغربها ، ويتبجح بإنكار وجود الله وينفي أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت وأنه خالق الكون ومدبره ، ظاهرة لا مثيل لها تاريخ البشرية من قبل ، من حيث سعة انتشارها ، وتأثيرها في حياة الناس وأفكارهم وتصوراتهم ، وما أحدثته من تحلل وفساد خلقي .
حقّا ، لقد وجدت نماذج من الإلحاد في التاريخ القديم ؛ فقد وجد الدهريون ، الذين ينكرون البعث ، وينسبون الموت للدهر بدلاً من الله . أولئك الذين أشار الله في القرآن إليهم : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [ الجاثية : 24 ] .
وهؤلاء هم البذرة الأولى للذين يقولون اليوم " بالطبيعة " بدلاً من الله ، فيرتكبون ذات الجهالة التي وقعت فيها جاهليات قديمة من قبل .
ووجدت نماذج من التحلل الخلقي الذريع إلى جانب الإلحاد ، كما حدث في المزدكية التي انتشرت في بلاد فارس فترة من فترات التاريخ وأباحت شيوعية المال والنساء ، وأنشأت لوناً من الفوضى الخلقية لا مثيل له فيما سبق من القرون . وأولئك هم البذرة الأولى للشيوعية المعاصرة التي قدمها ماركس ولينين ( ) .
ولكن هؤلاء وأمثالهم كانوا قلة في حياة البشرية من قبل .
ذلك أن الانحراف الأكبر الذي يقع في عقائد الناس في جاهليتهم هو الشرك كما أسلفنا وليس الإلحاد ، لأن الفطرة - وإن ضلت - تظل تؤمن بوجود الله ولكنها تشرك معه آلهة أخرى . أما الإلحاد - بمعنى إنكار وجود الله أصلاً - فهو شذوذ نادر حتى في الفطرة المنحرفة ، سببه انطماس غير عادي في البصيرة ، يجعل الإنسان يعيش بكامله في عالم الحس ، فيؤله المحسوس وحده ، وينفي وجود إله ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [ الأنعام : 103 ] .
لذلك كان الإلحاد - كما قلنا - أمراً نادراً في تاريخ البشرية .(1/140)
أما البشرية المعاصرة فقد انتشر فيها الإلحاد بصورة غير مسبوقة من قبل . و لا بد من أن تكون هناك أسباب غير عادية هي التي أدت إلى انتشاره بهذه الصورة البالغة القبح .
إن السبب الرئيسي في إلحاد اليوم هو ذات السبب في كل إلحاد حدث في التاريخ : انطماس غير عادي في البصيرة ، يؤلِّه المحسوس وحده وينفي وجود الله .
ولكن الذي نبحث هنا عن أسبابه ودوافعه هو انتشار هذه الظاهرة على نطاق واسع غير معهود من قبل ، بحيث يصبح هذا العدد الهائل من البشر مطموس البصيرة بهذه الصورة غير العادية ، فيؤمن بالمحسوس وحده وينكر وجود الله .
وما دامت الفطرة - حتى في انحرافها - لا تصل إلى هذه الصورة إلا في حالات شاذة نادرة ، فلا بد أن هناك أشياء غير عادية في حياة الناس في أوربا - التي ينتشر فيها الإلحاد - قد مسخت طبائع النفوس هناك ، فلم تقف في انحرافها عند درجة الشرك . إنما تجاوزتها إلى الإلحاد الذي يجمع في حقيقته بين الشرك والكفر : الشرك بمنح خصائص الألوهية لغير الله ، والكفر بإنكار وجود الله .
ولا بد لنا من لمحة سريعة عن حياة أوربا تبين لنا أسباب هذه الظاهرة الخطيرة غير العادية في حياة البشرية .0
أسباب الإلحاد :
أولاً : دور الكنيسة الأوربية فى إفساد النصرانية المنزلة من عند الله :
بعث الله سيدنا عيسى بالحق ، وأنزل عليه الإنجيل يبين للناس حقيقة التوحيد ويدلّهم على الشرائع التي ينبغي أن تحكم حياتهم بأمر من الله : ( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) [ المائدة : 72 ] .
( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) [ آل عمران : 50 ] .
ولكن المجامع التي أنشأتها الكنيسة الأوربية لتقرير أمور العقيدة قد أفسدت هذا الدين الرباني المنزل من عند الله وشوَّهت صورته تشويهاً بالغاً من ناحيتين :(1/141)
الأولى : ناحية الاعتقاد ، بأن جعلت الله ثلاثة بدلاً من واحد ، وجعلت المسيح ابن مريم إلهاً بدلاً من كونه بشراً ورسولاً كبقية الرسل والأنبياء . وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) [ المائدة : 72 ] .
( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ) [ المائدة : 73 ] .
الثانية : ناحية الحكم بما أنزل الله في الإنجيل . فقد أبطلوا الحكم بشريعة الله المنزلة إلا فيما يسمى " الأحوال الشخصية " ، أي الزواج والطلاق ، أما بقية أمور الحياة فقد بقي القانون الروماني يحكمها بدلاً من شريعة الله . وفي ذلك يقول الله : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } [المائدة : 46 - 48] (1)
وبذلك أفسدت الكنيسة الدين النصرانى المنزل من عند الله إفساداً كاملاً وأصبحت أوربا واقعة فى الشرك منذ أوائل اعتناقها المسيحية! وكان هذا الشرك مقدمة لمزيد من الفساد فى الحياة الأوربية0
ثانياً : موقف الكنيسة من العلم :
في العصور الوسطى كانت أوربا تعيش في ظلام الجهل والخرافة . ومن هنا ينطبق عليهم وصف " العصور الوسطى المظلمة " كما يعبرون عن حياتهم في تلك الفترة من تاريخهم .
__________
(1) - وَأَرْسَلْنَا مِنْ بَعْدِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيسَى بْنَ مَرْيَمَ مُؤْمِناً بِالتَّوْرَاةِ ، وَحَاكِماً بِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامٍ ، وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى لِلْحَقِّ ، وَبَيَانٌ لِلأَحْكَامِ ، وَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ ، وَحَلِّ المُشْكِلاَتِ . وَجَاءَ الإِنْجِيلَ مُصَدِّقاً لِلْتَّورَاةِ ، وَمُتَّبعاً لَهَا ، غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا فِيهَا إلاّ فِي القَلِيلِ مِمَّا بَيَّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَجَعَلْنَا الإِنْجِيلَ هُدًى يَهْتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ ، وَوَاعِظاً وَزَاجِراً لَهُمْ عَنِ ارْتِكَابِ مَا حَرَّمَ اللهُ ، وَعَنِ اقْتِرَافِ المَآثِمِ . وقد أْمُرُ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الإِنْجِيلِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ ، وَبِأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ شَرْعٍ يُؤْمِنُ بِهِ ، كَانَ مِنَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَحُكْمِهِ .أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 716)(1/142)
ثم وقعت بينهم وبين المسلمين سلسلة من الحروب هي المعروفة في التاريخ باسم الحروب الصليبية ، التي استغرقت قرابة قرنين من الزمان ، من القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن الثالث عشر .
وفي تلك الحروب احتك الصليبيون بالمسلمين وعرفوا عن كثب مزايا الحياة الإسلامية وفضائلها ، وما تحويه من حضارة وعلم ، فتأثروا بها تأثراً بالغاً ، وحاولوا إقامة حياتهم في أوربا على ضوء بعض المبادئ والقيم التي وجدوها عند المسلمين . كما جاءهم التأثير من ناحية أخرى باحتكاكهم بالمسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية الإسلامية وجنوب إيطاليا الإسلامي حيث كانت المدارس والجامعات الإسلامية مزدهرة يفد إليها طلاب العلم من كل مكان في الأرض . ويؤمها الأوربيون لنيل العلم على يد الأساتذة المسلمين ، ويتعلمون العربية لتلقي العلم وترجمة الكتب الإسلامية العلمية إلى لغاتهم الأوربية .
ومن هذين التأثيرين بدأت أوربا تنهض وتخرج من عصورها الوسطى المظلمة .
ولكن الكنيسة وقفت ضد الحركة العلمية التي بدأت تنشأ في أوربا .. ويرجع ذلك إلى سببين في آن واحد :
السبب الأول : خوفها على مكانتها في نفوس الجماهير . فقد كانت تلك المكانة قائمة على مجموعة من الخرافات التي تبثها الكنيسة في عقول الناس ، وتقول لهم : إن هناك في الدين أسراراً لا يعرفها إلا رجال الدين وإن على الناس أن يخضعوا لرجال الدين خضوعاً أعمى ، ولا يسألوا عن تلك الأسرار ، وإنما يطلبون البركة من رجال الدين بطاعتهم إياهم في كل ما يأمرون به . وهم - أي رجال الدين - كفيلون بتقريبهم إلى الله بهذه الطاعة ليغفر لهم ذنوبهم .. وكانت الكنيسة تخشى إذا انتشر العلم أن تتفتح أعين الناس على تلك الخرافة وأمثالها فتضيع مكانة رجال الدين في نفوسهم ، ولا يعود للكنيسة ذلك السلطان المقدس عند الجماهير !
والسبب الثاني : أن ذلك العلم في الحقيقة هو علم المسلمين . وكان الأوربيون الذين يُبْتَعَثون إلى المدارس والجامعات الإسلامية ينقلون معهم علوم المسلمين ، وينقلون معها في(1/143)
الوقت ذاته تأثراً واضحاً بالإسلام والقيم والمبادئ الإسلامية ، فخشيت الكنيسة أن ينتشر الإسلام في أوربا مع الحركة العلمية المنقولة أصلاً عن الجامعات الإسلامية والعلماء المسلمين ؛ لذلك قامت تحارب العلماء الأوربيين الذين تأثروا بعلوم المسلمين محاربة وحشية . وتهددهم بالتقتيل والتعذيب والتحريق في النار حتى الموت إذا لم يتراجعوا عن الأفكار العلمية التي نقلوها عن علماء الإسلام ! وكان هذا بداية انحراف خطير بالغ الأثر في الحياة الأوربية هو فصل العلم عن الدين ، وإيجاد عداوة بين الدين والعلم ، وبين المتعلمين والدين ! واستمر هذا الانحراف يتزايد على مر العصور في أوربا حتى أصبح الدين في حس المتعلم الأوربي ممثلاً للخرافة ، وأصبحت " النظرة العلمية " في تصوره هي إبعاد مفاهيم الدين كلها عن مجال البحث العلمي ، وعدم الإشارة إلى الله أصلاً في أية حقيقة من حقائق العلم تتصل بالكون أو الحياة أو الإنسان (1) 0
ثالثاً : طغيان الكنيسة ورجال الدين:
لم تكتف الكنيسة بما أفسدته من دين الله المنزل ، ولا بموقفها المعادي للعلم وحقائقه النظرية والتجريبية ، بل أضافت إلى ذلك طغياناً بشعاً على أرواح الناس وعقولهم وأموالهم وأجسادهم :
1- ففرضت عليهم احتكار الوساطة بين الناس وبين الله . فلا يملك الإنسان أن يتصل بربه إلا عن طريق الكاهن .. ولا تقبل منه التوبة والاستغفار من ذنوبه إلا بالجلوس أمام الكاهن على " كرسي الاعتراف " وإعلان الكاهن له بقبول توبته .
2- وفرضت عليهم أفكاراً معينة عن شكل الأرض وعمر الإنسان على سطح الأرض ، تخالف ما وصلت إليه حقائق العلم الثابتة ، وقال لهم : إن هذه أفكار مقدسة لأنها منزلة من عند الله ، ومن خالفها فهو كافر ملحد .
3- وفرضت عليهم العشور ، أي أن يقدِّمُوا عُشْرَ مالهم هبة خالصة للكنيسة . لا لله ولا للمساكين ، إنما ليعيش بها رجال الدين في بذخ لا يحلم به الأباطرة في عصر من العصور .
__________
(1) من هنا يقول دارون: ((إن الطبيعة تخلق كل شىء ولا حد لقدرتها على الخلق))، فينسب الخلق لما سماه ((الطبيعة)) ويرفض أن ينسبه لله. ومن هنا كذلك يرد اسم الطبيعة فى الكتب العلمية الأوربية حيث كان ينبغى أن يذكر اسم الله. ويرون هناك أ، ذكر اسم الله فى أى بحث علمى يفقده الطابع العلمى!!(1/144)
4- وفرضت عليهم السخرة ، أي أن يعملوا في فلاحة الأرض المملوكة للكنيسة يوماً واحداً من كل أسبوع سخرة بغير أجر .
5- وفرضت عليهم الخضوع المذل لرجال الدين ، فيتعين على الناس أن ينحتوا عند مرور الكاهن بهم حتى تلتصق جباههم بالأرض ، ولو كانت الأرض مملوءة بالوحل والطين .
وأضيف إلى ذلك كله أنه حين قامت الجماهير في أوربا في العصور الحديثة تطالب بحقوقها المسلوبة ، وتطلب رفع الظلم الواقع عليها من رجال الإقطاع ، وقفت الكنيسة إلى جانب الظالمين من رجال الإقطاع وهددت الجماهير المستعبدة بغضب الله عليها إن ثارت على ظلم الأسياد !
وكان لذلك كله آثار بعيدة في تنفير الناس من الكنيسة ، وبالتالي من الدين !!
رابعاً : الرهبانية :
( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) [ الحديد : 27 ] .
وقد تقبلها الله منهم - وإن كان لم يكتبها عليهم - لأنهم ابتغوا بها رضوان الله في مبدأ أمرهم . ولكنهم لم يرعوها حق رعايتها ، بل تحولت الأديرة التي يسكن فيها الرهبان والراهبات إلى مباءات من الفساد الخلقي أبشع بكثير مما يجري في داخل المجتمع على أيدي الفساق المنحلين !
وفي ذلك يقول الله :( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[ الحديد : 27 ]
وقد ظلت السيرة السيئة التي يتناقلها الناس عن الحياة الخاصة لرجال الدين تزداد سوءاً حتى صارت سخرية الساخرين ، وصارت كذلك منفرة للناس من الدين 0
خامساً : مهزلة صكوك الغفران :
وذلك حين زعم البابا أنه يضمن المغفرة للناس عند الله ويملك أن يدخلهم الجنة مقابل دفع مبالغ معينة من المال ! وكتب صكوكاً - اشتهرت باسم صكوك الغفران - يقول فيها : أنا البابا .. فلان .. أمنح المغفرة لفلان من الناس عن كل ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر ، وأنه أصبح بريئاً من الذنوب كيوم ولدته أمه ، وأنه يدخل الجنة يوم القيامة(1/145)
ويكون مباركاً عند الرب ! ثم راح يبيع هذه الصكوك للناس بالمال ! فصاروا يرتكبون من الذنوب والجرائم ما يرتكبون ، ثم يشترون صكوك الغفران من البابا متوهمين أنهم يدخلون بها الجنة وينالون بها مغفرة حقيقية من عند الله !
واتسعت الدائرة حين وكَّل البابا من دونه من رجال الدين في بيع الصكوك للناس حتى صارت المسألة مهزلة ضخمة لا تؤدي في النهاية إلى توقير الدين ولا رجاله المزعومين .
لذلك كله ظل نفور الناس من الدين يتزايد على مر العصور في أوربا حتى انسلخوا منه جملة في العصر الحديث !
سادساً : تشويه الكنيسة لصورة الإسلام فى نفوس الأوربيين :
قلنا من قبل : إن الكنيسة قامت تحارب الحركة العلمية في أوربا لأنها كانت تحمل معها تأثيراً إسلامياً واضحاً ، لأن المبتعثين الأوربيين إلى بلاد الإسلام كانوا يرجعون متأثرين بالروح الإسلامية ، وبما شاهدوه في بلاد المسلمين من تقدم علمي وحضاري . ونضيف هنا أن الكنيسة حين فزعت من هذا التأثير الإسلامي الذي يحمله المبتعثون معهم ، وخشيت من انتشار الإسلام في أوربا مع الحركة العلمية المستمدة من علوم المسلمين ، قامت بحملة واسعة لمحاربة هذا التأثير ، وجندت كتابها ليكتبوا ضد الإسلام ، ويشوهوا صورته النقية ، ويتهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتقولوا عليه الأقاويل ، ويتهموا المسلمين بكل كبيرة في الأرض ، ليحولوا بين أوربا وبين اعتناق الإسلام !
وكان لهذه الحملة المزدوجة ضد العلوم المستمدة من المسلمين وضد المسلمين والإسلام آثار بعيدة المدى في الحياة الأوربية .
فأما الحملة ضد الإسلام فقد أثرات بالفعل في نفوس الأوربيين فصدتهم عن اعتناق الإسلام ، وساعد على هذا الصد أن الهزيمة التي منى بها الصليبيون في حروبهم مع المسلمين كانت ما تزال تحز في نفوسهم . وأما الحركة العلمية والحضارية المستمدة من الأصول الإسلامية فقد مضت في سبيلها ؛ لأن الناس أحبوا ثمار العلم بعد أن أفاقوا من جهالتهم . وأحبوا ثمار الحضارة حين رأوها متاحة بين أيديهم . ولكن هذه الحركة العلمية والحضارية قامت مع الأسف على غير أساس من الدين ، بل معادية للدين في الحقيقة .(1/146)
ذلك أن مواقف الكنيسة السابقة كلها جعلت المثقف الأوربي المتحضر ينفر من الدين الذي تقدمه له الكنيسة وهو المسيحية ، كما أن حملة الكنيسة ضد الإسلام جعلت هذا المثقف لا يقبل الدخول في الإسلام حتى وإن كان يستمد أصول حضارته من المسلمين !
ومن هنا نشأ الموقف الشاذ الذي أدى إلى الأزمة المعاصرة التي تعيش فيها البشرية في الوقت الحاضر ، وهو قيام حركة علمية ضخمة ، وتقدم مادي واسع بعيد عن الدين ومعاد له ، وبعيد عن كل القيم الروحية والأخلاقية التي لا تستقيم بدونها حياة الإنسان على الأرض . وأصبح الأوربي كلما زادت علومه وتقدمه المادي يغريه ذلك بمزيد من البعد عن الدين !
سابعاً : دور اليهود فى إفساد الحياة الأوربية :
في هذا الموقف الشاذ الذي هيأته الكنيسة الأوربية بمواقفها المختلفة ظهر اليهود ليدفعوا عجلة الفساد دفعاً إلى الأمام .. فهم كما وصفهم الله فقال تعالى : ( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [ المائدة : 64 ] .
لقد رأى اليهود الفرصة سانحة لينقضّوا على النصرانية عدوهم القديم ، فأطبقوا عليها من كل جانب ، يبثون الأفكار الهدامة ، ويفسدون الأخلاق وينشرون كل رذيلة باسم التقدم والحضارة تارة وباسم الحرية الشخصية تارة أخرى حتى استطاعوا بالفعل أن يفسدوا الحياة الأوربية بكل أنواع الفساد التي لا تخطر على البال .
فمن ناحية قام ماركس - وهو يهودي - يدعو إلى الشيوعية والإلحاد ، وهو صاحب القولة المشهورة : الدين أفيون الشعوب !
ومن ناحية أخرى قام فرويد - وهو يهودي - بنشر نظرياته عن الجنس ، التي يدعو فيها إلى التحلل من الدين والأخلاق والتقاليد بحجة أنها تسبب الكبت والعقد النفسية والعصبية !
ومن ناحية ثالثة أشرف اليهود على الحركة الصناعية الرأسمالية في أوربا ليشغِّلوا فيها أموالهم بالربا ، وعن هذا الطريق سيطروا على كل نواحي الحياة الأوربية فأفسدوا فيها مفاسد جمة .(1/147)
1- فقد أغروا المرأة بالخروج إلى العمل في المصانع ، فلما كثر عدد النساء العاملات أغروهن بالتبرج والزينة والأزياء الفاضحة لتفسد أخلاقهن ويفسد الشباب معهن .
ومن وراء ذلك تكسب بيوت الأزياء وبيوت الزينة مكاسب مالية هائلة وترجع كلها في النهاية إلى اليهود .
2- أطلقوا شعارات " الحرية والإخاء والمساواة " وتحت شعار الحرية نشر الإلحاد والفساد الخلقي باعتبارهما من أبواب الحرية الشخصية للإنسان ! فمن شاء أن يلحد فليلحد .. ومن شاء أن يتبذل ويتحلل فليفعل ذلك ، وليس لأحد أن يتدخل في " حريته الشخصية " !
3- حطموا كيان الأسرة بإغراء المرأة بالخروج للعمل وجعلها تنظر إلى البيت والأمومة ورعاية النشء على أنها قيود سخيفة تحد من انطلاقها وحريتها ..
4- أنشئوا أجيالاً من الأطفال بلا أسر لأن الأم مشغولة بالعمل في الخارج ولا تجد فرصة حقيقية لتربية الأطفال ، فنشأت ظاهرة جنوح الأحداث التي تشكو منها كثير من المجتمعات الغربية .
تلك بعض المفاسد التي أحدثها اليهود في الحياة الغربية ، وما تزال عجلة الفساد دائرة تأتي كل يوم بجديد
ثامناً : مسئولية المسلمين عن ذلك كله :
وأخيراً لا بد لنا أن نذكر أن الأمة الإسلامية مسئولة مسئولية كبيرة عن هذا الفساد الحادث اليوم في الأرض . إن هذه الأمة لم يخرجها الله ويجعلها خير أمة في التاريخ لتعيش في حدود نفسها فحسب ، بل لتكون قائدة ورائدة لكل البشرية :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] .
وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) [ البقرة : 143 ] .
وقد ظل الخير يعم البشرية كلها حين كانت هذه الأمة قائمة برسالتها تنشر النور والهدى في آفاق الأرض ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله وتدعو إلى الإيمان .(1/148)
فلما تخلت هذه الأمة عن رسالتها في القرون الأخيرة ، وأصابها الضعف والوهن تبعاً لذلك ، فقد تولت قيادة البشرية أمة جاهلية لا تؤمن بالله ورسله ، ولا تحكِّم شريعته في الحياة ، ومن ثم أتيحت الفرصة لشياطين الجن والإنس أن يعيثوا فساداً في الأرض ، وينشروا الكفر بدلاً من الإيمان .
ولن تصلح الأرض مرة أخرى حتى يعود المسلمون عودة صادقة إلى دينهم الحق وعندئذ يتحقق وعد الله لهم بالاستخلاف والتمكين والتأمين كما تحقق مرة من قبل : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ النور : 55 ] .
هذه اللمحة من تاريخ أوربا تعيننا على تفهم الجو الحالي السائد في الغرب والذي انتشر فيها الإلحاد والفساد الخلقي .
لقد نشأ من العوامل الثلاثة سالفة الذكر - وهي موقف الكنيسة ودور اليهود في الإفساد وتخلي المسلمين عن رسالتهم - وجود جو معاد للدين في أوربا ، صالح لكل جراثيم الفساد أن تنتشر فيه .
ولعل أخطر هذه الجراثيم جميعاً هو الإلحاد والفساد الخلقي ؛ لأن الإنسان إذا بعد عن الله ، وعن تطبيق منهج الله في الأرض ، فلا حدود للهاوية التي يمكن أن ينحدر إليها . والواقع الأوربي الحاضر خير برهان على هذه الحقيقة المؤلمة ، فإن الانفصال القائم بين الدين والعلم ، وبين الدين والحياة ، قد أدى إلى فساد الفطرة البشرية ذاتها ، فضلاً عما أصابها من أمراض القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية وانتشار الجريمة والإدمان على الخمر والمخدرات حتى بين الشباب المراهقين .
وذلك كله راجع إلى البعد عن الله ، والبعد عن الدين 0
=================(1/149)
قضية الإلحاد لا تقوم على أساس من العقل ولا من العلم
إن قضية الإلحاد المنتشر في الأرض اليوم لا تقوم على أي أساس من العقل ولا من العلم ، في عصر يزعم لنفسه أنه يعيش في كل أموره على أساس من العقل وأساس من العلم .
فهؤلاء الملحدون حين تواجههم قضية الخلق ، وهي القضية التي تتحدى كل منكر لوجود الله ، يقولون إن " الطبيعة " هي التي تخلق !
وهذا كلام غير علمي ، وإن كان يَرِدُ على ألسنة من يسمونهم " علماء " في الجاهلية المعاصرة !
فما الطبيعة على وجه التحديد ؟!
يقول دارون : إن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق .
ثم يعود فيقول : إن الطبيعة تخبط خبط عشواء !
يا سبحان الله !
هذا الإله المزعوم الذي ينسبون إليه الخلق لا هو عاقل ولا هو حكيم .. فهو - على حد قول دارون - يخبط خبط عشواء وليس عنده تدبير منظم لعملية الخلق ، فكيف بالله يستطيع هذا الإله المتزعم المتخبط أن يدير الكون بهذه الدقة المعجزة التي تشهد آياتها في كل ما حولنا من شئون الكون والحياة ؟
وكيف استطاع هذا الإله المزعوم أن يخلق الإنسان على هذه الصورة ؟ إن الإنسان كائن عاقل ومدبر وله إرادة وغاية وهدف . فهل يستطيع شيء لا إرادة له ولا غاية أن يخلق كائناً له إرادة وغاية ؟! وهل يستطيع شيء لا عقل له أن يخلق كائناً مفكراً له عقل ؟!
أما العلم فلنسمع فيها شهادة بعض العلماء الذين فتح الله بصيرتهم على جانب من الحقيقة وإن كانوا يعيشون في ذات الجاهلية المعاصرة التي تلف بلاد الغرب .
يقول عالم الأحياء والنبات " رسل تشارلز إرنست " الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا : " لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة في عالم الجمادات ، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض(1/150)
الجزيئات البروتينية الكبيرة ، وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بُذِلَت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين .. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده .. ولكنه إذ يفعل ذلك فإنه يسلم بأمر أشد إعجازاً وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله الذي خلق الأشياء ودبرها .
" إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وإن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيماناً راسخاً " (1) 0
ويقول : " أ. كريسي موريسون " رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان " الإنسان لا يقوم وحده " : " ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل ، بالغاً هذه الدقة الفائقة ؛ لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام ، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة النبات .
((ولو كان الهواء أرفع (2) كثيراً مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلاً في الثانية ، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق . ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ، ولكانت العاقبة مروعة . أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة ، كان يمزقه إرباً من مجرد حرارة مروره " .
__________
(1) من مقال ((الخلايا الحية تؤدى رسالتها)) من كتاب الله يتجلى في عصر العلم - (2 / 83)
(2) يقصد أقل كثافة 0(1/151)
" إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي الذي يحتاج إليها الزرع ، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ، دون أن تضر بالإنسان إلا إذا عرَّض نفسه لها مدة أطول من اللازم . وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل والنباتات وأخيراً الإنسان نفسه " 0 (1)
ويقول من مكان آخر من الكتاب :
" إننا نقترب فعلاً من عالم المجهول الشاسع ، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية . ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون ؛ لأن هذا العالم العظيم خضع للقانون .
" إن ارتقاء الإنسان إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي ، ودون قصد إبداعي .
" وإذا سلمنا بوجود القصد ، فإن الإنسان قد يعتبر جهازاً ، ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز ؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه . والعلم لا يعلل من يتولى إدارته وكذلك لا يزعم أنه مادي .
" لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبساً من نوره " (2) 0
ويقول سير " أرثر طومسون " المؤلف الأسكتلندي الشهير تحت عنوان " العلم والدين " : " .. نحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى . ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول : إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة
__________
(1) - الله يتجلى في عصر العلم - (1 / 27)
(2) ترجمة محمود صالح الفلكى بعنوان : ((العلم يدعو إلى الإيمان)) و الله يتجلى في عصر العلم - (1 / 94)(1/152)
وأرضاً جديدة ، وحفزه من ثَمَّ إلى غاية جهده العقلي ، فإذا به في كثير من الأحيان لا يجد السلام إلا حين يتخطى مدى الفهم ، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله " ( ) .
ولسنا نذكر هذه الشواهد لنستدل بها على وجود الله ، فعندنا كتاب الله يكفينا ، والفطرة التي فطر الله الناس عليها تشهد بذاتها . ولكنا نذكرها فقط لأن بعض الذين فتنهم التقدم العلمي في هذا القرن يظنون أن العلم يقتضي عدم الإيمان بالله !!
آثار الإلحاد فى واقع البشرية المعاصر
إن هذا الموجة العاتية من الإلحاد ، التي تسود أوربا ، شرقها وغربها ، وتنتقل بالعدوى إلى بقية أرجاء الأرض ، قد خلّفت من الفساد في الحياة البشرية ما لا مثيل له من قبل ؛ لأن العالم اليوم قد تداخلت قضاياه وتشابكت ، وصار ما يحدث في أي جزء منه يؤثر بالضرورة في بقية الأجزاء ، فكيف إذا كان الأمر بهذه الخطورة وعلى هذه الدرجة من التأثير !
يقول الله في كتابه الحكيم : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [ الروم : 41 ] .
وأي عمل يمكن أن يعمله الإنسان أسوأ من الإلحاد ؟ وأي فساد أعظم من الفساد الناجم عنه ؟
وإليك بعض النتائج التي ترتبت على هذا الإثم الخطير في حق الله : 0
1- القضاء على القيم الروحية والمثل العليا :
إن الإنسان الذي لا يؤمن بوجود الله لا بد من أن تنحط معاييره وقيمه ، ونظرته إلى كل شيء في هذه الحياة . ذلك أن الإيمان هو الذي يقوي الجانب الروحي من الإنسان ويربطه بالمثل العليا ، إذ يربط القلب البشري بالله .
المؤمن هو الذي يعرف الهدى الحقيقي لحياته في الأرض ، لأن الله يقول له : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
فيعلم من ذلك أنه خلق ليعبد الله لا ليعبد شيئاً آخر غير الله .(1/153)
والإنسان لا بد أن يعبد .. هكذا خلقه الله عابداً .. والعبادة جزء أصيل من فطرته . فإما أن يعبد الله ، وإما أن يعبد شيئاً غير الله .
فإن عبد الله فقد التزم بطاعته ، ونفد أوامره ، فتستقيم حياته في الأرض ، وينعم في الآخرة بجنة الله ورضوانه ، لأن الله يوجهه في كتابه الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى كل جميل من الخصال . يوجهه إلى عمل الخير والامتناع عن الشر . يوجهه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه . يوجهه أن يكون أميناً صادقاً . يوجهه أن يكون عادلاً قواماً بالقسط . يوجهه أن يكون نظيفاً في سره وعلانيته ، نظيف الثياب نظيف البدن نظيف المشاعر نظيف السلوك ..
وأما إن كان لا يعبد الله ، فسيعبد شيئاً آخر لا محالة .
يعبد بشراً مثله ، يضع له تشريعات من عند نفسه يحل فيها ويحرم على هواه .. فيطيعه .
أو يعبد شهواته .. شهوة المال أو شهوة الجنس أو شهوة السلطان .
أو - في واقع الأمر - يعبد الشيطان ؛ لأنه في الحقيقة وجهة كل عابد لغير الله : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [ يّس : 60 ، 61 ] .
فلننظر إلى الملاحدة في شرق الأرض وغربها ، ماذا يعبدون ، وإلى أي شيء توجّههم عبادتهم .. ؟
الشيوعي عبد للدولة ، وللنظام الشيوعي ، وللحزب الحاكم ، وللزعيم ، لأنه لا يملك أن يفتح فمه بكلمة واحدة ضد واحد من هؤلاء ، وإلا كان نصيبه الموت . فهو - رضي أو كره - مستذَل لهذه الأرباب كلها من أجل لقمة الخبز ، من أجل أن يعيش (1) 0
والغربي عبدٌ للمال ، وللشهوات . المال هو الذي يحركه ، فلا يتحرك إلا من أجل الكسب المادي . والمال هو القيمة التي يقوم بها الإنسان . فوجوده ومكانته في المجتمع
__________
(1) لقد انهار النظام الشيوعى بحمد الله، ولكن له أذناباً يحاولون بعثه من جديد !(1/154)
مرهونان بمقدار ما يتكسب من مال . والله يقول : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [ الحجرات : 13 ] .
وهم يقولون : إن أكرمكم عندنا أغناكم .. ولو كان الغنى قد جاء من السلب والنهب والسطو على أقوات ملايين من البشر في المستعمرات التي يستعمرها الغرب وينهب أقواتها ، وامتصاص دماء الملايين من العمال الذي يكدّون ويكدحون ، ثم يسرق عرقهم وجهدهم هذا الرأسمالي ليتجبر بها في الأرض .
ثم .. أين ينفقون أموالهم التي يجمعونها على هذه الصورة ويصبحون عبيداً لها في النهاية ؟
إما أن ينفقونها في شهوات الجسد الجامحة التي تنحط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان . وإما أن ينفقونها في الخراب والتدمير في الصراع الوحشي الدائر في الأرض !
تلك عباداتهم ، وذلك هو السلوك المترتب على عبادتهم . فمتى يشعرون بالقيم العليا أو يستجيبون لدواعيها ؟
2- الإخلال بالتوازن فى حياة الإنسان :
قال الله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) [ التين : 4 - 6 ] .
لا يستطيع الإنسان أن يحافظ على فطرته التي فطره الله عليها " في أحسن تقويم " إذا بعد عن سبيل الله . بل إنه عندئذ يفقد توازنه فيقع " أسفل سافلين " .
ذلك أن الإيمان هو الذي يحفظ التوازن بين العنصرين المكونين لخلق الإنسان ؛ قال الله تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) [ صّ : 71 ، 72 ] .
فالإنسان مكون كما يخربنا العليم الخبير من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله .
فإذا كفر الإنسان وألحد فقد أغلق النافذة التي يستمد منها النور ، ولم يبق له إلا عتامة الطين وغلاظة الحسّ ، أي لم يبق له إلا الماديات والمحسوسات . إليها يتطلع ، وفيها ينفق الجهد . وإليها يعود . وعندئذ تجذبه ثقلة الأرض فلا يستطيع أن يتوازن إزاءها ؛ لأن الذي يمنحه التوازن إزاءها هو انطلاقة الروح التي تصل قلبه بالله ، وتجعله يؤمن باليوم(1/155)
الآخر ويعمل حسابه في جميع أفعاله وأقواله فلا يسفل ولا يتدنى . فإذا فقدها فقد توازنه وأصبح أسفل سافلين كما يخبر الله عنه في كتابه الكريم .
والذي نراه اليوم في الجاهلية المعاصرة هو مصداق ذلك القول ، فلأي شيء يسعى الناس ، وعلى أي شيء يتصارعون ؟ مطالب الجسد ومتاع الجسد وشهوات الأرض . وفي النهاية يفقد الإنسان إنسانيته ويعود كالحيوان ، بل أسوأ من الحيوان : ( أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) [ الأعراف : 179 ] . 0
3- القضاء على وازع الضمير :
الضمير هو " النفس اللوامة " التي أقسم بها الله جل شأنه في كتابه العزيز : ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) [ القيامة : 1 ، 2 ] .
وهذا القسم من الله العظيم الجليل جل شأنه له دلالته ، فإن الله العظيم لا يقسم إلا بشيء عظيم (1) .فإذا أقسم الله سبحانه وتعالى بالنفس اللوامة ، التي تلوم الإنسان على فعل الشر وتدفعه إلى عمل الخير ، فلا شك أن هذه النفس ذات وزن كبير في ميزان الله . وإنها لكذلك ، لأنها هي المحور الحقيقي لارتقاء الإنسان ومحافظته على قيمه العليا ، كما أنها المحور الحقيقي لاستقامة أمر البشرية في واقع حياتها .
فما الإنسان إذا فقد النفس اللوامة ؟ إن نفسه حينئذ هي النفس الأمارة .. أي الأمارة بالسوء .. منها ينبع السوء ، ومنها ينتشر الشر في أرجاء الأرض .
والنفس الأمارة بالسوء لا يهذبها ولا يرتقي بها ، ولا يرفعها إلى مرتبة النفس اللوامة إلا الإيمان بالله ، الذي يجعل الإنسان مستحقاً لرحمة الله المطهرة للنفس من دنسها : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) [ يوسف : 53 ] .
أما الإلحاد والكفر فهو يذهب بالنفس اللوامة ولا يبقى إلا النفس الأمارة بالسوء .
__________
(1) يأتى القسم فى القرآن منفياً أحياناً ومثبتاً أحياناً أخرى وكلاهما قسم. من أمثلة النفى: ((لا أقسم بيوم القيامة))، ((فلا أقسم بمواقع النجوم(75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)) ومن أمثلة الإثبات: ((والضحى (1) والليل إذا سجى))، ((والفجر(1) وليلال عشر))0(1/156)
ولقد يخيّل إلينا لأول وهلة أن أوربا الملحدة ذات ضمير . فالتاجر هناك لا يغش ولا يخدع . والعامل لا يكذب ولا يخلف مواعيده . وأمور التعامل الفردي تقوم على الصدق والأمانة .
وهذا صحيح في مظهره . ولكنها في الحقيقة ليست أخلاقاً بالمعنى الحقيقي للأخلاق . إنما هي أخلاق التاجر الذكي الذي يحرص على كسب ثقة الزبون إلى آخر المدى ، فيتودد إليه بخصال الصدق والأمانة والإتقان .
أما المحك الحقيقي للضمير فله مجال آخر .
فأين الضمير في معاملة الزنوج في أمريكا بالفظاظة والغلظة إلى حد القتل في عرض الطريق ؟
وأين الضمير في استعمار الشعوب ونهب خيراتها وإبقائها في حالة من الفقر والجهل والمرض والضعف والهوان ؟
وأين الضمير في موقف هيئة الأمم المتحدة من قضية فلسطين ، وتحويل أهلها إلى لاجئين ؟
وأين الضمير في تقتيل المسلمين في الفلبين وغيرها من بقاع الأرض ؟
وأين الضمير في إلقاء فائض القمح في بعض البلاد في الأنهار والبحار لكي لا ينخفض سعره في الأسواق بينما الملايين في بقاع الأرض يتضورون جوعاً ولا يجدون حبة من القمح ؟
وأين الضمير في إغراء الناس بالفساد الخلقي على أوسع نطاق لكي يكسب بضعة ألوف من الناس ، ملايين الملايين من الأموال من أدوات الزينة والأزياء والأفلام السينمائية والصور الخليعة والخمر والمخدرات ؟
4- اختلال الأمن والسلام فى المجتمع العالمى
لعل صورة العالم اليوم هي أسوأ صورة له في التاريخ ..
فلم تمرّ على العالم فترة من فقدان السلام واضطراب الأمن أحلك مما مر به في هذا القرن الأخير .(1/157)
الحرب العالمية الأولى قُتل فيها عشرة ملايين من الشباب ، والحرب العالمية الثانية قُتل فيها أربعون مليوناً من البشر .. ولم تستقر أحوال العالم ما بين الحربين ولا قبلهما ولا بعدهما إلى هذه اللحظة .
والصراع الدائر لا يكف في أطراف الأرض ، ولا تكاد تجد مكاناً ينعم بالاستقرار .
ومن أجل أي شيء يقوم هذا الصراع ؟
هل هو صراع لإحقاق الحق في الأرض ونشر العدل بين الناس ؟
هل هو صراع لإعطاء الضعيف حقه ووقف القوي عن العدوان على الضعيف ؟
ليس هناك صراع واحد من أشكال الصراع القائمة بين الدول اليوم يدور حول إحقاق الحق ونصرة المظلوم .. إنما كلها صراع دائر على مزيد من التسلط ومزيد من العداون ! الدول التي تسمي نفسها " الدول الكبرى " تتصارع فيما بينها .. ولكن على أي شيء ؟ على حيازة أكبر عدد من " المستضعفين " والتسلط عليهم ! كما تتصارع الذئاب حول الفريسة ، ينهش بعضها بعضاً لا دفاعاً عن الفريسة لتنجو ، ولكن ليستأثر بها كل ذئب لنفسه دون بقية الذئاب .. والفريسة مأكولة أيّا كانت نتيجة الصراع .
قانون الغاب هو الذي يحكم الناس في الأرض في غيبة من شرع الله .
قانون الغاب يقول : الغلبة للقوة لا لصاحب الحق ، القوي يأكل الضعيف . وشرع الله يقول : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ ) [ النحل : 90 ] .
يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ المائدة : 8 ] .
ولكن أنَّى للكفار والملحدين أن يطبقوا قانون الله ؟! بل الأحرى بهم أن يطبقوا القانون الذي تتعامل به الوحوش في الغاب ، لأنهم حين يفقدون صلتهم بالله يفقدون إنسانيتهم ويصبحون مثل تلك الوحوش .
وليس الأمن الدولي وحده هو الذي فقده الناس حين قطعوا صلتهم بالله رب الكون والإنسان .(1/158)
إن مجتمعاتهم كذلك قد فقدت الأمن .
فإحصاءات العالم كلها تقول إن نسبة الجريمة في تزايد مستمر . سواء جرائم القتل أو جرائم اغتصاب الأموال واغتصاب الأعراض .
وفي كل عام تجتمع المؤتمرات في شتى بقاع الأرض لتتدارس هذه الظاهرة الخطيرة ، يحضرها رجال القانون ورجال الاجتماع وعلماء النفس وعلماء الجريمة وغيرهم من " العلماء " .
ثم تطلع الإحصاءات الجديدة تقول : إن نسبة الجريمة تزداد باستمرار .
بل ليس الأمن الدولي ولا أمن المجتمع وحدهما هما اللذان أصابهما الخلل والاضطراب .
إنه الأمن النفسي كذلك ، أمن كل نفس بذاتها ، وفي حدود نفسها !
ونظرة إلى الإحصاءات تطلعنا على هذا الأمر . فالإحصاءات لا تقول إن نسبة الجريمة وحدها هي التي تتزايد ، إنما تقول كذلك : إن نسبة أمراض القلق والجنون والانتحار والاضطربات النفسية والعصبية هي كذلك في تزايد مستمر !
وصدق الله العظيم ، فقد أخبرنا أن المصدر الحقيقي لطمأنينة النفس هو ذكر الله والاتصال بالله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ الرعد : 28 ] .
فمن أين للناس طمأنينة القلب حين يبعدون عن الله ، بل حين يشمئزون من ذكر الله : ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) [ الزمر : 45 ]
5- فساد الفطرة الإنسانية والهبوط إلى مستوى الحيوان :
أين " الإنسان " في هذه الدوامة التي تلف البشرية اليوم في بعدها عن الله ؟
هذا الشاب الذي نكث شعره وأسدله ولبس الكعب العالي والملابس الملتصقة بوسطه ، هل هو " إنسان " ؟
هذه الفتاة المسترجلة التي تدخن وتشرب الخمر وتلبس ملابس الفتى وتتشرد معه في كل مجال .. هل هي " إنسانة " ؟(1/159)
هؤلاء النساء الكاسيات العاريات المتبرجات في الطريق بكل زينة يستعرضن أجسادهن لكل نظرة جائعة وسعار مجنون . هل هن آدميات على مستوى " الإنسان " ؟
هؤلاء الرجال الذين لا يغارون على أعراضهم . لا على نسائهم ولا بناتهم ولا أخواتهم ، ولا على أعراض الآخرين ، لأن قضية العرض كلها لا تخطر لهم على بالٍ ، هل بقي لهم شيء من كرامة " الإنسان " ؟
وصنوف غيرها وصنوف من الانتكاس إلى مستوى الحيوان ، بل أسوأ من الحيوان .. هل تعتبر في عداد " الإنسان " ؟
لقد تجاوز الفساد حدود الأخلاق : ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ الملك : 22 ] .
===================(1/160)
موقف المسلم من قضية الإلحاد
إن هناك ظروفاً معينة كما رأينا قد أثرت في الحياة الأوربية وأدت إلى انتشار الإلحاد هناك .
ولسنا نقول : إن هذه الظروف تبرر ما حدث هناك من الكفر والتبجح به . فلا شيء على الإطلاق يبرر الكفر بالله ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) [ القيامة : 14 ، 15 ] .
وقد أعطى الله الأوربيين عقولاً يفكرون بها كما أعطى كل البشر ، وأرسل رسله لبيان الحق : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) [ النساء : 165 ] .
فإذا أبطل الناس عمل عقولهم التي أعطاهم الله إياها ، ولم يستمعوا لرسلهم أو حرفوا كلامهم ، فهم مسئولون عن ذلك كله أمام الله يوم القيامة ، ولا يغنيهم يومئذ أن يقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) [ الأعراف : 172 ] .
ولكننا نقول فقط : إن هذه هي الظروف الواقعية التي أحاطت بالناس في أوربا وكان من نتائجها انتشار الإلحاد بينهم هناك .
فما موقف المسلم من قضية الإلحاد ؟
إن موقفه واضح تماماً . فهو يرد هذه القضية من أساسها ، ويبطلها إبطالاً كاملاً . فليس في أصول دينه ولا في تاريخه ما يؤدي إلى شيء مما حدث للناس في أوربا من أشكال الاختلال .
فأصول الدين قد تكفَّل الله بحفظها من الضياع وحفظها من التحريف ، يقول الله عن القرآن : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] .(1/161)
كذلك قيَّض الله لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم رواة حافظين وعلماء مدققين حفظوا السنة ومحصوا روايتها ونفوا الدخيل منها وأبقوا الصحيح ودوَّنوه .
ومن هنا لم يحدث في العقيدة تحريف كما حدث في عقائد أهل الكتاب .
ثم إن الدين المنزل من عند الله بقي على صورته المنزلة عقيدة وشريعة ، فلم يقسم كما فعل النصارى في دينهم ، فجعلوه عقيدة منفصلة عن الشريعة . وبقي الإسلام قروناً عديدة يمارس في واقع الأرض بصورته المتكاملة ، فيحكم علاقة العبد بالرب ، وعلاقات الحاكم بالمحكوم ، وعلاقات الناس بعضهم ببعض بغير تفريق بين جزء من هذا الدين وجزء .
وحتى حين انحرف أغلب المسلمين في القرون الأخيرة عن حقيقة الإسلام ففصلوا الدين عن الدولة ، ووقعوا بذلك في شرك الطاعة والاتباع ، فإن انحراف قرن أو قرنين لا ينفي واقع اثني عشر قرناً كان المسلمون فيها يعدون الإسلام عقيدة وشريعة بغير تفريق ، بعكس ما حدث عند النصارى في أوربا حيث لم يطبق دين الله في صورته المتكاملة قط .
ثم إن الإسلام ليست له " كنيسة " كالتي قامت في أوربا تحرف الدين المنزل وتفسده . وليس له " رجال دين " ولا " كهنوت " يحتفظون بالأسرار ويستحوذون بهذه الدعوى على أرواح الناس وعقولهم . إنما فيه علماء وفقهاء في أمور الدين يستنبطون الأحكام المستمدة من الشريعة الثابتة المحفوظة ، تنفيذاً لأمر ربهم : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [ التوبة : 122 ] .
وهؤلاء العلماء والفقهاء يجتهدون ، يخطئون ويصيبون ، وليس لأحد منهم قداسة كرجال الكهنوت ، ولا يحلون ولا يحرمون من دون الله كما وقع في تاريخ النصرانية . والناس يحترمونهم ويوقِّرونهم لعلمهم وفضلهم ، ولكنهم لا يتخذونهم أرباباً من دون الله كما صنع أهل الكتاب بأحبارهم ورهبانهم : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [ التوبة : 31 ] .(1/162)
ثم إن الإسلام لا يعرف الفصل بين الدين والعلم ، ولا بين الدين والحياة كما وقع في حياة النصارى في أوربا .
إن الإسلام دين الفطرة . وليس في الفطرة انفصال بين الدين والعلم ، ولا بين الدين والحياة !
ففي النفس البشرية نزعة فطرية إلى التدين ، بما أودع الله في الفطرة من التوجه إلى الخالق وعبادته ، ونزعة فطرية إلى تعلم العلم واستخدام ثماره في عمارة الأرض : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) [ البقرة : 31 ] .
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) [ الجاثية : 13 ] .
ولا تعارض في الفطرة السوية بين هاتين النزعتين الفطريتين ، بل تسير النزعة إلى الإيمان والنزعة إلى المعرفة جنباً إلى جنب ، وتتجهان وجهة واحدة .
وإذا كانت الجاهلية الأوربية المعاصرة قد فصلت بين هاتين النزعتين الفطريتين وأقامت بينهما العداء والصراع ، وأنشأت غروراً عقليّا وفتنة بالعلم تزيد الإنسان بعداً عن الله كلما زادت حصيلته من العلوم والمعارف ، كما قال الله في وصف الجاهليات السابقة في التاريخ : ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) [ غافر : 83 ] .
إذا كانت الجاهلية المعاصرة قد صنعت ذلك فإن الإسلام لا يعرف هذه التفرقة على الإطلاق ، وكتاب الله مليء بالتوجيهات للناس أن يتعلموا ويتدبروا في خلق الله ويستنبطوا السنن التي يجري بها نظام الكون ويستفيدوا منها ، ويكفي أن يكون الأمر الأول الموجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذه الكلمة العظيمة : ( اقْرَأْ ) التي تحمل التوجيه الشامل لطلب المعرفة . ثم يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستزيد من المعرفة : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) ، ويقول للمسلمين جميعاً : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ(1/163)
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [ البقرة : 164 ] .
ويقول لهم : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ) [ الإسراء : 12 ] . 0
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَاللهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللهْفَانِ " (1) 0
ولم يعرف تاريخ الإسلام الواقعي تلك الفرقة المصطنعة بين الدين والعلم ، ولم يجر بينهما عداء ولا صراع ، إنما ازدهرت الحركة العلمية الإسلامية تحت ظل العقيدة ، بل انبثقت منها انبثاقاً أول مرة وظلت تنمو في ظلها على الدوام .
وكذلك لم يوجد في التاريخ الإسلامي ذلك الغرور العقلي ولا تلك الفتنة بالعلم التي تبعد الإنسان عن الله بمقدار ما يحصل من العلم !! إنما العكس في حسّ المسلم هو الصحيح . فالعلم منحة من الله . هو الذي علم آدم من قبل : قال تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) [ البقرة : 31 ] .وقال تعالى : ( الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) [ الرحمن : 1 - 4 ] .
فكلما ازداد المسلم علماً زاد قرباً من الله وشكراً له على ما أولاه من نعمه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [ فاطر : 28 ] .
كذلك لا انفصال في الإسلام بين الدين والحياة .
لا رهبانية فى الإسلام
عن حُمَيْدَ بْنِ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 194) (1544 ) صحيح لغيره(1/164)
آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » . (1) 0
وإذا كانت الجاهلية الأوربية قد فصلت بين الدين وأوجه نشاط الإنسان المختلفة فى الحياة وأوجدت حالة نفسية وعقلية تزداد بعداً عن الله كلما فتحت عليها أبواب الرزق والتمكين فى الأرض، فأصبحوا كما وصف الله قوم هود : ((أتبنون بكل ريع آية تعبثون(128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون(131) واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون(132) أمدكم بأنعام وبنين(133) وجنات وعيون(134) إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم(135) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين(136) إن هذا إلا خلق الأولين (137) وما نحن بمعذبين))(الشعراء:128-138)0
وإذا كانت الجاهلية الأوربية قد فصلت بين الدين وأوجه نشاط الإنسان المختلفة في الحياة وأوجدت حالة نفسية وعقلية تزداد بعداً عن الله كلما فتحت عليها أبواب الرزق والتمكين في الأرض ، فأصبحوا كما وصف الله قوم هود : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) [ الشعراء : 128 - 138 ] .
إذا كانت الجاهلية الأوربية قد صنعت ذلك فإن الإسلام - دين الفطرة - لا يعرف هذه التفرقة ولا يقرها .. فالله يقول للناس : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) [ الأعراف : 31 ] .
ويقول : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [ الأعراف : 32 ] .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5063 )(1/165)
ويقول : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
ويقول : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [ القصص : 77 ] .
ويقول : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) [ الملك : 15 ] .
لذلك قامت الحركة الحضارية الإسلامية في ظل العقيدة بلا صراع بينهما ولا عداء ، وكانت بذلك فريدة في التاريخ . حركة تعمِّر الأرض ، وتجوب الآفاق وتكشف مجاهيل الأرض ، وتستثمر خيراتها بالفلاحة والصناعة والتجارة ، وهي في كل هذا عابدة لله ، تنشر النور الرباني في الأرض بنشر العقيدة الإسلامية ، وتقيم العدل الرباني بين الناس بتطبيق شريعة الله .
ليس في أصول هذا الدين ولا في تاريخه شيء واحد مما حدث في أوربا وانتهى هناك بالإلحاد والبعد عن طريق الله . إنما يقوم الإسلام ابتداء على ربط القلب البشري بالله ، وتوثيق هذه الرابطة في كل عمل أو فكر أو شعور : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
ومن هذه الرابطة الحية التي تربط القلب البشري بالله ، ينطلق المسلم يتعلم ويعمل ، يبتغي من فضل الله ويعمر الأرض ، ويأخذ نصيبه من المتاع المعقول المحلل له من عند الله شاعراً بذلك كله أنه يقوم بدور الخلافة في الأرض : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30 ] .
وقائم بغاية وجوده في الأرض من عبادة خالصة لله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
لذلك لا يتصور أن يتجه مسلم واحد في الأرض إلى الإلحاد !
بل إنها الطامة الكبرى أن يجيء " مسلمون " من الذين كان المفروض فيهم أن يكونوا رواد البشرية إلى الإيمان وإلى الحق وإلى المنهج الرباني .. يجيء هؤلاء " المسلمون ! "(1/166)
فيتخلون عن دينهم الذي أنعم الله به عليهم حيث قال لهم : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : 3 ] .
ويروحون يقلدون أوربا فيما وصلت إليه في جاهليتها من سوء ، فيعتنقون الأفكار الهدامة المنتشرة هناك ، ويتخذون الإلحاد مثلهم ، ويغرقون مثلهم في التحلل الخلقي ويدعون إليه
ألا إنها الهزيمة الداخلية الكامنة في نفوسهم إزاء الغرب ، هي التي تؤدي بهم إلى هذا التليد الأعمى : تقليد العبيد وتقليد القرود !
وما يمكن لإنسان عاقل ، فضلاً عن الإنسان المسلم ، أن يضع قدمه مختاراً في الهاوية ، إلا أن يكون قد أصابه خبل في فكره .. أو أصابه المسخ الذي يشوِّه الفطرة ويفسد طبائع النفوس 0
- - - - - - - - - - - - - -(1/167)
الباب الثانى
الإيمان بالملائكة
? وظائف الملائكة
? أثر الإيمان بالملائكة فى حياة الإنسان
الإيمان بالملائكة جزء من الإيمان . فلا يتم إيمان المسلم إلا إذا آمن بوجودهم جملة ، وبمن ورد ذكرهم في القرآن والحديث على وجه التفصيل ، وبأعمالهم التي كلفهم الله إياها .
وجوب الإيمان بالملائكة وكونه جزءاً من الإيمان وارد في نصوص كثيرة من القرآن والحديث .
فما جاء في القرآن قوله تعالى : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [ البقرة : 177 ] .
وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً ) [ النساء : 136 ] .
وقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 97 ، 98 ] . 0
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، قَالَ : وَرَدْنَا الْمَدِينَةِ ، فَأَتَيْنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ، فَقُلْنَا : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، إنَّا نُمْعِنُ فِي الأَرْضِ فَنَلْقَى قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ ، فَقَالَ : مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ ، قُلْنَا نَعَمْ مِمَّنْ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ ، قَالَ : فَغَضِبَ حتَّى وَدِدْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا لَقِيت أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَأَنَّهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ ،(1/168)
ثُمَّ قَالَ : إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُك ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : أَجَلْ فَقَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ رَجُلٌ جَيِّدُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ الْوَجْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا الإسْلامُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تُقِيمُ الصَّلاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ وَتَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، قَالَ : صَدَقْت ، فَمَا الإِيمَانُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيُّينَ وَبِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ ، قَالَ : صَدَقْت ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيَّ بِالرَّجُلِ ، قَالَ : فَقُمْنَا بِأَجْمَعِنَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرُ دِينَكُمْ." (1) 0
والله يبين لنا أن خلق الملائكة وتعدد أشكالهم هو من آياته الدالة على قدرته سبحانه وتعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ فاطر : 1 ] .
ومعرفتنا بآيات الله تزيدنا إيماناً به سبحانه وتعالى ، فنعظمه ونوقره سبحانه بما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، ونعبده حق عبادته ، فنفوز برضاه وجنته .
ولا شك أن في عالمنا المحسوس آيات كثيرة تدل على قدرة الله المعجزة ، كل منها كفيل بأن يهدي البصيرة المتفتحة إلى عظمة الله . لذلك يوجهنا الله إليها في كتابه الكريم : ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) [ الذاريات : 20 ، 21 ] .
ولكن إيماننا بعظمة الله وقدرته المعجزة يزداد ولا شك حين نعلم أنه ليس العالم المحسوس وحده هو كل ما خلق الله من كائنات . وأن هنالك عوالم أخرى غير مرئية لنا هي من خلق الله كذلك ، وأن فيها من العجائب بالنسبة لتقديرنا البشري ما يعجز الخيال عن تصوره فضلاً عن استيعابه .
فإذا علمنا فوق ذلك أن هذه المخلوقات ذوات أجنحة ، فإن حسَّنا ليؤخذ - خاصة بعد أن نعرف مهامها وأعمالها - لأن المخلوقات ذوات الأجنحة المعلومة لنا في عالمنا المحسوس من طيور أو حشرات طائرة ، مختلفة تماماً عن هذه المخلوقات التي تقوم بأعمال هائلة في السموات والأرض .
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (11 / 44) (31068) صحيح وأصله في مسلم(1/169)
فمعرفة الإنسان بأن هذه المخلوقات الهائلة تطير مباشرة بأجنحتها يهز وجدانه بلا ريب ، ويجعله يحس - من خلال عجزه - بالقدرة المعجزة التي خلق الله بها الملائكة .
فإذا زاد علمه أكثر من ذلك فعرف أن الملائكة ليسوا على مرتبة واحدة من حيث عدد أجنحتهم ، فمنهم ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، فإنه يزيد تعظيماً لله الخالق الذي يزيد في الخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير .
وإذا عرف بعد ذلك كله أنها مخلوقة من النور كما روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خُلِقَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ». (1) .(أى من الطين) فإن عجبه لا يقف عند حد. فالنور كما يراه الإنسان فى عالمه المحسوس أشعة تنطلق مستقيمة فى الفضاء، أما أن يكون من هذا النور مخلوقات تتحرك وتتكلم، وتتشكل بأشكال شتى (2) ، وتقوم بأعمال معينة تكلفها، فأمر وراء إدراك الحس0
وحقيقة أن خلق الله آدم من قبضة من طين الأرض معجزة هائلة يقف الحسّ أمامها عاجزاً متحيراً ؛ لأن النقلة بعيدة بين قبضة الطين وبين هذا البشر ذي الحواس والإدراك والقصد والإرادة والقدرة على تعمير الأرض واستخدام طاقات الكون المسخرة له من عند الله .
ولكن هذه النقلة على ضخامتها أيسر في حسّ الإنسان من خلق الملائكة من النور . فالطين على أي حال مادة مجسمة ، وجسم الإنسان مادة ماثلة للعيان . أما النور فإنه ليس مادة .. فكيف يكون مادة للخلق إلا أن تكون قدرة الخالق المبدع متجاوزة كل حد يستطيع العقل أن يصل إليه . فتبارك الله أحسن الخالقين .
وحين يأخذ الإنسان حظه من استشعار عظمة الله الخالق المبدع ، فإن قلبه يأنس لهذه المخلوقات ترفّ حوله وتملأ جنبات الكون .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7687 ) -المارج : لهب النار المختلط بسواها
(2) جاء فى حديث جبريل: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. .... قَالَ لِى « يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ».. رواه مسلم0(1/170)
وفرق كبير في حس الإنسان بين أن يكون هذا الكون من حوله خاوياً موحشاً وبين أن يكون عامراً بمخلوقات حية ، بينه وبينها اختلاف .
فإذا كانت المخلوقات الحية في الأرض من نبات وحيوان - والحيوان على الأخص بما فيه من الإنسان من أوجه شبه وأوجه اختلاف - تؤنس الإنسان وتبهج قلبه ، وتنفي عنه الشعور بالوحشة في سكناه لهذه الأرض ، فيروح يتأملها ويتملاها ، ويفرح كلما لقي واحداً منها على مقربة منه .
إذا كان هذا يحدث بالنسبة لعالم الأرض المحدود المحسوس ، فنه حري أن يحدث بالنسبة للكون الكبير ، ما يقع منه في دائرة الحس وما يقع وراء الحس من آفاق .
فإذا كانت المخلوقات الطينية تؤنس وحشته في الأرض ، فإن تلك المخلوقات النورانية تؤمس وحشته في الكون الواسع الذي هو جزء منه ، فيصبح أروح نفساً وأكثر طلاقة مما لو حبس نفسه في دائرة المادة والحس
ثم إن الملائكة مشغولة ليل نهار بالتسبيح للملك القدوس الواحد القهار : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) [ الأنبياء : 20 ] .
ومن هنا نعرف أن أهم ما يقومون به تسبيح الله وتعظيمه وتنزيهه حيث هيأهم لهذا .
ألا ما أورعها صورة !
إن الإنسان يحاول أن يسبح لله فترة من النهار أو جانباً من الليل فيفتر ولا يقوى على المضي في التسبيح ، لأن له جسداً يريد أن يأكل وأن يشرب وأن يرتاح وينام ، ولأن له فكراً لا يكف عن الانشغال بمطالب الحياة الدنيا .
ومن رحمة الله بالإنسان أن لم يكلفه ما كلف الملائكة من التسبيح الدائب ليل نهار ! فإنه - سبحانه - وقد خلق للإنسان جسداً يشتهي وعقلاً ينشغل بالتفكير ، جعل العبادة المفروضة عليه من نوع آخر غير عبادة الملائكة ، فإلى جانب التسبيح والصلاة وشعائر التعبد التي يشترك فيها الإنسان مع الملائكة ، فإن الله من رحمته بعباده من بني الإنسان جعل حركة أجسامهم وعقولهم عبادة إذا توجهوا بها إلى الله ، والتزموا في شأنها بما أنزل الله . وهكذا أصبح سعي الإنسان وراء الرزق عبادة ، وعمارته للأرض عبادة ، وطعامه(1/171)
وشرابه عبادة ، وزواجه ونسله عبادة ، ونومه وقيامه وعبادة ، إذا ابتغى في ذلك كله مرضاة الله ، وعمل فيها وفق أوامر الله . وكذلك يتم التناسق في خلق الله بين طاقة المخلوق وما كلفه الله من ألوان العبادة .. وكلهم عباد لله عابدون !
نعم ! ذلك من رحمة الله بالإنسان .
ولكن الإنسان مع ذلك ما يفتأ يعقد الموازنة بين نفسه وبين الملائكة في قدرتهم على التسبيح لله بالليل والنهار لا يفترون .
ويعلم الإنسان أنه لم يكلف ذلك ولا يقدر عليه ، ولكن وجود الملائكة المسبحين ليل نهار يستحثه على مزيد من العبادة ومزيد من التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ، وكلما حاول ذلك زادت شفافية روحه وصار أقرب إلى الملائكة الأطهار 0
ويزيد أنس الإنسان بالملائكة حين يعلم أنهم قريبون منه وأن بعضهم يسير معه حيث سار وبعضهم يتنزلون عليه بالسكينة والطمأنينة كلما أقبل على الله وتوجه إليه .
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) [ فصلت : 30 ، 31 ] .
ولقد رأى المسلمون الملائكة في بدر يقاتلون معهم الكفار : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) [ الأنفال : 12 ] .
( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [ آل عمران : 123 - 126 ] .
وإذا كانت هذه خصوصية لأهل بدر في موقفهم التاريخي الذي مكَّن للإسلام في الأرض بتأييد من الله ، وكتب صفحة من أروع صفحات التاريخ ، فإن الله يخبرنا أن الملائكة(1/172)
تتنزل على الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا ، ولو لم يروهم بأعينهم ، وإنما علامة حضورهم هي السكينة والطمأنينة التي يحسّها هؤلاء ؛ لأن الملائكة تتنزل عليهم : ( أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) ، كما تتنزل عليهم بالبشرى التي تزيد القلب سكينة وطمأنينة : ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .
كما يخبرنا الله كذلك أن الملائكة تنزلت بالسكينة على المؤمنين في بيعة الرضوان : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) [ الفتح : 4 ] .
فتنزُّل الملائكة بالتأييد والتثبيت والطمأنينة والبشرى لم يكن مقصوراً على أهل بدر الكرام ، إنما هؤلاء خصهم الله بأن يروا الملائكة رأي العين
وكيف يكون شعور المؤمن حين يعلم أنه حين يقرأ الفاتحة في الصلاة ترد الملائكة تقول : آمين ؟! أفلا يحفزه ذلك إلى الإحسان في أداء الصلاة حتى تكون جديرة بهذه المشاركة النورانية من جانب الملائكة ؟
وحين يعلم أن كل عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ، وكل عمل طيب يعمله ، وكل لفظة خيرة يتلفظ بها تحملها الملائكة من توها إلى الله في عليائه ، تقول له : - وهو المطلع على كل شيء - إن عبدك فلاناً يتقرب إليك ، إن عبدك فلاناً يذكرك ويثني عليك ، إن عبدك فلاناً يحمدك ويشكرك ، إن عبدك فلاناً قد أحسن إلى عبد من عبادك ، إن عبدك فلاناً قد دعاه الشيطان إلى الشر فلم يجبه . حين يعلم ذلك كله ألا يحب أن تكثر الملائكة من ذكره عند الله بالخير ، فيكثر من صالح الأعمال ؟
وظائف الملائكة
من تمام العلم بهذه المخلوقات أن نعرف جملة من الوظائف التي تقوم بها :
إن أعمال الملائكة مرتبطة كلها بالحق ، ولا شيء غير الحق . فليس فيها زيغ عن الحق لحظة واحدة من ليل أو نهار ، كالذي يحدث في عالم الجن وعالم الإنس .(1/173)
فالجن والإنس تحدث منهما المعصية ويحدث منهما الزيغ عن الحق الذي يصل والعياذ بالله إلى حد الكفر والإلحاد . أما الملائكة الأطهار فهم يعيشون للحق وحده ولا يقومون بعمل من الأعمال إلا ما يرتبط بالحق .
1- فأول وظائفهم عبادة الله بالتسبيح له في الليل والنهار دون ملل ولا فتور ولا غفلة ، والطاعة الدائمة ، والمبادرة لامتثال أمر الله عز وجل ، والعبادة الخالصة هي حق الله على خلقه ، إذ التوحيد - وه مقتضى العبادة الخالصة لله - هو الحق الذي تقوم به السموات والأرض .
يقول الله في القرآن عنهم : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) [ الأنبياء : 19 ، 20 ] .
( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) [ فصلت : 38 ] .
((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) [الأنبياء : 26 - 28])) 0 (1) ويقول عنهم كذلك : ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [ التحريم : 6 ] .
2- ومن وظائفهم حمل الوحي إلى الأنبياء والرسل ، وقد كلَّف الله جبريل عليه السلام ذلك ، ووصفه في القرآن بالروح الأمين . والوحي كلام الله المنزل إلى البشر عن طريق رسله ليتبعوه : ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) [ الشعراء : 192 - 195 ] .
__________
(1) - وقال المشركون: اتخذ الرحمن ولدًا بزعمهم أن الملائكة بنات الله. تنزَّه الله عن ذلك; فالملائكة عباد الله مقربون مخصصون بالفضائل، وهم في حسن طاعتهم لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يعملون عملا حتى يأذن لهم. وما من أعمال الملائكة عمل سابق أو لاحق إلا يعلمه الله سبحانه وتعالى، ويحصيه عليهم، ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن ارتضى الله شفاعتهم له، وهم من خوف الله حذرون من مخالفة أمره ونهيه. التفسير الميسر - (5 / 446)(1/174)
((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) )) [النجم : 3 - 11] (1)
(( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) [التكوير : 19 - 23] (2)
3- ومن وظائفهم - مع التسبيح والعبادة - الاستغفار للمؤمنين عند الله ، وهو استغفار بالحق - فهم لا يستغفرون إلا لمؤمن - وبإذن الله لا من عند أنفسهم : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ غافر : 7 - 9 ] .
4- ومن وظائفهم تسجيل أعمال البشر وحفظها : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ ( ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) [ ق : 17 ، 18 ] .
( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) [ الانفطار : 10 - 12 ] .
__________
(1) - وليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه. ما القرآن وما السنة إلا وحي من الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم مَلَك شديد القوة، ذو منظر حسن، وهو جبريل عليه السلام، الذي ظهر واستوى على صورته الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم في الأفق الأعلى، وهو أفق الشمس عند مطلعها، ثم دنا جبريل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فزاد في القرب، فكان دنوُّه مقدار قوسين أو أقرب من ذلك. فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى بواسطة جبريل عليه السلام. التفسير الميسر - (9 / 350)
(2) - إن القرآن لَتبليغ رسول كريم- هو جبريل عليه السلام-، ذِي قوة في تنفيذ ما يؤمر به، صاحبِ مكانة رفيعة عند الله، تطيعه الملائكة، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به. وما محمد الذي تعرفونه بمجنون، ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة في الأفق العظيم، وما هو ببخيل في تبليغ الوحي. التفسير الميسر - (10 / 413)(1/175)
فكل إنسان على وجه الأرض ، منذ الإنسان الأول إلى يوم تقوم الساعة ، قد وُكّل به اثنان من الملائكة ، أحدهما عن يمينه يسجل له ما يقوم به من حسنات . والآخر عن شماله يسجل عليه ما يقع منه من سيئات . وتظل هذه الحسنات والسيئات محفوظة في سجلاتها حتى يأتي يوم البعث ، فيحاسب بمقتضاها الإنسان وهو بين يدي مولاه ، فإن كان مؤمناً فإن شاء الله عذبه بسيئاته وإن شاء غفر له ، وأما إن كان كافراً فمصيره الخلود في النار .
5- ومن وظائف الملائكة قبض الأرواح حين ينقضي أجلها الذي حدده الله لها : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) [ السجدة : 11 ] .
( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) [ آل عمران : 145 ] .
( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) [ الأنعام : 61 ] .
6- ومن وظائف الملائكة النفخ في الصور - بأمر الله - مرتين : المرة الأولى يصعق بها من بقي حيّا في السموات والأرض إلا من شاء الله . والمرة الثانية يبعث فيها الموتى ليقضى بينهم بالحق : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) [ الزمر : 68 - 70 ] .
( وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ الزمر : 75 ] .
7- ومن وظائفهم الترحيب في الجنة بالمؤمنين الذين فازوا برضوان الله ، وتعذيب الكافرين في النار ، وكلاهما حق . فقد أخبر الله عباده على ألسنة رسله أنه خلق السموات والأرض بالحق ، وأن مقتضى هذا الحق أن الحياة الدنيا ليست خاتمة المطاف ، لأنه لا يتم فيها إلا الجزاء على الحسنات ولا السيئات ، إنما يتم ذلك عند البعث في اليوم الآخر ، فيحق الحق بدخول المحسنين الجنة ودخول المسيئين النار ، فقيام الملائكة بالترحيب بالمؤمنين وتعذيب الكافرين هو تمام هذا الحق الذي خلقت به السموات والأرض : ((1/176)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) [ الرعد : 23 ، 24 ]
( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) [ الزمر : 73 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [ التحريم : 6 ] .
( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ ، قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ) [ غافر : 49 ، 50 ] .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ، لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) [ الزخرف : 74 - 78 ] .
8- ومن وظائفهم القيام بأعمال أخرى يأمرهم الله بها ، ورد ذكرها في القرآن دون بيان تفصيلي عنها ، كقوله تعالى : ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ) [ الصافات : 1 - 3 ] .
( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ، فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) [ الذاريات : 1 - 4 ] .
{ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) } [المرسلات : 1 - 7] (1)
__________
(1) - أقسم الله تعالى بالرياح حين تهب متتابعة يقفو بعضها بعضًا، وبالرياح الشديدة الهبوب المهلكة، وبالملائكة الموكلين بالسحب يسوقونها حيث شاء الله، وبالملائكة التي تنزل من عند الله بما يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وبالملائكة التي تتلقى الوحي من عند الله وتنزل به على أنبيائه; إعذارًا من الله إلى خلقه وإنذارًا منه إليهم ; لئلا يكون لهم حجة. إن الذي توعدون به مِن أمر يوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء لنازلٌ بكم لا محالة.التفسير الميسر - (10 / 350)(1/177)
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) } [النازعات : 1 - 5] (1)
أثر الإيمان بالملائكة فى حياة الإنسان
عرضنا من قبل بعض آثار الإيمان بالملائكة في حياة الإنسان ، وقلنا : إن هذا الإيمان :
1- يزيد من استشعار القلب البشري لعظمة القدرة الإلهية المعجزة التي تخلق من النور ملائكة ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع .
2- يزيد من إيمان الإنسان بالوحي المنزل من عند الله لأن الوحي تحمله الملائكة إلى الأنبياء والرسل .
3- يزيد من رغبة الإنسان في التقرب إلى الله بالعبادة والعمل الصالح تشبهاً بالملائكة الذين لا يفترون عن عبادة الله .
4- يملأ قلب الإنسان أنساً بهذا الكون الرحيب من حوله إذ يعلم أنه معمور بتلك الأرواح النورانية ، وأنها تتنزل على المؤمنين بالسكينة والطمأنينة .
5- الإقبال على عمل الحسنات والبعد عن عمل السيئات حين يستشعر الإنسان وجود الملكين اللذين يسجلان عليه أعماله .
6- الانتباه إلى أن هذه الحياة الدنيا فانية لا تدوم ، حين يتذكر ملك الموت المأمور بقبض الأرواح حين يتوفاها الله ، ومن ثمَّ فلا تستحق هذه الحياة الدنيا أن يُشْغَل بها الإنسان عن الآخرة ، ويكفيه منها المتاع الطيب الحلال الذي أباحه الله .
7- عمل الحساب للآخرة حين يتذكر الإنسان ترحيب الملائكة بالمؤمنين في الجنة وتعذيبهم للكفار في النار ، فيجب أن يكون ممن أنعم الله عليهم بجنته ورضوانه ووقاهم عذاب السموم .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - أقسم الله تعالى بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعا شديدا، والملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين بنشاط ورفق، والملائكة التي تَسْبَح في نزولها من السماء وصعودها إليها، فالملائكة التي تسبق وتسارع إلى تنفيذ أمر الله، فالملائكة المنفذات أمر ربها فيما أوكل إليها تدبيره من شؤون الكون -ولا يجوز للمخلوق أن يقسم بغير خالقه، فإن فعل فقد أشرك- لتُبعثَنَّ الخلائق وتُحَاسَب، يوم تضطرب الأرض بالنفخة الأولى نفخة الإماتة، تتبعها نفخة أخرى للإحياء.التفسير الميسر - (10 / 389)(1/178)
الباب الثالث
الإيمان بالكتب
? وجود الإيمان بالكتب السماوية 0
? تحريف الكتب السابقة 0
? القرآن نسخ الكتب السابقة كلها 0
? تولى الله حفظ القرآن 0
? مكانة القرآن فى نفس المؤمن 0
? مقتضى الإيمان بالقرآن 0
الكتب السماوية التي ورد ذكرها في القرآن هي بترتيبها التاريخي : صحف إبراهيم ، والتوراة ، والزبور ، والإنجيل ، والقرآن .
جاء في ذكر صحف إبراهيم : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) [ الأعلى : 14 - 19 ] .
( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) [ النجم : 36 - 42 ] .
وذكرت التوراة في مواضع عديدة من القرآن كقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
ويشار إليها أحياناً باسم " الفرقان " كقوله تعالى :( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [ البقرة : 53 ] .(1/179)
وأحياناً باسم " الذكر " كما في هذه الآية : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء : 105 ] .
وجاء في ذكر الزبور : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ) [ النساء : 163 ] .
( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ) [ الإسراء : 55 ] .
وذكر الإنجيل في أكثر من موضع في القرآن : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) [ المائدة : 46 ] .( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) [ الحديد : 27 ] .
كما جاء في ذكر التوراة والإنجيل معاً في هذه الآيات من سورة آل عمران : ( الم ، اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ) [ آل عمران : 1 - 4 ] .
أما القرآن الكريم فقد ورد ذكره في آيات كثيرة إما باسم القرآن وإم باسم الفرقان ، وإما باسم الكتاب ، وإما باسم الذكر :
( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) [ قّ : 1 ] .
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ يوسف : 2 ] .
( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) [ الفرقان : 1 ] .
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ) [ الكهف : 1 ] .
( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) [ القلم : 51 ، 52 ] .(1/180)
ثم جاء الأمر الرباني بالإيمان بالكتب المنزلة كلها - كما جاء الأمر بالإيمان بالملائكة من قبل - وأن هذا جزء من الإيمان ، لا يتم إيمان المرء إلا به .
كما جاء الإخبار بأن الكتب السابقة فد حرفها أهلها ولم تعد على صورتها التي أنزلها الله بها .
وجاء الإخبار كذلك بأن القرآن قد نسخ الكتب السابقة كلها ، وأن الله تكفل بحفظه من كل عبث أو تحريف
وجوب الإيمان بالكتب السماوية
يجيء ذكر الإيمان بالكتب السماوية في القرآن في صيغة الأمر تارة ، وصفة للمؤمنين تارة أخرى . كما يجيء عدم الإيمان بالكتب المنزلة أو الإيمان ببعضها دون البعض الآخر علامة على الكفر تارة ثالثة :
فمن أمثلة الأمر : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ البقرة : 136 ] .
كما جاء في صيغة مشابهة له في سورة آل عمران : ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 84 ] .
وقد يجيء الأمر في صيغة مجملة في مثل قوله تعالى في سورة النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ) [ النساء : 136 ) .
أما وصف المؤمنين بأنهم هم الذين يؤمنون بالكتب المنزلة كلها فيجيء في مثل هذه الصيغة : ( الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) [ البقرة : 1 - 4 ] .(1/181)
أو في قوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) [ البقرة : 285 ) .
أما وصف الذين لا يؤمنون بالكتب كلها أو الذين يؤمنون بعضها ويكفرون ببعض بأنهم كفار فيجيء في مثل قوله تعالى : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً ) [ النساء : 136 ] .
( بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [ البقرة : 90 ، 91 ] .
ومفهوم هذه الآيات وأمثالها ، سوء كانت أمراً مباشراً أووصفاً للمؤمنين أو وصفاً للكافرين ، هو أن الإيمان بالكتب السماوية كلها أمر واجب لا يتم إيمان المرء إلا به .
وذلك أمر بدهي بالنسبة للمؤمن . فما دام يؤمن بالله وصدق ما نزل من عنده من الوحي ، وما دام االه يخبره في كتابه الكريم أنه قد أنزل كتباً سابقة على الأنبياء والرسل ، فالواجب أن يؤمن بهذه الكتب المنزلة ويعتقد يقيناً أنها منزلة من عند الله .
ولو شك في هذه الحقيقة أو كذَّب بها فهل يكون مؤمناً على الإطلاق ؟!
وكيف يكون مؤمناً بالله حقّا وهو يكذب خبراً آتياً إليه من الله ؟!
كذلك لو قال إنه يؤمن ببعض الكتب أنها منزلة من عند الله حقّا ويشك أو يكذب أن غيرها من الكتب منزل من عند الله ، فهل يكون مؤمناً بالله ولو زعم ذلك ؟
إن من بين دعائم الإيمان التصديق . فكيف يوجد الإيمان إذا كذَّب الإنسان حرفاً واحداً مما أخبره الله به ؟ وما قيمة دعواه أنه مؤمن بالله . أو مؤمن ببعض الكتب التي أنزلها الله ؟! إنها دعوى مردودة على صاحبها لأن الدليل العملي يكذبها ..
ثم إن الكتب السماوية كلها تحتوي على حقيقة واحدة ، هي الأمر بعبادة الله وحده . لقد اختلفت الكتب المنزلة في اللغات التي نزلت بها ، لأن الله يقول : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [ إبراهيم : 4 ] .(1/182)
وهذه الكتب نزلت على أقوام مختلفين فاختلفت من ثم لغاتها .
كذلك اختلفت هذه الكتب فيما تحتويه من شرائع ، فالله يخبرنا أنه أنزل شرائع مختلفة للأقوام المختلفين : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) [ المائدة : 48 ] .
ولكن القضية الأصلية في هذه الكتب كلها واحدة لم تتغير : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 25 ] .
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [ النحل : 36 ] .
( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) (الشورى:13)0 (1)
كذلك نزلت الكتب كلها لتنذر الناس بيوم الحساب : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ، يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ غافر : 15 - 17 ] .
وما دام الأمر كذلك فالإيمان بالكتب كلها هو كالإيمان بالكتاب الواحد سواء . والقضية عند المؤمن واضحة لا تحتاج إلى جدال . إنما الجدال قد جاء في الحقيقة من أهل الكتاب لأنهم هم الذين رفضوا أن يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله . وحساب هؤلاء على الله
تحريف الكتب السابقة
أخبرنا الله في كتابه المنزل أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم ، فلم تعد في صورتها التي أنزلها الله . فقد جاء عن اليهود : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) [ النساء : 46 ] .
__________
(1) - شرع الله لكم- أيها الناس- من الدِّين الذي أوحيناه إليك -أيها الرسول، وهو الإسلام- ما وصَّى به نوحًا أن يعمله ويبلغه، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى(هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل على المشهور) أن أقيموا الدين بالتوحيد وطاعة الله وعبادته دون مَن سواه، ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتكم به، عَظُمَ على المشركين ما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له، الله يصطفي للتوحيد مَن يشاء مِن خلقه، ويوفِّق للعمل بطاعته مَن يرجع إليه.التفسير الميسر - (8 / 434)(1/183)
( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) [ المائدة : 13 ] .
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) [ المائدة : 41 ] .
وجاء عن النصارى : ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ آل عمران : 78 ] .
وإذا تدبرنا هذا الأمر وجدنا أن هناك ثلاثة أنواع من التحريف على الأقل قد وقعت في كتب أهل الكتاب ، وكلها وردت الإشارة إليه في القرآن :
1- تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه .
2- التحريف بالتغيير والإضافة .
3- التحريف بالكتمان 0
فمن أمثلة النوع الأول من التحريف :
أن الله قد حرم الربا في جميع كتبه المنزلة التوراة والإنجيل والقرآن . والتوراة التي بين أيدي اليهود اليوم - رغم كل ما حدث فيها من تحريفات شنيعة - ما تزال تحمل نصاً بتحريم الربا ! ونصّاً بوجوب الأمانة في التعامل مع الناس .
ومع ذلك فاليهود - كما هو معلوم - يتعاملون بالربا على النطاق الدولي ، ويسلبون عن طريقه أموال الناس بغير حق ، وعن ذلك يقول الله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ، وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) [ النساء : 160 ، 161 ] .
فكيف تحايلوا على النص الموجود في كتابهم ، أو بعبارة أخرى كيف حرفوه ، ليبيحوا لأنفسهم التعامل بالربا مع الناس وسلب أموالهم ؟!(1/184)
لقد قالوا : إن الربا غير جائز في التعامل بين اليهود ، وكذلك الأمانة واجبة في تعامل اليهود بعضهم مع بعض . أما إن كان الذي تتعامل معه من غير اليهود فلا بأس عليك أن تتعامل معه بالربا ولا بأس عليك أن تأكل ماله .. وذلك ما وردت عنه الإشارة في سورة آل عمران : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ آل عمران : 75 ] .
أي أنهم قالوا : لا حرج علينا في سلب أموال " الأميين " الذين ليسوا يهوداً ، ويزعمون أن الله أباح لهم ذلك وهم يعلمون أن هذا كذب على الله فإنه حرَّم عليهم الربا إطلاقاً وحرم عليهم سلب أموال الناس جميعاً ، أميين وغير أميين! (1)
أما التحريف بالتغيير والإضافة فله أمثلة كثيرة :
فأما اليهود فقد أضافوا إلى التوراة مجموعة من القصص والأساطير ما أنزل الله بها من سلطان ، بعضها يصل إلى حد الفحش في حق أنبيائهم . وما من نبي من أنبيائهم إلا ألصقوا به سلوكاً لا يليق بالشخص العادي فضلاً عن النبي المعصوم . بل إنهم تجرءوا على مقام الألوهية وقالوا في حق الله سبحانه وتعالى كلاماً لا يخرج من فم مؤمن قط ولا يخطر له على بال . وقد ظلوا يرددون هذه الأقوال وغيرها حتى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسجل عليهم القرآن اثنتين منها على الأقل : ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) [ آل عمران : 181 ، 182 ] .
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) [ المائدة : 64 ] .
__________
(1) كان اليهود يطلقون على العرب لفظ ((الأميين) أى الذين ليس لهم كتاب منزل. وما زالوا يطلقون هذا اللفظ على البشرية كلها من غير اليهود، لأنهم يزعمون أنهم هم وحدهم أصحاب الكتاب الحقيقى ومن عداهم ليس له كتاب! وأحياناً يسمونهم ((الأميين))أى كل الأمم من غير اليهود!(1/185)
أما التوراة ففيها أبشع من ذلك في حق الله مما يقشعر بدن المؤمن من نسبته إلى الله عز وجل (1) 0
وأما الإنجيل فيحوي من التغيير والإضافة ما لا يقل سخفاً وبشاعة ولكن في اتجاه آخر ، ذلك هو تأليه عيسى عليه السلام والزعم بأنه ابن الله : ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 78 - 80 ] .
وأسطورة ألوهية عيسى وبنوته لله وكون الله ثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، كلها إضافة أضيفت إلى الإنجيل المنزل من عند الله ، كتبوها بأيديهم وزعموا أنها من عند الله .
وقد رد القرآن عليهم ردّا مفصلاً في أكثر من سورة ، وبيَّن حقيقة التوحيد ، وأن عيسى عليه السلام لم يقل إلا كلمة التوحيد : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [ المائدة : 116 ، 117 ] .
__________
(1) من أبسط الأمثلة على ذلك قولهم: إن الله قد خاف على سلطانه بعد أن أكل الإنسان من الشجرة المحرمة وهى فى زعمهم شجرة المعرفة، وخشى -سبحانه- أن يأكل الإنسان أيضاً من شجرة الحياة فيحيا إلى الأبد! ومن أجل ذلك طرده من الجنة، وأقام حراسة شديدة على شجرة الحياة لكى لا يصل الإنسان إليها! وقولهم أيضاً: إن الله غضب على بنى إسرائيل من كثرة جرائمهم فأقسم أن يهلكهم، فراجعه سيدنا موسى حتى رضى عن بنى إسرائيل ((وتندم الرب الإله على الشر الذى كان ينوى عمله بشعب إسرائيل))!(1/186)
ولكن المهم أن أناجيلهم الأربعة المعتمدة ( إنجيل مرقص وإنجيل لوقا وإنجيل متى وإنجيل يوحنا ) (1) متضاربة بعضها مع بعض في هذا الشأن ، مما ينفي أن تكون كلها من مصدر واحد ، فضلاً عن أن يكون مصدرها هو الله !
وفضلاً عن ذلك كله فإن هناك إنجيلاً خامساً هو " إنجيل برنابا " منعت الكنيسة تداوله ، وأحرقت ما وقع في يدها من نسخه ، وهددت من يوجد عنده بإصدار قرار حرمان ضده ( أي الحرمان - في زعمهم - من رضوان الله ومغفرته ) لأنه يقرر أن عيسى رسول بشر ، وليس ربّا ولا إلهاً ، وأنه بشَّر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم من بعده !
وأما التحريف بالكتمان فهو على نوعين :
كتمان أحكام الشريعة ، وكتمان الإشارة إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
والقرآن يسجل عليهم أنهم أمروا بعدم الكتمان فعصوا الله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) [ آل عمران : 187 ] .
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 146 ] .
ويسجل عليهم أن الله أخذ عليهم ميثاقاً بأن يؤمنوا بكل رسول يأتي من عند الله مصدقاً لما معهم ، كما يسجل عليهم أن خبر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم موجود عندهم في التوراة والإنجيل : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ آل عمران : 81 ، 82 ] .
__________
(1) نسبة إلى الرجال الذين كتبوها. وقد كتبوها فى أزمة متفاوتة وبعد مدة من غياب المسيح عنهم وكلهم كتبها من ذاكرته لا من النص المنزل 0(1/187)
( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) [ الصف : 6 ] .
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ الأعراف : 157 ] .
وعلى الرغم من هذه الوصايا كلها لأهل الكتاب فقد عصوا أمر ربهم وكتموا الحق الذي أمروا بإعلانه على الناس ::
عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِىَ بِيَهُودِىٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَاءَ يَهُودَ فَقَالَ « مَا تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى ». قَالُوا نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُحَمِّلُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا. قَالَ « فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ». فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِى يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ وَهْوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ. (1) 0
وإذا كانوا بهذا التبجح في إنكار أحكام الشريعة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه رسول مؤيد بالوحي ، وأن الوحي يخبره بحيلهم وكيدهم ، فكيف يصنعون مع عامة الناس الذين لا يتنزل الوحي عليهم ليكشف لهم ما خبؤوه ؟!
أما إنكارهم لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد اجتهدوا في محو كل ذكر صريح له عليه الصلام والسلام في كتبهم وأخفوه عن الناس . ومع كل اجتهادهم هذا فقد بقيت
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4533 )(1/188)
إشارات في التوراة والإنجيل لا يمكن تفسيرها إلا بأنها إشارة لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم .
جاء في العهد القديم في سفر أشعياء في الإصحاح الحادي والعشرين :
" وحي من جهة بلاد العرب . في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين . هاتوا ماء لملاقاة العطشان . يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه ، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا . من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة . ومن أمام شدة الحرب . وإنه هكذا قال لي السيد : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد وبقية عدد قسّى أبطال أبطال بني قيدار تقل ، لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم " (1) 0
وجاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام : " يأتي من بعدي الفاراقليط " .
وهذه كلمة يونانية معناها " الحمد " . أي أنها مشتقة من " أحمد " وقد أبوا أن يترجموها في النسخة العربية وأبقوها هكذا لكي تظل غير مفهومة للقارئ ولكيلا يعلم من هذا الذي سيأتي بعد المسيح !
وقد مر الزمن .. ولم يأت بعد المسيح إلا محمد صلى الله عليه وسلم !
وفي عام 1365 هـ ( 1945 م ) نشرت صحيفة الأهرام المصرية هذا النبأ على إحدى صفحاتها :
" عثر في دير سانت كاترين بسيناء على نسخة قديمة من التوراة جاء فيها ذكر محمد عليه الصلاة والسلام " .
ثم اختفت هذه النسخة ولم تعد مرة أخرى إلى الظهور !
وصدق الله العظيم إذ يقول : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 146 ] .
( حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) [ البقرة : 109 ] .
__________
(1) الدادنيون اسم قديم لبعض القبائل العربية، وقيدار اسم لأحد آباء قريش، وسكان أرض تيماء إشارة إلى أهل المدينة. والهاربون هم المهاجرون من مكة إلى المدينة. والنص كله يشير إلى نزول الوحى جزيرة العرب واضطهاد المؤمنين وهجرتهم إلى المدينة ووقوع معركة بدر بعد سنة من الهجرة وضياع مجد الكفار من قريش ومقتل عدد من أبطالهم فى المعركة0(1/189)
لقد كرم الله إبراهيم عليه السلام حين ابتلاه الابتلاء العظيم فنجح في الابتلاء إذ أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فاستسلم لأمر الله واستعد بالفعل للتنفيذ ، ففداه الله بذبح عظيم ، واختار إبراهيم بأن جعله للناس إماماً : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) [ البقرة : 124 ] .
وفي لحظة التكريم تطلّع إبراهيم عليه السلام أن يظل هذا العهد لذريته من بعده فسأل ربه : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فأجابه الله سبحانه : ( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .
ومعنى ذلك أن العهد يظل في ذرية إبراهيم إلا إذا ظلموا فيؤخذ منهم العهد .
ولقد بقي العهد بالفعل في بني إسرائيل ، وهم من ذرية إبراهيم عليه السلام عن طريق ابنه إسحاق : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) [ السجدة : 23 ، 24 ] .
( يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ البقرة : 47 ] .
ولكنهم ظلموا فنزع الله العهد منهم وأعطاه فريقاً آخر من ذرية إبراهيم عليه السلام هم أبناء إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم . وعندئذ ملأ الحقد قلوبهم وكفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعدما كانوا يترقبون مبعثه ويستفتحون به على كفار قريش ، يقولون لهم : سيظهر في جزيرة العرب نبي وسنتبعه ونزداد به عزّا ونقهركم به ، ظنّا منهم أنه سيكون من أبناء إسحاق ، فلما جاء من أبناء إسماعيل كفروا به !
( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [ البقرة : 89 ، 90 ] .
القرآن نسخ الكتب السابقة كلها(1/190)
شاء الله سبحانه وتعالى أن ينسخ الكتب السابقة كلها وينزل كتابه الأخير ليبقى في الأرض إلى قيام الساعة .
كان كل رسول من السابقين يرسل إلى قومه خاصة ، بينما بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كافة : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [ الأعراف : 158 ] .
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) [ سبأ : 28 ] .
وكذلك كانت الكتب السابقة تنزل لأقوام معينين بينما أنزل القرآن للناس كافة : ( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) [ القلم : 52 ] .
لذلك اقتضت مشيئة الله أن ينسخ هذا الكتاب الشامل الكامل ما سبقه من الكتب جميعاً ويهيمن عليها : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [ المائدة : 48 - 50 ] .
ولم يعد يقبل من أحد أن يستمسك بما سبق من الكتب ويرفض القرآن : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) [ المائدة : 68 ] .
وإقامة التوراة والإنجيل بالنسبة لأهل الكتاب المخاطبين بهذه الآية معناها : الإقرار بوحدانية الله ، ذلك أن التوراة والإنجيل المنزلين من عند الله يقرران هذه الوحدانية تقريراً جازماً ، ولكن اهل الكتاب حرفوهما . فالمطلوب منهم هو إقامتهما مرة أخرى ، أي الرجوع إلى أصل التوحيد . ثم إن التوراة والإنجيل قد ذكرا محمداً صلى الله عليه وسلم(1/191)
وأمرا باتباعه عند ظهوره ، فإقامتهما معناها الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه من وحي .. أي الإسلام : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) [ آل عمران : 19 ] .
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ آل عمران : 85 ] .0
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ». (1)
على ذلك يمكن تلخيص موقف المؤمن من الكتب السابقة على هذا النحو :
1- يؤمن بأن الله أنزل كتباً ورد ذكرها في القرآن هي بترتيبها التاريخي كما يأتي :
صحف إبراهيم - التوراة - الزبور - الإنجيل - القرآن .
2- وأن هذه الكتب جميعاً تحتوي على حقيقة أساسية واحدة هي وحدانية الله عز وجل ووجوب إخلاص العبادة له بغير شريك ، وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه .
3- أن الكتب السابقة على القرآن لم يعد لها وجود في صورتها النزلة لأنها إما ضاعت ولم يعد لها أثر معروف كصحف إبراهيم ، وإما حرفت على أيدي أصحابها كالتوراة والإنجيل
4- أن التحريف الغالب كان إما بالتغيير والإضافة وإما بالكتمان . ومن أبرز الإضافات أساطير التوراة وقصة تأليه عيسى وقصة التثليث . ومن أبرز ما كتموه الإخبار عن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم .
5- أن مشيئة الله قد اقتضت نسخ الكتب السابقة كلها ما ضاع منها وما حُرف . وأنزل القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ، وناسخاً لكل ما سبق تنزيله من عند الله .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (403 )(1/192)
تولى الله حفظ القرآن
أنزل الله القرآن مصدقاً لما بين يديه كما ذكرنا آنفاً وناسخاً له . ثم تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه الأخير مما تعرضت له الكتب السابقة كلها من ضياع أو تحريف : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] .
ولقد بقي القرآن - كما أراده الله - محفوظاً خلال أربعة عشر قرناً من الزمان ، وسيظل باقياً ما شاء الله له أن يبقى ، لم يصبه تغيير ولا تحريف . لم ينقص منه ولم يزد عليه حرف واحد منذ أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
لقد منَّ الله على هذه الأمة بأن تكون خير أمة في التاريخ : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] .
ومنَّ عليها ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) [ آل عمران : 164 ] .
ومنَّ عليها كذلك بحفظ الكتاب المنزل إليها ، وعدم تعرضه للضياع والتحريف .
إن التوراة تولاها قوم غضب الله عليهم لأنهم كفروا بالله وقتلوا أنبياءه وعاثوا في الأرض فساداً : ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) [ البقرة : 61 ] .
ومن هذه الصفات كلها التي اتصفوا بها عاثوا فساداً في كتابهم المنزل عليهم فمحوا منه ما لم يوافق أهواءهم ، وأضافوا إليه أساطير ما أنزل الله بها من سلطان : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } (79) سورة البقرة (1)
__________
(1) - فهلاك ووعيد شديد لأحبار السوء من اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله وهو مخالف لما أنزل الله على نبيِّه موسى عليه الصلاة والسلام; ليأخذوا في مقابل هذا عرض الدنيا. فلهم عقوبة مهلكة بسبب كتابتهم هذا الباطل بأيديهم، ولهم عقوبة مهلكة بسبب ما يأخذونه في المقابل من المال الحرام، كالرشوة وغيرها. التفسير الميسر - (1 / 93)(1/193)
وأما الإنجيل فإن أصحاب عيسى وحوارييه كانوا يعيشون في حالة اضطراب وتشتت بسبب الاضطهاد الواقع عليهم من الدولة الرومانية ، فلم يدوِّنوا الإنجيل كما سمعوه من عيسى عليه السلام ، إنما تناقلوا ما وعت ذاكرتهم منه سرّا وعلى خوف من عيون الدولة الرومانية . فلما بدئ بتدوينه بعد ثلاثين عاماً على الأقل من رفع عيسى عليه السلام ( ) ، كان الأصل قد فُقد ، وكانت الإضافات الدخيلة هي التي يتناقلها النصارى . ثم إن الأناجيل الموجودة الآن ليست هي نص الكتاب المنزل باعتراف أصحابها . إنما هي ذكريات شخصية كتبها كل مؤلف منهم على حدة وضمنها بعض الأقوال المنسوبة إلى المسيح .
أما القرآن فقد هيأ الله له ظروفاً مختلفة تماماً ، تمَّ بها الحفظ الذي قدره الله له منذ الأزل وهو في اللوح المحفوظ .
1- هيأ له أمة قوية الحافظة بصورة غير عادية . فقد كان العرب في الجاهلية يروون ألوفاً من أبيات الشعر بغير تدوين ، إنما يحفظونها في ذاكرتهم ويتداولون روايتها .
2- هيأ له سهولة في الحفظ : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) [ القمر : 17 ] .
3- هيأ له أمة مستقرة آمنة ممكّنة في الأرض ، لديها الفرصة الكاملة للحفظ والتدوين ، فكان الحفّاظ يحفظون على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتقنوا الحفظ ثم يدونوا ما يحفظون ويراجع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه .
4- وأخيراً هيأ له مراجعة من الملأ الأعلى . فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يوحى إليه ثم يراجعه على جبريل عليه السلام مرة كل سنة . وفي السنة الأخيرة راجع جبريل القرآن كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين .
5- ثم إنه بعد تدوينه لم يعد هناك مجال لعبث عابث . بل إن الحفّاظ ظلوا خلال القرون يراجعون كل نسخة تكتب من المصحف مراجعة دقيقة . فلما أن صار المصحف يطبع طباعة صارت لجان من كبار الحفّاظ تراجع كا حرف منه قبل أن تأذن بطبعه .(1/194)
وبهذه الوسائل كلها تحقق للقرآن ذلك الحفظ الذي قدره له الله منذ الأزل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] 0
مكانة القرآن فى نفس المؤمن
للقرآن في نفس المؤمن مكانة ليست لأي كتاب آخر على الإطلاق .
فالقرآن هو كلام الله المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المتعبد بتلاوته . وكفى بذلك تعظيماً في نفوس المؤمنين .
فالمؤمن يعظم ربه ابتداء ، فيعظم بالتالي كل شيء يأتيه من عند ربه ، فكيف بكلام الله المنزل ، الموجه إليه ليهديه سواء السبيل وينير قلبه وطريقه ، ويهديه خير الدنيا وخير الآخرة ؟
إن الكتاب الذي يصلني من مؤلف قدير في مادته يكون عزيزاً عندي بمقدار ما أعرف عن ذلك المؤلف من مكانة في العلم . فكيف بكتاب رب العالمين القادر المقتدر العليم الحكيم ؟
وإن الكتاب الذي يعطيني جزءاً صغيراً من المعلومات ، وفي باب واحد من أبواب المعرفة يكون عزيزاً عندي بمقدار فائدتي منه . فكيف بالكتاب الذي يحوي الخير كله ويدل عليه ؟
وإن الكتاب الذي أعلم أن قراءتي له ترفع منزلتي بين أًصحابي يكون أثيراً عندي بمقدار هذه الرفعة . فكيف بالكتاب الذي يرفع منزلتي في الملأ الأعلى ، ويرفع منزلتي عند رب العالمين ؟
وإن الكتاب الذي يقدمه إليَّ أستاذي وأعلم أن قراءتي له ستزيد درجاتي عنده أكون حريصاً على قراءته بقدر ما يزيدني من درجات وعلامات ، فكيف بالكتاب الذي تكون تلاوته تعبداً يرفع درجاتي عند الله ؟
ولله المثل الأعلى في السموات والأرض .
إنه لا يوجد كتاب في تاريخ البشرية كله نال من المكانة في نفوس أصحابه كما نال القرآن في نفوس المؤمنين .
ولا يوجد كتاب قُرئ وحُفظ في تاريخ البشرية بقدر ما قرئ هذا الكتاب ، ولا عجب أن سماه رب العالمين " القرآن " فهو الكتاب المقروء ، الذي لا تفتر قراءته في ليل أو نهار في صلاة أو ذكر أو حلقة درس أو ترتيل .(1/195)
وإن علينا - إلى جانب القراءة - أن نتدبر معاني القرآن ، فقد أمرنا بذلك في الكتاب العزيز : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ صّ : 29 ] .
والله يندد بالذين لا يتدبرون القرآن فيعمون عن آياته : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [ محمد : 24 ] .
وحين نتدبر القرآن فستتضح لنا معان عدة ينبغي أن نكون على وعي منها :
1- القرآن هو منهج التربية الإسلامية :
فالقرآن هو كتاب التربية الذي ربى هذه الأمة التي وصفها خالقها بقوله سبحانه : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) . ومن ثم فإنه يحوي جميع عناصر التربية الصالحة بين دفتيه . ومن ناحية أخرى فإن كل كلمة فيه هي توجيه تربوي لإنشاء " الإنسان الصالح " في هذه الأرض . سواء كان أمراً بعبادة ، أو توجيهاً أخلاقياً ، أو نهياً عن أمر لا يحبه الله ولا يرضاه لعباده ، أو تشريعاً منظماً لحياة البشر ، أو قصة من قصص المؤمنين أو قصص المكذبين ، أو حديثاً عن اليوم الآخر ، ووصفاً لمشاهد الحساب والثواب والعقاب ، أو توجيهاً عقليّا لتدبر آيات الله في الكون أو سننه في الحياة .
كلها جاءت في القرآن للتربية والتوجيه . وكان من حصيلة تدبرها على الوجه الأكمل وتنفيذها بالجدية الواجبة أن خرج هذا الجيل الفذ من المؤمنين ، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين استحقوا وصف الله لهم بالكامل ، وكانوا بالفعل خير جيل في خير أمة أخرجت للناس .
2- القرآن كتاب الشريعة :
والقرآن هو كتاب الشريعة المنظمة لحياة البشر على الأرض .
وهو منهج حياة كامل .
فهو لم يدع جانباً من جوانب الشريعة إلا تناوله بما يصلحه ويصلح له ، علاقة الفرد بربه . علاقة الفرد بالمجتمع . علاقة الحاكم بالمحكوم . علاقات الأسرة . علاقات الجنسين . علاقات المسلمين . علاقات المسلمين بالفئات غير المسلمة داخل المجتمع الإسلامي ، علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من دول الأرض .(1/196)
كل شيء في حياة الإنسان تناوله هذا الكتاب المعجز بالتفصيل أو الإجمال (1) 0
ومن ثمَّ فلا شيء في حياة المسلم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو الفكرية أو الروحية يرجع فيه إلى مصدر آخر غير هذا الكتاب ( وشرحه وتفصيله في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ) . ولا شيء في حياته يجوز أن يخرج عن تعاليم هذا الكتاب ، مهما استجد في حياته من أمور !
لقد أنزل الله هذه الشريعة لتحكم حياة الناس إلى قيام الساعة . فقول القائلين من مرضى القلوب : إن هذه الشريعة قد نزلت قبل أربعة عشر قرناً ، فهي لا تصلح للتطبيق اليوم ، معناه - والعياذ بالله من الكفر - أن الله لم يكن يعلم وقت تنزيل هذه الشريعة أنه ستجدُّ في حياة الناس أمور غير التي كانت وقت نزول القرآن ! أو أنه نزَّل الشريعة ناقصة وفرض على الناس ألا يحكموا بغيرها وهدَّدهم على ذلك بالخلود في النار ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً .
إنما عرف المسلمون خلال التاريخ أن نظام حياتهم كله موجود في هذه الشريعة ، وأن عليهم - حين يجدّ في حياتهم أمر - أن يستنبطوا له حكماً من الشريعة الثابتة الأركان .
وعرفوا - فوق ذلك - أن هناك أموراً تركها رب العزة بغير نص ، لا نسياناً منه جلت قدرته ولكن رحمة منه بعباده ، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهذه يجتهدون فيها بما يحقق مصالح الناس دون أن يخالفوا مقاصد الشرع .
وفي جميع الحالات تكون شريعة الله هي الحاكمة في حياة الناس : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) [ النساء : 65 ] .0
3- القرآن مرشد السالكين فى رحلة الحياة :
والقرآن هو الذي يعرِّفنا حقيقة الإنسان ، ودوره في الأرض ، وغاية خلقه ، وحدود طاقاته ، ومنشأه ومصيره .
__________
(1) ما أجمله القرآن، فصلته النبوية المطهرة، وهناك أمور متغيرة تجد فى حياة البشرية يجتهد فيها الفقهاء ولكنهم فى اجتهادهم لا يخرجون على أصول الشريعة المبينة فى الكتاب والسنة 0(1/197)
بعبارة أخرى هو دليل الرحلة البشرية من مبدئها إلى منتهاها .
إن السائر في رحلة يحتاج إلى دليل يبيّن له من أن أين تبدأ وأين تنتهي وأي شيء يجد في الطريق ، وأين يمضي ، وأين يتوقف ليتزود بالزاد . فإن لم يكن معه هذا الدليل فإنه يخبط خبط عشواء ، ونهايته إلى البوار .
والرحلة البشرية الكبرى في حاجة إلى دليل ، يبيّن للسائر فيها معالم الطريق .
وحين تضل البشرية عن دليلها - في فترات جاهليتها - فإنها تتخبط وتصيبها الحيرة والقلق والضياع ، كما يعبر عنها الشاعر الجاهلي المعاصر (1) حين يقول :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت !
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت !
وليس أبلغ من هذا التعبير عن الضلال ! وهذه الأزمة تكررت بصورة أو بأخرى في كل جاهلية من جاهليات التاريخ ، ولكنها أحدّ ما تكون في الجاهلية المعاصرة ، التي لا مثيل لها في التاريخ !
إن الإنسان ليتساءل ، بوعي منه أو بغير وعي : من أنا ؟ من أين جئت ؟ إلى أين أذهب بعد الموت ؟ لأي شيء أعيش ؟ على أي نهج أعيش ؟
وإذا لم يجد إجابة واضحة شافية لهذه الأسئلة التي تخطر على الفطرة فإنه يشقى ويضل ، ويتحير ويحس بالضياع .
والله خالق هذه النفس البشرية يعلم أن هذه الأسئلة تخطر على الفطرة وتحتاج إلى جواب ، كما يعلم سبحانه أن طريقة حياة الإنسان في الدنيا ، ومصيره في الاخرة مرهونان باهتدائه إلى الأجوبة الصحيحة على هذه الأسئلة أو عدم اهتدائه إليها . لذلك فقد نزَّل له في كتابه الحكيم إجابة كاملة واضحة لتلك الأسئلة التي يتوقف على إجابتها كل شيء في حياة الإنسان .
__________
(1) هو ((إيليا أبو ماضى)) فى ديوان له يسمى ((الجداول))0(1/198)
عرَّفه مم خلق أول مرة : من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) [ صّ : 71 ، 72 ] .
فعرف من ثمَّ أنه جسد وروح ، وأن حياته ينبغي أن تشمل جانب الجسد وجانب الروح ، متصلين غير منفصلين ، فلا يستغرقه جانب الجسد وحده ولا جانب الروح .
وعرَّفه مهمته في الأرض : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30 ] .
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
فعرف أنه مستخلف في هذه الأرض ليقوم بعمارتها . وأن غاية وجوده هي عبادة الله بمعناها الواسع الذي يشمل شعائر التعبد كما يشمل نشاط الحياة كلها ، أي التوجه بنشاط الإنسان كله إلى الله ، وسيره فيه بمقتضى أوامر الله .
وعرَّفه بالمنهج الذي ينبغي أن يعيش بمقتضاه : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ البقرة : 38 ] .
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [ الأعراف : 158 ] .
وأعطاه تفصيل هذا المنهج في كتاب الله وسنة رسوله .
وعرَّفه كذلك بمصيره بعد الموت : إن الحياة لا تنتهي بانتهاء هذه الجولة في الحياة الدنيا ، وإلا فهي عبث لا يصدر عن إله حكيم : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) [ المؤمنون : 115 ، 116 ] .(1/199)
إنه لا بد من البعث والحساب والجزاء لكي ينتفي العبث عن خلق الله ، ولكي لا يستوي المحسن والمسيء في نهاية المطاف : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) [ صّ : 27 ، 28 ] .
وهو يحاسب في الحياة الآخرة بمقتضى ذات المنهج الذي نزل ليحكم حياة الناس في الأرض : ( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ البقرة : 38 ، 39 ] .
ثم يكون الجزاء هو الخلود في الجنة أو النار : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ) [ النساء : 56 ، 57 ] .
وهكذا فإن القرآن يعطي الإنسان دليل الرحلة كاملاً من بدء الرحلة إلى منتهاها ، ويبين له كل معالم الطريق .
4- القرآن يدعوا إلى تدبر آيات الله فى الكون :
والقرآن يوجه أنظارنا - بصورة ملحوظة - إلى تدبر آيات الله في الكون : في السموات والأرض ، والشمس والقمر ، والجبال والبحار ، والنبات والحيوان .. وكل ما يقع عليه الحس من كائنات :
يوجه أنظارنا إليها لنتعرف على قدرة الله المعجزة في الخلق والتدبير ، فنؤمن بالله ونعبده حق عبادته : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ، وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى(1/200)
رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ النور : 41 - 46 ] .
ويوجه أنظارنا إليها لنتعرف - في الوقت ذاته - على السنن الربانية التي يجري بمقتضاها نظام هذا الكون ، لكي نحقق - بالعلم - استغلال الطاقات الكونية المسخرة لنا أصلاً من عند الله : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الجاثية : 13 ] .
( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ، َخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) [ إبراهيم : 32 ، 33 ] .
فهذه الطاقات الكونية مسخرة من عند الله للإنسان . نعم ، ولكنها تحتاج لأن يتعرف الإنسان على السنن التي تجري بها لكي يستغلها في عمارة الأرض .
والقرآن يوجهنا إلى هذه المعرفة التي توصلنا إلى استغلال ما سخر لنا من الطاقات : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ) [ الإسراء : 12 ] .
( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) [ البقرة : 189 ] .
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) [ الملك : 15 ] .0
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد 0 (1)
__________
(1) - وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى الرُّسُلَ بِالمُعْجِزَاتِ وَالحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ اللهِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الكُتُبَ وَالشَّرَائِعَ ، فِيهَا الهِدَايَةُ لِلنَّاسِ ، وَفِيهَا صَلاَحُ أُمُورِهِمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَعَامَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالعَدْلِ ، وَبِأَلاَّ يَظْلِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَداً . وَلَمَّا كَانَ لاَ بُدَّ لإِقَامَةِ العَدْلِ مِنْ سُلْطَةٍ وَقُوَّةٍ وَسِلاَحٍ ، لِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الحَدِيدَ تُصْنَعُ مِنْهُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ والدُّرُوعُ وَعُدَدُ الحُرُوبِ ، التِي تَرْدَعُ مَنْ يَتَجَاوَزُ الحُدُودَ ، وَيَأْبى إِقَامَةَ العَدْلِ ، بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ . كَمَا جَعَلَ اللهُ فِي الحَدِيدِ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ ، يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ ، وَمَعَايِشِهِمْ ، كَأَدَوَاتِ العَمَلِ وَالحَرْثِ . . . وَالسَّلاَحِ والسُّفُنِ . . . وَإِنَّمَا فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مَنْ يَنْوِي اسْتِعْمَالَ السَّلاَحِ فِي نَصْرِ دِينِ اللهِ ، وَمَنْ يَنْوِي اسْتِعْمَالَهُ فِي الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ ، وَاللهُ قَوِيٌ عَزِيزٌ يَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِ مِنْهُ إِلَى الخَلْقِ ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الجِهَادَ لِيَبْلُوا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ .أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4978)(1/201)
ويقول عن نبى الله داود: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (10) سورة سبأ
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (80) سورة الأنبياء (1)
ومن هذه التوجيهات وغيرها في القرآن اتجه المسلمون إلى العلم ، وإلى العلم التجريبي خاصة ، فأنشئوا المنهج التجريبي في البحث العلمي ، الذي تقوم عليه النهضة العلمية الحاضرة في أوربا ، بعد أن تعلمت أوربا ما تعلمت في مدارس المسلمين . ومن قبل ذلك كان العلم على يد اليونان علماً نظريّا بحتاً لا يؤدي إلى تقدم كبير ر0
5- تدبر السنن التى تحكم حياة الإنسان :
ويوجه القرآن أنظارنا كذلك إلى السنن الربانية التي تجري بها حياة البشر على الأرض ، لنتعرف على هذه السنن وتقوم حياتنا بمقتضاها ، لأنها سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل : ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) [ فاطر : 43 ] .
فمن هذه السنن أن المؤمنين حين يستقيمون على أمر الله يستخلفهم ويمكِّن لهم في الأرض ويمنحهم الأمن والطمأنينة ، ويبارك لهم في حياتهم كذلك : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) [ النور : 55 ] .
( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء : 105 ] .
__________
(1) - واختصَّ الله داود عليه السلام بأن علَّمه صناعة الدروع يعملها حِلَقًا متشابكة، تسهِّل حركة الجسم; لتحمي المحاربين مِن وَقْع السلاح فيهم، فهل أنتم شاكرون نعمة الله عليكم حيث أجراها على يد عبده داود؟ "التفسير الميسر - (5 / 496)(1/202)
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) [ الأعراف : 96 ] .
ولكن الكافرين ليسوا ممنوعين من التمكين في الأرض ولكن على وجه آخر : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ، كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) [ الإسراء : 18 - 20 ] .
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ هود : 15 ، 16 ] .
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) [ الأنعام : 44 ] .
فالمؤمنون يمكَّنون في الدنيا لإصلاح الأرض ، ثم تكون لهم العاقبة الحسنة في الآخرة فينعمون بالجنة والرضوان : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) [ الحج : 41 ] .
أما الكافرون فيمكَّنون ابتلاء وفتنة ، وحين يوغلون في البعد عن الله تفتح عليهم أبواب القوة والاستمتاع وتنهال عليهم الأسباب . لا رضاً من الله عليهم بل ليزدادوا إثماً ليأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [ يونس : 24 ] .
كذلك فإن التمكين للمؤمنين يختلف عن التمكين للكافرين من وجه آخر . فالمؤمنون يمنحهم الله " بركات من السماء والأرض " فيعيشون في أمن وطمأنينة وبركة في الوقت والصحة والأموال والأولاد .. أما الكافرون فيفتح عليهم أبواب كل شيء من الرزق المادي ، ولكن بلا بركة ولا أمن ولا طمأنينة ، لأن الطمأنينة إنما تجيء من ذكر الله وهم(1/203)
لا يذكرون الله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ الرعد : 28 ] .
ومن السنن الربانية كذلك أن أعمال البشر من سيئة أو حسنة تترتب عليها نتائج حتمية لا يمكن تغييرها ، لأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [ الروم : 41 ] .
( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) [ الإسراء : 16 ] .
( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الأنفال : 53 ] .
( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [ محمد : 38 ] .
والنتائج تترتب بقدر من الله . ولكن الله يخبرنا أنه يجري قدره في الأرض بحسب ما يكون من سلوك الناس .
6- معرفة الأحداث التاريخية الكبرى :
ومن تتبعنا لسنة الله في حياة الناس نستطيع أن ندرك الأحداث الكبرى في التاريخ . ونستطيع كذلك أن نقدر حاضرنا الذي نعيش فيه ، وأن نزن تطلعاتنا إلى المستقبل بميزان الواقع .
فمن أحداث التاريخ الكبرى تمكين الأمة المسلمة في الأرض فترة طويلة من الزمن وفي رقعة فسيحة من الأرض ، حين كانت مستقيمة على أمر الله ، تحقيقاً لوعد الله بالاستخلاف ، والتمكين والتأمين للذين آمنوا من هذه الأمة وعملوا الصالحات ، وقيام هذه الأمة في فترة استخلافها بنشر الخير في ربوع الأرض وإقامة العدل الرباني في أرجائها .
ومن أحداث التاريخ الكبرى كذلك انحسار المد عن الحركة الإسلامية ، سواء السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو العلمية أو الحضارية حين تخلى المسلمون عن رسالتهم التي أهلَّهم الله لها ، وهي أن يكونوا رواد البشرية وقادتها بعد أن يستقيموا هم أنفسهم على(1/204)
أمر الله . فلما انحرفوا عن طريق الله وتخلوا عن حقيقة إسلامهم لم تتغير سنة الله فيهم ، ولم يغنهم أنهم من ذرية قوم مؤمنين : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 124 ] .
ومن أحداث التاريخ الكبرى أن أوربا - وهي أمة أو مجموعة من الأمم الجاهلية لا تؤمن بالله ورسوله ولا تحكم بما أنزل الله - قد مكن لها في الأرض ، وفتح عليها أبواب كل شيء : في السياسة والحرب والمال والقوة العلمية والعملية .
وكثير من الناس ينبهر بهذا السلطان الذي أوتيته أوربا ، وبهذا التمكين ، ويظن أنه مخالف لسنة الله ! ولكن تدبر آيات الله يرينا أنه لا شيء مما حدث في التاريخ يجري مخالفاً لسنة الله ، ولا يمكن أن يحدث ذلك قط .
فالذي حدث :
أولاً : أن هذه الأمم الجاهلية قد مُكنت في الأرض بعد أن تخلت الأمة المسلمة عن دورها . ونتيجة لهذا التخلي من جانب المسلمين تمكنت هذه الدول الكافرة .
ثانياً : أن هذه الأمم حين مكنت انتشر الفساد في الأرض : ( بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) .
ثالثاً : أن هذا التمكين الذي يعبر عنه القرآن بقوله : ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) تنقصه البركة التي لا تعطى إلا للمؤمنين حين يمكَّنون في الأرض ، وليس فيها الطمأنينة التي تأتي من ذكر الله . إنما فيها الأمراض النفسية والعصبية والجنون والانتحار والجريمة والقلق والاضطراب والحيرة والضياع .. وكلها كما تقول إحصاءاتهم آخذة في الازدياد .
رابعاً : أن حضارتهم الجاهلية في سبيلها إلى الانهيار بحسب سنة الله كما ترى العين الفاحصة من وراء صور التقدم المادي الذي يبهر العيون (1) ،وكما يقول مفكروهم أنفسهم ، ولكن هذا الانهيار لا يحدث بين يوم وليلة ، لأن الله يقول : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ، وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) [ الحج : 47 ، 48 ] .
__________
(1) انهارت الشيوعية بالفعل، وبدأ الحديث عن انهيار الحضارة الغربية 0(1/205)
ذلك بالنسبة لرؤية الماضي والحاضر على ضوء السنن الربانية التي أمرنا الله أن نتدبرها ونحن نقرأ القرآن .
أما بالنسبة لتطلعاتنا نحو المستقبل ، فنحن نتطلع لأن نستعيد ما فقدناه من القوة والاستخلاف والتمكين والتأمين . وذلك من واجبنا ؛ لأن الله لم يخرج هذه الأمة لتكون في وضع الاستخذاء والضعف ، ولا الذلة ولا الهوان : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) [ الأنفال : 60 ] .
( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [ المنافقون : 8 ] .
ولكن هذا الأمر لا يتم بالتمني . ولا يتم حتى يغير الناس ما بأنفسهم . ولا يتم دون جهد يبذل ودون جهاد : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) [ النساء : 123 ] .
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : 11 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ، إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ التوبة : 38 ، 39 ] .
( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) [ النساء : 76 ] .
فحين يريد المسلمون أن يستعيدوا مكانتهم في الأرض فهذا هو الطريق !
وهذا الذي نتعلمه من سنن الله ونحن نتدبر القرآن 0
=================
مقتضى الإيمان بالقرآن
إن الإيمان بأن القرآن هو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، يقتضي أن تكون له آثار واقعية في حياتنا .(1/206)
يقتضي أولاً أن نعيش معه ونتعبد بتلاوته وحفظه . فالقرآن ينبغي أن يكون هو الصاحب والأنيس قبل أي صاحب آخر أو أنيس .
يكفي أن يستشعر المؤمن في قلبه أن الله يخاطبه هو شخصيّاً بهذا القرآن ، رجلاً كان أو امرأة ، فتى كان أو فتاة ، وأن الله في عليائه ينظر في شئون البشر الذين خلقهم ، فلا يتركهم ضياعاً ، ولا يتركهم سدى . إنما يرسل لهم الهدى والنور ، ويتعهدهم بالرحمة والفضل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ) [ النساء : 174 ، 175 ] .
يكفي أن يستشعر أنه هو شخصيا موضع نظر الله وعطفه ورحمته : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) [ البقرة : 186 ] .
وأنه أقرب ما يكون إلى ربه وهو قائم وساجد لربه يصلي ، وكذلك وهو يتلو القرآن تعبداً وتدبراً وتقرباً إلى الله .
والحياة مع القرآن تستجيش الحسّ ، وتفتح القلب ، وتمنح الروح شفافيتها لأنها تعيش مع النور الرباني المنزل في الكتاب ، فيخف الإنسان من ثقلة الجسد وجذبة الأرض .
ويقتضي ثانياً : أن نربي أنفسنا بهذه القرآن .
فالقرآن - كما ذكرنا - هو كتاب التربية الإسلامية الشامل الذي أخرج الأمة التي كانت ( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .
وحين نقرؤه أو نحفظه للتعبد ، فإننا في الوقت ذاته نقرؤه لنصوغ أنفسنا بحسب أوامره وتوجيهاته .
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " كان خلقه القرآن " ! وهي جملة بليغة على إيجازها ، تعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الترجمان الصادق لكل ما جاء في القرآن من أوامر وتوجيهات .(1/207)
ولن يستطيع أحد من البشر - مهما اجتهد - أن يكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن الله يأمرنا بأن نتخذ منه الأسوة الحسنة : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) [ الأحزاب : 21 ] .
ثم قال لنا من رحمته سبحانه : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [ التغابن : 16 ] .
فواجبنا إذن أن نحاول - ما استطعنا - أن نربي أنفسنا بالقرآن ونحن نحفظه ونتلوه .
ولنعلم أن اداة التربية العظمى في هذا الكتاب هي العقيدة .
العقيدة الصحيحة الراسخة كانت هي الأداة الأولى لتربية هذه الأمة الفذة في التاريخ ، وبصفة خاصة ذلك الجيل الأول الفذ الذي صنعه القرآن على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان قمة لا يدانيها شيء في تاريخ البشرية كلها .
والعقيدة ليست كلمة تقال باللسان : أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .. وإنما هي واقع يعاش ، ومنهج كامل للحياة .. إنها حياة كاملة في ظل الله تستمد من أوامره وتوجيهاته ، وتعمل بمقتضاها في واقع الأرض .
وإن المساحة العظيمة التي يشملها الحديث عن العقيدة في كتاب الله لم تكن من أجل هذه الكلمة التي تقال باللسان ، وإنما من أجل أن تتحول إلى عمل مشهود في عالم الواقع ، وتترجم إلى وجدان وسلوك : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) [ الرعد : 19 - 22 ] .
ولنعلم كذلك أن أسماء الله الحسنى وصفاته وأعماله الواردة في كتاب الله في معرض الحديث عن العقيدة لم تنزل لنحولها إلى أمور جدلية عقيمة كما فعلت الفرق الضالة الشاردة في تاريخ الإسلام . إنما نزلت للتعريف بالله سبحانه والإيمان بها وإثباتها كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل ، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ، فيتربى المؤمنون على حقائق الإيمان الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار .(1/208)
حين يقول الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [ الذاريات : 58 ] .
فهو يعلمنا - من ناحية - بأمر مما اختص به الله سبحانه وتعالى ، وهو أن الله وحده هو الرزاق دون شريك يشاركه في الرزق . وهو يربينا - من جهة أخرى - على هذه الحقيقة الإيمانية لنوقن - في السراء وفي الضراء سواء - أنه لا أحد على الإطلاق يملك قطرة واحدة من الرزق ، لا أن يزيدها ولا أن ينقصها ولا أن يقطعها سوى الله . ومن ثم فلا يجوز لنا أن نتوجه لغير الله في طلب الرزق ، ولا يجوز لنا أن نميل عن قولة الحق حفاظاً على الرزق ، أو نتبع أحداً من الظالمين - بالباطل - خشية أن يقطع عنا الرزق ، لأن شيئاً من ذلك لا يتم بأيدي البشر في الحقيقة إنما يتم بتقدير الله ، وإن كان البشر - في الظاهر - هم الذين يصنعون هذا أو ذاك .
والتربية على العقيدة أمر غير مجرد المعرفة النظرية بحقائق العقيدة ، فكثير من الناس إذا قلت له إن الله هو الرزاق وحده قال : نعم ! فإذا تعرض لمحنة أو ضيق أو هُدِّد في رزقه تزلزلت هذه الحقيقة في قلبه لأنها لم تكن راسخة بالفعل .. لم تكن تحولت إلى يقين ، وإلى سلوك مبني على ذلك اليقين !
وكل صفات الله وأسمائه ورادة في القرآن على هذا النحو ، للتعريف بحقيقة الألوهية ، وللتربية على حقيقة الإيمان ، وأن الله هو الضار النافع . المحيي المميت . القابض الباسط .. كلها ينبغي أن تتحول في قلوبنا إلى يقين ، ثم تتحول في حياتنا إلى سلوك مبني على هذا اليقين ، وعندئذ نكون تربَّينا - كما تربت الأمة المسلمة الأولى - على حقائق الإيمان الواردة في القرآن
ويقتضي ذلك أن تتحول حياتنا كلها إلى واقع إسلامي ، وفي كل منحى من مناحي الحياة .
فكما ينبغي أن يستقيم سلوكنا الشخصي على مقتضى كتاب الله ، من صدق وأمانة ونظافة وتطهّر ، وبُعد عن الإثم والبغي : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا(1/209)
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ الأنعام : 151 - 153 ] .
كذلك ينبغي أن يكون القرآن هو منهج حياتنا العامة إلى جانب حياتنا الفردية ، لأن الإسلام لا يفرق بين الفرد والمجتمع في الالتزام بأوامر الله .
فالحكم ينبغي أن يكون بشريعة الله .
وتعاملاتنا الاقتصادية ينبغي أن تكون في حدود ما حلل الله .
وصلاتنا الاجتماعية ينبغي أن تكون محكومة بأوامر الله . في داخل الأسرة وخارجها . في علاقات الجنسين . في علاقات الناس بعضهم ببعض . فيما يحل للمرأة أن تبديه من زينتها ، وما يحل للرجل من نظر أو كلام .
والأفكار التي نتعلَّمها والتي نبثها ينبغي أن تكون متمشية مع مفاهيم الإسلام وتوجيهاته ، غير متعارضة مع شيء ألزمنا الله به في كتابه الحكيم .
وبذلك نكون حقا أمة القرآن ..
- - - - - - - - - - - - - -(1/210)
الباب الرابع
الإيمان بالرسل
? وجوب الإيمان بالرسل 0
? حقيقة النبوة 0
? الوحى وأنواعه 0
? حاجة البشر إلى الرسالة 0
? مهمة الرسل 0
? أثر الرسل فى حياة الناس 0
? صفات الرسل 0
? أولو العزم من الرسل 0
? الرسالة المحمدية 0
? المعجزة 0
? وضع العالم الإسلامى المعاصر 0
? مستقبل الأمة الإسلامية 0(1/211)
الباب الرابع
الإيمان بالرسل
(1) وجوب الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان ، فلا يعتبر الإنسان مسلماً ولا مؤمناً حتى يؤمن بأن الله قد أرسل للبشر رسلاً من أنفسهم يبلغونهم الحق المنزل إليهم من ربّهم ، ويبشرونهم وينذرونهم ، ويبيّنون لهم حقيقة الدين ، كذلك لا يعتبر مسلماً ولا مؤمناً حتى يؤمن بالرسل جميعاً ، لا يُفَرِّق بين أحدٍ منهم ، وأنهم جميعاً جاءوا بالحق من عند الله .
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) [ البقرة : 177 ] .
( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 84 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً ) [ النساء : 136 ] .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ، وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) [ النساء : 150 - 152 ] .
وجاء فى حديث : ((هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرُ دِينَكُمْ.)): (( الْإِيمَانُ " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ: صَدَقْتَ)) (1) 0
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 350) (177) صحيح وهو في مسلم بنحوه(1/212)
يتبيَّن لنا من النصوص السابقة - وأمثالها كثير في القرآن والحديث - أن الإيمان بالرسل ركن أساس من أركان الإيمان ، لا يتم إسلام المرء إلا به ، وأنه يستوي عند الله من أنكر الرسل جميعاً ، ومن أنكر واحداً منهم بعينه ، فالمنكرون كلّهم عند الله كفَّار ، إنَّما المؤمن هو الذي يُؤْمن بالرسالات جميعاً وبالرسل جميعاً دون تفريق .
وإذا سألنا أنفسنا : لِماذا أوجبَ الله الإيمان بالرسل ، وجعله ركناً من أركان الإيمان ، ولم يكتفِ - سبحانه وتعالى - من البشر بوجوب الإيمان به وحده ، مع أن الإيمان بالله هو أساس كل شيء ، وعبادته هي غاية كل شيء ؟ فالإجابة على هذا السؤال واضحة . فكيف يعرف الإنسان ربه المعرفة الحقة إلا عن طريق الرسل ؟ وكيف يعبده العبادة الحقة إلا بإرشادهم ؟
انظر إلى ضلالات البشرية في أمر ربها خلال التاريخ !
كيف تصورته ، وكيف عبدته في جاهلياتها المختلفة ؟
مرة تصورته في قرص الشمس كما فعلت الجاهلية الفرعونية . ومرة تصورته في النار الملتهبة كما فعلت الجاهلية الفارسية . ومرة تصورته على هيئة بشر ذي خصائص فائقة كما فعلت الجاهلية اليونانية والجاهلية الرومانية . ومرة في القمر ، ومرة في النجم ، ومرة في صنم من الأصنام ! وهكذا اختلفت التصورات وضلّت كلها عن معرفة الله الحق ، لأنها استرشدت بخيالها وأهوائها وعلمها القاصر ، ولم تأخذ الحق من طريقه الصحيح المعتمد من عند الله ، وهو طريق الرسل الموحى إليهم بالحق .
ولا يقل عن ذلك ضلالاً ما تصورته الجاهليات المختلفة من وجود أرباب صغيرة مع رب الأرباب ، تقوم ببعض اختصاصاته سبحانه ! فإلهٌ للمطر ، وإله للبرق ، وإله للرعد ، وإله للريح ، وإله للبحر ، وإله للخصب ، وإله للنسل ، وإله لكل شأن من شئون الحياة يختص به من دون الله أو مع الله كما كان العرب يقولون في الجاهلية :
( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) [ الزمر : 3 ] .
أما العبادة فقد ضلَّت مثل ضلال التصور ! وذلك أمر طبعي ! فما دام البشر لا يرجعون في أمر العبادة إلى المرجع الصحيح الذي يبصّرهم بالحق ، فسوف يضربون في التيه كما(1/213)
تملي لهم أهواؤهم وخيالاتهم ، أو - بالأحرى - كما يملي الشيطان عليهم لإغوائهم ، فكانت النتيجة دائماً أنهم قدموا شعائر التعبد لغير الله ، ودعوا غير الله ، واستعانوا بغير الله ، وحرّموا وأحلّوا بغير سلطان من الله !
فإذا آمنا أن قضية الألوهية والربوبية هي القضية الكبرى في حياة الإنسان ، وأن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] ، أدركنا على الفور لماذا كان الإيمان بالرسل ركناً رئيساً من أركان الإيمان ، لأنه يستحيل على البشرية - كما رأينا من الواقع التاريخي - أن تهتدي إلى الحق في شأن الألوهية ولا في شأن العبادة إلا عن طريق ذلك المصدر الموثق ، وهو الرسل المرسلون من عند الله .
وكذلك الشأن في وجوب الإيمان بالرسل كلهم دون تفريق بين أحدٍ منهم .
لقد جاءوا كلهم بقضية واحدة وكلمة واحدة . جاءوا يبينون أنه لا إله في هذا الوجود كله إلا إله واحد هو الله سبحانه وتعالى بلا شريك . وجاءوا يقولون للناس : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ هود : 50 ، 61 ، 84 ] .
فما معنى الإيمان بواحد منهم دون الآخر ؟! إن إنكار واحد منهم مثل إنكارهم جميعاً ، ما داموا كلهم جاءوا من عند الله ، وبلَّغوا شيئاً واحداً أوحى الله به إليهم ليبلِّغوه إلى الناس : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 25 ] .
(2) حقيقة النبوة
لقد اقتضت حكمة الله أن يرسل الأنبياء والرسل لهداية الناس إلى الحق :
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [ النحل : 36 ] .
( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) [ فاطر : 24 ] . ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [ النساء : 165 ] .
وإذا اقتضت حكمة الله ذلك فقد كان من سنة الله في خلقه أن يصطفي بعض عباده فيمنّ عليهم بالنبوة أوالرسالة ، ويمنّ على أقوامهم ببعثهم إليهم ( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(1/214)
) [ الصافات : 114 ] .( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) [ آل عمران : 164 ] .
والنبوة والرسالة اصطفاء خالص من عند الله يختص به من يشاء من عباده ، وليست شيئاً يكتسبه العباد من ذات أنفسهم بعمل يعملونه من جانبهم .
وكل ما يقع للبشر في حياتهم هو من عند الله . وكل موهبة توهب لهم في ذات أنفسهم أو فيما بين أيديهم هي من عند الله . ولكن الله قدَّر أن يكون للإنسان جانب من الكسب في كل ذلك . فقد أعطى الإنسان القدرة على المعرفة ووهب له ذكاء يتفاوت من شخص إلى شخص ، ومنحه طاقات مختلفة ، ثم كلّفه أن يعمل ، وأن يبذل جهداً معيناً لتحصيل المعرفة ، واستخدام الذكاء في عمارة الأرض وغيرها من شئون الحياة :
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) [ الملك : 15 ] .
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [ العلق : 4 ، 5 ] .
( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ النحل : 78 ] .
ويستطيع الإنسان بتحصيله الشخصي أن ينمي ما وهب الله له من مواهب . فيستطيع مثلاً أن ينمي قوته الجسدية بالرياضة البدنية والتدريب فيصبح قوي الجسم ، متين العضلات . ويستطيع أن ينمي قوته الذهنية بالتدريبات العقلية وتعلم العلم وإمعان الفكر ، فيستنبط ويكتشف ويخترع ويدبِّر ويخطط . ويستطيع أن ينمي قوته الروحية بالامتناع عن بعض لذائذ الحس ، وبالتأمل ، وبإبعاد النفس شيئاً من الوقت عن عالم الحس القريب بصورة من الصور ، فتصفو روحه ، ويكتسب طاقة روحية كبيرة .
كل هذه الأعمال هي في أصلها موهبة من الله ، وهي فيما تنتهي إليه كسب يكسبه البشر بجهد يبذلونه وتحصيل يكدون فيه ويكدحون .(1/215)
أما الرسالة والنبوة فموهبة من الله ذات طبيعة مختلفة . إنه لا يدَ للإنسان فيها ولا كسب ولا اختيار ، إنما هي اصطفاء خالص من جانب الله سبحانه وتعالى لعبد من عباده ، يجتبيه وينعم عليه ويبعثه بالهداية إلى الناس .
لا يوجد عمل معين يعمله الإنسان من جانبه فيرتقي به إلى مرتبة النبوة ولو أنفق عمره كله فيه !
يستطيع الإنسان بالتدريب المستمر أن يصبح بطلاً من أبطال الرياضة إذا كان عنده استعداد جسمي معين .
ويستطيع بالتدريب المستمر أن يكون مهندساً بارعاً أو طبيباً نابغاً أو عالماً مبرزاً ، إذا كان عنده الاستعداد العقلي المناسب .
ويستطيع بالتدريب المستمر أن يحصل على صفاء روحي يناسب استعداده .
ولكنه لا يستطيع بأي جهد يبذله أن يكون نبياً ولا رسولاً . ولكن الله يصطفيه فيكون !
( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) [ الحج : 75 ] .
وحقيقة إن الذين يصطفيهم الله ليكونوا رسلاً وأنبياء هم خيار الناس وأفضلهم : ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) [ صّ : 47 ] .
ولكنا نحن لا نستطيع - بمقاييسنا - أن نقول : إن فلانا من البشر يستحق النبوة أو إنه أولى بها من غيره ! ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) [ الأنعام : 124 ] .
( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) [ الزخرف : 31 ، 32 ] .
والأنبياء أنفسهم يتفاوتون في مراتبهم : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) [ البقرة : 253 ] .
ولكن النبوة في حد ذاتها مرتبة فوق مراتب البشر العاديين . فالبشر يتفاوتون في مراتبهم ، منهم الحقير ، ومنهم العظيم . ولكنهم - في أعلى درجات عظمتهم - يقفون عند حد(1/216)
معين هو أدنى من مرتبة النبوة . فإذا اختار الله واحداً من البشر الممتازين ليجعله نبياً فإنه يرفعه من مكانه الذي كان فيه ليضعه في مرتبة جديدة عالية لم يكن ليصل إليها من ذات نفسه مهما اجتهد ، لأنه خارج الحدود التي يستطيع البشر أن يصلو إليها باجتهادهم . ويصبح منذ لحظة اصطفائه شخصية أخرى ، بشرية - نعم - في كل تصرفاتها العادية ، ولكنها مشتملة على عنصر جديد لا يُتاح للبشر العاديين ، ذلك هو الاتصال بالله عن طريق الوحي .
( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) إلى قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ) [ الفرقان : 7 - 20 ] .
فهم بشر فيما يتعلَّق بالأمور العادية ، يُولدون ويموتون ، ويأكلون الطعام ، ويسعون وراء الرزق ، ويتزوج منهم من يتزوج ويكون لهم ذرية أو لا يكون حسبما قدَّر الله لهم ، ويفرحون ويتألَّمون ، ويجري عليهم كل ما يجري على البشر في هذه الشئون . ولكنهم ينفردون بهذه الخاصية الفريدة وهي تلقي الوحي من عند الله ، وإرسالهم للناس ليبلغوهم ما أوحى الله به إليهم من الهدى والتبيان : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 25 ] .
( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) [ غافر : 15 ] .
كيف تتم لهم هذه الخاصية ، وكيف تكون نفوسهم ومشاعرهم حين توهب لهم القدرة على تلقي الوحي من الله ؟!
لا نستطيع نحن البشر العاديين أن نعرف ذلك يقيناً لأنها تجربة خارجة عن حدود بشريتنا ، ولكنا نستطيع القياس للتقريب .
إن الإنسان منا ليحس أحياناً - ولو نادراً - بشيء من الصفاء الروحي ، فيحس كأن فيضاً من النور يشع من حوله ويملأ نفسه ومشاعره ، ويحس كأنه أصبح كائناً جديداً غير الذي كان من قبل ، لا تثقله ثقلة الأرض ، ولا ينحبس في إطار جسده المحدود ، ولكنه(1/217)
يرفرف بروحه طليقاً من القيود . ويعود ينظر إلى الناس وإلى الوجود كله من حوله بنظرة جديدة وروح جديدة . فإذا بينه وبين الناس تعاطف ورحمة ، وبينه وبين الوجود مودّة وتجاوب . ويحس فوق ذلك كله أنه قريب من الله ؛ لأن مشاعره صارت أنظف وأطهر ، وشعوره بعظمة الله أكبر ، وتطلعه إلى رحمة الله أشد . كم تستغرق هذه اللحظات من حياة البشر ؟ وكم يطيقون أن يرتفعوا إليها ؟
إنها لحظات قليلة ولا شك في حياة الإنسان . ولكنها في نفسه عميقة الأثر . وإن آثارها لتظهر في طمأنينة نفسه من الداخل وفي طريقة تعامله مع الناس في الخارج . فيعاملهم بالمودة والرأفة ، وتتسع نفسه لاحتمال الجهد والصبر على ما يلقاه من الناس !
وحين تتكرر هذه اللحظات وتتقارب فإنها تعطي صاحبها سمة واضحة ، ويعرف الناس أن صاحبها عظيم ، وأنه ليس كالآخرين الذين يعيشون في إطار مصالح الأرض القريبة وشهوات النفس الهابطة .
ولكن للبشر على أي حال طاقة معينة يقفون عندها في هذه الأمور ، وبقدر ما يحصّلون منها تكون عظمتهم بالقياس إلى غيرهم من البشر .
والآن فلنتطلع إلى أفق آخر ..
فلنتصور إنساناً لا يعيش هذه المشاعر لحظات متفرقة ، ولا حتى لحظات متقاربة ، إنما هي الأصل في حياته ، وهي الزاد الدائم الذي تتغذى به روحه ، والأفق الدائم الذي يحلق فيه .. كيف يكون نوع مشاعره ، وعلى أي درجة من العظمة يكون ؟
ذلك ، بشيء من التقريب ، هو النبي - كل نبي ! - ثم تتفاوت مراتبهم بعد ذلك في الفضل !
ولنأخذ القضية كذلك من الجانب الآخر ..
إن الإنسان ليحس في بعض اللحظات أن الله راض عنه ، وقريب برحمته منه ، فكيف يكون أثر هذا الإحساس في نفسه ومشاعره ؟ ألا يحس أن نفسه تتسع وتتسع ، وروحه تصفو وترتفع ؟ ألا يحس بأن ذلك الفيض الإلهي قد ملأ قلبه بالنور ، ورفعه درجات عن الأرض ، حتى لكأنه ليس جسداً جاثماً على الأرض ، ولكنه روح ترفرف في السماء ؟(1/218)
ألا يجعله ذلك الفيض الإلهي أقرب إحساساً بعظمة الله ، وأشد رغبة في عبادته ، وأشد إخلاصاً في دعائه والتوكل عليه ، وأقرب إلى استجابة أمره ، والعمل بما يرضيه ؟ ثم ، ألا ينعكس ذلك كله على تكوين نفسه وعلى تعامله مع الناس ؟
فإذا كان ذلك من أثر لحظات عابرة يحس فيها الإنسان بذلك القرب من الله ... فكيف بمن يكلمه الله ؟ كيف بمن يتنزل عليه الوحي الرباني ، فَيَصِلُهُ الوحي الرباني بالله ؟!
ذلك - بالتقريب - شأن الأنياء ، ثم يتفاوتون فيما بينهم بما شاء لهم الله من درجات .
أما كيف يتم ذلك فأمر لا نعلمه نحن ، ولكنا نعلم أنه يتم بتهيئة خاصة من الله يمنّ بها على عبده الذي اصطفاه ، كما قال سبحانه وتعالى عن نبيه موسى : ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) [ طه : 39 ] .
وكما قال عن نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ الشورى : 52 ]
(3) الوحى وأنواعه
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الشورى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) [ الشورى : 51 ] .
تبين هذه الآية أنواع الوحي الرباني إلى عباده المصطفين ليكونوا رسلاً وأنبياء . إن الله لا يكلم أنبياءه مواجهة ، لأن هذه المواجهة لا يقوى عليها البشر في الحياة الدنيا . إنما يكلمهم بإحدى طرق ثلاث :
1- وحياً يُلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله . ويسمى ذلك أيضاً بالإلهام ومنه رؤى الأنبياء كرؤيا سيدنا إبراهيم أنه يذبح ولده اسماعيل : ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) [ الصافات : 102 ] .(1/219)
2- أو من وراء حجاب ، كما كلم الله موسى عليه السلام : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [ القصص : 30 ] .
دون أن يرى الله ، لأن ذلك مستحيل بالنسبة إليه ، فلما طلب الرؤية حين جاء إلى ميقات ربه لم يُجَبْ إلى طلبه : ( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ) [ الأعراف : 143 ] .
3- أو يرسل الله الملك المكلف بالوحي فيوحي إلى الرسول ما يشاء بطريقة من الطرق التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - :
الأولى : ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه دون أن يراه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ، وَإِنَّ رُوحَ الْأَمِينِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ رِزْقُهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِالْمَعَاصِي ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ " (1) . 0
الثانية : أن يتمثل الملك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى صورة رجل فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُنَاسٍ ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاءُ سَفَرٍ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ، يَتَخَطَّى حَتَّى وَرَكَ ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِسْلاَمُ ؟ قَالَ : الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَأَنْ تُتِمَّ الْوُضُوءَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمِيزَانِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ،
__________
(1) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (970 ) صحيح لغيره(1/220)
وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الإِحْسَانُ ؟ قَالَ : الإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ هَذَا ، فَأَنَا مُحْسِنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : فَمَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا ، قَالَ : أَجَلْ ، قَالَ : إِذَا رَأَيْتَ الْعَالَةَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبِنَاءِ ، وَكَانُوا مُلُوكًا ، قَالَ : مَا الْعَالَةُ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ ؟ قَالَ : الْعُرَيْبُ ، قَالَ : وَإِذَا رَأَيْتَ الأَمَةَ تَلِدُ رَبَّتَهَا ، فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، قَالَ : صَدَقْتَ. ثُمَّ نَهَضَ فَوَلَّى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيَّ بِالرَّجُلِ ، فَطَلَبْنَاهُ كُلَّ مَطْلَبٍ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا ؟ هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لَيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ ، خُذُوا عَنْهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى." (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلاَ يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ ؟ فَكَلَّمْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ شَيْئًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ فَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحْسَبُهُ ، قَالَ : وَكُنَّا نَجْلِسُ حَوْلَهُ فَإِنَّا لَجُلُوسٌ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَجْلِسِهِ ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبَ النَّاسِ رِيحًا وَأَنْقَى النَّاسِ ثَوْبًا كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ فَسَلَّمَ مِنْ طَرَفِ الْبِسَاطِ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : عَلَيْكَ السَّلاَمُ قَالَ : أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ : ادْنُهُ فَمَا زَالَ يَقُولُ : أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ ؟ وَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِرَارًا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَا الإِسْلاَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ أَسْلَمْتَ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقْتَ أَنْكَرْنَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : فَأَخْبِرْنِي مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ : الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَخْبِرْنِي مَا الإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 397) (173) صحيح(1/221)
لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي يَا مُحَمَّدُ مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ مَرَّةً أُخْرَى ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ أَوْ قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مَا الْمَسْؤُولُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَلَكِنْ لَهَا عَلاَمَاتٌ ، إِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبُهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ، وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ مُلُوكَ الأَرْضِ ، وَرَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّتَهَا فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلِمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ثُمَّ سَطَعَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ وَإِنَّهُ لِجِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنَّهُ لَفِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ." (1)
الثالثة : أنه كان يأتيه فى صورة صلصلة الجرس. وكان أشده عليه حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً فى اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رضى الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْىُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ - فَيُفْصَمُ عَنِّى وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِى فَأَعِى مَا يَقُولُ » . قَالَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا (2) .
الرابعة : أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع للرسول صلى الله عليه وسلم مرتين كما جاء في سورة النجم : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) [ النجم : 8 - 14 ] .
__________
(1) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (9 / 419) (4025) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2 ) -الصلصلة : صوت الجرس -يتفصد : يسيل - يفصم : يقلع عنى(1/222)
وعَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ ، تَقُولُ : أَعْظَمُ الْفِرْيَةِ عَلَى اللهِ مَنْ قَالَ : إِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ ، قِيلَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَا رَآهُ ؟ قَالَتْ : لاَ ، إِنَّمَا ذَلِكَ جِبْرِيلُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ : مَرَّةً مَلَأَ الْأُفُقَ ، وَمَرَّةً سَادًّا أُفُقَ السَّمَاءِ." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ ، وَلَهُ سِتُّ مِئَةِ جَنَاحٍ ،كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ." (2)
(4) حاجة البشر إلى الرسالة
خلق الله البشر وهو أعلم باحتياجاتهم .
لقد خلق لهم أجساداً تحتاج إلى الغذاء لكي تنمو وتعيش حتى تقضي أجَلَها المقدَّر لها ، كما تحتاج إلى الكساء والمأوى . وخلق لهم عقولاً تحتاج إلى المعرفة والتعليم لتقوم بما تطلبه الأجساد من غذاء وكساء ومأوى . وتقوم بما كلف الإنسان به من عمارة الأرض : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
وخلق لهم أرواحاً تحتاج إلى الهداية لتستقيم حياة الإنسان في الدنيا والآخرة .
ثم إن الله تكفّل بكل احتياجات البشر ، لأنهم لا يملكون شيئاً بغير تلك الكفالة الربانية التي تعطيهم كل شيء ، وبغيرها لا يملكون شيئاً على الإطلاق .
تكفّل بالرزق كله ، وجعله في متناول الإنسان في الأرض التي نشأ منها وفيما يحيط بها من ماء وهواء وأفلاك : ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) [ فصلت : 10 ] .
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) [ الملك : 15 ] .
( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 258) ( 60) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 55) (3748) صحيح(1/223)
وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) [ ابراهيم : 32 - 34 ] .
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) [ الجاثية : 13 ] .
وتكفل بالمعرفة التي تحتاج العقول إليها ، وزوّد الإنسان بالأدوات اللازمة لتحصيلها : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) [ البقرة : 31 ] .
( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ النحل : 78 ] .
( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [ العلق : 3 - 5 ] .
( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ) [ الإسراء : 12 ] .
وتكفل كذلك بالهداية التي تحتاج إليها الأرواح فأرسل الأنبياء والرسل ليبينوا للناس الحق ويهدوهم إليه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [ النحل : 36 ] .
ومع أن الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بكل ذلك رحمة منه بعباده بغير إلزام ( فمنذا الذي يملك إلزام الله جل وعلا بأي شيء على الإطلاق ؟! ) .. مع ذلك فإن الإنسان ليطغى ، ويظن في لحظة غفلته أنه مستغن عن كفالة الله في أي أمر من الأمور ! ( كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) [ العلق : 6 ، 7 ] .
يظن أحياناً أنه - بجهده الذاتي - هو الذي يخرج الزرع من الأرض ليأكله ، ويستخرج الماء ليشربه ، ويعمر الأرض ليسكنها ويستمتع بها ، ويقول : أنا الذي فعلت ذلك !
من أجل ذلك يذكره الله : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (1) ، لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا
__________
(1) قد يظن بعض الناس لأول وهلة أن إنزال المطر من السحاب، أو ما يسمونه المطر الصناعى، يتعارض مع هذه الآية، وأن الإنسان أصبح هو الذى ينزل الماء من المزن وليس الله جل جلاله! وهذا الوهم السطحى لا حقيقة له. فالإنسان لا يخلق السحاب، وليس هو الذى خلق الماء الذى يتصاعد إلى الجو فى هيئة بخار ويتكون منه السحاب الذى ينزل منه المطر. وحين يتحكم الإنسان فى استنزال الماء من بعض السحب فهو يستخدم السنن الربانية التى يتكاثف بها السحاب ويمطر، ولا يأتى بشىء من عند نفسه! ولقد جاءت الأخبار من أوربا (عام 1396 من الهجرة الموافق لعام 1976من ميلاد المسيح) بأن الجفاف قد حل بأوربا بصورة لم يسبق لها مثيل منذ مائة وخمسين عاماً خلت، فاحترقت الزروع والأشجار، ومات منها الكثير، ونفقت الماشية، ووزعت المياه على الناس بالبطاقات فى بعض بلدان أوربا، ووقف الإنسان بكل علمه واختراعاته عاجزاً أمام هذا الأمر الربانى0(1/224)
فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) [ الواقعة : 63 - 74 ]
وبذلك يرده إلى الحقيقة ، وهي أن الله هو المنشئ والصانع ، وأنه إذا كان - سبحانه - قد يسَّر للإنسان تسخير طاقات السماوات والأرض لعمارة الأرض وسكناها والاستمتاع بخيراتها ، فكل ذلك من عنده - سبحانه - وبما أودع الإنسان من قدرة على التعرف على سنن الله التي يدير بها الكون ، واستخدام هذه المعرفة لمنفعته . ولكن الإنسان بذاته لا يملك شيئاً ! ولو شاء الله لجعل الزرع حطاماً بعد أن يبذل الإنسان كل جهد فيه ! ولو شاء لجعل الماء النازل من السحاب أجاجاً لا يصلح للشرب (1) ،، ولو شاء كذلك لم ينشئ المادة التي تتولد منها الطاقة الحرارية التي يستدفئ بها الإنسان فأوجعه البرد أو قضى عليه !
كذلك يفرح الإنسان بما عنده من العلم ويحسب أنه من عند نفسه ، وأنه مستغن به عن الله ، فيذكّره الله : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ النحل : 78 ] .
فأدوات المعرفة هي أصلاً منحةٌ من عند الله ، فضلاً عن أنها لا تؤدِّي إلى المعرفة بذاتها ، وإنما بما أودعها الله من قدرة على التعلم : ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [ العلق : 4 ، 5 ] .
ولو شاء الله لذهب بسمع الناس وأبصارهم وأفئدتهم فلا يقدرون على شيء ! أو لو شاء الله لسلب قدرتهم على التعلم فلا يقدرون على شيء مع وجود السمع والأبصار !
__________
(1) إن مشيئة الله هى التى جعلت عملية البخر التى ينشأ منها السحاب والمطر تصعد الماء العذب إلى السماء وتترك الملح فى جوف البحر، فينزل المطر من السحاب عذباً صالحاً للشرب، ولو شاء الله لغير سننه فجعل المطر ينزل أجاجاً كماء البحر فيموت الإنسان عطشاً. وإلى ذلك تشير الآية: ((لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون))0(1/225)
كذلك يظن الإنسان أنه مستغنٍ عن هداية الله ، أو أنه أعلم بأموره ومصالحه من الله !
والجاهلية المعاصرة أوضح مثال على ذلك ، وإن كانت الجاهليات كلها - لسبب أو لآخر - تتنكب طريق الهداية الربانية .
يقول الإنسان لنفسه في كل جاهلية ، وفي الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة : إن لي عقلاً يفكر ، فأنا أفكر بعقلي وأدبر أمري كله بغير حاجة إلى هداية الله .
ثم يكون من نتيجة ذلك كل الضلال والظلم والاضطراب الذي تعج به كل جاهلية ، وهذه الجاهلية بصفة خاصة !
إن الإنسان الجاهلي حين يقول هذه القولة الضالة يغفل عن مجموعة من الحقائق :
1- يغفل أولاً عن أن هذا العقل الذي يتبه به عجباً هو موهبة من الله وليس كسباً ذاتياً من عند الإنسان ! فواجب الشكر على هذه النعمة ذاتها يقتضي أن يرجع الإنسان إلى ربه فيما أمر به من منهج لاستخدام هذا العقل والاستفادة بطاقته ، وقد رسم الله منهجاً للتفكر في ملكوت الله يؤدي بالإنسان إلى معرفة الله الواحد الحق ، وما ينبغي تجاه الله من عبودية وطاعة والتزام .
2- ويغفل ثانياً عن أن الله منشئ هذا العقل ومانحه للإنسان قد جعل لطاقته حدوداً معينة لا يستطيع أن يتعداها ، ثم كلفه ما يدخل في طاقته ، ولم يكلفه ما لا يقدر عليه وما ليس من شأنه .
فهذا العقل - مثلاً - مهيأ للتعامل مع الكون المادي ، واستنباط السنن التي يجري بها الله هذا الكون ( أي ما نسميه في علم الفيزياء : خواص المادة ) ، واستخدام هذه المعرفة في تسخير طاقات السماوات والأرض من أجل عمارة الأرض والاستمتاع بما فيها من متاع
ولكنه ليس مهيأ لمعرفة الغيب مهما اجتهد ومهما حاول .
وليس قادراً على الإحاطة بالأشياء كلها ، وأوضح دليل على ذلك " العلم " ذاته ، فهو يصف ما يستطيع معرفته من " ظواهر " الأشياء ولكنه لا يتعرض " لكنهها " ؛ لأن " الكنه " خارج عن إدراكه ! يتحدث مثلاً عن ظواهر الكهرباء ولكنه لا يعرف ما سرها . يتحدث عن خواص المادة ولكنه لا يتحدث عن المادة ذاتها ، ولقد حللها إلى أبسط(1/226)
تكويناتها وهي الذرة ، ثم حلل الذرة ، فقال : إنها طاقة كهربية سالبة وموجبة ومتعادلة . وبقي السؤال الذي لا جواب له عند العلم ، ولا عند العقل : ما الطاقة ذاتها ؟! سؤال لا إجابة له إلا هذه الإجابة : إنها شيء أودعه الله في بنية هذا الكون فحسب !
فإذا كان هذا موقف العقل من الأشياء فكيف يكون هو الحكم في الغيبيات التي لا سبيل له إلى إدراكها ، وفي الأمور التي يحتاج الحكم فيها إلى الإحاطة الكاملة بكل شيء ؟!
3- على أن هذا الإنسان الجاهلي حين يقول هذه القولة الضالة يغفل عن شيء آخر شديد الأهمية ( أو هو يغالط فيه في الحقيقة ) ، وهو أن الذي يتحكم في حياة الناس في الجاهلية ليس هو العقل في الحقيقة ولكنه الهوى والشهوات ، سواء كان هوى فرد واحد أو مجموعة من الأفراد أو هوى كل الناس !
والجاهلية المعاصرة أوضح نموذج لذلك .
وإلا فأين مكان " العقل " عند الناس في الفوضى الخلقية المتفشية في أرجاء الأرض ، وكل تجارب التاريخ تؤكد أنه ما من أمة فشت فيها الفوضى الخلقية إلا كان مصيرها إلى الانهيار ؟!
وأين العقل عند الدول الكبرى وهي تنفق على أسلحة الدمار ما لو أنفقته في شئون السلم ما بقي في الأرض كلها جائع واحد ولا محتاج ؟!
وأين ذهب العقل عن " الإنسان " كله في هذه الجاهلية ، وهو يرى نتيجة بعده عن الله : الاضطراب والحيرة والأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والضياع ، ومع ذلك يصر على المضي في طريق الغواية ويتنكب طريق الله ؟!
كلا ! إنه ليس العقل هو الذي يتحكم في حياة الناس في الجاهلية ، ولكنه الهوى والشهوات .. ثم يزعم الإنسان لنفسه أنه في غنى عن هداية الله !
على أن الجاهلية المعاصرة - وإن كانت أسوأ جاهليات التاريخ وأشدها عتواً - ليست هي النموذج الوحيد لضلال البشرية حين تبعد عن هداية الله . والتاريخ مليء بالنماذج الصارخة على ذلك الضلال .(1/227)
ففي الجاهلية الفرعونية كان الفرعون - وهو بشر يولد من أبوين بشريين - يعد إلهاً ! وتصل به الجرأة على الله أن يقول على ملأ من الناس : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) ! ويعبده الناس ويتقدمون له بشعائر العبادة !
وفي الجاهلية الهندية تعد البقرة إلهاً ! ويتبرك الناس بالاستحمام من بولها المقدس !
وفي الجاهلية العربية - وغيرها - كانوا يعبدون أصناماً ينحتونها بأيديهم ثم يقدمون إليها القرابين والصلوات !
وبالإضافة إلى هذه الضلالات التي تقع فيها الجاهليات فهنالك لون آخر من الشرك تقع فيه كل جاهلية حين لا تتحاكم إلى شريعة الله .
فحين لا يكون شرع الله هو المتبع فلا بد أن يشرِّع البشر لأنفسهم ، وعندئذ يصبح بعض الناس أرباباً لبقية الناس . فالذين يشرِّعون من دون الله ويحلون ويحرمون على هواهم يتخذون من أنفسهم أرباباً في الواقع ، ويستعبدون الناس بسلطانهم ويخضعونهم لأهوائهم . والآخرون عبيد لهذه الأرباب ، ينفذون إرادتها ولا يملكون مخالفتها ، لأنها تملك السلطة التي تخضعهم بها . ومن هنا يصبح الإنسان عبداً لبشر مثله ، بدلاً من أن يكون على وضعه الكريم الذي كرمه به الله : عبداً لله وحده دون شريك .
وفضلاً عن ذلك فإن الفئة التي تشرع تضع التشريعات دائماً لصالحها على حساب المستضعفين الذين يقع عليهم عبء هذه التشريعات دون أن ينالوا من خيراتها إلا الفتات . فحين كان الإقطاع سائداً في الأرض كان الإقطاعي هو السيد الذي يملك السلطة والباقون هم العبيد . وفي الرأسمالية يكون الرأسماليون هم السادة المسيطرون والعمال هم العبيد . وفي الشيوعية يكون الحكام - أعضاء الحزب الشيوعي - هم السادة المستمتعون بكل الخيرات وبقية الشعب هم العبيد . ولا يكون الناس أحراراً إلا حين تكون شريعة الله هي الحاكمة في الأرض . فعندئذ فقط يكون الحاكم والمحكوم سواء أمام القانون ، لأنه قانون الله المنفذ على الجميع ، لم يضعه فرد ولا طائفة لمصلحتهم الخاصة . ويكون الحاكم والمحكوم معاً عبيداً لله على سواء ، خاضعين لحكم واحد هو شريعة الله .(1/228)
كذلك توجد دائماً في كل جاهلية ألوان من الاختلالات الاجتماعية والخلقية والنفسية والفكرية تنشأ كلها من الابتعاد عن منهج الله .
ففي الجاهليات القديمة تجد أمثلة مضحكة ومقززة في ذات الوقت .
فقد كان المجرم في الجاهلية الإغريقية يُعَدّ بطلاً إذا استطاع أن يرتكب جريمته ويفلت من العقاب ! أما إذا لم يستطع الإفلات ووقع في يد الشرطة فعندئذ فقط يعد مجرماً يستحق العقاب ...
وفي الجاهلية العربية كانوا يئدون البنات ، وكان الرجل يرث عن أبيه كل شيء حتى زوجاته ( غير أمه ) فيصبحن جزءاً من الميراث !!
وفي بعض بلاد الهند والتبت كانت المرأة التي يموت عنها زوجها تدفن معه حية ولا يعد ذلك جريمة في نظر الناس ، وإنما يعد قياماً بواجب الوفاء من الزوجة لزوجها !
وأما الجاهلية المعاصرة فلا تقل سوءاً إن لم تكن أسوأ ! ونظرة سريعة إلى المجتمع البشري المعاصر تكشف عن بشاعة ما فيه من اختلالات .
تقول الإحصاءات الأمريكية : إن نسبة الطلاق في أمريكا تزيد على 40 % من مجموع الزيجات ، ومعنى ذلك اضطراب أحوال الأسرة وعدم استقرارها .
وتقول إن مرض الجنون يفتك بعدد من أفراد الشعب الأمريكي يزيد على أي وباء آخر من الأوبئة الفتاكة . ومعنى ذلك أن نوع الحياة الذي تقدمه الجاهلية المعاصرة لا يتلاءم مع فطرة الإنسان ولا يسعدها .
وتقول : إن نسبة الجريمة في ارتفاع مستمر ، وإن وسائل الإعلام و " التليفزيون " بصفة خاصة من العوامل المؤثرة في ارتفاع نسبة الجريمة .
وتقول : إن الجنوح الإجرامي عند الأطفال والمراهقين أصبح يشكل خطراً على مستقبل الأمة ، وإن من أهم أسباب هذا الجنوح غياب الأم عن البيت لانشغالها في العمل ، وعدم وجود من يرعى الأطفال وينشِّئهم التنشئة الصالحة لأن المحاضن لا يمكن أن تغني غناء البيت ..
وهذا كله رغم الرفاهية الظاهرية التي يعيش فيها الشعب الأمريكي !(1/229)
كلا ، لا يستطيع الإنسان أن يحيا حياة سليمة بعيداً عن الهداية الربانية .
وكل حياة البشر بعيداً عن المنهج الرباني خلال التاريخ مصداق لهذه الحقيقة وشاهد عليها
ولم يستطع العقل البشري مرة واحدة أن يضع منهجاً متكاملاً خالياً من العيوب .. وكلما أبرز التطبيق العملي عيباً في تلك المناهج البشرية حاول البشر إصلاحه بعيب جديد تظهر نتائجه المنحرفة بعد حين من الزمان .
ذلك أن وضع المنهج الصالح لحياة البشر يحتاج إلى جملة أمور يقصر عنها العلم البشري .
أولاً : يحتاج إلى معرفة حقيقية كاملة بالكيان البشري ذاته . والإنسان - على الرغم من كل العلم المادي الذي عرفه - ما يزال شديد الجهل بكيانه الذاتي ، كما يقول " ألكسيس كاريل " أحد المفكرين الغربيين ، وهو بالتالي شديد الجهل بما يصلحه وما يصلح له (1) 0
ثانياً : يحتاج إلى إحاطة كاملة بماضى الجنس البشرى وحاضره ومستقبله، والتجارب التى خاضها وأسبابها ونتائجها. وهذا يستحيل استحالة كاملة على الإنسان، لأن كثيراً من أحداث الماضى مجهول له، وهو عاجز عن الإحاطة بكل أحداث الحاضر الذى يعيشه، أما المستقبل فهو غيب موصد أمامه لا يستطيع الاطلاع عليه0
ثانياً : يحتاج إلى إحاطة كاملة بماضي الجنس البشري وحاضره ومستقبله ، والتجارب التي خاضها وأسبابها ونتائجها . وهذا يستحيل استحالة كاملة على الإنسان ، لأن كثيراً من أحداث الماضي مجهول له ، وهو عاجز عن الإحاطة بكل أحداث الحاضر الذي يعيشه ، أما المستقبل فهو غيب موصد أمامه لا يستطيع الاطلاع عليه .
ثالثاً : ثم إنه يحتاج إلى أن يكون واضع المنهج غير متحيز ، لا مصلحة له في أمر من الأمور ، ولا هوى ولا شهوات . وهذا أمر لا يتوفر أصلاً في الإنسان ، الذي ينجذب دائماً إلى
__________
(1) ألكسيس كاريل طبيب وعالم فرنسى ألف مجموعة من الكتب فى شتى الأبحاث العلمية والاجتماعية، من أهمها كتاب بعنوان ((الإنسان ذلك المجهول))، نص فيه على أن الحضارة الغربية تضع مناهج سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وتعليمية للإنسان وهى تجهل طبيعة ذلك الإنسان الذى تضع له هذه المناهج! ومن ثم تكون النتيجة هى الخطأ الدائم والاضطراب، وهذا هو السب فى أننا نزيد تأخراً وهمجية كلما ازددنا تقدماً فى الظاهر. وقال : إن عجز الإنسان عن معرفة طبيعة نفسه هو عجز أصلى لا سبيل إلى التغلب عليه، وأنه لا مناص لنا من الرجوع إلى حكمة الخالق، لأن حكمتنا الذاتية قاصرة ومضللة!(1/230)
مصلحته الذاتية ( كما يراها من وجهة نظره وكثيراً ما تكون خاطئة ) وتحركه دائماً الأهواء والشهوات ما لم يلتزم بأمر الله : ( إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) [ المعارج : 19 - 22 ] .
رابعاً : ويحتاج واضع المنهج إلى علم كامل بمن يطيعه في السر والعلن ، وإلى قدرة تامة على مجازاة من يطيع ومعاقبة من يعصي حتى يكون المنهج محترماً ومطبقاً ، وهذه الأوصاف لا تتوافر في الجنس البشري ، فالإنسان لا يرى إلا في حدود ما تبصر عيناه ، ولا يسمع إلا في حدود ما يبلغ سمعه .
أما الله عز وجل فإنه يعلم جميع ما يفعله الإنسان من خير وشر ، قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ المجادلة : 7 ] .
والله عز وجل قادر على أن يجازي من أطاعه ويعاقب من عصاه على الدقيق والجليل ، قال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
ومن ثمَّ فإن المنهج الصالح لا يمكن أن يأتي إلا من مصدر واحد هو الله تعالى .
فالله هو الذي يعلم حقيقة الإنسان لأنه هو الذي خلقه سبحانه : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [ الملك : 14 ] .
والله هو الذي يعلم كل شيء في حياة البشر - وفي الكون كله - علم إحاطة واطلاع : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) [ سبأ : 2 ] . ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سبأ : 3 ] .
والله هو الذي شرع التشريع الحكيم لأنه هو الغني القادر ، وليس محتاجاً إلى شيء مما عند الناس وهو الواهب لهم كل شيء ، وهو الذي لا يزيد في ملكه أن يكون الناس كلهم على قلب أتقى رجل منهم ، ولا ينقص في ملكه أن يكونوا على قلب أفجر رجل(1/231)
منهم،فعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنْ جِبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحْرِمًا فَلَا تَظْلِمُوا، يَا عِبَادِي إِنَّكُمُ الَّذِينَ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمُ، اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
والهداية الربانية التي تشتمل على المنهج الصالح لحياة البشر طريقها هو الرسل والرسالات .
ومن ثم تصبح الرسالة حاجة بشرية لا غنى عنها ، ولا استقامة لحياة البشر بدونها .
وكما تكفل الله سبحانه وتعالى - رحمة منه بعباده - بكل ما يحفظ حياتهم من الطعام والكساء والمأوى والعقل المدبر المنظم ، فقد تكفل - سبحانه - كذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب لتستقيم حياة الناس في الأرض .
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) [ الحديد : 25 ] 0
(5) مهمة الرسل
? إن المهمة الأولى للرسل هى هداية البشرية إلى معرفة الخالق وتوحيده 0
ولقد قلنا من قبل : إن الفطرة البشرية بذاتها تعرف وجود الخالق وتتجه إليه بالعبادة . ولكنها كثيراً ما تضل ، فتتصور الخالق على غير حقيقته وتشرك معه آلهة أخرى . ومن ثم
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 300) (6686 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6737 )(1/232)
يرسل الله الرسل ليعرّفوا البشر بحقيقة خالقهم وينفوا من عقولهم ونفوسهم التصورات الباطلة عن الله سبحانه وتعالى وما يترتب عليها من انحرافات في الفكر والسلوك ، وليعالجوا بصفة خاصة قضية الشرك ، وهي أشد ما يتعرض له البشر من انحراف في تصورهم للخالق وسلوكهم نحوه .
يقول الرسل جميعاً لأقوامهم : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ الأعراف : 59 ، 65 ، 73 ، 85 ]
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 25 ] .
فالله سبحانه وتعالى واحد أحد : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) [ الإخلاص ] .
ومن ثم تنتفي كل بنوة لله أو قرابة لأحد من البشر أو الجن أو الملائكة مما تعج به خرافات الجاهلية ، ما باد منها وما لا يزال باقياً حتى اليوم .
كذلك ليس الله متمثلاً في صنم أو وثن أو في الشمس أو القمر أو النجوم أو غيرها من الكائنات ، فكلها مخلوق والله هو الخالق : ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) [ فصلت : 37 ] .
( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) [ النجم : 49 ] .
( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) [ الأعراف : 194 ] .
وكذلك فإن الله لا يشرك في حكمه أحداً ولا يوزع اختصاصاته سبحانه على أحد من خلقه ، ولا ينتزعونها هم منه قهراً عنه !
( لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) [ الكهف : 26 ] .
( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) [ سبأ : 22 ] .(1/233)
( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) [ الأنبياء : 29 ] .
كما يقوم الرسل بتعريف البشر بإلههم بصفاته كلها وأسمائه الحسنى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [ الأعراف : 180 ] .
( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ الحشر : 22 - 24 ] .
فإذا عرف البشر ربهم على هذه الصورة ، وانتفى كل وهم باطل عنه في أذهانهم وفي مشاعرهم ، بقيت القضية الثانية التي يضل البشر بشأنها في جاهليتهم ، وهي الطريقة الصحيحة لعبادة الله .
? العبادة الصحيحة :
إنَّ العبادة ليست فقط في الاعتقاد بأن الله واحد لا شريك له ، ولا في تقديم شعائر التعبد من صلاة ونسك ودعاء لله وحده دون شريك ، بل هناك أمر آخر :
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 3 ] .
إنه لا بد من اتباع ما أنزل الله ، وإلا فقد بطلت العبادة ولم يصبح المعبود إلهاً واحداً وإنما إلهين اثنين . واحد تُقَدَّم له شعائر التعبد ، وواحد يشرع وتطاع تشريعاته من دون الله :
( وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) [ النحل : 51 ] .
تلك هي المهمة الكبرى للرسل جميعاً صلوات الله عليهم وسلامه : أن يهدوا البشرية لإلهها الواحد ، ويدلوهم على الطريقة الصحيحة لعبادته ، وبذلك تقوم حياتهم على قاعدتها الصحيحة : إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية ، وتوحيد العبادة له في الاعتقاد وشعائر التعبد واتباع ما أنزل الله من التشريع ، أي الحكم بما أنزل الله .(1/234)
* وتبعاً لهذه المهمة تجيء المهمة الثانية وهي تعريف الناس بالمنهج الحق الذي تستقيم به حياتهم في الدنيا وينالون به رضوان الله في الآخرة . وذلك بتبليغ ما أوحى به الله إليهم ، وشرحه وبيانه ، وتعريف الناس بطريقة تطبيقه وتدريبهم على ذلك كما يفعل المعلم مع تلاميذه حتى يطمئنوا أن أتباعهم قد وعوا ما أنزل الله وعياً صحيحاً وطبقوه التطبيق الصحيح .
وهذه المهمة تحتاج منهم إلى الصبر والمثابرة وسعة الصدر لأنها ليست مجرد إلقاء دروس عابرة ، ولا قراءة من كتاب . إنما هي مهمة التعليم ، بكل ما يشتمل عليه التعليم من مشقات .
* ولا تقتصر مهمة الرسل على التعريف والتعليم ، على ما لهذا الأمر من أهمية بالغة في حياة الناس ، إنما تمتد إلى التربية . فليس دين الله معلومات تلقى ثم تحفظ . إنما هو سلوك عملي بمقتضى التعليم الرباني . والسلوك العملي لا يكتسب فجأة ، ولا يكتسب بغير جهد يبذله المربِّي والمتلقي على حد سواء . المربِّي - وهو هنا الرسول - يبذل جهده في التوجيه والملاحظة والمتابعة والتذكير والصبر الطويل على انحرافات الناس حتى تستقيم ، وبذل النصح باللين والمودة حتى تتقبله النفوس وتعمل بمقتضاه . والمتلقي يبذل الجهد في ضبط أهوائه حتى تستقيم مع المنهج المنزل ، ومقاومة الشهوات التي تجنح به عن الطريق ، ودفع وساوس الشيطان التي تزين له المعصية والبعد عن طاعة الله .
ومهمة التربية من أشق المهام التي يقوم الرسل بأدائها ؛ لأن النفوس لا تستقيم على المنهج الصحيح بمجرد دعوتها إليه ! حتى لو عرفت وآمنت بأنه هو الحق ، وأنه هو الأولى بالاتباع ! ذلك أن في النفوس نزعات دائمة التطلع إلى متاع الحياة الدنيا ولذائذها ، ويحتاج ضبطها داخل حدود الله التي يقول الله عنها : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ) [ البقرة : 229 ] . ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ) [ البقرة : 187 ] .
يحتاج هذا الأمر إلى جهد ليس بالقليل ، وإلى تذكير دائم بالله وخشية منه ، لأن لحظة الغفلة التي ينسى فيها الإنسان ذكر ربه هي التي يتحينها الشيطان لينفذ منها إلى قلب الإنسان : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ) [ طه : 115 ] .(1/235)
( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) [ الأعراف : 27 ] .
( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ ) [ النساء : 117 - 119 ] .
وعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً فَحَدَّثْتُهُ ، ثُمَّ جِئْتُ لَأَنْقَلِبَ ، فَقَامَ مَعِي يَقْلِبُنِي وَكَانَ مَنْزِلُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَرَأَنَا رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَّعَا رُؤُوسَهُمَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَى رِسْلِكُمَا ، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ ، فَقَالاَ : سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّي خِفْتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبُكُمَا شَيْئًا ، أَوْ قَالَ : شَرًّا." (1) 0
( أ ) ووسيلة الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - إلى تربية أتباعهم وتقويم نفوسهم حتى تستقيم على أمر الله وتتحصن من غواية الشيطان ، تبدأ من ذات أنفسهم ، بأن يكونوا هم أنفسهم القدوة في كل ما يدعون الناس إلى اتباعه .0
عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، قُلْتُ : فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ ، قَالَتْ : لاَ تَفْعَلْ ، أَمَا تَقْرَأُ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ} حَسَنَةٌ ؟ فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ." (2) 0
لذلك يختار الله أنبياءه - وهم صفوة الخلق - من ذوي الأخلاق العالية التي تكون نموذجاً للناس : ( وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ) [ صّ : 48 ] . ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [ القلم : 4 ] .
(ب) إنها تحتاج إلى الصبر والحلم وسعة الصدر : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [ الكهف : 28 ] .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 428) (3671) وصحيح البخارى- المكنز - (2038) وصحيح مسلم- المكنز - (5808 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 144)(24601) 25108- صحيح(1/236)
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) [ آل عمران : 159 ] .
(جـ) تحتاج إلى التذكير الدائم بالله ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الذاريات : 55 ] .
(د) وتحتاج إلى معايشة الناس ومصاحبتهم وملازمتهم لا العزلة والانقطاع عنهم ، حتى تقدَّم لهم التوجيهات والتعليمات في مناسباتها ، وتتم الملاحظة والمتابعة المطلوبة التي لا بد منها حتى يستقيم الناس على الخلق المطلوب ، وتكون هناك فرصة لبذر العادات الصالحة في نفوسهم .
(هـ) وتحتاج إلى معرفة بطبائع النفوس ومداخلها لتقديم التوجيه المناسب لها بالطريقة التى تقومها ولا تنفرها: قَالَ عَلِىٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (1) 0
وعَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِى كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ .قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِى مِنْ ذَلِكَ أَنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّى أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِهَا ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا .. (2) 0
* ومن مهام الرسل كذلك تعريف الناس بالقيم الحقيقية التي تستحق الاعتبار وتستحق أن يحرص الناس عليها ويسعوا إلى تحصيلها .
إن الناس بطبيعتهم منجذبون دائماً إلى متاع الأرض : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [ آل عمران : 14 ] .
وهم يحتاجون دائماً إلى من يرفعهم من ثقلة الأرض هذه ويبصرهم بالقيم العليا التي ينبغي أن يتجهوا إليها من صدق وإخلاص وأمانة وتضحية وكرم وشجاعة وإيثار وعدل ، مما
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (127 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (70 ) -يتخول : يتعاهد -السآمة : الملل والضجر(1/237)
يليق بالإنسان الذي كرمه الله وفضَّله وجعله خليفة في الأرض وحمَّله الأمانة الكبرى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30 ] .
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ الإسراء : 70 ] .
( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ ) [ الأحزاب : 72 ] .
وهذه المهمة هي في الحقيقة جزء من مهمة التربية التي أشرنا إليها من قبل ولكنا نفردها بالحديث لأهميتها ، ولأن الرسل يخوضون صراعاً مريراً من أجل تقريرها أولاً ، ثم تربية فريق من الناس عليها .
فإن الذي يصد الناس عن الإيمان بالرسل بادئ ذي بدء هو حرصهم على متاع الدنيا الزائف وخوفهم من أن يحرمهم منه الإيمان بالله والحكم بما أنزل الله !
فأما الملأ فإنهم يكونون مستحوذين على سلطان باطل يستعبدون به الناس لأهوائهم ومطامعهم ويخضعونهم بالقوة لذلك السلطان . لذلك فإنهم يحاربون الرسل ويصدون عن دعوتهم ، لأن هذه الدعوة تحرمهم من سلطانهم وطغيانهم برد الحكم لله ونزع حق التشريع من أيدي البشر ورده إلى الله الذي يشرع بالعدل بين الناس ويأمر به : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [ النساء : 58 ] .
وأما العبيد فعلى الرغم من أن الرسول المرسل من عند الله يجيء لتحريرهم من العبودية للملأ ، ورد إنسانيّتهم المسلوبة إليهم بجعلهم عبيداً لله وحده الذي يستحق العبادة ، لا عبيداً لبشر مثلهم ، يتحكمون فيهم بالهوى والطغيان .. على الرغم من ذلك فإن الغالبية منهم تصد عن الرسل في مبدأ الأمر ولا تتبع هدايتهم .. وذلك لأنهم يكونون دائماً غارقين في الشهوات التي يأتي دين الله ليطهرهم منها ، ولكنهم - قبل أن يهتدوا - لا يرون ذلك تطهيراً وإنما يرونه - بنفوسهم المنحرفة - حرماناً من لذائذ الأرض المتاحة !
( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) [ البقرة : 212 ] .(1/238)
( وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ) [ الرعد : 26 ] .
( وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ) [ إبراهيم : 2 ، 3 ] .
وهؤلاء الكفَّار ، والملأ بصفة خاصة ، لا يتركون النبي المرسل يؤدي رسالته ، بل يتعرضون له بالأذى الذي يصل أحياناً إلى التهديد بالقتل أو السجن أو الطرد والنفي ، بل يصل في بعض الأحيان إلى التنفيذ ، كما قتل النبي يحيى والنبي زكريا .
( قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) [ الشعراء : 116 ] .
( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) [ الأعراف : 88 ] . ((قال (1) لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين))(الشعراء:29)0
وهنا - حين يتعرض الرسل لتلك المحنة - فإنهم - بسلوكهم العملي - يبرزون القيمة الحقيقية التي تستحق الحرص عليها والجهاد من أجلها .
لقد كانوا يملكون أن يتخلوا عن عقيدتهم وإيمانهم ويركنوا إلى المسالمة فينجوا من العذاب الذي يلقونه هم وأتباعهم والاضطهاد الذي يتعرضون له . أو كانوا يملكون في القليل أن يحتفظوا بالحق الذي عرفوه في دخيلة أنفسهم ويكفوا عن الدعوة التي تزعج الكفار والملأ بصفة خاصة ، فلعلهم لا يتعرضون لهم إن بقوا مؤمنين في ذات أنفسهم دون أن يدعوا أحداً غيرهم إلى الإيمان !
ولكن الرسل جميعاً يأبون ذلك على أنفسهم . يأبون أن يشتروا بكلام الله ثمناً قليلاً هو متاع الحياة الدنيا الزائل الزائف الرخيص . ويأبون أن يتخلوا عن دعوتهم حتى من أجل سلامتهم الشخصية وراحتهم .
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عُرِضَ عليه الملك والثروة والجاه والسلطان وكل مغريات الأرض فأباها ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّه - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) فرعون لموسى 0(1/239)
فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي ، إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي ، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك ، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ قَالَ فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ فِيهِ بَدَاءٌ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ . قَالَ فَقَالَ رَسُول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يَا عَمّ ، وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَدًا . (1) 0
وهنا يقررون - بصورة واقعية مشهودة - أن القيمة الحقيقية العليا هي الإيمان بالله ، والدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيل الله ، وأن ذلك أفضل وأعلى وأغلى من متاع الأرض كله ، ومن الذهب والسلطان .
عندئذ تتغيَّر القيم والمعايير في حياة الناس .
فأما الأتباع الذين آمنوا فإنهم يرون رسولهم الذي اقتدوا به وآمنوا على يديه يصبر على الأذى في سبيل عقيدته ويصر عليها ولا يتخلى عنها تحت أي ضغط من إغراء أو تهديد ، فيقتدون به ويصبرون معه على الأذى والاضطهاد والتشريد والتعذيب والحرمان ، ويستعلون بالعقيدة على متاع الأرض كله كما استعلى سحرة فرعون بعد إيمانهم : ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ، قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ، قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ طه : 70 - 73 ] .
وأما بقية الناس فإنهم - تدريجياً - يستيقظون من غفلتهم ، إذ يرون قوماً من الناس يُهدَّدون في أمنهم وراحتهم ، وفي كل المتاع الذي يحرصون هم عليه ويرون أنه غاية الحياة كلها وأغلى ما فيها ، ومع ذلك لا يتخلون عن إيمانهم وعن عقيدتهم . فيتعلمون أن
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (1 / 266) صحيح مرسل(1/240)
هناك في الحياة ما يحرص عليه أكثر من المتاع ، وما يضحى من أجله بالمتاع . وذلك هو رضوان الله ومتاع الآخرة : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ (1) لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) [ العنكبوت : 64 ] .
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [ آل عمران : 185 ] .
وعندئذ يعدِّلون معايير حياتهم ليرتفعوا كما ارتفعت تلك الفئة المؤمنة ويدخلون في الإيمان
وأما الذين أصروا على الباطل واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورفضوا الهدى الرباني فأولئك مآلهم الدمار والبوار إما في الآخرة ، وإما في الدنيا والآخرة معاً : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) [ ابراهيم : 28 - 30 ] .
وهكذا تتقرر القيم العليا - في ذروتها - من خلال الصراع الذي يخوضه الرسل وأتباعهم بين الحق والباطل ، ويتميز النفع الحقيقي من الزيف : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) [ الرعد : 17 ] .
( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ البقرة : 251 ] .
( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ الحج : 40 ] .
(6) أثر الرسل فى حياة الناس
الرسل أعظم الناس أثراً في التاريخ الإنساني ، ذلك لأنهم يحملون معهم الإصلاح الجذري الذي يصلح النفس البشرية ويقومها . ولأنهم هم القدوة الصالحة لكل خير .
__________
(1) أى الحياة الحقيقية التى تستحق أن يحرص عليها والحاوية للمتاع الحقيقى0(1/241)
لقد كان في تاريخ البشرية " قادة " كثيرون و " زعماء " و " مصلحون " . ولكنهم - ما عدا القلة المؤمنة منهم - كانوا محدودي الأثر في حياة الناس ، ولا يعدو تأثيرهم - مهما عظموا - الجيل الذي عاشوا فيه ، أو على الأكثر بضعة أجيال قليلة بعدهم .
والسبب في ذلك واضح :
1- فهم غالباً ما يتصدون لحل مشكلة جزئية في حياة أقوامهم . ويحلونها في حدود البصيرة البشرية المحدودة الآفاق .
2- ثم إن أشخاصهم لا تخلو قط من انحراف من الانحرافات البشرية العديدة ، ومن نقص وهبوط في بعض الجوانب .
ولهذين السببين معاً يكون تأثيرهم - مهما عظم - محدود النطاق .
انظر إلى الزعيم السياسي - أيّ زعيم سياسي في حياة البشرية - ما مهمته التي يسعى إلى تحقيقها ؟
إن مهمته محصورة في تجميع أمته من شتات . أو تخليصها من نفوذ أجنبي مسيطر عليها . أو السعي إلى تغليبها على الأمم الأخرى .
لكن ، ما القيم والمعايير التي يبنى جهاده عليها ، ويوجه أمته إليها ؟
إنها - مهما كانت - قيم ومعايير محدودة لأنها مرتبطة بمتاع الأرض القريب ، منقطعة عن الله والآخرة . ومن ثم فهي قيم هابطة وإن بدت مرتفعة في أعين الناس في فورة حماستهم السياسية التي يدفعهم زعماؤهم إليها ! وستظل أخلاق الناس معوجة في مجموعها وإن حسنت بعض جزئياتها ، لأنها أخلاق محكومة بتلك القيم الأرضية المحدودة . وستظل النفوس في انحرافها وإن ارتفعت مؤقتاً في فورة حماستها ، لأن الأهداف التي تسعى إليها أهداف لا تتعلق بأصل الوجود الإنساني بقدر ما تتعلق بعارض من عوارض هذا الوجود . وقد يصلح العارض ويظل الأصل بعيداً عن الصلاح .
لذلك تقرأ سِيَر الزعماء السياسيين في تاريخ البشرية - غير القلة المؤمنة - وتبحث عما خلّفوا في الأرض فلا ترى إلا آثاراً كالأطلال !(1/242)
واقرأ سيرة أي قائد حربي من عظماء التاريخ .. فما المهمة التي قام بها وما الآثار التي خلفها ؟
إن مهمته محصورة في قيادة الجند وتوجيههم إلى القتال ، والانتصار بهم في أكبر قدر من المعارك التي يخوضونها . نعم ! ولكن فيم كانت الحرب ذاتها ؟ لأي هدف خاضها ، ولأي شيء انتصر بجنده فيها ؟ أمن أجل الحق والعدل ؟ أمن أجل تثبيت مثل أعلى وإقرار وجوده في حياة البشر ؟ أم من أجل الغلبة وتوسيع الرقعة الأرضية وشهوة السيطرة على الآخرين وإذلالهم ؟ وفي أي شيء يختلف الغالب والمغلوب ؟ أم إنهما سواء ، كل منهما يتمنى أن يفتك بالآخرين لو استطاع ؟!
ما سمعنا - في غير القلة المؤمنة من قواد التاريخ - أن أحداً منهم قام من أجل مثل أعلى يريد إقراره في الأرض ، أو قيمة عليا يجاهد من أجلها ، ليرفع من نفوس البشر ويقربهم إلى مستوى الإنسانية ! إنما الذي يغلب عليهم هو شهوة الفتح وزهو الغلبة والمطامع الأرضية المتمثلة في توسيع الرقعة وزيادة الثروة على حساب المغلوبين و " وويل للمغلوب " ! كما قال واحد ممن يحسبون قادة في التاريخ (1) ، لأن الحرب ليست لها أخلاق ! ولا قانون يحكمها إلا قانون الغاب : القوي يأكل الضعيف ! لذلك تبحث عن آثارهم الباقية في التاريخ فلا ترى إلا بعض البطولات الفردية في القتال ، ولكن لا تجد قيماً باقية . وحتى الإمبراطوريات الضخمة التي يكونونها على عهدهم سرعان ما تتفسخ وتنطوي لأنها لا تمثل " قيماً " إنسانية ، إنما تمثل شهوات بشرية فحسب ! وانظر سير " المصلحين " الاجتماعيين ... كيف يصلحون ؟ وما آثارهم الباقية في التاريخ ؟
أغلبهم - فيما عدا القلة المؤمنة المهتدية بهدي الله - ذوو نظرات جزئية ، تتفق مع جزئية التفكير البشري وعدم قدرته على الإحاطة ، فضلاً عن الجهل الأصيل بطبيعة النفس البشرية ودروبها ومنحنياتها ، وما يصلحها وما يصلح لها !
أغلبهم يتناولون مشاكل اجتماعية جزئية يجدونها قائمة في مجتمعاتهم دون أن يتعمقوا إلى الأصول التي تنشأ عنها المشكلات ، ثم يحلونها حلولاً جزئية كذلك بغير تقويم شامل
__________
(1) هو الإمبراطور ((غليوم)) إمبراطور ألمانيا وأحد قادتها العسكريين 0(1/243)
لنفوس البشر ذاتها التي ينشأ من انحرافها ما نشأ من خلل في تلك المجتمعات . فضلاً عن التعسف في معالجة الأمور في كثير من الأحيان لما رُكِّب في طبع الإنسان من عجلة : ( خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) [ الأنبياء : 37 ] . ولرغبته في أن يرى الثمرة السريعة في عمره المحدود .
وكثيراً ما يحدث - كما وقع في قضية تحرير المرأة في أوربا - أن " الإصلاح " لا يكون جزئياً وقاصراً فحسب ، بل يكون على حساب جوانب أخرى يفسدها ذلك الإصلاح المزعوم ويخربها . فرفع الظلم الواقع على المرأة الغربية ، دون الرجوع إلى الحلول الصحيحة المتضمنة في المنهج الرباني ، قد أدى - كما نراه اليوم - إلى إشقاء المرأة ذاتها بإنهاكها في العمل خارج البيت بالإضافة إلى تكاليف الأسرة والأولاد ، وتمزيق أعصابها بين أبنائها المتشبثين بها وبين مقتضيات العمل في الخارج ، كما أدى إلى تحول المرأة إلى سلعة في السوق ، رخيصة الثمن لمن أراد ، وذلك فضلاً على الفساد الخلقي الذي ملأ المجتمع ، وتفسخ روابط الأسرة وضياع النشء الجديد الذي ليس له أمٌّ ترعاه وتربيه التربية الصحيحة .
وليس هذا هو النموذج الوحيد لضلال " المصلحين " وتقديمهم للحلول التي تفسد أكثر مما تصلح . فإليك مثلاً آخر في اتجاه آخر :
لقد قام " مصلحون " ينددون بالظلم الواقع على العمال في المجتمع الرأسمالي ، وينادون بضرورة رفع هذا الظلم وإصلاح الانحراف ، وكان كلامهم صحيحاً من حيث المبدأ بصرف النظر عن صحة الأدلة التي يستدلون بها أو عدم صحتها ، فإن الرأسمالية نظام جاهلي منحرف ، يقوم على أساس المعاملات الربوية التي حرَّمها الله ، ويؤدي حتماً إلى أن فريقاً قليلاً من الناس يظل يأكل الربا أضعافاً مضاعفة كما وصف القرآن ، فيزدادون ثراء على حساب الكثرة المستضعفة التي تظل تهبط مواردها على الدوام وتتضاءل ، فيقع عليها الظلم المتزايد ، بينما الفئة القليلة تعيث في الأرض فساداً بتراثها الفاحش تفسد به الأخلاق ، وتنتهك به الأعراض ، وتدوس به على كرامة الآدميين . ويزيد الأمر سوءاً في تلك المجتمعات الجاهلية أن هذه الفئة الطاغية هي التي تشرع - لأن تلك المجتمعات لا(1/244)
تتحاكم إلى شريعة الله - ومن ثَمَّ فإنها تضع التشريعات التي تضمن لها مزيداً من الثراء ، وتوقع مزيداً من المظالم على المستضعفين !
فالرأسمالية انحراف جاهلي ظالم . هذا صحيح .
وقد قام " المصلحون " ينددون بمظالمه ويطالبون بضرورة إصلاحه .
ولكن كيف أصلحوه ؟!
إنهم - وهم لا يتبعون منهج الله ولا يستمدون منه الحلول لمشاكلهم - لا بد أن يخرجوا من مأزق إلى مأزق ، ومن انحراف إلى انحراف .
لقد قالوا إن الملكية الفردية هي سبب الظلم كله فلنُلْغِ الملكية الفردية ! ولنُنْشِئْ مجتمعاً بلا تملك ! أما الذين في أيديهم الملكية اليوم فلا بد من إبادتهم بادئ ذي بدء ، وجعل الملكية كلها في يد الدولة - نيابة عن المجتمع - والدولة يشرف عليها الحزب الشيوعي الذي يعتنق هذه الأفكار !
لقد أصبح الناس جميعاً أجَرَاء للدولة ، وهي التي تعيِّن لهم أعمالهم ، وتحدد لهم أجورهم ، وساعات عملهم ، ومكان عملهم كذلك . وبالتالي لم يعد أحد يجرؤ أن يفتح فمه بكلمة نقد واحدة للدولة ، وإلا فَقَدَ عمله فمات من الجوع إن لم يتعرض للهلاك في السجن والتعذيب والتشريد ! وبعبارة أخرى أصبح الناس عبيداً على نطاق واسع ، وأصبحوا من خوف الموت الحسي في موت معنوي ، تحت ضغط الحديد والنار والتجسس الذي يجعل الأب لا يثق بابنه والأخ لا يثق بأخيه !
وفي الوقت الذي استعبدت فيه الدولة الناس لقاء لقمة الخبز وعيش الكفاف ، كان أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم في بحبوحة من العيش وترف لا يقل بذخاً عن الرأسماليين في الغرب الرأسمالي !
وهكذا يفعل " المصلحون " الذين لا يستمدون من منهج الله . 0
أما " الفلاسفة " فلهم شأن آخر !
إنهم قوم يعيشون في " الأبراج العاجية " كما يُقال ! أي يعيشون في عالم الأفكار المجردة في عزلة عن الممارسة ، وعزلة عن الناس .(1/245)
إنهم ينظرون إلى المجتمع البشري فيرون فيه مجموعة من العلل والانحرافات فيحللون أسبابها ويفكرون في علاج لها ، وبصرف النظر عن صحة تحليلاتهم أو فسادها وجدوى حلولهم أو عدم جدواها ، فإنهم هم أنفسهم لا يقومون بتجربة عملية لها في عالم الواقع . إنما هي أفكار . مجرد أفكار . عمل يتم كله في داخل الذهن ولا يمتد إلى دنيا الواقع .
وقد يتوصل بعضهم بالفعل إلى نظرة عميقة شاملة ، ودراية - نظرية - بالنفس البشرية وطبيعتها ، ولكنهم - وهم بعيدون عن ميدان التجربة الواقعية ، والاتصال المباشر مع الناس - لا يستطيعون أن يقدموا حلولاً واقعية قابلة للتطبيق ، فيظل جهدهم محصوراً في تقديم أفكار جميلة براقة ، قد تعجب القارئ أو السامع لأول وهلة ، ولكنها نادراً ما تحركه لعمل شيء في عالم الواقع . فيظل المجتمع بعلله وانحرافاته على ما هو عليه ، وتظل أفكار الفيلسوف البراقة مُثُلاً معلقة في الفضاء ! وتبحث في التاريخ عن الآثار الباقية لهؤلاء الفلاسفة فلا تجد إلا تأثرات فردية ، ولا تكاد تجد مجتمعاً تحول عن طريقه أو قوّم انحرافاته نتيجة فِكْرٍ فكّر فيه فيلسوف ! إلا أن يعتنق فكره قوم من الناس فيتحول في نفوسهم إلى عقيدة يقومون بالدعوة إليها والجهاد في سبيلها ، وعندئذ تؤثر - لا بذاتها ، ولا بعمل الفيلسوف الذي فكَّر فيها - وإنما بجهد الذين اعتنقوها ودعوا إليها . وكثيراً ما يتضح عند التطبيق أن أفكار الفيلسوف في صورتها التي قدمها بها غير قابلة للتطبيق العملي ، وأنها في حاجة إلى تعديلات جوهرية أو صياغة جديدة ليمكن الاستفادة بها في عالم الواقع .
أما الأنبياء فشأنهم مختلف
1- إنهم أولاً يتكلمون بأهوائهم ولا بتصوراتهم الخاصة ، ولا بتصورات البشر القاصرة المحدودة ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم : 3 ، 4 ] .
2- لذلك فإن ما يدعون إليه الناس من قيم ومثل ومبادئ وأخلاق وسلوك عملي ليس متأثراً برؤيتهم الشخصية كالزعماء و " المصلحين " ، ولا بمصالحهم الذاتية أو أطماعهم أو أحقادهم ( كما قامت الشيوعية على الأحقاد ! ) ولا بالقصور البشري الذي يعجز عن الإحاطة ، ومن ثم يعجز عن تقديم الحل الصحيح .
3-(1/246)
وهم ثانياً - بالتوجيه الرباني - لا يتعاملون مع المشكلات الجزئية العارضة ، إنما يتعاملون مع الجذور الأصلية العميقة . يتعاملون مع النفس البشرية مباشرة فيقوّمون انحرافاتها من الجذور قبل أن يتوجهوا لإصلاح المظاهر الخارجية للانحراف .
4- إنهم لا يعالجون المشاكل الاقتصادية منفصلة كما صنعت الشيوعية . ولا المشاكل الاجتماعية منفصلة كما صنع دعاة تحرير المرأة . ولا المشاكل السياسية منفصلة كما يصنع الزعماء السياسيون في بلادهم .. فتكون الحلول كلها غير مجدية جدوى حقيقية لقصورها وجزئيتها ، فضلاً عن إفسادها لجوانب الحياة الأخرى ، لأن كل زعيم أو مصلح من هؤلاء حن يحاول علاج الجزئية الخاصة به يغفل عن آثارها في الجوانب الأخرى ، أو لا تهمه الجوانب الأخرى - وخاصة الأخلاقية والروحية - كما قال قائلهم : الاقتصاد لا علاقة له بالأخلاق ! والسياسة لا علاقة لها بالأخلاق !
5- أما الأنبياء المؤيدون بالوحي فلا يقعون في هذا الخطأ الفادح الذي يقع فيه الزعماء و " المصلحون " . إنما يعنون بتقويم النفس من أساسها ، ثم يقدمون الحلول الشاملة التي يوحي بها الله إليهم لعلاج انحرافات المجتمع ، فيقوم الإصلاح على أساس مكين من داخل النفس ، فضلاً عن تكامل هذا الإصلاح المتمثل في منهج شامل ، لا يحل جزئية ويدع جزئية أخرى ، كما أنه لا يحل جزئية على حساب جزئية أخرى . فلا ينشأ عنه الخلل الذي تتسم به مناهج البشرية الجاهلية .
6- ثم إن الحلول التي يقدمونها - بالتوجيه الرباني - ليست أفكاراً إصلاحية كأفكار الفلاسفة ، وإنما هي مناهج عملية منزلة من لدن اللطيف الخبير الذي يعلم كل شيء عن النفس البشرية والمجتمع البشري ، ويعلم الطريقة الصحيحة التي تستقيم بها حياة البشر على الأرض : ( قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) [ البقرة : 140 ] .
7- ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 216 ] .
8- والأنبياء بذواتهم هم القدوة الحية التي تتمثل فيها بادئ ذي بدء المبادئ والقيم والأفكار التي يدعون إليها . فالله سبحانه وتعالى يختار أنبياءه ورسله من الأخيار ، ثم(1/247)
يصوغ نفوسهم الصياغة التي تؤهلهم لحمل الحق الذي الذي يبلغونه للناس " أَدَّبَني رَبِّي فأَحسَنَ تأديبي " (1) . فليس فيهم النقائص ونقط الضعف التي تعتري الزعماء والمصلحين من البشر العاديين ، والتي لم ينج منها زعيم واحد ولا قائد ولا مصلح خلال التاريخ البشري كله . إنما يبعثهم الله أنقياء أتقياء ، طاهرين مطهرين ، فيكونون هم النموذج الذي يحتذى ، ولا تقع الفرقة - كما تقع دائماً في حياة المفكرين والمصلحين - بين ما يفعلونه وما يدعون إليه .
9- والأنبياء ليسوا كالفلاسفة الذين يقدمون الأفكار وهم محتجبون عن الناس في أبراجهم العاجية . إنما هم يختلطون بالناس ويدعونهم دعوة مباشرة إلى الأفكار والمبادئ والقيم التي يحملونها . وأهم من ذلك أنهم يربون أتباعهم عليها . وذلك هو الجهد الحقيقي الذي يبذله الأنبياء ويؤتي ثماره في واقع الأرض . إن الأفكار التي يحملونها لا تظل مُثُلاً معلقة في الفضاء ، إنما تتحول إلى واقع حي من خلال أشخاصهم أولاً ، ثم من خلال هذا الفريق من البشر الذين يربونهم . ومن ثم يصبح الأمر الذي يدعى الناس إليه واقعاً مشهوداً يعرف الناس صورته الواقعية ، فيقبلون عليه حين يرون ثماره الجميلة متمثلة في واقع بشري يرونه أمام أعينهم .
10- ثم إن الوسيلة الحقيقية العظمى التي يسلكها الأنبياء في إصلاح الحياة البشرية وتقويمها هي ربط القلب البشري بالله ، يتطلع إليه ويخشاه . وتلك أفضل الوسائل في الإصلاح وأبعدها أثراً في واقع الحياة . وذلك قبل اللجوء إلى الوسائل الأخرى كلّها التي تستخدم عادةً في تنظيم الحياة البشرية . ومن أجل ذلك يكون بناؤهم راسخاً شديد الرسوخ لأنه يعتمد على عنصر أصيل عميق في داخل النفس . بينما لا تملك النظم الأخرى كلها - التي تقوم على مناهج البشر - إلا أن تغري الناس بالمنافع والمصالح أو ترغمهم بقبضة السلطان . ومن ثم تنهار تلك النظم بمجرد أن تنتهي المنافع والمصالح أو
__________
(1) - أخرجه ابن السمعانى فى أدب الإملاء (ص1- طبعة العلمية) ، وابن الجوزى فى العلل (1/178 ، رقم 284) ، وقال : لا يصح ، وفيه مجهولون وضعفاء . والحديث ذكره السخاوى فى المقاصد (ص 39 ، رقم 45) وضعفه ، وكذا العجلونى (ص72 ، رقم 164) .(1/248)
تضعف قبضة السلطان . بينما يبقى البناء الذي يبنيه الأنبياء على مدار التاريخ راسخ الأركان .
11- وكما ينفرد الرسل بمنهجهم الإصلاحي الشامل - الموحى به من عند الله - وبالطريقة التي يثبتون بها دعائم هذا المنهج في واقع البشر عن طريق القدوة والتربية ، فإنهم ينفردون كذلك بالعلم النافع الذي يقرب من الله وينجي من عذابه يوم القيامة .
إن " المصلحين " جميعاً - فيما عدا القلة المؤمنة منهم - لا يوجهون البشر إلا إلى النفع القريب الحاصل في الحياة الدنيا ، ولا يوجهونهم أبداً إلى الله واليوم الآخر !
إن آفاقهم محصورة في الحياة الدنيا ، بحكم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم لآخر ، لذلك فإن توجيهاتهم لأقوامهم لا تخرج عن نطاق آفاقهم المحدودة ، كما أنهم - بحكم بشريتهم من ناحية ، وبعدهم عن الإيمان بالله من ناحية أخرى - يوجهون أقوامهم إلى الالتفاف حول أشخاصهم ، أو - في أفضل الأحوال - حول مبادئهم وقيمهم المحدودة الآفاق .
وهذا العلم الذي يعلّمونه لأقوامهم عن طريق توجيهاتهم ومناهجهم قد يكون مفيداً في الحياة الدنيا ( على فرض خلوه من العيوب وهو عادةً لا يخلو منها ! ) وقد يعطي الناس بعض ما يشتهونه في الحياة الدنيا من متاع يتمثل في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والسلامة والصحة والرفاهية والمال والأولاد ...
ولكنه - على فرض خلوه من النقائص والعيوب والانحرافات .. وتحقيقه لمصالح الناس في الأرض (1) -فإنه ينتهي بأصحابه إلى البوار ، لأنهم كما وصفهم القرآن : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [ الروم : 7 ] .
إن حياة الإنسان لا تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا ، وإنما تنتهي مرحلة منها فحسب ، وتبدأ مراحل أخرى تنتهي بالبعث والنشور ، والامتحان الذي يكرم المرء فيه أو يهان ، فيصل إلى النعيم الخالد أو العذاب المقيم .
__________
(1) رأينا من الواقع التاريخى، والتاريخ المعاصر بصفة خاصة، أن هذا لا يتحقق بتمامه أبداً فى واقع البشر . فمن ناحية ينقسم الناس فى الجاهلية دائماً إلى سادة وعبيد، ومن ناحية أخرى تتحقق بعض المصالح دائماً على حساب المصالح الأخرى، وتصلح بعض الأمور بفساد أمور أخرى! ولكننا نفترض هذا جدلاً 0(1/249)
ولو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف لصحت دعوى أولئك المصلحين فيما يدعون إليه من ألوان " الإصلاح " ! وإن كانت في واقع الأمر لا تحقق كل مصالح الناس وتورث كل جيل مفاسد الجيل الذي قبله !
فكيف والحياة التي يحياها الناس على الأرض هي أقصر مراحلها ؟! سنوات معدودة هي سنوات العمر المحدود ، وبعد ذلك من الآماد ما لا يحصيه إلا الله ! ثم بعد ذلك الخلود !
ألا إنه هو الخسران المبين حين ينحصر تفكير الناس في الحياة الدنيا ، ولو أصلحوا كل أمور الحياة الدنيا واستمتعوا فيها بكل ما يشتهون ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [ الشعراء : 205 - 207 ] . فكيف وهم لا يصلحون كل أمور الأرض ؟ وكيف ونعيم الأرض دائماً مشوب ، وأقل عيوبه القلق الدائم عليه من تقلب الأحوال ، وهي دائماً تتقلب ، ومن الموت وهو لا بد أن يجيء ؟!
إنها الخسارة المضاعفة .. في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) [ العنكبوت : 64 ] .
لذلك فكل علم الأرض لا ينفع ، إذا انقطع بالإنسان عن الله واليوم الآخر . إنما العِلْم النافع هو الذي ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم معاً ، فيحقق لهم مصالحهم الحقيقية في الدنيا ، ويصل بهم إلى دار الأمان في الآخرة : ( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) [ ابراهيم : 23 ] .
( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) [ الأنبياء : 102 ، 103 ] .
العلم النافع هو المعرفة اليقينية بالله واليوم الآخر ، واتباع ما أنزل الله في الحياة الدنيا . هذا هو الذي يضمن للناس حاضرهم ومستقبلهم . فأما حاضرهم فيصلح ويستقيم باتباع المنهج الرباني ، وأما مستقبلهم فيصلح بدخول الجنة التي وعد الله بها المتقين من عباده ، الذين آمنوا به في الحياة الدنيا واستقاموا على أوامره وانتهوا عن نواهيه . وعندئذ يكون(1/250)
العلم الأرضي كله - من طب وهندسة وعلوم ورياضيات وكيمياء وفيزياء .. إلخ - محققاً الفائدة لأنه يعين الناس على تحقيق المنهج الرباني ولا يفتنهم عن الآخرة . وإلا فإنه - هو ذاته - يصبح علماً ضاراً إذا استخدم في تزيين الحياة الدنيا بحيث تفتن الناس عن عبادة ربهم الحق ، وتنسيهم ثواب الله وعقابه ، وتغرقهم في ضلال الشهوات .
وهذا العلم النافع ينفرد به الأنبياء والرسل لأنهم يتلقونه تلقياً مباشراً من الله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي ، ويؤمنون به إلى درجة اليقين ، ثم يدعون الناس إلى الإيمان به لتصلح دنياهم وآخرتهم .
أما الدعاة الآخرون و " المصلحون " ، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فإنهم يرفضون هذا العلم النافع ابتداء ، فكيف يعلمونه للناس ؟ ويستنكفون عن عباة الله فكيف يدعون إلى عبادته ؟
وبالعلم النافع وحده صلحت أحوال الناس خلال التاريخ ، واستخدم العلم الأرضي في ظله في نفع الناس وفي الخير . وبغير هذا العلم - الذي تفرد به الأنبياء والرسل ، ودعا به الدعاة المؤمنون من بعدهم - ظل العلم الأرضي ينفع ويضر ، ويزداد ضرره على نفعه على مر الأجيال ، حتى يصبح في الجاهلية المعاصرة كما نراه اليوم : أداة للإفساد والتدمير أكثر مما هو أداة للإصلاح والتعمير !!
(7) فضل الرسل على تقدم البشرية
حين نتحدث عن تقدم البشرية يتبادر إلى ذهن البعض منا - بتأثير الجاهلية المعاصرة - أننا سنتحدث عن التقدم المادي من سيارات وطائرات وما إليها من الوسائل والأدوات .. !
ولا ينبغي أن يظن هذا الظن من ينظر إلى الأمور نظرة عميقة ونظرة جادة !
فالتقدم المادي جانب من التقدم البشري ، نعم ، مهمّ وضروري ، ولكنه ليس هو الذي يضع الإنسان في مكانه من سلم الرقي " الإنساني " . إنما الذي يضعه في ذلك المكان هو مقدار ما يشتمل عليه من القيم والمبادئ " الإنسانية " تصوراً وسلوكاً ، وفكراً ومشاعر . ولنعقد موازنة سريعة تحسم لنا الحكم في هذه القضية : هل مجتمع الصحابة رضوان الله(1/251)
عليهم أفضل في المقياس الإنساني أم المجتمع الغربي المعاصر بما يعج به من مفاسد ومظالم واضطرابات وانحرافات ؟
أيهما أقرب إلى صورة الإنسان " في أحسن تقويم " كما خلقه الله وكما أراده أن يكون : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) [ التين : 4 - 6 ] .
أيهما أحب إلى الله وأحب إليك : ذلك الصحابي الجليل في تقواه وورعه ، وصدقه ، وأمانته ، ونظافة سلوكه ونظافة مشاعره ، وعدله واستقامته ، وتواضعه لله عز وجل مع ترفعه عن السفاسف والدنايا ، وشجاعته في الحق ، وحرصه على الموت في سبيل الله والعقيدة التي يعتنقها ، وفي سبيل تحرير الناس من عبادة العباد وعبادة الشهوات إلى عبادة الله الواحد بلا شريك .. أم ذلك الغربي المنتفش بما لديه من علم ظاهري ، المتجبر في الأرض بما لديه من إمكانات مادية ، الهابط في حمأة الشهوات ، المتردي في تعامله مع نفسه وتعامله مع الآخرين إلى عالم الحيوان : ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) [ التين : 5 ] .
حقيقة أن المسلمين - بعد أن استقر لهم أمر الدين ، ومكنوا في الأرض - قاموا يسعون إلى تحصيل العلم الأرضي والتقدم المادي ، وبلغوا فيه شأناً لم يبلغه غيرهم في وقتهم ، شعوراً منهم بأن هذا واجب عليهم للقيام بعمارة الأرض بالحق كما أمرهم الله .. ولكن ظل المقياس الذي يقيسون به حياتهم هو المقياس " الإنساني " لا المقياس المادي . المقياس الذي وضعه الله العليم الحكيم لتقويم " الإنسان " ، لكي يكون " في أحسن تقويم " منفرداً بين خلق الله بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة الكبرى التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ الإسراء : 70 ] .
فحين نتحدث عن تقدم البشرية فإنما نتحدث عن تلك القيم والمبادئ التي تجعل من الإنسان إنساناً بصرف النظر عن حظه من التقدم المادي : كيف يتعامل مع ربه ؟ كيف يتعامل مع نفسه ؟ كيف يتعامل مع الآخرين ؟(1/252)
وفي هذا المجال - وهو مجال الحياة الأصيل في الحقيقة - نجد أن الفضل الأكبر هو للأنبياء والرسل قبل كل الخلق ، لأنهم هم - بما أوحى إليهم ربهم ، وبما جاهدوا في سبيل الله - هم الذين قرروا تلك المبادئ والقيم في واقع الأرض ، وجعلوها حقيقة واقعة في عهدهم ، وتراثاً يُتَنََاقل من بعدهم .
ونستطيع أن نقول في اطمئنان إن كل ما عرفته البشرية من خير حقيقي مرجعه إلى الوحي الرباني الذي حمله الرسل ودعوا إليه ، ووثّقوا وجوده الواقعي في الأرض بجهادهم ، وإن كل ما أصاب البشرية من شر كان سببه الانحراف عن تعاليم الرسل وعدم الاقتداء بهم . وحين يختلط الحق بالباطل كما هو اليوم ، ويختلط الخير بالشر كما يحدث في كل جاهلية ، يكون ما بقي من الخير في الأرض - أياً كان مقداره - راجعاً إلى الأنبياء والرسل ، وما فيها من الشر راجعاً إلى الناس .
إن كل ما تتشدق به البشرية اليوم من الحق والعدل والحرية والإخاء والمساواة مستمد - في أصله - من تعاليم الرسل ، مع فارق واحد : أنه كان على يد الرسل حقيقة واقعة ، ربّوا عليها أتباعهم ، وجعلوها سلوكاً واقعياً في حياتهم ، وهي على يد الأفَّاقين اليوم كلام جميل يخدع به الناس دون أن يكون له رصيد من الواقع !
وإن الفترات المشرقة في تاريخ البشرية كله هي الفترات التي سادت فيها تعاليم الرسل وكانت واقعاً يعاش بالفعل ولا يكتفي بأن يردد بالقول .
وتلك الفترات هي فترات الحضارة الحقيقية والمدنية الفاضلة ، وما عداها فهو حضارات جاهلية زائفة ، يختلط فيها الخير بالشر ، ثم يظل الشر يتزايد حتى يصبح هو الغالب على حياة الناس ، ويظل يأكل ما بقي من خير متضائل حتى ينهار البناء كله على من فيه كما يوشك أن يحدث اليوم .
ولن ينقذ البشرية من الدمار اليوم - ولا في أي يوم - إلا أن تعود إلى تعاليم الرسل تطبقها في واقع حياتها ، وإلا أن تعود مسلمة إلى ربها : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) [ آل عمران : 19 ] .(1/253)
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ آل عمران : 85 ] .
(8) مهمة التعليم الأساسية
إن مهمة التعليم الأساسية هي تربية الناس على تلك القيم والمبادئ التي جاء الرسل ليحققوها في واقع الأرض ، قبل أن تكون هي إعطاء المعلومات وتكثيفها في أذهان الناس
إن البشرية لا تتقدم بحشو المعلومات في أذهان الناس ، ولا بتحويل هذه المعلومات إلى سيارات وطائرات ، وأدوات للمتاع الأرضي ، أو إلى قنابل ومدمرات !
إنما تتقدَّم - كما رأينا في الفقرة السابقة ونحن نتحدث عن فضل الرسل على تقدم البشرية - بالقيم والمبادئ " الإنسانية " ، على أن تكون واقعاً عملياً لا كلمات تلاك في الأفواه بغير رصيد من الواقع . والسبيل إلى بذر تلك القيم والمبادئ هو التعليم (1)
وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول ، بعد الله سبحانه وتعالى : ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) وكان هو المربي الأكمل ، فمهمة المعلم كذلك أن يكون هو القدوة لتلاميذه فيما يربيهم عليه من مكارم الأخلاق وأن يهتم بتربيتهم عليها ، ولا يكتفي بتلقينهم المعلومات وتدريبهم على الخبرات ، فأياً كانت قيمة تلك المعلومات والخبرات فهي وحدها لا تصنع " إنساناً " ولا تحرك البشرية إلى عمل واحد من أعمال الخير . إنما الذي يحركها إلى عمل الخير هو إيمانها بالقيم العليا والمبادئ لإنسانية . والمدفع هو المدفع ، ولكنه في يد المؤمن أداة لتمكين الحق في الأرض وإقامة العدل الرباني في حياة الناس ، بينما هو في يد الكافر أداة للبغي والظلم والطغيان في الأرض بغير الحق . وكذلك كل ثمار " التقدم العلمي " هي أدوات يمكن استخدامها للخير كما يمكن استخدامها للشر . والذي يحدد وجهتها وغايتها هو القيم الكامنة في قلب من يستخدمها .
__________
(1) التعليم فى المصطلح الإسلامى يعنى التربية أساساً، ويشمل المعلومات كذلك، وليس مقصوراً على إعطاء المعلومات والخبرات كما هو الشائع فى كلام ((التربويين)) اليوم. ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى : ((وقل رب زدنى علما)) (طه:114). وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ. صحيح ابن حبان - (1 / 283) (82) صحيح أى لا يقرب من الله 0(1/254)
من أجل ذلك كانت المهمة الأولى للتعليم - قبل إعطاء المعلومات وتكوين الخبرات - هي تكوين هذا القلب الذي سيستخدم المعلومات والخبرات ، لكي يستخدمها للخير لا للشر ، يستخدمها لنفع البشرية لا لضررها .
وتكوين القلب إنما يكون بتأديبه بأدب النبوة ، فذلك هو السبيل إلى الارتفاع به حتى يصبح ( في أحسن تقويم ) ، إذ الأنبياء - وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - هم صفوة الخلق ، وهم القدوة في مكارم الأخلاق . فإذا تأدب الإنسان بأدبهم في الأمانة والصدق ، والاستقامة والعدل ، ونظافة الظاهر والباطن ، المستمدة كلها من تقوى الله وخشيته ، فقد تجمّع له الخُلُق الفاضل ، وتحققت به الغاية التي سعى الرسل لتحقيقها . ومن ثم صار " إنساناً صالحاً " كما يريده الله ، وتحقق به وعد الله في الدنيا والآخرة : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) [ النور : 55 ] .
( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) [ الحج : 41 ] .
( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء : 105 ] .
وبعبارة أخرى فإن مهمة التعليم الأساسية هي تكوين الإنسان العابد لله ، بالمعنى الواسع الشامل للعبادة ، الذي يشمل الاعتقاد والعمل . يشمل شعائر التعبد وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهذا الإنسان العابد لله - بالمعنى الشامل للعبادة - هو الذي يقيم المدينة الفاضلة . هو الذي يعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني . هو الذي يقيم العدل الرباني بين الناس . هو الذي ينتصر للحق . هو الذي يجاهد في سبيل تحقيق المثل العليا ، وتحويلها إلى واقع حيّ ملموس
(9) جناية النزعة المادية الإلحادية(1/255)
إنَّ الجناية الكبرى للنزعة المادية الإلحادية الشائعة اليوم في الجاهلية المعاصرة هي حرمانها للبشرية من الاهتداء بالمنهج الرباني والاقتداء بهدي النبوة . ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) [ ابراهيم : 30 ] .
لقد قطعت تلك المادية الملحدة ما بين الناس وبين الله : ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [ الرعد : 25 ] .
وأوصدت قلوبهم عن الاستماع لوحي الله ، بل أنكرت الرسالات والرسل أصلاً ، بل لجت في غيها إلى إنكار وجود الله : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) [ الأعراف : 146 ] .
واستكبروا في الأرض بغير الحقِّ واستنكفوا عن عبادة الله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ غافر : 56 ] .
وماذا كانت نتيجة ذلك الاستكبار بالباطل ، والبعد عن هداية الله ؟
كانت النتيجة أن الشيطان أصبح هو المعبود في الأرض بدلاً من الله !
إنّ دعاة المادية الملحدة قد أوهموا الناس أن الإنسان حين يُلقي عنه عبادة الله سيصبح سيد نفسه ، ويصبح هو الله ! (نستغفر الله) (1) فماذا صار في الحقيقة ؟
صار الناس عبيداً للطغاة بصورة لم يشهدها التاريخ ، سواء طغاة الرأسمالية في الغرب أو طغاة الشيوعية التي قامت في الشرق .
وصار الناس عبيداً للآلة ، هي التي تحركهم وتسيرهم وتكيِّف أفكارهم ومشاعرهم .
__________
(1) يقول أحد كتابهم الملحدين -0 وهو جوليان هكسللى - فى كتاب ((الإنسان فى العالم الحديث)): ((لقد تعلم الإنسان وأصبح مسيطراً على البيئة ولم يعد جاهلاً بالكون ولا عاجزاً عن السيطرة على طاقاته كما كان من قبل، ومن ثم فقد آن للإنسان أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل - فى عصر الجهل والعجز - على عاتق الله، ويصبح هو الله))! وهذا مصداق قوله تعالى : ((كلا الإنسان ليطغى(6) أن رآه استغنى))(العلق:6،7)0(1/256)
وصار الناس عبيداً للشهوات ، تملكهم ولا يملكونها ، وتدمر حياتهم ولا يستطيعون استنقاذ أنفسهم منها : سواء شهوة الجنس أو الخمر أو المال أو السلطان !
وبعبارة موجزة أصبح الإنسان - كما قلنا - عبداً للشيطان !
فأين هي الكرامة التي استمتع بها الإنسان حين نزع عنه العبودية لله ؟!
إن العبودية لله هي التي تمنح الإنسان كرامته وعزته ورفعته وحريته ، لأنها عبودية كريمة لإله كريم هو الذي تفضل على الإنسان بالكرامة : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ الإسراء : 70 ] . وهو الذي منح المؤمنين به العزة : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [ المنافقون : 8 ] .
وبث فيهم الاستعلاء بالإيمان : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 139 ] .
وحررهم - بالإيمان به والعبودية له وحده - من الذلة لبشر مثلهم أياً كان وضعه في الأرض ، أو لقوة أو لجاه أو لسلطان !
فما الذي منحهم إلههم الجديد حين عبدوه من دون الله ؟!
منحهم الذلة للطغاة والعبودية للشهوات ..
إنه على قدر الإله الذي يعبده الإنسان يكون موضع الإنسان ذاته ! فحين يعبد الله الحق يكون في موضع الكرامة والرفعة ، وحين يعبد آلهة من دونه يكون في موضع الذلة والهوان ..
ومن ناحية أخرى كيف صار الإنسان حين ابتعد عن المنهج الرباني الذي هدت النبوة إليه ؟
كيف صارت أخلاقه ، وكيف صارت أحواله ؟
أما أخلاقه فيكفي شاهداً عليها تقطُّع روابط الناس ، والعزل الفردية الأنانية التي يعيشون بها ، وغلبة المنافع المادية عليهم - أفراداً أو شعوباً أو دولاً أو تكتلات - ولو خالفوا في سبيل الوصول إليها كل القيم والمبادئ والأخلاق ( وخذ قضايا الاستعمار والتمييز(1/257)
العنصري نماذج " للأخلاق " المعاصرة ، وخذ كذلك قضية فلسطين ! ) كما يكفي شاهداً عليها التبذل المسفّ في الإباحية الجنسية التي تباح فيها الأعراض وتختلط فيها الأنساب . وتموت فيها النخوة بالصدور ، وينقلب فيها الإنسان كالحيوان المسعور .
وأما أحواله فيكفي شاهداً عليها الاضطرابات النفسية والعصبية والجنون والقلق والانتحار ، ومحاولة الهروب من الواقع بالإدمان على المسكرات والمخدرات .
ويكفي شاهداً عليها معدل انتشار الجريمة ، وهو معدل يتزايد باستمرار ، ويقل بتزايده أمن الناس وطمأنينتهم وشعورهم بالاستقرار .
ويكفي شاهداً عليها الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الواقع على جمهرة أهل الأرض ، تحت أسماء براقة من الديمقراطية والاشتراكية والعدالة والحرية والإخاء والمساواة !
وأخيراً يكفي شاهداً عليها شبح الجوع الذي يخيم على أرجاء واسعة من الأرض ، وشبح الحرب والدمار الذي يخيم على الأرض كلها بلا استثناء .
تلك هي حصيلة التخلي عن منهج الله ، والابتعاد عن هدي النبوة الذي أرسلت به من عند الله . وتلك هي جناية المادية الملحدة على البشرية ، حين قطعت ما بينها وبين ربها وأوصدت في وجهها طريق الهداية الربانية وصدتها عن الاهتداء بالهداة الحقيقيين الذين يحملون العلم النافع ويهدونه إلى البشرية ، ويقودونها به في طريق الصلاح الحقيقي والفلاح الحقيقي ، الذي يصلح الأمور في واقع الأرض ويؤدي في الآخرة إلى رضوان الله والنجاة من النار ..0
(10) صفات الرسل
1- بشريتهم :
كل الرسل الذين أرسلوا من عند الله للناس كانوا بشراً ، وكانوا ينطقون بلغة أقوامهم الذين أرسلوا إليهم .
ولله في ذلك حكمة كانت تخفى على الجاهليات التي بُعِث إليها أولئك الرسل ولكنها لا تخفى على من يتدبر الأمر ببصيرة .(1/258)
لقد كانت الجاهليات تأخذ الأمر من جانب التكذيب لا من جانب التصديق . ولذلك كانت الحكمة تخفى عليها !
كانوا يكذّبون ابتداءً بالوحي ، ويعتبرونه شيئاً غير قابل للتصديق ! ثم يبنون على ذلك تصورات خاطئة من عند أنفسهم . كانوا يقولون : إنه لا يمكن أصلاً أن يوحي الله إلى واحد من البشر بشيء ! ذلك أن تصورهم لقدرة الله ناقص ومحدود : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) [ الأنعام : 91 ] .
وتصورهم كذلك للطاقة البشرية محصور في نطاق ذواتهم فحسب . ولما كانوا هم لا يتلقون وحياً ولا يخطر في بالهم أن يتلقوا شيئاً من الوحي قط ، فهم يقيسون كل البشر على أنفسهم ، فيقولون : إنه لا يمكن أن يتنزل الوحي على أي واحد من البشر على الإطلاق ! ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ) [ الإسراء : 94 ] (1) .
ثم يرتّبون على هذه الاستحالة تصوراً آخر خاطئاً ، فيقولون : إنه إذا كان الله يريد فعلاً أن يصنع هذه العجيبة الخارقة وهي تنزيل الوحي ، فلا بد أن يكون كل ما يتعلق بهذه الظاهرة عجيباً وخارجاً عن تصور البشر . ومن ثم فلا يجوز - في نظرهم - أن يتنزل هذا الوحي على واحد من البشر لأن الكيان البشري شيء عادي ومألوف ، فلا يتناسب معه ذلك الشيء غير المألوف وهو الوحي ! إنما الذي يتناسب معه - في وهمهم - هو عجيبة أخرى خارقة ، هي نزول ملك من السماء يتنزل عليه الوحي ، أو - في القليل - يكون مع الرسول الذي يتنزل عليه الوحي ( فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ (2) مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ) [ المؤمنون : 24 ] .
((وقالوا لولا أنزل عليه ملك ))(الأنعام:8)
( وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) [ الأنعام : 8 ] .
__________
(1) من العجيب الذى يلفت النظر أن هذه التصورات الجاهلية ما تزال تتردد بذاتها فى كل جاهلية حتى جاهلية القرن العشرين!
(2) قوم نوح عليه السلام 0(1/259)
( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) [ الفرقان : 7 ] .
وهكذا نرى ضلال الجاهليات من خلال تصوراتها الضالة عن قدرة الله وحدود الطاقة البشرية ، يعميها عن حكمة إرسال الرسل من البشر دون الملائكة .. ولو قدروا الله حق قدره وعرفوا أن قدرة الله ليست محدودة بحدود تصورهم الضيق ، وإنما هي قدرة بغير حدود : ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ النور : 45 ] .
ولو عرفوا أن الطاقة البشرية ليست محصورة في نطاق ذواتهم ولا في نطاق علمهم ، وأن هناك جوانب من النفس البشرية تخفى على العلم وإن بدت آثارها واضحة كظاهرة التفكير والتذكر (1) ،وجوانب أخرى أشد خفاء لا يكاد الإنسان يعرف لها كنهاً كظاهرة التخاطر عن بُعد (2) ،وأن الله يصطفي أفراداً من البشر فيمنحهم القدرة على تلقي الوحي بأجهزة خاصة في داخل نفوسهم دون أن يخرجهم ذلك عن حدود بشريتهم .. لو عرفوا ذلك كله ما عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وما استنكروا هذا الاستنكار فقالوا : أبَعثَ الله بشراً رسولاً ؟! وما طلبوا هذا الطلب الساذج : لولا أنزل عليه ملك ؟!
لقد غفلوا في طلبهم ذلك عن عدة أشياء :
(أ) أن الملائكة لا يمشون في الأرض مطمئنين كالبشر ، لأنهم لم يخلقوا لسكنى الأرض ! ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ، قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) [ الإسراء : 94 ، 95 ) .
(ب) أن الملك لو نزل على الأرض فلا بد له أن يتخذ صورة البشر ، عندئذ لا يستطيعون أن يتعرفوا على حقيقته الملائكية ، ولا أن يميزوا بينه وبين سائر البشر : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) [ الأنعام : 9 ] .
__________
(1) لا يعرف العلم كيف تتم عملية التفكير ولا عملية التذكر مع أنها تحدث فى كل يوم وكل ساعة 0
(2) أى تبادل الخواطر أو الأحاسيس عن بعد، أو الإحساس مقدماً بأن شيئاً سيقع أو أن شخصاً سيحضر. وهناك شواهد يومية تقع فى حياة الناس تؤكد وجود هذه الظاهرة 0(1/260)
(جـ) أن من سنة الله حين تكذب الجاهلية رسولها وتصر على التكذيب بعد نزول الآية التي يطلبونها لكي يتأكدوا من صدق رسولهم ، فإن الله ينزل الملائكة عندئذ ، ولكنه ينزلهم بأمر معين هو التدمير الفوري على أولئك الكافرين : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) [ الأنعام : 8 ] .
( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) [ الفرقان : 22 ] .
(د) أن الحكمة منتفية تماماً في جعل الرسول من غير البشر أنفسهم ، إن الرسول لا يأتي للتبليغ فقط ، أي إنه لا يأتي ليبلغ الناس أمراً معيناً من عند الله ثم يمضي . وإنما يمكث مع الناس حتى يربي فئة منهم على الحق يكون هو بذاته القدوة العملية لهم ، ويكونون هم بدورهم قدوة للناس : ( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) [ الحج : 78 ] .
فأين تتحقق القدوة إذا كان الرسول من غير البشر ؟! ألا يقول الناس يومئذ : هذا ملك ونحن بشر ! لنا أجساد ونزعات وشهوات !؟ بلى ! سيقولون ! وسيمتنعون عن الالتزام بأمر ربهم بحجة أن هذا الالتزام ليس في وسع البشر ولا هو من شأنهم إنما هو من شأن الملائكة الذين لا يسكنون هذه الأرض ، ولا يحسون بثقلة الأرض تشدهم عن طريق الرغبات والشهوات ! وعندئذ سيقولون : كيف يرسل الله إلينا ملكاً ويطلب منا الاقتداء به في أعماله ! أفلا يرسل إلينا بشراً مثلنا ، يحس كما نحس ، ويفكر كما نفكر ، ويشعر بضروراتنا وبحدود طاقتنا ؟!
وذلك هي الحكمة الكبرى من إرسال الرسل بشراً ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، حتى لا يقف اختلاف الجنس حائلاً بين الناس وبين الاقتداء برسولهم فيما يفعل وما يقول ، وحتى تتمثل الأسوة للبشر في واحد من جنسهم ، له ذات تركيبهم ، وذات مطالبهم ، وذات ضروراتهم البشرية من طعام وشراب وملبس ومسكن .. إلخ .
حقيقة إن الرسل - إذ يصطفيهم الله ليبعثهم إلى الناس - يصوغهم صياغة خاصة تتناسب مع هذا الأمر العظيم ، وتكون لهم طاقات تفوق طاقات البشر العاديين ، فضلاً عن أن(1/261)
نزول الوحي إليهم واتصالهم المباشر بالله عن طريق الوحي يعمق في نفوسهم معاني لا يمكن أن تبلغ ذلك المدى عند البشر العاديين .
نعم ، ولكن هذه خصوصيات يختص الله بها رسله ولا يكلف البشر أن يصلوا إليها ، لا يستطيعون الوصول إليها بجهدهم البشري ! ولكن المهم في الأمر أن صفة البشرية لا تفارق الرسول : ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) [ الإسراء : 93 ] .
( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) [ الكهف : 110 ] .
ومن ثم فالقدوة فيه متمثلة فيما ليس من خصوصيات الرسل وهذا هو الذي يكلف الله به عباده : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) [ التغابن : 16 ] .
( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) [ البقرة : 286 ] .
أي ان كل التكاليف التي كلف الله بها البشر هي في حدود طاقتهم لأنَّ الله لا يكلّف النفوس فوق وسعها ، وهو العليم بحقيقة طاقتها .
أما حكمة إرسال الرسل بلغات أقوامهم فهي واضحة بلا شك : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [ ابراهيم : 4 ] .0
2- عصمتهم :
الرسل معصومون فيما يبلَّغون عن الله . فهم لا يخطئون في التبليغ عن الله ، ولا يخطئون في تنفيذ ما أوحى الله به إليهم ، عصمهم الله من الخطأ في هذه وتلك ( وذلك من خصوصياتهم ) .
أولاً : لأن الأمر لا يستقيم إذا أخطأ الرسول في التبليغ عن الله ، إذ ليس لذلك إلا إحدى نتيجتين - كلتاهما خارجة عن التصور : إما أن يسكت الوحي عن تصحيح الخطأ ، ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبلغ الناس أمراً معيناً ثم رضي جل جلاله أن بيلغ عنه غير ذلك الأمر .. وهذا لا يجوز في حق الله تبارك وتعالى .
وإما أن يتنزل الوحي بالتصحيح ، فيعود الرسول فيقول للناس : إن الله أمرني أن أبلغكم كذا وكذا ، ولكني أخطأت في التبليغ ، وإليكم الآن تصحيح البلاغ ! وينتج عن ذلك لا(1/262)
محالة أن يفقد الناس الثقة فيما يبلغهم إياه الرسول عن ربه لأن احتمال الخطأ في التبليغ قائم في أذهانهم .
وكلا هذين الأمرين خارج عن التصور لأنه يتنافى مع الحق الذي يتنزل به الوحي ، ومع التوقير والتعظيم لكلام الله سبحانه وتعالى ، ومع وجوب الطاعة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ النساء : 64 ] .
ثانياً : ولا يستقيم الأمر كذلك إذا أخطأ الرسول في تنفيذ ما أوحى الله به إليه ؛ لأن القدوة تنتفي يومئذ ، ويضطرب الأمر في نفوس الأتباع الذين اتبعوا الرسل فلا يعرفون أي طريق يسلكون . وفضلاً عن ذلك تذهب جدية الأمر من مشاعرهم . فالمفروض في الشخص المؤمن أن يجتهد في اتباع ما أنزل الله قدر جهده ليكون أقرب إلى الصواب . فإذا كان القدوة أمامه - وهو الرسول - يخطئ في التنفيذ ، فسوف يحس هو أنه في حِلٍّ من أن يخطئ ! وليس عليه أن يتحرى الصواب ، فهو ليس أفضل من الرسول المؤيد بالوحي ، وعندئذ ينفرط عقد الأمر ولا يعود للدين ما أراده الله له من تعظيم في نفوس المؤمنين .
حقاً قد يحدث في تصرفات الرسل الشخصية - في غير ما يتعلق بالوحي - أو في اجتهاداتهم الشخصية ما يستوجب التصحيح أو التعديل من قبل الله سبحانه وتعالى ، كما وقع لنبي الله داود حين حكم لأحد الخصمين قبل أن يستمع لقول الخصم الآخر :
( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) [ ص : 21 - 24 ] .
وكما وقع من عبوس الرسول صلى الله عليه وسلم في وجه ابن أم مكتوم قعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : أُنْزِلَتْ : {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس : ] فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى ، قَالَتْ : أَتَى النَّبِيَّ(1/263)
- صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَرْشِدْنِي ، قَالَتْ : وَعِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الآخَرِ ، فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : يَا فُلاَنُ أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ : لاَ ، فَنَزَلَتْ { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) [عبس : 1 - 11] } (1) .
أو كاجتهاده عليه الصلاة والسلام فى أمر الأسرى فى وقعة بدر، إذ قيل مبدأ أخذ الفداء من الأسرى بدلاً من قتلهم كما اقترح عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فنزل الوحى مؤيداً لرأى عمر ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاَءِ الأَسْرَى ؟ قَالَ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ ، اسْتَبْقِهِمْ ، وَاسْتَأْنِ بِهِمْ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ، قَالَ : وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ ، قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ ، قَالَ : وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ ، فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَارًا قَالَ : فَقَالَ الْعَبَّاسُ : قَطَعْتَ رَحِمَكَ ، قَالَ : فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا ، قَالَ : فَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ ، وَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، قَالَ : فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ ، حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ ، حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، قَالَ : {مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ، وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ : {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، وَإِنَّ مِثْلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى ، قَالَ : رَبِّ {اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ، أَنْتُمْ عَالَةٌ ، فَلاَ يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ بِفِدَاءٍ ، أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ قَالَ عَبْدُ اللهِ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِلاَّ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 293) ( 535) صحيح - وانظر تفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 319)(1/264)
سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِِسْلاَمَ ، قَالَ : فَسَكَتَ ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ ، أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ : إِلاَّ سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ، وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، إِلَى قَوْلِهِ {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} " (1) 0
1- ومثل هذه الأشياء لا تقدح في عصمة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه . بل هي أقرب لتوكيد بشريتهم . فهم بشر عرضة للخطأ في التصرفات الشخصية والاجتهادات الشخصية ، ولكنهم معصومون من الخطأ فيما يتعلق بالوحي تبليغاً أو تنفيذاً . وهذا يجعلهم أقرب للقدوة والأسوة ، فلو أنهم أصبحوا بعد بعثتهم نوعاً آخر من الخلق غير بقية البشر ، لا يقع في تصرفاتهم كلها ما يقع للبشر العاديين ؛ لأصحبت القدوة بهم عسيرة ، ولقال الناس لأنفسهم : هؤلاء الرسل ليسوا مثلنا في أي شيء فكيف نقتدي بهم ؟! ومن جهة أخرى يبقى الوحي - وما يتصرف به الرسل طبقاً للوحي - أمراً قائماً بذاته ، لا ينتابه الخطأ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فتجب له الطاعة الكاملة : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم : 1 - 4 ] .( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ النساء : 64 ] .
2- مجال القدوة بهم :
يبعث الله رسله من صفوة خلقه ، ويختارهم من ذوي الصفات التي تصلح للأسوة والقدوة ، ذلك أن الرسل هم هداة البشرية ، وهم معلموها ومربوها ، وقادتها الذين يقودونها إلى الخير . فلزم من ذلك أن يكونوا هم بذواتهم القدوة في كل ما يدعون إليه من مكارم الأخلاق .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 28)(3632) صحيح ، والخبر في صحيح مسلم- المكنز - (4687 ) مطولاً(1/265)
ولقد علم الله سبحانه وتعالى من طبيعة البشر ، وهو خالقهم العليم بهم (1) أنه لا يكفي في هدايتهم أن يسمعوا كلمة الحق تلقى إليهم . بل لا بد أن يروها مجسدة في كيان بشري يتمثلها ويترجمها إلى واقع حي مشاهد وملموس ، وعندئذ تكون قريبة إلى حسهم ، قريبة إلى وجدانهم ، وتكون أيسر عليهم في التحقيق وفي التطبيق .
لذلك لا ينزل الله سبحانه وتعالى وحيه في قراطيس يقرؤها الناس ، وهو القادر سبحانه - لو شاء - أن ينزل على كل بشر قرطاساً يقرؤه ! وإنما ينزل كلماته على قلب بشر ، يصنعه على عينه ، ويمنحه من الصفات ما يجعله خير أداة لحملها ، وخير نموذج لتقديمها للناس .
إن الله يدعو الناس بادئ ذي بدء إلى الإيمان به وحده بغير شريك ، ويبعث الرسل ليقولوا للناس : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ هود : 50 ، 61 ، 84 ] .
ثم يدعوهم إلى صورة معينة من العبادة تتمثل في شعائر تعبدية وأوامر ونواهٍ تنظم حياة البشر على الأرض ، وتقيم بينهم العدل الرباني الذي ينبغي أن تقوم عليه حياتهم : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) [ الحديد : 25 ] .
ويرى الناس الإيمان المطلوب - أول ما يرونه - متمثلاً في سلوك الرسول الذي يدعوهم إليه ، فهم يرونه يدعو إلى عبادة الله الواحد غير مستند إلى جاه أو سلطان ، بل متحدياً بدعوته كل جاه أو سلطان !
إنه يجيء والملأ مستكبرون في الأرض بغير الحق ، يستعبدون الناس بغير سلطان شرعي ، لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله ، فيعلن كلمته البسيطة التي تدوي في آذان الملأ كالصيحة المدوية : ( اعبُدوا الله ما لَكُم مِن إلهٍ غَيْرُهُ ) . ويدرك الملأ على الفور أن هذه الكلمة البسيطة ، المدوية في ذات الوقت ، معناها تنحيتهم عن سلطتهم الطاغية التي يستعبدون بها الناس ، ورد العبودية لله وحده ، يستوي في ذلك الملأ والمستضعفون على حد سواء !
__________
(1) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ))(الملك : 14)0(1/266)
ولا يسلّم الملأ ما في أيديهم من السلطة الغاشمة بسهولة ! بل يقومون يتحدّون الرسول ويناوئونه ويناصبونه العداء ، ويرى الناس الرسول المرسل إليهم يقف وحده إزاء السلطان الغاشم لا يستند إلى شيء من قوى الأرض ، بل يستند إلى الله تعالى ، إنه يحقق معنى الإيمان بالله في صورة ملموسة مشهودة ، لا في صورة كلمات تنطق بها الأفواه أو شعارات معلقة في الفضاء !
ويشتد الأذى بالرسول من اضطهاد الملأ الواقع عليه ، فلا يلجأ إلى مداهنة القوم ولا ملاينتهم على حساب دينه وعقيدته . ويرى الناس مرة أخرى صورة واقعية لعمق الإيمان بالله . إنه ليس إيماناً سطحياً يتحطم تحت الضغط مهما اشتد ، ولا إيماناً وقتياً يتبخر تحت وطأة الأحداث ! إنما هو الإيمان الراسخ الذي يزداد عمقاً مع اشتداد الأحداث !
ويتعرض الرسول في كثير من الأحيان إلى التهديد بالنفي أو السجن أو القتل فلا يتزحزح عن موقفه الصلب ، ولا تؤثر عليه كذلك المغريات التي يتعرض لها أحياناً كوسيلة من وسائل الحرب ضد عقيدة التوحيد ودعاة التوحيد ! ويلجأ الرسول إلى الله وحده يدعوه أن ينقذه مما يلقاه من عنت الجاهلية وينجيه من مكرهم وكيدهم . ومرة أخرى يرى الناس الصورة الحية للإيمان العميق كيف تكيّف المشاعر وتوجه السلوك .
عندئذ لا يكون الإيمان دعوى ، ولا صورة مبهمة غير متميزة الملامح . إنما يكون صورة واقعية ملموسة ، يدرك الناس معناها الشعوري والسلوكي ، ويقتدي بها المؤمنون الذين استجابوا لدعوة الإيمان .
ثم إن الله يطلب من الناس أخلاقاً معينة يتخلقون بها ، وتجري تعاملاتهم بمقتضاها . يطلب منهم الصدق والإخلاص والأمانة ، والصبر والثبات والشجاعة ، والكرم والمروءة والتحابّ في الله ، والبعد عن الفواحش والبغي والإثم .. ويحتاج ذلك كله إلى قدوة يقتدي بها الناس .
إن الناس قد يعرفون هذه المعاني كلها نظرياً ، يعرفونها مما سمعوا عنها في القصص أو قرءوا عنها في التاريخ ! .. ولكن ذلك وحده لا يحفزهم إلى الاقتداء بها والتخلق بما(1/267)
تقتضيه من أخلاق ! إنما يحتاجون إلى أن يروها ممثلة أمام أعينهم في واقع بشري لتسهل عليهم القدوة وتكون قريبة المنال .
ويعلم الله من خلقه أنهم يحتاجون إلى ذلك ، فيرسل إليهم الرسل نماذج حية لكل المعاني التي يريدها الله من خلقه . نماذج للصبر على الشدائد وتحمل الأذى في سبيل الله . نماذج للثبات على الحق بأي ثمن ولو كان الثمن هو الحياة ذاتها أو هو الأمن والسلامة والاستقرار . نماذج للحب والمودة الصافية التي لا تطلب لذلك مقابلاً شخصياً ولا منفعة قريبة . نماذج لاستقامة الطبع والصراحة وعدم المداراة في الحق .
وباختصار : هم نماذج لكل حميد من الخلق وحميد من الخصال ، والقدوة متمثلة في كل ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
ولكن الدعاة والمصلحين بالذات لهم في الأنبياء والرسل قدوة خاصة .
إن الدعاة هم ورثة الأنبياء . وهم يتعرضون لكثير مما يتعرض له الرسل والنبياء .
يتعرضون للأذى من المستكبرين في الأرض الذين يكرهون كلمة الحق لأنها تكشف حقيقتهم للناس .
ويتعرضون للصد حتى من الجماهير التي قاموا لتخليصها من الذل والظلم والهوان ..
ويتعرضون لليأس من أن يكون جهادهم ذا ثمرة ، أو أن يروا ثمرة جهادهم في عمرهم القصير المحدود .
لذلك يحتاج الدعاة بصفة خاصة أن يتأسوا بالأنبياء والرسل : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) [ الأحزاب : 21 ] .
ويحتاجون بصفة خاصة أن يتأسوا بهم في الثبات والصبر والتحمل ، والتوكل على الله وتفويض الأمر لله ، فإن ذلك من ألزم مستلزماتهم في جهدهم الشاق الذي يبذلونه في سبيل الله .(1/268)
والقرآن يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والرسل من قبله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) [ الأنعام :89 ، 90 ] .
فكيف يكون حالنا نحن البشر العاديين ؟ ألسنا أحوج إلى القدوة وأحوج إلى الالتزام ؟
(11) أولو العزم من الرسل
يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) [ الأحقاف : 35 ] .
وواضح من الآية أن الصفة البارزة في أولئك الرسل أولي العزم هي الصبر ، ذلك أنها هي الصفة التي يطلب الله عز وجل من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يتأسى بهم فيها من بين صفاتهم العديدة .
وكل الرسل - كما رأينا في الفقرة السابقة - ذوو صبر وثبات وتحمل . فلا بد أن يكون اختصاص " أولي العزم " بهذا الوصف الذي وصفهم به الله في كتابه الكريم ناشئاً من زيادة في صفة الصبر عن الرسل العاديين ، وقدرة فائقة على تحمل الشدائد ، وثبات في مواجهة المواقف الصعبة التي مرت بهم في أثناء قيامهم بالدعوة إلى التوحيد .
وإذا كان الرسل جميعاً هم هداة البشرية وقادتها ، وهم موضع القدوة والأسوة ، فإن في حياة أولي العزم من الرسل عبراً خاصة ، لطول جهادهم ، وكثرة المواقف الصعبة التي تعرضوا لها ، وثباتهم في وجه العواصف المزلزلة التي تنخلع لها القلوب ، واطمئنانهم إلى قدر الله ووعده بالنجاة والنصر .. ثم فيما حل بالمكذبين من أقوامهم من هلاك وتدمير .
إن الدعاة بصفة خاصة - كما قلنا في الفقرة السابقة - هم أولى الناس بأخذ العبرة من سير الرسل جميعاً . ولكنهم أجدر بأن يأخذوا العبرة من سِيَرِ أولي العزم من الرسل ، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه ما من موقف يتعرضون له في دعوتهم إلا له مثيل أو شبيه في سِيَرهم .. ثم ينتصر الحق بعد الجهاد الطويل والجهد الشاق ، وتذهب قوى الباطل بدداً ويبقى الحق راسخاً في الأرض يظلل الناس بظلاله الوارفة ، وينعم الناس في ربوعه بالأمن ، بعد أن يكون المجاهدون قد ضحوا في سبيله بأمنهم وراحتهم ،(1/269)
وأموالهم وأنفسهم ، يذهب منهم من ذهب شهيداً في سبيل الله ويبقى منهم من يبقى شهيداً للحق بصبره وثباته وتجرده لله : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [ الأحزاب : 23 ] .
وإليك نبذة سريعة عن أربعة من أولئك الرسل الكرام من أولي العزم :
1- نوح عليه السلام :
من أبرز أمثلة الصبر على مشاق الدعوة والصبر على صدود المدعوين نوح عليه السلام . فلقد لبث يدعو ما يقرب من ألف سنة دون أن يستجيب له من قومه إلا أفراد قليلون ! وحتى ابنه لم يستجب إليه وغرق مع المغرقين ! وكذلك امرأته ! وإن من أشق الأمور على نفس الداعية أن يدعو دون أن يستجيب له الناس الذين يدعوهم إلى الخير وإلى النجاة ، ولكن أشق من ذلك أن يأتي الصدود من قبل المقربين من الأهل ، بما في ذلك الزوجة والولد ، أقرب الناس إلى الإنسان ، وأحراهم أن يكونوا أول المستجيبين .
ويقص القرآن الكريم علينا قصة نوح في مواطن كثيرة بالإيجاز حيناً وبالإطناب حيناً آخر ، ولكنها كلها تحمل العبرة لمن يتدبر القصة بقلب واع ولب متفتح ، ففي قصص الأنبياء كما يقول القرآن : ( عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) [ يوسف : 111 ] .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) [ العنكبوت : 14 ] .
واستمع إلى قصته مع قومه ( في سورة نوح ) :
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ، يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) [ نوح : 1 - 9 ] .(1/270)
فماذا كانت نتيجة الدعوة المثابرة التي لا تفتر بالنهار ولا بالليل ، وتأخذ حيناً صورة الجهر وحيناً صورة السر ؟! ( قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ، وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ) [ نوح : 21 - 24 ] .
لقد كان قبل بعثته نجاراً . وكان معروفاً في قومه بالأمانة والاستقامة والاجتهاد في الصنعة ، فلما اختاره الله للرسالة اتبعه بعض المستضعفين من قومه ولكن الملأ - كما هي العادة - استكبروا وعصوا ، وراحوا يجادلون ويكذبون .
كانت دعواهم في التكذيب أنه بشر مثلهم ! ولو أراد الله أن يرسل إليهم رسولاً لأنزل ملكاً من السماء ، أما أن يرسل بشراً مثلهم فأمر - في دعواهم - غير جائز ! فهو إذن كاذب في دعواه أنه رسول من عند الله ، وما يريد بدعواه هذه إلا أن يتميز عليهم ! فجزاؤه على ذلك أن يتهم بالجنون !
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) [ المؤمنون : 23 - 25 ] .
ثم كان من دعواهم في التكذيب كذلك أن الذين اتبعوه ليسوا من علية القوم بل من أراذلهم ( كما يسمونهم ) :
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ، أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ، فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) [ هود : 25 - 27 ] .
ثم طالبوه - زيادة في التعنت - أن يطرد أولئك الأراذل من صحبته إذا أرادهم أن يستمعوا إليه ، وأن يعلن أنهم مطرودون من رحمة الله أيضاً !(1/271)
( وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ، وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) [ هود : 29 - 31 ] .
وواضح من الآيات أنهم كانوا يُعنتونه كذلك بأن يطالبوه بأن تتدفق عليهم الأموال من خزائن الله ، وأن ينبئهم بالغيب ، وأن ينزل الملائكة من السماء إذا أراد منهم أن يؤمنوا به !
ولقد صبر نوح عليه السلام على هذا العنت كله ، وعلى الصد الطويل من قومه بعد الدعوة المستمرة لهم عاماً بعد عام ، سراً وجهراً ، ونهاراً وليلاً .
( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) [ هود : 36 ] .
وأوحى الله إليه أن يصنع الفلك الذي سيحمل فيه المؤمنون حين يجيء الطوفان الذي يغرق المكذبين .. وكانت فرصة لقومه لكي يسخروا منه ويتهموه بالجنون ، إذ أنه ما الذي يدفع إنساناً عاقلاً أن يصنع فلكاً في أرض يابسة تحيطها الجبال ؟!
( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) [ هود : 38 ، 39 ] .
وفي الموعد المقرر في قدر الله جاء الطوفان ..
لقد كان نوح قد دعا ربه بعد الجهاد الطويل مع قومه والصبر الطويل على أذاهم أن يدمر عليهم : ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) [ نوح : 26 ] . ثم إنهم كانوا قد توعدوه بالقتل : ( قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) [ الشعراء : 116 ] .
فدعا ربه أن ينجيه من أذاهم : ( قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الشعراء : 117 ، 118 ] .(1/272)
( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) [ القمر : 10 ] .
لقد وصلت الأمور إلى قمتها .. ولم يبق إلا أن تمتد يد الله بالنجاة والرحمة للمؤمنين ، وبالبطش والدمار للمكذبين .
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) [ هود : 40 ] .
( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ ) [ القمر : 10 - 14 ] .
لقد كانت هذه هي معجزة نوح ..
الطوفان يغرق الأرض اليابسة ذات الجبال العالية ، ويغرق المكذبين جميعاً فلا يبقى منهم فرد واحد . بينما تكتب النجاة للمؤمنين في داخل الفلك المشحون ، الذي كان الملأ يسخرون من نوح وهو يصنعه فوق اليابسة !
ولكن الابتلاء مع نوح لم يكن قد انتهى حتى لحظة الطوفان ! كانت هناك بقية من الابتلاء يتعرض لها ذلك الرسول من أولي العزم .. في ولده أقرب الناس إليه ! ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) [ هود : 42 - 43 ] .
وينتهي الطوفان .. وتتم المعجزة .. ويغرق المكذبون .. وينجو المؤمنون وما تزال في نفس نوح حسرة على ولده الذي ظن - من وعد الله له بنجاة أهله - أنه من الناجين ! حسرة مزدوجة على فقده في الحياة الدنيا ، وفقده يوم القيامة حيث يكون في النار مع الكافرين .
( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ(1/273)
فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [ هود : 44 - 46 ] .
( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) وإن كان ابنك من صلبك . فقد فرقت العقيدة بينكما ، فلم يعد من أهلك ، لأن أهلك هم المؤمنون .. وهذا عمل غير صالح لأنه أبى أن يؤمن وأصرّ على الكفر .. فكان جزاؤه الحق هو جزاء الكافرين ..
وعندئذ يصل نوح عليه السلام إلى الذروة : ذروة التسليم لله ، والاطمئنان إلى قدر الله ، والرضى بما كتب الله ، وطلب الرحمة والمغفرة من الله : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) [ هود : 47 ، 48 ] . ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) [ الصافات : 79 ] .
2- إبراهيم عليه السلام :
( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [ النحل : 120 ] .
ولفظ " أمة " الذي ورد في الآية الكريمة يحمل مجموعة من المعاني . فمن معانيها أن إبراهيم عليه السلام - وحده - كان يساوي أمة كاملةً في عمق إيمانه ورجاحة عقله وكريم خصاله . ومنها أن إبراهيم عليه السلام كان أباً لأمة خرجت كلها من ذريته ، فقد مد الله له في العمر وأمده بذرية واسعة عريضة كان منها عدد غير قليل من الأنبياء : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [ الأنعام : 84 - 87 ] .
ومن معانيها كذلك أن إبراهيم عليه السلام كان إماماً . فقد قال الله له : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) [ البقرة : 124 ] .(1/274)
وهو إمام الحنفاء الذين استقاموا على طريق الله وأخلصوا له العبادة والتوحيد . فقد تكرر وصفه في القرآن بهذه العبارة ( حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وجاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) [ النحل : 123 ] . فهو الإمام الذي يتبعه الحنفاء .
وقد منَّ الله عليه برجاحة العقل وبلاغة الحجة وسرعة البديهة كما يبدو لنا في محاجته لقومه لإبطال الوثنية بالبرهان العقلي ، كما ورد في القرآن في مواضع شتى ، منها ما جاء في سورة الأنعام : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) [ الأنعام : 74 - 82 ] .
فقد أراد إبراهيم أن يصرف قومه عما هم فيه من الشرك إلى الإيمان بالله الواحد الذي لا شريك له ، فاستدرجهم إلى التفكير في شأن الأصنام التي يعبدونها ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ) ؟ بهذا السؤال الإنكاري الذي يهز الغافلين :
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) [ الشعراء : 69 - 74 ] .(1/275)
وبعد أن أيقظ تفكيرهم بهذه الأسئلة التي لا إجابة لها عندهم إلا أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون ، راح يتظاهر أمامهم بأنه يبحث عن إله يعبده بعد أن أعلن رفضه الباتّ لعبادة الأصنام ( وهو في حقيقة الأمر مهتد إلى الله الحق ، ولكنه يريد أن يتدرج بقومه عباد الأصنام درجة درجة حتى يصل بهم إلى اليقين ) فلما جن عليه الليل ، رأى في السماء كوكباً لامعاً ، فقال أمام قومه : سأتخذ هذا الكوكب اللامع إلها ! فلما أفل أعلن لقومه أنه لا يعبد إلهاً يأفل ويغيب ! ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ) فلما رأى القمر بازغاً قال ( متظاهراً ) هذا أجدر أن يكون إلهاً ، فنوره أقوى من نور الكوكب ، ولكن القمر بدوره أفل ! فتظاهر بالحيرة : ( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) . وأخيراً طلعت الشمس بضيائها الساطع وحرارتها وقوة شعاعها فتظاهر بالفرح الشديد لعثوره أخيراً على الإله المنشود ! ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ ) فلما أفلت الشمس أعلن أخيراً إعراضه عن كل تلك الآلهة الزائفة التي لا تستحق العبادة ، وتوجهه للإله الحق ، الذي فطر السماوات والأرض ، على استقامة لا رجوع فيها ولا انحراف عنها ( وهذا معنى " حنيفاً " ) وأعلن براءته التامة من كل شرك في عبادة الله .
ونستطيع أن نتصور بطبيعة الحال استنكار قومه لموقفه ومحاجّتهم إياه ، وإن كانوا لا يملكون حجة حقيقية أكثر من أنهم يفعلون كما فعل آباؤهم فحسب ، وأن آباءهم لا يمكن أن يكونوا مخطئين خلال كل تلك الأجيال !
ولكنه يصر على موقف الهدى الذي هداه الله إليه ، وعلى عبادة الله الواحد الذي هداه إلى حقيقة الإيمان . عندئذ يلجئون إلى تخويفه بانتقام الآلهة من تجديفه في حقها وكفره بها ، ويتوعدونه بأن هذه الآلهة المزعومة ستناله بالأذى لا محالة . وعندئذ يردّ عليهم في اطمئنان الواثق : ( وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ ) ولكنه في أدبه مع ربه لا يقطع بأمر هو بعد في طيات الغيب ، فقد يكون الله سبحانه وتعالى قد قدر له أن يصيبه شيء من الأذى فيقول : ( وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ثم يعود إليهم فيجابههم بحقيقة موقفهم : كيف تخوّفونني بتلك الآلهة المزعومة التي تشركون بها ، وهي عديمة السلطان لا تملك ضراً ولا نفعاً ، ولا تخافون أنتم من الله الحق الذي يملك الضر(1/276)
والنفع ، وأنتم تشركون به وتعصون أمره ؟! فأيّنا أحق بالأمن ؟ الذي يلجأ إلى الإله الحق ويدخل في حماه ، أم الذي يحتمي بغير حمى سوى الأوهام ؟
ثم يقرر الحقيقة التي تلخص الموقف تلخيصاً حاسماً : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ (1) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
وليس الأمن المقصود هو السلامة من الأذى في الحياة الدنيا . إنما هو السلامةُ من عذاب الله في الآخرة مع الاطمئنان إلى قَدَرِ الله في الحياةِ الدُّنيا ، وأنّ كلَّ ما يصيبُ المؤمنَ هُوَ خَيرٌ له (2) 0
وتلك هي بلاغة الحجة التي منّ الله بها على إبراهيم في محاجته لقومه ، نراها مع سرعة البديهة في موقف آخر في مناقشة " النمرود " وهو الطاغية الجبار الذي كان يحكم الأرض التي يعيش فيها إبراهيم .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 258 ] .
على أن الأمر لم ينته بين إبراهيم وقومه بتلك المحاجة التي وقعت بينهم وبينه . فقد اعتزم إبراهيم أن يقتلع الشرك بيديه ، فعمد إلى تلك الأصنام التي يصرون على عبادتها ، فحطمها في غفلة من القوم !
( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ، قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ، قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ، قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا
__________
(1) الظلم المقصود هنا هو الشرك، وبيان ذلك قوله تعالى فى سورة لقمان: ((وإذ قال لقمان لأبنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم))(لقمان:13)0
(2) - عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».صحيح مسلم- المكنز - (7692 ) 0(1/277)
بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ، قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) [ الأنبياء : 51 - 63 ] .
ولقد هزتهم المفاجأة بالفعل فكادوا يرجعون إلى صوابهم من شدة وقعها على نفوسهم ! ولكنهم عادوا فأصروا على الضلال . وبدلاً من أن يؤمنوا ، راحوا يتوعدون إبراهيم عليه السلام بالإحراق في النار !
( فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) [ الأنبياء : 64 - 68 ] .
وهنا نواجه موقفاً لا يصبر فيه إلا أولو العزم !
حقيقة إن الله أوحى إلى النار ألا تحرق إبراهيم : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) [ الأنبياء : 69 ] .
ولكن النص القرآني لا يدلنا على أن الله أخبر إبراهيمَ بأن النار لن تمسه بسوء فهو إذن يواجه النار وهي النار . يواجهها مطمئناً إلى قَدَر الله ، نعم ، ولكنه لا يستبعد إصابته بالأذى كما قال لقومه من قبل : ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً ) [ الأنعام : 80 ] .
إنه موقف الإيمان العميق بالله ، الذي لا يتزحزح أمام أي خطر ، ولو كان الخطر هو الحرق في النار !
وكانت المعجزة التي نصره الله بها وأنجاه من كيد الكافرين : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء : 69 - 71 ] .
ولكن ذلك لم يكن الابتلاء الوحيد في حياته ، ولا كان المنّ الرباني هو المن الوحيد .. إنما الابتلاء العظيم كان حين أمره الله أن يذبح ولده إسماعيل :(1/278)
( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) [ الصافات : 97 - 102 ] .
لقد رأى إبراهيم في منامه هذه الرؤيا التي فهم منها أن الله يأمره بذبح ولده الحبيب إسماعيل الذي وُهِب له على الكبر : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) [ ابراهيم : 39 ] .
إنه موقف لا تطيقه أعصاب أيّ أب ، فضلاً عن إبراهيم الرقيق المشاعر ، الفيّاض الوجدان .. ولكنه أمر من الله فهل يعصيه ؟! كلا ! إن إبراهيم لا يعصي ربه بحال ولو كان الأمر فوق الاحتمال .
بل إن الفتى ليسلم أمره لله في هذا الموقف العصيب ، ويستسلم لقدر الله : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) [ الصافات : 102 ] .
إن كل ما يملكه الإنسان من الخيال لا يستطيع أن يصور تلك اللحظة الرهيبة ، لحظة أن همّ إبراهيم بذبح ولده الحبيب ، استجابة لأمر الله .
موقف لا يطيقه إلا أولو العزم .. ولقد أطاقه إبراهيم ..
( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) [ الصافات : 103 ] .
ولكن الله تداركه برحمته .. لم يكن الله يريده حقاً أن يذبح ولده .. إنما كان " يبتليه " .. كان يختبره .. إلى أي مدى هو على استعداد لإطاعة الله فيما يأمر ؟ هل يطيعه في الأمر الهين ويتوقف عن طاعته في الأمر العظيم ؟ أم هو على استعداد دائم لإطاعة الله أياً كان الأمر الصادر إليه من الله ؟
ولقد نجح إبراهيم في الابتلاء .. بل نجح نجاحاً باهراً لا يقدر عليه إلا أولو العزم الشديد .. فنزلت رحمة الله :(1/279)
( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) [ الصافات : 103 - 107 ] .
عند ذلك منّ الله عليه بالإمامة جزاء على ما نجح في الابتلاء :
( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) [ البقرة : 124 ] .
ويشرّف الله إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت المعظم ، وإعداده للطائفين والعاكفين والركّع السجود ، فيدعوان هناك دعاءهما الحار :
( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [ البقرة : 125 - 129 ] .
ويستجيب الله الدعاء . ويبعث محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ليتلو على هذه الأمة آيات الله ويعلمها الكتاب والحكمة ويزكيها بإذن الله .
عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ ، وَأَبِي مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ، وَبِشَارَةُ عِيسَى ، وَرُؤْيَا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ ، وَأَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ لَهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهَا قُصُورُ الشَّامِ ،(1/280)
ثُمَّ تَلا : يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " (1) 0 ((سلام على إبراهيم ))0
3- موسى عليه السلام :
( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) [ النساء : 164 ] .
( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) [ الأعراف : 144 ] .
من أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم قصة موسى وفرعون ، ذلك أنها مليئة بالعبر لمن يتدبرها ، وزاخرة بالدروس التي تنفع المؤمنين .
كانت عين الله ترعاه منذ مولده ، لأن الله كان يعده لأمر خطير ..
ولد في مصر ، في بيت من بيوت بني إسرائيل ، في الوقت الذي كانت أشد ألوان الاضطهاد تقع عليهم تنفيذاً لقرار اتخذه ضدهم فرعون ، فكان كل ولد ذكر يولد في بيوت بني إسرائيل يقتل بأمر ذلك الفرعون ، وتترك البنات لينشأن في الذل والضياع بغير رجال ! وذلك فضلاً عن ألوان أخرى من السخرة والاستعباد والتعذيب ، وكانت الحجة الظاهرة لفرعون في هذه الأعمال أن بني إسرائيل قد كثروا في البلاد فهو يخشى مغبة زيادتهم ! والحقيقة أنهم كانوا على دين غير دينه ، يعبدون إلههم الذي عرفوه منذ أيام إبراهيم وإسماعيل وإسحاق : ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ البقرة : 133 ] .
وقد كانوا جاءوا إلى مصر أيام يوسف عليه السلام ، ومكثوا فيها وتكاثروا ، فظلوا يعبدون الله ولا يعبدون الفرعون .. ومن هنا غضبه عليهم وطغيانه فيهم ..
ولقد كان يملك - لو صدقت حجته الظاهرية - أن يطردهم من مصر ويعيدهم إلى بلادهم التي جاءوا منها ، فيتخلص منهم دون أن يوقع الأذى بهم . ولكنها شهوة الطغيان والاستعباد التي كانت تحركه ضد بني إسرائيل .
__________
(1) - المستدرك للحاكم( 3566) صحيح(1/281)
في تلك الظروف العصيبة وُلِدَ موسى عليه السلام ، فخافت عليه أمه من عيون فرعون أن يكشفوا وجوده فيقتلوه . وهنا تبدأ نعم الله عليه ، إذ يوحي إلى أمه بالوسيلة التي تحفظه من القتل ، وإن كانت تبدو في عينها وسيلة عجيبة ، هي أعجب ما يخطر في البال على الإطلاق !
ولنرجع إلى سورة القصص نأخذ منها تفصيل قصة موسى :
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) [ القصص : 7 ] .
يا لها من بشارة في أحرج اللحظات ، وإن كانت الوسيلة عجيبة لولا أنها من عند الله .
أرضعيه ولا تخافي ! وإذا خفت عليه من جنود فرعون فألقيه في اليم ! ولا تخافي ولا تحزني ! إنّا رادوه إليك .. وليس هذا فحسب . بل إنّا جاعلوه كذلك من المرسلين .
ولم يطمئن قلب أم موسى أن تبقيه في بيتها وترضعه ! وكأنها اطمأنت إلى الوسيلة الثانية أكثر ، فهو في اليم أبعد عن جنود فرعون ! ولكن قدر الله من وراء ذلك كان يرتب أمراً ! ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [ القصص : 8 ، 9 ] .
لقد حمله التيار إلى قصر فرعون فالتقطوه . ولقد عرفوا من قرائن الحادث أن هذا وليد من بني إسرائيل فهمّوا بقتله بادئ ذي بدء حسب أوامر الفرعون . ولكن الذي يجري في الكون هو أمر الله لا أمر الفرعون ولا غيره من الكائنات ، ولئن كان أمر فرعون سارياً ونافذاً فليس لأنه الفرعون ذو الجبروت ، ولكن لأن الله قد قدَّر ذلك لأمر يريده - سبحانه - ويعلمه ، فإذا أراد الله أن ينجو موسى من القتل ، فلن يستطيع أمر فرعون أن ينفذ ! لأنه لم يكن نافذاً من قبل بذات نفسه ولكن بمشيئة الله ، فإذا وقفت مشيئة الله في طريقه فأنَّى له النفاذ ؟!
بل تتم السخرية العظمى بآل فرعون - بقدر الله المقدر - أن يكونوا هم الذين يتولون حمايته وتربيته ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) ( وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) !(1/282)
إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .
( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ القصص : 10 ] .
مرة أخرى تتدخل رعاية الله .. إنها لو أبدت ما هي فيه من خوف وقلق لانكشف الأمر ، ولعرف عيون فرعون في أي بيت ولد موسى .. وعندئذ فقد يقع البطش بأهل البيت كله ومن فيه . ولكن الله يربط على قلبها بالإيمان .
إن الله هو الذي يربط على القلوب فتثبت ، وليس البشر من عند أنفسهم هم الذين يصنعون !
( وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) [ القصص : 11 - 13 ] .
كل خطوة بتدبير من الله حتى يبلغ الأمر غايته المقدرة .
الرضيع - بتقدير الله - يرفض المراضع جميعاً ( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ) حتى يخشى عليه آل فرعون من الهلاك جوعاً . وفي ذلك الوقت تدفع أم موسى ابنتها - بدافع القلق عليه - لتتقصى أخباره . فتذهب الفتاة - ولا حرج عليها فإن فرعون لا يتعرض للنساء بالقتل بل يبقيهن إمعاناً في الفساد ! - فتبصر به في قصر فرعون فترشدهم - وهم لا يعرفونها - إلى أهلها ليرضعوه ويكفلوه !
وتتم الحلقة الأولى من القدر المقدور ، فيرجع موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ، ولتعلم أن وعد الله حق !
وتبدأ الحلقة الثانية في قصر فرعون ، حيث يربى موسى كأنه أمير من أمراء الأسرة ، يعزز ويكرم ، ويؤتى له بالمعلمين والمثقفين ، ويعلم لغة قومه في بيت أمه ، ولغة فرعون في بيت فرعون !
ثم يدخل في مرحلة ثالثة تنقل خطواته - بقدر الله - إلى بعيد ..(1/283)
( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ، وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ القصص : 14 - 21 ] .
لقد كان الاضطهاد واقعاً على بني إسرائيل في كل مكان . وهذا رجل مصري يقتتل مع إسرائيلي في أثناء مرور موسى . ويعلم الإسرائيلي أن موسى - وإن كان منهم - ذو حظوة في قصر فرعون ، فيستصرخه لإنقاذه من قبضة المصري . وتهيج في نفس موسى مشاعر الغضب من الذل والاستعباد الواقع على بني إسرائيل فيضرب المصري ضربة قوية - بغير نية القتل - ولكن يد موسى القوية الباطشة تقضي على الرجل فيموت . فيندم موسى على نتائج فعلته ويستغفر الله وينوي ألا يعود إلى مثل ذلك . ولكنه في صباح الغد يسير في طرقات المدينة خائفاً يترقب ، يتحسس أخبار حادث الأمس ، وهل عرف الناس أن موسى هو الذي قتل المصري ؟ عندئذ يلتقي بنفس الإسرائيلي واقعاً في قبضة مصري آخر يعتدي عليه ، فيهمّ أن يبطش بالمصري ( رغم عزيمته بالأمس ألا يعود إلى ذلك ! ) فيخاف المصري ( أو يخاف الإسرائيلي ظناً منه أن موسى يريد أن يبطش به هو ) فيقول : " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ؟! " فيعرف موسى أن الخبر قد انتشر .. وفيما هو يفكر في العواقب يجيئه رجل لا يعرفه ( لعله هو مؤمن آل فرعون الذي سيرد ذكره بعد ) ينصحه بالخروج لأن الملأ يأتمرون به ليقتلوه .. ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى(1/284)
رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ، وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ، فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) [ القصص : 22 - 28 ] .
لقد توجه إلى مَدين - بقدر من الله - وهناك على بئر مدين وجد زحمة من الناس يسقون ، ووجد فتاتين لا تقدران على الحصول على الماء حتى يخف الزحام وليس لهما من يحمل عنهما ذلك العبء لأن أباهما شيخ كبير (1) ،، فتقدم موسى بما فيه من شهامة وأريحية فسقى لهما ، ثم تولى إلى الظل يستريح من عناء السفر ويشكر الله على الأمن والماء والظل .. فإذا إحدى الفتاتين تدعوه لمقابلة أبيها ليجزيه على شهامته ومروءته . فلما قص عليه موسى قصته قال له : ( لا تَخَفْ نَجَوْت مِن القَوم الظالمين ) . ثم عرض عليه - بناء على
__________
(1) تقول بعض الروايات إن الشيخ الكبير والد الفتاتين هو نبى الله شعيب . وليس فى النص القرآنى ما يثبت ذلك ولا فى حديث صحيح 0
قلت : قال ابن كثير : " وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل: مَنْ هو؟ على أقوال: أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين. وهذا هو المشهور عند كثيرين، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد.
وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب. وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى، عليه السلام، بمدة طويلة؛ لأنه قال لقومه: { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [ هود : 95 ]. وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل، عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين موسى والخليل، عليهما السلام، مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. وما قيل: إن شعيبا عاش مدة طويلة، إنما هو -والله أعلم -احتراز من هذا الإشكال، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا. وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده، .... ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه: "ثبرون" ، والله أعلم. تفسير ابن كثير - دار طيبة - (6 / 228)(1/285)
اقتراح الفتاة باستئجاره - أن يزوجه إحدى ابنتيه مقابل خدمته ثمانية أعوام أو عشرة إذا شاء ، فقبل موسى العرض وبقي مع الرجل الصالح تلك السنوات .
وانتهى الأجل المضروب فخرج موسى بأهله ، فآنس من جانب الطور ناراً فقال لأهله : امكثوا حتى آتيكم من النار بقبس تصطلون دفئه .. وهناك تقع لموسى مفاجأة مذهلة لم تكن له - ولا لغيره - في الحسبان .
إن النار التي ذهب يأتي منها بقبس يصدر منها صوت يناديه ! ويقول الصوت : إني أنا الله رب العالمين !
( فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [ القصص : 29 ، 30 ] .
إنها مفاجأة يذهل لها أي إنسان . ولا شك أن موسى قد أذهلته المفاجأة لولا الأنس الذي أحسه في ذلك الصوت ، والذي جعله يبقى إلى جانب النار يستطلع ما يكون من أمرها .
أما المفاجأة التي لم يطقها موسى فهي تحرك العصى التي كان يحملها كأنها ثعبان ضخم !
( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) [ القصص : 31 - 33 ] .
لقد أصبح موسى رسولاً منذ تلك اللحظة . وها هو ذا يؤمر أن يذهب إلى فرعون بهاتين المعجزتين : العصا التي تتحول إلى ثعبان ضخم ، واليد التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء .
ولكن موسى يخاف الذهاب إلى فرعون . لقد قتل منهم نفساً ، فهو عرضة أن يقتلوه ، وفي لسانه عقدة فهو يخشى أن يضطرب نطقه فلا يفصح عما يريد أن يقول ، ويطلب من الله أن يرسل معه أخاه هارون يعاونه في الأمر :(1/286)
( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) [ القصص : 33 ، 34 ] .
وتتجلى نعمة الله عليه فيجيب سؤاله ، ويطمئنه إلى أن فرعون وملأه لن يصيبوه بالأذى : ( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ) [ القصص : 35 ] .
ويذهب موسى إلى فرعون بالآيات فيحدث بينه وبينه ما يحدث في كل جاهلية بين الطاغوت وبين الداعية الذي يدعو إلى لا إله إلا الله ؟!
إنها قصة واحدة مكررة في التاريخ !
ما من طاغوت في الأرض يرحب بدعوة لا إله إلا الله أو يهادنها على أقل تقدير !
إنها كلمة بسيطة غاية البساطة : " لا إله إلا الله " ولكنها كما قلنا من قبل تدوي في أذن الطاغوت كالصيحة المدوية . إن معناها المباشر أن هذا الطاغية ليس إلها كما يريد أن يصنع من نفسه ، إنما هو عبد لله ، ينبغي أن يخضع لسلطانه ، ويأتمر بأمره ، لأنه هو - سبحانه وتعالى - الإله الحقيقي الذي يُعبد وحده ، ويُطاع وحده ، ويحكم في أمور الناس بحكمه وحده .
من هنا تنشب المعركة بين الطاغية وبين الداعية للا إله إلا الله ، ولو كان الداعية لا يحمل سلاحاً ولا يدعو لقتال ، بل يدعو للمهادنة والانتظار كما دعا نبي الله شعيب : ( وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) [ الأعراف : 87 ، 88 ] .
إن الطاغية يعتبر مجرد الدعوة للا إله إلا الله حرباً معلنة ضده هو شخصياً لأنه يدرك جيداً معناها ! يدرك أن معناها رد السلطة المغتصبة التي يستعبد بها الناس إلى صاحبها الحقيقي .. إلى الله سبحانه وتعالى رب الجميع .
ومع أن موسى لم يطلب من فرعون بادئ الأمر أن يؤمن ويتبعه ، إنما طلب منه فقط أن يطلق بني إسرائيل ولا يعذبهم ، إلا أن المعركة نشبت مع ذلك بينه وبين موسى كما(1/287)
تنشب في التاريخ كله بين الطاغية وبين الدعوة للا إله إلا الله ! ذلك أن موسى إنما يطالبه بإطلاق بني إسرائيل وعدم تعذيبهم باسم الله الذي هو مرسل من قبله ؛ ومن ثم فالقضية واحدة في النهاية ! قضية الإله الحقيقي الذي ينبغي أن يطاع : هل هو الله أم الطاغوت !
إنك من أي باب دخلت ، فالقضية في حس الطاغوت واحدة !
قد تكون القضية هي رفع ظلم سياسي ، أو ظلم اجتماعي ، أو ظلم اقتصادي ، أو ظلم فردي ، ولكنك إذا طلبت رفع الظلم باسم الله ، وباسم الحكم بما أنزل الله ، فقد كفرت بالطاغوت ، وأعلنت صراحة أو ضمناً نزع الربوبية منه وردها إلى الله ! وكل شيء قد يحتمله الطاغوت إلا هذه بالذات ! إنه يحس أنها تصيبه في مقتل ، ولو كانت كلمة تعلن بغير سلاح ولا قتال !
وقد أحس فرعون كما يحس الطغاة أبداً حين يدعون إلى شيء باسم الله وطاعة الله .. أبى واستكبر .. ثم هدد بالبطش !
وفي الحوار الذي دار بينهما كما ورد في سورة الشعراء ما ينبئ عن ذلك : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (2) (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) [ الشعراء : 16 - 29 ] .
__________
(1) الخطاب فى الآية لموسى وهرون 0
(2) يشير فرعون إلى المصرى الذى وكزه موسى فقضى عليه 0(1/288)
موسى يطلب إطلاق بني إسرائيل ، وفرعون يحول القضية إلى قضية الألوهية : مَن المعبود الذي ينبغي أن يُطاع ؟ وذلك أن موسى يطلب إطلاق بني إسرائيل باسم الله ، لا باسم قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو وطنية أو عرقية !
( فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ، وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ) [ القصص : 36 - 39 ] .
لقد رأوا من موسى سبع آيات بينات : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم .
( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) [ الأعراف : 134 ، 135 ] .
وبقيت من الآيات التسع (1) التي أرسل بها موسى آيتان :
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ، إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ، فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ، وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) [ الشعراء : 52 - 66 ] .
__________
(1) وادخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فى تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين))(النمل:12)(1/289)
غرق فرعون الذي قال لملئه : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) [ النازعات : 24 ] .
وغرق معه جنده الذين استخفهم - بفسقهم - واستعبدهم لسلطانه : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) [ الزخرف : 54 ] .
كانت آية لكل جبار عنيد في الأرض . ولكن متى كان الطغاة يعتبرون ؟ ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) [ يونس : 101 ] .
وانتهت فترة عصيبة من حياة موسى .. فترة الجهاد الذي استمر بضع سنوات مع فرعون وملئه ، والأذى ينزل ببني إسرائيل لا يكفّ عنهم ، وهو يحاول أن يبعث فيهم الصبر والاصطبار ، ويبعد عنهم شبح اليأس :
( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) [ الأعراف : 127 - 129 ] .
ويتحقق وعد الله لبني إسرائيل فيستخلفهم في الأرض :
( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) [ الأعراف : 137 ] .
فهل استقاموا على طريق الله الذي أسبغ عليهم من نعمه ما لم يسبغه على أحد من العالمين ؟! كلا ! إنهم ما كادوا يحسون بالأمن من أذى فرعون وظلمه ، ويحسون بالكرامة بعد الهوان والذل ، حتى بدءوا يتجبرون ويعصون ربهم ، حتى وموسى عليه السلام حيّ بين ظهرانيهم !
( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) [ الأعراف : 138 ] .(1/290)
ثم اتخذوا العجل الذهبي إلها حين ذهب موسى لميقات ربه !
( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ (1) عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ) [ الأعراف : 148 ] .
وقالوا : لن نؤمن حتى نرى الله جهرة !
( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) [ البقرة : 55 ] .
وتوالت جرائمهم ومعاصيهم بعد ذلك وموسى يصبر عليهم ولا يسلم من أذاهم ! ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] .
( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) [ البقرة : 108 ] .
وكانت قمة معصيتهم - في حياة موسى - هي رفضهم الجهاد لدخول الأرض المقدسة التي وعدهم الله بها : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ، قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) [ المائدة : 20 - 26 ] .
ومضى موسى للقاء ربه بعد طوال المصابرة على عصيانهم وانحرافهم ، والمحاولة الدائبة لتقويمهم .. مضى وهم سادرون في غيهم ، لا يزيدون إلا معصية لله وكفراً به ويجمل
__________
(1) ما زالت عبادة الذهب قائمة فيهم منذ ذلك الحين 0(1/291)
القرآن الكريم وصفهم في مثل هذه الآيات : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ، وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ، فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ، وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ، فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) [ النساء : 135 - 161 ] .
لذلك استحقوا اللعنة وباءوا بغضب من الله : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) [ المائدة : 78 ، 79 ] .
( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) [ البقرة : 61 ] .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) [ آل عمران : 21 ، 22 ] .
لقد صنع اليهود من الشر في أجيالهم المتعاقبة ما لم تصنعه أمةٌ أخرى في التاريخ
4- عيسى عليه السلام :(1/292)
( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) [ مريم : 21 ] . ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء : 91 ] .
لكل نبي معجزة واحدة على الأقل . وأرسل موسى عليه السلام في تسع آيات إلى فرعون وقومه . ولكن معجزة عيسى في ولادته بغير أب تُعَد متفردة بين المعجزات جميعاً . فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعله هو ذاته آية للعالمين .
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) [ مريم : 16 - 22 ] .
هكذا تبدأ قصة عيسى عليه السلام .. أو لعلها تبدأ قبل ذلك في الحقيقة في الرعاية الخاصة التي رعى بها الله مريم منذ مولدها : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ آل عمران : 33 - 37 ] .
فهذه امرأة عمران تهب ما في بطنها للمعبد ( على عادة القوم الأتقياء يومئذ ) تظن أنها ستلد ولداً ذكراً - فما كان يوهب للمعبد إلا الذكور - فلما وضعت فوجئت بأنها أنثى ! وتحسرت على أنها لم تلد ذكراً تستطيع أن توفي به نذرها . فواساها الله سبحانه وتعالى بقبول ابنتها مريم في المعبد ولو كانت أنثى ! وكلف النبي زكريا برعايتها في المعبد والقيام(1/293)
بحسن تربيتها ، ففوجئ زكريا بأحوال منها غير معتادة : " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ! " فهو يسعى إليها بالطعام فيجد الطعام فائضاً عندها ومتجدداً ! فعرف أنها مباركة ، وزاد ذلك من عطفه عليها ورعايتها .. ثم إن الله اصطفاها وطهرها ..( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) [ آل عمران : 42 ] .
فهي التقية النقية الطاهرة المباركة .. حتى لقد لقبها أهلها " أخت هارون " من شدة تقواها وصفاء سريرتها .
وبينما هي في عزلتها ، وهذه حالها ، يجيئها جبريل عليه السلام بهذا الخبر العجيب : إن الله سيهب لها غلاماً زكياً ! وتذهل من المفاجأة وتضطرب لها اضطراباً عنيفاً ، ويتمثل في خيالها ما يمكن أن يقال عنها فتدافع عن نفسها : ( أنّى يكون لي غلامٌ ولم يَمْسَسْني بشرٌ ولم أكُ بَغِيّا ) . فيقول لها الملك : كذلك ! إنه أمر هين على الله . إن الله يريد أن يجعل منه آية للناس ورحمة . ثم إنه لا فائدة في الجدل ! فهو أمر محتوم ! (وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً ) .
هكذا تبدأ المعجزة بخلقه بغير أب .. بالمشيئة الربانية فحسب .. بغير الأسباب التي تعودها الناس في حياتهم .
نعم إن هناك سُنَّة جارية ، هي من أمر الله ، وقد جرت هذه السُّنة بأن يأتي النسل من لقاء الزوجين وإخصاب البويضة بهذا اللقاء ، بحيث لا يتكون جنين إذا لم يحدث للبويضة إخصاب .
ولكن مشيئة الله سبحانه وتعالى ليست مقيدة بهذه السنة الجارية ولو أنها من أمر الله ! إنما الله سبحانه وتعالى يخلق بغير أسباب . يقول للشيء كن .. فيكون ..
ونسمي نحن هذا الأمر خارقة ! لأنها تخرق ما تعودنا عليه من سنة الله الجارية . ولكن الإعجاز في الحقيقة قائم في هذه وتلك ! وإلا فمن الذي خلق البويضة في رحم الأم وجعل من خصائصها أن تنجب بعد الإخصاب ؟! إنه الله الذي يقول للشيء كن فيكون !(1/294)
ومع ذلك يظل للخارقة وضع خاص في حسِّنا ، لأنها تخالف المألوف .. ويعلم الله ذلك منا ، فيجعل المعجزة دائماً خارقة للمألوف ، لتلفت حسَّنا بشدة إلى الخالق الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض !
واقتضت مشيئة الله أن تكون كذلك ولادة عيسى عليه السلام ..
وإذْ تكون ولادة عيسى بغير أب معروف ، فإن مريم تكون حتماً عرضة للاتهام !
بل إن أهلها هم أول من يوجه الاتهام إليها ! فإنَّ فضيحتها لن تكون خاصة بها ! إنما هي ستلطخ الأسرة كلها بالعار ، وهي التي ورثت التقوى وحسن السمعة جيلاً بعد جيل : ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) [ مريم : 27 ، 28 ] .
وتتنزل رحمة الله بمريم ، التي تقبّلها ربها بقبول حسن منذ مولدها ، ورعاها وأكرمها ، واصطفاها وطهرها : تتنزل في معجزة جديدة لعيسى ، لا تقلّ إعجازاً ولا تقل روعة في الحس : ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) [ مريم : 29 - 33 ] . ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) [ آل عمران : 46 ] .
وتتوالى المعجزات في حياة عيسى .. ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 49 ] .
ومع أن هذه المعجزات كلها قد جاءت تأييداً لرسالة عيسى عليه السلام ، فإن الذين آمنوا به إيماناً صحيحاً كانوا قلة قليلة سواء في أثناء حياته على الأرض أو بعد رفعه منها .(1/295)
فأما اليهود الذين أرسل إليهم عيسى فقد كذبوه وأبوا أن يتبعوه إلا قليلاً منهم . وقالوا : إن المسيح الذي وُعدنا به سيكون ملكاً ذا سلطان ، أما هذا فقد جاء يحدثنا عن ملكوت الرب ! فهو إذن ليس المسيح الموعود !
وأما النصارى فقد ألّهوه وجعلوه ابن الله ..
ولنتتبّع كلا من الفريقين :
فأما اليهود فقد كانوا - حتى في حياة موسى عليه السلام - قوماً ماديين . عبدوا العجل الذهب ، وظلوا من بعدها يعبدون المال ويتفننون في تحصيله عن طريق الحرام ، بأكل الربا ، وأكل أموال الناس بالباطل : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) [ آل عمران : 75 ] (1) 0
ووصلوا إلى درجة من قساوة القلب وصفها الله في هذه الآية : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [ البقرة : 74 ] .
فأرسل الله إليهم عيسى عليه السلام ليردهم إلى الصورة السوية التي يرضى عنها الله ، فيتركوا ماديتهم الهابطة ، وتلين قلوبهم بدلاً من قسوتها ، ويستشعروا تقوى الله وخشيته ، فيكفوا عن جرائمهم الوبيلة التي لطخت تاريخهم كله .. لذلك جاء عيسى عليه السلام يحدثهم عن ملكوت الرب ، ويقول لهم : من أراد ملكوت الرب فليترك ماله وأولاده وليتبعني . ويحدثهم عن الروح وصفائها ، وعن رفعة الإنسان بالجانب المعنوي منه : " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان " .
لكنهم من أجل ذلك كرهوه !
إنهم يريدون أن يظلوا في الدنس الذي يعيشون فيه ولا يريدون أن يرتفعوا عنه بحال من الأحوال . لذلك كذبوا عيسى وحرضوا على صلبه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا
__________
(1) ما زال اليهود يعتبرون كل البشر غيرهم أميين! أو أمميين بتعبيرهم! ويعتبرون أموال البشرية كلها حلالاً لهم ولو حصلوا عليها بكل الطرق غير المشروعة 0(1/296)
مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) [ البقرة : 87 ] .
فأما التكذيب فقد أقاموه على هذه الدعوى المزعومة التي سبقت الإشارة إليها ، وهي أن المسيح الذي ورد ذكره عندهم في التوراة سيكون ملكاً عليهم ويجعل لهم سلطاناً على الأمم الأخرى . أما هذا فيتحدث فقط عن ملكوت الرب وليس بيده سلطان !
وأما التآمر لصلبه فقد كانوا يحرضون ضده الحاكم الروماني المسمى " بيلاطس " المولّى على فلسطين من قبل الرومان . كانوا يقولون : إنه شخص مشاغب ومهيج للجماهير ! وإنه يحرضهم على عدم إطاعة القيصر الروماني ! وقد حاول بيلاطس أن يصدهم عن هذه الاتهامات ، وقال لهم : إنه لم يسمع عنه إلا كل خير ، وإنه يدعو إلى السلام والمحبة ، فقالوا له : إن الأمن لن يستتب في الأرض إلا إذا حوكم هذا الرجل وصلب ! وإنه طالما بقي حياً فستظل الاضطرابات قائمة من حوله ! ثم لفقوا له قضية يكون من نتيجتها محاكمته وصلبه . وهم يزعمون أنهم قتلوه بالفعل فوق الصليب . ولكن القرآن يكذب ذلك تكذيباً قاطعاً ، كما تكذبه كتابات كثيرة للنصارى أنفسهم ، بل إن الأناجيل ذاتها مضطربة اضطراباً شديداً حول هذا الموضوع . والذي حدث بالفعل هو أن الله ألقى شبهه على شخص آخر ( يهوذا الأسخريوطي ) فأخذ وصلب بدلاً من المسيح (1) . أما المسيح فقد رفعه الله إلى السماء ونجاه مما كان اليهود يكيدون له :
( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) [ النساء : 157 ، 158 ] .
أما قوله تعالى في سورة آل عمران [ 54 ، 55 ] : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
__________
(1) يهوذا الأسخريوطى كان واحداً من الحواريين (تلاميذ المسيح) ولكنه خانه سراً وتآمر ضده مع اليهود. وتقول الروايات المسيحية نفسها: إنه كان أشبه الناس بالمسيح، كما تقول الروايات التاريخية الصحيحة إن عملية الصلب تمت فى الغسق أثناء دخول الظلام وإن الجماهير التى حرضت ضد المسيح رأت يهوذا فحسبته هو المسيح - لقرب الشبه بينهما - فدفعته دفعاً إلى الجنود فوضعوه على الصليب. أما المسيح فقد اختفى وظل الناس يبحثون عنه فلا يجدونه 0(1/297)
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) . فمعنى " متوفيك " هنا أني أوفيك أيامك المقدَّرة لك على الأرض ، أي أن أجله المقدَّر له في الأرض قد انتهى ثم رفعه الله إليه ، وليس معناها أنه مات ، بل رُفع حياً ، ليبقى حتى ينزل مرة أخرى في آخر الزمان ويحكم الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقول الأحاديث الصحيحة .
" فعَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَهُ نَبِىٌّ ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى ، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ . قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ » (1) .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِى فِى النِّسَاءِ وَالْصِّبْيَانِ فَقَالَ « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى » (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ : أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَحْمَدُ وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي ، وَأَنَا العَاقِبُ " (3) .
يريد آخر الأنبياء وخاتمهم ، وإذا كان ذلك فلا يجوز أن يتوهم أن عيسى ينزل نبيا بشريعة متجددة غير شريعة محمد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، بل إذا أنزل فإنه يكون يومئذ من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حوعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنَ الْيَهُودِ تُعْجِبُنَا أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا ؟ فَقَالَ: " أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ والنَّصَارَى ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي "، (4)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3455 ) و صحيح مسلم- المكنز - (4879)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6371)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3532 )
(4) - شعب الإيمان - (1 / 347) (175 ) حسن - هذه النصوص الحديثية زياد مني(1/298)
وتلك معجزة من المعجزات التي صاحبت حياة المسيح عليه السلام ، أو هي آخر معجزاته . فميلاده مُعْجز وكذلك توفيته أجله في الأرض معجزة ، وكلاهما خارق للمألوف .
تلك قصته مع اليهود .. أما النصارى فقد انحرفوا بشأنه في اتجاه آخر .. واتخذوا من معجزاته حجة لتأليهه تارة وادعاء بنوته لله تارة أخرى .
كانت معجزة مولده أنه ولد من غير أب ، فقالوا : لا يمكن أن يكون بغير أب ، فهو إذن ابن الله !
ويردّ القرآن عليهم : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [ آل عمران : 59 ] .
فالخلق عند الله هو الخلق . يتم بالمشيئة وليس بالأسباب ! ومشيئة الله ليست مقيدة بنوع معين من الأسباب ، بحيث تعجز عن الخلق إذا لم تتوافر الأسباب المألوفة في علم البشر !
لذلك يعقب في سورة مريم ( التي أوردنا نصوصاً منها من قبل ) بعد تفاصيل مولد عيسى عليه السلام بقوله تعالى : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) [ مريم : 34 ، 35 ] .
وتختتم سورة المائدة بهذا الموقف المؤثر :
( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي (1) كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن
__________
(1) يعنى : أنهيت عمرى المقدر لى فى الأرض كما مر من قبل 0(1/299)
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ المائدة : 116 - 120 ] .
وهكذا نجد أن جهاد الرسل جميعاً متعلق بتلك القضية الكبرى : قضية التوحيد . قضية الإيمان بالله واليوم الآخر .
وأن جهدهم كله كان منصرفاً إلى إعادة الناس إلى حظيرة الإيمان بعد شرودهم عنها ، وردهم إلى رؤية الحق الذي عموا عنه ، والارتفاع بهم من انتكاس الحيوان إلى رفعة الإنسان ، الذي شرفه الله بالخلافة في الأرض ، وفضله على كثير ممن خلق ، ليقوم بعمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني ، الذي يكفل للبشر سعادتهم وطمأنينتهم في الحياة الدنيا ، ويكفل لهم في الآخرة الجنة والرضوان 0
- - - - - - - - - - - - - -(1/300)
الرسالة المحمدية
( 1 ) حال العالم قبل الإسلام
قبل مجيء الإسلام كانت البشرية كلها قد تردت إلى حالة شديدة من السوء ، وظلمات لا يبدو فيها بصيص من النور .
لم تكن الجزيرة العربية وحدها هي التي تسودها الجاهلية . وإنما كانت الجاهلية تعم وجه الأرض كلها بغير استثناء .
كانت هناك دولتان " عظيمتان " هما فارس والروم ، تحكمان معظم الأرض المعمورة يومئذ ، ولكل منهما " حضارة " تاريخية ! ولكن على أي شيء كانت تقوم تلك " الحضارات " ؟ وعلى أي مستوى فكري وروحي ومادي كان يعيش " الإنسان " في داخلها ؟
في فارس كان كسرى هو الذي يحكم . ولكنه لم يكن ملكاً ، إنما كان إلهاً .. ! كانت مراسيم التحية التي تقدم له أشبه شيء بشعائر التعبد ! لم يكن يحق لأحد أن يدخل عليه حتى يمر بحاجب وراء حاجب ، فإذا مثل بين يديه انحنى له انحناءة عظيمة ، ويظل منحنياً حتى يؤذن له بنصب قامته ! فإذا تكلم قدم لكلامه بعبارات من الثناء تُشعر بالخضوع والمذلة أكثر مما تُشعر بالرغبة في الثناء ! ثم إذا انصرف لم يحق له أن يعطي ظهره للإله المعبود ! بل يخرج بظهره ، حتى يظل وجهه هو المواجه لكسرى حتى يغيب عن ناظريه ، لأنه لا يجوز في حق ذلك الإله المزعوم أن يستدبره الناس بظهورهم لأن في ذلك ما يخدش عظمته وقداسته !!
وكان الناس عبيداً بالفعل لذلك الإله . يعيشون - أياً كان مستواهم - على الصورة التي يسمح بها كسرى ، أو تسمح بها تقاليد الملك المتوارثة منذ أجيال . وحفنة من الناس يستمتعون بخيرات البلاد ، أولئك هم بلاط كسرى ، المتحكمون معه في رقاب العبيد ، أما بقية الشعب ففي حالة من الذل والفقر والعبودية لا تليق " بالإنسان " . وكانوا يساقون إلى الحروب التي يشنها كسرى أو قواده " الطموحون " يموت منهم من يموت لغير قضية يؤمن بها ، ويحيى من بقي حياً في ذل العبودية والضياع .(1/301)
مظاهر " العظمة " ومظاهر " الحضارة " كلها في إيوان كسرى وقصره وبلاطه وكل ما يتعلق به ، أما " الشعب " فلا أهمية له إلا بمقدار ما يخدم مصالح أولئك السادة المتحكمين وعلى رأسهم ذلك " الإله " !
وهناك " فنون " نعم ، وإنتاج مادي .. ولكنه كله مسخر - مع الناس أنفسهم - لخدمة تلك المصالح المقدسة لا يخرج عنها !
أما العبادة الرسمية فهي عبادة النار !
ولهذه النار كهنة يسهرون على إيقادها حتى لا تنطفئ .. لأنها إذا انطفأت كان ذلك فألاً سيئاً على الإله الجالس على عرش الأكاسرة !
وأما الأخلاق فقد انهارت ، وتفشت شيوعية مزدك بما تحمل من إباحية وفوضى وانحلال .
أيّ هوان فكري وروحي ومادي كان يعيش فيه الإنسان في ظل تلك " الحضارات العظيمة " ؟!
وفي بلاد الروم لم يكن الحال أفضل من ذلك ..
فالقيصر يحاط بالهالات كما يحاط كسرى .. والناس - كحالهم في كل جاهلية - سادة وعبيد . السادة قلة ، ولكنهم يملكون كل شيء في أيديهم ، والعبيد هم الكثرة المغلوبة على أمرها ، المسخرة لمصالح السادة .
والحروب التي يشنها القيصر وقواده لا تنتهي . وإليها يساق العبيد ليموتوا بالألوف ومئات الألوف .. في سبيل ماذا ؟ ما القضية التي يدافعون عنها ويموتون من أجلها ؟ وما القيم التي يحرسونها ؟ إنها " الإمبراطورية " ! إنها الأمجاد الشخصية للقيصر والقواد ! إنها شهوة الغلبة والاستعباد والإذلال والقهر ! إنها البربرية الوحشية التي لا يحكمها قانون !
وهناك مثل فارس فنون وإنتاج مادي وعمارة للأرض .. ولكن لمن ؟ للسادة أم للعبيد ؟! وما دور العبيد فيها غير خدمة الأسياد ؟!
وهناك " عقيدة " محرفة تحرسها الكنيسة ورجال الدين . والأحبار والرهبان أرباب يحكمون عالم الروح والفكر بغير ما أنزل الله ، ويأكلون أموال الناس بالباطل ، في الوقت(1/302)
الذي يحكم القيصر عالم الحس والمادة بالقانون الروماني الجاهلي .. أي بغير ما أنزل الله . والناس عبيد للقيصر وبلاطه من ناحية ، وعبيد من ناحية أخرى " لقداسة البابا " وَمَنْ حوله مِنَ الأحبار والرهبان .
فإذا تجاوزنا الإمبراطوريتين " العظيمتين ! " وجدنا في آسيا " الحضارة " الهندية و " الحضارة الصينية " ..
ففي الهند - كما في كل مكان - سادة وعبيد . ولكن العبيد في الهند لهم وضع خاص . إنهم خُلقوا من قدم الإله ! ولذلك فهم دنسون نجسون ! وعليهم أن يحتملوا كل ما يقع عليهم من إذلال وإهانة وتعذيب ، لأن هذا قَدَرُهم من ناحية ، ومن ناحية أخرى لأن هذا هو طريقهم الوحيد للخلاص ! الخلاص عن طريق تناسخ الأرواح ! فالإنسان يقضي عمره المحدد ، ثم تنسخ روحه فتحل في إنسان آخر جديد ، ولكنها نفس الروح ! فإذا رضي العبيد " المنبوذون " بقَدَرهم ، ورضوا بالهوان والذل ، وقاموا بأشق الأعمال وأقذرها ، فربما .. ربما تنسخ أرواحهم في أشخاص جدد ، أرفع شأناً من العبيد ( وإن كانوا لا يصلون قط إلى مقام السادة الذين خلقوا من رأس الإله أو من ذراعيه ! ) فيكونون بذلك قد وصلوا إلى " الخلاص " المنشود !
وهناك " عبادات " ... عبادات لا حصر لها ، لآلهة لا حصر لها كذلك .. ولكنها كلها تشترك في شيء واحد .. في أنها ضلال ، ولكن ربما كان أعجب ما فيها " بغايا المعبد " ! بغايا يقمن بالبغاء في المعبد ! لوجه الإله ! بل لوجه الشيطان ! وربما كان أعجب ما فيها كذلك عبادة البقرة .. والتمرغ في روثها والاستحمام ببولها .. من أجل البركة ! ولو أن البقرة نطقت لسخرت من عبّادها ، ولعجبت من " الإنسان " الذي كرّمه الله ، كيف يرضى لنفسه بذلك الهوان !
وفي أقصى الأرض توجد الصين .. بلاد مترامية الأطراف يحكمها إمبراطور .. مقدس ككل حكام ذلك الزمان . تقدم له طقوس العبادة وتقدم له القرابين ، ويخرّ الناس بين يديه ساجدين ، والإله المعبود هو بوذا . تقام له التماثيل وتعبد . ينحتها الناس بأيديهم ثم يعبدونها ! وفي البوذية كما في ديانات الهند يُحتقر الجسد ويعذب من أجل خلاص الروح(1/303)
. وتُحتقر الحياة الدنيا وتنبذ من أجل الحصول على الخلود .. الخلود أين ؟ وعلى أية صورة ؟ الخلود مع بوذا .. في عالم الأوهام !
وهناك فنون ، وهناك إنتاج مادي ، وهناك " حكمة " ، ولكنها كلها إلى ضياع ، لأن الناس أنفسهم ضائعون !
أما الجزيرة العربية فغارقة في الجاهلية ككل البشرية !
وتختلف الجاهليات في صورتها الخارجية باختلاف البيئة ودرجة الحضارة المادية التي تسودها ، ولكنها في جوهر الجاهلية سواء ، فالجاهلية هي الشرك ، وهي الحكم بغير ما أنزل الله . و " الإنسان " فيها ضائع ، تحكمه أوهام ما أنزل الله بها من سلطان ، وتحكمه شريعة غير شريعة الله .
كان في الجزيرة ألوان ثلاثة من الديانات .. كلها ضلال !
فهناك اليهود مركزون في المدينة وما حولها ، قد حرّفوا كتابهم " المقدس " منذ أجيال طويلة ، وملئوه بالأكاذيب والأساطير ، وغيروا فيه شرائع الله ، ثم نبذوها جملةً وأصبحوا يحكّمون أهواءهم ومصالحهم ، ويعبدون الشيطان في الحقيقة بدلاً من عبادة الله .
وهناك فئات قليلة من النصارى واقعون فيما هم واقعون فيه من انحرافات .
وهناك العرب الوثنيون في طول الجزيرة وعرضها يعبدون الأصنام ، ويضعونها في الكعبة ، بيت الله الحرام ، في المكان الذي أمر إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعده ليعبد فيه الله وحده بلا شريك ، المكان الذي دعا فيه إبراهيم : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) [ إبراهيم : 35 ] .
ثم يقولون : إنهم على دين إبراهيم !
وتعشش في رءوسهم مجموعة شتى من الأساطير !
الملائكة بنات الله ... وتعبد لأنها بنات الله !
والجن ذوو نسب مع الله . ومن أجل ذلك يعبدون .
والأصنام ، ينحتونها بأيديهم ويعبدونها ، ويقولون : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) [ الزمر : 3 ] .(1/304)
وقريش تتحكم في عقائد العرب ، تأمرهم أن يطوفوا بالبيت عرايا ، وتحل الأشهر الحرم ، وتحرم غيرها نسيئاً ، وتحل الميتة ، وتحل الميتة ، وتحرم من الأطعمة الحلال ما تشاء .. والعرب يطيعون شريعتها الزائفة ويعصون شريعة الله !
ويئدون البنات ، ويحتقرون المرأة ويظلمونها ، ويشربون الخمر ويلعبون الميسر ويستبيحون الزنا ، وتمضى حياتهم في الشراب واللهو أو غارات السلب والنهب .. أو الفراغ ! وبعض القبائل الغنية كقريش وثقيف وهوازن تشتغل بالتجارة بعض وقتها وتشتغل بالربا الفاحش في أموال الناس ، ثم تنصرف هي الأخرى إلى الفراغ !
و " الإنسان " ضائع كما هو ضائع في كل الجاهليات ..
كذلك كان حال العالم قبيل البعثة المحمدية . شرك يملأ وجه الأرض ، وظلمات لا يبدو فيها بصيص من النور .
وفي هذا الجو الحالك المظلم بعث النور .. بعث محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه .
(2) -دعوة إبراهيم وبشارة عيسىورؤيا أم النبى - صلى الله عليه وسلم -
فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ , وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ , وَسَوْفَ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ , أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ , وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَهُ , وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَتْ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ.." (1) 0
فأما دعوة إبراهيم عليه السلام ( التي سبقت الإشارة إليها ) فهي المتضمنة في قوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ البقرة : 127 - 129 ] .
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 340) (1455) صحيح لغيره(1/305)
وأما بشارة عيسى عليه السلام فهي في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) [ الصف : 6 ] .
وأما رؤيا أمّ النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ : أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : كَيْفَ كَانَ أَوَّلُ شَأْنِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنٌ لَهَا فِي بَهْمٍ لَنَا ، وَلَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا ، فَقُلْتُ : يَا أَخِي ، اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا ، فَانْطَلَقَ أَخِي وَمَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ ، فَأَقْبَلَ طَيْرَانِ أَبْيَضَانِ كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَقْبَلاَ يَبْتَدِرَانِي ، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي إِلَى الْقَفَا ، فَشَقَّا بَطْنِي ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي ، فَشَقَّاهُ فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : قَالَ يَزِيدُ فِي حَدِيثِهِ ، ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ ، فَغَسَلاَ بِهِ جَوْفِي ، ثُمَّ قَالَ : ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ فَغَسَلاَ بِهِ قَلْبِي ، ثُمَّ قَالَ : ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ فَذرَّاهَا فِي قَلْبِي ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : حِصْهُ ، فَحَاصَهُ ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ ، وَقَالَ حَيْوَةُ : فِي حَدِيثِهِ حِصْهُ فَحَصَّهُ وَاخْتِمْ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ ، وَاجْعَلْ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِهِ فِي كِفَّةٍ ، فَإِذَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى الأَلْفِ فَوْقِي ، أُشْفِقُ أَنْ يَخِرَّ عَلَيَّ بَعْضُهُمْ ، فَقَالَ : لَوْ أَنَّ أُمَّتَهُ وُزِنَتْ بِهِ لَمَالَ بِهِمْ ، ثُمَّ انْطَلَقَا وَتَرَكَانِي ، وَفَرِقْتُ فَرَقًا شَدِيدًا ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُهُ ، فَأَشْفَقَتْ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ أُلْبِسَ بِي ، قَالَتْ : أُعِيذُكَ بِاللَّهِ ، فَرَحَلَتْ بَعِيرًا لَهَا فَجَعَلَتْنِي ، وَقَالَ يَزِيدُ : فَحَمَلَتْنِي ، عَلَى الرَّحْلِ ، وَرَكِبَتْ خَلْفِي حَتَّى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي ، فَقَالَتْ : أَوَأَدَّيْتُ أَمَانَتِي ، وَذِمَّتِي ؟ وَحَدَّثَتْهَا بِالَّذِي لَقِيتُ ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ ، فَقَالَتْ : إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورًا ، أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ." (1) 0
وعَنْ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَاعِدٌ وَعِنْدَهُ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَلا تُعْطِيَنِي شَيْئًا أَتَعَلَّمُهُ وَأَحْمِلُهُ وَيَنْفَعُنِي وَلا يَضُرُّكَ؟ فَقَالَ النَّاسُ: مَهِ اجْلِسْ،
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 63)(17648) 17798- صحيح - زيادة مني وحذفت الذي ذكره لنه منكر(1/306)
فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :دَعُوهُ فَإِنَّمَا سَأَلَ الرَّجُلُ لِيَعْلَمَ، قَالَ: فَأَفْرَجُوا لَهُ حَتَّى جَلَسَ، قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ، قَالَ:أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الْمِيثَاقَ كَمَا أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينِ مِيثَاقَهُمْ ثُمَّ تَلا: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينِ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا"[الأحزاب آية 7] وَبَشَّرَ بِي الْمَسِيحُ بن مَرْيَمَ وَرَأَتْ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَنَامِهَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهَا سِرَاجٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: هَاهِ وَأَدْنَى مِنْهُ رَأْسَهُ وَكَانَ فِي سَمْعِهِ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :وَوَرَاءَ ذَلِكَ. (1) 0
وهكذا التقت الدعوة والبشارة والرؤيا كأنها نقط لامعة على الأفق ، تشير كلها إشارة موحدة إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بعد في ضمير الغيب ، حتى ولد فانطلق منه النور .
(3) بشارة التوراة والإنجيل
تحدَّثنا من قبل ( في الفصول الأولى ) عن إشارات التوراة والإنجيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رغم ما أصابهما من التحريف على يهد اليهود والنصارى ، فإذا رجعنا في هذا الشأن إلى القرآن نجد إشارتين صريحتين في هذا الصدد .
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ الأعراف : 157 ] .
( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) [ الفتح : 29 ] .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (16 / 191) (18280 ) صحيح(1/307)
وإذا كان اليهود والنصارى - خلال التاريخ - قد طمسوا تلك الإشارات الواضحة ، فإنهم لم يستطيعوا محوها محواً كاملاً ! وقد أشرنا من قبل إلى نسخة التوراة القديمة التي عثر عليها في دير سانت كاترين بسيناء عام 1365 هـ - 1945 م ، وفيها ذكر صريح للرسول صلى الله عليه وسلم ثم اختفت بعد ذلك ولم يعد يرد لها ذكر !
وكان اليهود في المدينة - قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم - يقولون للأوس والخزرج : لقد أظل زمان نبيّ ! وسوف نقاتلكم به ونغلبكم . وإلى هذا تشير الآية القرآنية : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 89 ] .
وهم حين كانوا يقولون ذلك للأوس والخزرج لم يكونوا يرجمون بالغيب ، وإنما كانوا يشيرون إلى ما هو مكتوب عندهم في التوراة . مما يدل على أن نسخ التوراة القديمة لم تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه وصفته فحسب ، بل أشارت كذلك إلى مكان بعثته وإلى زمانها التقريبي ، مما جعل اليهود يتوقعون قرب البعثة المحمدية . بل إن النص الذي أوردناه من التوراة آنفاً ليدل على أنهم كانوا يعرفون مكان بعثته ومكان هجرته كذلك ، وذلك على الرغم مما ألقى على النص من الغموض !
أما النصارى فقد بدَّلوا في الإنجيل لما دونوه بعد مدة من رفع عيسى عليه السلام ، ثم ظلوا كلما ترجموه من لغة إلى لغة يزيدون الإشارات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غموضاً ، ومع ذلك فما تزال هذه الإشارة باقية في أناجيلهم على لسان عيسى عليه السلام وهي : " سيأتي من بعدي الفاراقليط " وفي بعض النسخ يضاف إلى هذه العبارة " من لا أستحق أن أحلّ سيور حذائه "
ويأتى وصفه : ((يملأ الأرض نوراً وعدلاً) (1) وفي بعض النسخ : " يوبخ العالم على خطيئته ، ويعلم الناس جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بكل ما يسمع من عند الله " ، ومعنى ذلك أنه رسول موحى إليه من عند الله . وقد مر على ذلك قرابة
__________
(1) يعنى : هو أعظم منى بكثير، إلى درجة أننى لا استحق أن أحل سيور حذائه. وذلك من تواضع عيسى عليه السلام 0(1/308)
عشرين قرناً من الزمان ، وما جاء إلا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .. ولن يجيء غيره ! فهو هو الذي تشير إليه أناجيلهم بلفظ الفاراقليط (1) 0
وقد أمر موسى وعيسى عليهما السلام أتباعهما أن يؤمنوا بهذا الرسول حين يأتيهم ، قياماً بأمر الله وميثاقه مع الرسل جميعاً : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) [ آل عمران : 81 ] .
ولكنهم نكلوا عن أمر أنبيائهم حسداً من عند أنفسهم : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ البقرة : 109 ] .
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 146 ] .
(4) -صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحواله قبل البعثة
يختار الله سبحانه وتعالى رسله من صفوة خلقه .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو صفوة الأنبياء جميعاً وصفوة الخلق .
ويتولى الله سبحانه وتعالى رسله بالرعاية والتهذيب قبل بعثتهم دون أن يشعر الناس بذلك ودون أن يتوقعوا ، حتى إذا بعثهم كانوا - نفسياً وروحياً وخلقياً - مؤهلين لحمل الرسالة والقيام بها على الوجه الذي يريده الله منهم .
ولا يعرف الناس بطبيعة الحال - وإن كان الله يعلم - أن هذا الشخص بعينه سيكون رسولاً . ولكنهم يشعرون بصفاته المتميزة ويقدرونها ، ويقولون أحياناً : إن هذا الشخص سيكون له شأن ..
__________
(1) كلمة يونانية معناها (الحمد) وهى أقرب شىء إلى اسم ((أحمد)) الذى ورد فى بشارة عيسى عليه السلام فى سورة الصف (آية رقم6)0(1/309)
وقد صدق ذلك كله بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، على مستوى غير معهود في تاريخ الرسل من قبل .
ولا نقول : إن هذا كان شعور أمه صلى الله عليه وسلم ، فربما كانت الرؤيا التي رأتها هي التي أعطتها إرهاصاً بذلك . ولا نقول كذلك : إنَّ هذا كان شعور عمه أبي طالب ولا جده عبد المطلب ، فربما كانت صلتهما المباشرة به هي التي أوحت إليهما بذلك . إنما كان هذا شعور قريش كلها على اختلاف مشاربها ، كما كان هذا إحساس كل من رآه ولو مرة واحدة في رحلة من رحلات التجارة التي شارك فيها أو طائفاً حول الكعبة أو جالساً صامتاً لا يلهو كما يلهو الشباب من أقرنه .
لقد كان سمته ، حتى في شبابه الباكر صلى اله عليه وسلم ، سمت الرجل الوقور العميق التفكير ، ومشاعره مشاعر " الإنسان " .
ولقد كانت الجاهلية تعج بالمفاسد واللهو وتفاهة الفراغ ، وإن لم تخلُ من رجال هنا وهناك لهم هيبة ووقار وجد . ولكن هذا الأمر كله كان نادراً شديد الندرة بين الشباب . والشاب الذي لا يلهو في الجاهلية يكون عجيباً ! فإذا أضاف إلى جده ووقاره أنه لا يغشى مجالس الشراب التي يغشاها حتى الشيوخ من ذوي الوقار ! ولا يقارف شهوات الجاهلية وإن كانت مباحة لا حجر عليها ولا إنكار من أحد ! ولا يذهب إلى تلك الأصنام المنصوبة إلى جوار الكعبة ، وإن كانت موضع العبادة والتقديس من الجميع ! ويتعفف عن الظلم في تلك الجاهلية التي يقول شاعرها :
ومن لم يَذُدْ عن حوضه بسلاحِهِ يُهّدَّمْ ومَنْ لا يَظلم الناس يُظلمِ !
إذا أضاف ذلك وغيره من الصفات الكريمة النادرة إلى الوقار والجد في سن الشباب ، فلا شك أنه يلفت نظر كل من حوله ، لأن أحداً من الشيوخ أنفسهم لا يتوافر فيه ذلك فضلاً عن الشباب .
ثم إن صفةً من صفاته صلى الله عليه وسلم كانت من البروز والعمق حتى إنها لفتت نظر قريش كلها ، تلك هي لأمانة ، حتى لقبوه بالأمين ، وكان الناس يودعون لديه أماناتهم(1/310)
لشدة اطمئنانهم وثقتهم في أمانته . كما بدا صدقه وأمانته حين عمل بالتجارة مع عمه أبي طالب ، بينما التجارة في الجاهلية لا تخلوا من الجشع ولا تخلو من الخداع !
ولقد كان صمته في مجالس قريش ، مع حكمته ورجاحة عقلة حين يتكلم ، مثار إعجاب قريش كلها وموضع تقديرها واحترامها ، حتى كانوا يستشيرونه في أمورهم كما يُستشار الشيخ المحنك ، ويرضون بحكومته فيما يحتكمون إليه من أمور .
ولعل أشهر ما كان من ذلك هو تحاكُمُ قريش إليه في أمر الحجر الأسود . فقد رأت قريش أن تعيد بناء الكعبة لما أصابها من تهدم في بعض أحجارها ، وأن ترفعها ضعف ما كانت عليه من ارتفاع ، واتفق رأيهم جميعاً على ذلك وعملوا فيه متعاونين حتى جاء دور وضع الحجر الأسود في مكانه ، وهنا برز التنافس بين قبائل قريش كلٌّ تريد أن يكون لها وحدها ذلك الشرف ! وظلوا في جدلهم أربعة أيام متوالية لا يتفقون على شيء ، والمنافسة تتزايد وتحمى حتى كادوا يقتتلون فيما بينهم ! وأخيراً اتفقوا على أن يأخذوا برأي أول قادم عليهم ! وكان أول قادم - بقَدَرٍ من الله - هو الأمين .. فاستبشرت قريش كلها وارتضوا حكومة الأمين بينهم ، اطمئناناً إلى أن لديه الحل الذي يحسم النزاع ويزيل الخلاف ! وقد كان ! نزع رداءه ، وقال : ليمسك رجل من كل قبيلة من قريش بطرف الرداء ، ففعلوا فقام إلى الحجر الأسود فوضعه بيديه فوق الرداء ، وقال : احملوه إلى المكان الذي سيوضع فيه حتى إذا فعلوا ذلك مشتركين ومتعاونين أخذ الحجر الأسود بيديه الكريمتين فوضعه في مكانه من الكعبة . وبذلك اشتركت قريش كلها على قدم المساواة في شرف رفع الحجر الأسود ، ثم اختص الأمين - برضاهم - بشرف وضعه في مكانه . وعاد الكل راضين مستروحين لقضاء الصادق الأمين . (1) 0
وفي وصف خديجة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم حين أخذت تطمئنه وهو يرتجف من شدة المفاجأة حين نزل الوحي عليه أول مرة ما يعطي صورة عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم وانعكاسها في نفوس الناس ، فعن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كَانَ
__________
(1) - انظر سيرة ابن هشام - (1 / 197) والسيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (1 / 87) وتفسير ابن كثير - دار طيبة - (1 / 438)(1/311)
أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - قَالَ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهْوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَنَا بِقَارِئٍ » . قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِى . فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيِةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجُهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى . فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِى . فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) » . الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ ( عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ « أَىْ خَدِيجَةُ مَا لِى ، لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ . قَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ .... " (1) 0
وكان صلى الله عليه وسلم يُكثر - في صمته - من التفكير والتأمل ، وعُرِفَ عنه أنه كان يتحنَّث شهراً كلَّ سنة في غار حراء ، في عزلة عن الناس ، يتعبد على دين إبراهيم ، بعيداً عما أصاب هذا الدينَ من تشويه وتحريف على يد الجاهلية الوثنية السائدة ..
لقد كان الله يُعدُّهُ لذلك الأمر الخطير ... أمر الرسالة الموجَّهة إلى كل البشرية ..
(5) -السيرة المحمدية هى السيرة القطعية فى التاريخ
من قَدَرِ الله بالنسبة للإسلام أن تبقى أصوله كاملة ومن غير تحريف ، لأنه الدِّين الباقي إلى أن تقوم الساعة ، والذي قدَّر سبحانه وتعالى أن يحفظه ويُظهره على الدين كله : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) [ الصف : 9 ] .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4953 ) وصحيح مسلم- المكنز - (422 )(1/312)
وكما حفظ الله القرآن الكريم بقدرته حيث قال جلََّت قدرته : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] .
فقد حفظ كذلك السُّنة المطهرة وحفظ السيرَةَ النبوية الكريمة فلم تضع كما ضاعت سِيَرُ كثيرٍ من الأنبياء من قبل ، ولم تدخل عليها التشويهات والتحريفات التي دخلت على سِيَر أنبياء بني إسرائيل من موسى إلى عيسى عليهما السلام فيما يُسَمَّى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ( المقابلين للتوراة والإنجيل ) .
إن من يقرأ العهد القديم بصفة خاصة يتقزز من بشاعة ما ألصق بالأنبياء - في سِيرهم المزيفة - من تهم فاحشة لا تليق بشخص عادي ، فضلاً عن نبي مرسل . فما من جريمة في الأرض - على بشاعتها - إلا ألصقت زوراً وبهتاناً بأولئك الأنبياء ، من قتل ، وسرقة ، وغصب ، ونهب ، وغش ، وكذب ، وفسق خلقي !! وهذا كله مكتوب بأيدي المؤمنين بأولئك الرسل ! وصدق الله العظيم : ( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ البقرة : 93 ] .
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) [ البقرة : 79 ] .
لقد حرَّفوا سير أنبيائهم لا عن جهل ، ولكن ليبرروا لأنفسهم شناعة سلوكهم في الأرض ! فإذا كان أنبياؤهم يصنعون ما ينسبونه إليهم من أفاعيل ، ألا يكونون هم في حل مما يفعلون ؟!
فأما الأناجيل في تزويرها لسيرة عيسى عليه السلام فلا تقلّ نكراً وإن كان على صورة أخرى ! وأيّ شيء أشد نكراً من تأليه عيسى وادِّعاء بنوته لله ؟! ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ) [ مريم : 88 - 91 ] .
ذلك ما أصاب سِير الأنبياء من قبل من نسيان أو تحريف ، فأما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صانها الله عن العبث وعن النسيان ، ووكلها - بقدر منه - إلى أمة ذات قدرة غير عادية على حفظ الروايات والنصوص ، ومن ثَمَّ بقيت محفوظة على مدار(1/313)
التاريخ . وبذلك فهي السيرة القطعية في التاريخ كله التي يمكن الوثوق بوقائعها وأحداثها ونسبتها إلى صاحبها صلى الله عليه وسلم . ومن خلال هذه السيرة - ومن خلال القرآن كذلك - حفظت اللمحات الصادقة من سِير الأنبياء من قبل ، فلا حقَّ يوثق به من سير أولئك الأنبياء إلا ما ورد في القرآن أو الحديث . وفضلاً عن ذلك فإننا نستطيع أن نقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم سِير الأنبياء جميعاً ، فقد تجمّع في حياته صلى الله عليه وسلم ما تفرق في حياة الأنبياء من قبل !
(6) - شخصية جامعة
إن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي أعظم شخصية في تاريخ البشرية كله ، لا بالنسبة للعظماء من البشر فقط ، بل بالنسبة للأنبياء والرسل كذلك ، بما فيهم الرسل أولو العزم .
فإذا قسنا بمقاييس العظماء من البشر ، فإننا إذا وجدنا قائداً سياسياً في أمة نذر نفسه للقيادة السياسية وانقطع لها ، فوجد أمته في شتات ، لا يربط بينها رباط ، ولا تجتمع على كلمة ولا هدف ، فاستطاع من خلال قيادته الحكيمة ، وتأثير شخصيته أن يجمع الأمة من شتاتها ، ويوجد لها الرباط الذي يجعل منها أمة متماسكة ، ووحّد كلمتها ، ورسمَ لها هدفاً تتجمع حوله فتنسى خلافاتها وتتآلف قلوبها .. ثم برز إلى المعترك الدولي بهذه الأمة بعد توحيدها ، فأحلها مكاناً مرموقاً بين دول العالم وشعوبه ، وجعل لها احتراماً وتقديراً بينهم .. فبماذا نسمي ذلك القائد السياسي في لغتنا ، وكيف نصفه ؟ ألا نقول : إنه رجل عظيم ؟ وهو قد انقطع لهذه المهمة وحدها دون سواها ؟
فكيف إذا كان هذا جانباً واحداً من جوانب متعددة تشملها شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وكيف إذا كان وهو لم ينقطع لهذه المهمة وحدها ، قد بذّ فيها أيّ سياسيّ في التاريخ ممن تخصصوا في القيادة السياسية فحسب ؟(1/314)
وإذا وجدنا مصلحاً اجتماعياً وجد المظالم والانحرافات الاجتماعية متفشية في مجتمعه ، الأنانية هي رائد الأفراد ، والأثرة هي رائد الجماعات . القويّ يظلم الضعيف ، والغني يأكل الفقير ، والمجتمع أفراد وجماعات متفرقة ، تتناحر فيما بينها على السلطة أو المال أو الجاه ؛ نهازون للفرص كلهم ، لا يرعى أحدهم لأخيه حقاً ولا يرقب فيه إلاّ ولا ذمة .. فنذر نفسه لإقامة العدل الاجتماعي وإزالة الانحرافات من مجتمعه ، وأوجد التوازن المنشود بين الفرد والمجتمع ، وبين الحاكم والمحكوم ، وجعل أغنياء الأمة يتعاطفون مع فقرائها ويشركونهم في جانب من أموالهم ، فيعيش المجتمع كله كأنه أسرة واحدة كبيرة ، متكافلة متعاونة متحابة . فكيف نسمي ذلك المصلح في لغتنا ، وكيف نصفه ؟ ألا نقول : إنه رجل عظيم ؟!
فكيف إذا كان هذا جانباً واحداً من جوانب شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته ، وكيف إذا كان في هذا الجانب قد بذّ المتخصصين ، الذين انقطعوا لهذا الجانب وحده وتخصصوا فيه ؟!
وإذا وجدنا مصلحاً أخلاقياً ، رأى الفساد الخلقي منتشراً في مجتمعه : الكذب والنفاق ، والغش والخيانة ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والخمر ، والزنا ، والميسر ، والسلب ، والنهب ، والغصب .. لا يأمن أحدهم على نفسه حتى يكون سلاحه في يده ، ولا يأخذ حقه إلا بقوة عضلاته ، فإذا كان صاحب الحق ضعيفاً أُكل كما تأكل الذئاب الفريسة ، فإن كان يتيماً أو امرأة فلا يتحرك لنجدته ضمير .. رأى ذلك فنذر نفسه لإصلاح الأخلاق في مجتمعه ، فاستطاع بصبره وجهاده أن يضع لأمته دستوراً أخلاقياً تتعامل به فيما بينها ، يرعاه القويّ والضيف ، فقلّ الكذب أو انتهى ، وقضى على الخمر والزنا والميسر ، وصار صاحب الحق آمناً على حقه ولو كان ضعيفاً أو يتيماً أو امرأة ، وصار وازع الضمير هو الذي يحكم العلاقات بين الناس .. ألا نقول لمن توصَّل إلى ذلك : إنَّه رجل عظيم .. ؟(1/315)
فكيف إذا كان هذا جانباً واحداً من جوانب تلك الشخصية الفذة ، وكان أثر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أكبر من أثر أي مصلح في التاريخ نذر نفسه لهذه المهمة فحسب ؟
وإذا وجدنا مربياً نذر نفسه للتربية ، فاستطاع أن يُخرج جيلاً من الأفذاذ ، كل واحد منهم قائد في ميدانه ، وقدوة في سلوكه وأخلاقه ، ومتانة شخصيته وتماسكها بحيث لا تلعب بها الأهواء ولا تهزها الأعاصير .. ثابت كالطود ، ذو شخصية إيجابية وفعّالة في عالم الواقع ، يتحرك فيحرك الجموع من حوله .. كيف نسميه ؟ ألا يستحق منا - بجدارة - أن نقول : إنه مربٍّ عظيم ؟!
وإذا وجدنا قائداً عسكرياً انقطع لمهمته فحسب ، فربى جيشاً من الأبطال جنوداً وقادة ، فعوّدهم الصبر على المكاره ، والثبات عند الشدة ، والإقدام عند الخطر ، وخاض بهم المعارك فانتصر بهم حتى عوّدهم النصر ، يحبون قائدهم ، ويأتمرون بأمره ، ويطيعون تعليماته ، بل يتسابقون إلى مكان الخطر ، يطلبون الشهادة ويسعون إليها سعياً ، فتكتب لهم إحدى الحُسْنَيَيْن : الشهادة أو النصر .. ألا نقول : إنه قائد عظيم ؟
فإذا كان هذ القائد العسكري قد وضع نصب عينيه وهو يربي جيشه ألاّ يكونوا أبطال قتال فحسب ، بل يكونوا كذلك مُثُلاً أخلاقية حتى وهم يقاتلون ، لا ينسيهم هولُ الحرب أخلاقهم ، ولا تُخرجهم المكاره عن طورهم ، بل يلتزمون بالأخلاق في المعمعة وبعد المعمعة ، في تعاملهم مع أعدائهم وأصدقائهم على السواء ؟ ألا نقول مرة أخرى : إنه قائد عظيم ؟
ثم إذا كان هذا القائد قد ربّى جنوده لا على الأخلاق الفردية فحسب ، بل على أن لهم مَثَلاً أعلى وقيَماً يقاتلون في سبيلها . فهم لا يقاتلون من أجل الغلبة فحسب ، ولا من أجل توسيع الرقعة وتشييد السلطة ، إنما يقاتلون لمثل أعلى يحرصون عليه أشد من(1/316)
حرصهم على نتيجة المعركة ذاتها ، ويتحرونه في كل خطوة ، ويقيسون إليه كل حركة .. فهل يكفي أن نقول فقط : إنه قائد عظيم ؟!
فكيف إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بذَّ في هذا الجانب أيّ قائد عسكري في تاريخ البشرية ، وهو جانب واحد من جوانب متعددة في شخصه الكبير ؟!
ولو أن إنساناً نذر نفسه للعبادة ، حتى شفّت روحه وصَفَتْ ، لا ينسى ربَّهُ لحظةً ، ولا ينقطع ما بينه وبينه ، بل هو موصول القلب بالله أبداً ، في صلاته وفي عمله ، فيما بينه وبين نفسه ، وفيما بينه وبين الناس ، فإذا هو مع الناس لطيف ودود ، وإذا هو في عمله متقن مخلص ، وإذا تقوى الله وخشيته تسيطر على تصرفاته كلها وتحكمها .
ثم لو أن هذا الإنسان قد استطاع أن يجمع حوله جماعة من العبّاد ، يربيهم على عمق الصلة بالله ، وعلى الذكر الموصول لله ، فإذا هم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، وإذا الإيمان بالله هو المحرك لأعمالهم وأفكارهم ومشاعرهم ، وإذا تقوى الله هي المقدمة في حسّهم على كل متاع الأرض وكل مغريات الأرض .. ألا نقول عنه : إنه روح عظيمة في ذات نفسه ، وإنسان عظيم بالنظر إلى ثمار غرسه من الصحاب ؟
هذه وغيرها جوانب من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، بذَّ في كل جانب منها مَنْ تخصصوا لها ووهبوا أنفسهم لها على حدتها .. فكيف نسمي من جمع في شخصه الكريم هذه الشخوص كلها ، وكل واحد من بينها عظيم ؟!
على أن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكمن في اجتماع هذه الشخوص المتعددة في شخصه الكريم فحسب .. بل هناك درجة أعلى من العظمة ، هي أن هذه الجوانب كلها لم يشغله واحد فيها عن الآخر ! فعمل القائد السياسي لم يشغله عن عمل القائد الحربي ، ولا عن عمل المصلح الاجتماعي ، ولا المصلح الأخلاقي ، ولا عن عمل المربي ، ولا عن عمل العابد .. بل لم يشغله ذلك كله عن أسرته وزوجاته وبناته ، فكان نعم الزوج ، ونعم الأب ، ولو أن إنساناً تفرغ فقط لمطالب أسرة في حجم أسرة الرسول(1/317)
صلى الله عليه وسلم فعدل فيها عدله وأعطاها ما أعطى الرسول أسرته من الرعاية والحب ، ألا نقول : إنه إنسان عظيم ! فكيف إذا كانت هذه الأمور كلها لا يلهيه جانب منها عن الجوانب الأخرى ، وهي تنوء بالمختصين فيها ، المنقطعين عن الجوانب الأخرى ؟
فعَنْ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » (1) .
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » (2) .. 0
ومع هذه العبادة التي يعجز عنها المنقطعون لها وحدها ، فهل طغى هذا التعبد على مهامه الأخرى صلى الله عليه وسلم ، فلم يعط القيادة السياسية حقها ، أو التربية الخلقية ، أو تربية المقاتلين في سبيل الله ، أو تربية أولئك الأفذاذ الذين كانوا قادة التاريخ في كل ميدان ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وعكرمة ، وأسماء وسميّة .. ومئات غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم ؟!
كلا ! وإنها لعظمات بعضها فوق بعض ، تجتمع كلها في شخصه الكريم ..
فإذا قسنا هذه الشخصية الفذة بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، فنحن على ذات المستوى من العظمات .
إن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته وسيرته قد جمعت ما تفرق في الأنبياء الآخرين مما تميزوا به .
فإذا كانت حياة نوح عليه السلام قد تميزت بطول صبره على صد قومه مع عدم الانقطاع عن دعوتهم ، وإذا كانت حياة إبراهيم عليه السلام قد تميزت بحلمه وأناته ، والرفق في توصيل الحق إليهم ، مع الامتثال الكامل لأمر الله والإسراع إلى طاعته ، وإذا كانت حياة موسى عليه السلام قد تميزت بالقيادة الحكيمة التي ارتبط بها بنو إسرائيل حتى خرجوا من
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1130 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7304 )(1/318)
الاستضعاف والذل إلى الحرية والكرامة ، وتكونت منهم أمة تحكم بشريعة الله ، وإذا كانت حياة عيسى عليه السلام قد تميزت بجانبها الروحاني الشفيف اللطيف ، في مواجهة المادية الطاغية التي كانت تسود وجه الأرض ، وتربية مجموعة من التلاميذ ( هم الحواريون ) على درجة عالية من الخلق والروحانية والطاعة لتعاليم رسولهم .. فإن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قد استوعبت ذلك كله في طياتها ، وكان أثره في كل جانب من هذه الجوانب أعظم من كل من سبقوه من الرسل الكرام . وذلك كله من فضل الله عليه وهو يعده للرسالة الخاتمة : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) [ الصف : 9 ] .
( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) [ النساء : 113 ] .
(7) - مدرسة التربية (1)
السيرة النبوية هي المدرسة التربوية للجيل الصالح : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) [ الأحزاب : 21 ] .
لقد حوت هذه السيرة كل ما يكفل إنشاء " الإنسان الصالح " الذي يدعو إليه الإسلام وتقتضيه الخلافة الراشدة في الأرض .0
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ: يَرْضَى لِرِضَاهُ، وَيَسْخَطُ لِسَخَطِهِ " (2) عبارة مختصرة جامعة . معناها أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الترجمان الحيّ لكل ما ورد في القرآن من توجيهات وأوامر ونواهٍ وقيم ومبادئ وأخلاقيات .
__________
(1) - انظر كتاب حياة الصحابة
(2) - شرح مشكل الآثار - (11 / 265) (4434 ) صحيح لغيره
وَهَذَا أَيْضًا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ النَّاسُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ وَمِنْ مَا دَعَا اللهُ النَّاسَ فِيهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ .(1/319)
فإذا كان القرآن هو كتاب التربية المنزَّل من السماء ، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو النموذج الكامل لهذه التربية الربانية بجميع حذافيرها ، ومن ثم فإن سيرته صلى الله عليه وسلم تشتمل على كل العناصر المطلوبة لتربية المسلمين .
وفي أيّ جانب من جوانب التربية بحث الإنسان ، فسيجد في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تعاليمه وتوجيهاته ومواقفه العملية كل ما يحتاج إلى معرفته في ذلك الجانب .
الصدق ، الأمانة ، التقوى ، نظافة الظاهر والباطن ، عمق الإيمان بالله ، الإسراع لتلبية داعي الله ، الشجاعة ، الصبر ، الحكمة ، الزهد ، لباقة القول ، حسن التصرف ، لطف المعشر ، لين الحب وحزم الجد ... الاتزان والتوسط في كل أمر .
وإن علينا لواجبين اثنين إذا رغبنا في تكوين جيل صالح من المسلمين :
1- التعرف على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودراستها دراسة المتدبر الواعي لمحتوياتها .
2- محاولة التنفيذ العملي لتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ، المتمثلة في سنته القولية وسنته العملية .
إن هذين العنصرين - إذا أخذناهما بجد - يحققان لنا ما نصبوا إليه من تكوين جيل رائد يزيل عن الإسلام غربته الثانية التي نعيشها اليوم (1) ،ويعيد للأمة الإسلامية أمجادها 0
ولن نحتاج يومئذ إلى التطلع في شرق الأرض وغربها للبحث عن مناهج للتربية أو شخصيات للقدوة ..
إن كل مناهج التربية البشرية ناقصة ومنحرفة إلى جانب منهج التربية الإسلامية . وكل الشخصيات أقزام إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فما الذي يدعونا إلى مد
__________
(1) - ففي صحيح مسلم- المكنز - (389 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ».
ونحن اليوم نعيش هذه الغربة الثانية التى تحدث عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلينا إزالتها كما أزال الجيل الأول منت المسلمين غربته الأولى 0(1/320)
أيدينا بالطلب ونحن نملك الكنوز ؟ وما الذي يدفعنا إلى الاقتداء بالأقزام ونحن نملك المثل الرفيع ؟
فلنعد إلى هذه السيرة العظيمة ، ولنحاول أن نقبس قبسات من الرسول صلى الله عليه والسلام ، تنير قلوبنا وتحفزنا إلى معالي الأمور (1)
=================
(7) - خصائص الرسالة المحمدية
الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة ، وبها كمل الدين وتمت النعمة الربانية على البشرية . قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : 3 ] .
وتتميز الرسالة المحمدية عن الرسالات السابقة كلها بجملة خصائص :
1- ختمها للرسالات السابقة ونسخها لها :
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) [ الأحزاب : 40 ] .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ » . (2) 0
ورسَالته هي الرسالة الخاتمة الناسخة لما قبلها : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) [ المائدة : 48 ] .
فهو مصدق لها في العقيدة . فالكتب كلها تقول : إنه لا إله إلا الله وحده بلا شريك ، والقرآن يقول نفس الشيء . والكتب كلها تقول : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )
__________
(1) - من أفضل كتب السيرة الحديثة السيرة النبوية صورة مقتبسة من القرآن لدروزة ، ومن أدقها السيرة النبوية للصلابي ، ثم كتابي السيرة النبوية دروس وعبر ومن أوسعها السيرة الشامية ، وزاد المعاد لابن القيم نفيس في فقه السيرة .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3535 ) وصحيح مسلم- المكنز - ( 6100)(1/321)
والقرآن يدعو نفس الدعوة . ولكن القرآن مهيمن على ما بين يديه من الكتب في شأن التشريع ، فهو يحمل الكلمة الأخيرة المنزلة من عند الله ، وشرعه هو الشرع الواجب الطاعة ، ومن ثم فهو ينسخ كل ما أتى قبله مخالفاً له .
وعلى هذا المعنى تفهم أيضاً هذه الآية : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) [ المائدة : 68 ] .
فهم مطالبون بإقامة التوراة والإنجيل في أمر عبادة الله الواحد بلا شريك ( رداً على قول اليهود : عُزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله ) . وفي أمر الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل باسمه وصفته ومكان بعثته ومكان هجرته . ثم هم مطالبون بإقامة ما أنزل إليهم من ربهم - أي القرآن - عقيدةً وشريعة . وإلا فهم ليسوا على شيء كما تصفهم الآية ، أي ليسوا على دين صحيح يقبله الله منهم .
2- دعوتها إلى الإيمان بما جاء به الأنبياء من قبل :
( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ البقرة : 136 ] .
والرسالة المحمدية هي الرسالة الوحيدة التي يؤمن أتباعها بالرسل جميعاً وبما أنزل إليهم ! فقد كفر اليهود بعيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا بعيسى ، ولكن لا على أنه رسول بل على أنه إله وابن الله ! أما المسلمون فهم وحدهم الذين يؤمنون بالرسل جميعاً من لدن آدم ونوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم . ويصف الله المتقين الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحوا مسلمين بأنهم : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) [ البقرة : 3 ، 4 ] .
وتلك مزية اختص الله بها هذه الرسالة وأتباعها . فقد قدَّر الله لهذه الأمة أن تسود في الأرض : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا(1/322)
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) [ النور : 55 ] .
وعلم الله سبحانه وتعالى أن هذه الأمة ستواجه شعوب البشرية كلها ودياناتها جميعاً ، وأنه سيدخل في ذمتها يهود ونصارى . ويريد الله أن تكون هذه الأمة قائدة ورائدة : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) [ البقرة : 143 ] .
وأن تكون قَوَّامَةً بالقسط ، لا في داخل نفسها فقط ، ولكن بين البشرية كلها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) [ النساء : 135 ] .
لذلك فقد أعدَّها الله سبحانه وتعالى لحمل الحق ونشره بين الناس . ومن بين هذا الإعداد أن تؤمن بما أنزل على الأنبياء السابقين لأنه حق منزَّل من عند الله ، ولكيلا يكون في صدرها حرج ولا حقد على أمة من الأمم بسبب نبيّ تلك الأمة أو كتابها ! فقد حقدَ اليهود على النصارى بسبب عيسى عليه السلام وبسبب تنزيل الإنجيل الناسخ ( في بعض أحكامه ) لكتابهم ، كما حقدوا على المسلمين - ومعهم النصارى - بسبب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الناسخ لما سبق من الرسالات جميعاً . أما المسلمون فلا يحقدون على أحد وليس في صدورهم حرج من شيء ، فهم يؤمنون بالرسل جميعاً والرسالات جميعاً بغير تفريق .
من أجل ذلك عاش اليهود والنصارى في ظل الحكم الإسلامي مكرّمين آمنين لا يقع عليهم اضطهاد ولا ظلم ، بينما المسلمون الذين يقعون تحت حكم اليهود أو النصارى يقع عليهم كل أنواع الظم والاضطهاد : تؤخذ أموالهم وأرضهم ويذلون ويهانون ويبادون بالألوف ومئات الألوف !
ولذلك لا تصلح الأمة اليهودية ولا الأمة النصرانية لقيادة البشرية ، لأنّ كلتيهما لا تستطيع التخلص مما في نفسها من الأحقاد ، أما الأمة الإسلامية فهي التي تصلح وحدها لقيادة البشرية ( وقد قادتها بالفعل مرة من قبل لعدة قرون ) لأنها هي الوحيدة التي تحكم في الأرض بغير أحقاد ، بذلك الإعداد الرباني الذي يؤهلها للقيادة : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ(1/323)
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] . والذي يشمل فيما يشمل الإيمان بالرسل السابقين كلهم ورسالاتهم بلا تفريق وبغير أحقاد !
3- عالمية الرسالة :
قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِى ، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ ، وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ » (1) 0
ويقول القرآن الكريم : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء : 107 ] .
( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) [ القلم : 52 ] .
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) [ سبأ : 28 ] .
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [ الأعراف : 158 ] .
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [ المائدة : 15 ] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى الناس كافةً بما فيهم أهل الكتاب . ومن ثم فالدعوة التي يحملها هي دعوة للناس كافةً . وقد قدَّر الله أن يرسل رسلاً متفرقين ومتتابعين في كل أمة على حدة : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) [ فاطر : 24 ] .0
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [ النحل : 36 ] .
( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ) [ المؤمنون : 44 ] .
ثم قدر أن تكون رسالته الأخيرة إلى الناس كافة ، وباقية إلى يوم القيامة .
ونستطيع أن نتدبر شيئاً من حكمة الله في ذلك . فقد كانت الأمم من قبل تعيش في عزلة بعضها عن بعض ، كما كانت - في طفولتها - تعيش بما يشبه مشاعر القومية ، أي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (438 )(1/324)
تعيش في داخل حدود " القوم " الذين تنتسب إليهم . فكان الله يرسل إليهم يومئذ رسلاً محليين ، كل منهم يدعو في داخل منطقة من الأرض محدودة ، ويدعو قومه خاصة فيقول لهم : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) .
ويعلم الله سبحانه وتعالى في سابق علمه أن البشرية ستنضج ذات يوم وتصل إلى مرحلة الرشد ، وأن فوارق المكان والزمان ستضيق وتتذاوب ، فعندئذ يرسل إليها رسولاً واحداً - هو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم - فيبلغ الرسالة إلى آفاق الأرض ، ويحملها أتباعه من بعده إلى كل أطراف المعمورة ، بحيث لا يبقى صقع من أصقاع الأرض لا تصل إليه .
ومن ناحية أخرى فقد علم الله سبحانه وتعالى من خلقه - وهم في طفولتهم - أنهم يحتاجون إلى معجزة حسية حتى يؤمنوا بصدق الرسول الذي أرسل إليهم .
ومن طبيعة المعجزة الحسية أن تكون محصورة في نطاق ضيق ، هو نطاق المشاهدين الذين يستطيعون أن يروها بأنفسهم أو يسمعوا من قريب عن حدوثها ، لذلك كان طبيعياً أن يعرض الرسول معجزته على " قومه " خاصة لأنهم هم القريبون منه الذين يتسنى لهم رؤية المعجزة أو السماع عنها .
ثم يعلم الله سبحانه وتعالى أن البشرية ستنضج ذات يوم فلا تصر على المعجزة الحسية ، المحدودة النطاق بطبيعتها ، وإنما يتيسر لهم أن يؤمنوا بمعجزة من نوع آخر ، غير محدود النطاق (1) ، فيرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ بها العالمين .
والله هو الأعلم بخلقه ، وبما يصلح لهم في كل حين من الزمان : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [ الملك : 14 ] .
4- شمولها لمطالب الحياة البشرية فى جميع الميادين :
كما كانت الرسالات السابقة محدودة في المكان فقد كانت كذلك محدودة فيما تشمله من نواحي الحياة البشرية .
__________
(1) سنتكلم فيما يلى عن المعجزة عامة والمعجزة القرآنية خاصة 0(1/325)
لقد جاءت كلها شاملة للقضية الكبرى التي لا تستقيم حياة البشر من غيرها في الدنيا ولا في الآخرة ، تلك هي قضية الألوهية : لا إله إلا الله ، اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . ثم جاءت - إلى جانب ذلك - بإرشادات وتشريعات تناسب حالة القوم الذين بعث الرسول إليهم ، وتصلح المفاسد الموجودة لديهم ، كما بعث شعيب يقول : ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) [ الشعراء : 181 - 183 ] . وبعث لوط يقول : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) [ الشعراء : 165 ، 166 ] .
ثم جاءت التوراة شاملة لكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، ولكنها محدودة بقوم معينين ، هم بنو إسرائيل ، وزمن معين مقدر في علم الله ، لذلك تعد تشريعاً خاصاً بهم ، يلائم أحوالهم الخاصة ، ويراعي تقسيماتهم السبطية ( نسبة إلى الأسباط الاثني عشر وهم أولاد يعقوب عليه السلام ) ويكلف كل سبط منهم بمهمة معينة في حياة تلك الجماعة المحدودة المحصورة .
وجاء عيسى عليه السلام يقول لهم : ( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) [ آل عمران : 50 ] .
فالإنجيل يعتبر مكملاً للتوراة في الواقع وتعديلاً جزئياً لبعض أحكامها ، أو تخفيفاً لبعض العقوبات التي فرضت على بني إسرائيل من جراء ظلمهم .
ثم جاء الوقت الذي يعلم الله أن البشرية قد تهيأت فيه لتلقي رسالة عامة شاملة ، وقدر الله أن تبقى هذه الرسالة في الأرض إلى يوم القيامة ، فأصبح من المناسب لهذه الرسالة - الشاملة للبشرية كلها - أن تكون شاملة كذلك لكل مطالب البشرية في جميع الميادين .
وهذا هو الحق بالنسبة للرسالة المحمدية .(1/326)
إنها تشتمل بادئ ذي بدء - كالرسالات كلها - على القضية الكبرى ، قضية الألوهية ( وسنتكلم عن هذه النقطة بشيء من التفصيل في فقرة تالية ) ؛ لأنها هي المقوّم الأول من مقومات الحياة البشرية ، التي لا يستقيم بدونها أيّ إصلاح في الأرض ، ومن ثم فهي المطلب الأول من مطالب الإنسان الصالح في الحياة الدنيا .
ثم تشتمل بعد ذلك على تشريعات وتوجيهات في كافة شئون الحياة : السياسية (1) والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والروحية والخلقية 000 إلخ 0
ولا يتسع المجال في هذا الكتاب لدراسة مفصلة لتلك الجوانب كلها ، فهي مجال المتخصصين في دراسة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي ، ولكنا نشير فقط فيما يتعلق بدراستنا الحاضرة إلى ثلاثة أمور :
1- أنه لا يوجد جانب من جوانب الحياة البشرية على الإطلاق لم يتعرض له الإسلام بتشريع أو تنظيم ، فهو بصفة عامة ينظم علاقات الإنسان بربه ( وهي العبادة بشتى انواعها وفي مقدمتها الاعتقاد بوحدانية الله والالتزام بطاعته ) ، وعلاقة الإنسان بنفسه ( وهي التزكية التي تشير إليها الآية : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ) [ الشمس : 9 ] . وجميع الأخلاقيات والأعمال اللازمة لهذه التزكية ) ، وعلاقة الإنسان بغيره ( وهذه تشمل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة ، أي : علاقة الفرد بالفرد ، وعلاقة الفرد بالأسرة بما في ذلك علاقات الجنسين ، وعلاقة الفرد بالمجتمع ، وعلاقة الحاكم بالمحكوم ، ثم علاقة المسلمين عامة بغير المسلمين في السلم وفي الحرب . وهي التي يقابلها في الاصطلاحات الشائعة بين الناس اليوم : القانون المدني ، وقانون الأحوال الشخصية ، والقانون الجنائي ، والقانون التجاري ، وقانون الإجراءات ، والقانون الدستوري ، والقانون الدولي .
__________
(1) مما يلاحظ فى التوراة أنها لم تتعرض لأى تنظيمات سياسية على نطاق ((أمة)) إنما ورد فيها تنظيم للعلاقات الداخلية بين أسباط بنى إسرائيل فحسب 0(1/327)
بل إن الإسلام قد عُني كذلك بنواحٍ من الحياة لم يرد ذكرها في أية رسالة سابقة ( ولا أي تنظيم بشري سابق ) كالعناية بالطهارة والنظافة : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) [ المدثر : 4 ] . والزينة ، قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) [ الأعراف : 31 ] . ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) [ النحل : 8 ] ، ولفت النظر إلى الجمال في خلق الله (1) :( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) [ النحل : 6 ] . ( انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ) [ الأنعام : 99 ] . ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) [ النمل : 60 ] .
2- أن الله سبحانه وتعالى - وقد فرض هذه الشريعة إلى أن تقوم الساعة - يعلم أنه ستجدّ للناس في حياتهم أمور ، وأن الحياة لن تبقى على صورتها يوم نزل هذا الدِّين ، لذلك نجد في الشريعة نوعين من التشريعات :
(أ) تشريعات مفصلة تفصيلاً كاملاً ودقيقاً للأمور التي لا ينبغي أن تتغير في حياة البشر لأنها غير متعلقة بما يجدّ في حياة الناس من أمور كشعائر التعبد ، والحدود ، وعلاقات الجنسين ، وعلاقات الأسرة ، وعلاقة المسلمين بغير المسلمين .. إلخ .
(ب) تشريعات مجملة تتناول الأصول العامة دون التفصيلات للأمور التي يعلم الله سبحانه وتعالى أنها تتغير في حياة البشر بتغير ظروفهم وأحوالهم ومدى قيامهم بعمارة الأرض واستغلال الطاقات التي سخرها الله للإنسان : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) [ الجاثية : 13 ] .
وذلك كالنواحي السياسية والاقتصادية التي تتغير صورتها على الدوام من جيل إلى جيل . ولكنها ، رغم تغيرها ، ينبغي أن تلتزم بأصول ثابتة ، فالصورة السياسية مثلاً تتغير .. ومبدأ الشورى لا يجوز أن يتغير . والحكم بين الناس بالعدل لا يجوز أن يتغير . ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجوز أن يتغير ، وكذلك فإن الصورة الاقتصادية تتغير
__________
(1) فى غير ما يأثم الإنسان بالنظر إليه أو تعاطيه 0(1/328)
بتغير ما يستغل من طاقات السماوات والأرض ، ولكنها في تغيرها ونموها المستمر لا ينبغي أن تخرج عن الأصول العامة التي تحكمها ، كتحريم الربا والاحتكار والغصب والسلب والنهب والغش والسرقة في أي صورة من صورها ، كما ينبغي ألا يُكْنَز المال وألا يُسْتَخدم في المعصية ، وأن تؤدى زكاته ، وأن يُنْفَق في سبيل الله .وبذلك تتحقق لهذه الشريعة صفة المرونة في الأمور المتغيرة مع ثبات الأصول العامة التي تحكمها .
3- أن هناك أموراً متروكة لم يرد بشأنها نص، فعَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا ». (1) 0 وهذه تتسع لما يجدّ في حياة الناس من مخترعات ومكتشفات وتنظيمات ، وهي متروكة للاجتهاد بما لا يتعارض مع نص من نصوص الشريعة .
بهذه الصورة المعجزة يتسع الإسلام لكل نمو البشرية منذ نزول هذه الشريعة إلى أن تقوم الساعة . لا يقف في سبيل نموها السليم ، وإنما يقف فقط في طريق انحرافاتها فيقوّمها ، لأن غايته الأصلية هي تقويم حياة البشر على الأرض في جميع العصور ، حتى يكون الإنسان دائماً كما خلقه الله ، وكما أراده أن يكون : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) [ التين : 4 - 6 ] .
فلا يقف الإسلام في سبيل التقدم العلمي والتقدم الحضاري . بل إن الإسلام هو الذي بعث المسلمين لينشئوا حركة علمية ضخمة ، كان من أهم آثارها المنهج التجريبي في البحث العلمي ، الذي تعلمته أوربا على يد المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وجنوب إيطاليا الإسلامي ، والذي قامت عليه نهضتها العلمية الحاضرة . والإسلام هو الذي أنشأ حضارة تاريخية ضخمة أنارت العالم كله وقت أن كانت أوربا تعيش في ظلام القرون الوسطى ، المظلمة بالنسبة إليهم ، المزدهرة بالنسبة للإسلام . وكان
__________
(1) - سنن الدارقطنى- المكنز -4/185 (4445 ) صحيح لغيره(1/329)
أروع ما في هذه الحضارة أنها تعمر الأرض بأقصى ما في طاقة البشر من قدرة على التعمير في جميع الميادين وجميع الاتجاهات ، ولكن دون أن تقطع ما بين الإنسان وخالقه ، كما تصنع الحضارة الجاهلية المعاصرة في الغرب ، ودون أن تقطع ما بين الحياة الدنيا والآخرة ، كما تصنع تلك الجاهلية ، فتدفع الناس دفعاً إلى التكالب المزري على شهوات الأرض ، وعلى تحطيم كل القيم الفاضلة في سبيل ذلك المتاع الرخيص ، وما ينشأ عن ذلك حتماً من فساد الفطر وفساد الأخلاق والصراع الرهيب الذي يهدد الأرض بالدمار !
كلا ! إن الإسلام ينشئ حضارة من نوع آخر ، أثمن وأعلى ، حضارة تعمر الأرض ، ولكنها تعمرها بمقتضى المنهج الرباني ، فلا تحرم الناس من المتاع الطيب ، ولكنها تحافظ على كيانهم الإنساني وهم يتناولون ذلك المتاع ، ولا تهبط بهم إلى مستوى الحيوان : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ الأعراف : 32 ] ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) [ محمد : 12 ]
5- منهجها الفكرى :
تميزت هذه الدعوة كذلك بأن لها منهجاً فكرياً في البحث عن الحق .
إن هذه الدعوة تخاطب الإنسان كله ، وجدانه وفكره على السواء . وكما يستثير القرآن وجدان الإنسان لينفعل بمشاهدة آيات الله في الخلق فيحس بعظمة الخالق وقدرته المعجزة ، فيخضع وجدانه لعظمة الله ويستسلم له ، فكذلك يوقظ القرآن عقل الإنسان ليتدبر ، وليناقش الأمور مناقشة فكرية منطقية هادئة تصل به إلى اليقين .
فبينما يخاطبه ، لإثارة وجدانه ، بمثل هذه الآيات : ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي(1/330)
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ النمل : 59 - 64 ] .
فإنه يخاطبه لإيقاظ عقله بمثل هذه الآيات : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) [ النحل : 17 ] .
( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) [ الأنبياء : 22 ] .
( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) [ المؤمنون : 91 ] .
( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) [ النساء : 82 ] .
( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) [ الطور : 35 ] .
( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) [ الملك : 3 ، 4 ] .
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) [ البقرة : 170 ] .
( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) [ الإسراء : 36 ] .
( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) [ سبأ : 46 ] .
إن هذه الآيات وأمثالها تكوّن في مجموعها منهجاً فكرياً للوصول إلى الحق يمكن تلخيصه في هذه النقاط :
1- ... التخلي عن التقليد الأعمى والموروثات الفاسدة التي لا تقوم على دليل ولا برهان .(1/331)
2- ... عدم اقتفاء أيّ فكرة قبل تمحيصها وعرضها على البرهان والمنطق ، لأن الإنسان مسئول عن تفكيره واعتقاده ، لأن الله أعطاه سمعاً وبصراً وعقلاً ليفكر لنفسه ويتدبر ، ويوم القيامة سيسأل سمعه وبصره وعقله : كيف اقتفى شيئاً دون أن يعرف حقيقته ؟
3- ... التدبر في كل الأمور بالمنطق العقلي ، وعدم اتخاذ المواقف بدافع الهوى لأن الهوى يعمي الإنسان عن الحق .
فإذا اتبع الإنسان هذا المنهج ، فألقى عنه موروثاته التي لا تقوم على دليل ، وكف عن التقليد الأعمى ، ورفض أن يتبع شيئاً يُعرض عليه إلا ببرهان ، ثم راح يفكر بالمنطق بعيداً عن الهوى فإنه لا بد واصل بإذن الله إلى الحق .
وقد تميزت هذه الدعوة بمنهجها الفكري هذا عن سائر الرسالات قبلها ، حيث كانت المعجزات الحسية هي الدليل على صدق الرسول المرسل من عند الله ، وكانت وسيلة الناس إلى التصديق هي مشاهدة المعجزة أو السماع بها .
أما هذه الدعوة التي أراد الله لها أن تبقى حتى يَرِثَ الله الأرض ومن عليها ، فقد جعلها - سبحانه وتعالى - موجهة إلى العقل ، لتخاطب أجيال البشرية كلها منذ نزولها إلى آخر الزمان ، لا عن طريق شيء حسي يراه جيل بعينه ، ولكن عن طريق أداة دائمة في تركيب الإنسان وهي العقل . والعقل مصاحب للإنسان في كل أجياله وفي أي مكان يكون فيه . ومن ثم تخاطبه هذه الرسالة وتدعوه إلى التصديق بها عن طريق هذه الأداة الكامنة في تركيبه ، فلا يجد مفراً - لو أخلص في استخدام عقله - من التسليم بما فيها من حق .
والقرآن لا يطالب الناس بالتسليم الأعمى بشيء على الإطلاق ، بل يطالبهم بالتدبر والتفكر في كل القضايا - حتى قضية الألوهية الواجبة التسليم - لكي يسلِّموا عن اقتناع ، فيبقى التسليم راسخاً لا يهتز ولا يتقلقل .
قضية الألوهية ، قضية الرسالة ، قضية الوحي ، قضية البعث - وهي كلها من أركان الإيمان الأساسية - لم يطلب القرآن التسليم بها بلا دليل ! إنما قال للناس : فكروا وتدبروا ثم اسألوا أنفسكم بعد التفكر والتدبر ، أإلهٌ مع الله ؟! أيعجز الله عن إرسال الرسل وتنزيل(1/332)
الوحي وإحياء الموتى ومحاسبتهم ؟! فإذا كان الجواب الذي يصل إليه العقل هو النفي ، فقد وجب الإيمان إذن ووجب التصديق .
وليس معنى ذلك أن العقل البشري يستطيع أن يحيط علماً بكل شيء ، فإن له حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها مهما حاول . ولكن المعنى أن الإسلام قد دعا العقل البشري أن يعمل فيما هو متاح له ، ليصل إلى اليقين في تلك الحقائق الرئيسة الكبرى التي تكوّن أساس الإيمان ، وأن الإسلام قد تفرد بهذا بين الرسالات .
على أن المنهج الفكري الذي تتميز به هذه الدعوة الإسلامية لا ينحصر فيما يتعلق بأمور العقيدة ، بل يمتد فيشمل ميادين أخرى .
فإذا كان القرآن قد طالب العقل البشري بأن يتدبر آيات الله في الكون ليتعرف على الخالق الذي له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير ، فقد طالبه كذلك بالتفكر في تلك الآيات ليتعرف على السنن الربانية التي تحكم سير هذا الكون ، ليتمكن من استخدام ما سخر الله له في هذا الكون من طاقات : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) [ الجاثية : 13 ] .
( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ) [ الإسراء : 12 ] .
( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ ) [ البقرة : 189 ] .
عن أَنَس قالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ ، خَلَقَ الدَّوَاءَ ، فَتَدَاوَوْا.." (1) 0
وإنَّ أمثال هذه التوجيهات في القرآن والسنة التي لا تكتفي بطلب مشاهدة الأشياء بل تلفت النظر إلى عللها ، لهي التي بعثت الأمة الإسلامية تطلب العلم من مصادره التي كانت متاحة يومئذ ، ثم تنشئ من بعد حركتها العلمية الذاتية التي تتلمذت عليها أوربا فأنشأت نهضتها .. وكان أبرز ما فيها منهج المشاهدة والملاحظة والتجريب ، الذي يقوم على أساسه كل التقدم العلمي الحاضر .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 404) (12596) 12624- صحيح(1/333)
كذلك يطلب القرآن من العقل البشري أن يتأمل في حكمة التشريع ( بقدر ما يُتاح له ) حتى إذا طبقه كان تطبيقاً واعياً متفهماً ، فتختتم كثير من آيات الأحكام بمثل هذا التعقيب : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ النور : 61 ] 0
وهذا التوجيه هو الذى أنشأ الفقه الإسلامى، وهو أثمن ما أنتجه العقل المسلم من روائع، وما يزال هذا النتاج حياً وقابلاً للحياة والنمو ما دامت الحياة 0
كما أن الإسلام وجه العقل البشرى إلى تدبر السنن الربانية التى تسير حياة البشر على الأرض: ((ولن تجد لسنة الله تبديلاً))(الفتح : 23)0
((إن الله لار غير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))(الرعد : 11)0
((ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون))(الروم:41)
(( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً))(الإسراء:16)
((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض))(الأعراف:96)0
((فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون))(الأنعام : 44)0
((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة))(الأنفال:25)0
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ». ثُمَّ قَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ « كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ(1/334)
الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا ». (1) 0
والغرض من هذه التوجيهات هي أن يعرف الإنسان أن حياته لا تمضي بلا ضوابط ، وأنه ليس معفىً من نتائج عمله . بل إن كل عمل يعمله الإنسان فرداً أو جماعة له عواقبه سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة ، حسب سنن ربانية لا تتبدَّل ولا تتحول ولا تحابي فرداً ولا جماعة . فمن أجل ذلك عليه أن يتدبر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ، ويتدبر عواقب عمله قبل أن يقدم عليه .
كذلك يطلب الإسلام من العقل البشري أن يتدبر عبرة التاريخ : ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) [ آل عمران : 137 ] .
( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) [ غافر : 21 ] .
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [ الحج : 46 ] .
فالمطلوب إذن هو دراسة التاريخ لا على أنه مجموعة من الحوادث حدثت بغير رابط ولا دلالة ، ولكن على أنه يجري حسب السنن الربانية الثابتة ، وأن هناك رباطاً يربط الأحداث هو قدر الله المقدور ، الذي يسير حسب تلك السنن الثابتة ، فإذا تدبَّر العقل ذلك ووعى عبرة التاريخ ، فإنه قمين ألا يقع فيما وقع فيه السابقون من أخطاء وخطايا ، بل يقوّم خطاه بحيث لا تصطدم مع السنن الربانية ، فيسير آمناً في الحياة الدنيا ، وفي طريق يؤدي به إلى الأمن في الدار الآخرة .
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4338 ) حسن - تأطر : تعطفه عليه وتوجهه إليه(1/335)
وعلى ذلك يمكن تلخيص المجالات التي يطلب الإسلام من العقل البشري أن يتفكر فيها بهذه المجالات الخمسة :
1- التدبر في آيات الله في الكون للتعرف على الخالق والإيمان به والتسليم له .
2- التدبر في آيات الله في الكون للتعرف على السنن التي تسيّر الكون لاستخلاص طاقاته وتسخيرها لعمارة الأرض .
3- التدبر في حكمة التشريع لإحسان تطبيقه على الأحوال المتجددة في حياة الناس .
4- التدبر في السنن الربانية التي تسير حياة الناس في الأرض بمقتضاها لتقويم حياة المجتمع البشري .
5- التدبر في عبر التاريخ والاستفادة منها في تجنب الأخطاء ، والاستقامة على الطريق الصحيح .
وذلك أوسع مجال يمكن للفكر البشري أن يعمل فيه العمل المثمر المفيد .
6- غنى مصادرها التشريعية :
مما تميزت به هذه الدعوة كذلك غنى مصادرها التشريعية . فالرسالات السابقة كلها تجد تشريعاتها محصورة في الكتاب المنزل فحسب . أما هذه الدعوة التي لم تنزل لقوم محدودين ولا لفترة من الزمان محدودة ، وإنما نزلت للبشرية كافة ولأمد من الزمن ممتد إلى قيام الساعة ، فقد خصها الله بسعة في المصادر التشريعية تلائم سعة رقعتها وامتداد زمانها ، فنجد مع الكتاب سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفصل ما أجمله الكتاب وتبين أحكامه تارة ، وتستقل بتقرير الحكم تارة أخرى . فقد فرض الله الصلاة - مثلاً - ولكن أحكام الصلاة بيَّنتها السنة . وكذلك الأمر في الزكاة ، فالسنة هي التي فصلت أحكامها وأنواعها ومقاديرها . واستقلت السنة ببعض الأحكام كحد الردة وحد الخمر وحكم الرجم للزاني المحصن ، وأحكام البيع والشراء .. إلخ .(1/336)
وإلى جانب الكتاب والسنة فباب الاجتهاد مفتوح فيما لم يرد فيه نص ، أو في طريقة تطبيق النص على حالة لم تقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الذي كفل لهذه الشريعة أن تتسع للنمو في حياة البشر ولا تضيق عنه ، وجعل الحياة في ظلها تتحرك وتنمو أبداً ولا تتجمد ، وهو ما لم يكن متاحاً للدعوات السابقة لأن الله قدر لها فترة محدودة من الزمن تنسخ بعدها ، أما هذه الرسالة فلا ناسخ لها ، لذلك وهبها الله القدرة على الامتداد ومواكبة الحياة المتجددة على الأرض .ويعد العلماء مصادر التشريع في الإسلام بهذه الأصول الأربعة :(أ) الكتاب .(ب) السنة .(جـ) الإجماع .(د) والقياس .
7 . موافقتها للفطرة البشرية :
حين نقول : إن هذه الرسالة تميزت بموافقتها للفطرة البشرية فليس معنى هذا أن الرسالات السابقة مخالفة للفطرة أو مجافية لها . فكل الرسالات من عند الله أصلاً ( وإن كان قد أصابها التحريف فيما بعد ) ولكن الرسالات السابقة كما أسلفنا قد روعي فيها أنها جاءت لقوم محدودين ، ولفترة من الزمن محدودة ، لذلك كانت كلها تعالج أموراً محلية وجزئية . أما هذه الرسالة العالمية الممتدة في الزمن فقد جاءت لتعالج أمر الإنسان كله ، بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو لغته أو زمانه أو مكانه .. ومن ثم فهي تتعامل مع الفطرة الإنسانية ذاتها في جميع أحوالها لا مع البيئة ولا الزمان ولا المكان ، فروعي فيها من لدن منزِّلها جلَّت قدرته أن تكون موافقة للفطرة تماماً ومتلبسة بها .
إن الله هو خالق الفطرة البشرية العليم بما يصلحها ، وما يصلح لها . وهو منزِّل هذا الدين . نزّله على علم . وفصّله على قدّ الإنسان : ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) [ الروم : 30 ] .
وكلما مر الزمن ، وتقلبت البشرية في النظم الجاهلية بعيداً عن منهج الله فأصابتها الاضطرابات والانحرافات ، تبين لنا ما كان خافياً علينا من حكمة هذا الدين في موافقته للفطرة البشرية وتقويمه لانحرافاتها .(1/337)
إن في الفطرة البشرية كما خلقها الله مجموعة من الدوافع أودعها الله في الفطرة لتعين الإنسان على القيام بما كلف به من أمر الخلافة في الأرض ، كدافع الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس والتملك وإثبات الذات .. إلخ . ولكن هذه الدوافع مع ضرورتها لعمارة الأرض خطيرة على الكيان البشري إذا تركت بلا ضابط يضبط منطلقها . فعندئذ تتحول إلى شهوات جامحة لا يملك الإنسان نفسه من سلطانها . والنظام الأمثل هو الذي يسمح لهذه الدوافع بالقدر المعقول من الحركة فلا يعطلها ولا يكبتها من أصولها ، وفي الوقت ذاته يضبط منطلقها فلا تتحول إلى شهوات ، فيأخذ الإنسان نصيبه من المتاع الطيب ، وينضبط سلوكه في ذات الوقت في الحدود التي لا تعود عليه بالعطب والدمار .
وذلك بالضبط هو ما صنعه الإسلام .
يتيح للدوافع كلها أن تعمل ، لا يستقذر شيئاً منها ولا يستنكره ، وفي الوقت ذاته يعمل على تهذيب هذه الدوافع والارتفاع بها إلى أقصى ما يملك الإنسان من رفعة في حدود كيانه البشري ، فلا تصبح شهوات جامحة وإنما رغبات منضبطة بالحدود التي رسمها الله - بعلمه وحكمته - وقال عنها : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ) [ البقرة : 187 ] ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ) [ البقرة : 229 ] .
لذلك لا يُقرّ الإسلام الرهبانية ، لأنها تعطل دوافع الفطرة وتكبتها
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قال : جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » (1) 0
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5063 )(1/338)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ، وَاسْمُهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بَذَّةُ الْهَيْئَةِ ، فَسَأَلَتْهَا عَائِشَةُ : مَا شَأْنُكِ ؟ فَقَالَتْ : زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ ، وَيَصُومُ النَّهَارَ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ لَهُ فَلَقِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ، فَقَالَ : يَا عُثْمَانُ ، إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا ، أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ - صلى الله عليه وسلم - ." (1)
كذلك لا يُقرّ الإسلام الانفلات مع الشهوات الجامحة كما تصنع الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة ، فتفسد الفطرة وتفسد الأخلاق ، وتنحط بالإنسان إلى درك الحيوان .
هذا التوازن - الذي رأينا نموذجاً منه في الحديث السابق في أمر الطعام والشراب وراحة الجسد وعلاقة الجنس ، والذي يجعل الإنسان " في أحسن تقويم " - يقيمه الإسلام في جميع مجالات الحياة بلا استثناء .. خذ نموذجاً لذلك الملكية الفردية .
إنَّ الغرب الرأسمالي يسمح للفرد بالتملك في غير حدود وبلا ضوابط فينشأ عن ذلك الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي الموجود في الغرب .
والشيوعية تكبت نزعة التملك فلا تسمح بالملكية الفردية إطلاقاً .. مما أدَّى إلى قتل الحوافز الفردية وتناقص الإنتاج حتى أصبحت روسيا - التي تملك أخصب مزارع القمح في العالم ، في أوكرانيا وروسيا البيضاء - تحتاج إلى استيراد القمح من أمريكا بسبب عجز الإنتاج ! وانتهى الأمر بالشيوعية إلى الانهيار .
والإسلام لا يصنع هذه ولا تلك .
إنه يتمشى مع الفطرة فيبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ ، ليتيح للحوافز الفردية أن تعمل ، ولا يكبتها كما تصنع الشيوعية ، ولكنه يضبط الضوابط التي تمنع الظلم وتمنع الفساد . فيحرم الربا والاحتكار والغصب والسلب والنهب والسرقة والغش كطرق للتملك أو لتنمية المال . ثم يفرض الزكاة التي تحد من التضخم وتشرك الفقراء في جهد الأغنياء . ويوجب الإنفاق في سبيل الله ، ويحرم الكنز ، ويحرم الترف والمخيلة بالمال .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 185) (9) صحيح - زيادة مني(1/339)
وهذه كلها ضوابط تمنع ما يحدث في الغرب الرأسمالي من فساد خلقي وظلم اجتماعي وسياسي واقتصادي .
وهكذا لو تتبعت جميع مجالات الحياة تجد التوافق الكامل بين هذا الدِّين وبين الفطرة البشرية ، كما تجد التوجيهات التي تمنع الانحراف أو تعالجه عند حدوثه ، فتظل الفِطَرُ أقربَ ما تكون إلى السلامة ، والحياة أقرب ما تكون إلى الاستقرار .
8- سماحتها ويسرها :
( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) [ الحج : 78 ] .
( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ البقرة : 185 ] .
( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ) [ النساء : 28 ] .
( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ المائدة : 6 ] .0
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ » (1) 0
إن الله لم ينزل هذا الدِّين أصلاً ليعنت به الناس ! فماذا يفعل الله بإعنات الناس والتشديد عليهم ؟ ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) [ البقرة : 143 ] .
بل إن الله ليس في حاجة إلى عقاب الناس وتعذيبهم في الآخرة كذلك : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) [ النساء : 147 ] .
إنما نزَّل عليهم هذا الدين من أجلهم هم .. من أجل مصلحتهم .. من أجل أن يكونوا " في أحسن تقويم " كما خلقهم . من أجل أن يكونوا مؤهلين للتكريم الذي كرمهم به الله : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) [ الإسراء : 70 ] .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (39 ) 0(1/340)
ثم إنه من رحمته يجعل لهم هذا الدَّين من أجل مصلحتهم ثم يثيبهم - إذا اتبعوه - بجنته ورضوانه مكافأة لهم على العمل الصالح الذي عملوه " وكان الله شاكراً عليماً " .
والإسلام - في معالجته للنفس البشرية ليرتفع بها إلى المقام اللائق بالإنسان - لا يجذب الإنسان جذباً إلى أعلى فيمزق أوصاله ! ولا يفرض عليه المثل الأعلى فرضاً فيعجز عنه ! إنما يأخذخ خطوة خطوة يصعد به نحو القمة حتى تستقيم خطواته ويألف الصعود ، ثم يحبه ، ثم يحرص عليه !
إنما يفرض الإسلام فقط الحد الأدنى الذي تستقيم الحياة بدونه ، ثم يترك البقية للتطوع النبيل دون إكراه ، مع التحبيب المستمر في الصعود : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) [ آل عمران : 14 - 17 ] .
أرأيت كيف يعالج الإسلام النفس البشرية ؟ إن هذه الشهوات محببة إلى الناس كما تقرر الآية ، فهل حرمها الله في ذاتها ؟ كلا ! إنما رسم لها فقط حدوداً تكون حلالاً في داخلها ، حراماً في خارجها . وتلك الحدود هي التي لا تصلح الحياة إلا بها ، فهي إذن مفروضة . ولكن الإسلام يحبب للإنسان أن يتخفف من هذه الشهوات حتى لا تصبح شغله الشاغل ، وحتى لا تشغله عن الجهاد في سبيل الله - وهو ضرورة - أو تصده عن الإيمان بالله فتضيع آخرته : فيقول له بادئ ذي بدء : ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ) خير من الاستغراق مع هذه الشهوات ؟ الجنة بما فيها من نعيم خالد ورضوان . ولمن هذا النعيم ؟ هنا يرسم صورة جميلة شفيفة رائعة جذابة لعباد الله الذين يستحقون ذلك النعيم : إنهم الصابرون والصادقون والقانتون والمنفقون والمستغفرون بالأسحار .. صفات كلها نبيلة وحبيبة إلى النفس . والقرآن يشجع عليها بهذا العرض الرائق الجميل . أرأيت إن شغل(1/341)
الإنسان نفسه بتحصيل هذه الصفات الجميلة ، أيعود يستغرق في الشهوات ؟! كلا ! إنه - من ذات نفسه - سينصرف عنها ، دون إحساس بالقسر ولا بالإعنات ، وما يريد الإسلام منه في الوقت ذاته أن ينصرف عنها انصراف الرهبانية المعنت ، إنما انصراف التخفف والترفع والرضى بالقدر الطيب المعقول ..
ويفرض الإسلام صلوات محدودة في اليوم والليلة ، ولكنه يحبب في النوافل: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » . (1) 0
وكذلك يفرض صيام شهر رمضان ، ولكنه يحبب في صيام النفل .
ويفرض الزكاة بمقادير معينة في المال ، ولكنه يحبب في الإنفاق في سبيل الله .
وهكذا يأخذ بيد الإنسان في رفق يحببه في الصعود حتى يحبه ويستقيم عليه ، فينطبق عليه هذا الوصف : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) [ فصلت : 30 ] .
أما التكاليف المفروضة فهي ذاتها فقد رُوعي فيها أن تكون في حدود الطاقة البشرية : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) [ البقرة : 286 ] .
فإن عجز الإنسان عنها - عجزاً حقيقياً لا ادعاءً ولا فراراً من التكليف ( والله أعلم به ) - فإن الله يخفف عنه بمقدار عجزه ، ويوجهه أن يقول : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) [ البقرة : 286 ] .
ثم إن زلّ فإن الله لا يطرده من رحمته إلا إذا أصرّ ..
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6502 ) ، وانظر شرحه في كتابي (( الخلاصة في شرح حديث الولي ))(1/342)
( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [ البقرة : 37 ] .
( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) [ آل عمران : 135 ، 136 ] .
فأيّ سماحةٍ أكبرُ من ذلك حتى مع المذنبين ؟!
(9) - نماذج لأهم ما جاءت به الرسالة من القيم العليا
1- ترسيخ عقيدة التوحيد :
كل الرسالات جاءت أساساً من أجل إحياء عقيدة التوحيد التي يكون الناس قد انحرفوا عنها إلى الشرك : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [ النحل : 36 ]
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 25 ]
ومع ذلك فإن من يتدبر القرآن يلاحظ على الفور مدى العناية التي أولاها القرآن لهذه القضية الخطيرة ، بطريقة غير مسبوقة في الرسالات السابقة .
إن الله قد قدر بقاء هذه الرسالة وامتدادها إلى آخر الزمان ، وأنزلها كذلك لكل العالمين . لذلك نجد في القرآن مناقشة لكل الشبهات التي يمكن أن تخطر على البال بالنسبة لعقيدة التوحيد ، ومطاردة شديدة ودائبة لهذه الشبهات حتى تنجلي من النفوس ، وتخلص العقيدة صافية من كل غبش على الإطلاق .
حقيقة إنَّ القرآن كان يردّ على شبهات كانت قائمة وقت نزوله ؛ سواء يبن العرب الوثنيين أو بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى . ولكن العناية العظيمة التي بذلت لقضية التوحيد ليست على قدر الرد على تلك الشبهات فحسب ، بل المقصود منها ترسيخ عقيدة التوحيد في النفوس بحيث لا تقتلع بعد ذلك أبداً .(1/343)
وأقوى دليل على أن هذه العناية لم يكن القصد بها مجرد الرد على الشبهات القائمة في نفوس العرب المشركين وأهل الكتاب فحسب ، إن الحديث في التوحيد ، والدعوة إلى ترسيخ الإيمان به ، وتوسيع مساحته في النفس حتى يشمل كل أقطارها ، ظل يتنزل على المؤمنين في المدينة ، حتى بعد ان آمنوا ، وحتى بعد أن قام مجتمع مؤمن يقاتل في سبيل نصرة هذا الدِّين ، ودولة تحرسه من دون المعتدين :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ) [ النساء : 136 ]
فالدعوة هنا - كما هو واضح - ليست للكفَّار ولكن للمؤمنين .. ودعوتهم إلى الإيمان - وهم مؤمنون بالفعل - معناها دعوتهم إلى الحرص على الإيمان وإلى مزيد من الإيمان !
نعم ، لقد جلّى القرآن قضية التوحيد وقضة الشرك بأجلى بيان .. وتتبعها في النفس البشرية بكل دروبها ومنحنياتها ، لكي لا يعشش الشرك في أي ناحية منها ولا يخالط أي عمل أو فكر أو شعور يصدر عن المؤمن أو يخطر في دخيلة نفسه .
لقد بين القرآن - بادئ ذي بدء - قضية على أقصى درجات الأهمية ، وهي أن الشرك ليس محصوراً في تقديم شعائر التعبد لغير الله ، ولكنه يشمل كذلك الحكم بغير ما أنزل الله :
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 3 ]
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) [ النحل : 35 ] .
فعدم اتباع ما أنزل الله - في آية " الأعراف " - صنو لاتباع الأولياء من دون الله ، أي أنه شرك . وآية " النحل " تفصل أعمال الشرك - على لسان المشركين - فإذا هي عبادة غير الله والتحريم ( والتحليل ) بغير إذن من الله ، أي عدم اتباع ما أنزل الله .
وجاء في [ النساء : 65 ] : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) .(1/344)
وفي سورة المائدة يتكرر النص على هذه الصورة :
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ آية : 45 ] .
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ آية : 47 ] .
وفي سورة النور يقرر أن المحك الحقيقي لدعوى الإيمان هو التحاكم إلى شريعة الله ، وإلا فهي دعوى كاذبة : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ الآيات : 47 - 51 ] .
ويظل القرآن يكرر على مسامع الناس - في استفاضة ملحوظة - أن الله وحده هو الخالق لكل ما في هذا الكون ، ومن ثم فهو وحده الذي ينبغي عبادته ، وهو وحده الذي ينبغي أن يُطاع وأن يكون له الحكم في كل أمر من الأمور :
( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) [ الأعراف : 54 ] .
( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [ يوسف : 40 ] .
( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [ الشورى : 21 ] .
وفي معرض هذه القضية يجيء العرض المستفيض لآيات الله في الكون ، الذي يزخر به القرآن الكريم بصورة ملحوظة ، حتى يتعمق في النفس البشرية الإيمان بأن الله هو الخالق وحده ، ومن ثم فهو المعبود وحده بغير شريك .
ثم يتخذ القرآن لترسيخ هذه العقيدة وسائل متعددة منها :
1- التذكير الدائم بنعم الله وأنها من عند الله وحده لا من عند سواه ، حتى يظل الناس موصولي القلب بالله عن طريق نعمه وفضله .(1/345)
2- التذكير الدائم بأن كل ما يصيب الإنسان فهو بقدر من الله ، وأن أحداً لا يملك تغيير قدر الله بأي صورة من الصور .
3- التعريف بالله وصفاته وأسمائه الحسنى . وقد وردت الأسماء الحسنى والصفات كلها في معرض التعريف بالله بصورة تعمّق الإحساس بوحدانية الله وترسخ الإيمان بها في النفوس فهي وسيلة تربوية بعيدة الأثر في تعميق عقيدة التوحيد في النفس .
وبهذه الوسائل وغيرها تعمقت عقيدة التوحيد في نفوس المؤمنين بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية ، وتقرر التوحيد في الأرض عقيدة مسلّمة لا يتطرق إليها الشك ، وإن شابها بين الحين والحين انحرافات تقع من المسلمين ، إلا أن جلاء عقيدة التوحيد في الإسلام هو من القوة والرسوخ بحيث لا يلبث المنحرفون أن يرجعوا عن انحرافهم ويعودوا إلى الأصل الصحيح .
ولم يتقرر هذا الأمر في الأرض بهذه الصورة إلا بعد الإسلام .
فكل ديانات التوحيد من قبل حرفت وشوهت على يد أتباعها حتى ضاع منها عنصر التوحيد وضاعت أصوله المنزّلة من عند الله . وبقي الإسلام وحده قائماً بهذه القضية عبر القرون ، ثابت الأركان ، ينحرف عنه من ينحرف ، ويزيغ عنه من يزيغ ، ولكن أصوله ثابتة لا ينالها التحريف ، ترجع إليها الأجيال جيلاً بعد جيل ، فتفيء إلى التوحيد الصحيح : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) [ آل عمران : 19 ] .
2- إبراز الكرامة الإنسانية :
لا يوجد نظام في الأرض أبرز كرامة الإنسان - بالحق - بمثل ما أبرزها الإسلام . و " الديمقراطية " الغربية ذات دعوى عريضة في أنها هي التي قررت - لأول مرة - حقوق الإنسان . وهي دعوى زائفة من ناحيتين :
الناحية التاريخية أولاً : فالإسلام قد سبق الديمقراطية الغربية في تقرير حقوق الإنسان بعشرة قرون على أقل تقدير .. وكانت أوربا يومها غارقة في ظلام العصور الوسطى ترزح تحت وطأة الإقطاع ، حيث يعيش الناس هملاً لا حقوق لهم ولا كرامة ، يتحكم السيد الإقطاعي - وهو فرد واحد - في مئات وألوف من العبيد ، يقتلهم إذا شاء(1/346)
ويجوّعهم إذا شاء ، ويشغّلهم سخرة في أرضه بلا أجر .. فجاء الإسلام فقرر حرمة الدم والمال والعرض .. وإنسانية الإنسان !
والناحية الواقعية ثانياً : فالإسلام حين قرر حقوق الإنسان ، قررها في عالم الواقع ، وللتنفيذ العملي . أما أوربا فقد قررت حقوق الإنسان في كتب كثيرة ، ودساتير ومواثيق دولية . ولكن أين هي في عالم الواقع ؟ أين هي في الاستعمار الذي يسلب كرامة الأمم والشعوب ؟ أين هي في التفرقة العنصرية حيث يحرم السود - فقط - لأنهم سود - من كل حقوق الإنسان ؟ وأين هي في فلسطين ، حيث يطرد شعب من أرضه ويشرد منها ليحتلها شذاذ الآفاق ؟ وأين هي في المذابح التي تقام للمسلمين في كل أرض إسلامية تملكها غير المسلمين ؟ حبر على ورق ، وكلام لا رصيد له من الواقع ..
حقيقة إن هناك مظاهر " ديمقراطية " في البلاد الغربية لأهلها وللقاطنين فيها . فالفرد حر فيما يعمل ، حر فيما يتكلم ، حرّ فيما يعتقد ، لا يجوز للسلطة أن تتدخل في شئونه إلا حين يعتدي على القانون . وثَمَّ ضمانات للفرد ، فلا يعتقل بغير جريمة ، ولا يحقق معه إلا بالطريق القانوني ، ولا يحاكم إلا بمقتضى القانون ولا يحكم عليه إلا بما يقرره القانون ... ولكن هذه الحرية تمتد من ناحية إلى الحد المفسد ، فتبيح الإلحاد والكفر وتبيح الفساد الخلقي بجميع صوره وألوانه ، وتقصِّر من ناحية أخرى تقصيراً شديداً حين تتعرض مصالح الرأسمالية للخطر من قريب أو من بعيد .. فلا هي هنا ولا هناك تضع الإنسان في موضع الإنسانية الكريم !
أما في الشيوعية التي زعمت أنها هي " الديمقراطية " الحقيقية ، فلا كرامة للإنسان على الإطلاق ! لا يستطيع أن يفتح فمه بكلمة نقد واحدة للدولة أو للحزب الشيوعي الحاكم ، ولا ضمانات له على الإطلاق ، وهذا كله - في زعمهم - مقابل تحرره من سيطرة الإقطاع ورأس المال . وحقيقة إن سيطرة الإقطاع ورأس المال مذلة لكرامة الإنسان ، ولكن سيطرة الدولة من جانب آخر لا تقل إذلالاً واستبداداً بل هي أشد !
أما الإسلام فهو يقرر كرامة الإنسان - بادئ ذي بدء - بتحريره من كل عبودية زائفة لغير الله ، الحقيق وحده بالعبادة والتقديس ، فلا عبودية للحاكم ولا للسلطة ولا للمال(1/347)
ولا لللجاه ، ولا للون ولا للجنس ، ولا لأي اعتبار من الاعتبارات التي تستعبد الناس في الأرض .
وفي سبيل ذلك ينزع الإسلام حق التشريع من البشر ويرده إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى ، لأن البشر إن شرعوا لأنفسهم فلا بد أن ينقسم الناس إلى سادة ( هم الذين يشرعون ) وعبيد ( هم الذين يقع عليهم التشريع ) . أما حين يكون الله هو المشرع ، فالكل في موقف العبودية والطاعة له سواء ، الحاكم والمحكوم ، والغنيّ والفقير .
ثم يضع الإسلام الضمانات التي لا تكفل حرمة الدم والمال فقط ، بل حرمة العرض كذلك . لا على مستوى الجريمة الخلقية ، بل على مستوى الكرامة الإنسانية فلا يُتعدَى على الإنسان بالغمز ولا باللمز ولا بالسخرية ولا بالغيبة ولا بالاتهام الباطل !
ثم ينفذ ذلك فى عالم الواقع. وروي عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: يا أمير المؤمنين! عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذاً؟ قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس، فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين! لم أعلم ولم يأتني." (1)
ثم إن الكرامة الإنسانية تبرز في هذا الدين في نواحٍ شتى إلى جانب ما ذكرناه من الحقوق والضمانات .
1- فليس هناك خطيئة أبدية تستذل أعناق البشر حتى يأتي ابن الله ( نستغفر الله ) ليفتدي بنفسه خطايا البشر بالموت فوق الصليب ! إنما يتلقَّى آدم التوبة والمغفرة من ربه
__________
(1) - جامع الأحاديث - (25 / 471) (28392) ومجلة الوعي كامل الاعداد - (27 / 244) فيه ضعف(1/348)
مباشرة : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [ البقرة : 37 ] .
2- وليس هناك كهنوت يتوسطون بين الإنسان وبين الله . إنما يتصل العبد بربه مباشرة في شعائر التعبد وفي الدعاء والاستغفار .
3- ومن خلال عمل الإنسان تكون النتائج التي يجري بها قدر الله في الأرض : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الأنفال : 53 ] .
( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [ الروم : 41 ] .
فالإنسان هو الذي يحدد مصيره بما يقدم لنفسه من أعمال : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
((يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ.)) (1) 0
4- الإنسان هو المقدم في التصور الإسلامي لا المادة ولا " الطبيعة " كما يقول التفسير المادي للتاريخ . فالكون كله مسخَّر للإنسان من عند الله : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) [ الجاثية : 13 ] . ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ الإسراء : 70 ] .
5- يسعى الإسلام لإبراز الكرامة الإنسانية بتنمية الجوانب الإنسانية في الإنسان لا الجوانب الحيوانية فيه . فيربيه على القيم العليا والترفع عن الدنايا والاستعلاء على الشهوات الدنسة والمتاع الحسي الغليظ ، وبذلك يكون كريماً حقاً لأنه يكون طليقاً من
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6737 ) 0(1/349)
قيود الحيوان ، ويكون " في أحسن تقويم " جديراً بأن تتنزل عليه الملائكة : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) [ فصلت : 30 ] .
3- تقرير مبدأ الشورى والعدل :
( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) [ الشورى : 38 ] .
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [ النساء : 58 ] .
يعد مبدأ الشورى من أهم ما جاءت به الدعوة الإسلامية من المبادئ من الناحية السياسية ، ومن ناحية أخرى كرامة الإنسان كذلك . وقد اعتبرت أوربا حق التمثيل البرلماني وحق البرلمان في مناقشة سياسة الدولة من أهم الانتصارات التي حققتها " الديمقراطية " في عالم السياسة ، وقررت بها كرامة " المواطن " العادي . وقد بذلت أوربا للوصول إلى هذا الحق جهوداً مضنية ودماء كثيرة ، بينما الإسلام - دين الله - يعطي هذه الحقوق للبشر ابتداءً قبل أن يطلبوها بأنفسهم ، ودون أن يبذلوا من أجلها الجهد ولا الدماء ! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي ، ويأخذ بالأصوب من الآراء كما استشار يوم بدر في شان المكان الذي ينزل فيه المسلمون ، أو يأخذ برأي من الآراء ويتنزل الوحي بالتصحيح كما أخذ برأي أبي بكر في مسألة الأسرى يوم بدر فنزل الوحي مؤيداً رأي عمر الذي لم يأخذ به الرسول صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - (1) ، أو يأخذ برأي يتضح فيما بعد أن غيره كان الأصوب ( وإن لم يتعرض الوحي لذلك ) كما أخذ بمشورة الشبان يوم أُحد فخرج من المدينة بجيشه ولم يمكث فيها في انتظار العدو كما أشار الشيوخ ، وترتب على ذلك تعرض جيش المسلمين لما تعرض له في وقعة أُحد . (2) 0
__________
(1) - انظر التفاصيل في المسند الجامع - (12 / 254)(9338 )
(2) - انظر التفاصيل في المسند الجامع - (4 / 671) (2911)(1/350)
ولهذه الشواهد الثلاثة دلالة على أصالة مبدأ الشورى في النظام الإسلامي وعمق موضعه من البناء السياسي للأمة الإسلامية .
فقد كان الله سبحانه وتعالى قادراً على أن يوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي ينزل فيه يوم بدر ، والمعركة كلها من أولها إلى آخرها تمت بتدبير الله دون أن يكون للمسلمين إقدام عليها ولا استعداد لها : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) [ الأنفال : 5 - 8 ] .
ولكن الله سبحانه وتعالى ترك المسلمين يتشاورون في هذا الأمر تقريراً لمبدأ الشورى في مثل هذه الشئون :
أما في قضية الأسرى فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي خطَّأه الوحي ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ، 68 ] .
والله يعلم سبحانه وتعالى يعلم في سابق علمه أن هذا سيحدث ، ولكنه لم يمنع رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخذ بالرأي الخاطئ بوحي يوحيه إليه قبل تنفيذ المشورة ، ولم يأمر كذلك بمنع مبدأ المشورة بعد ذلك الحادث ، لكي يتقرر في حياة المسلمين أن المشورة عنصر أساس في البناء السياسي للأمة ، ولو جاءت أحياناً برأي خاطئ . فالبشر عرضة دائماً للخطأ ، ولا تقتصر الشورى على الصواب وحده بحيث تسحب من الأمة إذا أخطأت في المشورة !(1/351)
والدلالة في وقعة أحد أوضح ، فإن الأمر لم يقتصر على أن الشبان الذين ألحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج من المدينة قد خالفوا الرأي الأرجح ، الذي ارتآه الشيوخ من ذوي الخبرة ، بل وصل الأمر إلى مخالفة فريق من الجيش للأوامر الصريحة التي أصدرها القائد صلى الله عليه وسلم لهم بعدم مغادرة الجبل بحال من الأحوال ولو رأوا المسلمين تتخطفهم الطير ! وترتب على ذلك ما ترتب من هزيمة المسلمين وإصابة الرسول صلى الله عليه وسلم بما أحزنه وشماتة الكفار فيهم .. إلخ .
وعلى الرغم من ذلك كله فقد نزل الأمر الرباني : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) [ آل عمران : 159 ] .
وفي ذلك دلالة واضحة على أن الشورى لازمة وواجبة ، ولو أدت إلى نتائج غير مرغوبة في بعض لأحيان ... والإسلام يقرر هذا الحق واضحاً وعميقاً ويبرزه ويؤكد عليه قبل أن تعرفه أوربا بألف عام !
أما العدل ، فالإسلام قمة القمم فيه .. القمة التي لم يصل إليها أحد قط خارج الإسلام .
يقول الله للمسلمين وهو يربيهم على العدل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ المائدة : 8 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) [ النساء : 135 ] .
ويتحول هذا التوجيه في حياة المسلمين إلى واقع .. وقد رأينا كيف تصرف عمر رضي الله عنه في حق القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص . ويطأ عبدٌ عَلَى رداء جبلة ابن الأيهم في أثناء الطواف فيلطم العبدَ على وجهه فيشتكي إلى عمر فيأمر عمر بالقصاص من(1/352)
جبلة بن الأيهم ، فيفر ويرتد ولا يتزحزح عمر عن إقامة العدل . وتضيع درع من أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه فيجدها عند يهودي فيشكوه إلى قاضيه ، فيطلب القاضي البيّنة من عليّ فلا يملك عليّ البيّنة فيقضي بالدرع لليهودي .
وهكذا يقرر الإسلام العدل في الواقع لا شعارات ترفع في الهواء . فأين رأى الناس في التاريخ كله مثل هذا العدل يطبق في واقع الأرض ، على كثرة ما كتب وما قيل عن العدل في التاريخ ؟!
فذا أردت أن تعرف العدل في حياة الأمم " الراقية " فاسأل عنه في التمييز العنصري في أمريكا جنوب إفريقيا . واسأل عنه في الاستعمار حيثما كان على الأرض .. واسأل عنه في أي قضية يكون المسلمون طرفاً مستضعفاً فيها ، ثم انظر كيف تكون الأحكام ! ( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) [ التوبة : 10 ] .
==================
المعجزة
المعجزة شيء خارق لمألوف البشر يأتي به النبي المرسل من عند الله ويتحدى الناس أن يأتوا بمثله فيعجزون عن ذلك ، فيكون هذا دليلاً على أنه مرسل من عند الله حقاً وليس قائماً بدعوى كاذبة من عند نفسه .
وهي على أنواع : فقد تكون معجزة كونية حسية كانشقاق القمر ، وانفلاق البحر أمام موسى وقومه ، واليد والعصا .. إلخ . وقد تكون علماً مثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء المتقدمين بما يوافق ما عند أهل الكتاب من غير تعلم له منهم . وقد يكون إخباراً بالغيب كما خبّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن زوال فارس والروم 0 (1)
وقد كان كل نبي يأتي بمعجزة من جنس ما اشتهر به قومه ليكون التحدِّي في الصميم ، ويكون تأثيرها حاسماً في نفوس من تتنزل عليهم . فقد كان المصريون بارعين في السحر ،
__________
(1) - ففي صحيح البخارى- المكنز - (3120 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ » .(1/353)
وكان كهنة المعابد الفرعونية متخصصين فيه ، يستخدمونه ليبهروا به أعين الناس ، ومن ثم يستعبدونهم للفرعون ، وللآلهة المزعومة التي يقوم أولئك الكهنة - أو السحرة - بطقوس العبادة لها ، وأخذ الأموال والقرابين من الناس باسمها .
لذلك أرسل الله موسى بمعجزة من جنس ما اشتهر به أولئك السحرة ، ليبطل سحرهم ويتبدى الفرق بين ما يقدر عليه البشر وما يقدر عليه خالق البشر .
( وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ، حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ، قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ، قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ، وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ، قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ، قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ، فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ، قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ) [ الأعراف : 104 - 122 ] .
لقد كان السحرة أدرى الناس بحقيقة السحر وحدوده ، لذلك كانوا هم أول من تبين الحقيقة ، وأن ما يصنعه موسى ليس سحراً ، إنما هو شيء فوق طاقة البشر ، وإن كان من جنس ما يقومون به هم من السحر . لذلك خروا ساجدين ، اعترافاً بالآية التي تثبت أن موسى رسول من عند الله .
كذلك أرسل عيسى عليه السلام في قوم برعوا في الطب ، وكانوا يأتون فيه بما يبهر أعين الناس . فناسب أن تكون المعجزة التي أرسل بها عيسى عليه السلام خارقة في نفس الميدان الذي برع فيه هؤلاء ليتبينوا هم أولاً ، ويتبين الناس من ورائهم ، أن المعجزة شيء آخر غير ما يصنعون هم . شيء يعجزون هم عنه رغم براعتهم ، فلا بدَّ أن يكون آتياً من(1/354)
مصدر غير بشري ، أي من عند الله . لذلك كان من معجزاته معهم إبراء الأكمه والأبرص بغير دواء ولا علاج ، وفي التو واللحظة أمام ناظرهم ، وهو أمر يخالف صنع البشر ، ثم زاد على ذلك في نفس الاتجاه معجزة إحياء الموتى . فهم قد يعالجون المرضى بأي وسيلة فيتحقق الشفاء على أيديهم . أما إحياء الموتى فلا يقدر عليه إلا الله ، أو إنسان مرسل من عند الله بالمعجزة .
ولقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم أهل فصاحة وبيان ، يتباهون بفصاحتهم ، ويتيهون بها على الأمم حتى ليسمّون غيرهم عجماً ! أي أن لسانهم غير مبين فهم أشبه بالعجماوات التي لا تنطق !
لذلك ناسب أن تكون معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم معجزة بيانية ، من نوع ما برعوا فيه ، ولكن على مستوى يدركون هم أنفسهم - وهم أهل الصنعة - أنها فوق مستوى البشر ، ويقرون بأنها لا بد أن تكون من عند الله.
-------------------
إعجاز القرآن الكريم
حين أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مشركى العرب كذبوه بادئ ذى بدء، وكان هذا هو المتوقع بحسب سنة الله التى بيناها من قبل، فإن الملأ فى كل جاهلية لا يمكن بحال من الأحوال أن يسلموا بلا إله إلا الله، التى معناها رد ما فى أيديهم من السلطة المغتصبة التى يستكبرون بها على الناس إلى صاحبها الحقيقى وهو اله سبحانه وتعالى، والرضى بمقام العبودية لله - لأنه لا إله غيره - والتخلى عن الربوبية الكاذبة التى يدعونها، ويحلون ويحرمون بها من دون الله، فى ظل الآلهة المزيفة التى يعبدونها من دون الله 0
أما العبيد فهم كذلك لا يستجيبون بسهولة للا إله إلا الله لأنها تخالف مألوفهم، ولأنهم يخافون من السادة، ولأنهم غارقون فى الشهوات!
وحين كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لابد لهم أن يفسروا سر الفصاحة العالية التى ينطبق بها - صلى الله عليه وسلم - ويقول : إنها وحى من عند الله، وإلا فتن به الناس وخرجوا على طاعة الملأ - وهم(1/355)
قريش - وضاع بذلك سلطانهم الذى يستكبرون به على الناس ! لذلك قالوا : إنه كاهن! وقالوا : إنه ساحر ! وقالوا : إنه مجنون يأتيه رئى من الجن فيوحى إليه بما يقول !
ولقد كانوا يعرفون جيداً أنهم كاذبون! والقصة التالية دليل على ذلك0 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا عَمُّ ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا . قَالَ : لَمَ ؟ قَالَ : لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ قَالَ : قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا . قَالَ : فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ : وَمَاذَا أَقُولُ " فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً ، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ " قَالَ : لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ . قَالَ : فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ : " هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) [المدثر : 11 - 25] (1) " "
ومع ذلك فقد نشروا هذه الأكذوبة في أرجاء الجزيرة العربية كلها لتكون سياجاً يمنع الناس من التأثر بالقرآن . لذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى أن يأتوا بمثل هذا القرآن : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) [ الإسراء : 88 ] .
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3831 ) صحيح(1/356)
وظل هذا التحدي قائما بينهم سنوات ، وهم يعجزون عنه ، ومع ذلك لا يسلمون ! لذلك زاد التحدي ! ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ هود : 13 ] .
نعم ! إن إنقاص القدر المطلوب هو زيادة في التحدي ، لأنهم إن عجزوا عن الأقل فهم حتماً سيعجزون عن الأكثر ! وقد عجزوا بالفعل ولكنهم ظلوا على عنادهم واستكبارهم ، فزادهم تحدياً .. ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ يونس : 38 ] .
وحين أصروا بعد ذلك قال لهم : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 23 ، 24 ] .
وظل التحدي قائماً منذ ذلك الحين .. عجز عنه فصحاء العرب وبلغاؤهم وعجزت عنه البشرية كلها على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان ، وإنهم لعاجزون حتى قيام الساعة ! فقد كان أولى الناس بالرد على التحدي أولئك الذين كانت صناعتهم الفصاحة والبلاغة يتيهون بها على الناس !
ولقد كانت معجزات الرسل كلهم من قبل معجزات حسية وكونية ، تتعلق بالسنن الجارية في الكون وتخرقها . فمعجزة نوح طوفان مدمر يغرق المكذبين وينجو منه المؤمنون . ومعجزة هود ريح صرصر عاتية تهلك المكذبين ، وينجو منها المؤمنون . ومعجزة صالح - حين عقر قومه الناقة المرسلة آيةً لهم - زلزلة عظيمة قتلتهم في ديارهم ونجا هو ومن معه من المؤمنين . ومعجزة لوط نار نزلت من السماء فأهلكت القوم الفاسقين ونجا منها لوط والذين آمنوا معه . وكذلك كانت معجزات موسى وعيسى عليهما السلام التي أشرنا إليها آنفاً ، أشياء خارقة للسنن الكونية .
أما معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معجزة عقلية معنوية جامعة ، وليست معجزة حسية ولا كونية ، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم معجزات أخرى حسية(1/357)
وكونية كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر .. إلخ . ولكن المعجزة الكبرى التي وقع بها التحدي ، والتي بقيت على الزمن وخوطبت بها البشرية كلها هي القرآن .
ولقد اختص القرآن بالحفظ وعدم التحريف دون الكتب السابقة كلها لأن الله سبحانه وتعالى أراد ذلك وتكفل به ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] .
ولذلك وكّل به أمةً قوية الحافظة بصورة غير معهودة بين الأمم . وأتاح للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين فترة من الاستقرار والتمكين في الأرض تكفي لتدوين القرآن (1) فضلاً عن حفظه في الصدور ، بعد مراجعته على الرسول صلى الله عليه وسلم ومراجعة الرسول له على جبريل عليه السلام ، فتهيأت كل وسائل الحفظ الذي أراده الله ، وحال هذا الحفظ - بإرادة الله وتقديره - دون أي تحريف يقع في القرآن على مر العصور .0
=================
نواحى الإعجاز فى القرآن
القرآن معجز من كل نواحيه :
لئن كان الإعجاز اللغوي قد اشتهر خلال التاريخ بسبب تحدي فصحاء العرب وبلغائهم أن يأتوا ولو بسورة من مثل القرآن وعجزهم عن ذلك ، فإن الإعجاز الموضوعي في القرآن هو على ذات المستوى من الإعجاز اللغوي سواء !
ولا نستطيع هنا التفصيل في الحديث عن إعجاز القرآن لأن ذلك مبحث متخصص . ولكنا نقول كلمة موجزة عن الإعجاز اللغوي وعن بعض ألوان الإعجاز الموضوعي على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ، فنتكلم عن الإعجاز التشريعي ، والإعجاز العلمي 0
أولاً : الإعجاز اللغوى (2) :
كان يكفينا في صدد الإعجاز اللغوي أن نقول : إن فصحاء العرب قد عجزوا عن الإتيان بسورة من مثل القرآن . ولكننا نزيد الأمر توضيحاً فنقول : إن هذا الإعجاز يبدو في
__________
(1) كان القرآن مدونا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الصحف وعلى جذوع النخل ولكنه جمع على عهد أبى بكر رضى الله عنه0
(2) - انظر كتابي (( الإعجاز اللغوي والبيان في القرآن الكريم ))(1/358)
جملة سمات يتميز بها الأسلوب القرآني يلحظها القارئ المتدبر لهذا القرآن . وقد أمرنا بالتدبر في كتاب الله ونحن نتلوه . وإليك بعض هذه السمات :
1- للقرآن نظم متفرد ، فلا هو شعر ، ولا هو نثر كنثر البشر . ولكن فيه من حلاوة الجرس والتنغيم ما يفوق الشعر ، دون أن يتقيد بقيود الشعر الكثيرة التي تتحكم في المعنى في كثر من الأحيان ، وفيه ما يشبه القوافي ولكنها ليست رتيبة ولا محدودة كقوافي الشعر ولا قوافي السجع المألوف ، لذلك لا تمله الأذن ، بل يقبل الإنسان دائماً على قراءة القرآن وسماعه بشغف متجدد .
وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا التنغيم يتنوّع بتنوّع الموضوع المعروض والجو النفسي المصاحب له ، فيشتد مثلاً مع وجود الوعيد والعذاب ويلطف ويلين مع وجود الود والرحمة ، أو جو الدعاء والخشوع .
خذ مثلاً من جوّ الشدة والوعيد : ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ، وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ ) [ الحاقة : 30 - 37 ] .
ومثلاً من جوّ الدعاء : ( كهيعص ، ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) [ مريم : 1 - 6 ] .
2- للقرآن خاصية إحياء المشهد المعروض حتى لكأن الإنسان يشاهده لأول مرة إن كان من مألوفات الحس . أو يراه مجسداً إن كان من المشاهد المتخيلة .
فمن نماذج النوع الأول كل ما جاء في القرآن من المشاهد الكونية كالشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والشجر والأنهار ... إلخ ، فهي مشاهد قد ألفها الحس حتى كاد ينساها .. ولكن القرآن يحييها فكأنما يشاهدها الإنسان لأول مرة فينفعل بها وجدانه ،(1/359)
وتهتز لها مشاعره ، فيلتفت إلى القدرة المعجزة في خلقها على هذه الصورة ، فيتصل قلبه بالخالق سبحانه ويسلم له ويؤمن بوحدانيته .
خذ مثلاً هذا النموذج : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ) [ الفرقان : 45 - 49 ] .
ومن نماذج النوع الثاني قصص القدماء ومشاهد القيامة ، وهذه وتلك ليست حاضرة أمام الإنسان فهو يتتبعها بخياله لا بسمعه وبصره . ولكن القرآن يعرض القصة حية كأنما يشاهدها الإنسان أمامه في هذه اللحظة ، فينفعل بأحداثها وعبرها ، ويعرض مشاهد يوم القيامة شاخصة متحركة كأنها حاضرة أمام الإنسان . بل يصل الإحياء فيها إلى درجة أن يعيشها الإنسان كأنها هي الحاضر الموجود ، والدنيا - التي هي حاضر في الحقيقة - كأنها ماض سحيق قد انتهى وزال ..
خذ مثلاً للقصة : ( وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ هود : 41 - 44 ] .
ومثلاً لمشاهد القيامة : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ، وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ، يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ(1/360)
لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) [ الطور : 17 - 28 ] .
3- يتميز القرآن بالتنويع في طريقة العرض بحيث لا يتكرر مشهدان في كل تفاصيلهما أبداً على كثرة ما يعرض في القرآن من المشاهد المتشابهة ، فهي تتشابه ولكنها لا تتماثل أبداً ، لذلك تبدو في كل مرة كأنها جديدة ! وإن مشاهد القيامة والمشاهد الكونية لهي من أكثر الموضوعات تكراراً في القرآن ، ومع ذلك لا يوجد مشهد واحد مكرر بجميع تفصيلاته مرتين .. لا بد من التنويع في العرض ولو بتغيير لفظة واحدة ! وأحياناً يكون التنويع بتغيير حرف واحد يغير المعنى !
خذ مثالاً قوله تعالى في سورة البقرة : [ آية : 49 ] : ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ، وقوله تعالى في سورة إبراهيم [ آية 6 ] : ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .
إن الفرق بين النصين حرف واحد ، هو زيادة الواو في الآية الثانية ( ويذبحون ) ولكن هذا الحرف الواحد يغير المعنى . فالآية الأولى تحدد العذاب بأنه هو تذبيح الأبناء واستحياء النساء . أما الآية الثانية فتدل على أن العذاب كان أنواعاً كثيرة يُضاف إليها تذبيح الأبناء واستحياء النساء ! وهكذا يؤثر هذا الحرف الواحد في المعنى ويجعل الآيتين غير مكررتين كما يتبادر للذهن أول مرة ! (1) 0
4- من الإعجاز كذلك أن كل سورة من سور القرآن لها جوها الخاص وشخصيتها المتميزة حتى وإن اشتركت في بعض الموضوعات مع غيرها من السور . وقد تكون السور المدنية مختلفة الموضوعات بطبيعتها ، لاحتواء كل منها على مجموعة من التشريعات والتوجيهات غير الأخرى ، ولاختلاف المناسبة التي نزلت فيها ، وإن كان فيها مع ذلك
__________
(1) بين الآيتين اختلاف آخر فى الصياغة، فآية سورة ((البقرة)) تبدأ بقوله تعالى : ((وإذ نجيناكم من آل فرعون)) وآية سورة ((إبراهيم)) تبدأ بقوله تعالى : ((وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون))، ولكنا اكتفينا بإبراز التغيير الذى أحدثه حرف الواو فى المعنى0(1/361)
قدر من الموضوعات المشتركة . ولكن ظاهرة التميز والاختلاف قائمة بوضوح في السور المكية كذلك ، التي تشتمل كلها على موضوعات متقاربة ، إذ كلها دعوة إلى توحيد الخالق ونبذ الشرك ومناقشة لأوهام المشركين وتنديد بهم وإنذار لهم بالعذاب في جهنم ، مع تقديم البشرى للمؤمنين بالجنّة . ومع ذلك فكل سورة تعرض هذه الموضوعات المتشابهة بطريقة تخالف الأخرى ، بحيث يظل قارئ القرآن في جو متجدد على الدوام ولو كان الموضوع هو ذات الموضوع !
تلك هي بعض سمات الإعجاز اللغوي في القرآن ، ويستطيع الدارس أن يلحظها بنفسه في أثناء تلاوته للقرآن أو استماعه إليه ، كما يستطيع أن يجد غيرها كلما دَرَّب نفسه على النظر المتعمق في آيات الكتاب .
1- من الإعجاز كذلك أن كل سورة من سور القرآن لها جوها الخاص وشخصيتها المتميزة حتى وإن اشتركت فى بعض الموضوعات مع غيرها من السور. وقد تكون السور المدنية مختلفة الموضوعات بطبيعتها، لاحتواء كل منها على مجموعة من التشريعات والتوجيهات غير الأخرى، ولاختلاف المناسبة التى نزلت فيها، وإن كان فيها مع ذلك قدر من الموضوعات المشتركة. ولكل ظاهرة التميز والاختلاف قائمة بوضوح فى السور المكية كذلك، التى تشتمل كلها على موضوعات متقاربة، إذ كلها دعوة إلى توحيد الخالق ونبذ الشرك ومناقشة لأوهام المشركين وتنديد نبهم وإنذار لهم بالعذاب فى جهنم، مع تقديم البشرى للمؤمنين بالجنة. ومع ذلك فكل سورة تعرض هذه الموضوعات المتشابهة بطريقة تخالف الأخرى، بحيث يظل قارئ القرآن فى جو متجدد على الدوام ولو كان الموضوع هو ذات الموضوع0
تلك هى بعض سمات الإعجاز اللغوى فى القرآن، ويستطيع الدارس أن يلحظها بنفسه فى أثناء تلاوته للقرآن أو استماعه إليه، كما يستطيع أن يجد غيرها كلما درب نفسه على النظر المتعمق فى آيات الكتاب0
ثانياً : الإعجاز الموضوعى :(1/362)
لا نستطيع في الحقيقة أن نفصل بين اللفظ والمعنى ، أو بين اللغة والموضوع الذي تعبر عنه ، وقولنا : إن القرآن معجز لغوياً ، معناه أنه معجز في التعبير عن الموضوعات التي يشتمل عليها .
ولكنا نضيف إلى ذلك أن الموضوعات التي يشتمل عليها القرآن هي في ذاتها معجزة ، بمعنى أن البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثلها ولو احتشدوا كلهم لهذا الأمر ، فالإعجاز هنا مزدوج : إعجاز الموضوع في ذاته ، وإعجاز التعبير عن الموضوع .
وقد اخترنا موضوعين من الموضوعات القرآنية لنبرز من خلالهما حقيقة الإعجاز الموضوعي في القرآن . وإليك نبذة سريعة عن كل منهما :
1- الإعجاز فى التشريع :
في كلمة موجزة نستطيع أن نقول : إن الإعجاز في التشريع يتضح - بغير جهد - من مراجعة التشريعات التي صنعها الشر لأنفسهم خلال ما يقرب من ثلاثين قرناً من الزمان ، أي منذ وجدت كتابات تاريخية محفوظة يمكن الرجوع إليها إلى لحظتنا الراهنة .
ولكنا نركز على التشريعات القائمة اليوم باعتبارها أنضج ما أخرجت البشرية من التشريعات في تاريخها كله ، بالنسبة إلى الزيادة الهائلة الحاصلة في معلومات البشر ، والتقدم العلمي والمادي الهائل ، والاستفادة من خبرات القرون السابقة جميعاً . فماذا نرى ؟
انقسم العالم في يوم من الأيام إلى معسكرين متميزين : المعسكر الرأسمالي في الغرب ، والمعسكر الشيوعي في الشرق ، ولكل منهما تشريع يخالف الآخر . فماذا نجد في كل من المعسكرين ؟
1- نجد بادئ ذي بدء أن كلا المعسكرين قد ذكر العقيدة في دستوره ، ولكن يا له من ذكر ! .. فأما الدستور السوفييتي فيقول : " لا إله ! والكون مادة ! " . وأما الدساتير الغربية فتنص على حرية التدين ، أي أن الدين مزاج شخصي لا دخل للدولة به ، فمن شاء أن يكفر فله الحرية الكاملة في أن يفعل ذلك .(1/363)
وبعبارة أخرى : فإن كلا المعسكرين - على اختلاف في الدرجة والأسلوب - قد رفض أن يقرر عبودية الإنسان الخالصة لله .
وقد يبدو لأول وهلة أن هذه مسألة لا علاقة لها بالتشريع ، لأنها مسألة عقدية بحتة .. ولكن الواقع أن لها صلة أساسية بالتشريع . لأنه حين لا يكون الله هو المشرع ، لأنه ليس هو المعبود ، فلا بد من جهة ما تكون هي مصدر التشريع . وهذا هو الواقع الذي تنص عليه تلك الدساتير .
فالدساتير الغربية تقول - نظرياً - إن الأمة هي مصدر التشريع ، الحقيقة أن الطبقة الرأسمالية هي التي تشرع ، والدستور السوفييتي يقول - نظرياً كذلك - إن دكتاتورية الطبقة العاملة هي مصدر التشريع ، والحقيقة أن الحزب الشيوعي الحاكم هو الذي يشرع .
2- انطلاقاً من هذه النقطة فإن تشريعات الغرب الرأسمالي موضوعة لحساب الرأسمالية على حساب الطبقة العاملة ، وتشريعات الشيوعيين موضوعة لحساب السلطة الحاكمة على حساب الشعب ، بمعنى أن العدالة منتفية في كلا التشريعين .
3- نجد اختلافاً واضحاً - عند المعسكرين كليهما - في توزيع الأهميات في التشريع ، مع تميز كل منهما عن الآخر ، ففي المعسكر الغربي نجد الاهتمام الأكبر في الدساتير هو بالجانب السياسي من حياة الشعب ، وفي المعسكر الشيوعي نجد الاهتمام الأكبر هو بالجانب الاقتصادي . ويهمل كلاهما التشريعات الروحية إهمالاً كاملاً ، كما أن الاهتمام ضعيف جداً بالتشريعات الخلقية والتشريعات المتعلقة بترابط الأسرة وحفظ كيانها وتماسكها .
4- نجد اختلالاً آخر في تلك التشريعات يتعلق بقضية الفرد والمجتمع وعلاقة كل منهما بالآخر ، فالدساتير الغربية تجعل الفرد كائناً مقدساً بصورة تؤدي إلى تفتيت المجتمع وتفكيكه ، خلقياً واجتماعياً وإنسانياً كذلك ، والدستور الشيوعي يجعل المجتمع هو الكيان المقدس ( أي الدولة في واقع الأمر ) بالصورة التي تؤدي إلى سحق الفرد وإفناء شخصيته تماماً من الناحية السياسية والاجتماعية والإنسانية .(1/364)
5- لا تنص تلك الدساتير ( في المعسكرين ) على تشريعات دولية ثابتة ، لأن هذه أمور متروكة " للسياسة " أي لانتهاز الفرص ، ولا تعتمد على مواثيق واجبة الأتباع .
6- العنصر الأخلاقي مفقود في معظم هذه الدساتير ، وضعيف الأثر جداً في سائرها لأنها تشريعات قائمة على المصلحة وليست قائمة على اعتبار أخلاقي أو إنساني ، والمصلحة هي دائماً مصلحة الطبقة التي تملك السلطة وإن غطَّت ذلك بالمعسول من الألفاظ ، كالحرية ، والإخاء ، والمساواة ... إلخ .
إذا جمعنا هذه الحقائق - وهي ليست كل شيء - بالنسبة للتشريعات البشرية في أنضج صُورة لها في العصر الحاضر ، يتضح لنا - بغير جهد - إعجاز التشريع القرآني الذي هو في الواقع الوجه المقابل تماماً لتلك التشريعات الجاهلية !
ينص القرآن بادئ ذي بدء ، على المصدر الذي يحق له وحده أن يضع التشريعات ،وهو الله سبحانه وتعالى (1) ، وينص على أن هذا جزء أصيل من عقيدة لا إله إلا الله، التى تجعل المسلمين مسلمين!
2- من هذه النقطة تأتي عدالة التشريع لأن الله سبحانه وتعالى لا مصلحة له في ظلم الناس ، ولا مصلحة له في محاباة طبقة على طبقة أو فرد معين على بقية الأفراد ، ولأن الله هو العليم بالخلق الذين خلقهم ، وبما يصلح لحياتهم ، ولأن الناس جميعاً - حكاماً ومحكومين - يخضعون لهذا التشريع بدرجة واحدة من العبودية لله والطاعة له .
3- من إعجاز التشريع القرآني شموله لجميع نواحي الحياة الإنسانية في وقت واحد ، والموازنة بينها جميعاً في ذات الوقت ، فلا يوجد جانب من الحياة سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو خلقياً أو فكرياً أو روحياً أهمله التشريع القرآني ولم يضع له ما ينظمه ، ولا يوجد كذلك اهتمام بأحد الجوانب يطغى على بقية الجوانب ويضعفها أو يقتلها ، وظاهرة الشمول والتوازن هذه من أبرز سمات التشريع الإسلامي كما أنها من أبرز سمات الإسلام في جميع الميادين .
4- نجد في التشريع الإسلامي موازنة كاملة بين الفرد والمجتمع ، فلكل منهما حقوق وعلى كل منهما واجبات ، وليس لأحدهما وجود مقدس على حساب الآخر ، فالقداسة
__________
(1) لا ينفى هذا مبدأ الاجتهاد فيما ليس فيه نص، فإنما يتم الاجتهاد بإذن من الله، ومن هنا تجئ مشروعيته 0(1/365)
في الإسلام هي لله ، رب الجميع ، والكل عبيد له على التساوي : الفرد والمجتمع على السواء .
5- يشتمل التشريع الإسلامي على تشريعات دولية ثابتة ( هي علاقة المسلمين بغير المسلمين في السلم والحرب ) لأن هذا الأمر في الإسلام ليس متروكاً لانتهاز الفرص : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) [ النحل : 91 ، 92 ] .
6- العنصر الأخلاقي عنصير أصيل في التشريع الإسلامي كله ، سواء كان تشريعاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو تنظيم أسرة أو تعامل أفراد بعضهم مع بعض ، لأن هذا التشريع إنما نزل لينشئ أمة على المستوى الإنساني اللائق بالإنسان . ولا يكون الإنسان إنساناً بغير الجانب الأخلاقي .
وتلك كلمة عامة مجملة بالنسبة للإعجاز في التشريع القرآني ، وإلا ففي كل تشريع على حدة مجال لبيان هذا الإعجاز لمن أراد التوسع والتخصص ، ولكنا نشير إشارة سريعة إلى تشريعين اثنين :
1- التشريع الخاص بالحدود والقصاص ويكفينا فيه أن نقول : إنه لا يوجد مكان في الأرض كلها يحس فيه الإنسان بالأمن على دمه وماله وعرضه إلا حيث تطبق الشريعة الربانية وتطبق الحدود . مع ملاحظة أخرى هي أن البلاد التي تطبق الحدود هي أقل البلاد جرائم وأقلها قضايا !
2- التشريع الخاص بالخمر ، فقد عجزت كل بلاد العالم " المتحضر " عن وقف الإدمان على الخمر ، وما يترتب عليه من حوادث القتل والاغتصاب وحوادث الطريق . والمجتمع الإسلامي وحده في التاريخ كله هو المجتمع الذي قلّ تعاطي الخمر فيه إلى أدنى حد ممكن . وذلك لأن التشريع الإسلامي عامة ( بما فيه تشريع الخمر ) قائم على أساس العقيدة ، والتشريعات الجاهلية كلها قائمة على أساس السلطة أو النظام . وشتان بين طاعة أمر متصل بالعقيدة ، وأمر متصل بالسلطة أو النظام ! ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ(1/366)
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) [ المائدة : 90 ، 91 ] .
ويمكن أن نضيف هنا - بصدد الإعجاز التشريعي - الدقة العجيبة في الصياغة بحيث أن الآية الواحدة المشتملة على ألفاظ معدودة تشتمل أحياناً على مجموعة كاملة من الأحكام كآية الدَّيْن مثلاً في آخر سورة البقرة ( آية 282 ) ، ولو أن هذا داخل في الإعجاز اللغوي ولكنه لصيق الصلة بالإعجاز التشريعي كذلك ، فإن مثل هذه الأحكام في الصياغة البشرية تستغرق صفحات وصفحات ! ثم يظهر بعد المراجعة أن المشرع قَدْ سها عن بعض الأحكام فيضيف إليها إضافات !
2- الإعجاز العلمى :
من إعجاز القرآن أنه تحدث عن أمور كونية وعلمية لم تكن معروفة عند العرب المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ولا عند غيرهم من الأمم في ذلك الحين ، ولم يكشف عنها العلم إلا من وقت قريب . فوجودها في القرآن دليل قاطع على أنه من عند الله ، وأنه لا يمكن أن يكون من قول البشر .
ونشير هنا إلى بعض الحقائق العلمية التي أشار إليها ، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر :
1- أشار القرآن إلى الجبال بأنها رواس تمنع الأرض أن تميد بالناس : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) [ لقمان : 10 ] .
وفي هذا القرن فقط عرف الناس عن طريق العلم أن الجبال تحفظ توازن الأرض وأنه حين يختل هذا التوازن لسبب من الأسباب تحدث الزلازل والبراكين التي تعيد إلى الأرض توازنها .
2- أشار القرآن إلى تكوّن اللبن في بطون الأنعام من الفرث ( وهو الغذاء المهضوم ) والدم : ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [ النحل : 66 ] .(1/367)
وتلك حقيقة علمية لم يكشفها العلم إلا في هذا القرن .
3- أشار القرآن إلى ظاهرة " الأزواج " في بنية هذا الكون : ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) [ يّس : 36 ] .
وفي السنوات الأخيرة فقط كشف العلم عن بعض ما لم يكن معلوماً وقت نزول القرآن وهو أن التفاعل الكيماوي هو في الحقيقة عملية تزاوج بين المواد المتفاعلة ، ذلك أن ذرة كل مادة مكونة من نواة موجبة وعدد من الكهارب السالبة ، وأن هذه الكهارب تدور في حلقات حول النواة ولكن الحلقة الأخيرة منها لا تكون كاملة ، ويتم التفاعل الكيماوي إذا وجد عنصر يكمل للعنصر الآخر حلقته الأخيرة . فلنفرض مثلاً أن عنصراً ما تدور كهاربه في حلقات كل منها يتكون من تسع كهارب ، وأن الحلقة الأخيرة فيها كهربان اثنان ، فإذا تلاقى هذا العنصر مع عنصر آخر تتكون حلقته الأخيرة من سبع كهارب ، فإنه يتم التفاعل بينهما ، بإكمال الحلقة ذات الكهربين إلى تسع كهارب كبقية الحلقات !
4- أشار القرآن إلى مراحل نمو الجنين : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [ المؤمنون : 12 - 14 ] .
ولم يكشف التشريح وعلم الأجنة عن هذه المراحل إلا في العصر الحديث .
5- أشار القرآن إلى تكوّن السحاب الركامي : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ) [ النور : 43 ] .
ولم يتمكن العلماء من معرفة هذه الحقيقة إلا بعد أن صعدوا بالطائرات فوق السحاب .(1/368)
6- يقول القرآن : ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الرعد : 3 ] .
وهنا تتابع ملحوظ في الآية . ولكن هذا التتابع لم تكن دلالته واضحة عند المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . ورويداً رويداً كشف العلم عن جانب منه . فإن وجود الرواسي عامل مهم في تكوين السحب التي ينزل منها المطر فيكوّن الأنهار ، ذلك أن الرياح المحملة بالأبخرة تصطدم بها فتصعد إلى أعلى فتبرد في طبقات الجو العليا ويتكاثف ما فيها من بخار الماء فينزل في صورة مطر . ومن المطر تتكون الأنهار . ثم إن هذه الأنهار هي التي تسقي الزرع فتتكون الثمار ذات الأزواج - إشارة إلى عملية التلقيح التي تحدث في الزهرة فتتكون منها الثمرة - ولكن غشيان الليل النهار في هذا التتابع " العلمي " الملحوظ في الآية لم يكن معلوماً دلالته ( وربما لم تلحظه الأجيال السابقة ) حتى كشف العلم حديثاً جداً عن صلة الظلام ( الذي يجيء مع الليل ) بتكوّن الثمرة ! وكان هذا نتيجة حادث عرضي لم يكن في حسبان أحد ! ذلك أن إحدى الشركات في اليابان أقامت إعلاناً مضيئاً ( بالنيون ) في مزرعة أرزّ يملكها أحد المزارعين ، فلاحظ المزارع أن المحصول قد ضعف فرفع قضية على الشركة المعلنة يطالبها بالتعويض ، ويدَّعي عليها أن الإعلان الباهر الضوء هو السبب في قلة المحصول ! وإذ كانت هذه مسألة تحتاج إلى تحقيق علمي ، فقد أحالت المحكمة القضية إلى العلماء ليدلوا فيها بمعلوماتهم . ومن ثم أجريت سلسلة من الأبحاث ثبت في نهايتها أن الإعلان المضيء كان بالفعل سبباً في قلة المحصول لأنه أقلق راحة النبات في فترة الليل ، وهي التي تنمو فيها الزهرة ثم تثمر ! وكشف العلماء عن حقيقة أغرب من ذلك وهي أن كل نبات يحتاج إلى فترة معينة من الظلام تختلف عن غيره ! وأن توزيع النبات على سطح الأرض مرتبط بجملة عوامل من بينها طول فترة الليل في كل منطقة من المناطق . فإذا كان النبات يحتاج إلى اثنتي عشرة ساعة من الظلام في فترة التزهير فإنه لا ينمو في منطقة ظلامها عشر ساعات فحسب ، أو إن نما فإنه يكون ضعيفاً ولا يعطي ثمرة !(1/369)
وهكذا تبين إن إغشاء الليل النهار المذكور في الآية هو جزء من التتابع " العلمي " الملحوظ في الآية من أولها إلى آخرها مما لم يكن معروفاً خلال أكثر من ثلاثة عشر قرناً منذ نزول القرآن !
هذا وفي القرآن إشارات كونية وعلمية كثيرة ، منها ما كشف عنه العلم ومنها ما لم يكشف عنه حتى اليوم ، وهي تثبت بدليل قاطع أن هذا القرآن من عند الله العليم الحكيم ، وأنه ما كان يتأتى لبشر أن ينطق به من عند نفسه .
ولكنا لا نحتاج أن نجري وراء الكشوف العلمية لاهثين كما يصنع بعض الكتاب المحدثين لإثبات الإعجاز العلمي للقرآن ، فكلما كشف العلم كشفاً جديداً قالوا : لقد تحدث القرآن عنه من قبل !
لا نحتاج أن نصنع ذلك لأن هذه الكشوف ما زالت في مرحلة الإثبات ، وكثير منها لم يصبح بعد حقيقة علمية نهائية . فلا يجوز أن نربط تفسيرنا للإشارات الكونية في القرآن بهذه النظريات المتقلبة التي قد يثبت خطؤها في الغد . ولأن دلائل الإعجاز في القرآن من الكثرة والثبوت والقطع بحيث لا نحتاج إلى الركض وراء هذه النظريات كأننا ما زلنا في حاجة إلى مزيد من الإثبات ! ويكفينا جداً ما أثبته العلم على أنه حقائق نهائية . بل إشارة واحدة تكفي لإثبات الإعجاز .
وضع العالم الإسلامى المعاصر
لاشك أن الوضع الحالى للعالم الإسلامى هو أسوأ وضع مر به فى التاريخ 0
والمسلمون اليوم يبلغون أكثر من ألف مليون من البشر فى مختلف قارات الأرض، وهو أكبر تعداد لهم فى التاريخ، ولكنهم غثاء كغثاء السيل ،فعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ . قَالَ : قُلْنَا : وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ." (1) 0
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 457)(22397) 22760- صحيح(1/370)
لم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أن تكالب عليها أعداؤها بمثل الضراوة التي يتكالبون بها عليها في الوقت الحاضر : يذبحون ويقتلون في كل مكان غلب عليه أعداؤهم ، ويشردون من أرضهم وأموالهم ، ويسلط عليهم أعداء من داخلهم أو من خارجهم يحكمونهم بغير ما أنزل الله ، لحساب أعدائهم الذين لا يؤمنون بلا إله إلا الله ، وينتقص الوطن الإسلامي مرة بعد مرة بإقامة دول غير إسلامية في أرضه . وتفتت وحدته ، ثم تقسم الدولة منه إلى دويلات .
والفقر والجهل والمرض يتفشى في العالم الإسلامي على الرغم من أن تربته تحوي أكبر ثروات العالم على الإطلاق !
فالثروة المعدنية - والبترولية خاصة - والثروة الزراعية ، والثروة البشرية الموجودة في الأرض الإسلامية تعد أكبر من مثيلاتها عند أي دولة أخرى من دول العالم كله . ومع ذلك فالمسلمون هم أفقر أهل الأرض وأكثرهم تأخراً في جميع الميادين .
كيف حدث ذلك وما أسبابه ؟
لقد وعد الله هذه الأمة بالاستخلاف والتمكين في الأرض : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) [ النور : 55 ] .
فهل تخلى الله عن وعده لهذه الأمة ؟ حاشا لله أن يُخْلَفَ وعده ولا يتحقق .
إنما الذي تغيَّر هو وضع هذه الأمة من ربها ومن كتابها .
لقد اشترط الله عليهم شرطاً معيناً مقابل الاستخلاف والتمكين والتأمين : ( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) فأين هم اليوم من هذا الشرط ؟ أين هم من الالتزام بأمر ربهم وتحكيم شريعته ؟
لقد أعرضوا عن القرآن الكريم إعراضاً . فلا هو الذي يستمدون منه الشريعة التي تحكمهم ، ولا هو الذي يستمدون منه منهج تربيتهم ، ولا هو الذي يستمدون منه أخلاقهم وأفكارهم ومشاعرهم وأنماط سلوكهم .(1/371)
وإنما وجهتهم في ذلك كله هي أوربا ، شرقها أو غربها سواء .. فكيف يطمعون أن ينصرهم ربهم وهم معرضون عن كتابه ، وأن يمكّن لهم في الأرض وهم مخالفون لشرطه ؟
لقد ابتلى الله إبراهيم عليه السلام ذلك الابتلاء الضخم الذي أبلى فيه بلاء حسناً فكافأه الله على طاعته فقال له : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) . وعندئذ أدركته رغبته الفطرية في أن يكون هذا العهد لذريته من بعده فيكونون أئمة للناس : ( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فماذا قال له الله سبحانه وتعالى في لحظة التقريب والتكريم والإعزاز ؟ ( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 124 ] .
فهذه سنة من سنن الله الجارية التي لا تتبدل ولا تحابي أحداً . إن الله لا يعطي الناس التمكين في الأرض لأنهم من ذرية قوم مؤمنين بل لأنهم هم أنفسهم مؤمنون . فإذا تخلوا عن شرط الإيمان الصحيح فلا ينفعهم يومئذ أن يكونوا ذرية لقوم مؤمنين !
ولقد عرض القرآن علينا سيرة بني إسرائيل بتفصيل كامل لكي لا نقع فيما وقعوا فيه ، وحذرنا من ذلك تحذيراً : ( سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ البقرة : 211 ] .
فماذا كان من بني إسرائيل ؟ ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [ الأعراف : 169 ] .
والأمة الإسلامية اليوم تقف في الموقف الذي حذرها الله منه . يتركون كتابهم من أجل عرض من أعراض الحياة الدنيا ويمنون أنفسهم بالأماني الفارغة ويقولون : سيغفر لنا ! لا جرم إذن أن يكونوا على حالهم الذي هم فيه ؟!
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل .
لا يكفي أن ندعي الإيمان لنكون مؤمنين ! إنما لا بد لذلك من واقع سلوكي يصدّق هذه الدعوى ويحوّلها إلى حقيقة .(1/372)
ولقد مر على المسلمين - في انحرافهم التدريجي - وقت أصبح الدين فيه معنى قلبياً وجدانياً لا صلة له بالواقع ! ويقول الواحد منهم لا تحكم عليّ بظاهر أعمالي فانا مؤمن في داخل قلبي وهذا يكفي ، والله هو المطلع على خفايا القلوب !
من أين جاءوا بهذا التصور المنحرف لحقيقة الدين ؟ إنه أشبه شيء بالمفهوم الكنسيّ الغربي : " الدين علاقة بين العبد والرب ومحله القلب " أي لا صلة له بواقع الحياة ، وإنما هو مشاعر وجدانية داخل القلب فحسب !
إنما جاء الإسلام ليحول الدين واقعاً يعاش ! لا كما كان العرب في الجاهلية يخالفون أمر الله في الصغيرة والكبيرة ، ثم يقولون : نحن على دين إبراهيم ! ((إن الدين عند الله الإسلام))(آل عمران : 19)0
ولا يكون المسلمون مسلمين حقاً وهم يحكّمون في حياتهم شريعة غير شريعة الله ، ويتخذون تصوراتهم وأفكارهم وأنظمتهم وتقاليدهم وأنماط سلوكهم من مصدر غير المصدر الرباني ، ويتخذون القدوة لهم رجالاً ونساء من الشرق أو الغرب ، لا يؤمنون بالله ولا برسوله .
إنما الإيمان الحقيقي لا بد له من مظهر سلوكي واقعي ..
إن الإيمان يتلخص في شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، أي المبلّغ من عند الله بالحق .
وإن التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله ، له مقتضى لا بد أن يرى في واقع الحياة ، ومقتضاه هو السلوك الفردي والجماعي وفق شريعة الله .
فأما الفرد فينبغي أن يلتزم بما أمره به ربه وما نهاه عنه . وأما الجماعة فينبغي أن تحكّم شريعة الله وتقوم على هذا الأمر بجهدها كله وترفض أن تحكم بغير ما أنزل الله .
وحين يلتزم الفرد والجماعة بهذا الأمر يصبح الفرد مسلماً والجماعة مسلمة في عالم الواقع لا بالاسم ولا بالشعارات . ويصبح السلوك الواقعي في المجتمع سلوكاً إسلامياً حقيقياً ، لا كالذي نشاهده اليوم في أرجاء العالم الإسلامي : شيئاً أبعد ما يكون عن الإسلام .(1/373)
وإن قوماً ليدّعون حب الرسول صلى الله عليه وسلم ويبكون من شدة الوجد حين يذكرون اسمه الكريم .. ثم لا يهمهم بعد ذلك أن يتحاكموا إلى شريعة غير شريعة الله ، ولا أن تجري حياتهم كلها بعيداً عن منهج الله !
وما هكذا الإسلام ..
((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) [النساء : 123 - 125])) (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَخَاصَمَ أَهْلُ الأَدْيَانِ فَقَالَ أَهْلُ التَّورَاةِ : كِتَابُنَا خَيْرُ الكُتُبِ ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الأَنْبِيَاءِ .وَقَالَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ مِثْلَ ذَلِكَ .وَقَالَ أَهْلُ الإِسْلاَمِ : لاَ دِينَ إلاّ الإِسْلاَمُ ، وَكِتَابُنا نَسَخَ كُلَّ الكُتُبِ ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ، وَأُمِرْتُمْ وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بِكِتَابِنَا . فَقَضَى اللهَ تَعَالَى بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ . وَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ فَضْلُ الدِّينِ وَشَرَفُهُ ، وَلاَ نَجَاةُ أَهْلِهِ تَكُونُ بِأنْ يَقُولَ القَائِلُ مِنْهُمْ إنَّ دِينِي أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ ، بَلْ عَلَيهِ أَنْ يَعْمَل بِمَا يَهْدِيهِ إليهِ دِينُهُ ، فَإنَّ الجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى العَمَلِ ، لاَ عَلَى التَّمَنِّي وَالغُرُورِ ، فَلَيْسَ أَمْرُ نَجَاتِكُمْ ، وَلاَ نَجَاةِ أَهْلِ الكِتَابِ ، مَنُوطاً بِالأَمَانِي فِي الدِّينِ ، فَالأَدْيَانُ لَمْ تُشَرَّعْ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي ، وَلاَ تَحْصَلُ فَائِدَتُهَا بِالانْتِسَابِ إِلَيهَا ، دُونَ العَمَلِ بِهَا . فَالعِبْرَةُ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الذِي جَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الكِرَامِ ، فَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ، مِنْ أَيِّ دِينٍ كَانَ يَجِدْ جَزَاءَهُ ، وَلَنْ يَنْصرَهُ أَحَدٌ مِنْ بَأْسِ اللهِ ، وَلَنْ يُجِيرَهُ أَحَدٌ مِنْ سُوءِ العَذَابِ ، فَعَلَى الصَّادِقِ فِي دِينِهِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى العَمَلِ بِمَا هَدَاهُ إليهِ كِتَابُه وَرُسُلُهُ .
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَمَلاً صَالِحاً ، وَهُوَ مُطْمَئِنُ القَلْبِ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، فَإِنَّ اللهَ يُكَافِئُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِإِدْخَالِهِ الجَنَّةَ ، وَلاَ يُنْقِصُهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ شَيْئاً بَسِيطاً جِدّاً ( نَقِيراً ) .أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 616) وانظر تفسير ابن كثير - دار طيبة - (2 / 417) وتفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (9 / 230)(1/374)
مستقبل الأمة الإسلامية
لا خلاص للأمة الإسلامية مما هي فيه إلا بالرجوع إلى الله واتباع المنهج القرآني .
لقد جرَّب العالم الإسلامي أن يقتفي أثر الشرق أو الغرب من أجل الإصلاح .. فكانت النتيجة نكسات تلو نكسات ! والاستضعاف مستمر في الأرض ، والتقتيل والتشريد قائم ، وتفتيت وحدة المسلمين يشتد يوماً بعد يوم .
ذلك أنهم ماضون في مخالفة أمر الله والبعد عن كتابه الكريم .
وقد أخبرهم الله ورسوله أنهم لن ينتصروا ولن ينصلح حالهم إلا بالتزام أوامر الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [ محمد : 7 ] .
( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [ محمد : 38 ] .
وقد آن للأمة الإسلامية أن تعرف هذه الحقيقة وتعمل بمقتضاها .
آن لها أن تدرك أولاً أن ما بين يديها من كتاب الله وسنة رسوله خير مما يسعون إلى اكتسابه من مناهج الجاهلية : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [ المائدة : 50 ] .
وأن التشريع السماوي الذي يعرضون عنه هو أكمل تشريع وأفضل تشريع ، بينما شرائع الجاهلية كلها نقص وانحراف واختلال .
وأن منهج التربية الإسلامية هو حده الكفيل بإنشاء الإنسان الصالح ، وما سواه كله انحراف .
وتدرك أن الله أخرج هذه الأمة لتكون متميزة بذاتها وتكون في مركز القيادة لكل البشرية ، لا ذيلاً لها غير متميز السمات : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) [ البقرة : 143 ] .
وتدرك أخيراً أنه إن كان قد كتب عليها بسبب إهمالها وتفريطها أن تفقد قوتها العلمية والمادية ، وأن تتتلمذ على أوربا في هذا المجال ، فليس معنى ذلك أن تنسلخ من دينها ، وتأخذ عن أوربا نظمها وأخلاقها وأفكارها وأنماط سلوكها ، فكل تلك انحرافات جاهلية(1/375)
حذرها الله من الوقوع فيها ، وحذرها من أن أعداءها سيحاولون جذبها إليها : ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) [ النساء : 89 ] .
( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) [ آل عمران : 69 ] .
ولقد تتلمذت أوربا على المسلمين مرة من قبل فأخذت علومهم ومعارفهم لتقيم عليها نهضتها ، وأبت أن تأخذ منهم الإسلام وهو الحق ! أفلا يصنع المسلمون مثلهم فيتتلمذوا على علومهم ومعارفهم ويرفضوا أفكارهم ونظمهم وتقاليدهم وهي باطل ؟!
وحين يستقيم أمر المسلمين على هذه الصورة فيومئذ فقط يتغير واقعهم . إذا أخذوا العلم من أي مكان في الأرض يجدونه فيه ، وبقوا في الوقت ذاته على دينهم وعلى التزامهم بأمر ربهم ، فسيكونون هم الستار لقدر الله ليحدث تغييراً هائلاً في الأرض .
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : 11 ] .
فإذا غيّر المسلمون ما بأنفسهم ، وكفّوا عن إعراضهم عن كتاب الله ، وعادوا إلى الأخذ بمنهجهم القرآني ، فسيعيد الله خيراتهم إليهم - بقدر منه وبجهد يبذلونه تنفيذاً لأمر ربهم - فيصبحون أغنى أمة في الأرض : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) [ الأعراف : 96 ] .
ويصبحون من ثم أقوى أمة في الأرض ، فإن الغني هو الذي ينشئ القوة المادية التي ينتصر بها المؤمنون .
ويصبحون أداة سلام في العالم المهدد بالدمار .. لأن العالم - بمعسكريه - إنما يتنازع على امتلاكنا نحن ! امتلاك خيراتنا واستعبادنا وكسر شوكتنا . فيوم نكون نحن أصحاب ثرواتنا وملاك أنفسنا ، فسنكون القوة التي تمنع النزاع في الأرض ، أو في القليل يكون نزاعهم خارجاً عنا وليس واقعاً علينا كما هو اليوم .
- - - - - - - - - - - - - - -(1/376)
الباب الخامس
الإيمان باليوم الآخر
الإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب ، لأن أحداً لم يشهده بنفسه ، وإنما أخبرنا به الله سبحانه وتعالى عن طريق رسله الكرام . فسبيله هو النقل الصحيح مما جاء في الكتاب والسنة .
ولكن الله الذي أخبرنا عن اليوم الآخر ، وأوجب علينا الإيمان به ، وجعله ركناً من أركان الإيمان ، قد أودع الفطرة البشرية القدرة على الإيمان بالغيب ، وميز الإنسان بهذا الأمر من بين ما ميزه به وكرمه وفضله .
إن الحيوان يعيش في حدود ما تدركه الحواس فحسب ، وعالمه محصور في ذلك النطاق . ولكن الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان فلم يحصره في حدود ما تدركه حواسه فحسب ، وإنما فسح آفاقه ووسعها ، ومنحه تلك الخاصية ، وهي القدرة على الإيمان به بما لا تدركه الحواس ، فأصبحت نفسه أرحب وأعمق من الحيوان وأصبحت آفاقه أوسع وأعلى .
ولكن الجاهليات دائماً تشوه صورة الإنسان وترده أسفل سافلين بعد أن يكون الله قد خلقه في أحسن تقويم .
والجاهلية المعاصرة تريد أن ترد الإنسان حيواناً وتحصره في نطاق ما تدركه حواسه فحسب ! تريد أن تنزع عنه تلك الكرامة التي كرمه بها الله ، وتلغي من عالمه عالم الغيب كله ، بحجة الواقعية والروح العلمية !! ومن ثم تنتكس بالإنسان روحياً ونفسياً وخلقياً ، وتفقده إنسانيته في النهاية .
ولكن الله الذي كرّم الإنسان وأراد له الرفعة جعل الإيمان بالغيب أبرز صفات المتقين ! ( الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) [ البقرة : 1 - 3 ] .(1/377)
نعم ، إن الإيمان بالغيب أمر لازم من أجل الإيمان بالله واليوم الآخر ، ولذلك أبرزه القرآن في مقدمة صفات المؤمنين . ولكنه في ذات الوقت أبرز صفات الإنسان التي تميزه عن الحيوان ، وتجعل عالمه غير عالم الحيوان .
والله الذي خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وأقامه لعمارتها : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
يعلم سبحانه وتعالى ما هي الأدوات اللازمة له لكي يقوم بدور الخلافة الراشدة في الأرض ويعمرها بمقتضى المنهج الصحيح . لذلك وهب له كل المتطلبات اللازمة للمهمة التي كلفه بها لكي يكون التكليف في حدود الطاقة : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) [ البقرة : 286 ] .
لقد وهب الله له طاقة جسدية على نسق غير النسق الحيواني . فالحيوان ذو قوة بدنية قد تفوق الإنسان عشرات المرات . ولكنه لا يستطيع أن يعمل بيديه ، ولا أن يقف قائماً ، مما يحد من استخدام هذه الطاقة . أما الإنسان - وإن كان أضعف بدنياً من كثير من أنواع الحيوان - فإنه أقدر على استخدام طاقته الجسدية في مجالات شتى لا يقدر عليها الحيوان ، وذلك من متطلبات الخلافة وعمارة الأرض .
ووهب له طاقة عقلية ، تفكر وتدبر ، وتخطط وترسم ، وتستطيع أن تصل إلى كثير من الحقائق عن الكون الذي يعيش فيه الإنسان والسنن التي تجري فيه . وهذه الطاقة من أكبر الأدوات المعينة على عمارة الأرض واستخلاص الطاقات المسخرة للإنسان في السماوات والأرض من عند الله : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) [ الجاثية : 13 ] .
ووهب له كذلك القدرة على الإيمان بالغيب ، وجعلها في مقدمة الأدوات التي تعين الإنسان على القيام بدوره في الأرض ، عن طريقها يؤمن بالله واليوم الآخر ، فتتصل روحه بخالقه ، ويستقيم على أمره ، فتصلح حياته في الدنيا كما تصلح حياته في الآخرة 0
---------------
بعض الأدلة العقلية والنقلية على وجوب الإيمان باليوم الآخر(1/378)
يقول الله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) [ المؤمنون : 115 ] .
ويقول : ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) [ صّ : 27 ، 28 ] .
ويقول : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) [ الجاثية : 21 ] .
ويقول : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) [ القلم : 35 ، 36 ] .
والمعنى الذي تشير إليه هذه الآيات وأمثالها : أن الخلق يصبح عبثاً وباطلاً إذا لم يكن هناك يوم آخر يبعث فيه الناس ويحاسبون على أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا . أي أن الحياة تصبح عبثاً ، وخلق السماوات والأرض يصبح باطلاً لو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف .
ونستطيع أن ندرك بعقولنا هذا المعنى الذي تشير إليه الآيات .
فنحن نشاهد في حياتنا الدنيا ظالمين ظلوا ظالمين حتى لحظة الموت ، ومظلومين ظلوا مظلومين إلى آخر حياتهم . أفإن كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف يكون هذا عدلاً وحكمة ؟ وأين هو العدل والظالم لم يُقتصَّ منه والمظلوم لم يقتص له ؟! وأين هي الحكمة في خلق حياة تجري أحداثها على غير مقتضى العدل ، ثم تنتهي على هذه الصورة ؟
ونشاهد في الأرض كفاراً ومؤمنين ، تختلف معتقداتهم وسلوكهم ويختلف موقفهم من الخالق سبحانه . فريق استكبر وأبى أن يعبد الخالق ويطيعه ، وفريق أسلم وجهه لله وهو محسن . وتسير الحياة بأحداثها ، حتى تنتهي بموت أولئك وهؤلاء فهل يستوي المحسن والمسيء ؟ فأما في الحياة الدنيا فقد نجد الكفار ممكَّنين في الأرض ، منتفشين بالباطل ، والمؤمنين مستضعفين مشردين مطاردين ، ولو لفترة من الوقت هي فترة الابتلاء التي قدرها الله لكل دعوة وجعلها من سننه في الأرض : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا(1/379)
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [ العنكبوت : 2 ، 3 ] .
ويموت ناس وتنتهي حياتهم في فترة الابتلاء تلك ، والكفر مستعلٍ في الأرض والإيمان مغلوب على أمره لم يمكَّن بعد . فهل تستقيم الأمور على هذه الصورة مع الحق والعدل ؟
أيكون من الحق أن يكون أصحاب الحق مشردين في الأرض مستضعفين ، وأصحاب الباطل ممكَّنين منعّمين ؟
أيكون من الحق أن الذين أجابوا داعي الله فآمنوا به واستقاموا على طريقه ، يعيشون ويموتون في الهوان والذل كأنهم هم المغضوب عليهم ، وأن الذين لم يستجيبوا لله ولم يؤمنوا به يعيشون ويموتون هانئين منعّمين كأنهم هم الذين نالوا رضوان الله ؟!
إنه هكذا تكون الصورة لو انتهت الأمور بالحياة الدنيا ولم يكن هناك بعث ولا حساب في الآخرة ولا ثواب ولا عقاب .
ونشاهد عصاة لا يقفون عند حدود الله التي أمر بها ، وينتهبون اللذات في الحياة الدنيا ، وآخرين التزموا بأمر الله فلم يأخذوا من المتاع إلا ما أحلّ الله ، وهو - في الدنيا - قدر أقل دون شك مما يستمتع به العصاة الغارقون في الملذات . أفإن كانت الحياة الدنيا هي نهاية هؤلاء وهؤلاء يكون الأمر حقاً وعدلاً ؟! هل تستقيم الأمور بأن ينهب من أراد نهبته وبمضي بها بغير حساب ، بينما الملتزم يحرم نفسه من المتاع الزائد ثم يمضي بحرمانه بغير ثواب ؟!
كلا بغير شك !
ولا يجوز ذلك في حق الله .
لا يجوز في حق عدالته وحكمته سبحانه أن تكون الأمور على هذه الصورة . بل تكون الحياة عبثاً لا معنى له ولا حكمة فيه .
من أجل ذلك نجد القرآن يربط في كثير من الآيات بين خلق السماوات والأرض بالحق ، وبين بعث الناس لسؤالهم عما عملوا في الحياة الدنيا ومجازاتهم بأعمالهم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .(1/380)
( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) [ التغابن : 3 ] .
( وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ ، يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ، مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ ) [ إبراهيم : 15 - 19 ] .
والمؤمنون يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ولم يخلقهما باطلاً ، فيدركون أنه لا بد من بعث وحساب فيدعون الله أن يجنبهم النار :
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) [ آل عمران : 190 ، 191 ] .
وهكذا يؤكد القرآن أنه لو لم يكن هناك بعث وحساب فإن هذا يكون عبثاً لا يقتصر على حياة الإنسان وحده ، بل يمتد كذلك إلى خلق السموات والأرض فيصبح كله عبثاً وباطلاً وقائماً على غير الحق !
ولقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه خلق الموت والحياة ليبلونا أيّنا أحسن عملاً : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [ الملك : 1 ، 2 ] .
وأخبرنا كذلك أنه جعل ما على الأرض زينة لها لنفس الغاية : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [ الكهف : 7 ] .
فإذا كان الموت هو النهاية التي تنتهي عندها الأمور جميعاً فأين حكمة خلق الموت والحياة ؟ وكيف يتميز الذين أحسنوا العمل من الذين أساءوا ؟ وأين الحكمة في جعل ما على الأرض زينة لها ؟!(1/381)
إن نقطة الابتلاء في حياة الإنسان هي هذه الزينة الموجودة في الأرض : هل يتناول منها الإنسان القدر الذي أباحه الله وأحله ؟ أم ينتهب ما حرمه الله ولا يلتزم بطاعته ؟
فإذا كانت نهاية هذا وذاك متساويتين بالموت فقد انتفت الحكمة ولم يعد هناك معنى للابتلاء بالزينة ما دام الأخذ منها بالحلال كالأخذ بالحرام سواء ! والمفتون بها عن طاعة الله كالذي نجا من الفتنة واستقام !
لذلك يجيء هذا السؤال الإنكاري : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) ، ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .
حاشا لله أن يكون ذلك !
إنما ذلك ظن الذين كفروا ! هم الذين يظنون أن الأمر سواء ، وأنه لا حساب ولا عقاب ! فكأنهم بذلك يقولون إن الله خلق السماوات والأرض باطلاً : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) [ صّ : 27 ، 28 ] .
ولقد نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا ينكرون البعث . ولكن العجيب أن الجاهلية المعاصرة تنتج نماذج تنطبق عليها الآية كأنما هي مفصلة على قدّها تماماً ! فهذا " سارتر " الكاتب الوجودي الملحد ، يقول إن الوجود كله عبث وكله باطل ! وإن حياة الإنسان لا معنى لها ولا حكمة فيها ! ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) .
إنه حين لا يؤمن الإنسان بالله واليوم الآخر فهكذا تصبح صورة الحياة في حسه ، وهكذا تصبح صورة الكون كلها : السماء والأرض وما بينهما ، بما فيها حياة الإنسان .
ولا تستقيم الصورة ولا يتبين الحق ، حتى توضع التكملة الطبيعية للحياة الدنيا ، وهي اليوم الآخر الذي يحاسب الناس فيه فيكرمون أو يهانون . عندئذ يتضح الحق في خلق السماوات والأرض ، والحق في خلق الإنسان وحياته على الأرض . وتتبين الحكمة في خلق الحياة والموت ، والحكمة في جعل ما على الأرض زينة لها .(1/382)
ولكن الجاهلية تقطع الصورة فتشوهها ، ثم تقول : إن الحياة لا معنى لها ولا حكمة فيها ! ولقد كان الدهريون من قبل على نفس المستوى من الحماقة التي عليها كفار اليوم وفلاسفتهم " الملحدون " ! ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) [ الجاثية : 24 ] .
وسواء قالوا ذلك استكثاراً على الله أن يقدر على بعث الموتى ، أو نفياً لوجود الله ألبتة ، فقد عجزت بصيرتهم المطموسة عن إدراك الحق الذي خُلقت به السماوات والأرض ، والحياة والموت ، فعاشوا كالسائمة ، لا يدركون لحياتهم معنى ولا لوجودهم هدفاً : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) [ محمد : 12 ] 0
===================
أثار الإيمان باليوم الآخر
فى سلوك الفرد والجماعة
للإيمان باليوم الآخر أهمية بالغة في حياة الإنسان وآثار عميقة ، ونستطيع أن نفهم على ضوء هذه الحقيقة كيف أن القرآن ربط في كثير من المواضع بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر ، فيجيئان متتاليين ومترابطين سواء في الإثبات أو النفي .
( يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) [ آل عمران : 114 ] .
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) [ البقرة : 8 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) [ البقرة : 264 ] .
( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [ التوبة : 29 ] .(1/383)
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) [ البقرة : 177 ] .
وهكذا يرتبط الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله مباشرةً كأنه مكمِّل له .
ونستطيع أن ندرك أهمية الإيمان باليوم الآخر في سلوك الفرد وسلوك الجماعة إذا عرفنا نفسية الشخص الذي لا يؤمن بالآخرة وطبيعة تصوره للحياة الدنيا وطريقة شعوره بها .
إن الحياة الدنيا في حسه هي الأولى والأخيرة . والعمر فرصة واحدة إن لم تنتهب فسوف تضيع ! وإذا كان العمر - مهما طال - محدوداً بسنوات ، ولذائذ الحس كثيرة ومتنوعة ، فالبدار البدار !
هكذا تكون القضية في حس الذي لا يؤمن باليوم الآخر . فرصة وحيدة محدودة ينبغي أن تُنتهز ويُؤخذ فيها أكبر قدر من الملذات .. ولذلك تتكالب الجاهليات دائماً على متاع الأرض وتتصارع فيه ، وتنحصر اهتماماتها في حدود الحياة الدنيا .
والجاهلية المعاصرة نموذج لما نقول ..
فما الذي يشغل الأفراد فيها ويشغل الجماعات ؟
أما الفرد فهو يعمل وينتج . ولكن لأي هدف ؟ ليحصل على أكبر قدر يستطيع الحصول عليه من المال ، ثم ينفق هذا المال في الحصول على أكبر قدر من المتاع ، يستوي في حسه أن يكون من المتاع الحلال أو الحرام ! بل إن فكرة الحرام لا تخطر على باله في سبيل الجد ! فالأصل عنده هو الاستمتاع ، قبل أن تفوت الفرصة التي إن مضت لا تعود ! فما معنى الحرام في حسه ؟! إنه ليس إلا قيداً على المتاع ! وهو قيد - في نظره - غير معقول ولا موجب له ، لأنه يضيّع الفرص المحدودة التي لن تعود !
لذلك أيضاً فإن قيد الأخلاق وقيد الضمير وقيد المشاعر الإنسانية كلها قيود غير معقولة ، كقيد الحرام سواء بسواء ! ومن ثم تفسد الأخلاق في الجاهلية ، ويضعف وازع الضمير وتحل المصلحة محله . أما المشاعر الإنسانية والقيم العليا فتُعدّ سخفاً وسذاجة لا تليق بإنسان عاقل ، إذا هي فوتت عليه فرصة للمتاع !(1/384)
أما الأمم والجماعات فقصتها لا تختلف كثيراً عن قصة الفرد .
فلأي شيء تعمل ولأي شيء تعيش حين لا تؤمن باليوم الآخر ؟
كل جماعة همها الحصول على أكبر قدر من المتاع ( أو المزايا بتعبيرهم ! ) على حساب جماعة أخرى ! وكل أمة همها أن تتغلب على أمة أخرى لتسلبها حظها من المتاع وتأخذه لنفسها فتنشأ من ذلك الصراعات والحروب .
وأين القيم العليا ؟ وأين حقوق الإنسان ؟ وأين الضمير العالمي ؟ وأين العهود والمواثيق ؟ وأين التعاون في سبيل الخير ؟ وأين العدل ؟ وأين الإخاء والمساواة ؟
إنها كلها - في الجاهلية - ألفاظ ! يلوكها الناس نفاقاً ورياء ، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون ! لأنها كلها معوقات عن المتاع في الفرصة الوحيدة المتاحة للمتاع !
ويتقاتل الناس ، ويموت منهم من يموت ، ولكنهم يموتون وهم يقاتلون في سبيل هذا المتاع الأرضي ، فإذا قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، أو في سبيل الحق المجرد الذي لا مصلحة لهم فيه مباشرة ، هزوا أكتافهم وأعرضوا عنك ، إن لم يهبّوا لمقاتلتك أنت ، لأنك تدعوهم إلى شيء يفسد عليهم مصالح الدنيا ومتاع الأرض !
ومن ثم تهبط القيم في الجاهليات وتنحصر الآفاق ، كما يضعف الضمير وتفسد الأخلاق . إنه لا شيء يرفع الإنسان من ثقلة الأرض - بعد الإيمان بالله - إلا الإيمان باليوم الآخر . الإيمان بأن كل متاع زائل يتنازل عنه الإنسان في الحياة الدنيا - طاعةً لله والتزاماً بأمره - يعوض عنه في الآخرة متاعاً أشفّ وأعلى وأخلد وأبقى . والإيمان في ذات الوقت بأن كل خروج على أمر الله في الحياة الدنيا - من أجل متاع الأرض الزائل - سيجازى عليه في الآخرة عذاباً ليس في طوق البشر احتماله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ) [ النساء : 56 ] .(1/385)
وحين يؤمن الإنسان باليوم الآخر إيمان اليقين تحسم القضية في حسه حسماً كاملاً وتستقر الأمور . فكل نعيم في الدنيا لا يقاس إلى نعيم الآخرة . ولا يساوي من جهة أخرى غمسة واحدة في العذاب من أجله ، وكل عذاب في الدنيا - في سبيل الله - لا يقاس إلى عذاب الآخرة ولا يوازي من جهة أخرى غمسة واحدة من أجله في النعيم .
وعندئذ يقدر الإنسان على موازنة ثقلة الأرض ، ويقدر على الارتفاع إلى القيم العليا والأخلاق الفاضلة والمثل الرفيعة ، لأنه يوقن بالجزاء الذي سوف يناله على ذلك كله : ( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) [ آل عمران : 15 - 17 ] .
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ التوبة : 71 ، 72 ] .
وعندئذ يوجد الفرد الصالح والجماعة الصالحة التي تتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على الإثم والعدوان . وتوجد أمة تستحق هذا الوصف : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] .
أمة تفي بهذا الأمر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ المائدة : 8 ] .
وتوفي هذا الطلب : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) [ النساء : 75 ] .(1/386)
وتتوافر فيهم هذه الصفات : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ المؤمنون : 1 - 11 ] .
==================
الحقائق التى يشملها الإيمان باليوم الآخر (1)
يشتمل الإيمان باليوم الآخر على مجموعة من الحقائق وردت في الكتاب والسنة فلزم الإيمان بها جميعاً . وهي : فتنة القبر وعذابه ونعيمه ، والساعة وأماراتها والبعث ، والحشر ، والحساب وما يتبعه من ثواب وعقاب ، والصراط ، والجنة والنار .
1- فتنة القبر وعذابه ونعيمه (2) :
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ فى دعائه من عذاب القبر ( وهو الذى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر!) فيقول : « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ » (3) .
وقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ" (4) 0 ...
ويقول الله عن آل فرعون : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) [ غافر : 45 ، 46 ] .
ويقول عن قوم نوح : ( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً ) [ نوح : 25 ] 0
__________
(1) - انظر التفاصيل في كتابي (( الواضح في أركان الإيمان )) وكتابي (( الإيمان بيوم القيامة وأهواله ))
(2) - انظر كتابي (( الاستعداد للموت ))
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2823 )
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 2) (1205) وسنن الترمذى- المكنز - (2648 ) حسن(1/387)
ولا نستطيع أن نعلم على وجه اليقين كيف تكون صفة النعيم والعذاب فى القبر، فذلك غيب لم يحدثنا الله ورسوله عن تفصيلاته، ولا مصدر لنا لمعرفته إلا ما يخبرنا به الله ورسوله، وكل ما أخبرنا به عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الميت حين يدفن فى قبره يدخل عليه ملكان فيقيمانه فيقعدانه ويسألانه عن أعماله كلها فى الحياة الدنيا فلا يجب إلا بالحق. ثم إنه يجد قبره روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار بحسب أعماله التى سلفت منه. وذلك كله قبل يوم الحساب الأكبر وما يتبعه من ثواب وعقاب (1) 0
__________
(1) - قلت : وأصح حديث مفصل ورد عن نعيم القبر وعذابه عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى جِنَازَةٍ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْقَبْرِ ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ وَهُوَ يُلْحَدُ لَهُ ، فَقَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، تَنَزَّلَتْ إِلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ كَأَنَّ عَلَى وُجُوهِهِمُ الشَّمْسَ ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَنٌ وَحَنُوطٌ ، فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ ، صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلاَّ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ : أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ ، فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ قَالُوا : رَبِّ عَبْدُكَ فُلاَنٌ ، فَيَقُولُ : أَرْجِعُوهُ ، فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ,قَالَ : فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ ، إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ ، فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ مَا دِينُكَ ؟ مَنْ نَبِيُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ ، وَدِينِيَ الإِِسْلاَمُ ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ مَا دِينُكَ ؟ مَنْ نَبِيُّكَ ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ ، وَدِينِيَ الإِِسْلاَمُ ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَقُولُ لَهُ : صَدَقْتَ ، ثُمَّ يَأْتِيهِ آتٍ حَسَنُ الْوَجْهِ ، طَيِّبُ الرِّيحِ ، حَسَنُ الثِّيَابِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِكَرَامَةٍ مِنَ اللهِ وَنَعِيمٍ مُقِيمٍ ، فَيَقُولُ : وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ، مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ ، كُنْتَ وَاللَّهِ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللهِ ، بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَبَابٌ مِنَ النَّارِ ، فَيُقَالُ : هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ هَذَا ، فَإِذَا رَأَى مَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ : رَبِّ عَجِّلْ قِيَامَ السَّاعَةِ كَيْمَا أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي ، فَيُقَالُ لَهُ : اسْكُنْ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ، فَانْتَزَعُوا رُوحَهُ ، كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشِّعْبِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ ، وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ مَعَ الْعُرُوقِ ، فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ ، إِلاَّ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ : أَنْ لاَ تَعْرُجَ رُوحُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ ، فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ ، قَالُوا : رَبِّ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ عَبْدُكَ ، قَالَ : أَرْجِعُوهُ ، فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ، قَالَ : فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ ، إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ ، قَالَ : فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ مَا دِينُكَ ؟ مَنْ نَبِيُّكَ ؟ فَيَقُولُ : لاَ أَدْرِي ، فَيَقُولُ : لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَوْتَ ، وَيَأْتِيهِ آتٍ قَبِيحُ الْوَجْهِ ، قَبِيحُ الثِّيَابِ ، مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنَ اللهِ ، وَعَذَابٍ مُقِيمٍ ، فَيَقُولُ : وَأَنْتَ ، فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ ، كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا ، ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا ، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ.قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ النَّارِ وَيُمَهَّدُ مِنْ فُرُشِ النَّارِ." مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 342)(18614) 18815- صحيح(1/388)
ومن ثم فإن ما درج على ألسنة الناس من الحديث عن ((راحة الموت)) ليس حقاً إلا بالنسبة للمؤمن الذى عمل صالحاً ! أما المسئ فلن يجد فى موته ولا فى قبره راحة. إنما يجد العذاب يتسلمه من أول لحظة.. ثم عذاب الآخرة أشد (1) 0
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ ، وَنَحْنُ مَعَهُ ، إِذْ حَادَتْ بِهِ ، فَكَادَتْ تُلْقِيهِ ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ ، أَوْ خَمْسَةٌ ، أَوْ أَرْبَعَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، قَالَ : فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاَءِ ؟ قَالَ : مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا ، فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا ، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ، فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ، فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، قَالُوا : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ." (2) 0
2- الساعة وأماراتها :
من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالساعة . وهي الساعة التي تنتهي فيها الحياة الدنيا بجميع أوضاعها ، وتبدأ القيامة بكل أهوالها . ويصف القرآن الساعة وأحداثها وصفاً يهز النفس من أقطارها ، ويبعث الرهبة في أعماقها .
__________
(1) - عَنْ أَبِى قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِىٍّ الأَنْصَارِىِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ « مُسْتَرِيحٌ ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ « الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ » صحيح البخارى- المكنز - (6512 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2245 )
(2) - المسند الجامع - (5 / 865) (3854) وصحيح مسلم- المكنز - (7392 )(1/389)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) [ الحج : 1 ، 2 ] .
( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ، أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ، يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ) [ النازعات : 6 - 10 ] .
( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ) [ التكوير : 1 - 14 ] .
( إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) [ الانفطار : 1 - 5 ] .
( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ، فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي ) [ الفجر : 21 - 30 ] .
( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ، السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) [ المزمل : 17 ، 18 ] .
إنه الهول الذي يشمل السماوات والأرض ، ويغير صورة الكون كله ، فتنشق السماء وتنتثر الكواكب وتزلزل الأرض ، وتسجر البحار فتشتعل ناراً ، والمألوف فيها أنها هي التي تطفئ النار ! وتنسف الجبال نسفاً :
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ) [ طه : 105 - 108 ] .(1/390)
ولا يعود شيء واحد في مكانه ولا على صورته التي كان عليها .. وفي هذا الهول الهائل يبعث الناس فيسألون !
ولاقتراب الساعة أمارات يذكرها القرآن والأحاديث .
ولقد اقتربت الساعة منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فجاء عنها في كتاب الله الكريم : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) [ القمر : 1 0
قال سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ - رضى الله عنه - : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا بِالْوُسْطَى وَالَّتِى تَلِى الإِبْهَامَ « بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ » (1) 0
ولكن مقياس الزمن عند الله غير مقاييسنا ! فحين أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم مشركي العرب باقتراب الساعة حسبوا أنها أيام معدودة - بحسابهم - ثم تأتي الساعة ، فلما رأوها لم تأت قالوا له : أين العذاب الذي أنذرتنا به ؟ وأين يوم القيامة الذي زعمت أنه قريب ؟ فرّد عليهم الله في أكثر من آية : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ، يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) [ القيامة : 5 ، 6 ] .
( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) [ الحج : 47 ] .
( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) [ الشورى : 17 ، 18 ] .
وثم أمارات أخرى لاقتراب الساعة يشملها حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِىِّ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ « مَا تَذَاكَرُونَ ».قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ « إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ». فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4936)(1/391)
وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ. (1) 0
وفى حديث : قَالَ: فَمَا أَشْرَاطُهَا ؟ قَالَ: " إِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَوَلَدَتِ الْإِمَاءَ أَرْبَابَهُنَّ " . ثُمَّ قَالَ: " عَلَيَّ بِالرَّجُلِ " فَطَلَبُوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَلَبِثَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ قَالَ: " يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ عَنْ كَذَا وَكَذَا ؟ " قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " ذَاكَ جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ " (2) 0
فإذا بدأت أحداثُ الساعة نُفِخَ في الصور نفخةً أولى ثم نفخةً ثانية :
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) [ الزمر : 68 ] .
فالنفخة الأولى يصعق فيها كل من بقي حياً في السماوات والأرض إلا من شاء الله فيخرون موتى . والنفخة الثانية يقوم فيها الناس من أجداثهم ليوم الحشر 0
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ » . قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ . قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ . قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ . قَالَ « ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً . فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا وَهْوَ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (3) 0
3- البعث :
كان من أشد ما عجب له المشركون في مكة وشككهم في الساعة وكل ما يدور حولها قضية البعث !
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [ سبأ : 7 ] .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7467 ) ، وانظر التفاصيل في كتابي (( الخلاصة في أشراط الساعة الكبرى ))
(2) - شعب الإيمان - (1 / 113) (19) وصحيح مسلم- المكنز - (102)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (4935 ) و صحيح مسلم- المكنز - (7603 )(1/392)
( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) [ الإسراء : 49 ] .
( وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) [ الواقعة : 47 ، 48 ] .
وقد كان شكُّهم مبنياً على جهالات شتى !
فهم أولاً لم يقدروا الله حق قدره ، إذ استكثروا على قدرته سبحانه وتعالى أن يبعث الموتى ! ولو كانوا يقدرونه سبحانه حق قدره ، ويستيقنون من عظمته جل جلاله وقدرته التي لا يعجزها شيء ما استكثروا على هذه القدرة شيئاً على الإطلاق .
وهم ثانياً لم يقدروا معجزة الخلق الماثلة أمامهم حق قدرها ! ولو قدروها حق قدرها لعرفوا أنها من الضخامة والإعجاز بحيث أن القادر عليها لا يمكن أن يعجزه شيء ، لأنه لا يوجد شيء أكثر إعجازاً من هذا الخلق الماثل أمامهم !
إن الحسَّ يتبلد على الأشياء فيعمى عن دلالتها ! ولأن السماوات والأرض والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والموت والحياة ، كلها ماثلة أمام الحس فإنه يتبلد عليها بالإلف والعادة ولا يعود يقدّر ما فيها من إعجاز .
وإلا فلو أن الإنسان تذكر أو أزال الغشاوة عن بصيرته فرأى حقائق الكون المذهلة ، لأحسَّ بالإعجاز في الصغيرة والكبيرة ، وأحسّ أنّ من أنشأ هذا من العدم - جلت قدرته وجل ثناؤه - لن يعجز عن إعادة خلقه مرة أخرى متى شاء !
حقيقة إن علمهم بالكون لم يكن قد تقدم كما هو اليوم . ولكن القدر المشاهد المعلوم من الكون لأي إنسان مهما كان مقدار علمه ، يكفي لرؤية الإعجاز في صنعة الله . لذلك كان الله سبحانه وتعالى يخاطبهم بما يرونه أمامهم من معجزات الخلق ، ثم يقول لهم : إن من صنع هذا كله لا يعجز عن إعادته وخلقه من جديد .(1/393)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) [ الحج : 5 - 7 ] .
( وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ الروم : 27 ] .
( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ الأحقاف : 33 ] .
وفي سورة " ق " مناقشة مستفيضة لهذه الجهالة على منهج القرآن من لفت نظر البشر إلى معجزات الخلق الماثلة أمام أعينهم ليقيسوا عليها ، ويعلموا أن القادر على هذه يقدر على البعث ، لأن البعث ما هو إلا خلق جديد :
( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ، أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ، رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ(1/394)
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ، أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [ ق : 1 - 15 ] .
وكذلك كان رد القرآن الكريم على ذلك المنكر المتبجج الذى تناول قطعة عظم رميمة من الأرض ففركها بين إصبعيه ونفخها فى وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال فى جهالة منطمسة البصيرة: أيستطيع ربك أن يبعث هذه؟! (1)
( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ يس : 77 - 83 ] .
إن قضية الخلق واحدة في الأولى والآخرة . والذي يسلم عقله بأن الله هو الذي خلق كل ما في الكون من موجودات حاضرة ينبغي له - بنفس المنطق - أن يسلم بقدرة الله على البعث والخلق من جديد ، فإن الكون حين خُلق لم يكن موجوداً ألبتة فأوجده الله من العدم . أفكانت قدرة الله موجودة مرة واحدة من قبل ثم كفت عن الوجود ولم يعد الله قادراً على خلق من نوع الخلق الأول بل أهون منه ؟ وحتى هذه الشبهة الساذجة لا موجب لها فإن الخلق - بكل معجزاته - قائم ومستمر ! فمن أين يأتي كل جنين يولد ، ولم يكن كائناً من قبل ، ومن أين تُنْبِتُ الأرض ما تنبت من زرع ؟ أليس هذا خلقاً متجدداً يرونه أمام أعينهم ؟! فإن قال أحد كما يقول المتبجحون اليوم إن هذا كله يتولد من بذور حية ، فمن الذي أودع الحياة في البذور أول مرة ، ومن أودع فيها القدرة على النماء ؟
كلا ... إنه انطماس البصيرة ليس غير !
__________
(1) - انظر تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (20 / 553)(1/395)
إن الناس يأخذون قضية الخلق الراهنة كأنها حادثة من تلقاء ذاتها . وتلك مصيبة الناس حين تنطمس بصيرتهم فيعمون عن آيات الله المعجزة في الخلق ، فيستكثرون على قدرته سبحانه أن يخلق من جديد !
والجاهلية المعاصرة مصيبتها أكبر ! فقد عرفت من طريق العلم إلى أي حد هذا الكون معجز في خلقه ومعجز في كل تفصيلاته ، وفغروا أفواهم عجباً كلما كشف لهم العلم جديداً من أسرار الكون الدقيقة ، وخاصة في عالم الذرة ومحتوياتها . ومع ذلك يستكبرون ! ويفرون من مجابهة الحقيقة فيقولون : إنها الطبيعة (1) ويصنعون كما صنعت الجاهلية القديمة فينكرون على الله أن يقدر على البعث !
وما زال تحدي القرآن ماثلاً أمامهم : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) [ الطور : 35 ] .
وما زال وعيده لهم قائماً : ( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ، يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) [ الطور : 45 ، 46 ] .
ذلك أنهم علماء مزيفون : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [ الروم : 7 ] .
أما العلماء الحقيقيون فهم أولى الناس بالإيمان بالله والإيمان بالبعث : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [ فاطر : 28 ] 0
4- الحشر
يبعث الله الموتى ثم يحشرهم جميعاً ليقفوا بين يدي مولاهم يسائلهم عن أعمالهم .
ويصف القرآن الكريم هول الحشر كما وصف أهوال الساعة :
( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) [ عبس : 34 - 37 ] .
إنه الهول الذي يفرق بين الأقرباء والأصدقاء ، ويشغل كل إنسان بنفسه عن الآخرين ولو كانوا ألصق الناس به في الحياة الدنيا ( يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) [ القمر : 7 ، 8 ] .
( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) [ المعارج : 43 ] .
__________
(1) لا يناقش أولئك الجاهليون قضية ((الطبيعة)) مناقشة منطقية ولا مناقشة علمية، فما هى على وجه التحديد؟!(1/396)
ويصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الحشر ،فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً » قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ . فَقَالَ « الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ » (1)
ولكن الناس ليسوا سواء في ذلك اليوم العصيب . إنما تختلف أحوالهم باختلاف أعمالهم : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) [ القيامة : 22 - 25 ] . ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ، ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) [ عبس : 38 - 42 ] .
( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) [ الزمر : 60 ] .
( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ يونس : 26 ، 27 ] .
( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ) [ مريم : 85 ، 86 ] . ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ، يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ) [ طه : 102 - 104 ] . ( وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ) [ الإسراء : 97 ] 0
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنِى الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا يَعْنِى بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِى تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ. قَالَ « فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6527 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7377)(1/397)
يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا ». قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. (1) 0
وهكذا تختلف أحوال الناس فمنهم من يلقى في روعه الفزع والخوف نتيجة سوء عمله فهو ذاهل مضطرب ، مظلم الوجه مكفهر ، وفوق ذلك يلقى الإهانة فيساق سوقاً كالبهائم ، وإلى شر مكان يُساق ، ومنهم من يُلقى في روعه الطمأنينة والاستبشار فهو ينتظر تحقيق وعد ربه بدخوله جنات النعيم ، وفوق ذلك يلقى الحفاوة والتكريم . إنه من المتقين الذين يحشرون إلى الرحمن " وفداً " ، والوفد دائماً يلقى الحفاوة وحسن الاستقبال
5- الحساب :
بعد أن يُحْشَرَ الناسُ في هذا الهول الذي يَشْغلُ الإنسانَ عن أقرب المقربين إليه في الدنيا .. يبدأ العرض والحساب : ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) [ الكهف : 48 ] .
والناس في الدنيا يرهبون أن يقفوا صفاً ليعرضوا أمام أحد من الحكام مهما صغر مقامه ليتبين البريء من المذنب بعد السؤال والتحقيق . وهو بشر مثلهم لا يزيد عليهم في شيء إلا السلطة التي يملكها في يديه ! وتزداد رهبتهم كلما عظم مقام الحاكم أو عظمت السلطة التي يملكها . ويستبطئون الزمن الذي يمر عليهم وهم في حالة الترقب والانتظار هذه حتى يقضى في أمرهم ، وهو زمن محدود لا يزيد على ساعات أو أيام إذا طال . تمر الدقيقة منها كأنها دهر !
فكيف يكون حالهم وهم وقوف بين يدي الملك العزيز الجبار ؟ وفي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟! ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ، وَنَرَاهُ قَرِيبًا ، يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ، وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ) [ المعارج : 4 - 10 ] .
إن الخيال ليعجز عن التصور . وكل ما يملكه أن يقيس حال الناس وهم معروضون أمام الحاكم ليحقق معهم ، ثم يظل يضاعفه أضعافاً ليقترب من تصور ذلك الموقف الرهيب
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7385 ) -حقويه : خاصرتيه(1/398)
بين يدي رب العالمين : ( وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ، يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) [ طه : 108 - 111 ] .
ثم يأتي دور السؤال ..
واحد بعد واحد من هذا الصف الطويل الذي يحتوي البشر كلهم من أول آدم ، إلى آخر الخلق ، يجيء دوره فيُسأل : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ الحجر : 92 ، 93 ] .
ولئن كان العرض مهولاً ، فالسؤال أشدّ هولاً .
ألا ترى إلى البشر وهم واقفون أمام الحاكم ليسألهم ، كيف يكون حالهم حين يجيء دورهم في السؤال ؟! إن وجوههم لتكفهرّ وهم في العرض لم يصلوا بعد إلى السؤال ، فإذا جاء دورهم اضطربت أنفاسهم ، ووجبت قلوبهم ، وزاغت أبصارهم ، حتى يبدأ السؤال فتبدأ معه محنتهم إن كانوا مذنبين .
هذا وهُمْ يملكون اللفّ والدوران ، ويملكون الكذب على الحاكم ، والتهرب من مواجهة السؤال ! ... فكيف وهم في الموقف الرهيب لا يملكون حتى ألسنتهم ! فإنها تشهد عليهم ، وحتى جلودهم وجوارحهم ...
( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) [ النور : 24 ، 25 ] .
( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ يّس : 65 ] .
( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ(1/399)
كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ، فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ) [ فصلت : 19 - 24 ] .
ألا إنهم لا يملكون إلا أن يعترفوا بذنوبهم ، وأن يشهدوا على أنفسهم .
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) [ الأنعام : 130 ] .
وشهدوا أو لم يشهدوا .. لا مفرّ !
هذه هي الموازين توضع ، وتوزن فيها الأعمال .
( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) [ الأنبياء : 47 ] .
( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) [ لقمان : 16 ] .
( وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) [ المؤمنون : 62 ] .
( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) [ الكهف : 49 ] .
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) [ آل عمران : 30 ] .
( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) [ الإسراء : 13 ، 14 ] .
ويختلف وضع الناس من كتابهم ، بعضهم يؤتاه باليمين وبعضهم يؤتاه بالشمال ( أو من وراء ظهره ) :(1/400)
( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ، وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ ) [ الحاقة : 19 - 37 ] .
( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ، وَيَصْلَى سَعِيرًا ) [ الانشقاق : 7 - 12 ] .
وأولئك هم الذين يسميهم القرآن أصحاب اليمين وأصحاب الشمال أو أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة .. ولكل منهما مصير !! (1)
6- الصراط :
فإذا انتهى العرض والسؤال ، وُزنت الأعمال ، وتقرر المصير ، فكل يؤخذ إلى مصيره : فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير .
__________
(1) - قلت : لم يذكر أحاديث عن الميزان ، وهذان حديثان ، فعَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ لَوَسِعَتْ ، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ : يَا رَبِّ ، لِمَنْ يَزِنُ هَذَا ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي ، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ : سُبْحَانَكَ ، مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ مِثْلَ حَدَّ الْمُوسَى ، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ : مَنْ تُجِيزُ عَلَى هَذَا ؟ فَيَقُولُ : مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِي ، فَيَقُولُ : سُبْحَانَكَ ، مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ "المستدرك للحاكم (8739) صحيح
وعَنْ سُلَيْمَانَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، يَقُولُ:"تَخْرُجُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُلَّةٌ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ يَسُدُّ الأُفُقَ، نُورُهُمْ مِثْلَ الشَّمْسِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ، النَّبِيَّ الأُمِّيَّ، فَيَتَحَسَّسُ لَهَا كُلُّ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ، فَيُقَالُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ وَلا عَذَابٌ، ثُمَّ تَخْرُجُ ثُلَّةٌ أُخْرَى غُرٌّ مُحَجَّلُونَ، نُورُهُمْ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، يَسُدُّ الأُفُقَ نُورُهُمْ، فَيُنَادِي مُنَادٍ، النَّبِيَّ الأُمِّيَّ، فَيَتَحَسَّسُ لَهَا كُلُّ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ، فَيُقَالُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ ثُلَّةٌ أُخْرَى غُرٌّ مُحَجَّلُونَ، نُورُهُمْ مِثْلُ أَعْظَمِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ يَسُدُّ الأُفُقَ نُورُهُمْ، فَيُنَادِي مُنَادٍ، النَّبِيَّ الأُمِّيَّ، فَيَتَحَسَّسُ لَهَا كُلُّ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ، فَيُقَالُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، ثُمَّ يَجِيءُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يُوضَعُ الْمِيزَانُ وَالْحِسَابُ".المعجم الكبير للطبراني - (7 / 190) (7625 ) صحيح لغيره(1/401)
وهم في طريقهم يمرون على الصراط . فأما من كان مصيره إلى النار فهو يهوي من الصراط إلى جهنم حيث يتسلمه العذاب على التو . وأما من كان مصيره إلى الجنة فهو يرى النار رؤية من بعيد ، ليعرف فقط مصير الكفار ، وليعرف أي عذاب أنجاه الله منه ، ثم يستمر في طريقه إلى حيث يرحب به الملائكة الأبرار .
( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) [ مريم : 71 ، 72 ] .
عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى سَعِيدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَحَدَّثَنِى مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أُنَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ « هَلْ تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ ، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِى يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى الصُّورَةِ الَّتِى يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا ، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ، وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ » . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، مِنْهُمُ الْمُوبَقُ ، بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ ، ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ ، مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ(1/402)
عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا ، فَاصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ . فَيَقُولُ لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ . فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ . فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ قَرِّبْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلْنِى غَيْرَهُ ، وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ . فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو . فَيَقُولُ لَعَلِّى إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ . فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ . فَيُعْطِى اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ يَقُولُ رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ . ثُمَّ يَقُولُ أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ ، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِى أَشْقَى خَلْقِكَ . فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا ، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ تَمَنَّ مِنْ كَذَا . فَيَتَمَنَّى ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا . فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِىُّ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً (1) 0
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ نَاسًا فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ ». قَالَ « هَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ ». قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « مَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. فَلاَ يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ قَالُوا عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6573 ) وصحيح مسلم- المكنز - (469 )
الذكاء : لهب النار واشتعالها -تضارون : لا تتخالفون ولا تتجادلون فى صحة النظر -قشبنى : سمنى وأهلكنى -امتحشوا : احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام(1/403)
كَذَبْتُمْ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. - قَالَ - فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِى أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا.قَالَ فَمَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِى الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِى صُورَتِهِ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ قَالَ « دَحْضٌ مَزِلَّةٌ. فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ. حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِى اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِى النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِىَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ. فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا. ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا. ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ». وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ(1/404)
يَقُولُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) « فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِى نَهْرٍ فِى أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ أَلاَ تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ ». فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ « فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ.فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا أَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. فَيَقُولُ رِضَاىَ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ». (1) 0
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وحُذَيْفَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ - قَالَ - فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ». قَالَ قُلْتُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَىُّ شَىْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قَالَ « أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِى طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِىءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا - قَالَ -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (472 )
الحبة : بذور العشب البرية - الحسك : جمع حسكة وهى الشوكة الصلبة -تضارون : لا تتخالفون ولا تتجادلون فى صحة النظر -المكدوس : المدفوع من ورائه(1/405)
وَفِى حَافَتَىِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِى النَّارِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا. (1) 0
7 - الجنة والنار :
هنا نصل إلى نهاية المطاف ..نهاية الرحلة الطويلة التي بدأ طرف منها على الأرض في الحياة الدنيا ، واليوم تصل إلى نهايتها بعد البعث والحشر والعرض والسؤال :
( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ، فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) [ الأعراف : 29 ، 30 ] .
هنا تكتمل الصورة ، ويحقّ الحق ، ويصل كل شيء إلى قرار .
أما الذين استقاموا في حياتهم الدنيا على الطريق ، فآمنوا بالله ، والتزموا بأوامره وأيقنوا بيوم لقائه ، فتجنبوا سخطه وسعوا إلى رضاه ، وكدوا في سبيل ذلك وكدحوا ، واحتملوا ما احتملوا من مشقة ، وصبروا على ما لاقوا من الأذى والنصب في الطريق ، فأولئك قد استحقوا رضوان الله وجنته . استحقوا أن يصلوا إلى دار الأمان حيث لا شيء يقلق ولا شيء يخيف ، ولا شيء ينغص النعيم : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) [ الدخان : 56 ] .
وأما الذين كفروا وكذبوا ، وأصروا على غيّهم ، وخالفوا عن أمر ربهم ورسله واستمتعوا في الحياة الدنيا بغير الحق ، وكدحوا ولكن للشيطان .. وفرحوا بأعمالهم الخاطئة فطغوا بها وتجبروا .. فقد استحقوا أن يصلوا إلى الجحيم ، حيث لا موت ولا حياة ، ولا يخفف عنهم ولو يومٌ من العذاب !
هنا - في الصورة المكتملة في نهاية المطاف - تتبدى عدالة الله ، ويتبدى الحق الذي خلقت به السماوات والأرض وخلق به الموت والحياة .. ويتلقى كل إنسان دينه الحق ، وتكتمل دلالة كل شيء في هذه الحياة .
ولقد جاء وصف الجنة والنار ووصف النعيم والعذاب في مواضع كثيرة جداً من القرآن . ولا تكاد تخلو سورة من السور من إشارة ولو عابرة إلا القليل النادر .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (503 ) -تزلف : تقرب -مكدوس : المدفوع من ورائه(1/406)
ولا نحتاج إلى ذكر الشواهد الكثيرة ، فالقرآن بين يدي الدارس ، وحيثما تصفحه فسيجد فيه بغيته من وصف مشاهد القيامة ، إنما نقول كلمة مجملة عن النعيم والعذاب ثم نأتي بنماذج قليلة من الآيات .
يوصف النعيم في القرآن بأنه نعيم حسي ومعنوي في ذات الوقت . كما يوصف العذاب كذلك بأنه عذاب حسي ومعنوي وهذا هو الذي يتلاءم مع طبيعة " الإنسان " .
فالإنسان الذي يعيش في الدنيا مزيج من الجسد والروح . من الحسيات والمعنويات . وهو الذي يكرم في الآخرة أو يهان . فإذا كرم فإنما يكرم كله ، بجسده وروحه ، وإذا عذب فإنما يعذب كله ، بجسده وروحه سواء .
وقد وصف الله لنا جنته وناره وصفاً دقيقاً شاملاً ولكن خيالنا قاصر عن الإحاطة بهما ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (17) سورة السجدة (1) 0
فنحن نتصور النعيم - سواء الحسي منه أو المعنوي - في حدود خبرتنا وتجاربنا في الحياة الدنيا . ولكنه في حقيقته أجمل من كل ما نستطيع أن نتخيل ، فليس الشجر كالشجر وليست الثمار كالثمار . وليست الحور العين كأي جمال نستطيع أن نتصوره في الأرض . وكذلك الرضوان ( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) [ التوبة : 72 ] .
إن أيّ تصور لهذا الرضوان ، ومدى الراحة النفسية له والفرحة الروحية به لا يمكن أن يصل إلى شيء من الحقيقة .. ولكن هذه طبيعة البشر مع اللغة ، لا يستطيعون أن يدركوا من معانيها إلا ما يدخل في دائرة تجربتهم وتصورهم !
والأمر مع العذاب كذلك .. إننا لا نستطيع أن نتصور من أمر النار إلا ما شاهدناه في حياتنا الدنيا . وقد نضاعف القدر في خيالنا مرات ومرات . ولكنا مع ذلك لا نصل إلى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3244 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7310)(1/407)
حقيقة عذاب الحريق الذي ينتظر الكفار في جهنم والعياذ بالله . وكذلك الأمر بالنسبة للعذاب النفسي من خزي وندم وحسرة وهوان .
فلنقرأ إذن وصف الجنة والنار في القرآن . ولنحاول - ما استطعنا - أن نقترب بخيالنا من حقائق الأشياء !
أولاً - أوصاف الجنة وأهلها (1) :
1- ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) [ الرحمن : 46 - 60 ] .
2- ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ، وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ، يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) [ الطور : 17 - 28 ] .
3- ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ، وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ، قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ، وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ
__________
(1) - انظر كتابي (( الخصال الموجبة لدخول الجنة في القرآن والسنة )) وكتابي (( صفة الجنة في القرآن والسنة ))(1/408)
مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ، عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) [ الإنسان : 12 - 22 ] .
4- ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ، لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) [ الحجر : 47 ، 48 ]
ثانياً - من أوصاف النار وأهلها (1) :
1- ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) [ النساء : 56 ] .
2- ( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ ، قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) [ غافر : 49 ، 50 ] .
3- ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ، تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ، فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الشعراء : 91 - 102 ] .
4- ( هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ، هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ، قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ، قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ، وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) [ ص : 55 - 64 ] .
__________
(1) - انظر كتابي (( الخصال الموجبة لدخول النار في القرآن والسنة )) وكتابي (( صفة النار في القرآن والسنة ))(1/409)
5- ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) [ الكهف : 29 ] .
6- ( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ، فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) [ الواقعة : 51 - 56 ] (1) .
وهكذا نجد المقابلة تامة بين الجنة وأهلها والنار وأهلها . فبينما الأولى تحوي كل ما يتخيله الإنسان من ألوان النعيم ، بل فوق ما يستطيع تخيله ، وأهلها في سمر ومودة ، راضية قلوبهم ، ضاحكة وجوههم ، ناعمة مشاعرهم ، يتجلى عليهم ربهم برضوانه ، إذ بالنار في الآخرة تحوي كل ما يتخيله الإنسان من ألوان العذاب الحسي ، وفوق ما يتخيله كذلك ، والخزي والندم والحسرة هي عذابهم النفسي الدائم ، ويجيئهم مع العذاب التبكيت والتوبيخ والتقريع .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده، لآكلون من شجر من زقوم، وهو من أقبح الشجر، فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع، فشاربون عليه ماء متناهيًا في الحرارة لا يَرْوي ظمأ، فشاربون منه بكثرة، كشرب الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها.التفسير الميسر - (10 / 2)(1/410)
الباب السادس
الإيمان بالقدر
لا يتم إيمان الإنسان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره أنه من عند الله ، وأنه لا يكون شيء في الكون كله إلا ما قدره الله .
ووجوب الإيمان به واضح السبب لا يحتاج إلى جهد لتفهمه . فإن الأحداث التي تجري في الكون كله وفي حياة الناس إما أن تكون - في تصور الإنسان - آتية من عند الله ، هو الذي برأها وقدرها ، وإما أن تكون في تصوره آتية من عند غير الله أياً كان المصدر الذي يتخيله . فإن كانت الأولى فقد آمن بالله حقاً ، وإن كانت الثانية فقد أشرك إذ ليس الشرك محصوراً في تقديم شعائر التعبد لغير الله ، ولا التحليل والتحريم من دون الله . إنما يكون الشرك في هذه الحالة في أصل الاعتقاد في " لا إله إلا الله " .
إن المعنى الأول للا إله إلا الله هو أنه ليس في هذا الكون إله متصرف في شئونه إلاّ الله ، ومن ثم تترتب المعاني الأخرى : أنه لا معبود يستحق العبادة إلا الله . ولا أحد تنبغي له الطاعة إلا الله . ولا حاكمية إلا الله .
فتصوُّر أي إنسان أن أحداث الكون وتصاريف الحياة تأتي من أي مصدر غير الله سبحانه وتعالى هو شرك في أصل الاعتقاد ، ومعناه أن الله ليس هو المتصرف وحده في شئون الكون إنما هناك من يشترك معه في هذا الشأن .
وحتى لو اعتقد معتقد أن الأحداث تقع بالمصادفة - كما يعتقد بعض الجاهليين في القديم والحديث - لا بتدبير الله وعلمه وتقديره ، فهو على ذات الدرجة من الشرك ، لأنه في الواقع قد توهّم وجود قوة غير قوة الله سبحانه وتعالى قد أنشأت الأحداث وأجرتها بحيث تقع فيها المصادفة المزعومة على النحو الذي وقعت به .. وهو وإن قال بلسانه إن الأحداث تقع بغير تدبير ولا قصد ، إلا أنه يفترض في خياله أنها كانت سائرة أصلاً بدافع ما ، ثم تصادم بعضها مع بعض ، أو تصادف بعضها مع بعض بغير قصد .. فهو في النهاية يفترض أن هناك من يسيّر الكون وأحداثه غير الله . وهذا هو الشرك الأصيل !(1/411)
ومن ثم فقد لزم لزوماً أن يؤمن الإنسان بالقضاء والقدر أنه من عند الله . وأنه لا يحدث شيء في الكون كله إلا بتقدير الله . وإلا فهو ليس بمؤمن أصلاً بلا إله إلا الله !
ولقد نص القرآن كما نصت الأحاديث على وجوب الإيمان بالقدر .
يقول الله سبحانه وتعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ التغابن : 11 ] .
ويقول : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [ التوبة : 51 ] .
ويقول : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) [ الحديد : 22 ] .
ويقول : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) [ آل عمران : 145 ] .
ويقول : ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) [ الرعد : 8 ] .
ويقول : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [ القمر : 49 ] 0
أما الأحاديث فكثيرة، فى مقدمتها عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ قَالَ: " الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْمِيزَانِ، وتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " (1) 0
وعَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَومٍ جَالِسًا ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ ، قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلاَّ وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ . قَالَ : فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَلِمَ نَعْمَلُ ؟ قَالَ : اعْمَلُوا ، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ : "أَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى. (2) 0
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 438) (274 ) صحيح
(2) - أخرجه الجماعة المسند الجامع - (13 / 848)(10371)(1/412)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ». (1) 0
وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِى الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَيُكْتَبَانِ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَيُكْتَبَانِ وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ ». (2) 0
أما مراتب الإيمان بالقدر فهي كمراتبه في كل شعب الإيمان الأخرى . فالإقرار شرط الإيمان ، ولا يكون الإنسان مؤمناً حتى يقرّ بأن القدر خيره وشره من عند الله . ولكن هناك درجة التسليم والرضى بقَدَر الله وهي مرتبة الإحسان التي يصل إليها الإنسان حين يتعمق إيمانه ويرسخ ، فيعرف أنّ لكل قدر حكمة ، وأنّ قدر الله كله خير للمؤمن المستقيم على الطريق .
=====================
أثر الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح
1- الإيمان بالقدر - فى حياة المؤمن - أقوى حافز للعمل الصالح والإقدام على عظائم الأمور بثبات وعزم وثقة0
ولقد كانت الصورة الصحيحة للإيمان بالقدر في حياة الأجيال الأولى من المسلمين هي التي صنعت تلك العجائب التي سجلها تاريخهم ، والتي ثبّتت الدعوة في الأرض ونشرتها على نطاق واسع في فترة وجيزة من الزمن لا مثيل لها - في قصرها - في التاريخ . وهي التي أقامت هذا البناء الشاهق في كل ميدان من ميادين الحياة .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6945)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6895 )(1/413)
نعم ، لقد كان من أول ثماره الباهرة ذلك الاستبسال في الجهاد في سبيل الله وفي سبيل نشر الدعوة .
لقد وعى المسلمون قوله تعالى : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [ التوبة : 51 ] .
فإذا كان لا يصيب الإنسان إلا ما كتبه الله له ، سواء كان قاعداً في بيته أو في ميدان القتال ، ففيم الجبن ، وفيم الفرار من القتال خوفاً من الموت ؟ فهل القتال هو الذي يقتل ؟ أم قدر الله لإنسان ما أن يموت في لحظة معينة في حالة معينة هو الذي يميته ؟ وإذا كان كتب عليه الموت فهل يعفيه منه ألا يذهب إلى القتال ؟ وإن كان لم يكتب عليه فهل يقتله الذهاب إلى الميدان ؟
هكذا كان الأمر في حسّهم فأقبلوا على الجهاد في ثقة وثبات وعزم ، وكان منهم ما سجله التاريخ من مواقفَ رائعة من الشجاعة والصبر على الشدة مع الاطمئنان إلى قدر الله سبحانه .
ولقد وعى المسلمون كذلك الدرس الذي نزل عليهم في سورة آل عمران بشأن غزوة أحد ، حين قال المنافقون : ( هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) فرد عليهم : ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) وحين قالوا : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) فرد عليهم : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) وحين قال الله للمؤمنين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ، وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ) [ آل عمران : 156 - 158 ] .(1/414)
وعوه فأيقنوا أنه لا يموت إلا من كُتِبَ عليه الموت ولو كان في مضجعه في بيته . وأنه إن لم يكن كُتِبَ عليه الموت في تلك اللحظة فكل هول الحرب وكل سهام الأعداء وسيوفهم لن تصيبه بالموت !
وأيقنوا كذلك أنه حين يكون الإنسان في القتال ويموت - بقدر من الله - فأمامه المثوبة والأجر وهو الكاسب بهذا القدر الذي قدره له الله . لذلك كان القتال في سبيل الله أمراً محبباً إلى نفوسهم ، فنصروا الله فنصرهم وثبت أقدامهم كما وعد سبحانه : ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [ محمد : 7 ] .
كذلك كان الإيمان بالقدر على هذه الصورة هو حافزهم للانسياح في الأرض ، سواء لنشر الدعوة ، أو طلب الرزق ، أو اكتشاف المجهول من الأرض . فكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين نشاط ملحوظ وآثار مشهودة .
ففي نشر الدعوة نجد أن الإسلام قد امتد من المحيط غربا إلى الهند شرقا في فترة من الزمن لا تتجاوز نصف قرن !! وهي سرعة لا مثيل لها في التاريخ ! وانتشر مع الإسلام سلطان الدولة الإسلامية بما أرهب أعداء الله ، وانتشر معه كذلك اللسان العربي بسرعة تفوق الوصف في انتشار اللغات في الأرض .
وفي ميدان طلب الرزق تدفقت الثروات على العالم الإسلامي حتى صار المسلمون أغنى أمة في الأرض ، لأنهم يجوبون البحار والقفار تجاراً وصناعاً فيأتي إليهم المال من كل سبيل ، وتتاح معه فرصة العمران والحضارة .
وفي ميدان الكشف الجغرافي كان المسلمون هم الذين ارتادوا البقاع المجهولة - أول من ارتادها - ورسموا لها الخرائط الجغرافية الدقيقة التي مكنت فاسكوداجاما وماجلان فيما بعد من القيام برحلاتهما حول إفريقيا وآسيا ، كما كشفوا منابع النيل ورسموا خرائطه التي جاء المكتشفون الأوربيون على هداها من بعد ليزعموا أنهم هم المكتشفون !(1/415)
وهكذا امتدت الحياة بجميع صورها شرقاً وغرباً بهذا الدافع الإيماني العميق .
2- والإيمان بالقدر عصمة من الوهن والجزع عند حلول المصائب :
فالإنسان عرضة دائماً لأن تصيبه النوائب والأحداث لأن هذه سنة الله في الأرض . وما من بشر في الأرض كلها لا يصاب . على الأقل يصاب بموت عزيز عنده ، إن لم يصب هو شخصياً بما يصيب الناس عادة من أمراض أو آلام .
ومن شأن المصائب أن تهز النفوس . وما من إنسان لا يتأثر بما يصيبه ولو كان صلد المشاعر عديم الاكتراث . ولكن التأثر بالأحداث شيء والوهن والجزع عند حلولها شيء آخر .لقد تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لفقد ولده إبراهيم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضى الله عنه - وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ » . ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » (1) 0
فأما الوهن الذي يفتِّت العزيمة ويقعد بالإنسان عن معاودة النشاط والانطلاق في الحياة فهو الأمر غير المرغوب . وهو الذي يتعرض له الإنسان حين لا يؤمن بالقدر ولا يسلم له . لذلك يقول الله سبحانه وهو يربي المسلمين : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ التغابن : 11 ] .
( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) [ الحديد : 22 ، 23 ] .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1303 ) -ظئر : زوج المرضعة غير ولدها -القين : الحداد والصائغ(1/416)
وبذلك يسترد الإنسان عزيمته ، ويمضي في طريقه مطمئناً لقدر الله ، يستمد منه مزيداً من العزم ، ويرجو من الله التخفيف .
ولكن عقيدة القدر أصابها في نفوس المسلمين - على مر الزمن - كثير من الانحراف فقد وجدت طوائف ضالة قالت : إن الإنسان مجبر على ما يفعل ، ومن ثم فليس بمسئول !
فقد قالت طائفة ( الجبرية ) : إنه ما دام كل شيء يتم بقدر الله ، ولا يتم إلا به ، فكل ما يقع من الإنسان من عمل هو مقدر عليه بحيث لا يملك إلا أنْ يعمله . فإرادته إذن منتفية فلا مجال لمحاسبته على ما يفعل .
والسلف الصالح لم يفهم قط من عقيدة القدر هذا الفهم الخاطئ الذي يلغي مسئولية الإنسان عن عمله .
لقد فهم المسلمون من درس أحد أن ما وقع لهم كان مقدراً لهم من عند الله ، ولكنه كان في ذات الوقت من عند أنفسهم بسبب معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم : ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 165 ، 166 ] .
فلا تعارض في حسِّ المؤمن الصحيح بين الإيمان بقدر الله وتحمل الإنسان مسئولية عمله وتعرضه للحساب عليه .
وإن الاحتجاج بالقدر على الكفر أو المعصية أو العجز والقعود عن العمل ليس هو السبيل الصحيح للمؤمنين . إنما يندد القرآن بالمشركين لأنهم قالوا مثل هذا تبريراً لكفرهم .(1/417)
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) [ النحل : 35 ] .
( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الأنعام : 148 ، 149 ] .
فهل يملك أولئك المشركون الذين يلقون تبعة شركهم على الله سبحانه وتعالى دليلاً على أن الله منعهم من الإيمان وهم راغبون فيه ؟!
حقيقة إن الله قد قدر ألا يكون الناس أمة واحدة ( على الإيمان وعلى الكفر سواء ) ، ولو شاء سبحانه لهدى الناس أجمعين . ولكنه قدر أن يترك للإنسان اختيار طريقه ، بعد أن عرّفه طريق الهدى وطريق الضلال ، وأعطاه القدرة على الاختيار بينهما ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) [ الشمس : 7 - 10 ] .
فمن آمن فقد زكى نفسه ، ومن كفر فقد دساها .
وإذا كانت بعض الفرق قد انحرفت في عقيدة القدر بشأن الحساب يوم القيامة ، فإن جموع المسلمين قد انحرفت في العصور الأخيرة في عقيدة القدر بشأن ما يجري في الحياة الدنيا .
لقد أصابهم التواكل فيما أصابهم من انحرافات . وأدى بهم التواكل إلى العجز والكسل والقعود .(1/418)
لقد فهموا من معنى أنه لا يحدث في الكون إلا ما يريده الله ، أنه لا حاجة للإنسان أن يعمل ! فإن قدر الله ماضٍ سواء عمل الإنسان أو لم يعمل ! فلا ضرورة للكد في طلب الرزق لأن " مالك سوف يأتيك " ! ولا ضرورة للنشاط والحركة لأنها في زعمهم ضد التوكل الصحيح !!
كما فهموا كذلك من معنى التسليم لقدر الله القعود عن تغيير ما أصاب الإنسان من فقر أو مرض أو جهل أو حتى معصية ! لأن كل ذلك مقدر من عند الله فلا ينبغي مقاومته إنما ينبغي الاستسلام له !
وهذا التواكل وهذه السلبية ليست من الإسلام في شيء على الإطلاق ! وإلا فلو كانت من الإسلام فكيف غابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحبه الكرام الذين تلقوا عنه المفاهيم الصحيحة لهذا الدين ؟!
مرة أخرى نعود إلى درس وقعة أحد ..
فقد وعى المسلمون من الدرس كما أسلفنا أن كون الهزيمة تمت بقدر من الله لا ينفي مسئولية الإنسان عن خطئه . فليس لمخطئ أن يهز كتفيه ويقول : إنما وقع الخطأ مني بقدر من الله ! ولو قدّر الله ألا أخطئ لما أخطأت ! فلست مسئولاً عن الخطأ !
كلا ! إن العقيدة الصحيحة للمؤمن لا يتنافى فيها أن يكون الحدث مقدراً من عند الله وأن يكون الإنسان مسئولاً عن عمله في ذات الوقت ..
كذلك وعى المسلمون من وقعة أحد وأحداثها درساً آخر ..
إن عليهم أن يسلموا لقدر الله .. ولكن ما معنى التسليم ؟ هل معناه القعود عن تغيير ما أصابهم ، ولو أنه قد أصابهم بقدر من الله ؟(1/419)
إنما قال لهم : ( فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ آل عمران : 153 ] .
فالحزن يفتّت العزيمة ويوهنها . وهو الأمر الذي لا يريده الله لهم . فوجّههم إلى التسليم بقدر الله لكيلا يحزنوا وتتفتت عزيمتهم . ولكن هل طلب منهم الاستسلام لما أصابهم بمعنى عدم العمل على تغييره ؟!
إن أحداث المعركة سارت في خط مختلف تماماً . فقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم مشاعر المسلمين وعزائمهم كما جمع صفوفهم ليدخل بهم المعركة مرة أخرى على أثر الهزيمة . وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) [ آل عمران : 172 - 174 ] 0
لقد صرف الله أعداءهم فلم تقع المعركة . ولكنهم كانوا قد استعدوا للقتال تماماً . استعدوا له بأرواحهم ومشاعرهم ، فجمعوا عزائمهم رغم تخويف الناس لهم وعزموا على لقاء العدو متكلين على الله . وهذا هو التوكل الحق الذي يطلبه الله من المسلمين .
إن القعود عن تغيير الأمر الواقع بحجة أنه واقع بقدر من الله جهالة عظيمة لا تنبغي للمسلم . نعم إن ما وقع بالفعل قد وقع بقدر من الله - وإن كان لا ينفي مسئولية الإنسان - ولكن من يعلم ما يكون عليه قدر الله غداً ، بل في اللحظة القادمة ؟ هل علم ذلك القاعد المتواكل أن قدر الله القادم لن يكون مغايراً لقدر الله الواقع ؟! أليس في الاحتمال أن الله قد قدر للحظة القادمة قدراً غير القدر الذي كان في اللحظة الماضية ؟ فكيف يقعد عن العمل بزعم أنه متوكل على الله مستسلم لقدره ؟
ثم إن توجيهات القرآن للمسلمين منافية للتواكل تماماً .(1/420)
انظر هذه الآية من سورة الأنفال : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) [ الأنفال : 59 ] .
فما معناها ؟ معناها أن الكفار الذين يرغبون في إزالة هذا الدين من الأرض وعدم التمكين له لن يسبقوا قدر الله الذي قدر لهذا الدِّين التمكين والظهور : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) [ الصف : 9 ] .
ولن يُعْجِزُوا الله عن تنفيذ قدره الذي قدره بالتمكين لهذا الدين .
فهل معنى ذلك التواكل على قدر الله وعدم الأخذ بالأسباب ، ما دام الله قد قدّر هزيمة الكفار في محاولتهم ، وقدّر النصر والتمكين لهذا الدِّين ؟
انظر إلى الآية التالية مباشرة تجد فيها الجواب : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) [ الأنفال : 60 ] .
إذن - وقَدَرُ الله مؤكد الوقوع ، وهزيمة الكفار مقدرة ومقررة - لا بد من الأخذ بالأسباب . لا بد من إعداد القوة والجهاد بالأنفس والأموال .
ذلك هو الفهم الصحيح لعقيدة القدر كما فهمها الجيل الأول من المسلمين رضوان الله عليهم . لا تنفي مسئولية الإنسان عن عمله ، ولا تدعو إلى القعود عن تغيير الواقع ، ولا تدعو إلى التواكل وعدم الأخذ بالأسباب انتظاراً لقدر الله !
وذلك هو الفهم الذي ينبغي أن يعود المسلمون إليه ، ليزول عنهم ما أصابهم من فقر وجهل ومرض وتواكل وعجز ، وما ترتب على ذلك كله من غلبة عدوهم عليهم ، وهوانهم على أنفسهم وعلى الناس !
وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما المرجع الذي ينبغي أن نرجع إليه من أجل تصحيح مسيرتنا كلما انحرفت خطواتنا على الطريق .
- - - - - - - - - - - - - - -(1/421)
خاتمة العقيدة الإسلامية
تحدَّثنا في هذا الكتاب عن أركان العقيدة الإسلامية : الإيمان بالله ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .
ونريد هنا أن نختم حديثنا بكلمة عامة عن العقيدة الإسلامية نتحدث فيها عن خصائصها وأثرها في الحياة الإنسانية .
(1) -خصائصها
إن هذه العقيدة - بادئ ذي بدء - هي العقيدة التي ارتضاها الله لنا وأنعم بها علينا : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : 3 ] .
وهي من ثَمَّ منهج الحياة الصحيح الذي رسمه الله لنا لنفوز بخير الدنيا والآخرة ، ولنكون محققين لشروط الخلافة التي خلقنا الله من أجلنا : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30 ] .
ولنقوم بعمارة الأرض على الوجه الذي أراده الله : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
في حدود العبادة لله التي هي غاية الوجود الإنساني كله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
وهذه الصورة المجملة تعطينا لمحة عن خصائص هذه العقيدة ، وهي الشمول والتكامل ، والتوازن . ولنتحدث عن كلٍّ من هذه الخصائص بإيجاز :
أولاً : الشمول :
إن هذه العقيدة تشمل الإنسان كله ، جسمه وعقله وروحه ، كما تشمل سلوكه وفكره ومشاعره ، كما تشمل دنياه وآخرته .
ليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بهذه العقيدة ولا تتصل العقيدة به .(1/422)
إنها تصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته ، وفي كل عمل يعمله ، أو فكر يفكره ، أو شعور يختلج في ضميره .
ويتضح لنا الشمول في مجالات متعددة ، وعلى محاور مختلفة ، تلتقي كلها في النهاية :
1- ففي مجال الاعتقاد تشمل - كما رأينا - الإيمان بالله واليوم الاخر والملائكة والنبيين والكتب السماوية والقدر خيره وشره .
2- وفي مجال العمل تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت .
3- وفي مجال الكائن البشري تشمل حركة جسمه وتفكّر عقله وانطلاقة روحه .
4- وفي مجال المجموع البشري تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة في ذات الوقت .
5- وفي مجال العلاقات تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بغيره ( في داخل الأسرة وفي داخل المجتمع وفيما بين المسلمين وغير المسلمين ، وفيما بين الإنسان والكون كذلك ! ) .
ولن توجد دائرة أوسع من هذه ولا أشمل . لأن هذه تشمل كل شيء في الوجود !
ثانياً : التكامل (أو الترابط) :
إن هذه العقيدة لا تتسم بالشمول الذى ذكرنا مجالاته ومحاوره المختلفة فحسب، بل بالتكامل والترابط كذلك. وهذه مستقلة عن الشمول، وإن كانت وثيقة الصلة به 0
1- فى مجال الاعتقاد :
قلنا إنها تشمل الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره . ولكن الشمول في ذاته لا يعني ترابط هذه المعتقدات بعضها ببعض . فقد تكون موجودة بعضها إلى جوار بعض ، دون ترابط بين أركانها المختلفة ، كل منها يعمل في حقل مستقل غير مرتبط بالآخر . وليس هذا هو الحال في هذه العقيدة . فإن كل ركن من هذه الأركان ذو صلة وثيقة بسائرها ، بحيث تكون في النهاية كلاً متكاملاً ، يؤثر بمجموعه المترابط في حياة الإنسان .
وإن شئت الدقة فقل إن سائر أركان العقيدة الإسلامية مرتبط بركنها الأول وهو الأكبر وهو الإيمان بالله .(1/423)
فالإيمان بالله هو الأساس ، وهو لب العقيدة وصلبها ، ثم تأتي بقية الأركان فتتصل به فتتكامل .
فالإيمان باليوم الآخر - كما رأينا في حديثنا عنه - مرتبط بعدل الله وحكمته وبالحق الذي خلق الله به السماوات والأرض ، وخلق به الحياة والموت ، أي أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بتصورنا لصفات الله جل وعلا ، بحيث يصبح تصورنا لها ناقصاً ومختلاً إذا لم نؤمن بذلك اليوم الذي يحق فيه الحق وتكتمل الصورة ويصل كل شيء فيه إلى دلالته الحقيقية الكاملة .
والإيمان بالملائكة متصل بقدرة الله من جانب : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ فاطر : 1 ] .
ومتصل بمعرفة المنهج الذي يريد الله أن تسير حياتنا عليه من جانب آخر ، لأنهم هم الرسل الذين يرسلهم الله ليبلغوا وحيه لمن يختارهم من البشر لهداية البشرية .
وبذلك لا يكون الإيمان بالملائكة ركناً منفصلاً في هذه العقيدة قائماً بذاته وإنما هو متصل بالإيمان بالله ، ومترابط مع بقية الأركان .
ونستطيع على هذا الضوء أن ندرك ترابط بقية الأركان بعضها ببعض ، وترابط سائرها بالإيمان بالله . فالإيمان بالكتب متصل مباشرة بالمنهج الرباني أي بما يشرعه الله للبشر لتستقيم حياتهم في الحياة الدنيا والآخرة . وكذلك الإيمان بالنبيين ، لأنهم هم الذين يحملون إلينا المنهج الرباني بما يوحي الله إليهم عن طريق ملائكته .
أما الإيمان بالقدر فقد رأينا في حديثنا القريب عنه كيف أنه متصل بإيماننا بوحدانية الله مباشرة ، لأنه هو الإجابة المباشرة على هذا السؤال : هل هناك في الكون من يشترك مع الله في تدبير شئونه وإجراء أحداثه ، أم أنه هو الله وحده ؟
وبذلك يتضح لنا الترابط جلياً بين هذه الأركان كلها في مجال الاعتقاد .
2- وفى مجال العمل :(1/424)
قلنا : إن العقيدة تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت ، وهنا نقول : إن من خصائص هذه العقيدة أنها لا تفصل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة .
فليس هناك في الإسلام عمل هو للدنيا وحدها ، وعمل هو للآخرة وحدها ! إنما الأعمال كلها للدنيا والآخرة في وقت واحد .
العبادات التي يُظَنّ أنها للآخرة وحدها ، كلها ذات مقتضى متصل بالحياة الدنيا : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [ العنكبوت : 45 ] .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : 183 ] .
أي هنا في الحياة الدنيا :
وهكذا في سائر العبادات هي للآخرة وفي ذات الوقت لها غاية تتحقق هنا في الأرض .
والأعمال التي يظن أنها للدنيا وحدها من جانب آخر كالطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس وعمارة الأرض .. إلخ كلها تعمل في الدنيا ولكن يشترط فيها شروط تربطها بالآخرة . يشترط فيها التزام الحلال والحرام والالتزام بأمر الله من أجل الثواب أو العقاب الذي يترتب على ذلك في الآخرة . وكلها في نظر الإسلام " عبادة " متى ما روعي فيها الالتزام بأمر الله ، وتوجه بها الإنسان إلى الله . بل هي " العبادة " التي تشير إليها الآية : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
والآيتان الأخريان : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
وبذلك تتصل الدنيا والآخرة وتترابط في عقيدة الإسلام 0
3- وفى مجال الكائن البشرى :
قلنا : إنها تشمل حركة جسمه وتفكر عقله وانطلاقة روحه . ولكن هذه ليست مستقلة بعضها عن بعض . صحيح أن هناك ساعة تغلب فيها حركة الجسم كالطعام والشراب والجنس وساعة يغلب فيها تفكر العقل كساعات التأمل أو ساعات التفكير في شأن من شئون العلم أو العمل ، وساعة تغلب فيها انطلاقة الروح كساعة التعبد .(1/425)
ولكنّ الإسلام لا يدع واحدة من هذه تنفصل انفصالاً كاملاً بحيث تنقطع صلتها عن الباقيات .
في الطعام والشراب والجنس .. إلخ ، يتحرى الإنسان الحرام والحلال ويذكر اسم الله . فلا تعود حركة جسد مستقلة !
وفي التفكر كذلك يتوقى الإنسان التفكير الشرير ويتحرى التفكير الخير ، ويتقي الله . فلا يعود تفكراً عقلياً خالصاً !
وفي العبادة الإسلامية يتحرك الجسد ويعمل العقل مع انطلاقة الروح . وخذ الصلاة مثلاً ، إنها ليست انطلاقة روح مستقلة ، إنما يشارك فيها الجسم بالقيام والقعود والركوع والسجود ، ويشارك فيها الفكر بالتدبر في آيات الله ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لَيسَ لَكَ مِنْ صَلاتِكَ إلاّ ما وَعَيْتَ " .
وبذلك يترابط الكائن البشري كله في أداء متطلبات هذه العقيدة فلا ينفصل جسمه عن عقله أو عن روحه !
4- وفى مجال المجموع البشرى :
قلنا : إنها تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة .. ونقول هنا : إن هذه العقيدة لا تأخذ أيّا من هذه بمعزل عن الأخرى . فهي لا تنشئ الفرد الصالح بمعايير ، والجماعة الصالحة بمعايير أخرى . إنما هي ذات المعايير وإن اختلفت التكاليف بين الفرد والجماعة .
المعايير هي الإيمان بالله وتقوى الله والالتزام بما أنزل الله . ثم تكون بعد ذلك تكاليف يقوم بها الفرد بمفرده وتكاليف أخرى تقوم بها الجماعة مجتمعة . ولكن يلتقي الفرد والمجموع معاً على أسس واحدة وتربية ذات اتجاه موحد . ومن ثمَّ لا تفترق الأمة - حين تلتقي - إلى طوائف وشيع متنافرة كل منها يعمل في اتجاه ، ولا إلى فرد متخاصم مع المجموع . ولا تتحول كما يحدث في الجاهليتين المعاصرتين في الغرب والشرق إلى فرد طاغ ومجموع مفكك ، أو مجموع طاغ وفرد مسحوق !(1/426)
وكذلك تلتقي الأمة والدولة على أمر واحد ، هو عبادة الله والحكم بما أنزل الله ، وهو أمر من صلب الاعتقاد ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقتضى الإيمان بالله لقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] .
فيحدث الترابط بينهما والاتفاق 0
5- وفى مجال العلاقات :
قلنا : إنها تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بالآخرين . وهنا نقول : إن هذه كلها تترابط وتلتقي عن طريق المحور المشترك فيها جميعاً وهو الإيمان بالله وعبادته . فعلاقة الإنسان بربه هي الإيمان والعبادة ، وعلاقته بنفسه هي تزكيتها ، والتزكية تتم عن طريق الإيمان والعبادة ، وعن طريق الالتزام بأوامر الله وهو مقتضى الإيمان والعبادة . وعلاقته ( أو علاقاته ) بغيره تتم كلها عن طريق تنفيذ أوامر الله والتحاكم إلى ما أنزل الله
وبذلك تنتظم العلاقات كلها في سلك واحد قوامه الإيمان بالله ..
وهكذا يبدو الترابط والتكامل بين أركان هذه العقيدة على جميع المحاور وفي جميع المجالات
ثالثاً : التوازن :
مع شمول هذه العقيدة وترابطها فهي تتسم أيضاً بالتوازن .
ويبدو هذا التوازن كذلك على مجموعة من المحاور المختلفة ومجموعة من المجالات :
1- توازن بين الروح والجسد أو عالم المعنويات وعالم الحس .
2- توازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة .
3- توازن بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب .
4- توازن بين جوانب الحياة المختلفة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ .
ولنقل كلمة سريعة عن كل مجال من هذه المجالات :(1/427)
1- الإنسان قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله . وهناك توازن دقيق بين عنصريه المكونين له ، يختل إذا أعطينا أحدهما من العناية والالتفاف أكثر من حقه . والجاهليات دائماً تختل في هذا الأمر فتؤكد على جانب الروح وحدها كالهندوكية والبوذية او جانب الجسد وحده كالجاهلية المعاصرة في شرق أوربا وغربها سواء .
ومن خصائص العقيدة الإسلامية أنها توازن بينهما التوازن الصحيح . فمن ناحية هي تمزج بين عالم الجسد وعالم الروح وتشركهما معاً في مجال العمل ومجال التعبد سواء ، ومن ناحية أخرى تعطي كلاً منهما حقه . فلا تشغل الإنسان بعالم الحس وتكبت روحه كالجاهلية المعاصرة ، ولا تشغله بأمور روحه على حساب كيانه المادي ومطالب جسده كالجاهلية الهندوكية والبوذية: عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : لاَ أَتَزَوَّجُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُصَلِّي وَلاَ أَنَامُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَصُومُ وَلاَ أُفْطِرُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي." (1) 0 وتقوم الحضارة الإسلامية المنبثقة من العقيدة على أساس الجانب المادى والروحى سواء
1- يتطلب الإسلام الإيمان بالغيب، لأنه عن طريقه يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكنه لا يطلب منه أن يهمل عالم الشهود. بل إنه فى عرضه لحقائق العقيدة بكثير من الإشارة إلى آيات الله فى الكون لكى يتدبرها الإنسان ويصل عن طريق تدبرها إلى الإيمان بالله0 ومن هنا لا يلجأ الإسلام إلى الغيبوبة الروحية التى يقع فيها بعض المتطرفين فى العبادة زعماً منهم أنهم يستغنون بشهود الذات الإلهية عن شهود الكون الذى خلقه الله، وكذلك لا يقبل أن ينشغل الإنسان بالكون المشهود عن عالم الغيب فيقطع صلته بالله واليوم الآخر كما تصنع جاهلية اليوم
2- قلنا من قبل إن الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة، ونقول هنا : إن هذا الربط ذاته هو الذى يوازن بين الدنيا والآخرة فى هذه العقيدة، إذ يحدث عدم التوازن حين تنفصل عن الآخرة فى حس الإنسان، فيقوم بأعمال على أنها للدنيا وحدها منفصلة عن
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 617)(13534) 13568- صحيح(1/428)
الآخرة، وأعمال أخرى على أنها للآخرة وحدها منفصلة عن الدنيا، عندئذ لابد أن يحدث الاختلال فى حسه فتغلب مجموعة من الأعمال على الأخرى. فإما أن تجذبه الدنيا رويداً رويداً حتى ينسى الآخرة، وإما أن تجذبه الآخرة رويداً رويداً حتى ينسى الدنيا. وكلاهما فى نظر الإسلام اختلال. فالأول ينشغل بالسعى وراء الرزق والحصول على أكبر قدر من متاع الدنيا، والآخر يزهد فى متاع الدنيا وينشغل عن طلب الرزق وتعمير الأرض. ويصبح كل منهما مقصراً وآثماً فى حق الله0
إنما يحدث التوازن الذى تشير إليه الآية : ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا))(القصص:77)0
حين ترتبط الدنيا والآخرة فى حس الإنسان فيعمل للآخرة وهو يعمل للدنيا فى ذات الوقت. فلا يهمل العبادة ولا يهمل عمارة الأرض0
3- تحدثنا فى باب الإيمان بالقدر عن التوازن فى حس المسلم بين الإيمان بالقدر وبين الأخذ بالأسباب. وهو من أجمل خصائص العقيدة الإسلامية. إن المتواكلين يزعمون أنهم يتوكلون على الله ثم يهملون الأخذ بالأسباب. إن المتواكلين يزعمون أنهم يتوكلون على الله ثم يهملون الأخذ بالأسباب جملة فيصيبهم ما يصيبهم من فقر ومرض وجهل وعجز وهوان فى الأرض. وإن الجاهلية الأوربية من جانب آخر تأخذ بالأسباب منقطعة عن الله وقدره، فتنتج إنتاجاً مادياً ضخماً ما يصيبها من قلق واضطراب وأمراض عصبية ونفسية وجنون وانتحار وضياع لأنها تفقد الطمأنينة التى يجدها المؤمن لذكر الله ولقدر الله0
والإسلام يوازن موازنة جميلة بين هذين الحدين المتطرفين، فهو يعلم الناس أن هناك سننا ربانية يدير الله بها الكون المادى والحياة البشرية. وأنه لابد من اتباع هذه السنن ومجاراتها إذا رغبنا فى الوصول إلى نتائج معينة، ومقتضى ذلك هو الأخذ بالأسباب. ولكنه فى الوقت ذاته يربى المؤمن على ألا يتكل على الأسباب الظاهرة فيحبط عمله، إنما يظل قلبه موصولا بالله، متطلعا إليه أن ينجح مسعاه ويوصله إلى النتائج المرغوبة. وبذلك يتوازن(1/429)
الإنسان فى سعيه فى الأرض لا يهمل الأسباب ويتواكل، ولا يكف عن التطلع إلى قدر الله0
4- أخيراً نقول : إن هذه العقيدة توازن بين جوانب الحياة الإنسانية المختلفة فلا يطغى منها جانب على جانب. فكما أن الجانب الروحى لا يطغى على الجانب المادى، فكذلك لا يطغى الجانب السياسى على الاقتصادى، ولا الاقتصادى على الخلقى وهكذا . بل تتوازن جوانب الحياة كلها على محور العقيدة الرئيس الذى مقتضاه الإيمان بالله والالتزام بما أنزل الله، فتسير كلها متوازية متوازنة فى آن واحد 0
====================
(2) -أثرها فى الحياة الإنسانية
في إمكاننا أن نحكم على أثر هذه العقيدة في الحياة الإنسانية من الواقع التاريخي للأمة الإسلامية التي اعتنقتها وعاشت بها في دنيا الواقع . فإن من فضل الله على هذه الرسالة التي ارتضاها الله للمسلمين ديناً أن منحها واقعاً تاريخياً ضخماً طبقت فيه في واقع الحياة ، فلم تعد مجرد شعارات ، ولا مُثُلاً خيالية ، بل واقعاً مشهوداً يحفظه التاريخ .
ويكفي من آثارها أن تكون قد أخرجت " خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للنّاس " في التاريخ البشري كله ، لأنها طبقت القرآن في واقع حياتها ، وأصبحت ترجماناً له بالقدر الذي يتيسّر للبشر أن يبلغوه في حدود بشريتهم .
لذلك يكفينا أن ندرس الواقع التاريخي لهذه الأمة خاصة في أجيالها الأولى ، وجيلها الأول على وجه أخص ، لنتعرف على أثر العقيدة الإسلامية في الحياة الإنسانية في صورة واقعية .
إن أبرز ما في هذه العقيدة هو التوحيد : ويتضح لنا من دراسة الواقع التاريخي أن التوحيد ذو أثر ضخم في حياة الإنسان حينما يعيشه واقعاً فكرياً وشعورياً وسلوكياً .
وأن الإنسان يستطيع حينما يتشبع بالتوحيد على هذه الصورة أن يبذل من الجهد وأن يأتي من الأعمال ما لا يستطيعه الإنسان العادي الخاوي من العقيدة .(1/430)
لو تصورنا جهازاً ما أخذ شحنته الكهربية المضبوطة من مصدر صاف لا خلل فيه ولا اضطراب ، فقام بمهمته على الوجه الأكمل .. إن هذه أقرب صورة للإنسان المؤمن بعقيدة التوحيد الصافية إيماناً صحيحاً . إنه يأخذ " شحنته " الكاملة من العقيدة ، فيعمل بطاقته الكاملة ويؤدي مهمته على الوجه الأكمل ، لأنه : " في أحسن تقويم " .
إن النماذج الفريدة التي صنعها الإسلام في جيله الأول على وجه الخصوص ، هي نماذج فذة بالنسبة للتاريخ البشري كله . وإنها ليست محصورة في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم ، ولا في تلك الأسماء اللامعة التي يحفظها التاريخ - وإن كانت هذه الأسماء في قمة البشرية جميعاً - ولكنها تشكل ألوفاً وألوفاً غيرهم ، لم يتسع التاريخ لذكر أسمائهم واحداً واحداً ، أو قل : إن تاريخ هذه الأمة كان من الثراء بحيث اكتفى المؤرخون بذكر القمم الشاهقة واكتفوا بإشارات عابرة إلى القمم الأخرى لأنها كانت شيئاً عادياً في نظرهم بالقياس إلى أثر هذه العقيدة في النفوس !
كيف نقول في ذلك الجندي الذي خرج يقاتل في سبيل الله وفي يده تمرات فيقول : لئن بقيت حتى آكلها كلها إن هذا لأمر يطول ! فيلقي بها ليستشهد في سبيل الله ، وينال الشهادة بالفعل ؟
وكيف نقول في ذلك المقاتل - في حرب فارس - الذي لبس درعه فإذا فيه ثلمة صغيرة فينبهه إخوانه ويدعونه إلى تغيير الدرع . فيقول باسماً : إني لكريم على الله إن أصبت من هذا الموضع ! فيدخل المعركة فيصيبه سهم فيدخل في الثلمة .. فيستشهد وهو قرير العين شاعر بأنه كريم على الله لأنه لبى رغبته في الشهادة !
وكيف نقول في الذين تجمعوا حول تمرات يأكلونها هي كل ما يملكون من الزاد فيدخل عليهم ضيف فيطفئ صاحب البيت المصباح ويقدم له التمرات ، حتى لا يكتشف الضيف أنها كل الزاد الموجود فيمتنع عن الطعام ، فينزل الله فيهم قوله : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ الحشر : 9 ] .(1/431)
ألوف وألوف من النماذج في كل اتجاه ، كلها قمم على أعلى مستوى بلغته البشرية .
ولنحاول هنا أن نلخص أبرز آثار العقيدة في حياة الأمة المسلمة في نقاط محدودة ، ثم نعرّج على بعض آثارها في بقية البشرية ممن لم يعتنقوا هذا الدين .
1- عمق الشعور بتقوى الله وخشيته ، والخوف من حسابه يوم القيامة ، وما ترتب على ذلك من انضباط السلوك وحساسية الضمير تجاه مسئولية الإنسان عن أعماله . ولنأخذ نموذجاً لذلك موقف عمر رضي الله عنه من الدريهمات التي كان يتقاضاها من بيت المال ، وقولته الشهيرة : " لو عثرت بغلة بصنعاء لكنت مسئولاً عنها لِمَ لَمْ أسوِّ لها الطريق " !
2- صدق الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال ، وما ترتب على ذلك من التمكين لهذا الدين في الأرض ، والعجائب التي تكررت في الفتوح الإسلامية من انتصار الفئة القليلة على أضعاف أضعافها في العدد والعدة .
3- تقرير مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يترتب عليه من منع انتشار الفساد في الأرض .
4- تقرير مبدأ التكافل الاجتماعي في الأمة ، وما يترتب عليه من تماسك هذه الأمة وتعاونها على الخير وخلوها من الضغائن والأحقاد التي تفتت الأمم وتذهب ريحها ، وانتشار روح البر في المجتمع الإسلامي مما تبدَّى في الأوقاف ( الأحباس ) الكثيرة التي وقفها المسلمون لأعمال البر .
5- الوفاء بالمواثيق وهي خصيصة نادرة في التاريخ البشري لم تتوفر لأحدٍ كما توفرت للأمة الإسلامية .
6- تطبيق العدل الرباني في واقع الأرض مما لا مثيل له في تاريخ الشعوب ، وخاصة بين المسلمين وغير المسلمين ، وبين الفاتحين والبلاد المفتوحة .
7- التسامح الديني مع الطوائف غير المسلمة في ظل الحكم الإسلامي .
8- المحافظة على الأخلاق في المجتمع الإسلامي حتى حين انحرف المسلمون درجات من الانحراف ، فقد ظلت نسبة الفاحشة فيهم أقل ما عرفته البشرية في أي شعب من شعوبها(1/432)
، وكذلك الخمر . وظلت التقاليد الإسلامية والمحافظة على الأعراض سارية في المجتمع إلى عهد جد قريب (1) 0
9- النشاط الحركي الفذ الذي نشر الدعوة في أرجاء واسعة من الأرض في زمن شديد القصر ، ونشر معها اللسان العربي .
10- الحركة العلمية الضخمة التي قام بها المسلمون بتوجيهات القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبرز ما فيها تحويل العلم من نظريات إلى منهج تجريبي قائم على المشاهدة والملاحظة والتجربة . وتحويله من النظرة الذاتية التي كانت تمثلها الفلسفة إلى النظرية الموضوعية .
11- الحركة الحضارية الإسلامية التي امتدت في جميع نواحي الحياة ، وأبرز ما فيها أنها حضارة روحية مادية في ذات الوقت لا تفصل بين مطالب الروح ومطالب الجسد ، ولا تفصل بين الدنيا والآخرة .
12- تحقيق معنى " الأمة " في واقع الأرض ، الأمة التي تلتقي على العقيدة في الله قبل أن تلتقي على الأرض واللغة والجنس والمصالح والتي جعلت المسلم ينتقل في بلاد العالم الإسلامي من المحيط إلى المحيط فلا يحس بالغربة في أي بلد من بلاد المسلمين رغم اختلاف الحكومات وتطاحنها في كثير من الأحيان !
تلك هي أبرز الآثار الواقعية التي نشأت عن هذه العقيدة داخل المجتمع الإسلامي ، وكلها نابع من تلك الانطلاقة الضخمة التي انطلقها المسلمون بعد أن تشبعوا بالعقيدة وتوجيهاتها وتطبيقاتها السلوكية العملية . ونستطيع أن نستخلص منها أن هذه العقيدة تنتشئ " الإنسان الصالح " وهو الإنسان العابد لله بالمعنى الواسع للعبادة ، الذي يشمل - إلى جانب شعائر التعبد - كل عمل وكل فكر وكل شعور يراعى فيه وجه الله ويلتزم فيه بأمر الله : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
__________
(1) حتى تخلت بعض الشعوب الإسلامية عن إسلامها، ودخلت فى الجاهلية المعاصرة باسم التقدم والرقى0(1/433)
الإنسان المستعلي على شهوات الأرض . المتحرر بعبوديته الحقة لله من كل عبودية لأحد أو لشيء سواه ، المتوازن في سلوكه وفي فكره وفي شعوره الذي يعمر الأرض بجهده وهو يتطلع إلى رضوان الله .
أما آثار تلك العقيدة في حياة البشر عامة ، ممن لم يعتنقوا الإسلام ، بل ممن حاربوه حرباً شعواء في الحروب الصليبية وغيرها ، فيمكن تتبع بعضها فيما تعلمته أوربا من الإسلام والمسلمين .
فإن أوربا - في عصورها الوسطى المظلمة - كانت واقعة في الجهالة العلمية التي حرص عليها حكام شعوبها كما حرصت عليها الكنيسة ليظل سلطانها الرهيب قائماً في قلوب الناس وأرواحهم ، وكانت واقعة تحت وطأة الإقطاع ، ممزقة لا رباط بينها - وإن كانت كلها مسيحية - لأن السيد الإقطاعي يمثل في إقطاعيته السلطان المطلق ، فهو السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية في وقت واحد . وواقعة من جهة أخرى تحت سطوة البابوية التي تستعبد أرواح الناس وأفكارهم وتأكل جهدهم كما تأكل أموالهم بالباطل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [ التوبة : 34 ] .
وبينما أوربا في حالتها هذه التقت بالإسلام يحيط بها من كل جانب . التقت به سليماً في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها ، والتقت به حربياً في الحروب الصليبية التي استغرقت حوالي قرنين من الزمان .
ثم كان من نتيجة هذا اللقاء السلمي والحربي تلك الآثار في أوربا :
1- أخذت أوربا العلوم الإسلامية كلها ، وبصفة خاصة المنهج التجريبي في البحث العلمي وأقامت عليه نهضتها العلمية الحاضرة .
2- أخذت معنى " الأمة " التي يربطها رباط واحد وتحكمها شريعة واحدة ولكنها لم تستطع إقامتها على أساس العقيدة لفساد العقيدة عندهم وفساد القائمين عليها من(1/434)
الكهنوت ، فأقاموها على شكل قوميات ، هي الأساس الذي قامت عليه دول الغرب الحالية .
3- حاولت إصلاح الفساد العقدي والكنسي في حركات كالفِن ومارتن لوثر وغيرهما وإن كانت لم تحقق إلا إصلاحات جزئية في داخل الفساد الشامل ، وذلك لأنها رفضت الإسلام ابتداء وهو الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي .
4- أخذت نظام الجامعات الإسلامية وأنشأت جامعاتها على غراره .
5- قامت فيها حركات فروسية تحاول أن تقلد ما وجدوه عند المسلمين من الشهامة والنجدة والأخلاق العالية .
6- بدأت فكرة " الدساتير " التي تشمل أسساً واضحة للحكم غير هوى الحكام وشهواتهم الشخصية . واقتبست أوربا كثيراً من الفقه الإسلامي . ومما يذكر في هذا الصدد أن القانون المدني الفرنسي مأخوذ معظمه من فقه مالك لأنه كان أقرب المذاهب إليهم في الشمال الإفريقي .
7- تأثرت أوربا بالنظم المعمارية الإسلامية ، وقلدتها في بعض مبانيها الدينية وغير الدينية ، كما تأثرت بالقيم الحضارية الإسلامية بصفة عامة ( خذ مثالاً بسيطاً على ذلك إدخال الحمامات في البيوت وتنظيف الأبدان بالاستحمام . ولم تكن أوربا تمارسه حتى التقت بالمسلمين ) .
8- استفادت أوربا من الكشوف الجغرافية والخرائط الإسلامية فبدأت تنساح في الأرض على هدى هذه الخرائط .
وباختصار ، فإن أوربا قد أخذت بذور نهضتها الحالية كلها من الإسلام ، وإن كانت جمدت أثر الإسلام والمسلمين في حياتها ، ورفضت في عصبية الجاهلية أن تعتنق الإسلام !
=================
واليوم ننظر حولنا في العالم الإسلامي فلا نكاد نرى أثراً للعقيدة الإسلامية الصحيحة ! فهل كفّت العقيدة الإسلامية عن التأثير ؟!(1/435)
كلا ... إنها لا تفقد فعاليتها بحال من الأحوال . فهي المنهج الرباني المؤثر ، الذي تستقيم به الحياة تلقائياً وتنطلق تبذل نشاطها المثمر السليم .
إنما المسألة أن هذه العقيدة لا تعمل إلا بجهد يبذله البشر في ذات أنفسهم وفي واقع حياتهم : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : 11 ] .
وتلك سنة ربانية لا سبيل إلى تغييرها . إنه بغير جهد يبذله البشر ، وبغير اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتيجة لا تتغير أحوال الناس . والعقيدة الإسلامية هي الدافع الذي لا يشبهه دافع آخر في تسيير دفة الحياة البشرية . ولكنها لا تدفع إلا من يعتنقها ويقبل عليها ويعزم على تطبيقها في واقع حياته .
تصوَّر مولداً للطاقة الكهربية ، مستعداً أبداً للعمل ولكن لا أحد يقوم بتشغيله . أو تصوَّره يعمل ولكن لا أحد يذهب إليه ليستمد الطاقة منه ! هل نقول يومئذ إنه كفّ عن التأثير ؟! أم نقول إن الناس كفوا عن استخدامه ؟
هذا هو مثل العقيدة الإسلامية بين الذين يحملون اليوم أسماء المسلمين دون أن يكون في حياتهم رصيد واقعيّ من الإسلام ، يملكون خير الدنيا والآخرة ولكنهم لا يستخدمونه ولا يتوجهون إليه . فتنحدر حياتهم إلى الحضيض . ثم إذا فكروا أن يقوموا من حضيضهم لم يتجهوا إلى من ينتشلهم حقاً ، إنما تجهوا إلى من يزيدهم ارتكاساً وهُوِيّا إلى الحضيض !
إن المسلمين في حاجة لأن يراجعوا موقفهم من ربهم ومن عقيدتهم التي ارتضاها الله لهم .. في حاجة لأن يعودوا إلى حقيقة الإسلام ، ليأخذوا منه الدفعة التي تسير حياتهم في الطريق الصحيح ، بدلاً من أن يتخبطوا ذات اليمين وذات الشمال كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ !
وإن حركات البعث الإسلامي القائمة اليوم في الشباب المسلم في شتى بقاع الأرض لهي بشير الخير بالنسبة للمستقبل ، وإن كان هذا المستقبل يحتاج إلى جهد ضخم لتأمينه .
وسينْفذ الله وعده ووعد رسوله بالتمكين لهذا الدين في الأرض من جديد . ولن يقف المتخاذلون والمنسلخون من دينهم في طريق وعد الله إنما ينطبق عليهم النذير الرباني : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [ محمد : 38 ] .(1/436)
أما الآخرون الذين يتمسكون بهذا الدين ويجاهدون لتمكينه في الأرض فسوف ينالهم وعد الله : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) [ النور : 55 ] .
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
وما التوفيق إلا من عند الله .
- - - - - - - - - - - - - -(1/437)
مراجع التحقيق
1. صحيح مسلم- المكنز -
2. صحيح ابن حبان
3. صحيح البخارى- المكنز -
4. سنن ابن ماجه- المكنز -
5. مسند أحمد (عالم الكتب) -
6. تفسير ابن كثير - دار طيبة -
7. جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ
8. سنن الترمذى- المكنز -
9. شعب الإيمان
10. الله يتجلى في عصر العلم
11. مصنف ابن أبي شيبة
12. الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ
13. مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار -
14. سيرة ابن هشام
15. المستدرك للحاكم
16. مسند الشاميين
17. المعجم الكبير للطبراني
18. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
19. حياة الصحابة
20. سنن الدارقطنى- المكنز -
21. سنن أبي داود - المكنز -
22. الخلاصة في شرح حديث الولي
23. مذاهب فكرية معاصرة
24. المسند الجامع
25. الإعجاز اللغوي والبيان في القرآن الكريم
26. أيسر التفاسير لأسعد حومد(1/438)
27.تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
28. الواضح في أركان الإيمان
29. الإيمان بيوم القيامة وأهواله
30. الخلاصة في أشراط الساعة الكبرى
31. الخصال الموجبة لدخول الجنة في القرآن والسنة
32. صفة الجنة في القرآن والسنة
33. الخصال الموجبة لدخول النار في القرآن والسنة
34. صفة النار في القرآن والسنة(1/439)
الفهرس العام
المقدمة ... خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
الباب الأول ... 7
الإيمان بالله ... 7
أصول العقيدة الإسلامية ... 8
الدين والفطرة ... 11
? ... عوامل إيقاظ الحس على حقيقة وجود الله : ... 12
? ... أسباب تبلد الحس عند الإنسان : ... 16
طريقة القرآن فى هداية النفس البشرية وردها عن شتى الضلالات ... 18
القرآن والوجدان ... 20
1- آيات فى الكون : ... 21
2- ظاهرة الموت والحياة : ... 25
3- الرزق : ... 27
4- الأحداث الجارية : ... 32
? ... أثر الأحداث التى تجرى فى الحياة على الغافل : ... 32
5-علم الله الشامل للغيب : ... 35
الدليل العقلى ... 40
تيقظ الإيمان المركوز بالفطرة وقت الشدة ... 56
القرآن يتولى الرد على دعاوى المبطلين ... 60
1- الشرك : ... 62
2- ادعاء الولد لله : ... 66(1/440)
3- إنكار البعث : ... 71
تثبيت الإيمان ... 74
1- ... التذكير بعظمة الله وآيات قدرته فى الآفاق والأنفس : ... 75
(ج) فى نعم الله على العباد : ... 78
( د) فى تدبير الكون بغير شريك : ... 79
(هـ) فى تأييد الرسل بالمعجزات : ... 80
2- التذكير بمراقبة الله للإنسان : ... 81
3- توجيه القلب البشرى إلى ذكر الله : ... 81
4- قصص الأنبياء : ... 82
5- صور المؤمنين والكافرين : ... 85
تحيكم شريعة الله ... 91
الإيمان بأسماء الله وصفاته ... 100
الانحراف عن الإيمان والتوحيد ... 106
الشرك: أسبابه ودوافعه ... 109
1- ... الإعجاب والتعظيم : ... 109
2- ... الميل إلى الإيمان بالمحسوس والغفلة عن غير المحسوس : ... 112
3- ... الهوى والشهوات : ... 115
4- ... الكبر عن عبادة الله : ... 116
5- ... وجود الطغاة الذين يريدون أن يستعبدوا الناس لأنفسهم فيرفضوا أن يحكموا بما أنزل الله : ... 118
أنواع الشرك : ... 120
1- ... شرك التقرب والزلفى : ... 122
2- ... شرك طلب الشفاعة من غير الله : ... 123
3- ... شرك الطاعة والاتباع : ... 124(1/441)
4- ... شرك المحبة والولاء : ... 128
5- ... شرك الرياء : ... 129
آثار الشرك ... 133
1- ... وأول آثار الشرك إطفاء نور الفطرة : ... 133
2- ... ومن آثاره القضاء على منازع النفس السامية : ... 134
3- ... ومن آثاره القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه فى العبودية الذليلة : ... 134
4- ... ومن آثاره تمزيق وحدة النفس البشرية : ... 135
5- ... ومن نتائجه إحباط العمل : ... 137
6- ... ومن آثار الشرك الأكبر خلود صاحبه فى النار : ... 138
الإلحاد ... 140
أسباب الإلحاد : ... 141
أولاً : دور الكنيسة الأوربية فى إفساد النصرانية المنزلة من عند الله : ... 141
ثانياً : موقف الكنيسة من العلم : ... 142
ثالثاً : طغيان الكنيسة ورجال الدين: ... 144
رابعاً : الرهبانية : ... 145
خامساً : مهزلة صكوك الغفران : ... 145
سادساً : تشويه الكنيسة لصورة الإسلام فى نفوس الأوربيين : ... 146
سابعاً : دور اليهود فى إفساد الحياة الأوربية : ... 147
ثامناً : مسئولية المسلمين عن ذلك كله : ... 148
قضية الإلحاد لا تقوم على أساس من العقل ولا من العلم ... 150
آثار الإلحاد فى واقع البشرية المعاصر ... 153
1- القضاء على القيم الروحية والمثل العليا : ... 153
2- الإخلال بالتوازن فى حياة الإنسان : ... 155
3- القضاء على وازع الضمير : ... 156
4- اختلال الأمن والسلام فى المجتمع العالمى ... 157(1/442)
5- فساد الفطرة الإنسانية والهبوط إلى مستوى الحيوان : ... 159
موقف المسلم من قضية الإلحاد ... 161
لا رهبانية فى الإسلام ... 164
الباب الثانى ... 168
الإيمان بالملائكة ... 168
وظائف الملائكة ... 173
أثر الإيمان بالملائكة فى حياة الإنسان ... 178
الباب الثالث ... 179
الإيمان بالكتب ... 179
وجوب الإيمان بالكتب السماوية ... 181
تحريف الكتب السابقة ... 183
القرآن نسخ الكتب السابقة كلها ... 190
تولى الله حفظ القرآن ... 193
مكانة القرآن فى نفس المؤمن ... 195
1- ... القرآن هو منهج التربية الإسلامية : ... 196
2- ... القرآن كتاب الشريعة : ... 196
3- ... القرآن مرشد السالكين فى رحلة الحياة : ... 197
4- ... القرآن يدعوا إلى تدبر آيات الله فى الكون : ... 200
5- ... تدبر السنن التى تحكم حياة الإنسان : ... 202
6- ... معرفة الأحداث التاريخية الكبرى : ... 204
مقتضى الإيمان بالقرآن ... 206
الباب الرابع ... 212
الإيمان بالرسل ... 212
(1) وجوب الإيمان بالرسل ... 212
(2) حقيقة النبوة ... 214(1/443)
(3) الوحى وأنواعه ... 219
(4) حاجة البشر إلى الرسالة ... 223
(5) مهمة الرسل ... 232
(6) أثر الرسل فى حياة الناس ... 241
(7) فضل الرسل على تقدم البشرية ... 251
(8) مهمة التعليم الأساسية ... 254
(9) جناية النزعة المادية الإلحادية ... 255
(10) صفات الرسل ... 258
1- بشريتهم : ... 258
2- عصمتهم : ... 262
2- ... مجال القدوة بهم : ... 265
(11) أولو العزم من الرسل ... 269
1- ... نوح عليه السلام : ... 270
2- ... إبراهيم عليه السلام : ... 274
3- ... موسى عليه السلام : ... 281
4- عيسى عليه السلام : ... 292
الرسالة المحمدية ... 301
( 1 ) حال العالم قبل الإسلام ... 301
(2) -دعوة إبراهيم وبشارة عيسىورؤيا أم النبى - صلى الله عليه وسلم - ... 305
(3) بشارة التوراة والإنجيل ... 307
(4) -صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحواله قبل البعثة ... 309(1/444)
(5) -السيرة المحمدية هى السيرة القطعية فى التاريخ ... 312
(6) - شخصية جامعة ... 314
(7) - مدرسة التربية ... 319
(7) ... - خصائص الرسالة المحمدية ... 321
1- ... ختمها للرسالات السابقة ونسخها لها : ... 321
2- ... دعوتها إلى الإيمان بما جاء به الأنبياء من قبل : ... 322
3- ... عالمية الرسالة : ... 324
4- ... شمولها لمطالب الحياة البشرية فى جميع الميادين : ... 325
5- منهجها الفكرى : ... 330
6- غنى مصادرها التشريعية : ... 336
7 . موافقتها للفطرة البشرية : ... 337
5- ... سماحتها ويسرها : ... 340
(9) - نماذج لأهم ما جاءت به الرسالة من القيم العليا ... 343
1- ... ترسيخ عقيدة التوحيد : ... 343
2- ... إبراز الكرامة الإنسانية : ... 346
3- ... تقرير مبدأ الشورى والعدل : ... 350
المعجزة ... 353
إعجاز القرآن الكريم ... 355
نواحى الإعجاز فى القرآن ... 358
أولاً : الإعجاز اللغوى : ... 358
ثانياً : الإعجاز الموضوعى : ... 362
1- ... الإعجاز فى التشريع : ... 363
2- ... الإعجاز العلمى : ... 367
وضع العالم الإسلامى المعاصر ... 370(1/445)
مستقبل الأمة الإسلامية ... 375
الباب الخامس ... 377
الإيمان باليوم الآخر ... 377
بعض الأدلة العقلية والنقلية على وجوب الإيمان باليوم الآخر ... 378
أثار الإيمان باليوم الآخر ... 383
فى سلوك الفرد والجماعة ... 383
الحقائق التى يشملها الإيمان باليوم الآخر ... 387
1- ... فتنة القبر وعذابه ونعيمه : ... 387
2- الساعة وأماراتها : ... 389
3- البعث : ... 392
4- الحشر ... 396
5- الحساب : ... 398
6- الصراط : ... 401
7 – الجنة والنار : ... 406
أولاً – أوصاف الجنة وأهلها : ... 408
ثانياً - من أوصاف النار وأهلها : ... 409
الباب السادس ... 411
الإيمان بالقدر ... 411
أثر الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح ... 413
خاتمة العقيدة الإسلامية ... 422
(1) -خصائصها ... 422
أولاً : الشمول : ... 422
ثانياً : التكامل (أو الترابط) : ... 423
ثالثاً : التوازن : ... 427(1/446)
(2) -أثرها فى الحياة الإنسانية ... 430(1/447)