الفصل السادس
حكم رعاية الآثار والاهتمام بها وتعظيمها
لقد ذكرت في مذكرة السياحة تحت المجهر حرمة رعاية الآثار وتعظيمها ، وبما أن هذا المسألة طويلة وتحتاج إلى بيان فقد أفردتها في فصل مستقل في هذا البحث ، وقد اقتصرت في هذا الفصل على نقل كلام الشيخين محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله ، وقد نقلا رحمهما الله أدلة التحريم و أقوال السلف في فتاواهما مما أغناني عن البحث بعدهما في هذا المسألة وإليك فتاواهما :-
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في ( فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ) 1/151-162
( الغلو في الآثار )
دار الأرقم ، ومسجد الحديبية
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأستاذ صالح محمد جمال رئيس تحرير جريدة الندوة وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد : فقد وجهت جريدة الندوة في عددها الصادر 20 رمضان 1383هـ استفتاء إلى دار الإفتاء بمناسبة تسليم دار الأرقم للرئاسة العامة لهيئات اللأمر بالمعروف عن أمرين :
احدهما : هل هناك مانع من أن تكتب عليها عبارة " دار الأرقم بن أبي الأرقم " تخليداً لهذا الأثر ؟ وهل هناك مانع ديني من اتخاذها مكتبة أو متحفاً أو مدرسة ثم السماح للحجاج والزوار للبلاد المقدسة بزيارتها كدار ساهمت في نشر الدعوة الإسلامية ففي أحلك الظروف التي مرت بها .
السؤال الثاني : لماذا أزيل أثر مسجد البيعة من الحديبية " الشميسي " وهل هناك مانع ديني من الاحتفاظ به كمأثر شهد بيعة كان لها أكبر الأثر في رفع راية الإسلام ؟ .
هذا ما وجهته جريدة الندوة وتحته توقيع " طالب علم " .(1/1)
الجواب : أما اتخاذ " دار الأرقم بن أبي الأرقم " مزاراً للوافدين إلى البيت الحرام يتبركون به بأي وسيلة كان ذلك ، سواء كانت إعلان كتابة دار الأرقم عليها وفتحها للزيارة ، أو اتخاذها مكتبة أو متحفاً أو مدرسة ، فهذا أمر لم يسبق إليه الصحابة الذين هم أعلم بما حصل في هذه الدار من الدعوة إلى الإسلام والاستجابة لها ؛ بل كانوا يعتبرونها داراً للأرقم له التصرف فيها شأن غيرها من الدور ، وكان الأرقم نفسه يرى هذا الرأي حتى إنه تصدق بها على أولاده ، فكانوا يسكنون فيها ويؤجرون ويأخذون عليها حتى انتقلت إلى أبي جعفر المنصور ، ثم سلمها المهدي للخيزران التي عرفت بها ، ثم صارت لغيرها . يتبين هذا كله مما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ، عن شيخه محمد بن عمر ، قال : أخبرنا محمد بن عمران بن هند بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، قال : أخبرني أبي ، عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم ، قال : سمعت جدي عثمان بن الأرقم يقول : أنا ابن سبع الإسلام ، اسلم أبي سابع سبعة ، وكانت داره بمكة على باب الصفا وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها في أول الإسلام ، فيها دعا الناس إلى الإسلام وأسلم فيها قوم كثير ، وقال : ليلة الأثنين فيها ( اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام ) فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة فأسلم في دار الأرقم ، وخرجوا منها فكبروا ، وطافوا بالبيت ظاهرين ، ودعت دار الأرقم دار الإسلام ، وتصدق بها الأرقم على ولده ، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم في ربعه ماجاز الصفا إنها محرمة بمكانها من الحرم ، لا تباع ولا تورث ؛ شهد هشام بن العاص ، وفلان مولى هشام بن العاص ، قال : فلم تزل هذه الدار صدقة فيها ولده يسكنون ويؤجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر .(1/2)
قال : محمد بن عمران فاخبرني أبي عن يحي بن عمران بن عثمان بن الأرقم ، قال : إني لا أعلم اليوم الذي وقعت في نفس أبي جعفر إنه ليسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار في فسطاط فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة عليه لأخذتها ، وأنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا ، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة كان عبد الله بن عثمان بن الأرقم ممن تابعه ولم يخرج معه فتعلق عليه أبو جعفر بذلك ، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد ، ثم بعث رجلاً من أهل الكوفة يقال له شهاب بن عبد رب ، وكتب معه إلى عامله بالمدينة أن يفعل ما يأمره به فدخل شهاب على عبد الله بن عثمان الحبس وهو شيخ كبير ابن بضع وثمانين سنة وقد ضجر بالحديد والحبس ، فقال له هل لك أن اخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم ، فإن أمير المؤمنين يريدها ، وعسى أن بعته إياها أن أكلمه فيك فيعفو عنك ، قال : إنها صدقة ، ولكن حقي منها له ومعي فيها شركاء اخوتي وغيرهم ، فقال : إنما عليك نفسك اعطنا حقك وبرئت ، فاشهد له بحقه وكتب عليه كتاب شرى على حساب سبعة عشر ألف دينار ؛ ثم تتبع اخوته ففتنتهم كثرة المال فباعوه ، فصارت لأبي جعفر ولمن اقطعها ، ثم صيرها المهدي للخيزران أم موسى وهارون فبنتها وعرفت بها ، ثم صارت لجعفر بن موسى أمير المؤمنين ، ثم سكنها أصحاب الشطوي والمعنى ، ثم اشترى عامتها أو أكثرها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر .(1/3)
قال : وأما دار الأرقم بالمدينة في بني زريق فقطيعة من النبي صلى الله عليه وسلم . وهكذا رواه ابن سعد في الطبقات . ورواه الحاكم في " المستدرك " من طريق الحاكم ذكر الزيلعي في " نصب الراية " في كتاب الوقف ، والحافظ ابن حجر في ( الدراية ) قطعة منه ، وكذلك في ( الإصابة ) . إلا أنه قال : في " الدراية " وهلال مولى هشام . بدل وفلان مولى هشام ، وذكر جملة من ابن جرير الطبري في كتاب " ذيل المذيل " من تاريخ الصحابة والتابعين من طريق محمد بن عمر بسنده المذكور .
فمن هذه الرواية تبين أن كون دار الأرقم دار إسلام لم يمنع الأرقم التصرف فيها هو ولا ملاكها بعد ، كما يتصرف في غيرها من الدور ، ولم يتخذها متبركاً يتبرك به الوافدين إلى بيت الله الحرام ، بل كانوا يسكنون فيها ويؤاجرون ويأخذون عليها .
وأول من اتخذ منها مزاراً الخيزران حينما اتخذت القسم الذي يذكر أه مختبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم مسجداً ، وهذا المسجد هو الذي ذكره الأزرقي في تاريخ مكة وتبعه من بعده ، وذكر الفاسي في ( شفاء الغرام ، والنووي في الإيضاح ، وصاحب الجامع اللطيف ) أنه المقصود بالزيارة من دار الأرقم ، وعبارة الفاسي : المقصود بالزيادة منها أي من دار الأرقم – هو المسجد الذي فيها وهو مشهور من المساجد التي ذكرها الأزرقي ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مختبأ فيه – أي في الموضع الذي اتخذ مسجداً – وفيه أسلم عمر رضي الله عنه . ويصف لنا الفاسي في ( شفاء الغرام ) مشاهدته ذلك المسجد حين يقول : وطول هذا المسجد ثمانية أذرع إلا قيراطين ، وعرضه سبعة أذرع وثلث ، الجميع بذراع الحديد ، حرر ذلك بحضوري وفيه مكتوب ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال ) .(1/4)
هذه مختبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الخيزران ، وفيه مبتدأ الإسلام ، أمرت بتجديده الفقيرة إلى الله مولاة أمير الملك مفلح سنة ست . وذهب بقية التاريخ . قال الفاسي : وعمّره أيضاً الوزير الجواد ، وعمّرته مجاورة يقال لها مرة العصماء ، وعمّر أيضاً في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ، الذي أمر بهذه العمارة لا أعرفه ، والمتولى بصرف النفقة فيها علاء الدين علي بن ناصر محمد بن الصارم المعروف بالقائد . اهـ كلام الفاسي .
وعلى كل فعمل الخيزران ليس بحجة ، إنما الحجة في عمل الصحابة رضي الله عنهم ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير " سورة الإخلاص " (17/466) : " إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي ولا رجل صالح ولا جعلوه مشهداً أو مزاراً ولا على شيء من آثار الأنبياء مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه أو فعل فيه شيئاً من ذلك " .انتهى .
وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) على المزارات التي بمكة غير المشاعر مساجد وغيرها فقال ضمن كلامه على ذلك ( ص 452 ) : " ما بني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة غير المسجد الحرام ؛ بل المساجد كلها محدثة مسجد المولد وغيره ، ولا شرع لأمته زيادة موضع المولد ، ولا زيادة موضع العقبة الذي خلف منى وقد بني هناك مسجد ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، وحج معه إلا من شاء الله ، وهو في ذلك كله لم يأت هو ولا أحد من أصحابه غار حراء ، ولا شيئاً من البقاع التي حول مكة ، ولم يكن هناك إلا بالمسجد الحرام وبين الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفات ، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة ، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة المجاورة لعرفة ، وحج بعده خلفاؤه الراشدون فمشوا على تلك الطريقة ماساروا إلى حراء ونحوه لصلاة فيه " .(1/5)
وقال : في ( ص 429 ) : " قد ذكر طائفة من المصنفين استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها ، وكنت كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري لبعض الشيوخ جمعته من كلام العلماء ، ثم تبين لي أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة ، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئاً من ذلك ، وأن أئمة العلم والهدي ينهون عن ذلك وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات ، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه ، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام ، وما يفعلها الرجل في مسجد من تلك المساجد من دعاء وصلاة وغير ذلك إذا فعله في المسجد الحرام كان خيراً له بل هذا سنة مشروعة ، وأما قصد مسجد غيره هناك تحرياً لفضله فبدعه غير مشروعة " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منسكه " في مجموع الفتاوى ( 26/144) " أما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا ، وما في سفح أبي قبيس ، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على أثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمسجد المولد وغيره فليس قصد شيء من ذلك من السنة ، ولا استحبه أحد من الأئمة ، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة والمشاعر عرفة ومزدلفة والصفا والمروة ، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال انه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة شيء من ذلك " .(1/6)
وقال في تفسير ( سورة الإخلاص في مجموع الفتاوى ) ( 7/477) : " النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بمسجد بمكة إلا المسجد ولم يأت للعبادات إلا المشاعر منى ومزدلفة وعرفة ، ولهذا كان أئمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجد بمكة لصلاة غير المسجد الحرام ولا تقصد بقعة لزيارة غير المشاعر التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . إلى أن قال : وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث " إهـ .
ويضاف إلى هذا ما ذكر الشاطبي في ( الاعتصام ) في تتبع الآثار قال : خرج الطحاوي وابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي ، قال وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : ( ألم تر كيف فعل ربك ) و ( لإيلاف قريش ) ثم رأى ناساً يذهبون مذهباً فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قال : يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنما أهلك من كان قبلكم انهم يتبعون أثار انبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصل ، وإلا فلا يتعمدها . ثم قال الشاطبي : قال ابن وضاح : كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون اتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قبا وحده . قال : وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بين المقدس فصلى فيه ولم يتبع وقدم وكيع مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان . قال ابن وضاح : وقد كان مالك يكره كل بدعه وان كانت في خير ، وجميع هذا ذريعة لأن يتخذ سنة ماليس سنة أو يعد مشروعاً ما ليس مشروعاً " إهـ .
وهذا كله على تسليم كون الدار المعروفة اليوم بدار الأرقم هي دار الأرقم في الواقع ، وفي النفس من ذلك شيء لأمرين :(1/7)
احدهما : أن موقع دار الأرقم حسب ما تقدم في رواية ابن سعد على باب الصفا ، وفي تلك الرواية قول يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم إني لأعلم اليوم الذي وقعت – أي دار الأرقم – في نفس أبي جعفر انه ليسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار في فسطاط فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة عليه لأخذتها ، وانه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا . وهذا غير موقع الدار المعروفة اليوم وبذلك الاسم ، وما في رواية ابن سعد المذكورة موافق لما في تاريخ مكة للأزرقي ومستدرك الحاكم إنها عند الصفا ولما في ( أسد بالغابة ) لابن الأثير أنها في أصل الصفا .
الثاني : ما ذكره ابن كثير في تاريخة " البداية والنهاية " في حوادث سنة 173هـ في ترجمة الخيزران ، قال : قد اشترت الدار المشهورة فيها بمكة المعروفة بدار الخيزران فزادتها في المسجد الحرام . فإن هذا وإن كان بعيداً ومخالفاً لرواية ابن سعد المتقدمة ولم يذكره الأزرقي وغيره فإنه مما يشك في اشتهار الدار الموجودة اليوم باسم " دار الأرقم " في زمن ابن كثير إذ لو كان الأمر كذلك لما خفي عليه " قلت : وعلى فرض أنها هي الدار المعروفة فقد هدمت وجعلت ضمن الساحة موقفاً للسيارات وطريقاً للمشاة ، وكفى الله شر التعلق والتبرك بها . فله الحمد .
وأما قول السائل : لماذا أزيل أثر مسجد البيعة من الحديبية " الشميسي " وهل هناك مانع يمنع من الاحتفاظ به كمأثر شهد بيعة كان لها أكبر الأثر ي رفع راية الإسلام .
فالجواب : انه أزيل لأنه ليس مسجد الشجرة الذي يعنيه السائل بمسجد البيعة ، فإن مسجد الشجرة غير معروف هو والحديبية من مدة قرون بشهادة مؤرخي مكة والمدينة .(1/8)
قال الفاسي في ( شفاء الغرام ) في كلامه على مسجد الشجرة وعلى المسجد الأخر الذي بناه يقطين بن موسى في الشق الأيسر : " هذان المسجدان والحديبية لا يعرفون اليوم ، والله أعلم . وقال : في موضع أخر ما نصه : هي – أي الحديبية – والأعشاش لا يعرفان اليوم . وذكر في محل أخر القول بأن موضع الحديبية هو الذي فيه البير المعروفة ببير شميسي بطريق جدة ، وتعقبه بقوله : الشجرة والحديبية لا يعرفان الآن ، وليست الحديبية بالموضع الذي يقال له الحديبية في طريق جدة لقرب هذا الموضع من جدة وبعده من مكة ، والحديبية دونه بكثير إلى مكة " إهـ .
وقال الزين المراغي في ( تحقيق النصرة بمعالم دار الهجرة ) في كلامه على مسجد الحديبية : " لا يعرف اليوم ، بل يقال إن مكة ليس فيها أحد يعرف الحديبية بعينها وإنما يعرفون الجهة لا غير "إهـ .
وقال السهودي في ( وفاء الوفاء بإخبار دار المصطفى ) " هو – أي مسجد الحديبية – غير معروف ، بل قال : المطري لم أر في أرض مكة من يعرف اليوم الحديبية إلا الناحية لا غير . وإذا كان هذا مآل مسجد الشجرة والحديبية في أعصر أولئك فكيف باليوم " إ هـ .(1/9)
وأما موقف السلف من ذلك المسجد المسمى بمسجد الشجرة أيام كان هو والحديبية معروفين فهو أنهم لا يرون رأي السائل وهو أنه شهد بيعة الرضوان ، وممن قام ببيان ذلك من السلف سعيد بن المسيب ، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما عن طارق بن عبد الرحمن ، قال إن انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون ، فقلت ما هذا المسجد ، قالوا هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد لم يعلموها ، وعلمتموها انتم فانتم أعلم ؟وروى ابن جرير الطبري في تفسيره عن سعيد بن المسيب قال : كان جدي يقال له حزن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، يقول : فأتيناها من قابل فعميت عليها . وكان ابن عمر يذكر أن تعمية شجرة البيعة رحمة من الله ، روى البخاري في صحيحه في " باب البيعة في الحرب على إلا يفروا " من كتاب الجهاد عن نافع ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها ، كانت رحمة من الله .
قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : " الحكمة في إخفائها هي أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير ، فلو بقيت لما أمن تعظيم الجهال لها ، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع وضر ، كما نراه الآن مشاهداً فيما دونها . قال : وإلى ذلك اشار ابن عمر بقوله : كانت رحمة من الله . أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى . هذا ما صار إليه شأن شجرة البيعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " إ هـ .(1/10)
ثم صار في خلافة عمر بن الخطاب ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ص 306: " وهو توهم من توهم في شجرة بالحديبية أنها هي الشجرة التي بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم تحتها (بيعة الرضوان ) ، فكان من توهم ذلك ينتابها ويصلى عندها ، فأمر عمر بن الخطاب بقطعها فقطعت " إهـ .
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رواه ابن سعد في ( الطبقات الكبرى) قال : " حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال : اخبرنا عبد الله بن عون ، عن نافع ، قال كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها ، قال : فبلغ ذلك عمر ابن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت " ؛ وصحح الحافظ في " الفتح " إسناد هذه الرواية ، واعتمدها صاحب ( عيون الأثر ) وعزاها السيوطي في ( الدر المنثور ) إلى مصنف ابن أبي شيبة . قال : ابن وضاح في كتاب " البدع والنهي عنها " : سمعت عيسى بن يونس مفتي طرسوس يقول : أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها ، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة . قال عيسى ابن يونس وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع : أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر . قال ابن وضاح : فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ومتحبب إلى الله بما يبغضه ؛ ومتقرب إليه بما يبعده منه ، وكل بدعة عليها زينة وبهجة " إهـ . وهذا ما لزم بيانه ، وصلى الله على محمد وأله وصحبه وسلم .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في ( فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ) 6/8
( صعود جبل الرحمة وتسهيل الصعود إليه )
قوله : ولا يشرع صعود جبل الرحمة ، الجهال يعظمونه ويصعدونه ، وهذا أكثر ما يروج على الخرافيين أهل تعظيم الأحجار والأشجار ونحوها ، أهل التوحيد لا يروج عليهم .
( فتوى في الموضوع )(1/11)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير منطقة مكة المكرمة ... ... ... ... سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . ... ... ... ... ... ... وبعد :
فقد جرى اطلاعنا على خطابكم رقم 740 – 2 – ل وتاريخ 9-2-1386هـ بخصوص ذكركم أن لجنة الحج العليا أوصت باستفتائنا عن مشروعية عمل عدة منافذ من الدرج في جبل الرحمة تخفيفاً للزحام الشديد الحاصل فيه يوم عرفة . إلى أخر ما ذكرتم .
ونفيد سموكم أن الصعود إلى الجبل نتيجة اعتقاد خصوصية شرعية بدعة ، إذ لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من سلف الأمة الصالح أنه صعد الجبل يوم عرفة تقرباً ، وقد كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل عند الصخرات ، وقال صلى الله عليه وسلم ( وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ) أخرجه مسلم .
ولا يخفى سموكم أن العمل لتسهيل الصعود إليه معناه إقرار هذه البدعة ، وتسهيل أمرها ، والمساعدة على أدائها ، وهذا منكر أيضاً ؛ إذ الدال على الخير كفاعله ، وعكسه ظاهر ، وبالله التوفيق . والسلام عليكم.
حكم الإسلام في إحياء الآثار
... قال الشيخ عبد العزيز بن باز في ( مجموع فتاوى ومقالات متفرقة ) 3/334
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأله وصحبه ... ... ... ... وبعد :(1/12)
فقد نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها لبعض الكتاب ومنهم الأستاذ صالح محمد جمال . وقد رد عليه سماحة العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد فأجاد وأفاد وأحسن أجزل الله مثوبته . ولكن الأستاذ أنور أبا الجدايل هداه الله وألهمه رشده لم يقتنع بهذا الرد أو لم يطلع عليه فكتب مقالاً في الموضوع نشرته جريدة المدينة بعددها الصادر برقم 5448 وتاريخ 22/4/1402هـ بعنوان ( طريق الهجرتين ) قال فيه " والكلمة المنشورة بجريدة المدينة بالعدد 5433 وتاريخ 7/4/1402هـ للأستاذ عبد العزيز عبد القدوس الأنصاري عطفاً على ما قام به الأديب الباحث الأستاذ عبد العزيز الرفاعي من تحقيق للمواقع التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة تدفعنا إلى استنهاض همة المسئولين إلى وضع شواخص تدل عليها كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك . بعد اتخاذ الحيطة اللازمة لمنع أي تجاوز يعطيها صفة التقديس أو التبرك أو الانحراف عن مقتضيات الشرع ، لأن المقصود هو إيقاف الطلبة والدارسين ومن يشاء من السائحين على ما يريدونه من التعرف على هذا الطريق ومواقعه هذه لمعرفة ما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته السرية المتكتمة هذه من متاعب ، وذلك لمجرد أخذ العبرة وحمل النفوس على تحمل مشاق الدعوة إلى الله تأسياً بما تحمله في ذلك عليه الصلاة والسلام .(1/13)
على أن تعمل لها طرق معبدة تخرج من الطريق العام وتقام بها نزل واستراحات للسائحين ، وأن يعنى أيضاً بتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده صلى الله عليه وسلم بدءاً بغار حراء ثم ثور ، والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك حتى الوصول إلى قباء ، وما سبق ذلك من مواقع في مكة المكرمة كدار الأرقم بن أبي الأرقم ، والشعب الذي قوطع هو وأهله فيه وطريق دخوله في فتح مكة ثم نزوله بالأبطح ، وكذا في الحديبية وحنين وبدر وكذلك مواقعه في المدينة المنورة ، ومواقع غزواته . وتواجده في أريافها ثم طريقه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإلى تبوك وتواجده فيهما لإعطاء المزيد من الإحاطة والإلمام بجهاده الفذ في نشر الدعوة الإسلامية والعمل على التأسي به في ذلك ) اهـ .
كما دعا الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 وتاريخ 13/1/1402هـ إلى تطوير الأماكن الأثرية في المملكة لزيارتها من قبل المسلمين بصفة مستمرة ، لضمان الدخل بزعمه بعد نفاذ البترول ومما استدل به : ( أن السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي ، وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس ) كما أشار أنه ستؤدي من الفوائد أيضاً : ( في تثبيت العلم بالإسلام عند الأطفال المسلمين ... . إلخ ) .(1/14)
ونظراً لما يؤدي إليه إحياء الآثار المتعلقة بالدين من مخاطر تمس العقيدة أحببت إيضاح الحق وتأييد ماكتبه أهل العلم في ذلك والتعاون معهم على البر والتقوى والنصح لله ولعباده وكشف الشبهة وإيضاح الحجة فأقول: إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا ؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها ، والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس لا يدركها ، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها ، وما فيها من أشجار أو أحجار ، ويصلي عندها ، ويدعو من نسبت إليه ظناً منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه والحصول الشفاعة ، وكشف الكربة وبعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم ، والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي ، وليس هناك غالباً من يخير زوارها بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس .
ويشاهد العاقل ذلك واضحاً في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة وأصبحوا يعبدونها من دون الله ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء فكيف إذا قيل لهم هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس ، قال الله تعالى عن الشيطان إنه قال : ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين # إلا عبادك منهم المخلصين ) سورة ص ، وقال أيضاً سبحانه عن عدو الله الشيطان : ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمائلهم ولاتجد أكثرهم شاكرين ) سورة الأعراف ، وقد أغوى آدم فأخرجه من الجنة مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه كما قال تعالى في سورة طه : ( وعصى أدم ربه ، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) .(1/15)
ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلاً ليعبدوه من دون الله فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها . وثبت في جامع الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لهم ذات أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول لله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، لتركبن سنن من كان قبلكم ) . شبه قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ . ولعظيم جريمة الشرك وخطره في إحباط العمل نرى الخليل عليه السلام يدعو الله له ولبنيه السلامة منه . قال الله تعالى: ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ... الآية ) إبراهيم . فإذا خافه الأنبياء والرسل – وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له – فغيرهم أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك ، ويجب تحذيره منه كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه .(1/16)
ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ ، فلن تحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد المترتبة على تعظيم الآثار ؛ لأن الناس يختلفون من حيث الفهم والتأثر والبحث عن الحق اختلافاُ كثيراُ ، ولذلك عبد قوم نوح عليه السلام وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا . مع أن الأصل في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم لا للغلو فيهم وعبادتهم من دون الله ، ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد وزين لهم عبادتهم من دون الله وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم . روى ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : ( وقالوا لا تذرن إلهتكم ولاتذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا ) نوح قال " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت " .(1/17)
أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى فإن الله جل وعلا أمر بالحذر من طريقهم ؛ لأنه طريق ضلال وهلاك ولا يحوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما جاء به أنبيائهم . فأنهم ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك طريقهم . والحاصل أن المفاسد التي ستنشأ عن الاعتناء بالآثار وإحيائها محققة ولا يحصي كميتها وأنواعها وغاياتها إلا الله سبحانه ، فوجب منع إحيائها وسد الذرائع إلى ذلك . ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أعلم الناس بدين الله ، وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكملهم نصحاً لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار ولم يعظموها ولم يدعوا إلى إحيائها ، بل لما رأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أمر بقطعها خوفاً على الناس من الغلو فيها والشرك بها . فشكر له المسلمون ذلك وعدوه من مناقبه رضي الله عنه .(1/18)
ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه ، وسبق أنهم أعلم الناس بشريعة الله ، وأحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وأنصحهم لله ولعباده ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة ، أو غار ثور ، ولم يفعلوا ذلك أيضاً حين عمرة القضاء ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع ولم يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد ولا محل شجرة البيعة فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله . وهو من أعظم الوسائل إلى الشرك الأكبر ولما كان البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها من أعظم وسائل الشرك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وأخبر عمن يفعل ذلك أنهم شرار الخلق ، وقال فيما ثبت عنه في صحيح مسلم رحمه الله عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) . وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه . وأن يبنى عليه ) زاد الترمذي بإسناد صحيح : ( وأن يكتب عليه ) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .(1/19)
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثيرة وذكر منها العلامة ابن القيم رحمة الله في كتابه ( إعلام الموقعين ) تسعة وتسعين دليلاً كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي ، وذكر منها قول الله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ... الآية ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) سداً لذريعة عبادة الشمس من دون الله . ومنعاً للتشبه بمن لعل ذلك . كما ذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيداً وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثاناً والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سداً للذريعة .
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في هذا الباب وغيره ، وأن ينهوا عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي والغلو في الأنبياء والأولياء حماية لجناب التوحيد وسداً لطرق الشرك ووسائله .
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين ، وأن يفقههم في الدين ، وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة ، وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد ، وعلى أله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .
لا يجوز تعظيم آثار العلماء بما يفضي إلى الغلو فيهم والشرك بهم
... قال الشيخ عبد العزيز بن باز :(1/20)
الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، وعلى أله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد ...
فقد نشرت صحيفة الرياض في عددها الصادر في 21/10/1420هـ مقالاً بقلم : س.د تحت عنوان : ( ترميم بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحريملاء ) وذكر أن الإدارة العامة للآثار والمتاحف أولت اهتماماً بالغاً بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ : محمد بن عبد الوهاب رحمة الله في حي غيلان بحريملاء حيث تمت صيانته وأعيد ترميمه بمادة طينية مادة البناء الأصلية ... إلى أن قال : وتم تعيين حارس خاص لهذا البيت ..إلخ ، وقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور ورأت أن هذا العمل لا يجوز ، وأنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد رحمة الله وأشباهه من علماء الحق والتبرك بآثارهم والشرك بهم ، ورأت أن الواجب هدمه وجعل مكانه توسعة للطريق سداً لذرائع الشرك والغلو ، وحسماً لوسائل ذلك وطلبت من الجهة المختصة القيام بذلك فوراً ، ولإعلان الحقيقة والتحذير من هذا العمل المنكر جرى تحريره ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأله وصحبه .
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ورئيس اللجنه الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن باز .
الرد على مصطفى أمين
... قال الشيخ عبد العزيز بن باز في (مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة ) 1/391
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين ... وبعد :(1/21)
اطلعت على ما نشرته صحيفة الندوة في عددها الصادر في 24/6/1380هـ بعنوان " آثار المدينة المنورة " بقلم الأخ مصطفى أمين فلما تأملت المقال المشار إليه وجدته قد اشتمل على أخطاء كثيرة يجب التنبيه عليها ؛ لئلا يغتر بها بعض القراء . والمقتضي لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
وإليك أيها القارئ الأخطاء والحجة على إنكارها :(1/22)
أولاً : قوله في المدينة : هذه المدينة المقدسة بها أثار كثيرة تستحق الذكرى ، ونحن العرب لم نهتم بهذه الآثار بينما نشاهد معالم باريس ، ولندن بها من الآثار ما يجعل شعوبها تخلد هذه الذكرى فما بالنا نحن المسلمين العرب لا نهتم بآثار العصور الماضية ، إلى قوله وإنما يدعو الإسلام ... إلخ . يدعونا الكاتب في هذه الكلمة إلى التشبه بباريس ولندن في تعظيم الآثار ، وتخليد ذكراها بالأبنية وأشباهها ، وهذا غريب ، وعجيب أن يدعو مسلم إلى التشبه بأعداء الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) أيها القارئ إن تعظيم الآثار لا يكون بالأبنية ، والكتابات والتأسي بالكفرة ، وإنما تعظيم الآثار يكون باتباع أهلها في أعمالهم المجيدة ، وأخلاقهم الحميدة ، وجهادهم الصالح قولاً وعملاً ، ودعوة وصبراً ، هكذا كان السلف الصالح يعظمون آثار سلفهم الصالحين ، وأما تعظيم الآثار بالأبنية والزخارف والكتابة ونحو ذلك فهو خلاف هدي السلف الصالح ، وإنما ذلك سنة اليهود والنصارى ومن تشبه بهم ، وهو من أعظم وسائل الشرك ، وعبادة الأنبياء والأولياء كما يشهد به الواقع ، وتدل عليه الأحاديث والآثار المعلومة في كتب السنة قتنبه واحذر . نعم ، ينبغي للمسلمين أن يستعدوا لأعدائهم في إيجاد المصانع النافعة للمجتمع ، واختراع الأسلحة المناسبة للعصر ، لا تأسياً بالكفرة ، ولكن طاعة لله ولرسوله ، وتأسياً بالسلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن سلك سبيلهم ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا خذوا حذركم ) النساء . وقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) الأنفال ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن ...(1/23)
الحديث ) ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وكلها تدل على أنه يجب على المسلمين أن يوجدوا بينهم من المصانع والأسلحة وأسباب العيش والحياة الكريمة ما يقوم بكفايتهم ويغنيهم عن الحاجة إلى غيرهم ، ويعينهم على جهاد أعدائهم وحماية مصالحهم ، والنصر لدينهم ، واسترجاع أمجادهم السالفة ، ومن عدوان من أرادهم أو أراد دينهم بسوء ، هذا يا مصطفى أمين هو تعظيم الآثار لا ما أشرت إليه من الأبنية ونحوها والله المستعان .(1/24)
ثانياً : يقول الكاتب مصطفى : والمعرفة لا تجعل التقوى في الضعف ولا في الخوف بل في العلم بسنة الكون والوقوف على أسراره ، والاتصال بما دق وجل منه . إلخ ، نعم لا ينبغي أن تجعل التقوى في الضعف والخوف والتأخر عن ميادين الإصلاح والنفع الخاص والعام ، والنظر في سنن الكون والتبصر في حكمة الرب سبحانه فيما خلق وشرع بل يجب أن يكون أهل التقوى هم أشجع الناس على كل خير ، وأكملهم عناية بكل إصلاح ؛ لأن تقواهم لله سبحانه تقتضي منهم ذلك . ولكن كلام الكاتب يوهم أن التقوى تنحصر في العلم بسنة الكون ، والوقوف على أسراره ، والتأسي بمن بلغ في هذا الباب أقصى ما يمكنه من العناية ، وليس الأمر كذلك . وإنما العلم بسنة الكون والعناية بأسراره من التقوى ، لا أنه كل التقوى ؛ لأن التقوى عند علماء الشرع : فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه ، عن إيمان وصدق وإخلاص ومحبة ورغبة ورهبة ، ومن ذلك العناية بالمصالح العامة وإيجاد المصانع النافعة ، والتأسي بمن سبقنا في هذا الميدان من السلف الصالحين . والأئمة المتقين . ولا حرج علينا في أن نأخذ مما وقف عليه غيرنا من أسرار الكون واكتشف من العلوم النافعة الدنيوية التي لا تخالف الشرع المطهر . وإنما تعين على حمايته من كيد أعدائه وتغني أهله عن الحاجة إلى الغير بل يجب ذلك ويتعين على أهل الإسلام ولا تأسياً بالكفار بل لأن دينهم الكامل يأمرهم بالحرص على ما ينفعهم ، والحذر عن كل ما يضرهم كما تقدمت الأدلة على ذلك . وهؤلاء الكفار الذين بلغوا في الاختراع الغاية لم يزدهم ما وصلوا إليه من العلم إلا كفراً وإلحاداً وهبوطاً من الأخلاق الفاضلة ، وابتعاداً عن الأخلاق الكريمة ، فلا ينبغي أن يغتر بعلمهم ، ولا أن يقلدوا في علومهم ما ينفع و تدعو الحاجة إليه مع التقيد بتعاليم الشريعة والاستقامة على صراط الله المستقيم ، والحذر من كل ما خالف ذلك .(1/25)
فتنبه أيها القارئ الكريم لهذا المقام العظيم تنج من ضلالات كثيرة وشبهات متنوعة ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
ثالثاً : يقول الكاتب مصطفى : فمن الواجب على الذين يزورون قبر سيد الشهداء أن يلتمسوا فيه هذه الأسوة ، وأن يعلموا أن الله يجزيهم بجهادهم لبلوغ الغاية منها ولا يجزيهم لمجرد الزيارة ، والتبرك ، والدعاء . إلى أن قال : وأسوة حمزة رضي الله عنه هي الجهد في سبيل الله له المثل الأعلى ... . إلخ .
أقول : إن هذا الكلام فيه حق وباطل ، فأما الحق فهو تشجيع زوار قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وغيره من المؤمنين على تذكر أعمالهم المجيدة التي قاموا بها حين كانوا في قيد الحياة من الجهاد في سبيل الله ، والدعوة إليه ، والعناية بالمصالح العامة ، والتأسي بهم في ذلك ، وهذا حق ينبغي لكل مسلم أن يتذكره كثيراً ، وأن يتأسى بأهله في سائر أطوار حياته حتى يعمل كأعمالهم ، ويسير كسيرتهم حسب الطاقة (وأما الباطل فهو ما يوهمه كلامه من حصر المقصود بالزيارة في التأسي بالمزور في أعماله الطيبة السالفة )
. وقوله : إن الله لا يجزي الزائر لمجرد الزيارة و التبرك والدعاء . وهذا بلا شك خطأ ظاهر ومخالف للأحاديث الصحيحة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " وفي بعضها " وتزهد في الدنيا ) .(1/26)
فالنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب تدل على أن مقصود تذكر الآخرة ، والزهد في الدنيا ، والدعاء لأهل القبور من المسلمين بالعافية والمغفرة . والكاتب المذكور قد أعرض عن هذا ولم يرفع به رأساً . وشجع على أمر آخر يؤخذ من نصوص أخرى ، ولو جمع بين الأمرين لما فاته الصواب ، وأما قصد الزائر للقبور التبرك بها ، فليس ذلك من دين الإسلام بل هو من أعمال أهل الجاهلية ، ومن أخلاق عباد الأوثان ، فيجب الحذر منه ، ونهى الزوار عنه . وقد ثبت في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين . وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية ) وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فقال : ( السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر ) فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور وبيان المقصد منها . وأما التبرك بها والبناء عليها والكتابة عليها وقصدها للدعاء عندها فليس ذلك من سنته بل هو من سنة اليهود والنصارى وأهل الجاهلية ، نسأل الله لنا وللمسلمين جميعاً العافية من ذلك .(1/27)
رابعاً : يقول الكاتب مصطفى في أثناء كلامه : واتخذت بعض الأمم الإسلامية ملوكها أرباباً ، وجعلت من بعض الصالحين فيها أولياء اتخذتهم إلى الله زلفى ، ولهؤلاء وأولئك بنت القباب ، وأقامت عليها المساجد لا تقصد تخليد ذكراهم ليكون للذكرى في الأجيال أسوة ومثلاً ، بل تقصد أن تكون القباب والمساجد محاريب لعبادتهم ، والتوسل إلى الله ، ولو أنهم أقاموا القبة أو المسجد للأسوة ، وللذكرى لكان ذلك خيراً ... إلخ . أقول في هذا الكلام حق وباطل ؛ أما الحق فهو إقرار الكاتب بوجود هذه البدع والمنكرات في بعض الأمم الإسلامية ، وانتقاده اتخاذ تلك القبب والمساجد محاريب لعبادة الأموات والتوسل بهم . وهذا لا شك واقع ، ومن زار البلدان المجاورة رأى ذلك عياناُ فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ونسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك . وأن يمنحهم الفقه في الدين الذي بعث الله به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم حتى يعرفوا أن هذه المحدثات حول القبور تخالف شرعه وتوقع في عبادة غير الله سبحانه كما هو الواقع . وأما الباطل الذي اشتمل عليه كلام الكاتب فهو تفصيله بين اتخاذ القباب والمساجد للعبادة والتوسل ، وبين اتخاذها لتخليد الذكرى ففرق بين الأول والثاني . وهذا " التفصيل " ليس عليه دليل بل النصوص من الكتاب مطلقاً ؛ لأن اتخاذها لعبادة الأموات والتوسل بهم بالدعاء والاستغاثة ونحو ذلك شرك أكبر من جنس عمل الجاهلية الأولى حول اللات والعزى ومناة وأشباهها .(1/28)
واتخاذها للذكرى ، ولهذا المعنى جاءت النصوص من الكتاب والسنة تنكر ذلك وتحذر منه ، وتحسم وسائل الشرك ، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) قالت عائشة رضي الله عنها : يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه ) فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على تحريم اتخاذ المساجد والقباب على القبور وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أمته من ذلك ؛ لئلا يفعلوا فعل اليهود والنصارى من الغلو في تعظيم الأموات ، واتخاذ قبورهم مساجد ، والصلاة عندهم والدعاء ونحو ذلك فيقعوا في الشرك وعبادة الأنبياء والصالحين من دون الله كما وقع غيرهم ، وهذا الذي خافه صلى الله عليه وسلم قد وقع في أمته فعظموا الأموات من الأنبياء والصالحين التعظيم الذي لم يشرعه الله ، وبنوا على قبورهم المساجد والقباب وصرفوا لهم الدعوات والرغبات حتى وقع الشرك المحذور ، وحصل التأسي بعباد القبور فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(1/29)
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة ، وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما رأتا في أرض الحبشة كنيسة يقال لها مارية وما فيها من الصور، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله ) فبين صلى الله عليه وسلم أن بناء المساجد والقباب على القبور والمصورين فيها الصور هم شرار الخلق عند الله ولعنهم في حديث عائشة ولم يفصل بين من بناها للعبادة أو لتخليد الذكرى ، فعلم بذلك أن بناءها لا يجوز مطلقاً وما ذلك إلا لكونها من أعظم وسائل الشرك ، ومن أظهر أعلامه وشعائره ، وهي سنة اليهود والنصارى التي نهينا عن اتباعها ، وحذرنا من سلوكها كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال : ( فمن ؟! ) متفق عليه فهذا الخبر الصحيح يدل على أن هذه الأمة تسلك مسالك اليهود والنصارى في الشرك والبدع إلا من عصم الله من ذلك ، وهم الطائفة المنصورة كما في الأحاديث الأخر ، ويدل هذا الخبر أيضاً على تحذير الأمة من اتباع سنن اليهود والنصارى ؛ لأن اتباعهم يفضي بأهله إلى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحذر عما نهى عنه كما قال تعالى : ( وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )الحشر .(1/30)
وقال تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) النور ، لا ريب أنه صلى الله عليه وسلم دعا إلى كل خير وحذر أمته من كل شر فلا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف سبيله أو يدعو إلى غير طريقه ، ولا شك أن البناء على القبور واتخاذ المساجد والقباب عليها من سبيل اليهود والنصارى ، ومن وسائل الشرك والضلال مطلقاً فوجب تركها والحذر منها والله ولي التوفيق .
خامساً : يقول الكاتب مصطفى : وكذلك البقيع هذا الجزء الذي دفنوا فيه أزواج وعمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبر إبراهيم وقبور الصحابة كان في الماضي بالقباب حتى جاءت الدولة الرشيدة وأزالت القباب ، ولكن تركت القبور كما هي لم تعلم ، ويحضر إلى هذا البقيع مئات الألوف من زوار المسجد النبوي لزيارة أهل البقيع فلا يعرفون من فضلهم الله على العباد أمثال زوجات رسول الله وابنه إبراهيم وعشرات الصحابة فلو عملت إدارة الأوقاف على هذه القبور لوحات يكتب عليها اسم صاحب القبر ويحاط أيضاً القبر بشبك من حديد للتعرف عليها والسلام عليه ليس إلا ... إلخ .(1/31)
ويدعو الكاتب في هذه الكلمات إدارة الأوقاف بالمدينة إلى عمل لوحات يكتب فيها أسماء المشهورين من المدفونين في البقيع وإلى إقامة شبك حديد على قبورهم للتعريف بهم ، أقول قد يكون هذا الاقتراح من الكاتب عن حسب نية ومقصد صالح ، ولكن الآراء و الاستحسانات لا ينبغي لمؤمن الاعتماد عليها حتى يعرضها على الميزان العادل الذي يميز طيبها من خبيثها ألا وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعل الكاتب حيث كتب هذه الكلمة من أولها إلى آخرها لم يكن عنده علم بما جاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول القبور فلذلك وقعت منه الأخطاء السالفة ، ووقع منه هذا الخطأ الأخير وهو : اقتراحه على إدارة الأوقاف ما تقدم ذكره ، وقد سبق في الحديث الصحيح نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور ، ولا شك أن اتخاذ الشبابيك عليها نوع من البناء ووسيلة إلى الغلو فيها ، والفتنة بها وهكذا الكتابة عليها هي من وسائل الغلو فيها واتخاذها أوثاناً فإن بعض الجهال إذا قرءوا أسماء المدفونين وعرفوا أنهم من المعظمين لعلم أو عبادة أو رئاسة ، أو لكونهم من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أكبوا عليهم للتمسح بهم والتبرك بتربتهم كما يفعل الجهال في البلدان المجاورة بكثير من الموتى ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة على القبور ، كما صح عنه النهي عن البناء عليها ، وأن يزاد عليها من غير ترابها ، وأن تتخذ عليها المساجد والسرج كما سلفت الأحاديث بذلك ، وما ذلك منه صلى الله عليه وسلم إلا حماية لجناب التوحيد ، وسداً لطرق الشرك ، وخوفاً على الأمة من الوقوع فيما وقع فيه من قبلهم من ضلال اليهود والنصارى ، وعباد الأوثان من شتى قبائل العرب فلقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة أبلغ نصيحة عليه من ربه أفضل الصلاة وأكمل التسلم .(1/32)
والمقصود من الزيارة لأهل البقيع هو الدعاء لهم بالعافية والمغفرة ، والتذكر للآخرة بزيارتهم كما سلف في أول هذه الكلمة وذلك متيسر بحمد الله وإن لم يعلم الزائر أسماءهم ، وليس هناك حاجة إلى ما اقترحه هذا الكاتب من الكتابة وإقامة الشبك ، ولو كان في ذلك خير للمسلمين لكان السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم بإحسان أسبق إلى ذلك وأولى بفعله من المتأخرين ؛ لأنهم بالشريعة أعلم ، وفي العمل بها أرغب ولزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من أهل البيت أحب وأغير فلما تركوا ذلك واكتفوا بما كان عليه الحال في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين علم أن ما أحدثه الناس بعدهم في القبور من ا لبناء والكتابة هو الباطل والغلو المحرم والحدث المنكر . فتنبه أيها القارئ لذلك ، واحذر من شبه المشبهين وبدع المبتدعين والله الهادي إلى الصراط المستقيم .(1/33)
وقد جاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم دعاة الشرك من اليهود والنصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة يدعون الناس إلى خلاف ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وينتشرون بينهم الأفكار الهدامة والدعايات المضللة عن قصد وعن غير قصد ، فراج الباطل بسبب ذلك وخفي الحق على أكثر الخلق ، وقل دعاة الهدى وأنصار الشريعة ، وكثر بين الناس أدعياء العلم وأنصار الشرك ودعاة الرذيلة ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، ومن هنا يعلم القراء الصالحون ، والعلماء المهتدون أن الواجب عليهم التشمير عن ساعد الجد في الدعوة إلى الإسلام الصافي من شوائب الشرك والبدع ، ونشر محاسنه وأحكامه العادلة وأهدافه السامية وتعاليمه السمحة بين طبقات الأمة في المجتمعات والمحافل والصحف والنشرات ، ومن طريق الخطابة والإذاعة ليتعلم الجاهل وينتبه الغافل ويتذكر الناسي ويقف المضلل عند حده فلا يكيد للإسلام وأحكام الشريعة بمرأى من أهل العلم ومسمع ، ومتى شمر دعاة الإسلام لنصره في الدعوة إليه ، ذل دعاة الشرك والإلحاد والبدع والأهواء ، وخمدت نارهم وقبعوا في زوايا الخمول وابتعدوا عن منصات الخطابة ومنابر الصحافة ، أو دخلوا في الحق وناصروا أهله لما سطع لهم نوره ، وظهر لهم رشده ، وانزاح عن قلوبهم حجب الشبهات والجهالة ، فما أوجب النصيحة لدين الإسلام على أهل الإسلام وما أعظم حقه عليهم ، ولقد قام بهذا الواجب جم غفير من علماء الإسلام ودعاة الإصلاح في هذا العصر ، وإني لأرجو لهم التوفيق والثبات ومزيد القوة والنشاط في الحق وهدم حصون الضلال وقلع أسس الباطل ، وأني لأرى لزاماً على الذين لم يساهموا في هذا الميدان من القراء النابهين والعلماء المبرزين أن ينفضوا عنهم غبار الكسل وشبهة التواكل ، وأن يقتحموا الميدان بصدق وشجاعة وعلم وحلم حتى ينصروا دينهم ويحموا شريعتهم ويهدوا الناس إليها ويرشدوهم إلى الصراط المستقيم ، ولهم بذلك مثل أجور أتباعهم إلى يوم القيامة كما(1/34)
قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) والله المسئول أن يهدينا وجميع إخواننا صراطه المستقيم ، وأن يعيذنا جميعاً من طريق المغضوب عليهم والضالين إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وأله وصحبه .
الرد على : صالح محمد جمال
... قال الشيخ عبد العزيز بن باز في ( مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ) 1/401
الحمد لله ، وصلى الله وسلم على رسول الله ، وعلى أله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .(1/35)
أما بعد : فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة ( الندوة ) في عددها الصادر في 24/5/1387هـ بقلم الأخ صالح محمد جمال تحت عنوان : ( الآثار الإسلامية ) فألفيت الكاتب المذكور يدعو في مقاله المنوه عنه إلى تعظيم الآثار الإسلامية ، والعناية بها ، يخشى أن تندثر ويجهلها الناس . ويمضي الكاتب فيقول : ( والذين يزورون الآن بيت شكسبير في بريطانيا ، ومسكن بتهوفن في ألمانيا لا يزورنها بدافع التعبد والتأليه ، ولكن بروح التقدير والإعجاب لما قدمه الشاعر الإنجليزي والموسيقى الألماني لبلادهما وقومهما مما يستحق التقدير فأين هذه البيوت التافهة من بيت محمد ودار الأرقم بن أبي الأرقم وغار ثور وغار حراء وموقع بيعة الرضوان وصلح الحديبية ، إلى أن قال : ومنذ سنوات قليلة عمدت مصر إلى تسجيل تاريخ ( أبو الهول ) ومجد الفراعنة ، وراحت ترسلها أصواتاً تحدث وتصور مفاخر الآباء والأجداد ، وجاء السواح من كل مكان يستمعون إلى ذلك الكلام الفارغ إذا ما قيست بمجد الإسلام ، وتاريخ الإسلام ورجال الإسلام في مختلف المجالات ، ويريد الكاتب من هذا الكلام أن المسلمين أولى بتعظيم الآثار الإسلامية كغار حراء وغار ثور ، وما ذكره الكاتب معهما آنفاً من تعظيم الإنجليز والألمان للفنانين المذكورين ، ومن تعظيم المصريين لآثار الفراعنة ، ثم يقترح الكاتب أن تقوم وزارة الحج والأوقاف بالتعاون مع وزارة المعارف على صيانة هذه الآثار والاستفادة منها بالوسائل التالية :
1- كتابة تاريخ هذه الآثار بأسلوب عصري معبر عما تحمله هذه الآثار من ذكريات الإسلام ومجده عبر القرون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
2- رسم خريطة أو خرائط لمواقع الآثار في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة .
3- إعادة بناء ما تهدم من هذه الآثار على شكل يغاير الأشكال القديمة ، وتحلية البناء بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية على لوحة كبرى يسجل بها تاريخ موجز للأثر وذكرياته بمختلف اللغات .(1/36)
4- إصلاح الطرق إلى هذه الآثار ، وخاصة منها الجبلية كغار ثور وغار حراء ، وتسهيل الصعود إليها بمصاعد كهربائية كالتي يصعد بها إلى جبال الأرز في لبنان مثلاً مقابل أجر معقول .
5- تعيين قيم أو مرشد لكل أثر من طلبة العلم يتولى شرح تاريخ الأثر للزائرين ، والمعاني السامية التي يمكن استلهامها منه بعيداً عن الخرافات والبدع ، أو الاستعانة بتسجيل ذلك على شريط يدار كلما لزمت الحاجة إليه .
6- إدراج تاريخ هذه الآثار ضمن المقررات المدرسية على مختلف المراحل . انتهى نقل المقصود من كلامه .
ولما كان تعظيم الآثار الإسلامية بالوسائل التي ذكرها الكاتب يخالف الأدلة الشرعية وما درج عليه سلف الأمة وأئمتها من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى أن مضت القرون المفضلة ، ويترتب عليه مشابهة الكفار في تعظيم أثار عظمائهم ، وغلو الجهال في هذه الآثار ، وإنفاق الأموال في غير وجهها ظناً من المنفق أن زيارة هذه الآثار من الأمور الشرعية ، وهي في الحقيقة من البدع المحدثة ، ومن وسائل الشرك ، ومن مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم آثار أنبيائهم وصالحيهم واتخاذها معابد ، ومزارات . رأيت أن أعلق على هذا المقال بما يوضح الحق ويكشف اللبس بالأدلة الشرعية والآثار السلفية ، وأن أفضل القول فيما يحتاج إلى تفصيل ، لأن التفصيل في مقام الاشتباه من أهم المهمات ، ومن خير الوسائل لإيضاح الحق ، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) قيل لمن يارسول الله قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) فأقول والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به :(1/37)
قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أخرجه الشيخان وفي لفظ لمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة : ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهذه الآثار التي ذكرها الكاتب كغار حراء وغار ثور وبيت النبي صلى الله عليه وسلم ودار الأرقم بن أبي الأرقم ومحل بيعة الرضوان وأشباهها إذا عظمت وعبدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار الفراعنة ، وآثار عظماء الكفرة ، وإنما تزار للتعبد والتقرب إلى الله بذلك ، وبذلك نكون بهذه الإجراءات قد أحدثنا في الدين ما ليس منه ، وشرعنا للناس ما لم يأذن به الله وهذا هو نفس المنكر الذي حذر الله عز وجل منه في قوله سبحانه : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) الشورى ، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟! ) متفق على صحته ، ولو كان تعظيم الآثار بالوسائل التي ذكرها الكاتب وأشباهها مما يحبه الله ورسوله لأمر به صلى الله عليه وسلم أو فعله ، أو فعله أصحابه الكرام رضي الله عنهم ، فلما لم يقع شئ من ذلك علم أنه ليس من الدين بل هو من المحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم .(1/38)
وحذر منها أصحابه رضي الله عنهم ، وقد ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنكر تتبع آثار الأنبياء ، وأمر بقطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها في الحديبية لما قيل له إن بعض الناس يقصدها ، حماية لجناب التوحيد وحسماً لوسائل الشرك والبدع والخرافات الجاهلية . وأنا أنقل لك أيها القارئ ما ذكره بعض أهل العلم في هذا الباب لتكون على بينة من الأمر :
قال الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوش في كتابه ( الحوادث والبدع ) صفحة (135) : ( فصل في جوامع مع البدع ) ثم قال : " وقال المعرور بن سويد : خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلقينا مسجداً فجعل الناس يصلون فيه ، قال عمر : أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباع مثل هذا حتى اتخذوها بيعاً ، فمن عرضت له فيها صلاة فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض . ثم نقل في صفحة (141) عن محمد بن وضاح أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم لأن الناس كانوا يذهبون تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم " .
ثم قال ابن وضاح : " وكان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار بالمدينة ماعدا قباء وأحد ، ودخل سفيان بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به ، ثم قال ابن وضاح : فكم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ، وكم من متحبب إلى الله بما يبغضه الله عليه ومتقرب إلى الله بما يبعده منه " و انتهى كلامه رحمه الله .(1/39)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في صفحة (123) من جزء (26) من مجموع الفتاوى ما نصه : " وأما صعود الجبل الذي يعرفه ويسمى جبل الرحمة فليس سنة ، وكذلك القبة التي فوقه التي يقال قبة آدم لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها ، والطواف بها من الكبائر وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شئ منها ولا الصلاة فيها . وأما الطواف بها أو بالصخرة أو بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان غير البيت العتيق فهو من أعظم البدع المحرمة " . وقال في صفحة (144) من الجزء المذكور : " وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا وما في سفح أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمسجد المولد وغيره فليس قصد شيء من ذلك من السنة . ولا استحبه أحد من الأئمة ، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة . والمشاعر عرفة ومزدلفة ومنى والصفا والمروة ، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى ، مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بل هو بدعة ، وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التي يقال إنها من الآثار لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك " . وقال في صفحة (134) من الجزء (27) من المجموع المذكور : " فصل : وأما قول السائل هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران لكون النبي صلى الله عليه وسلم رؤى عنده ؟ فيقال بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب الذي نهينا عن التشبه بهم فيها . وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في السفر فرأى قوماً يبتدرون مكاناً فقال : ما هذا ؟ فقالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/40)
فقال : ومكان صلى فيه رسول لله صلى الله عليه وسلم ؟! . أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض . وهذا قاله عمر بحضرة من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أسفاره في مواضع ، وكان المؤمنون يرونه في المنام في مواضع ، وما اتخذ السلف شيئاً مسجداً ولا مزاراً . ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات فإنهم لا يزالون يرون النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد جاء إلى بيوتهم , ومنهم من يراه مراراً كثيرة . وتخليق هذه الأمكنة بدعة مكروهة إلى أن قال : ولم يأمر الله أن يتخذ مقام نبي من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) البقرة ، كما أنه لم يأمر بالاستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود ، ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت الحرام ، ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه باتفاق المسلمين بل ذلك بمنزلة من جعل للناس حجاً إلى غير البيت العتيق ، أو صيام شهر مفروض غير صيام رمضان ، وأمثال ذلك . ثم قال : وقد تبين الجواب في سائر المسائل المذكور بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال أنه قدم نبي أو أثر نبي أو قبر بعض الصحابة أو بعض الشيوخ أو بعض أهل البيت أو الأبراج أو الغيران من البدع المحدثة المنكرة في الإسلام لم يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه ، ولا استحبه من أئمة المسلمين بل هو من أسباب الشرك وذرائعه " والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الجواب . ثم قال في صفحة (500) من الجزء المذكور : ( ولم يكن أحد من الصحابة بعد الإسلام يذهب إلى غار ولا يتحرى مثل ذلك فإنه لا يشرع لنا بعد الإسلام أن نقصد غير أن الجبال ولا نتخلى فيها .(1/41)
إلى أن قال : وأما قصد التخلي في كهوف الجبال وغيرانها ، والسفر إلى الجبل للبركة مثل جبل الطور وجبل حراء وجبل ثور أو نحو ذلك فهذا ليس بمشروع لنا بل قد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) انتهى كلامه رحمه الله .
وقال ابن القيم رحمه الله في ( إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ) صفحة (204) بعد كلام له سبق في التحذير من قصد القبور للتبرك بها ، والدعاء عندها : " وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال : صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح ثم رأى الناس يذهبون مذاهب . فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل : يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ، ويتخذونها كنائس وبيعاً فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمش ولا يتعمدها ، وكذلك أرسل عمر رضي الله عنه أيضا ً فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى كلامه رحمه الله .(1/42)
وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير لا نحب أن نطيل على القارئ بنقله ولعل فيما نقلناه كفاية ومقنعاً لطالب الحق .. إذا عرفت ما تقدم من الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم في هذا الباب علمت أن ما دعا إليه الكاتب المذكور من تعظيم الآثار الإسلامية كغار ثور ومحل بيعة الرضوان وأشباهها وتعمير ما تهدم منها والدعوة إلى تعبيد الطرق إليها ، واتخاذ المصاعد لما كان مرتفعاً منها كالغارين المذكورين واتخاذ الجميع مزارات ووضع لوحات عليها ، وتعيين مرشدين للزائرين – كل ذلك مخالف للشريعة الإسلامية التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وسد ذرائع الشرك والبدع وحسم الوسائل المفضية إليها . وعرفت أيضاً أن البدع وذرائع الشرك يجب النهي عنها ولو حسن قصد فاعلها أو الداعي إليها لما تفضي إليه من الفساد العظيم وتغيير معالم الدين وإحداث معابد ومزارات وعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله عز وجل : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) المائدة ، فكل شيء لم يكن مشروعاً في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه رضي الله عنهم لا يمكن أن يكون مشروعاً بعد ذلك . ولو فتح هذا الباب لفسد أمر الدين ودخل فيه ما ليس منه ، وأشبه المسلمون في ذلك ما كان عليه اليهود والنصارى من التلاعب . ولهذا قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة في زمانه رحمه الله كلمة عظيمة وافقه عليها أهل العلم قاطبة . وهي قوله : " لن يصلح أخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " . ومراده بذلك أن الذي أصلح أولها هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والسير على تعاليمهما ، والحذر مما خالفهما ، ولن يصلح أخر هذه الأمة إلا هذا الأمر الذي صلح به أولها .(1/43)
ولقد صدق في ذلك رحمة الله فإن الناس لما غيروا وبدلوا واعتنقوا البدع وأحدثوا الطرق المختلفة تفرقوا في دينهم ، والتبس عليهم أمرهم وصار كل حزب بما لديهم فرحون وطمع فيهم الأعداء ، واستغلوا فرصة الاختلاف وضعف الدين ، واختلفت المقاصد ، وتعصب كل طائفة لما أحدثته من الطرق المضلة ، والبدع المنكرة حتى آلت حال المسلمين إلى ما هو معلوم الآن من الضعف والاختلاف وتداعي الأمم عليهم . فالواجب على أهل الإسلام جميعاً هو الرجوع إلى دينهم والتمسك بتعاليمه السمحة وأحكامه العادلة ، وأخذها من منبعها الصافي : الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة ، والتواصي بذلك ، والتكاليف على تحقيقه في جميع المجالات التشريعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك ، والحذر كل الحذر من كل ما يخالف ذلك أو يفضي إلى التباسه أو التشكيك فيه . وبذلك ترجع إلى المسلمين عزتهم المسلوبة ، ويرجع إليهم مجدهم الأثيل وينصرهم الله على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض كما قال عز وجل : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شياً ) النور ، وقال سبحانه : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) الحج .(1/44)
وأما اقتراح الكاتب إدراج تاريخ هذه الآثار ضمن المقررات المدرسية على مختلف المراحل فهذا حق ولا مانع منه إذا كان ذلك سبيل الدعوة إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من المشاق والأذى الشديد في سبيل الدعوة إلى الحق والتذكير بأحواله صلى الله عليه وسلم في بيته ، وفي دار الأرقم ، وفي غار ثور وحراء ، والاستفادة من الآيات والمعجزات التي حصلت في غار ثور ، في مكة المكرمة ، وفي طريق الهجرة ، وفي المدينة المنورة ، وكون الله سبحانه حماه من مكائد أعدائه في جميع مراحل الدعوة ، لاشك أن التحدث عن هذه الأمور وما فيها من العبر والمعجزات ، والدلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دعا إليه ، والشهادة له بأنه رسول الله حقاً ، وما أيده الله به من الآيات والمعجزات كل ذلك مما يقوي الإيمان في القلوب .(1/45)
ويشرح صدور المسلمين ، ويحفزهم إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على منهاجه ، والصبر على المشاق والمتاعب ، ولقد أدرك علماء المسلمين هذه المعاني الجليلة ، وصنفوا فيها الكتب ، والرسائل وذكروها في المقررات المدرسية على اختلاف أنواعها ومراحلها ، ولا ريب أنه ينبغي للمسئولين عن التعليم في جميع البلاد الإسلامية أن يعنوا بهذا الأمر وأن يعطوه ما يستحقه من إيضاح وتفصيل حتى تكون ناشئة المسلمين على غاية من البصيرة بما كان عليه نبيهم وأمامهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة ، والأعمال الصالحة والجهاد الطويل والصبر العظيم حتى لحق بربه وصار إلى الرفيق الأعلى عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام ... والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً ، وأن يوفقهم وقادتهم للتمسك بدين الله والاستقامة عليه وتحكيمه ، والتحاكم إليه ، والسير على منهاجه القويم الذي ارتضاه لعباده وتركهم عليه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه صحابته الكرام ، وأتباعهم بإحسان ، إنه على كل شيء قدير . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وأله وصحبه .
الفصل السابع
حرمة دخول ديار المعذبين ورعاية آثارهم(1/46)
... ومما سبق يتبين بياناً جلياً حرمة الاهتمام بالآثار ورعايتها وصيانتها وأنها بدعة محرمة تفضي إلى الشرك وتضل الأمة ، فإذا كان هذا الخطر العظيم ناتج عن رعاية الآثار الإسلامية ، فكيف سيكون الحكم برعاية آثار القوم الكافرين الذين عذبوا ؟ ، لا شك أنه أشد حرمة وهو أقرب إلى كفر بالله منه إلى التحريم فقط ، لأنه تشبه بهم وحب لهم ورضى بصنيعهم ، لذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم دخول ديارهم ، إلا على حال من الخوف والبكاء رجاءً لله ألا يعاقبنا بمرورنا ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل بل أسرع وتقنع بثوبه وتجاوز أرضهم ، هذا حكم الدخول إلى ديارهم فما ، بالك برعاية آثارهم والافتخار بهم وبفنهم المعماري ؟ رغم أن هذا العمل لا يمكن أن ينتج إلا عن محبة ورضى في القلب ، وما يبين الفرق بين رعاية آثار المسلمين أنها محرمة ورعاية آثار الكافرين أنها أقرب إلى الكفر نصوص العلماء في الفصل الأول ، وأيضاً هذه النصوص :-(1/47)
قال شيخ الإسلام بن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) 1 /80 " وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر ( أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة ) ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء ) وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لما مر بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم ) ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة وهي غزوة العسرة وهي أشد غزوة كانت على المسلمين ، أن يعلفوا النواضح بعجين مائهم ، وكذلك أيضا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب فروى أبو داود أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال ( إن حبيبي النبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة ) ورواه أيضا عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أيضا أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعناه ولفظه فلما خرج منها مكان برز وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أصح من هذا عن علي رضي الله عنه نحوا من هذا أنه كره الصلاة بأرض بابل وأرض(1/48)
الخسف أو نحو ذلك ، وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه ، وقوله ( نهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة ) يقتضي أن لا يصلي في أرض ملعونة والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها من باب أولى ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار ( لا تقم فيه أبدا ) فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ) وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان ، وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للإيمان والطاعة فهذا حسن ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم وكان موضع مسجده صلى الله عليه وسلم مقبرة للمشركين فجعله صلى الله عليه وسلم مسجدا بعد نبش القبور ، فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها واستحقوا بها العذاب ، فإنه إذا قيل هذا العمل الذي يعملونه لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرما ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه ، فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية لو تجرد عن كونه أثرهم ونحن لا نقصد التشبه بهم بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار فإن جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر وإما معصية وإما شعار كفر أو شعار معصية وإما مظنة للكفر والمعصية وإما أن يخاف أن يجر إلى المعصية وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا ولئن نازع فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر(1/49)
والمعصية ، وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان ، ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم ، وأيضا مما هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) وهذا إسناد جيد ، وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه ، فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك .(1/50)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( شرح العمدة ) 4 /507 " صل ولا يصلى في مواضع الخسف نص عليه في رواية عبد الله و احتج بما رواه بإسناده عن حجر بن عنبس الحضرمي قال خرجنا مع علي بن أبي طالب إلى النهروان حتى إذا كنا ببابل حضرت صلاة العصر فقلت الصلاة فسكت مرتين فلما خرج منها صلى ثم قال ما كنت اصلي بأرض خسف بها ثلاث مرات ، و روى أبو داود في سننه عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله عنه مر ببابل و هو يسير فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال ( إن حبيبي نهاني أن أصلي في المقبرة و نهاني أن أصلي في ارض بابل فإنها ملعونة ) و لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الدخول إلى المساكن الذين ظلموا أنفسهم و سن إن اجتزنا بها الإسراع فروى ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مر بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ثم قنع رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي ) متفق عليه ، و قد قيل أنه صلى الله عليه و سلم أسرع السير بوادي محسر صبيحة مزدلفة وسن للحجيج الإسراع فيه لأنه المكان الذي نزل على أهل الفيل فيه العذاب و حسر فيلهم فيه أي انقطع عن الحركة إلى جهة مكة و يقال أنه يخسف بقوم فيه فإذا كان المكث في مواقع العذاب و الدخول إليها لغير حاجة منهي عنه فالصلاة بها أولى و لا يقال فقد استثنى ما إذ كان الرجل باكيا لأن هذا الاستثناء من نفس الدخول فقط فأما المكث بها و المقام و الصلاة فلم يأذن فيه بدليل حديث علي و لأن مواضع السخط و العذاب قد اكتسبت السخط بما نزل ساكنيها و صارت الأرض ملعونة كما صارت مساجد الأنبياء مثل مسجد إبراهيم و محمد و سليمان صلى الله عليهم مكرمة لأجل من عبد الله فيها و أسسها على التقوى فعلى هذا كل بقعة نزل(1/51)
عليها عذاب لا يصلى فيها مثل ارض الحجر و ارض بابل المذكورة و مثل مسجد الضرار لقوله تعالى ( لا تقم فيه أبدا ) ، فإن صلى فهل تصح صلاته فعلى ما ذكره طائفة من أصحابنا تصح لأنهم جعلوا هذا من القسم الذي تكره الصلاة فيه و لا تحرم لأن أحمد كره ذلك و لأنهم لم يستثنوه من الأمكنة التي لا يجوز الصلاة فيها و لأصحابنا في الكراهة المطلقة من أبي عبد الله وجهان أحدهما أنه محمول على التحريم و هذا أشبه بكلامه و أقيس بمذهبه لأنه قد قال في الصلاة في مواضع نهي النبي صلى الله عليه و سلم عنها يعيد الصلاة و كذلك عند القاضي و الشريف أبي جعفر و غيرهما طرد الباب في ذلك بان كل بقعة نهي عن الصلاة فيها مطلقا لم تصح الصلاة فيها كالأرض النجسة و هذا ظاهر فإن الواجب إلحاق هذا بمواضع النهي لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه كما نهى عن الصلاة في المقبرة و نهى الله نبيه أن يقوم في مسجد الضرار و نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الدخول إلى مساكن المعذبين عموما فإذا ، كان الله نهى عن الصلاة في الأماكن الملعونة خصوصا و نهى عن الدخول إليها خصوصا و عمل بذلك خلفاؤه الراشدون و أصحابه مع أن الأصل في النهي التحريم و الفساد لم يبق للعدول عن ذلك بغير موجب وجه لا سيما و النهي هنا كان مؤكدا و لهذا لما عجنوا دقيقهم بماء آل ثمود أمرهم أن يعلفوه النواضح و لا يطعموه فأي تحريم أبين من هذا قوم مجاهدون في سبيل الله في غزوة العسرة التي غلب عليهم فيها الحاجة و هي غزوة تبوك التي لم يكن يحصي عددهم فيها ديوان حافظ و خرجوا في شدة من العيش و قلة من المال و مع هذا يأمرهم أن لا يأكلوا عجينهم الذي أعز أطعمتهم عندهم فلو كان إلى الإباحة سبيل لكان أولئك القوم أحق الناس بالإباحة فعلم أن النهي عن الدخول والاستقاء كان نهي تحريم ثم أنه قد قرن بين الصلاة في الأرض الملعونة و الصلاة في المقبرة ثم جميع الأماكن التي نهى عن الصلاة فيها إذا صلي فيها لم(1/52)
تصح صلاته فما بال هذا المكان يستثنى من غير موجب إلا عدم العلم بالسنة فيه .
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 15 / 324 " وفى صحيح مسلم عن عمران ابن حصين حديث المرأة التى لعنت ناقة لها فأمر النبى صلى الله عليه وسلم فأخذ ما عليها وأرسلت وقال ( لا تصحبنا ناقة ملعونة ) وفى الصحيحين عنه أنه لما اجتاز بديار ثمود قال ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم ) فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب ، وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصى لا ينبغى لأحد أن يقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل وأقل ذلك أن يكون منكرا لظلمهم ما قتا لهم شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .(1/53)
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة 3 / 1245 " فصل حكم حضور أعياد أهل الكتاب وكما أنهم لا يجوز لهم إظهاره فلا يجوز للمسلمين ممالاتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم فقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الفقيه الشافعي ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم لأنهم على منكر وزور وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع نعوذ بالله من سخطه ثم ساق من طريق ابن أبي حاتم حدثنا الأشج ثنا عبدالله بن أبي بكر عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة ( والذين يشهدون الزور ) قال لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم ونحوه عن الضحاك ، ثم ذكر حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( لا تدخلوا على هؤلاء الملعونين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) والحديث في الصحيح وذكر البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال قال عمر رضي الله عنه لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم " .
وقال ابن القيم في زاد المعاد 2 / 255 " فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر لأن الفيل حسر فيه أي أعيى وانقطع عن الذهاب إلى مكة وكذلك فعل في سلوكه الحجر ديار ثمود فإنه تقنع بثوبه وأسرع السير " .(1/54)
وقال أيضاً في زاد المعاد 3 /560 " ومنها أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه ولا الطبخ منه ولا العجين به ولا الطهارة به ويجوز أن يسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة وكانت معلومة باقية إلى زمن رسول الله ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا فلا يرد الركوب بئرا غيرها وهي مطوية محكمة البناء واسعة الأرجاء آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها ومنها أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ولا يقيم بها بل يسرع السير ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا ومن هذا إسراع النبي السير في وادي محسر بين منى وعرفة فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه " .(1/55)
قال القرطبي في تفسير القرطبي 10 / 45 " الحجر ديار ثمود وهو المراد هنا أي المدينة قاله الأزهري قتادة وهي ما بين مكة وتبوك وهو الوادي الذي فيه ثمود ، قال الطبري هي أرض بين الحجاز والشام وهم قوم صالح روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا واستقينا فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين ) وفي الصحيح عن ابن عمر ( أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة ) وروي أيضا عن ابن عمر قال مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع ) قلت ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها كراهية دخول تلك المواضع وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة ) مسئلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله وقال اعلفوه الإبل ، قلت وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به ، منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب قال ابن العربي فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) فلا يجوز التيمم(1/56)
بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها ، رواه معمر عن الزهري فقال ( اخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة ) وقول علي ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة ) وقد روي عن علي بن أبي طالب قال ( نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة ) وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه وأبو صالح الذي رواه عن علي هو سعيد ابن عبد الرحمن الغفاري بصري ليس بمشهور ولايصح له سماع عن علي ومن دونه مجهولون لا يعرفون قال أبو عمر وفي الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد رواه الفضل بن دكين قال حدثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال خرجنا مع علي إلى الحرورية فلما جاوزنا سويا وقع بأرض بابل قلنا يا أمير المؤمنين أمسيت الصلاة الصلاة فأبى أن يكلم أحدا قالوا يا أمير المؤمنين قد أمسيت قال بلى ولكن لا أصلي في أرض خسف الله بها والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة قاله يحيى بن معين وغيره وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري " أهـ بتصرف .(1/57)
قال ابن حجر في فتح الباري 1 /530 " قوله باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب أي ما حكمها وذكر العذاب بعد الخسف من العام بعد الخاص لأن الخسف من جملة العذاب قوله ويذكر أن عليا هذا الأثر رواه بن أبي شيبة من طريق عبد الله أين أبي المحل وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام قال كنا مع على فمررنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى إجازة أي تعداه ومن طريق أخرى عن على قال ما كنت لأصلي في أرض خسف الله بها ثلاث مرار والظاهر أن قوله ثلاث مرار ليس متعلقا بالخسف لأنه ليس فيها إلا خسف واحد وإنما أراد أن عليا قال ذلك ثلاثا ورواه أبو داود مرفوعا من وجه آخر عن على ولفظه ( نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بإبل فإنها ملعونة ) في إسناده ضعف واللائق بتعليق المصنف ما تقدم والمراد بالخسف هنا ما ذكر الله تعالى في قوله ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم .. الآية ) ذكر أهل التفسير والأخبار أن المراد بذلك أن النمرود بن كنعان بني ببابل بنيانا عظيما يقال إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع فخسف الله بهم ، قال الخطابي لا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل فإن كان حديث على ثابتا فلعله نهاه أن يتخذها وطنا لأنه إذا أقام بها كانت صلاته فيها يعني أطلق الملزوم وأراد اللازم قال فيحتمل أن النهي خاص بعلي إنذارا له بما لقي من الفتنة بالعراق قلت وسياق قصة الأولى يبعد هذا التأويل والله اعلم(1/58)
قوله ( لا تدخلوا ) كان هذا النهي لما مروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ديار ثمود في حال توجههم إلى تبوك وقد صرح المصنف في أحاديث الأنبياء من وجه آخر عن بن عمر ببعض ذلك قوله هؤلاء المعذبين بفتح الذال المعجمه وله في أحاديث الأنبياء ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم قوله إلا أن تكونوا باكين ) ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول بل دائما عند كل جزء من الدخول وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل فيه البتة قال بن بطال هذا يدل على إباحة الصلاة هناك لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع كأنه يشير إلى عدم مطابقة الحديث لأثر علي قلت والحديث مطابق له من جهة أن كلا منهما فيه ترك النزول كما وقع عند المصنف في المغازي في آخر الحديث ( ثم قنع صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي ) فدل على أنه لم ينزل ولم يصل هناك كما صنع علي في خسف بابل ، وروى الحاكم في الإكليل عن أبي سعيد الخدري قال ( رأيت رجلا جاء بخاتم وجده بالحجر في بيوت المعذبين فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم واستتر بيده أن ينظر إليه وقال القه فألقاه ) لكن إسناده ضعيف وسيأتي نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستقي من مياههم في كتاب أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى .(1/59)
قوله ( لا يصيبكم ) بالرفع على أن لا نافية والمعنى لئلا يصيبكم ويجوز الجزم على أنها ناهية وهو أوجه وهو نهى بمعنى الخبر وللمصنف في أحاديث الأنبياء أن يصيبكم أي خشية أن يصيبكم ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وأمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وأهمالهم وإعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا باحوالهم فقد شابههم في الإهمال ، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم ، وبهذا يندفع اعتراض من قال كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم لأنه بهذا التقدير لا يأمن أن يصير ظالما فيعذب بظلمه وفي الحديث الحث على المراقبة والزجر عن السكنى في ديار المعذبين والإسراع عند المرور بها وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) " .
وقال الحافظ أيضاً في فتح الباري 13 /61 " ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وان لم يتعاطاه قوله تعالى ( فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم فإن أعان أو رضي فهو منهم ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من ديار ثمود " .(1/60)
قال ابن القيم في الجواب الكافي 1 /42 " ومن آثار الذنوب والمعاصي إنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في المياه والهوى والزرع والثمار والمساكن قال تعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) قلت أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها فيكون قوله ليذيقهم بعض الذي عملوا لام العاقبة والتعليل وعلى الأول فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يحدثها الله في الأرض بمعاصي العباد فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة كما قال بعض السلف كل ما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة والظاهر والله أعلم إن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى ( ليذيقهم بعض الذي عملوا ) فهذا حالنا وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكون ومن شرب مياههم ومن الاستسقاء من أبيارهم حتى أمر أن يعلف العجين الذي عجن بمياههم لنواضح الإبل لتأثير شؤم المعصية في الماء وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما ترى به من الآفات وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال وجدت في خزائن بعض بني أمية حنطة الحبة بقدر نواة التمرة وهي في صرة مكتوب عليها كان هذا ينبت في زمن من العدل ، وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء انهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها وإنما حدثت من قرب " .
و ما يحدث لنا الآن من ضيق حال وفساد أحوال وكثرة للشر والبطالة ، والهوان على أهل الأرض جميعاً هو بسبب ما اقترفناه ولا يظلم ربك أحداً .(1/61)
وبعد هذا كله فإني لا أظن أن من يريد الحق لم يبن له الحق بعد ، كما أني لا أظن إلا أنه قد تبين للخاص قبل العام ، ما ستفضي إليه القرارات الأخيرة التي لم تراعي للشريعة حقاً ، حتى أصبحت الشريعة ألعوبة في ألسنة كثير ممن لا يرجون لله وقارا ، وكلمة الحق التي لا بد أن تقال وبكل صراحة أننا أصبحنا في زمان لا نعرف من الدين إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه ، مهما تمسحنا به وتشدقنا في ذلك ، وعندما تطابق النصوص في مختلف المجالات على واقعنا تجد أننا بعيدين كل البعد عن ما تدل عليه النصوص وتأمر به أو تحرمه ، ففي الوقت الذي ننتظر من المسؤولين في بلاد الحرمين إصدار قرار يقضي بطرد العمالة الكافرة وتطهير جزيرة العرب ، نفاجأ بما يجعل الحليم حيرانا ، نفاجأ بقرارات متتالية تطير العقول ، وتفتح باب انتهاك الشريعة ومخالفة النصوص وعصيان الله ورسوله على مصراعيه ، نسأل الله أن يرد الجميع إلى دينه رداً جميلاً ، كما نسأله ألا يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا .(1/62)