بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، وبعد:
فإن لدراسة الأديان، والفرق والمذاهب المخالفة للحق أهميةً كبرى، وثمرات جُلَّى؛ فبسبب ذلك تستبين السبيلُ، وتقوم الحجة، ويُصفَّى الحق مما لحق به من شوب الباطل؛ فيبقى الحق نميراً صافياً، بعيداً عن أكدار الضلالات، وأوضار الأهواء.
وبذلك ينقذ ضحايا التقليدِ والتبعيةِ المطلقةِ، وصرعى الجهلِ والطاعةِ العمياءِ ممن ألفوا أسلافهم على أمة؛ فاتبعوهم، وممن أطاعوا سادَتهم وكبراءَهم من غير ما بينة من حق، أو أثارة من علم.
ومن ثمرات الوقوف على الأديان والمذاهب والفرق المخالفة للحق _ أن يعتز المؤمن الصادق بالحق الذي يحمله، ويفرح باليقين الذي يدين به؛ وذلك إذا رأى ما عليه غيره من التخبط والضياع في دياجير الظلمة والضلال.
ثم إن ذلك باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الله؛ فإن الحق إذا بُيِّن وصُفِّي مما لحق به من بدع وضلالات وشوائب _ هَفَت النفوس إليه، وانبعثت إلى الدخول فيه، والتمسك به؛ فالإسلام يدعو إلى نفسه بنفسه؛ شريطة أن يُعرض عرضاً صحيحاً واضحاً.
ومن هذا المنطلق قام علماء الإسلام والسنة في مختلف الأعصار والأمصار بعمل عظيم، وجهد جبار هتكوا من خلاله سجف الباطل، وكشفوا عوار البدع والضلالات، وأوضحوا للناس دين الله، ودعوهم إلى الإقبال عليه، وكان دأبهم الوصول إلى الحق، وهدفهم دعوة الناس إلى الحق، ووسيلتهم الإخلاص، والعدل، والرحمة، والصدق.
ولقد يسَّر الله لي أن قيَّدت شيئاً من هذا القبيل أستعين به على إلقاء الدروس خصوصاً في مادة المذاهب والملل على الطلاب الذين أُدرِّس لهم في جامعة الإمام، ثم في جامعة القصيم.
ولما أردت إخراجها؛ رغبة في عموم النفع بها وجدت أنها كتبت منذ فترة طويلة، وأنها تحتاج إلى جهد وزيادة، وحذف، وأن الوقت لا يُسعف في ذلك؛ فتركتها، وترددت كثيراً في شأنها.(1/1)
ثم بعد ذلك رأيت إخراجها وإن لم تكن في الصورة المطلوبة؛ فلعل ذلك خير من بقائها؛ فعسى أن يكون في ذلك إعانة للطلاب والباحثين.
وقد خرج بعض هذه الرسائل مفرداً، وبعضها لم يخرج؛ فآثرت أن تكون جميعها في كتاب واحد.
وهذا الكتاب يحتوي على دراسة لبعض الأديان، والفرق، والمذاهب؛ حيث اشتمل على أربع عشرة رسالة، وهي كما يلي:
الرسالة الأولى: مقدمة في الفلسفة.
الرسالة الثانية: أديان الهند وشرق آسيا.
الرسالة الثالثة: اليهودية.
الرسالة الرابعة: الصهيونية.
الرسالة الخامسة: الماسونية.
الرسالة السادسة: النصرانية.
الرسالة السابعة: الاستشراق، والاحتلال العسكري، والتنصير.
الرسالة الثامنة:النصيرية.
الرسالة التاسعة: البابية.
الرسالة العاشرة: البهائية.
الرسالة الحادية عشرة: القاديانية.
الرسالة الثانية عشرة: الوجودية.
الرسالة الثالثة عشرة: الشيوعية.
الرسالة الرابعة عشرة: العلمانية.
وقبل الدخول في موضوعات الكتاب يحسن التنبيه إلى التشابه في بعض أسباب قيام الفرق والمذاهب، وأهدافها، وأساليبها؛ فهناك تداخل، وتشابك، وقواسم مشتركة بينها؛ لذلك قد يحصل بعض التكرار والتشابه في الطرح، ولأن بعض هذه الرسائل كتبت مفردة في الأصل، وربما تخرج مفردة.
وأخيراً أسأل الله _ بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى _ أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم؛ إنه سميع قريب.
والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
... ... ... ...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه مقدمة يسيرة في الفلسفة تشتمل على المباحث التالية:
_ مفهوم الفلسفة.
_ نشأة الفلسفة، ودخولها ديار الإسلام.
_ أشهر الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام.
_ غاية الفلسفة وموضوعها وأقسامها.
_ نبذة عن افتراق الفلاسفة.
_ مذهب متقدمي الفلاسفة في الإلهيات والشرائع.
_ معتقد الفارابي وابن سينا.(1/2)
_ بيان علماء الإسلام ضلالَ الفلاسفة وانحرافهم عن سواء الصراط.
_ الأدلة على الاستغناء بما جاءت به الرسل عن أفكار الفلاسفة.
_ من أقوال بعض العلماء في ذم الفلسفة، وتعظيم ما جاءت به الرسل.
أولاً: منشأ هذه الكلمة: (الفلسفة) كلمة معرَّبة عن اليونانية، فهي لفظ يوناني نشأ أول ما نشأ في اليونان(1).
ثانياً: أصلها الوضعي، وسبب تسميتها بذلك: لفظ (الفلسفة) مركب من كلمتين يونانيتين هما:
1_ (فيلو)، أو (فيلا) و معناهما: المحبة، أو الإيثار.
2_ (سوفيس)، أو (سوفيا)، و معناهما: الحكمة فهذا هو أصل الكلمة وسبب تسميتها بذلك(2).
ثالثاً: تعريف الفلسفة الوضعي الأصلي: من خلال ما مضى يتبين لنا أن الفلسفة باعتبار الوضع الأصلي تعرف بـ: (محبة الحكمة، أو إيثار الحكمة).
ويعرَّفُ الفيلسوف بأنه: محب الحكمة، أو المؤثر للحكمة(3).
رابعاً: تطور دلالة كلمة (الفلسفة): مر مصطلح (الفلسفة) بعدة أطوار وعلى هذا فإن تعريف (الفلسفة) يختلف باختلاف الأطوار كما أنه يختلف باختلاف الفلاسفة الذين وضعوا لها حدوداً وتعريفات.
خامساً: نماذج من تعريفات (الفلسفة) عند الفلاسفة:
للفلسفة عند الفلاسفة تعريفات عديدة وقد تكون في مجملها متقاربة، فمن تلك التعريفات ما يلي:
1_ البحث عن الحقيقة.
2_ حب المعرفة.
3_ وعرفها الكندي بقوله: هي علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان.
4_ وعرفها في موضع آخر بقوله: هي علم الحق الأول الذي هو علة كل حق.
5_ وعرفها الفارابي بقوله: إنها العلم بالموجودات بما هي موجودة.
6_ وعرفها _ أيضاً _ بقوله: علم بمقدار الطاقة الإنسية.
__________
(1) _ 2_ 3_ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام بين المشائية و الإشراقيه، أ. د محمد إبراهيم الفيومي ضمن أبحاث ندوة (نحو فلسفة إسلامية معاصرة) ص75، والموسوعة الميسرة في الأديان والأحزاب والمذاهب المعاصرة، نشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي، إشراف د. مانع الجهني 2/ 1108 _ 1109.(1/3)
7_ وعرفها _ كذلك _ بالعلم الوحيد الجامع الذي يضع أمامنا صورة شاملة للكون.
8_ وعرفها _أيضاً_ بقوله: هي العلم الذي يعطي الموجودات معقولية ببراهين عقلية.
9_ وعرفها ابن سينا بقوله: الحكمة: استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعلمية على قدر الطاقة الإنسانية(1).
سادساً: تعريف الفلسفة عند الإطلاق، وفي الاصطلاح العام: كما مر من أن الفلسفة مرت بأطوار، ولعل آخر أطوارها هو ما استقر عليه أمر الفلسفة؛ حيث صارت تُطلق على آراء محددة، ونظرات خاصة للكون والوحي، والنبوات، والإلهيات، ونحو ذلك.
وصارت تُعنى بالعقل، وتقدمه على النقل، بل أصبح العقل عند الفلاسفة إلهاً ومصدراً للتلقي.
وعلى هذا فإنه يمكن تعريف الفلسفة _ عند الإطلاق _ فيقال: =هي النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تُفرض عليه من الخارج، بحيث يكون العقل حاكماً على الوحي، والعرف، ونحو ذلك+(2).
أولاً: نشأة الفلسفة: نشأت الفلسفة واشتهرت في بلاد اليونان، بل وأصبحت مقترنة بها على الرغم من وجود الفلسفات في الحضارات المصرية، والهندية، والفارسية القديمة.
وما ذلك إلا لاهتمام فلاسفة اليونان بنقلها من تراث الشعوب الوثنية، وبقايا الديانات السماوية مستفيدين من صحف إبراهيم وموسى _ عليهما السلام _ بعد انتصار اليونانيين على العبرانيين بعد السبي البابلي(3)
__________
(1) _ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص124_126.
(2) _ انظر الموسوعة الميسرة 2/1109.
(3) _ السبي البابلي: هي المأساة التي يتذكرها اليهود بحسرة ومرارة، وهي ما حصل لهم عام 603 قبل الميلاد، وقيل 605 على يد عدد من الملوك البابليين.
وقد أُثير حول هذه المأساة جدل كبير، ونُسجت خرافات وأساطير، ولا تزال الدراسات عنها إلى يومنا هذا.
ولهذا صار العراق أحد مواطن الفجيعة والحزن لدى اليهود؛ فمنه انطلقت القوات التي قضت على دولة إسرائيل في العهد القديم عهد الملك الكلداني البابلي نبوخذ نصر، وانتهت حربه بواحدة من أكبر الفواجع في التاريخ اليهودي، وهي ما أطلق عليه مأساة (السبي البابلي).
ففي عام 603 أو 605 قبل الميلاد تولى نبوخذ نصر العرش الكلداني البابلي في العراق، وفي عهده بلغت الدولة أوجها، وحالف الملك اليهودي يواقيم إلا أن العلاقات بينهما تدهورت عندما حاول يواقيم التخلص من الحلف مع جاره القوي؛ فجرد نبوخذ نصر حملة عسكرية حاصر فيها القدس، وفتحها، واقتاد الملك الجديد يهويا كين، وحاشيته، وأركان حكمه، وأشراف دولته إلى بابل عام 586 قبل الميلاد.
وتشير بعض الروايات التاريخية إلى سبي بابلي لاحق بعد محاولة صدقيا ملك يهودا التمرد على الحكم الكلداني مما أدى إلى تجريد حملة بابلية أخرى انتهت عام 586 قبل الميلاد بحرق هيكل سليمان بن داود _عليه السلام_ والقضاء على الدولة العبرية، وسبي حوالي 50 ألف يهودي إلى العراق هم أغلبية ما تبقى= = في القدس، وقد ساقهم الكلدانيون مكبلين بالحديد والأصفاد إلى أراضي العراق.
وقد اختُلف كثيراً في هذا السبي _ كما مر _ واختُلف في مدة وقوعه؛ فقيل استمر 70 سنة، وقيل 140 سنة.
وتحتفل الأدبيات اليهودية بالكثير من البكائيات، والذكريات المريرة عن هذه المحنة.
ولهذا يشعر اليهود أن امتلاك العراق لأي قوة فائقة يمكن أن يهدد أمن إسرائيل، وربما يؤدي إلى تكرار محنة (السبي البابلي) من جديد.
ولعل ما يؤكد ذلك ما قاله مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1981م بعد الغارة على المفاعل النووي العراقي؛ حيث أعلن أنه لو لم يدمر المفاعل النووي العراقي لحدثت محرقة جديدة في تاريخ الشعب اليهودي.
ولعل هذا يفسر سر الهجمة على العراق، ومحاولة تفكيكه، وإضعافه.(1/4)
.
وربما استفادوا من حكمة لقمان _ عليه السلام _ فجاءت فلسفتهم خليطاً بين نزعات شتى.
وقد استوى ساق الفلسفة على يد أفلاطون ومن بعده أرسطو وغيرهما(1). ثانياً: دخول الفلسفة في ديار الإسلام: دخلت الفلسفة ديار الإسلام في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي وذلك في عهد الخليفة العباسي المأمون.
ولقد سبق العرب فلاسفة الغرب بالاتصال بالفلسفة اليونانية؛ إذ إنها لم تصل إلى الغرب إلا في القرنين الميلاديين الثاني عشر والثالث عشر معتمدين على ما خلَّفه الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام الذين تخصصوا في دراستها أوفي نقلها من النص السرياني، أو اليوناني إلى اللسان العربي، ثم نقلت إلى لسان الغرب(2).
1_ الكندي: وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 260هـ ويطلق عليه فيلسوف العرب.
2_ الفارابي: المتوفى سنة 339هـ ويطلق عليه المُعَلِّم الثاني بعد المعلم الأول وهو أرسطو وستأتي ترجمته عند الحديث عن معتقده.
3_ ابن سينا: ويطلق عليه الشيخ الرئيس المتوفى سنة 428هـ، وستأتي ترجمته عند الحديث عن معتقده؛ فهؤلاء الثلاثة لم يربط بينهم تاريخ واحد في فترة زمنية محددة، وإنما ربط بينهم مدرستهم الفلسفية، واهتمامهم البالغ بفتح نافذة على تراث الشرق والإغريق.
وهم على تتابعهم التاريخي حملوا مسؤولية الترجمة، والشرح، والتأليف في الفلسفة وطرح القضايا الجديدة على العقل الإسلامي(3).
أولا: غاية الفلسفة: كانت غاية الفلسفة في بداية أمرها محبة الحكمة، ثم تصرف فيها بعض الفلاسفة؛ فصار الغاية منها الجدل لذات الجدل.
__________
(1) _2 انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام بين المشائية والإشراقية ص75_79، والموسوعة الميسرة 2/1109.
(3) _ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص75_79.(1/5)
ومن الفلاسفة _كالفارابي_ من يرى أن الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض المقصود من تعلُّمها ليس شيئاً غير إصلاح النفس(1).
ثانياً: موضوع الفلسفة: تكاد موضوعات الفلسفة تنحصر بما يأتي:
1_ العلوم الرياضية. ... ... ... 2_ العلوم الطبيعية.
3_ العلوم الإلهية. ... ... ... 4_ العلوم المنطقية.
ثالثاً: أقسام الفلاسفة: الفلاسفة منهم الطبيعيون أو الطبائعيون، ومنهم الإلهيون، ومنهم الدهريون، ومنهم الرياضيون.
رابعاً: أقسام الفلسفة: تختلف الفلسفة بحسب موضوعاتها ويمكن أن تقسم كما يلي:
1_ الفلسفة الحسية: وهي تتحصل بالحواسِّ، وموضوعُها عالم الطبيعة.
2_ الفلسفة النظرية العقلية: وهي تتم بالاستدلال البرهاني، أو النظر الاستنباطي.
وتسمى هذه الفلسفة أو المدرسة: الفلسفة المَشَّائية(2).
3_ الفلسفة الإشراقية: وتسمى المشرقية، من الإشراق _أي إشراق النفس واستعدادها_.
وهذه تنال بالحَدْس، والإلهام، وموضوعها العلوم الإلهية.
الفلسفة تقوم على الأوهام، والخيال، والظن؛ لأنها لا ترتكز على وحي معصوم، وإنما تقوم على نتاج العقولِ، والعقولُ مهما بلغت فلن تستقل بمعرفة الشرائع، وحقائق الكون، وصحة النظر بكل حال.
ولهذا فإن الاختلاف، والافتراق، والاضطراب دأب الفلاسفة.
ومن الأمور التي يتضح من خلالها افتراق الفلاسفة ما يلي:
__________
(1) _ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص 75، و141، و151_152.
(2) _ سميت بالمشَّائية نسبة إلى رائدها أرسطو المقدوني الذي يعد أبرزَ تلامذة أفلاطون، وكان مولده سنة 384 قبل الميلاد، وتوفي سنة 322 قبل الميلاد عن 63 سنة، وسميت فلسفته بالمشائية لأنه كان يعلم أتباعه وتلاميذه، ويلقي عليهم الدروس وهو يمشي، وذلك تعظيماً لشأن الفلسفة.(1/6)
1_ أن آراء الفلاسفة فردية ليس لها معيار ثابت: فهي تختلف باختلاف الفيلسوف، وبيئته، وثقافته، ورؤيته وزاوية بحثه؛ فالمادي يبحث في الحقيقة المادية، والفيلسوف الميتافيزيقي يبحث في الحقيقة الميتافيزيقية، وهكذا...
2_ أن الحقيقة في أدوار الفلسفة غير ثابتة: فلكل فيلسوف وجهته، وكل فيلسوف يناقض غيره.
ثم إن ثقافة الفيلسوف وبيئتَه، وأستاذَه، وتياراتِ مُجْتَمَعِهِ كل أولئك لهم تأثيرهم في رؤية الفيلسوف، وصنع عقليته.
3_ كثرة اضطراب الفلاسفة وشكهم: قال شيخ الإسلام ابن تيمية × في معرض حديث له عن الفلاسفة والمتكلمين: =أنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً، وأضعف الناس علماً وبياناً، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن نذكرها.
وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على ا لاعتراض، والقدح، والجدل.
ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم و لا فيه منفعة.
وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي، وإنما العلم في جواب السؤال، ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ؛ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر+(1).
الفلاسفة المتقدمون كأرسطو وغيره من أجهل الناس في الشرائع والأمور الإلهية، وأكثرهم اضطراباً وتناقضاً، وأكثر كلامهم فيها خَبْطَ عَشْواءَ؛ لأنهم لم يستضيئوا بأنوار الرسالة، ولا كانت عندهم شريعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الإلهيات؛ فإنهم من أجهل الناس بها، وأبعدهم عن معرفة الحق فيها.
وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ؛ فهو لحم جمل غثٍّ على رأس جبل وعرٍ؛ لا سهل فيرتقى، ولا سمين فيقلى+(2).
__________
(1) _ نقض المنطق لابن تيمية ص25.
(2) _ مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 1/186.(1/7)
وقال × في معرض حديث له عن الفلاسفة وأهل الكلام: =لكن من المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشواً وقولاً للباطل، وتكذيباً للحق في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد _ والله أعلم _ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك+(1).
وإليك فيما يلي نماذجَ من ضلالات الفلاسفة على سبيل الإجمال:
1_ يقولون بقدم العالم.
2_ يقولون: بأن الله يعلم الكليات دون الجزئيات.
3_ يقولون: بأن منزلة الفيلسوف كمنزلة النبي، وربما فضل بعضهم الفيلسوف على النبي.
4_ يقولون: بحشر الأرواح دون الأجساد.
5_ يقولون: بأن الجنة والنار أمثال مضروبة وخيالات؛ لتفهيم العوام، وضبطهم دون أن يكون لها حقيقة في الخارج.
6_ يرون: أن العقل مقدم على الوحي.
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا عند الحديث عن معتقد الفارابي وابن سينا.
أولاً: تعريف بالفارابي: هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان ولد سنة 259هـ في فاراب وهي مدينة من بلاد الترك من أرض خراسان، وكان أبوه قائد جيش، وهو فارسي المنسب، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى الشام، وأقام بها إلى حين وفاته.
كان متقناً للفلسفة، بارعاً في العلوم الرياضية، وكانت له قوة في صناعة الطب، ولم يباشر أعمالها.
وكان قويَّ الذكاء، ذا زهد وبعد عن الدنيا.
ويذكر أنه كان في أول أمره قاضياً، فلما شعر بالمعارف نبذ ذلك، وأقبل بكليته على تعلمها.
ويذكر أنه صنع آلة غريبة يستمع منها ألحاناً يحرك بها الانفعالات.
ويذكر أن سبب قراءته للفلسفة أن رجلاً أودع عنده جملة من كتب أرسطوطاليس؛ فاتفق أن نظر فيها؛ فوافقت منه قبولاً، فتحرى قراءتها، ولم يزل حتى أتقن فهمها، وصار فيلسوفاً من كبار الفلاسفة.
وقال الفارابي عن نفسه: إنه تعلم الفلسفة من يوحنا بن جيلان إلى آخر كتاب البرهان.
وكان يحسن عدة لغات غير العربية: منها التركية، والفارسية، ويلم بالسريانية.
__________
(1) _ نقض المنطق لابن تيمية ص24.(1/8)
أما وفاته فكانت في رجب سنة 339هـ عند سيف الدولة علي بن حمدان في خلافة الراضي، وصلى عليه سيف الدولة في دمشق في خمسة عشر رجلا من خاصته(1).
ثانياً: تعريف بابن سينا: هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن علي بن سينا الفيلسوف المشهور المعروف بابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس.
يقول عن نفسه: =إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح بن منصور، واشتغل بالتصوف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها: خرميثن(2) من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها: أفشفة، وتزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها، وسكن، وَوُلِدْتُ بها، ثم وُلِدَ أخي، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن ومعلم الآداب، وأكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الآداب حتى كان يقضي مني العجب.
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية+(3).
وتعد حياة ابن سينا حياةً غريبة صاخبة مليئة بالمتناقضات.
فقد كان مكباً على التحصيل والاطلاع، والتأليف والتصنيف.
وكان معايشاً للحياة السياسية في عصره، وكان من أكبر أطباء العصر والبلاط.
وعاش حياته الاجتماعية وما فيها من لهو، ولذات، وشرب خمر، وغناء، ونساء؛ فكان نهاره مع الأمير والسياسة، وليله مع التأليف، والتحصيل، والشرب، والغناء.
وكان إذا تحير في مسألة ابتهل إلى (مُبْدِع الكُلِّ) كما يقول، وإذا غلبه النوم عدل إلى شرب قدح من الشراب.
وإليك بعض نصوص من سيرته الخاصة تصور لك الحياة المتناقضة والعجيبة، يقول ابن سينا حكاية عن حاله:
_ وكلما كنت أتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فُتح لي المنغلق، وتيسر لي المنعسر.
__________
(1) _ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص84_85.
(2) _ انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 3/227.
(3) _ انظر المدرسة الفلسفية في الإسلام ص101_110.(1/9)
_ وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة؛ فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح مِن الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة.
ومهما أخذني أدنى نومٍ أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهُها في المنام.
_ فإذا أفرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهُيِّئ مجلس الشراب بالآنية، وكنا نشتغل به.
_ فاستقبلنا أصدقاء الشيخ، وندماء الأمير علاء الدولة وخواصه، وحمل إليه الثياب، والمراكب الخاصة، وأنزل في محله، وفيها الآلات، والفرش، وما يحتاج إليه.
_ وصلينا العشاء، وقدم الشمع، وأمر بإحضار الشراب، وأجلسني وأخاه، وأمر بتناول الشراب(1).
فهذه نبذة من أقواله التي تبين بعض معالم شخصيته.
أما مؤلفاته فكثيرة تبلغ العشرات في شتى الفنون، ومنها:
1_ المجموع (مجلدة). ... ... 2_ الحاصل والمحصول (عشرون مجلدة).
3_ الإنسان (مجلدة). ... ... 4_ البر والإثم (مجلدتان).
5_ الشفاء (ثمان عشرة مجلدة). ... 6_ القانون (أربع عشرة مجلدة).
7_ الأدوية القلبية (مجلدة). ... ... 8_ بعض الحكمة المشرقية (مجلدة).
وخلاصة الحديث عن ابن سينا: أنه كان من الأذكياء، ووالده كان إسماعيلياً، وكان منهوماً بالقراءة والاطلاع، والتأليف، وكانت حياته غريبة صاخبة مليئة بالمتناقضات.
__________
(1) _ انظر المرجع السابق.(1/10)
ثالثاً: معتقد الفارابي وابن سينا: معتقدهم هو معتقد الفلاسفة الأوائل؛ فهم يسلكون في تقرير العقيدة، وبحث الأمور الإلهية مسلك قدماء الفلاسفة؛ فالمنهج الذي يسيرون عليه في ذلك منهج عقلي لا يرجعون فيه إلى ما جاء به الرسول " ولا يعرفون من العلوم الكلية، ولا العلوم الإلهية إلا ما يعرفه الفلاسفة المتقدمون مع زيادات تلقوها عن بعض أهل الكلام، أو أهل الملة(1).
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية × أن الفارابي، وابن سينا، وغيرهم من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام _ أنهم وإن كانوا قد توسعوا في مباحث الفلسفة، وتكلموا في الإلهيات والنبوات والمعاد بما لا يوجد عند الفلاسفة المتقدمين، وكان كلامهم أجود وأقرب إلى الحق من كلام سلفهم إلا أنهم مزجوا الحق الذي أخذوه من الدين بالباطل الذي بنوه على أصولهم الفلسفية الفاسدة، وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، ولكن على حساب الدين؛ فهم يعمدون إلى النصوص، فيؤولونها بتأويلات بعيدة ومتكلفة حتى تتلائم مع قواعدهم الفلسفية.
فيقولون مثلاً: إن صفات الله التي جاء بها القرآن، ونطقت بها السنة ليست إلا تعبيرات عن ذات واحدة.
ويقولون: إن العرش هو الفلك التاسع، والكرسي هو الفلك الثامن، والملائكة هي النفوس والقوى التي في الأجسام، وما يحدث من العالم من خوارق العادات حتى معجزات الأنبياء إنما سببه عندهم قوة فلكية، أو طبيعية، أو نفسانية إلى غير ذلك من الأمور التي وجدوها في الفلسفة؛ فتمحَّلوا لها نصوصاً من الدين(2).
لقد بين علماء الإسلام ضلال الفلاسفة، وانحرافهم عن سواء الصراط:
__________
(1) _ انظر باعث النهضة الإسلامية _ ابن تيمية السلفي _ نقد لمسالك المتكلمين، والفلاسفة في الإلهيات للشيخ د. محمد خليل هراس ص 39_40.
(2) _ انظر المرجع السابق، ومنهاج السنة لابن تيمية 1/96، وتفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص84.(1/11)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =حدثني ابن الشيخ الخضيري(1) عن والده الشيخ الخضيري شيخ الحنفية في زمنه _ قال: كان فقهاء بخارى يقولون: إن ابن سينا كان كافراً ذكياً+(2).
وقال ابن القيم ×عن ابن سينا: =فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد، ولا مبدأ عنده ولا معاد، ولا رسول ولا كتاب+(3).
وقال الذهبي × عن ابن سينا: =وما أعلم روى شيئاً من العلم، ولو روى لما حلت الرواية عنه لأنه فلسفي النحلة ضال+(4).
وقال عنه ابن كثير ×: =وقد حصر الغزالي كلامه في (مقاصد الفلاسفة) ثم رد عليه في (تهافت الفلاسفة) في عشرين مجلساً، وكَفَّره في ثلاث منها، وهي قوله بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وبدّعه في البواقي+(5).
ويُقال: إنه تاب في آخر عمره؛ فعسى أن يكون ذلك صحيحاً.
هذا وسيأتي مزيد بيان عن ضلال الفلاسفة في الفقرة التالية _ إن شاء الله _.
ما جاءت به الرسل الكرام _عليهم الصلاة والسلام_ يغني عن أفكار الفلاسفة، والأدلة على ذلك كثيرة جدّّاً، وإليك طرفاً من ذلك على سبيل الإجمال:
1_ أن الرسل جاءوا بالوحي المعصوم: الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
أما ما جاءت به الفلاسفة فخيالات وظنون، وهوس وضلال.
فمصدر ما جاءت به الرسل هو الوحي، ومصدر ما جاءت به الفلاسفة هو العقل.
2_ أن ما جاءت به الرسل من أصول الدين متفق مؤتلف: فهو مثانٍ متشابهٌ يصدِّق بعضه بعضاً، ويدل بعضه على بعض.
بخلاف ما جاءت به الفلاسفة فهو _ في أغلبه _ متناقض متهافت.
3_ أن ما جاءت به الرسل يتلاءم مع الفطرة، بخلاف كلام الفلسفة فهو يعمي الفطر، ويبلد الإحساس.
__________
(1) _ قال الشيخ البحاثة سليمان الصنيع × في حاشية كتاب نقض المنطق ص181:=الصواب الحصيري بالحاء والصاد نسبة إلى محلة يعمل فيها الحصير+.
(2) _ نقض المنطق ص181.
(3) _ إغاثة اللهفان ص620.
(4) _ ميزان الاعتدال 1/539.
(5) _ البداية والنهاية 12/46.(1/12)
4_ أن ما جاءت به الرسل واضح جلي: يفهمه العالم والعامي، ويدركه العربي والعجمي، والصغير والكبير.
بخلاف كلام الفلاسفة؛ فهو أشبه ما يكون _ في أغلبه _ بالطلاسم، والرموز.
5_ أن ما جاءت به الرسل حق كله: بل لا سبيل إلى الحق إلا عن طريقهم بخلاف ما جاءت به الفلاسفة؛ فهو _ في أغلبه _ باطل، وما فيه من حق إنما هو ما أخذ من طريق الرسل أو أتباعهم.
6_ أن السعادة في الدنيا والآخرة إنما تكون باتباع ما جاءت به الرسل: وأن الشقاء في الدنيا والآخرة إنما يكون بالإعراض عما جاؤوا به، ويوم القيامة لن يقال: =ماذا أجبتم الفلاسفة+، وإنما سيقال:[مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ] .
7_ أن اتِّباع الرسل خير وبركة واجتماع: وأما اتباع الفلاسفة فشكٌ، وحيرة، وعمى، واضطراب، وافتراق.
8_ أن أتْباع الرسل هم أسعد الناس، وأعلم الناس، وأزكى الناس، وأعلاهم رتبة في كل فضيلة: فهذه الأمور تعظم وتزداد بحسب الاتباع، وكل من اتبع الرسل فله نصيب من ذلك بحسبه.
بخلاف أتباع الفلاسفة فهم _ وإن أوتوا عقولاً، وفهوماً _ فإنهم يعيشون في قلق، وضيق، وضنك.
قال _ تعالى _:[وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] (طه:124).
هذه بعض الأمور التي تؤيد ما ذكر سابقاً، والأدلة النقلية، والعقلية، والفطرية، والواقعية تدل على ذلك.
وسيأتي مزيد بيان لهذه الفقرة في الفقرة التالية.
لقد تصدى علماء الإسلام _رحمهم الله_ للفلسفة، وبينوا عوارها وزيفها، وبينوا في الوقت نفسه عظم ما جاءت به الرسل من الحق، والهدى، والسعادة.
ويأتي على رأس هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية ×.
فهو ممن خَبرَ الفلسفة، وسبر غورها، ورد على الفلاسفة، وبين بطلان ما هم عليه بالدليل النقلي والعقلي.(1/13)
بل إنه × استطاع أن يعكس الأمر على خصومه، ويشككهم في معقولاتهم، واستطاع أن يقوم بنفس الدور الذي قام به الفلاسفة حينما كانوا يجرُّون النصوص إلى الفلسفة، فأخذ هو يجرُّ العقل إلى خدمة النقل.
وفي سبيل ذلك اضطر إلى أن يهدم كثيراً من قضايا العقل التي يظنها الناس ضرورية، وأن يقيم مكانها أخرى تتلاءم مع نصوص الشرع الصريحة بحيث لا يُحتاج بإزاء هذه النصوص إلى إنكار أو تأويل.
وقد ألف كتباً في هذا السياق، ومنها: (نقض المنطق)، و(درء تعارض العقل والنقل) وغيرها.
وقد استطاع أن يوفق بين العقل والنقل، وأن يزيل ما عساه يُتَوهم بينهما من تعارض، وأن يثبت أن المعقولات الصريحة لا تتنافى بأية حال مع المنقولات الصحيحة، وأن كل ما يُتحدث به عن اختلاف بينهما فسببه أحد أمرين:
إما اختلاط في العقل، وإما جهل بالنص(1).
فإليك بعض النقول من كلام ذلك الإمام، وبعد ذلك نَقْلٌ من كلام ابن القيم _ رحمهما الله _ ومن خلال ذلك يستبين لنا أن ما جاءت به الرسل هو الحق الذي لا مرية فيه، وأن كلام الفلاسفة باطل من أساسه.
كما يتبين كذلك عظم رسالة نبينا محمد " وبركتها، وبركة أتباعها.
فإلى تلك النُّقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×:
1_ =فقد تبين أن أصل السعادة وأصل النجاة من العذاب هو توحيد الله وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح+(2).
2_ وقال: =من المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونهما هم أبعد الناس عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتِّباعه من هؤلاء.
__________
(1) _ انظر إلى باعث النهضة الإسلامية _ ابن تيمية السلفي ص52.
(2) _ نقض المنطق ص176.(1/14)
هذا أمرٌ محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله " وأحواله، وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيراً من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما يعتمدون في مُوَافَقَتِه على ما يوافق قولهم، سواء كان موضوعاً أو غير موضوع+(1).
3_ وقال: =وما يوجد من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال، ومن شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على بعض كذلك _ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع، وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير.
وأئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد؛ لأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وكذلك ما يوجد من شهادتهم لأهل الحديث بالسلامة والخلاص من أنواع الضلال، وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال، وهذا باب واسع كما قدمناه+(2).
4_ وقال: =وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتِّباع المرسلين _ فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك: هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم لذلك؛ فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة؛ فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول " مما يجهله غيرهم أو يكذب به+(3).
5_ وقال: =والمقصود: أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم _ أهل السنة والجماعة _ من المعرفة والطمأنينة، والجزم الحق، والقول الثابت، والقطع بما هم عليه _ أمر لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين+(4).
__________
(1) _ المصدر السابق ص81_82
(2) _ المصدر السابق ص21.
(3) _ المصدر السابق ص24.
(4) _ المصدر السابق ص43.(1/15)
6_ وقال: =وبالجملة؛ فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة؛ بل المتفلسف أعظم اضطراباً وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف، ولهذا تجد مثل أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله.
و _أيضاً_ تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقاً واختلافاً، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان.
وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقاً وائتلافاً، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب؛ فالمعتزلة أكثر اتفاقاً وائتلافاً من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضات، وصفات الأفلاك: من الأقوال _ يعني المتفرقة _ ما لايحصيه إلا ذو الجلال+(1).
7_ وقال: =من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم؛ فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد والذوق، ونحو ذلك، وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتُها وخلاصتها؛ فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدُّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة, وأصدقهم إلهاماً، وأحدُّهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً.
وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل.
__________
(1) _ المصدر السابق ص43.(1/16)
فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدُّ وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال _ تعالى _:[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى](محمد:17)، وقال:[وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)](النساء)(1).
8_ وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: =فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد " وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، ولأهل العلم منهم خصوصاً من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى، ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها+(2).
9_ وقال ابن القيم: =فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة، والكمِّ المتصل والكمِّ المنفصل، والنبض، والقارورة، والبول، والقسطة، ووزن آلاتها، ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة، وصناعة الكيمياء، وعلم الفلاحة، وعلم الهيئة وتسيير الكواكب، وعلم الموسيقى والألحان، وغير ذلك من العلوم التي هي ما بين علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة، وبين علم نَفْعُه في العاجلة، وليس من زاد المعاد+(3).
__________
(1) _ نقض المنطق ص 7،8.
(2) _ الاقتضاء 1/64.
(3) _ هداية الحيارى ص234، وانظر ما بعدها إلى ص249 ففيها كلام عظيم حول هذا المعنى.(1/17)
10_ وقال ابن القيم ×: =ولهذا رام فلاسفة الإسلام الجمع بين الشريعة والفلسفة كما فعل ابن سينا والفارابي وأضرابهما، وآل الأمر بهم إلى أن تكلموا في خوارق العادات والمعجزات على طريق الفلاسفة المشائين، وجعلوا لها أسباباً ثلاثة: أحدها: القوى الفلكية، والثاني: القوى النفسية، والثالث:القوى الطبيعية، وجعلوا جنس الخوارق جنساً واحداً، وأدخلوا ما للسحرة، وأرباب الرياضة والكهنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرسل في ذلك، وجعلوا سبب ذلك كله واحداً، وإن اختلفت بالغايات، والنبي قصده الخير، والساحر قصده الشر!.
وهذا المذهب من أفسد مذاهب العالم، وأخبثها، وهو مبني على إنكار الفاعل المختار، وأنه _ تعالى _ لا يعلم الجزئيات، ولا يقدر على تغيير العالم، ولا يخلق شيئاً بمشيئته وقدرته، وعلى إنكار الجن، والملائكة، ومعاد الأجسام.
وبالجملة فهو مبني على الكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر+(1).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه نبذة عن أشهر ديانات الهند، وهي مشتملة على المباحث التالية:
أولاً: لمحة تاريخية عن الديانات الهندية.
ثانياً: عقائد الهندوسية البرهمية.
ثالثاً: البوذية:
_ تعريف البوذية.
_ مؤسس البوذية، وبدايتها.
_ كتب البوذية، وشعارها.
_ عقائد البوذية، وأفكارها وتعاليمها.
_ أقسام البوذيين، والبوذية الصينية.
_ مواطن انتشار البوذية.
رابعاً: السيخ أو السيخية:
_ التعريف.
_ المؤسس.
_ السيخ بعد المؤسس.
_ عقائد السيخ.
_ مواطن السيخ.
أولاً: لمحة تاريخية عن الديانات الهندية(2)
__________
(1) _ مفتاح دار السعادة ص119، وانظر ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان لابن الوزير.
(2) _ انظر إلى الديانات والعقائد لأحمد عبد الغفور عطار ص95، وذيل الملل والنحل لمحمد سيد كيلاني 2/10، والأديان والمذاهب المعاصرة، د. ناصر العقل، ود. ناصر القفاري ص86.(1/18)
بلاد الهند تعج بكثير من المعتقدات الباطلة، ولا يعرف حتى اليوم ديانات الهند التي سبقت الديانة الفيدية، ولم تكن البوذية هي الديانة التي كانت في الطليعة، بل سبقتها ديانات مختلفة، ولا يعرف منها إلا ما كان في العصر الفيدي الذي قامت ديانته على الكتب الفيدية، وهي الديانة البرهمية.
وكلمة (فيدا) من اللغة السنسكريتية، ومعناها القانون، أو العلم، أو المعرفة.
وللفيدا كتب أربعة هي: أناجيل البراهمة، والرأي في حقيقتها مختلف متى وضعت؟ ومتى وجدت؟
ومما قيل في ذلك: أن كتاب (الفيدا) أقدم من التوراة بآلاف السنين، وأنه يتألف من أربعة أسفار هي:
1_ الريجا فيدا. ... ... 2_ الساما فيدا.
3_ الباجورا فيدا. ... ... 4_ الأثارا فيدا.
وكان الغربيون يسمون دياناتهم بالهندوكية، وقد ذاعت هذه التسمية حتى تقبلها أهل الديانة أنفسهم، وإن كانوا فيما بينهم يستعملون لفظ (دراما) التي تعني (نهج الحياة، والتفكير والحياة).
وكانت تسمى قديماً بالبرهمية نسبة إلى (براهما) التي يزعمون أنها الروح العليا الخالدة للكون، ويذهبون إلى أن براهما كان بدء الخليقة، وأنه وجد من بيضة ذهبية كانت طافية على الماء من العماء منذ البدء، فهو وجد قبل الخلق، وحددوا له عمراً زعموا أنه مائة سنة من سِنِيِّه ، وكل نهار من أيام تلك السنين يقدر بـ 4,320,000,000 سنة من سنواتنا الشمسية المعروفة، وفي نهاية كل نهار ينتهي عالم من العالمين، فيستريح الإله ليلة لينشئ عالماً آخر جديداً.
وهم بذلك حددوا له بداية ونهاية، ونفوا عنه صفة القِدَمِ؛ لأن هناك ما هو أقدم، وهو البيضة الذهبية التي خرج منها، كما نفوا صفة الآخِر؛ لأنه سينتهي بعد عمره الطويل.
ومن المراحل المعروفة عندهم مرحلة (اليوبا نيشاد) وهي مكونة من كلمتين:
(يوبا) بمعنى: (قريباً)، و(شاد) بمعنى: (يجلس).
وأطلق في الأصل على من يجلس قريباً من المُعلِّم أو الحكيم يتلقى منه، والمتلقي هو المريد.(1/19)
وتشتمل كتب هذه المرحلة على تأملات غامضة، وظلت تعتبر أسراراً لحلقات الطبقات العليا.
ولعله يبدو من ذلك أفكار النسك الأعجمي الذي انتقل إلى الإسلام باسم التصوف.
والبوذية تعد امتداداً طبيعياً للهندوسية البرهمية، وسميت الهندوسية بذلك _كما سماها الغربيون_ نسبة إلى بلادهم الهند، وتسمى بالبرهمية نسبة إلى براهما _كما مر_ وهو الذي جدد الديانة الهندوسية في القرن الثامن قبل الميلاد، فَأُطْلِقَ على الديانة اسم البرهمية.
وموجز القول أن في الهند دياناتٍ أخرى صغيرةً، وفيها من الآلهة والأرباب ما يعد بالملايين، وفيها ديانات العالم الصحيحة والباطلة، وكل من تسول له نفسه اختراع مذهب أو دين جديد يجد له في الهند أتباعاً وعباداً، ولكن الديانة الغالبة هي الهندوسية البرهمية.
والحديث فيما سيأتي سيكون عن الهندوسية البرهمية، ثم عن البوذية، ثم عن السيخ.
ثانياً: عقائد الهندوسية البرهمية (1)
مر معنا فيما سبق شيء عن البرهمية، وتاريخها، وفيما يلي إجمال لتلك المعتقدات التي يعتقدها البراهمة:
1_ يعتقدون أن الإله له ثلاثة أقانيم _أي ثلاثة حالات_ وهي:
أ _ براهما موجد العالم. ... ... ب _ مشنو حافظ العالم. ...
ج _ سيفا مهلك العالم.
2_ يعتقدون أن هناك آلهة كثيرة أقل من الإله المثلث، ومن تلك الآلهة:
أ _ آجني إله النار. ... ... ب _ فايو إله الريح. ... ج _ أندر إله العاصفة.
د_ أوشاس إله الفجر. ... هـ _ بادجبانيا إله المطر.
و_ سوربا إله الشمس، أو مستر، أوفشنو.
ز _ سوما: إله النبات المقدس الذي يسكر عصيره كل الناس، وكل الآلهة.
ح _ سافيتار آلهة الشمس. ... ... ط _ فيفا سفات إله ضوء الشمس.
__________
(1) _ انظر الديانات والعقائد ص 331_334، والديانات والمذاهب المعاصرة للعقل والقفاري ص86_88، وكتاب الهندوس والسيخ لمحمد بن إبراهيم الشيباني ص56_60، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 2/724_729.(1/20)
3_ يعبدون كل ما يعجبهم، أو يحبونه، أو يخافونه من المخلوقات من حولهم، ولذلك تحظى البقرة عند الهندوس حتى الآن بالمكانة الأولى تقديساً، وعبادة؛ فهم يحلبونها، ويعبدونها.
ولها تماثيل في كل معبد، ومنزل وميدان،، وهي تتمتع بحرية مطلقة في ارتياد الطرقات كيف شاءت.
ولا يجوز للهندوس تحت أي ظرف من الظروف أن يأكل لحمها، أو يستغل جلدها في أي صناعة من الصناعات، وهي إذا ماتت وجب دفنها بجلال مع أعظم طقوس الدين.
4_ عبادة القردة، والأفاعي، والفيلة: وأخطر الأفاعي المقدسة أفعى تسمى (ناجن) ولها عند الهندوس منزلة عالية؛ فعضة واحدة منها تؤدي إلى موت سريع، ولهذا فهم يقيمون لها حفلاً دينياً كل عام تقدم لها فيها هي وزميلاتها من الأفاعي قرابين من اللبن والموز عند مداخل جحورها!
وأكبر مركز عبادة الأفاعي في شرقي ميسور؛ فهناك في معابد هذا الإقليم تسكن جموع زاخرة من الأفاعي؛ حيث يقوم الكهنة على إطعامها والاهتمام بها.
وهم يعبدون الأفاعي والفيلة والقردة؛ لأنهم يزعمون أنها مصادر الرعب التي ترمز إلى طبيعة الألم.
وإذا كانت القردة والأفاعي والفيلة لها قدسية عند الهندوس _ فهناك من الحيوانات الأخرى ما يتمتع هو بمثل هذه القدسية مثل التماسيح، والنمور، والطواويس، والببغاوات؛ لأن لكل منها روحاً، والأرواح _ بزعمهم _ تمضي متنقلة بين الحيوان والإنسان، ولهذا فهي صنوف إلهية نسجت خيوطها في شبكة واحدة لا نهاية لها.
5_ ينكرون البعث واليوم الآخر، ويرون أنه لابد من الجزاء والحساب على الخير والشر، لكن ذلك يكون في الحياة الدنيا.
6_ يعتقدون بتناسخ الأرواح، أو تجوال الروح: وذلك سبب إنكارهم البعث؛ فهم يرون تناسخ الأرواح؛ ليكون الجزاء على الروح إذا انتقلت بين الأجساد، فهي تنتقل _بزعمهم_ من جسد إلى آخر سواء أكان في الإنسان، أو الحيوان.(1/21)
7_ حرق الموتى: لأن ذلك بزعمهم يسمح بأن تتجه الروح إلى أعلى، وبشكل عمودي؛ لتصل إلى الملكوت الأعلى في أقرب زمن، كما أن الاحتراق هو تخليص للروح من غلاف الجسم تخليصاً تاماً.
8_ وحدة الوجود: وهي ما يُعرف عندهم بفكرة الانطلاق، وهي تمثل محاولةَ النفسِ الإفلاتَ من دورات تجوالها، ونتائج أعمالها؛ فالحياة _في عرف البراهمة_ شر، وخداع، وأسر.
أما الحياة الحقة فهي في استجلاء طلعة (براهما) التي لا تكتسب إلا بالاتحاد والاندماج فيه كما تندمج قطرة الماء في المحيط الأعظم.
وذلك إنما يجيء عن طريق الاستنارة الإلهية.
9_ تقسيم الناس إلى طبقات: حيث تقوم البرهمية الهندوسية على النظام الطبقي، فهي تقسم الناس إلى طبقات:
الأولى: البراهمة، وهم الذين خلقهم الإله (براهما) من فمه.
ومن هؤلاء: المعلمُ، والكاهنُ، والقاضي، وهم الذين يلجأ الجميع إليهم في حالات الزواج، والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.
وهؤلاء مقدسون تجري فيهم الدماء الإلهية _ بزعمهم _ والجميع لا بد أن يكونوا في خدمتهم.
الثانية: الكاستريا أو الكاشتر: وهم الذين خلقهم الإله (براهما) من ذراعيه.
وهم الجنود الذين يقدمون القرابين للبراهمة، ويحملون السلاح للدفاع.
الثالثة: ويشيا أو الويش: وهم الذين خلقهم الإله من فخذه، وهم أصحاب الحرف كالنجارة، والصناعة، والزراعة.
الرابعة: طبقة شودرا أو الشودر: وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم خلقوا _ بزعمهم _ لخدمة الطوائف الثلاث الأولى، ويشكلون مع الزنوج الأصليين طبقة المنبوذين، ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة.
ومن آثار هذه الطبقية، أنه لا يجوز للملك _ مهما اشتدت الظروف _ أن يأخذ جباية أو إتاوة من البرهمي.
ومن ذلك أن البرهمي إذا استحق القتل لم يَجُزْ للحاكم إلا أن يحلق رأسه، أما غير البرهمي إذا استحق القتل يُقتل.
ومن مظاهر تلك الطبقية: أنه لا يصح لبرهمي أن يموت جوعاً في بلاده.(1/22)
ومنها أن من سعادة المنبوذين أن يخدموا البراهمة.
ومنها أنه إذا ادَّعى أحد من المنبوذين أنه يُعَلِّم برهمياً فإنه يُسقى زيتاً مغلياً.
ومنها أن كفارة قتل الكلب، والقطة، والضفدع، والغراب، والبومة، ورَجُلٍ من الطبقة المنبوذة _ سواء.
وهذا النظام _ نظام الطبقات _ بما انطوى عليه من الحظر الديني في امتزاج الناس بعضهم ببعض _ هو من أعظم الحوائل التي حالت دون تقدم الهند ورقيها.
ولقد ظهر في الآونة الأخيرة تحسن يسير في أحوال المنبوذين؛ خوفاً من استغلال أوضاعهم، ودخولهم في أديان أخرى.
ولهذا فإن كثيراً من المنبوذين وجدوا العزة والعدل في الإسلام؛ فاعتنقوه.
تعريف البوذية: هي ديانة فلسفية وضعية وثنية، ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد على يد رجل يقال له: بوذا (1).
بداية البوذية: قامت البوذية في بدايتها على مناهضة الهندوسية البرهمية، التي أغرقت في الشكليات والطقوس.
وكانت _ أي البوذية _ متجهة إلى العناية بالإنسان، وراغبة في إيصاله إلى مرحلة (النرفانا) وهي السعادة القصوى، وذلك عن طريق خشونة العيش، وتعذيب النفس، وقتل جميع شهواتها، ونبذ الترف، والمناداة بالمحبة، والتسامح، وفعل الخير.
وبعد موت مؤسسها تحولت إلى ديانة ذات طابع وثني، تقوم على تأليه بوذا، وتأخذ طابعاً اجتماعياً دينياً يميل إلى الإلحاد، وتختلف باختلاف الأمكنة(2).
مؤسس البوذية:
مؤسس البوذية رجل يُلقب بـ: بوذا، وأما اسمه فهو: سدهارتا، أو سدذارتا.
وبوذا الذي تنسب إليه هذه الديانة ابن حاكم، وقد ولد في حديقة لومبيني بالقرب من مدينة كابيلا فاستو في شمال الهند من إقليم نيبال، وذلك سنة 568 قبل الميلاد.
وتختلف تواريخ ميلاده، ولكن ما ذكر هو أرجح الأقوال في تاريخ مولده.
__________
(1) _2 _ انظر الديانات والعقائد 1/95، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص86، والموسوعة الميسرة 2/758.(1/23)
وتتحدث الأساطير عن مولده وما قبله، وأيام حمله، فتذكر أنه ولد نظيفاً لا كما يولد الأطفال، بل نزل من بطن أمه وهي واقفة ممسكة بغصن، ولم تشعر بألم، وكان جسمه نظيفاً كالمرآة، وذكروا له معجزات وكرامات.
أما اسمه فقد سمي سدهارتا، أو سدذارتا _ كما مر _ ومعناه: الذي حقق أمله.
وأما ألقابه فكثيرة؛ فمنها (شاكياموني) أي حكيم قبيلة شاكياس، و(بسكياموني) أي المعتكف.
ومن ألقابه (تاذاجاتا) ومعناها: الرجل الفائز بالحق، وأما (بوذا) فمعناه: المستنير، أو العالم.
ونشأ بوذا في بلده على حدود نيبال، وكان أميراً ؛ فشب مترفاً منعماً، وتعلم الفروسية، وبالغ مؤرخوه في كل صغيرة وكبيرة في حياته حتى زعموا أن أربعة آلاف راقصة خُصِّصْنَ لإدخال السرور على قلبه، وأن زوجَه منتقاةٌ من خمسمائة حسناء.
وقد تزوج في السادسة عشرة من عمره، وقيل في التاسعة عشرة بزوجه ياسواذا بنت أحد زعماء قبيلة كولي وعاش معها سعيداً هانئاً، وأنجبت له ابنه راهولا.
وبعد عشر سنوات من زواجه صمم على أن يبحث عن الحقيقة مهما كلفه الأمر، وذلك بعد أن مر عليه صنوف من الآلام، وذلك لما رآه من الأحزان والمصائب.
وعزم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي منبعها الشهوات، ثم دعا إلى تَبَنِّي وجهة نظره حيث تبعه أناس كثيرون.
وذات ليلة عزم على مغادرة القصر، وهجر زوجته وولده، وهبط إلى الاصطبل، واختار جواده الأبيض وخادمه (شنا).
ويزعمون أن من معجزاته وهو يتهيأ لفراق القصر أن أبوابه فتحت من تلقاء نفسها، ولم يُسْمَع صوتُ خطوات جواده؛ حتى إذا انتهى إلى نهر أنوما نزل عن جواده ونزع ما كان يتزين به من الجواهر، وجزَّ لِمَّتَه بسيفه، وأعطى كل ذلك خادمه، وأمره أن يعود إلى قصر أبيه، ويخبره بخبره.
ومر به سائل فتبادل معه الملابس.(1/24)
ثم انتقل بعد سبعة أيام من شاطئ أنوما، وغادره إلى مدينة إجاجريها عاصمة الملك بمبيارا ملك مملكة ماجاذا حيث يقيم في كهوف تلال ونديا نساك وقفوا حياتهم للتأمل والتفكير ودراسة فلسفات الهند القديمة؛ رجاء أن يوفقوا لحل مشكلة الحياة، ويفكوا ألغازها المغلقة، وقَصَد الغار الذي فيه الناسكان ألاراكالاما وأداكا وكانت شهرة ألارا البرهمي واسعة.
وعندما دخل غار ألارا وجده مستغرقاً في تأمله وتفكيره، فوقف في إجلال وصمت بين يديه خاشعاً،وهجست في نفسه خاطرة: =أترى أجد لديه مفتاح السر+؟
بعد ذلك جلس إليهما، وأخذ منهما ما لديهما، ودرس عليهما أسفار الفيدا، واليوبانيشاد، واتخذ له كهفاً، وكان موضع إعجاب النساك جميعاً، وطابت له حياة الزهادة والتقشف، وأرسل إليه والده يطلبه، ولكنه اعتذر، وقد وصل بوذا إلى درجة عالية وهي مرشد النساك.
وبعد سنتين أدرك أن البرهمية عاجزة عن حل لغز الوجود، ومشكلة الحياة؛ فانصرف إلى غابة بالبنغال، وقسا على نفسه، وتقلب في أشد ضروب التقشف والحرمان، وقضى ست سنوات على هذه الحال حتى أشرف على الهلاك، وذاع صيته في الآفاق.
ولكن ذلك التعذيب للجسد والسكون التام لم يصلا به إلى غايته، بل عاقه ذلك الضعف الذي أصابه من جراء التعذيب عن القوة والتفكير.
ثم صمم بعد ذلك على ترك الحياة التي حَيِيَها مما حمل أتباعه النساك الخمسة أن يثنوه عن عزمه، فلم يفلحوا، واعتبروا ذلك منه ردة، واتهموه بأنه حادَ عن الطريق، وتركوه ومضوا إلى مرج الغزال في مدينة بنارس.
واستعاد سدذارتا _ بوذا _ نشاطه وقوته ومضى إلى شجرة، وجلس تحتها، ورأى رجلاً لديه حشائش؛ فسأله قبضةً منها فأعطاه، وجلس متربعاً ضامَّاً يديه وقدميه، وعزم ألا يبارح مكانه، وألا يرسل ما ضم حتى يتنزل عليه نور الحكمة والمعرفة، وآلى على نفسه أن يبقى ولو نخرت عظامه، وجف جلده، وتلف جسده.(1/25)
وتقول الأساطير: إن نوازع نفسه أخذت تصارعه، ولكنه انتصر على الإغراء وهزمها في الصراع، وما كاد ينتهي الليل، ويغشى الأرضَ سنا الفجر حتى أشرقت معه في قلبه وعقله الحقيقةُ الساميةُ، والمعرفةُ الصحيحة، وأدرك ما كان يرجو من الماضي والحاضر والمستقبل كل لايتجزأ، وعرف سر الحياة والموت، والعلة والمعلول، ورحلة الروح في مختلف الأجسام: متى تصعد إلى النرفانا حيث العدم العام، وفناء النفس وهي السكينة والفناء.
ولكنه فناء ليس الفناء المعروف، وإنما هو وجود يفنى في وجود مثل فناء ألوان الطيف في الشمس في البياض الناصع الذي لا لون له _كما يزعم بعض فلاسفة البوذيين العصريين_.
ولا يتم الوصول إلى النرفانا إلا بعد صفاء النفس والفضائل في عالم الحس والواقع.
ومر به النهار، ثم الليل، ولم يشعر بهما؛ لأنه كان غارقاً في سُبُحَاته، ثم صحا صحوةَ المنتصرِ والفرحُ يملأ قلبه؛ لأنه انتهى إلى ما كان يرجو، وتحقق له ما كان يأمل، وهبطت عليه الاستنارة فكان بوذا.
واستفاضت شهرته، وقصده الناس، ومضى إلى بنارس، وقصد مرج الغزال إلى النساك الخمسة الذين هزؤوا به، واتهموه، وتركوه فما كادوا يبصرونه حتى هزمتهم هيبتُه وراعهم منظره؛ فَهَبُّوا لاستقباله، وتسابقوا إلى تحيته، وجاءوا بماء لغسل قدميه، فألقى عليهم أول درس من دروسه، فإذا الفرح يملأ قلوبهم، ويفيض على وجوههم بشراً ، ثم بعد ذلك دَوَّت شهرته آفاق الهند، واجتذبت شريعته الجديدة شباب الأسر العريقة، والتفت به الجموع، وكثر مريدوه.
وأصبح داعياً لما توصل إليه إلى أن توفي في الثمانين من عمره سنة 488 قبل الميلاد، وأُحرق جسده بعد موته بثمانية أيام.
هكذا تقول الأساطير عنه(1).
كتب البوذية:
__________
(1) _ انظر الديانات والعقائد 1/ 116_117، وذيل الملل والنحل 2/13_16، والموسوعة الميسرة 2/758، والتصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير ص 53_ 55.(1/26)
كتب البوذية ليست منزلة، وهم لا يدعون ذلك، بل هي منسوبة إلى بوذا، هي حكاية عن أفعاله أو محاوراته مع تلاميذه، ونصوص تلك الكتب تختلف، وهي تحتوي على قصص ومواعظ ووصايا.
وتنقسم كتبهم إلى ثلاثة أقسام:
1_ مجموعة قوانين البوذية ومسالكها.
2_ مجموعة الخطب التي ألقاها بوذا.
3_ الكتاب الذي يحوي أصل المذهب، والفكرة التي نبع منها(1).
وتعتمد جميع كتبهم على الآراء الفلسفية، ومخاطبة الخيال، وتختلف في الصين عنها في الهند؛ لأنها تخضع لتغييرات الفلاسفة.
شعار البوذية:
هو عبارة عن قوس نصف دائري، وفي وسطه قائم ثالث على رأسه ما يشبه الوردة، وأمام هذا التمثال صورة مجسمة لجرة الماء، وبجوارها فيل يتربع عليه بوذا في لباسه التقليدي(2).
عقائد البوذية، وأفكارها، وتعاليمها (3):
تشتمل عقائد البوذية وأفكارها وتعاليمها على خرافات كثيرة، وأباطيل عديدة، ومتناقضات شتى فمن ذلك:
1_ الإلحاد: فقد كان بوذا في أول دعوته لا يتكلم عن الألوهية، ويتحاشى الخوض في أمور الغيب، ثم تحول بعد ذلك إلى محاربة الاعتقاد بوجود الله، وصار ينادي بالإلحاد.
2_ يعتقد البوذيون أن بوذا هو ابن الله: وهو المخلص للبشرية من مآسيها وآلامها، وأنه يتحمل عنهم خطاياهم.
3_ يقولون: قد دل على ولادة بوذا نجم ظهر في أفق السماء ويدعونه (نجم بوذا).
4_ يقولون: لما ولد بوذا فرحت جنود السماء، ورتلت الملائكة أناشيد المحبة للمولود المبارك.
5_ يقولون بقانون الجزاء، وإنكار البعث واليوم الآخر؛ فهم يرون أن الإنسان لا بد له من الجزاء على أعماله خيراً وشراً، لكنهم يرون ذلك يحدث في الحياة الدنيا، لذلك فهم ينكرون البعث، وينكرون الجنة والنار .
__________
(1) _ انظر الموسوعة الميسرة 2/761.
(2) _ انظر الموسوعة الميسرة 2/761.
(3) _ انظر الديانات والعقائد 4/333، وذيل الملل والنحل 15_18، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص86_88.(1/27)
6_ يعتقدون أن هيئة بوذا قد تغيرت في آخر أيامه؛ حيث نزل عليه نور أحاط برأسه، وأضاء من جسده نور عظيم؛ فقال الذين رأوه: ما هذا بشر! إن هو إلا إله عظيم.
7_ يصلي البوذيون لبوذا، ويعتقدون أنه سيدخلهم الجنة، وتُؤَدَّى الصلاةُ عندهم في اجتماعات يحضرها كثير من أتباعه.
8_ لما مات بوذا قال أتباعه: صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض.
9_ يقولون بتناسخ الأرواح: وذلك ناتج عن كفرهم باليوم الآخر؛ حيث قادهم ذلك إلى القول بتناسخ الأرواح؛ فهم يعتقدون أن من مات انتقلت روحه إلى حي جديد؛ فإذا مات الثاني انتقلت إلى الثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية له؛ ثم يزعمون _ بناءاً على قانون الجزاء _ أن الروح تلقى جزائها من النعيم أو الشقاء أثناء تنقلها من جسم إلى جسم.
وهذا الاعتقاد سرى إلى كثير من الأديان والفرق التي تقول بالتناسخ.
10_ يؤمنون برجعة بوذا ثانية إلى الأرض؛ ليعيد السلام والبركة إليها.
11_ في تعاليم بوذا الدعوة إلى المحبة، والتسامح، والتعامل بالحسنى، والتصدق على الفقراء، وترك الغنى والترف، وحمل النفس على التقشف والخشونة، وفيها تحذير من النساء، والمال، وترغيب في البعد عن الزواج.
12_ ويرى بوذا أن أساس التدين هو التأمل ومقاومة النزعات وقد وضع أربع حقائق أساسية في زعمه وهي:
أ _ الحياة هي العناء.
ب _ الشهوات هي أصل هذا العناء.
جـ _ يتوقف العناء عندما تتوقف الشهوات.
د _ إبطال الشهوات ويتم باتباع ما سماه بالصراط النبيل، ويقوم هذا الصراط على توافر الصحة، والصواب في الاعتقاد، والعزم، والقول، والسلوك، والمهنة التي تتخذ لكسب العيش، والجهد، والتأمل الفكري والروحي.(1/28)
وبهذه الذاتية الروحية الفكرية السلوكية يصل إلى النرفانا وهي السعادة القصوى، وعندها تبطل الشهوات، والعواطف ويتوقف تناسخ الأرواح؛ فالبوذي السعيد هو الذي ينجو من الدوران في محيط الولادة والموت؛ إذ يصل إلى النرفانا حيث لا ولادة ولا موت، وهذه المرحلة هي انعدام التناسخ الذي هو من ضرورات النفس الشقية.
ويروى أن بوذا توصل إلى ذلك خلال ست سنوات من تحمل العناء ورياضة النفس، وأنه أنفق السنوات الخمس والأربعين الباقية من عمره في تعليم ما انتهى إليه من تجربته.
فالنرفانا _ إذاً _ يبلغها البوذي بعد أن يحطم جميع القيود والأغلال التي تُقيِّد نفسه، وتمنعها من إدراك الحقائق، ويعرض عن شهوة البقاء، ويتملَّكُه عقل هادئ مطمئن لا يتسرب إليه الخطأ، ويتجرد عن كل الأماني والرغبات والجهالات وأسباب الخديعة والإغراء.
بعد هذا كله يبلغ البوذي طور النرفانا.
وقد قيل: إن النرفانا هي الاتحاد بالإله، ولكن البوذية لا تعرف إلهاً.
13_ التسول والبطالة: فمن تعاليم البوذية أنها توصي أتباعها بالتخلي عن أموالهم وعقاراتهم وحرفهم، وتوصيهم بمد اليد للآخرين بالتسول والاستجداء؛ فهم يعيشون على البطالة والكسل.
وهذه تعاليمُ لا تستقيم معها الحياة، ولا ترتقي بها الأمم بخلاف الإسلام؛ فإنه دين يأمر بالعمل والنشاط والقوة، وينهى عن الكسل والبطالة.
هذه نبذة عن عقائد البوذية ويلاحظ التشابه الكبير بينها وبين النصرانية مما يؤكد تأثر النصرانية بها في كثير من المعتقدات.
أقسام البوذيين، والبوذية الصينية:
ينقسم البوذيون إلى قسمين:
1_ البوذيون المتدينون: وهؤلاء يأخذون بكل تعاليم بوذا وتوجيهاته.
2_ البوذيون المدنيون: وهؤلاء يقتصرون على بعض التعاليم والوصايا فقط.
_ البوذية الصينية: انتقلت البوذية من الهند إلى الصين على يد المرسلين الهنود، والحجاج الصينيين الذين ذهبوا إلى الهند، وعادوا إليها حاملين الرسالة البوذية.(1/29)
وهناك بعض الاختلاف بين بوذية الهند، وبوذية الصين؛ فبوذية الهند لا إله لها.
ولكنها حين انتقلت إلى الصين مالت إلى الاعتقاد بفكرة كائن مطلق يتمثل في شخصيات مختلفة بوذا واحد منها.
وأشهر تلك الشخصيات في الصين من يدعونها (كوان ين).
وهي عندهم إله الرحمة؛ حيث يرفعون إليها الابتهالات في المعابد البوذية.
وكذلك فكرة النرفانا المعروفة في البوذية الهندية زالت في البوذية الصينية، وحلَّ محلها فكرة الفردوس المادية، وفيها تنعم النفس بالحديث مع الشخصيات الإلهية.
والبوذي الصيني لا يفقه شيئاً من معاني النرفانا الهندية، ولكنه يعتقد أنه سيذهب بعد الموت إلى فردوس في الغرب.
والصلوات _ أو على الأقل _ الابتهالات ذائعة في البوذية الصينية مع أنه لا وجود لها في البوذية الهندية التي شرعها بوذا نفسه(1).
مواطن انتشار البوذية: ...
البوذية منتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية، وهي أوسع الديانات الهندية الإلحادية انتشاراً بعد الهندوسية في الهند وخارجها، ويدين بها أكثر من ستمائة مليون نسمة، وهي مذهبان كبيران:
1_ المذهب الشمالي: وكتبه المدونة باللغة السنسكريتية، وهو سائد في الصين واليابان، ونيبال، وسومطرة، والتبت.
2_ المذهب الجنوبي: وكتبه المقدسة مدونة باللغة البالية، وهو سائد في بورما، وسيلان، وسيام(2).
أ_ التعريف: كلمة (السيخ) كلمة ظهرت في الهند، وهي كلمة سنسكريتية الأصل، ومعناها: المريد، أو التابع.
أما المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة فهو يطلق على جماعة هندية ظهرت في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي تدعو إلى دين جديد، وتزعم أنه خليط بين الإسلام والهندوسية(3).
ب _ المؤسس: مؤسس السيخية رجل اسمه ناناك، أو نانك، ويُدعى غورو أي: المعلم.
وقد ولد سنة 1469م في قرية اسمها ري وي دي تلفندي وقيل تلوندي وتبعد عن لاهور 40 ميلاً.
__________
(1) _ انظر ذيل الملل والنحل 2/26.
(2) _ الموسوعة الميسرة ص2/762.
(3) _ انظر الموسوعة الميسرة 2/764.(1/30)
ونشأ في بيت هندوسي، وكان منذ صغره محباً للخلوة، والوِحْدة، وكان لا يشارك أحداً في اللهو، ولا يحب الاختلاط، بل كان يأنس بالعزلة.
وكان أقاربه يعدونه خارق الذكاء، والفطنة، ولكنَّ والديه يعدانه مريضاً نفسياً؛ لذلك أرسله والده إلى المدرسة؛ لكي يصرفه عن تلك العزلة الغريبة.
وبعد فترة فُوجئ الوالد بتفوق طفله الذي أتقن اللغات الهندوسية، والسنسكريتية، والفارسية بسرعة تفوق التصور.
ومع ذلك لم تتغير عادته في إيثار العزلة.
وعندما شبَّ عن الطوق شرع في دراسة الديانات المتعددة المُعْتَنَقة من قِبل الشعب الهندي، فدرس الهندوسية، والبوذية، والإسلام؛ فكان يدرس ما يراه صحيحاً، ويدع ما لا يوافق قناعاته، حتى ظفر برجل صوفي هندي يُسمى سيد حسين درويش، فأُعجب بفكرته، وتصوفه؛ حيث كان هذا الصوفي يرى أن كلَّ دين حق وصواب، وأن العبادة يقبلها الله أياً كانت، ومن أي أحد كان.
ومن هنا أسس ناناك أصوله على دين هذا الصوفي، ودعا الناس إليه، فقبل دعوته عشرات من الهنادك، وكذلك بعض المسلمين.
وقد خرج نانك من أرض البنجاب، وجعل يسيح في الأرض ينشر دعوته، وقد سافر إلى عدد من البلاد منها مكة والمدينة.
وكان يدَّعي حب الإسلام، وكان مشدوداً إلى تربته وجذوره الهندوسية؛ مما دفعه لأن يعمل على التقريب بين الإسلام والهندوسية، ويطلق شعاره: (لا هندوس ولا مسلمون+.
وتذكُر بعض المصادر التاريخية أنه حج مع رفقائه، وبقي أياماً في مكة، ثم سافر إلى كربلاء.
وأنه حينما خرج للسفر إلى مكة كانت بيده سجادة، وإبريق للوضوء، والقرآن الكريم.
ويرى بعض الباحثين أن نانك كان يكره الديانة الهندوسية، ويخالفها أشد المخالفة، وأنه أخذ بعض عقائد المسلمين وتعاليمهم؛ فلم يكن هندوسياً ولا مسلماً.(1/31)
ولذلك فهو لا يرى قداسةَ كتب الهندوس ككتاب (الفيدا)، وكان لا يرى نظامَ الطبقات المعروف عند الهندوس، ولا عبادة التماثيل، ولم يكن يرى التناسخَ، ولا حرقَ الميت؛ ولذلك ذكرت بعض المصادر أنه لما مات حضره أناس من المسلمين وأناس من الهنادك؛ فالمسلمون طلبوا جثته للصلاة عليه ودفنه؛ لظنهم أنه مسلم، والهنادك طلبوها لإحراقها؛ لظنهم أنه هندوكي؛ فقام بينهم نزاع.
وقد نُسج حول هذه الحادثة قصةٌ مفادها أنهم ذهبوا إلى الحجرة التي مات فيها، فلم يجدوا جثته، بل وجدوا رداءاً ملقىً على موضع جثته؛ فشُقَّ الرداء نصفين، وأُعطي كل فريق منهم نصفه فذهب به كل فريق، وأدوا مراسم الجنازة به.
ولعل هذه القصة نُسجت لإظهار كرامته، أو لحسم نزاع الفريقين، وأُبعدت جثته من تلك الحجرة.
ويبدو من قراءة كتابه أنه درس من تعاليم الإسلام ما استطاع، وتأثر ببعضها، ولو أنه وجد كتباً إسلامية بِلُغَتِه لربما أسلم.
وقد كتب بعض المؤرخين أنه كان مسلماً؛ لذا كانوا يترحمون عليه.
وهذا بعيد جداً؛ إذ لو كان مسلماً لدعا إلى الإسلام، ولم يخترع ديناً جديداً.
وربما كان سببُ ادعائهم الإسلام له _ ورودَ بعض العبارات في كتابه؛ بحيث يوجد بها بعض الروح الإسلامية كقوله: =اقرأ كلمة الإله التي معها اسم محمد محبوب، وقد ضحى بما لديه في سبيل الله+.
وكذلك كان يذكر في كتابه: القرآنَ، والرسولَ، واليومَ الآخر، والرحمن والرحيم، وغيرها من الكلمات الإسلامية.
ولكن ذلك ليس كافياً بالحكم له بالإسلام، ولذلك كانت السيخ تقول: إن نانك لم يكن مسلماً، ولا هندوكياً، وإنما كان يُحب فقراء المسلمين، وفقراء الهنادك.
مات نانك عام 1539م، ودُفن في بلدة ديرة بابا نانك، من أعمال البنجاب الهندية، ولا يزال له ثوب مكتوب عليه سورة الفاتحة، وبعض السور القصيرة من القرآن(1).
__________
(1) _ انظر الهندوس والسيخ للشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني ص12_18، والموسوعة الميسرة 2/764_765.(1/32)
ج _ السيخ بعد المؤسس (نانك)
بعد وفاة نانك خلفه خلفاء منهم ابنه (شري شند) ثم ابنه الثاني الذي يلقب بـ: (صاحب زاده) أي ابن الرئيس.
ثم تتابع بعد ذلك أئمة السيخ، وحصل على أيديهم تطورات، وتغيرات كما سيتبين فيما سيأتي عند الحديث عنهم، وعن معتقدات السيخ(1).
د_ أئمة السيخ وخلفاؤهم: خلف نانك خلفاء وأئمة للسيخ، وعددهم تسعة، وهم:
1_ الإمام الثاني للسيخ (خليفة نانك) (أنغد) 1504_1552م:
ولد (أنغد) في زمن الملك (إسكندر اللودي) في فيروز فور عام 1504م، وخلف (نانك) بعد وفاته وعمره يومئذ خمسة وثلاثون عاماً.
2_ الإمام الثالث (أمرداس) 1479_1574م:
وهو الذي نجح في إدخال كثير من التعاليم السيخية الجديدة التي تميزهم عن الهندوس، فمهدت تلك التعاليم بعد ذلك للفصل بين العقيدتين وكسر جسور الانتساب لهم، فأقام طقوساً خاصة بالمواليد والوفيات تختلف عن طقوس الهندوس.
كذلك أبطل عزلة المرأة، ودافع عن الزواج بواحدة، وشجع الاتصالات بين الطبقات، وزواج الأرامل من النساء.
كما منع بشدة ممارسة عادة الساتي (sait) أو حرق النساء الأرامل بعد موت أزواجهن.
3_ ثم خلف (أنغد) (رام داس) 1534_1581م: في عهد الإمبراطور (همايون).
4_ الخليفة الخامس (أرجون) 1563_1606م:
أنجب (رام داس) ثلاثة من البنين، واستخلف على سرير الخلافة أصغر أبنائه (أرجن).
ولد أرجن في زمن الإمبراطور المغولي (أكبر) في عام 1573م في مدينة (غوبندال) وكرس جهوده بعد الاستخلاف لتجميع صفوف السيخ وتوحيدها، ودخل في عهده آلاف الناس في الديانة السيخية.
5_ الخليفة السادس (هرغوبند) 1595_1644:
وظهر أمام الدنيا كملك لا كناسك، وجعل في حقويه سيفين.
6_ الخليفة السابع (هرراي) 1630_1661م:
نصب (هرغوبند) حفيده (هر راي) خليفة له ولم يحصل في زمانه كبير شيء، وتوفي وهو ابن إحدى وثلاثين سنة.
7_ الخليفة الثامن (هاري كرشن) 1656_1664م:
__________
(1) _ انظر الهندوس والسيخ ص18.(1/33)
ثم جلس على سرير الخليفة ابن (هر راي)، (هر كرشن).
8_ الخليفة التاسع (تيغ بهارد) 1621_1675م:
ثم جلس على سرير الملك (تيغ بهارد) أصغر أولاد (هاري غوبند) (الخليفة السادس).
9_ الخليفة العاشر والأخير (غوبند) 1666_1708م:
ولما قُتل (تنغ بهادر) خلفه ابنه (غوبند) وهذا الخليفة كان من أشجع خلفاء السيخ وأخبرهم بأمور الحرب، وهو الذي صرف همَّه كله لتوحيد صفوف السيخ، وبث فيهم روح العداء للمسلمين، وفتح الباب لجميع من أراد الدخول في الديانة السيخية ولم يفرق بين الطبقات، فدخل الناس في دينه أفواجا.
ثم جعل لقومه زياً خاصاً يتميزون به عن الآخرين، وأوجب على كلِّ سيخي أن يتخذ لديه قطعة من الحديد؛ وذلك دليلاً على شجاعته وصلابته، وألا يحلق شيئاً من شعر جلده، وأن يكون عنده مشاطة، وأوجب تعظيم البقرة، ورفع القيود عن المأكل والمشرب حتى أباح الخمر، وأوجبَ على كلِّ سيخي إذا قابل أخاه أن يقول: =بول واه غرو جي كا خالصة+ ومعناها: لتحيا فكرة حرية الحرية _ غوبند رائي، والآخر يرد: =سرى واه غرو جي كي فتح+ ومعناها: يا للعظمة لفتوح الشيخ.
واتخذ مع اسمه لقب (سنغ) أي الأسد، ثم أطلق هذا اللفظ على كل سيخي، فما منهم من أحد إلا وفي اسمه سنغ، وهو الذي لقب السيخ بـ: (الخالصة) أي القوم الأحرار.
وهو الذي فصل الأمة السيخية عن الأمة الهندوسية فصلاً تاماً.
وفي عهده أصبح السيخ أعدى أعداء المسلمين، وصاروا يسعون للانتقام منهم في كل فرصة سنحت لهم.
وقد نسجت حول شخصيته حكايات عجيبة غريبة تتحدث عن شجاعته وهمته حتى إنه يقال: إنه قاتل الأعداء إلى أربعة عشر ميلاً في الميدان بعد أن فُصِل رأسُه عن جسده، والحاملُ إذا سمعت اسمه ألقت ما في بطنها، وغيرها من الحكايات.
فلا شك أنه وحد قومه وجمعهم على بغض المسلمين وكرههم، وجعل في قتال المسلمين مجداً وشرفاً ولا يتخلفون عنه أبداً.(1/34)
وكان (غوبند رائي) آخر الخلفاء العشرة، وانتهت به سلسلة الخلافة في الديانة السيخية.
وانقسم السيخ في هذه الأيام إلى طائفتين لكل منهما أتباع، وتتقاتلان فيما بينهما أحياناً، وليست حقيقتهما إلا مثل (الكاثوليك) و(البروتستانت) عند النصارى.
فطائفة (آكلي خالصة) تعتقد أن الوصول إلى الألوهية لا يمكن إلا بالطريق التي سلكها مؤسس الديانة وخلفاؤه، وأنه يجب اتباع التقاليد والعادات الموروثة فيهم.
وتعتقد في أن كل سيخي إنما هو (سنت) أي ناسك وليس (سباهياً) أي جندياً؛ فيحرم عليه حمل السلاح إلا إذا طلبت منه الحكومة، وأن سلسلة الخلافة انتهت بموت الخليفة العاشر وغير ذلك من العقائد.
وطائفة (نرى كاري) لا توجب التزام التقاليد والعادات الموروثة، وتعتقد في أن سلسلة الخلافة لم تنته، وإنما توقفت لمدة، وأن الخليفة الحالي هو (باب غربشن سنغ) ويجب اتباعه فيما أمر ونهى، وأن حمل السلاح ليس محرماً عليهم بل إذا استطاع فليحمل السلاح معه دائماً؛ للحفاظ على نفسه، وغير ذلك من معتقداتهم.
بقي أن تعرف أن مقصودهم من حمل السلاح هو الحماية من المسلمين ومن معتقداتهم، وأنه لا بد للسيخي قبل أن يموت أن يقتل مسلماً حتى يحوز على رضا الإله.
ولقد وقفوا مع الإنجليز، بل انضموا إليهم في حربهم ضد الأفغان سنة 1838م(1).
هـ _ عقائد السيخ:
ومن خلال ما مضى تبين شيء من عقائد السيخ.
ولعل أبرز عقائد السيخ _غير ما ذُكر_ ما يُعرف بالقواعد الخمس للقبيلة السيخية التي يعتمدون عليها اعتماداً كلياً، وهي أصول الدين لديهم.
وقد سُميت تلك القواعد أو الشارات بالكافات الخمس أو بانج كهكها؛ لأن كلَّ واحدة منها تبدأ بحرف الكاف باللغة الكورمكية، وهي:
__________
(1) _ انظر الهندوس والسيخ ص18_21.(1/35)
_ الكيش: اقتداءاً بشمشون الجبار الذي اشتهر عندهم بأنَّ قدرته الخارقة تَكْمُن في شعر رأسه المسترسل؛ فقد أرخى على هذا الأساس السيخية شعور رؤوسهم، وأطالوا لحاهم؛ تقيداً بالقاعدة الأولى الكيش: (عدم مساس الشعر بمقص).
_ الكانغا: القاعدة الثانية، وهي عبارة عن الضفائر المجدولة فوق الرأس، وذلك تعويضاً عن المشط، ولكي يكونوا على أهبة الاستعداد لنجدة الطائفة، وذلك يتطلب مهارة في الحركة والوثب (المشط يحمله كل فرد).
_ الكاتشا: وهي عبارة عن تحريم ارتداء (الدوتي الهندي) وهو قماش فضفاض يلف حول الجسد فيعوق الحركة؛ لذلك عُدَّ هذا الزي الباهظ الثمن محرماً، ووضع مكانه (الكاتشا) وهو سروال متسع يضيق عند الركبتين للنساء والرجال على السواء: (ارتداء السروال العسكري).
_ الكارا: وتيمناً بفضائل نانك الذي لم يعرف البهرجة، حُرمت السيخية الزينة والحلي والجواهر، واكتفوا بسوار حديدي يُلف حول المعصم ويُدعى (الكارا) والذي اعتمد على التقليد المتوارث، والقائل بأن الحديد يبعد إغواء الشيطان (وضع السوار الفولاذي في اليد اليمنى).
_ الكريبان: أما القاعدة الخامسة والأخيرة، فقد دعت إلى تقلد (الكيربان) وهو سيف تنطوي قبضته على الحد المستل الذي لا يبين له أثر إلا عند الحاجة فقط. (حمل المُدى أو السيف ذي الحدين)(1).
و_ مواطن السيخ:
للسيخ بلد مقدس يعقدون فيه اجتماعاتهم المهمة، وهي مدينة (أمرتيار) من أعمال البنجاب، وقد دخلت عند التقسيم في أرض الهند.
ويُقدَّر عدد السيخ حالياً بحوالي 15 مليون نسمة داخل الهند وخارجها.
وأكثرهم يعيش في البنجاب؛ إذ يعيش فيها 85% منهم، فيما يعيش الباقي في ولاية هاريانا، وفي دلهي، وفي أنحاء متفرقة من الهند.
وقد استقر بعضهم في ماليزيا، وسنغافورة، وشرق أفريقيا، وإنجلترا، والولايات المتحدة، وكندا، ورحل بعضهم إلى دول الخليج بقصد العمل.
__________
(1) _ انظر الهندوس والسيخ ص25_26.(1/36)
وللسيخ لجنة تجتمع كل عام منذ عام 1908م تُنشئ المدارس، وتعمل على إنشاء كراسي في الجامعات لتدريس ديانة السيخ(1).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه نبذة موجزة عن اليهودية، وذلك من خلال المباحث التالية:
-تعريف اليهودية.
-سبب التسمية.
-أسماء اليهود الأخرى.
-نبذة عن تاريخ بني إسرائيل.
-بداية انحراف اليهود.
-نبذة مختصرة عن عقيدة اليهود المحرفة.
-من أوصاف اليهود وأخلاقهم.
-مواقف اليهود مع المسلمين قديماً وحديثاً.
-أهداف اليهود.
-وسائل اليهود ومخططاتهم.
-كتب اليهود.
-اليهود في العصر الحديث.
اليهودية: مصطلح حادث يطلق على الديانة الباطلة المحرفة عن الدين الحق الذي جاء به موسى _ عليه السلام _.
ولعل هذا هو التعريف الصحيح لليهودية، ومن خلاله يتبين الخلل في بعض التعريفات التي تقول: إنها الدين الذي جاء به موسى _ عليه السلام _.
أو: إنها دين موسى _ عليه السلام _.
وهذا خطأ؛ إذ موسى _ عليه السلام _ لم يجئ باليهودية، وإنما جاء بالإسلام _بمفهومه العام_ الذي يعني الاستسلام لله وحده؛ فهو دين جميع الأنبياء من لدن نوح إلى محمد _ عليهم السلام _.
قال الله _ عز وجل _ عن إبراهيم _ عليه السلام _: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً] (آل عمران: 67).
وقال _ تبارك وتعالى _ عن موسى _ عليه السلام _: [وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84)] (يونس).
وقال عن عيسى _ عليه السلام _: [فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)] (آل عمران).
__________
(1) _ انظر الموسوعة الميسرة 2/764.(1/37)
فهذا هو الإسلام العام الذي جاء به جميع الأنبياء.
أما الإسلام الخاص فهو شريعة القرآن التي جاء بها محمد "(1).
وهذا الإسلام الخاص يشترك مع كافة الشرائع بالتوحيد والأصول، ويختلف في تفصيل بعض الشرائع.
ومن خلال ما مضى يتبين أن اليهودية ديانة باطلة محرفة عن الدين الحق الذي جاء به موسى _ عليه السلام _.
سميت اليهودية بذلك نسبة إلى اليهود، وقد تعددت أسباب تسمية اليهود بهذا الاسم؛ فقيل في ذلك أقوال منها:
1_ أنهم سموا يهوداً نسبة إلى يهوذا بن يعقوب: الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل الذين بعث فيهم موسى _ عليه السلام _ فقلبت العرب الذال دالاً.
2_ نسبة إلى الهَوَد: وهو التوبة، والرجوع، وذلك نسبة إلى قول موسى _عليه السلام_ لربه: [إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ] (الأعراف: 156).
أي تبنا ورجعنا إليك يا ربنا.
قال ابن منظور ×: =الهود: التوبة، هادَ يهود هوداً، وتهوَّد: تاب ورجع إلى الحق؛ فهو هائد، وقومٌ هُوْد مثل حائك وحُوك، وبازل وبُزْل+(2).
3_ نسبة إلى التقرب والعمل الصالح: قال زهير بن أبي سلمى:
سوى رَبَعٍ لم يأتِ فيه مخافةً ... ولا رهقاً من عابد متهود
فالمتهود: المتقرب، والتهود: العمل الصالح(3).
4_ من الهوادة، وهي المودة، فكأنهم سموا بذلك؛ لمودة بعضهم بعضاً(4).
لليهود عدة أسماء منها:
1_ اليهود _ كما مر _.
2_ بنو إسرائيل: وإسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم _عليهم السلام_.
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =معناه: (عبدالله).
لأن إسرا بمعنى عبد، وإيل: اسم الله.
أي أنه مركب من كلمتين: إسرا، وإيل، كما يقولون: بيت إيل+(5).
3_ الذين هادوا: كما قال _ عز وجل _: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ] (البقرة: 62).
__________
(1) _ انظر التدمرية لابن تيمية ص196_175.
(2) _ لسان العرب 3/439.
(3) _3_ لسان العرب 3/439.
(5) _ انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 1/450.(1/38)
وقال: [يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ] (المائدة: 44).
4_ أهل الكتاب: إشارة إلى اسمهم المتأخر خاصة بعد ظهور عيسى _ عليه السلام _ وتميزهم عن أتباعه النصارى.
ولذلك يطلق هذا الاسم عليهم وعلى النصارى؛ إشارة إلى أن الله أنزل عليهم كتاباً من السماء، وهو التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى _عليهما السلام_.
وعلى أية حال فاسم اليهود أشمل من بني إسرائيل؛ لأنه يطلق على الذين اعتنقوا الديانة سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم.
في حين أن بني إسرائيل _ وهم ذرية يعقوب _ عليه السلام _ قد يكون منهم اليهودي، أو النصراني، أو المسلم، أو سواهم.
يُعَدُّ الخليل إبراهيم _عليه السلام_ الأب المشترك للعرب، واليهود، والنصارى.
والخليل هو إبراهيم بن تارِخ بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن عابر ابن شالخ بن أَرْفَخْشَد بن سام بن نوح _ عليه السلام _(1).
اختلف في مكان ولادة الخليل _ عليه السلام _.
قال ابن كثير ×: =عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: ولد إبراهيم بغُوطة دمشق، في قرية يقال لها: برزة، في جبل يقال له: قاسيون.
ثم قال: والصحيح أنه ولد ببابل+(2).
وتذكر كتب التواريخ أن إبراهيم _ عليه السلام _ تزوج سارة، وكانت عاقراً لا تلد، وخرج مع والده وزوجته وابن أخيه لوط بن هاران من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين _ أي من العراق إلى بيت المقدس فلسطين _.
وقد حصل له من البلاء، والجهاد في سبيل الله ما يطول ذكره.
ولما وصل إلى بيت المقدس، ومكث فيها عشر سنين قالت له سارة: إن الرب أحرمني الولد؛ فادخل على أَمَتي هذه _ تعني هاجر _ لعل الله يرزقنا منها ولداً.
فلما وهبتها له دخل بها إبراهيمُ _ عليه السلام _ فحملت ووضعت إسماعيل _عليه السلام_ وكان للخليل حينئذ ست وثمانون سنة.
__________
(1) _ انظر البداية والنهاية لابن كثير 1/324.
(2) _ انظر البداية والنهاية 1/325.(1/39)
ثم أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة، فخر له ساجداً؛ فولد له إسحاق بعد إسماعيل بثلاث عشرة سنة، فحمد الله إبراهيم كما قال _عز وجل_ عنه: [الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)] (إبراهيم).
ثم انتقل بعد ذلك إبراهيم من أرض كنعان بابنه إسماعيل إلى واد غير ذي زرع عند موقع البيت فيما عرف باسم مكة.
وكان ذلك بسبب أمر الله _ عز وجل _ وقيل بسبب غيرة سارة _عليها السلام_.
ويقال: إن إسماعيل كان إذ ذاك رضيعاً؛ فلما تركه وأُمَّه هناك، وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر، وتعلقت بثيابه، وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ههنا وليس معنا ما يكفينا؟
فلم يجبها، فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها، قالت: آلله أمرك بهذا؟
قال: نعم، قالت: فإذاً لا يضيعنا(1).
جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ =أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً، لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا.
قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.
ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ] حتى بلغ [يَشْكُرُونَ ].
__________
(1) _ انظر البداية والنهاية 1/356.(1/40)
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانْطَلَقَتْ؛ كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي": =فذلك سعي الناس بينهما+.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صه؛ تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت _أيضا_ فقالت: قد أَسْمَعْتَ إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بِعَقِبِه _ أو قال بجناحه _ حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف، قال بن عباس قال النبي ": =يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم _ أو قال لو لم تغرف من الماء _ لكانت زمزم عيناً معيناً+.
قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول؛ فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا، فأخبروهم بالماء، فأقبلوا.
قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء.
قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي ": =فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس+.(1/41)
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وأنفسهم، وأعجبهم، حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيِّر عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا في جهد وشدة.
قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّر عتبةَ بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك؛ الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم، قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي: =ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ ولو كان لهم دعا لهم فيه+.
قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيْهِ يثبت عتبة بابه.(1/42)
فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني قال: وأعينك قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: [ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ].
قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: [ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]+(1).
ثم حصل لإبراهيم ما حصل من البلاء بذبح ابنه وغير ذلك من البلايا.
وبعد أن بلغ إبراهيم _ عليه السلام _ مائة سنة رزقه الله بإسحاق.
وكان عمر سارة آنذاك تسعين سنة.
قال الله _تعالى_: [وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)] (الصافات).
قال ابن كثير ×: =وذكر أهل الكتاب أن إسحاق لما تزوج رفقا بنت ثبوائيل في حياة أبيه كان عمره أربعين، وأنها كانت عاقراً، فدعا الله فحملت، فولدت غلامين توأمين: أولهما سموه عيصو، وهو الذي تسميه العرب العيص، وهو والد الروم.
__________
(1) _ البخاري (3364).(1/43)
والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه؛ فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينسب إليه بنو إسرائيل+(1).
ومما جاء في سيرة يعقوب _ عليه السلام _ أنه رحل من بيت المقدس إلى خاله لابان بأرض حران؛ فلما قدم على خاله إذا له ابنتان اسم الكبرى: لَيّا، ويقال لها: ليئة، واسم الصغرى: راحيل؛ فخطب إليه راحيل وكانت أحسنهما وأجملهما؛ فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين؛ فلما مضت المدة عمل خاله لابان طعاماً، وجمع الناس عليه، وزف إليه ليلاً ابنته الكبرى ليا، وكانت ضعيفة العينين، وليست بذات جمال.
فلما أصبح يعقوب، قال لخاله: لم غدرت بي وإنما خطبت إليك راحيل؟
فقال: إنه ليس من سننا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها؛ فعمل سبع سنين، وأدخلها عليه مع أختها، وكان ذلك سائغاً في ملتهم، ثم نسخ في شريعة التوراة، وهذا وحده دليل كافٍ على وقوع النسخ؛ لأن فعل يعقوب _ عليه السلام _ دليل على جواز هذا وإباحته؛ لأنه معصوم(2).
وبعد ذلك وهب خالُه لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية؛ فوهب لليا جارية اسمها زلفا، وقيل: زلفة، ووهب لراحيل جارية اسمها بلها، وقيل: بلهة.
وقد جبر الله _تعالى_ ضعفَ ليا بأن وهب لها أولاداً؛ فكان أول من ولدت ليعقوب: روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا.
وكانت راحيل لا تحبل؛ فوهبت ليعقوب جاريتها بلها؛ فوطئها؛ فحملت وولدت له غلاماً سمته دان، وحملت وولدت غلاماً ثانياً سمَّته يفثالي، وقيل اسمه ثفيالي، أو نفتالي، فعمدت عند ذلك ليا؛ فوهبت جاريتها زلفا من يعقوب _ عليه السلام _ فولدت له جاد، وأشير، ثم حملت ليا، فولدت غلاماً خامساً وسمته أيساخر، ويقال: إنه يساكر.
ثم حملت وولدت غلاماً سادساً سمته زابلون، أو زوبلون، ثم حملت وولدت بنتاً سمتها دنيا، فصار لها سبعة من يعقوب.
__________
(1) _ البداية والنهاية 1/447.
(2) _ انظر البداية والنهاية 1/449.(1/44)
ثم دعت راحيل الله _تعالى_ وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب؛ فسمع الله نداءها، وأجاب دعاءها؛ فحملت، وولدت غلاماً عظيماً شريفاً، حسناً جميلاً سمته يوسف.
كل هذا وهم مقيمون بأرض حران، وهو يرعى على خاله غنمه، ثم طلب يعقوب من خاله أن يأذن له بالرحيل؛ فأذن له ورحل إلى فلسطين عند أبيه إسحاق _ عليهما السلام _.
وبعد رجوعه إليها حملت زوجته راحيل؛ فولدت غلاماً وهو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً، وماتت عقيبه، فدفنها يعقوب في بيت لحم(1).
وبعد ذلك مرض إسحاق، ومات عن مائة وثمانين سنة، ودفنه ابناه: العيص، ويعقوب مع أبيه الخليل _ عليهم السلام _.
وهكذا استقر يعقوب هو وأبناؤه الأسباط الاثنا عشر في فلسطين.
ومن ذرية الأسباط يتكون نسب بني إسرائيل.
ثم حصل ما حصل بين يوسف وإخوته، وبعد ذلك دعا يوسف والده وإخوته إلى مصر، فنزحوا من فلسطين، ومات يعقوب في مصر، فذهب به يوسف وإخوته وأكابر أهل مصر إلى فلسطين، فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي اشتراها الخليل.
ثم رجعوا إلى مصر، وعزى إخوة يوسفَ يوسفَ، وترققوا له؛ فأكرمهم، وأحسن منقلبهم؛ فأقاموا بمصر، ثم حضرت يوسف الوفاة؛ فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر؛ فيدفن عند آبائه، فحنطوه، ووضعوه في تابوت، فكان بمصر حتى أخرجه موسى _ عليه السلام _ فدفنه عند آبائه _ كما يقول ابن كثير فيما نقله عن نصوص أهل الكتاب _(2).
وبعد ذلك تناسل الأسباط، وكثروا، وأبوا أن يندمجوا مع المصريين؛ فعزلوا أنفسهم عنه، وتواصوا فيما بينهم أن يكون لكل سبط نسله المعروف المميز عن بقية الأسباط وذلك ليضمنوا الاحتفاظ بنسبهم؛ اعتزازاً به، وتعالياً على غيرهم باعتبار أنهم من ذرية الأنبياء.
__________
(1) _ انظر البداية والنهاية 1/447_455، والتحرير والتنوير 1/732.
(2) _ انظر البداية والنهاية 1/504.(1/45)
وهذه العزة التي عاشها اليهود في مصر مع الشعور المصاحب لهم من التعالي بنسبهم _ جعل مقامهم في مصر قلقاً مضطرباً (1).
وبعد ثلاثة قرون أو تزيد اضطهدهم الفراعنةُ حكامُ مصر واستعبدوهم, فبعث الله موسى نبياً فيهم، ورسولاً إليهم وإلى فرعون.
وقد بين لنا القرآن الكريم سيرة موسى _ عليه السلام _ مع فرعون, حيث منَّ الله على بني إسرائيل ونجاهم من سوء العذاب الذي كان فرعون يسومهم به، ونصرهم عليه بقيادة موسى _ عليه السلام _ حيث انهزم فرعون وأهلكه الله بالغرق.
وكان جديراً ببني إسرائيل بعد هذا النصر أن يحمدوا الله ويطيعوه, إلا أنهم أبوا إلا الكفر والذلة والمسكنة، فآذوا موسى _ عليه السلام _ وتعنتوا حين أمروا أن يدخلوا فلسطين _الأرض المقدسة_.
وقد أكرمهم الله وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، ولما ذهب موسى لمناجاة ربه استضعفوا هارون، وعبدوا العجل الذهب، وتعنتوا على موسى بعد عودته وقالوا له:[لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً](البقرة:55).
ورفع الله فوقهم الطور؛ تهديداً لهم، فاستسلموا؛ خوفاً، وأعطوا مواثيقهم، ولكنهم نقضوا، واعتدوا في السبت؛ فمسخهم الله قردة وخنازير(2).
وتوالت عليهم الآيات والعبر، كقصة البقرة، والخسف، وغيرها، ولكن قست قلوبهم، ولم تنفعهم الآيات والعبر؛ فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
ثم توالت بعد ذلك غطرستهم، وتبجحهم، وعنادهم، وتحريفهم، وتبديلهم مع كليم الله ومَنْ بعده من الأنبياء _عليهم السلام_.
__________
(1) _ انظر حقيقة اليهود ص 1.
(2) _ انظر حقيقة اليهود ص3.(1/46)
ثم بعث الله فيهم عيسى _عليه السلام_ وبدلاً من أن يصححوا خطأهم وانحرافهم، ويكفوا عن خبثهم وتزييفهم أجمعوا على قتله _عليه السلام_ ولكن الله _عز وجل_ نجاه منهم وفي ذلك يقول الله _تبارك وتعالى_: [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ](النساء: 157).
ولم يكتفوا بما فعلوه بالمسيح _ عليه السلام _ في حياته وإنما دونوا افتراءات كثيرة على المسيح _عليه السلام_ واتهموا أمه مريم _ عليها السلام _ بالبهتان, وعاثوا في الأرض فساداً(1).
واستمروا على جرمهم بعد رفع عيسى _ عليه السلام _ وأخذوا يكيدون لأتباعه، ويطاردونهم، ويعملون على تحريف الإنجيل, حتى تمكنوا من ذلك بالسر والعلن، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً حتى حقدت عليهم الأمم والشعوب؛ فشردوا في الأرض أكثر من مرة، فتفرقوا قبل الإسلام بالشام ومصر والعراق وجزيرة العرب _ في يثرب وخيبر ونجران واليمن _.
وفي كل أرض يحلون بها يكون ديدنهم التفريقَ بين الناس _كما فعلوا مع الأوس والخزرج في المدينة_ واحتكارَ التجارة، والربا، وإشاعة الرذيلة والبغاء، وأكل أموال الناس بالباطل.
واستمروا على هذه الحالة إلى أن بُعث محمد " وكانوا قبل بعثته يستفتحون على الذين كفروا، ويخبرونهم بأنه سوف يخرج نبي، وأنهم سوف يحاربون مع هذا النبي, فلما ظهر النبي " كذبوه، وآذوه، واستهزأوا به، وسحروه، وهموا بقتله, وألَّبوا عليه المشركين, وبدأوا يبثون سمومهم داخل الصف المسلم، وظهر فيهم النفاق, واستمر كيدهم للإسلام والمسلمين إلى اليوم؛ حيث أسهموا إسهاماً كبيراً في إثارة الفرقة ونشر الفرق الضالة كالشيعة، والجهمية، والباطنية، والمعتزلة بمختلف طوائفها، والصوفية بمختلف طرقها إلى اليوم، والشيوعية الحمراء، وغيرها من الفرق والطوائف التي لا تحصى.
__________
(1) _ حقيقة اليهود ص3.(1/47)
كل هذه الفرق والطوائف إما من صنعهم، أو من تشجيعهم، ومساندتهم, وصدق الله _تعالى_ إذ يقول: [وَيسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً] (المائدة:33) ويقول:[وَلا يزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ استطَاعُوا] (البقرة: 217) (1).
كانت عقيدةُ اليهود قبل أن يحرفوها عقيدَة التوحيد الخالص، والإيمان الصحيح المنزلة من الله على موسى _ عليه السلام _ قال _ تعالى _:[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ](النحل: 36).
وقال _تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ](المائدة:44).
هذه هي عقيدتهم، ولكنهم حرفوها، وبدلوها، وابتدعوا فيها ما لم ينزله الله حتى صاروا فيما بعد وإلى الآن على الشرك والعداء لله ورسله.
أما بداية انحرافهم عن العقيدة الصحيحة فكانت في عهد موسى _عليه السلام_ وهو حي بين ظهرانيهم؛ حيث تعنتوا، وعاندوا، وآذوا موسى _عليه السلام_.
وفيما يلي أمثلة من ذلك:
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص27_29.(1/48)
1_ اتخاذهم العجل معبوداً من دون الله: قال الله _ عز وجل _: [وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ(51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)] (البقرة).
2_ قولهم لموسى: أرنا الله جهرة: قال الله _ عز وجل _: [وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)] (البقرة).
3_ قولهم: حنطة بدلاً من قول: =حطة+: قال الله _ عز وجل _: [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(59)] (البقرة).(1/49)
4_ قولهم لموسى: لن نصبر على طعام واحد: قال الله _ عز وجل _: [وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(61)] (البقرة).
5_ ما حصل من العناد والتعنت في قصة القتيل الذي اختصموا فيه وفيمن قتله: قال الله _ عز وجل _: [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)] (البقرة).
6_ قولهم لموسى: [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24)] (المائدة).(1/50)
وسيأتي مزيد بيان لانحرافهم في الفقرة التالية.
1_ الشرك بالله في العبادة كاتخاذهم العجل...، وقد مر في الفقرة الماضية.
2_ نسبتهم الابن إلى الله : [وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ] (التوبة: 30).
3_ جرأتهم على الله _تعالى_: كقولهم:[إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ](آل عمران:181), وقولهم:[يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ][المائدة:64).
4_ القول على الله _ بغير علم _: [وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً] (البقرة:80),[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى] (البقرة:111).
5_ زعمهم أن الله _تعالى_ تعب من خلق السموات والأرض, فرد الله عليهم بقوله: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] (ق: 38), وذلك لكمال قوته وقدرته.
6_ زعمهم أن الله ندم على خلق البشر، ومرض حتى عادته الملائكة، وأنه بكى حتى رمد من كثرة البكاء، لما رأى من معاصي البشر.
7_ فساد اعتقادهم في وحي الله وكتبه: حيث اعتقدوا أن الله لم ينزل شيئاً: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى] (الأنعام: 91).
8_ فساد اعتقادهم في النبوة والأنبياء: ومن ذلك أنهم يرون أن النبوة لا يستحقها إلا من كان منهم ويرشحونه للنبوة, لذلك إذا جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون.
ومن مظاهر انحراف عقيدتهم في النبوة والأنبياء أنهم نسبوا للأنبياء والمرسلين أعمالاً قبيحة فمن ذلك قولهم _ كما جاء في كتبهم _(1):
__________
(1) _ انظر محمد نبي الإسلام ص145، والرسل والرسالات د. عمر الأشقر ص104_105، والمدخل لدراسة التوراة والعهد القديم د. محمد البار ص177_3650.(1/51)
أ _ إن نبي الله هارون _ عليه السلام _ صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل، إصحاح 32 عدد 1 من سفر الخروج.
وقد بين الله ضلالهم في القرآن عندما أخبر أن الذي صنع لهم عجلاً هو السامري.
ب _ إن إبراهيم _ عليه السلام _ قدَّم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها. إصحاح 12 عدد 14 من سفر التكوين.
ج _ ومن ذلك قولهم إن لوطاً شرب الخمر حتى سكر ثم قام على ابنتيه، فزنى بهما الواحدة تلوى الأخرى, ومعاذ الله أن يفعل لوط ذلك وهو الذي دعا إلى الفضيلة طوال عمره. سفر التكوين إصحاح 19 عدد 30.
د _ وإن روابين زنى بزوجة أبيه يعقوب، وأن يعقوب _ عليه السلام _ علم بهذا الفعل القبيح فسكت. سفر التكوين إصحاح 31 عدد 17.
هـ _ وإن داود _ عليه السلام _ زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل الرجل، فقتله، وبعدئذ أخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه فولدت سليمان. سفر صموئيل الثاني إصحاح 11 عدد 1.
و_ وإن سليمان _ عليه السلام _ ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد. سفر الملوك إصحاح 11 عدد 5.
هذه بعض المخازي والقبائح التي نسبتها هذه الأمة الغضبية إلى أنبياء الله الأطهار, وحاشاهم مما وصفوهم به, وقد فعل اليهود ذلك لمرض قلوبهم وخبث طواياهم، وليسهل عليهم تسويغ ذنوبهم ومعايبهم عندما ينكر عليهم منكرٌ، أو يعترض عليهم معترض.
9_ فساد اعتقادهم في نبوة محمد ": ومن ذلك إنكارهم وجحودهم لنبوته مع علمهم بذلك حقاً:[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] (الأنعام:20).
10_ فساد اعتقادهم في الملائكة: حيث يزعمون أن جبريل وميكائيل من أعدائهم, وقد بين الله _تعالى_ ذلك وتوعدهم فقال: [مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ] (البقرة:98).(1/52)
11_ فساد عقيدتهم في اليوم الآخر: فهم يزعمون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان من اليهود, وأن العاصي منهم مهما فعل من المعاصي والآثام فلن يدخل النار إلا أياماً معدودات.
وقد كذبهم الله _تعالى_ بقوله: [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة: 111).
وقال: [وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُ ... ودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(80)] (البقرة).
12_ زعمهم أنهم هم أصحاب الحق: [وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] (البقرة:135).
13_ تنقصهم لله _تعالى_ وكذبهم عليه: ومن ذلك قولهم:
أ _ النهار اثنتا عشرة ساعة في الثلاثة الأولى منها يجلس الله ويراجع الشريعة، وفي الثلاثة الثانية يحكم، وفي الثلاثة الثالثة يطعم العالم، وفي الثلاثة الأخيرة يجلس ويلعب مع الحوت والأسماك.
ب _ ليس الله معصوماً من الطيش والغضب والكذب.
ج _ أرواح اليهود مصدرها روح الله، وأرواح غير اليهود مصدرها الروح النجسة.
د _ خلق الله الناس باستثناء اليهود من نطفة حصان، وخلق الله الأجنبي على هيئة إنسان؛ ليكون لائقاً لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا لأجلهم.
هـ _ اليهودي معتبر عند الله أكرم من الملائكة.
و_ لو لم يخلق الله اليهود لا نعدمت البركة في الأرض، ولما خلقت الأمطار والشمس.
لليهود أوصاف قبيحة، وأخلاق ذميمة مرذولة.
والكتاب والسنة حافلان في بيان ذلك.
كما أن شواهد التاريخ والواقع شاهدان على اليهود بالسوء، والفساد.
فمن أخلاقهم وصفاتهم على سبيل الإجمال: الكبر، والحسد، والظلم، وكتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه.(1/53)
ومنها الخيانة، والغدر، وسوء الأدب، واحتقار الآخرين، والسعي في الفساد، وإثارة الفتن والحروب.
ومنها الكذب، والجشع، وقسوة القلب، ومحبة إشاعة الفاحشة، وأكل الربا.
منذ أن بعث الله _سبحانه وتعالى_ محمداً " بدين الإسلام واليهود يكيدون لهذا الدين ولنبيه, مع أنهم يعرفون أنه رسول الله حقاً، ولديهم الأدلة على ذلك كما ذكر الله عنهم أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك كله جحدوا نبوته وأنكروها وحاولوا النيل من النبي " فحاولوا قتله، وسحروه، ووضعوا له السم، وقاموا بإثارة الفتن بين الأوس والخزرج حتى قال الله _ تعالى _ فيهم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)] (آل عمران).
وتتبع اليهود رسول الله " بالأسئلة ليحرجوه، وطلبوا أن ينزل عليهم كتاباً من السماء, وقد هون الله أمرهم على رسوله فقال: [يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ] (النساء:153).
وعندما فشلوا في إثارة الفتن لَبس بعضهم لباس الإسلام؛ ليطعنوا الإسلام باسم المسلمين: [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ](آل عمران:72).(1/54)
واستمر كيدهم ونشطوا في عهد عثمان ÷ ولبسوا لباس الإسلام بقيادة ابن السوداء عبد الله بن سبأ، وظلوا يؤلبون المسلمين على عثمان بدعوى أنه ليس أحق بالخلافة، وأن انتقال الرسول " إلى الرفيق الأعلى يعني انتقال شخصه إلى علي ÷ كما انتقلت شخصية موسى إلى يوشع, وذهب عثمان ÷ ضحية لهذه الفتنة.
وعندما فتح المسلمون الكثير من الأمصار رحب أكثر أهل الذمة من اليهود والنصارى بهذه الفتوح في بلاد العراق والشام ومصر؛ رغبة في الخلاص من الاضطهاد الروماني حيث عاشوا في ظل دولة الإسلام عيشة أحسن من التي كانوا يعيشونها في السابق مع بني قومهم إلا أنهم لم يتخلوا عن مكرهم وكيدهم؛ فكلما سنحت لهم فرصة اهتبلوها، وبادروا إليها.
وخلاصة القول أننا لوا استعرضنا التاريخ الإسلامي لوجدنا أن لليهود دوراً في كل فتنة وحدث يضر بالمسلمين وإن لم يكن الحدث من صنعهم ابتداءاً لكنهم يوقدونه ولو بعد حين.
وهذا ما جعل بعض الباحثين يذهبون إلى أن اليهود وراء كل الفتن والأحداث.
ولا يشك أحد بأن اليهود عملوا جهدهم _ ولا يزالون _ في الدس والتفريق بين المسلمين، ومحاولة إفساد عقيدتهم وأخلاقهم؛ فالمحققون يجزمون بأن اليهود هم الذين أنشأو التشيع والرفض ابتداءاً، وهم الذين بذروا بذور الفرق الضالة كالمعتزلة والجهمية وسائر الفرق الباطنية كالنصيرية، والإسماعيلية، والدروز، والقرامطة, وهم الذين مهدوا للدولة الفاطمية الشيعية وعن طريقها نشر اليهود البدع القبورية، والطرق الصوفية، والأعياد المبتدعة, كعيد الميلاد، والبدع والخرافات التي سادت في عهد الدولة الفاطمية, ودولة القرامطة وما بعدها.
ولما ظهرت القاديانية، والبهائية أيدوها ثم احتضنوها.(1/55)
وهم الذين ساهموا في سقوط الخلافة العثمانية، ولن ينسى المسلمون ما فعله يهود الدونمة في تركيا حين أظهروا الإسلام، ودخلوا في عمق الخلافة، وكادوا الإسلام؛ فأسسوا الجمعيات السرية للإطاحة بالخلافة، ثم إعلان العلمانية ومكنوا لصنيعتهم مصطفى كمال أتاتورك.
أهداف اليهود وطموحاتهم لا تقف عند حد؛ فهم يخططون للسيطرة على العالم كله حتى يكون تحت هيمنة مملكتهم _إسرائيل_ التي تم إنشاؤها في فلسطين، والتي يزعمون أن حدودها تكون من العراق شرقاً إلى مصر غرباً _من الفرات إلى النيل_ ومن شمال الشام شمالاً إلى يثرب جنوباً .
ويمكن إجمال بعض أهدافهم فيما يلي:
1_ تأسيس وتثبيت مملكتهم _إسرائيل_: بحيث يكون مركزها أور شليم _القدس_ وتكون هي منطلق نشاطهم.
وبسبب تخلف المسلمين وبعدهم عن دينهم تمكن اليهود من تحقيق أكثر أحلامهم مع الأسف.
2_ التحكم في شعوب العالم: وتسخيرها لخدمتهم؛ لأنهم بزعمهم هم شعب الله المختار، وغيرهم يجب أن يكون مسخراً لخدمتهم.
3_ القضاء على المسلمين: [لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ و َلا ذِمَّةً] (التوبة:10) ، [ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217 ).
4_ إفساد الشعوب: وتحطيم أخلاقهم بسلاح المنكرات من خمر، وزنى، وكذب، وسينما، وربا، وغش، وغدر، وخيانة.
يسلك اليهود في سبيل الوصول إلى أهدافهم وسائل شتى، ويقومون بمخططات واسعة مدروسة، ومن ذلك:
1_ إشعال نار الفتنة بين الحكومات وشعوبها: وذلك عن طريق إغراء الحكومات باضطهاد الشعوب، وإغراء الشعوب بالتمرد على الحكومات، ومحاولة إبقاء كل من قوة الحكومة، وقوة الشعب؛ لتبقى العداوة دائمة مستمرة.
2_ إغراء الحكام والوزراء والرؤساء بالاستعلاء على شعوبهم والانغماس بالفساد، والرذيلة، والعهر عن طريق النساء، والخمر، والقمار، والرشاوي والمناصب، والمؤامرات، والفتن.(1/56)
3_ استعمال العنف والإرهاب في حكم العالم: فهم يصرحون بذلك في بروتوكولاتهم كقولهم: =خير النتائج في حكم العالم ما ينتزع بالعنف والإرهاب+.
4_ إشاعة الفوضى والخيانة؛ ليتردى العالم، وينحط، ويسهل التحكم به.
5_ العمل على تحطيم عقيدة الولاء والبراء في نفوس المسلمين باسم السلام والتطبيع؛ لكي يزول حاجز النفرة منهم.
6_ استغلال أجهزة الإعلام: وتوجيهها وجهة تخدم مصالحهم بأن تكون هابطة أخلاقياً، ومضللة سياسياً، ومذبذبة فكرياً.
7_ التحكم بالاقتصاد العالمي: وذلك بامتلاك أكبر عدد من المؤسسات والشركات والبنوك، واحتكار الذهب، ومضاعفة الأعمال الربوية، وتشجيع الأنظمة الرأسمالية الربوية، والضرائبية، والاشتراكية التأميمية المحطمة.
8_ نشر المبادئ الهدامة والجمعيات السرية التجسسية، والأحزاب المتطرفة والحركات الثورية، وتشجيع عصابات الخطف والاغتيالات.
9_ السيطرة على الدول النصرانية والشيوعية؛ لتكون أداة مسخرة تخدم أهدافهم وتحمي دولة إسرائيل الناشئة.
وهذا ما حدث فعلاً من بعض الدول خاصة بريطانيا، وأمريكا، وروسيا.
هذا شيء من أهدافهم ومخططاتهم وقد عملوا وجدوا في تحقيق ذلك، وحققوا الكثير ولم يكن ليتحقق لهم ذلك إلا بعد أن غفل المسلمون عما يدور حولهم.
ومتى ما رجع المسلمون إلى رشدهم، وآبوا إلى ربهم فلن تقوم لإسرائيل قائمة _ بإذن الله _.
يزعم اليهود أنهم أتباع موسى _ عليه السلام _ وأن كتابهم هو التوراة.
ولكن التوراة التي يزعمون أنهم يأخذون بها ليست هي التي أُنزلت على موسى _ عليه السلام _.(1/57)
فالتوراة _ في الأصل _ هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى _عليه السلام_ والتوراة كتاب عظيم اشتمل على النور والهداية كما قال _تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ](المائدة: 44).
وقال _تعالى_: [ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] (الأنعام: 154).
وكثيراً ما يقرن الله _ عز وجل _ في القرآن بين التوراة والقرآن؛ وذلك لأنهما أفضل كتابين أنزلهما الله على خلقه.
هذه باختصار هي حقيقة التوراة التي أنزلت على موسى _ عليه السلام _.
التوراة الموجودة اليوم(1):
أما التوراة الموجودة اليوم فهي ما يطلق على الشريعة المكتوبة، كما يطلق لفظ (التلمود) على الشريعة الشفهية.
والتوراة الموجودة اليوم تشتمل على خمسة أسفار وهي:
1_ سفر التكوين: ويتحدث هذا السفر عن خلق العالم، وظهور الإنسان، وطوفان نوح، وولادة إبراهيم إلى موت يوسف _ عليهما الصلاة والسلام _.
2_ سفر الخروج: ويتحدث عن حياة بني إسرائيل في مصر، منذ أيام يعقوب إلى خروجهم إلى أرض كنعان مع موسى ويوشع بن نون _عليهما السلام_.
3_ سفر اللاويين: نسبة إلى لاوي بن يعقوب، وفي هذا السفر حديث عن الطهارة، والنجاسة، وتقديم الذبائح، والنذر، وتعظيم هارون وبنيه.
4_ سفر العدد: يحصي قبائل بني إسرائيل منذ يعقوب، وأفرادَهم، ومواشيهم.
5_ سفر التثنية: وفيه أحكام، وعبادات، وسياسة، واجتماع، واقتصاد، وثلاثة خطابات لموسى _ عليه السلام _.
__________
(1) _ انظر مقارنة بين القرآن والتوراة لمحمد الصوياني.(1/58)
هذه هي التوراة الموجودة اليوم، وكل عاقل منصف _فضلاً عن المسلم المؤمن_ يعلم براءة التوراة التي أنزلها الله على موسى _ عليه السلام _ مما هو موجود في التوراة اليوم، وذلك لأمور عديدة منها:
أ_ ما حصل للتوراة من الضياع والنسخ والتحريف والتدمير، فلقد حُرِّف فيها، وبُدِّل، وضاعت، وتعرضت لسبع تدميرات، منذ عهد سليمان _ عليه السلام _ (945) قبل الميلاد إلى أن حصل التدمير السابع عام 613م مما يدل على ضياعها، وانقطاع سندها.
ب_ ما تشتمل عليه من عقائد باطلة لا تَمُتُّ إلى ما جاء به المرسلون بأدنى صلة.
ج_ اشتمالها على تنقص الرب _ جل وعلا _ وتشبيهه بالمخلوقين، ومن ذلك قولهم: =إن الله تصارع مع يعقوب ليلة كاملة فصرعه يعقوب+.
ومن ذلك قولهم: =إن الله ندم على خلق البشر لما رأى من معاصيهم، وأنه بكى حتى رمد؛ فعادته الملائكة+.
تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
د_ اشتمالها على سب الأنبياء والطعن فيهم، وقد مر شيء من ذلك عند الحديث عن عقائد اليهود.
هـ _ اشتمالها على المغالطات، والمستحيلات، والمتناقضات.
و_ أن المعركة التي قامت بين التوراة وحقائق العلم الحديث أثبتت ما في التوراة من الأخطاء العلمية.
ومن تلك الكتب التي تكلمت على هذا الموضوع كتابا ن هما: (أصل الإنسان) و (التوراة والإنجيل والقرآن) لعالم فرنسي اسمه (موريس بوكاي) حيث أثبت وجود أخطاء علمية في التوراة والإنجيل، وأثبت في الوقت نفسه عدم تعارض القرآن مع العلم الحديث وحقائقه، بل سجل شهادات تَفَوُّقٍ سَبَقَ القرآنُ فيها العلمَ بألف وأربعمائة عام(1).
__________
(1) _ انظر التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (لموريس بوكاي) ترجمة الشيخ حسن خالد.(1/59)
اليهود هم اليهود في عقائدهم وأخلاقهم كما كانوا من قبل إلا أنهم في العصر الحاضر أجمعُ شملاً، وأقوى نفوذاً، وأكثر تنظيماً، وأحكم سيطرة على مقاليد العالم خاصة بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث انتهزوا الخواء الروحي والاقتصادي والسياسي الذي مُنِيَ به الغرب؛ فتمكنوا، وتحكموا في مقاليد الأمور هناك فكرياً واقتصادياً وسياسياً خاصة في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا.
ثم هم وراء ابتداع وترويج النظرية الماركسية _ الشيوعية _ ثم تطبيقها في روسيا القيصرية، ثم تصديرها إلى شرق أوربا وبعض دول ما يسمى بالعالم الثالث.
وكذلك قاموا بترويج النظريات الهدامة الأخرى في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع كنظرية التطور لدارون، ونظرية دور كايم الاجتماعية، ونظرية ميكافيلي السياسية التي ترى أن الغاية تسوغ الوسيلة.
ولعل أبرز عمل قاموا به في هذا العصر هو احتلالهم لفلسطين بناءاً على الوعد المشؤوم من بلفور عام 1335هـ حيث احتلوها سنة 1367هـ، وقامت بعدها اليوم بتوسيع رقعتها، وضم بعض الأراضي؛ سعياً في تحقيق الحلم بإقامة دولة إسرائيل الكبرى.
وخلال تلك الفترة إلى هذا اليوم قامت إسرائيل بمجازر رهيبة جماعية وفردية, كذلك قاموا باحتلال لبنان والجولان، وأفسدوا في البلدان التي أقاموا معها جسوراً وعلاقات؛ حيث نشروا الفساد والرذيلة؛ فانتشر بذلك الانحلال، والأمراض الفتاكة كالإيدز وغيرها, كذلك انتشرت المخدرات, وعمليات التجسس.
كما أنهم يحرصون على كل ما فيه هدم للقيم والأخلاق.
كما أنهم يحرصون على إقامة دولتهم، وعلى جمع اليهود في شتى بقاع العالم؛ حيث قاموا بنقل يهود الفلاشا، ويهود الاتحاد السوفيتي وغيرهم إلى فلسطين.
ولا يزالون يعيثون في الأرض فساداً، ويكررون اعتداءاتهم على الأقصى الشريف، ويذيقون أهل فلسطين ألواناً من العَسْف، والطغيان، والتسلط.
1-الأفعى اليهودية: عبدالله التل.
2-بروتوكولات حكماء صهيون.(1/60)
3-جذور البلاء: عبدالله التل.
4-حقيقة اليهود: سيد الرفاعي.
5-تفسير ابن كثير.
6-الرسل والرسالات: د. عمر الأشقر.
7-لسان العرب: ابن منظور.
8-محاضرات الشيخ محمد بن قاسم على طلاب كلية اللغة بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية.
9-المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم: د. محمد البار.
10-مقارنة بين التوراة والقرآن: محمد الصوياني.
11-الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة: د. ناصر العقل، د. ناصر القفاري.
12-الموسوعة الميسرة: الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
13-نهاية اليهود: أبو الفداء محمد عزت عارف.
14-يا مسلمون اليهود قادمون: د. محمد عبدالعزيز منصور.
15-اليهود تاريخ وعقيدة: د. كامل عسفان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه نبذة موجزة عن الصهيونية، وذلك من خلال المباحث التالية:
-تعريف الصهيونية، وسبب التسمية.
- تاريخ الصهيونية.
- أهداف الصهيونية.
- أفكار الصهاينة، ومعتقداتهم.
- أعمال الصهيونية.
- الصهاينة وفلسطين.
- وعد بلفور.
- خطط الصهاينة اليهود المستقبلية.
أولاً: تعريف الصهيونية: هي منظمة يهودية سياسية عنصرية تهدف إلى جمع اليهود في فلسطين، وإلى تنفيذ المخططات المرسومة لإعادة مجد بني إسرائيل، وبناء هيكل سليمان، ثم إقامة مملكة إسرائيل، ثم السيطرة على العالم من خلالها تحت مُلْك يهوذا المنتظر المزعوم.
ثانياً: سبب التسمية: سميت الصهيونية بذلك نسبة إلى جبل صهيون الذي يقع جنوب بيت المقدس، ويقدسه اليهود.(1/61)
تاريخ الصهيونية جزء من تاريخ اليهود، والصهيونية هي امتداد لما يقوم به اليهود منذ القدم، وللصهيونية جذور تاريخية، وسياسية منذ قيام حركة المكابين(1) التي أعقبت السبي البابلي.
ومرت بعد ذلك بمراحل كثيرة منذ تلك القرون، وذلك قبل ظهور المسيحية، وقبل ظهور الإسلام وبعده.
وكانت مهمتها في مراحلها الأولى تحريض اليهود على العودة إلى أرض فلسطين، وبناء هيكل سليمان، وتأسيس دولة إسرائيل الكبرى.
أما في العصر الحديث فقد بدأت نواتها الأولى عام 1806م حين اجتمع المجلس الأعلى لليهود بدعوة من نابليون لاستغلال أطماع اليهود، وتحريضهم على مساعدته.
والصهيونية الحديثة هي المنسوبة لـ (تيودور هرتزل) الصحفي اليهودي النمساوي 1860_1904م، وهدفها الأساسي الواضح قيادة اليهود إلى حكم العالم.
وقد بدأ اليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، وفي محاولتين لكنهم أخفقوا.
وبعد ذلك أقام هرتزل أول مؤتمر صهيوني عالمي في بال بسويسرا عام 1897م، ونجح في تجميع يهود العالم حوله، كما نجح في جمع دهاة اليهود الذين صدرت عنهم أخطر مقررات في تاريخ اليهود، وهي (بروتوكولات حكماء صهيون) المستمدة من تعاليم كتب اليهود المحرفة التي يقدسونها.
ومن ذلك الوقت بدأ حكماء اليهود يتحركون بدقة، ودهاء، وخفاء؛ لتحقيق أهدافهم التدميرية التي أصبحت نتائجها اليوم واضحة للعيان.
ومما هو معروف أنه بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بدأ هرتزل جولته في العمل؛ لاحتواء السلطان عبد الحميد عن طريق الترغيب ثم الترهيب.
__________
(1) _ لفظ: مكابي أو مقابي: معناه المعيَّن من قبل الرب يهوه، وهو لقب يهوذا ابن الكاهن ميتارس، ثم صار هذا اللقب علماً على الثورة التي قامت في حدود سنة 166 قبل الميلاد عندما دمر الهيكل الملك السلجوقي أنطوخيوس، ثم ثار عليه الكاهن ميتاس وأولاده. انظر المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم د. محمد البار ص105_107.(1/62)
وقد كان موقف السلطان عبد الحميد واضحاً صريحاً حيث قال: =بلِّغوا الدكتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئاً من المحاولة في هذا الأمر _التوطن بفلسطين_ فإني لست مستعداً لأن أتخلى عن شبر واحد في هذه البلاد ليذهب إلى الغير، فالبلاد ليست ملكي بل هي ملك شعب روَّى ترابها بدمائهم؛ فلتحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب+.
ثم بدأ الصهاينة من ذلك اليوم بمحاولة الإطاحة بعبد الحميد، وإزالة الخلافة الإسلامية، ثم تحقق لهم ما يريدون، وكان إسقاط عبدالحميد 1909م، والتمهيد لإلغاء الخلافة عام 1924م، وكان الذي بلغ السلطان قرار الخلع قُرَّه صُو عضو حزب الاتحاد والترقي اليهودي الأصلي.
وقبل ذلك تمكن اليهود من تأليب الدول الاستعمارية على الدولة العثمانية، وإثارة السموم، والدسائس حول السلطان، ورميه بمختلف الاتهامات.
ولم تكن الخلافة لتسقط لولا أن البدع قد انتشرت، وبدأت تدب في جسم الخلافة وتنخر فيه.
وبالرغم من ذلك كله فإن الخلافة كانت ترهب أعداء الله، وتضع هيبة ومنعة للمسلمين.
وكما نجح اليهود في بث الدعايات والأكاذيب على السلطان عبدالحميد، ووصفه بأنه سكير فاسق ظالم متوحش _ فإنها _ أيضاً _ نجحت في إضفاء جميع صور البطولة على اليهودي مصطفى كمال الذي مثل رأس الأفعى اليهودية، ونفَّذ لدغتها القاتلة التي أدت إلى هدم الخلافة الإسلامية، وتمزيق الوجود السياسي للمسلمين.
وقد كان هذا الخبيث يتظاهر بالتدين، ويصلي في مقدمة الجنود، ويتملق العلماء، وعموم المسلمين، وعندما تمكن نفذ خطته اللئيمة على النحو التالي:
1_ إلغاء الخلافة الإسلامية.
2_ فصل تركيا عن باقي أجزاء الدولة العثمانية؛ فحطم الدولة الإسلامية العظيمة.
3_ أعلن العلمانية الإلحادية.
4_ اضطهد العلماء أبشع اضطهاد، وقتل منهم العشرات، وعلقهم بأعواد الشجر.
5_ أغلق كثيراً من المساجد، وحرَّم الأذان، والصلاة باللغة العربية.(1/63)
6_ أجبر الشعب على تغيير الزي الإسلامي، ولبس الزي الأوروبي.
7_ ألغى الأوقاف، ومنع الصلاة في جامع (أيا صوفيا)، وحوله إلى متحف.
8_ ألغى المحاكم الشرعية، وفرض القوانين الوضعية المدنية السويسرية.
9_ فرض العطلة الأسبوعية يوم الأحد، بدلاً من يوم الجمعة.
10_ ألغى استعمال التقويم الهجري، ووضع مكانه التاريخ الميلادي.
11_ حرم تعدد الزوجات، والطلاق، وساوى بين الذكر والأنثى في الميراث.
12_ شجع الشباب والفتيات على الدعارة، والفجور، وأباح المنكرات، بل كان قدوة في انحطاط الخلق، والفساد، وإدمان الخمر.
13_ قضى على التعليم الإسلامي، ومنع مدارس القرآن الكريم، واستبدل اللاتينية بالعربية.
14_ فتح باب تركيا لعلماء اليهود.
هذه صورة عامة عن تاريخ الصهيونية.
من المعلوم أن الصهيونية حركة يهودية خالصة، أما أهدافها فهي أهداف سياسية دينية، وتلك الأهداف تتلخص فيما يلي:
1_ إثارة الحماس الديني لدى أفراد اليهود في جميع أنحاء العالم لعودتهم إلى أرض الميعاد المزعومة.
2_ هدم الأديان لإعلاء اليهودية التلمودية.
3_ حث سائر اليهود على التمسك بالتعاليم الدينية، والعبادات، والشعائر اليهودية، والالتزام بأحكام الشريعة اليهودية.
4_ إثارة الروح القتالية، والعصبية الدينية والقومية لدى اليهود؛ للتصدي للأديان، والأمم، والشعوب الأخرى.
5_ تزييف التاريخ للادعاء بوعد فلسطين.
6_ تدمير الإنسان عن طريق نظريات (فرويد) في الأخلاق، و(ماركس) في المال، و(دوركايم) في الاجتماع، و(سارتر) في أدب الانحلال والضياع.
7_ فرض المادية على الفكر البشري.
8_ محاولة تهويد فلسطين، وذلك بتشجيع الهجرة من سائر أقطار العالم إلى فلسطين.
9_ تدويل الكيان الإسرائيلي عالمياً، وذلك بانتزاع اعتراف أكثر دول العالم بوجود دولة إسرائيل في فلسطين.(1/64)
10_ متابعة وتنفيذ المخططات اليهودية العالمية السياسية، والاقتصادية خطوة خطوة، ووضع الوسائل الكفيلة بالتنفيذ السريع والدقيق لهذه المخططات، ثم التهيئة لها إعلامياً، وتمويلها اقتصادياً، ودعمها سياسياً.
11_ توحيد وتنظيم جهود اليهود في جميع أنحاء العالم أفراداً، أو جماعات ومؤسسات، وتحريك العملاء والمأجورين عند الحاجة لخدمة اليهود، وتحقيق مصالحهم ومخططاتهم.
12_ تطوير اللغة العبرية، والثقافة العبرية.
الصهيونية حركة يهودية تلتقي مع اليهود في العقيدة، وتستمد فكرها ومعتقداتها من الكتب المقدسة التي حرفها اليهود، وقد صاغت الصهيونية فكرها في (بروتوكولات حكماء صهيون).
ومن تلك المعتقدات والأفكار ما يلي:
1_ الصهيونية تعد جميع يهود العالم أعضاء في جنسية واحدة هي الجنسية الإسرائيلية.
2_ يهدفون إلى إقامة حكومتهم، وإلى سيطرة اليهود على جميع العالم كما وَعَدهم إلههم (يهوه).
3_ الإله الخاص باليهود اسمه (يَهْوه).
4_ إنكار البعث والجزاء، والجنة والنار.
5_ يرون أن أقوم السبل لحكم العالم هو إقامة الحكم على التخويف والعنف.
6_ يقولون: لابد من انحراف الأمميين في الرذائل بتدبيرنا عن طريق تهييئهم لذلك من أساتذة وخدم، وحاضنات وملاهي.
7_ يقولون: يجب أن نستخدم الرشوة، والخديعة، والخيانة ما دامت تحقق مآربنا.
8_ يقولون: يجب أن نعمل على بث الفزع الذي يضمن لنا الطاعة العمياء، ويكفي أن يشتهر عنا أننا أصحاب بأس شديد؛ ليذوب كل تمرد وعصيان.
9_ يقولون: ننادي بشعارات (الحرية _ المساواة _ الإخاء) لينخدع الناس بها، ويهتفوا لها، وينساقوا وراء ما نريد.
10_ يقولون: سنعمل على دفع الزعماء إلى قبضتنا، وسيكون تعيينهم واختيارهم حسب وفرة أنصبتهم من الأخلاق الدنيئة.
11_ يقولون: سنسيطر على الصحافة تلك القوة الفعالة التي توجه العالم نحو ما نريد.(1/65)
12_ يقولون: لابد أن نهدم دولة الإيمان من قلوب الشعوب، وننزع من عقولهم فكرة وجود الله، ونحل محلها قوانين رياضية مادية؛ لأن الشعب يحيا سعيداً هانئاً تحت رعاية دولة الإيمان، ولكي لا ندع للناس فرصة المراجعة يجب أن نشغلهم بشتى الوسائل، وبذلك لا يفطنون لعدوهم العام في الصراع العالمي.
13_ سنكثر من إشاعة المتناقضات، ونلهب الشهوات، ونؤجج العواطف.
14_ يقولون: نحن الذين وضعنا طريقة التصويت، ونظام الأغلبية المطلقة؛ ليصل الحكم كل من نريد بعد أن نكون قد هيأنا الرأي العام للتصويت عليهم.
15_ سنفكك الأسرة، وننفخ روح الذاتية في كل فرد.
16_ يقولون: الحكام أعجز من أن يعصوا أوامرنا؛ لأنهم يدركون أن السجن، أو الاختفاء من الوجود مصير المتمرد منهم.
17_ لا يصل إلى الحكم إلا أصحاب الصحائف السود غير المكشوفة، وهؤلاء سيكونون أمناء على تنفيذ أوامرنا؛ خشية الفضيحة والتشهير، كما نقوم بصنع الزعامات، وإضفاء العظمة والبطولة عليها.
18_ ستكون دور النشر بأيدينا، وكل دار تخالف فكرنا سنعمل على إغلاقها باسم القانون.
19_ سيكون لنا مجلات وصحف كثيرة مختلفة النزعات، والمبادئ، وكلها تخدم أهدافنا.
20_ لابد أن نشغل غيرنا بألوان خلابة من الملاهي، والألعاب، والمنتديات العامة، والفنون، والجنس، والمخدرات؛ لتلهيهم عن مخالفتنا، أو التعرض لمخططاتنا.
21_ سنكثر من المحافل الماسونية، وننشرها في كل وسط لتوسيع نطاق سيطرتنا.
22_ سنعمل على محو كل ما هو جماعي، وسنبدأ بمرحلة تغيير الجامعات، وسنعيد تأسيسها حسب مخططاتنا.
23_ عندما تصبح السلطة بأيدينا لن نسمح بوجود دين على الأرض غير ديننا.
هناك من يبالغ في قوة الصهيونية مبالغة كبيرة جداً، وهناك من يهون من شأنها، والحقيقة _كما قيل_: تضيع بين التهوين والتهويل.
ومن استقرأ الواقع تبين له أن اليهود يعيشون الآن فترة علوٍّ استثنائية.
وقد حققوا الكثير مما يصبون إليه، والواقع يشهد بذلك.(1/66)
ولم يكونوا ليحققوا ذلك إلا لأسباب عديدة منها:
1_ أخذهم بالأسباب.
2_ انغماس الناس في الشهوات،وركونهم للحياة الدنيا، وخصوصاً المسلمين.
3_ ترك فريضة الجهاد، وتعطيل السنن الربانية.
4_ أن هذا الاستعلاء الاستثنائي إنما هو استدراج وإملاء وإمهال من الله لهم، وهو في الوقت نفسه امتحان للمسلمين وعقوبة لهم.
5_ الخواء الروحي عند الغرب، والطغيان الكنسي.
6_ تخلي أمة الإسلام عن مهمتها في قوامة البشرية.
ومن هذا المنطلق حقق اليهود كثيراً من أهدافهم.
وهم عندما يضعون الخطط لا يستطيعون الجزم بتحقيقها، وغالباً ما يخفقون، إلا أنهم يضعون احتمالات كثيرة لكل عمل يعملونه.
وما نراه الآن في هذا العالم دليل واضح على أنهم نجحوا في تنفيذ مخططاتهم.
ومن خلال نظرة سريعة على الإعلام العالمي، والتعليم، والاقتصاد، والاجتماع، والرياضة، والفن يتبين لنا مدى نجاحهم.
ولعل أهم هدف سعوا من أجله واجتهدوا في الحصول عليه هو استيطانهم في فلسطين فما سبب حرصهم عليها؟ وكيف حصلوا عليها؟ وهل اكتفوا بها؟ وماذا يريدون بعد ذلك؟
هذا ما سيتبين في الفقرة الآتية.
أما سبب حرص الصهاينة على فلسطين فذلك راجع لاعتقادهم أنها أرض الميعاد التي سيعود إليها اليهود، ويجتمعون فيها، وذلك حسب ما جاء في كتبهم المحرفة، كذلك حرصوا على فلسطين لموقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يهدفون من ورائه إلى احتلال العالم.
ويؤيد ذلك ما صرح به (ناحوم غولدمان) قائلاً: =لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي بالنسبة إليهم، ولا لأن مياه البحر الميت تعطي سنوياً بسبب التبخر قيمة ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن، وأشباه المعادن، وليس _ أيضاً _ لأن مخزون فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأمريكتين مجتمعتين، بل لأن فلسطين نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم، ولأنها المركز الاستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم+.(1/67)
ومن هذا المنطلق جدَّ اليهود في الحصول عليها، وقد مر بنا موقف السلطان عبدالحميد من طلب اليهود، ومر بنا سعيهم في الإطاحة به ونجاحهم في ذلك.
ومنذ أن سقط السلطان عبد الحميد فتحت فلسطين أبوابها للهجرة اليهودية، وجرى المخطط في طريقه إلى غايته عن طريق هرتزل وحلفائه.
وتمت مؤامرة إنجليزية أخرى كانت الدعامة الأولى لإسرائيل، وهي التي منحت اليهود وعد بلفور عام 1917م، وهي التي هَجَّرت ثلاثمائة ألف يهودي ما بين عام1922_ 1939م.
وفي أغسطس عام 1923م تم تهجير اليهود الألمان لأرض فلسطين (أرض الميعاد) كما يزعمون، واليهود الألمان هم أخطر وأهم يهود الأرض، وهم الذين حركوا الصناعة اليهودية، وانبعثت على أيديهم الصناعة، وذلك بما سرقوه وتعلموه من الألمان، وهم أرقى وأعلم اليهود.
ولذا فهم في المناصب العسكرية، والبحوث العلمية، وقد حرص هرتزل على تهجيرهم.
يعد وعد بلفور _كما مر معنا_ الدعامة الأولى لإسرائيل؛ فما هو ذلك الوعد، وما أسبابه، وماذا يتضمن؟
وعد بلفور: هو ذلك الوعد الذي أصدرته الحكومة البريطانية بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وذلك في الثاني من نوفمبر عام1917م.
وقد تواتر أن الباعث الأعظم الذي حقق حلم الصهيونية هو ما رواه لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية الأسبق في مذكراته عن الدور الذي قام به وايزمان في خدمة بريطانيا إبان الحرب العظمى، وذلك عندما ساعد بريطانيا في استخراج مادة الأسيتون التي تستخدم في صنع الذخائر الحربية التي كانت تستخرج من خشب الأشجار، وكان استخراجها بكميات كافية يحتاج إلى مقادير هائلة من الخشب، وليس في إنجلترا غابات كثيرة تفي بهذه الحاجة، فكانت تستورد من أمريكا، والأسعار ارتفعت.(1/68)
وأخيراً اهتدى لويد _وكان يومئذ رئيس لجنة الذخائر_ إلى أستاذ بارع في الكيمياء وضع مواهبه تحت تصرف بريطانيا، وهو الدكتور وايزمان الذي أصبح بعد ذلك مشهوراً، وكان وايزمان مقتنعاً بأن أمل الصهيونية رهين بانتصار الحلفاء؛ فاستطاع بعد بضعة أسابيع أن يستخرج المادة المطلوبة الأسيتون من عناصر أخرى غير الخشب، مثل الحبوب والذرة على وجه الخصوص، وبذلك حل لبريطانيا أعوص مشكلة عانتها أثناء الحرب.
ورفض الدكتور وايزمان كل جزاء مقابل عمله بشرط أن تصنع بريطانيا شيئاً في سبيل الوطن القومي اليهودي.
ولما تولى لويد جورج رئاسة الوزارة خاطب بلفور بأن بريطانيا تريد أن تجتذب إلى صفها اليهود في الدول المجاورة، وكانوا ميالين إلى ألمانيا لسخطهم على روسيا، وكان لذلك أثره على وعد بلفور.
وبعبارة أخرى فإن بريطانيا رغبت في مكافأة إسرائيل على عملها، ومساعدتها لها في الحرب، ورغبت _ أيضاً _ في كسب اليهود، فكان ذلك الوعد المشؤوم عام1917م.
وكان الثمن إعطاء ما لا يملك شيئاً لمن لا يستحق شيئاً.
وبعد ذلك تتابعت الهجرة اليهودية من شتى أقطار العالم، وانصهرت في بوتقة اليهودية أكثر من سبعين جنسية من مصر، واليمن، والحبشة، والعراق، والهند، وأوربا، وروسيا، وأمريكا، وغيرها.
وفي عام 1948م ارتفع عدد اليهود من خمسين ألف مهاجر إلى ستمائة وخمسين ألفاً، ثم تتابعت الهجرات من كل أنحاء العالم.
وآخر ما حصل ذلك تهجير يهود الفلاشا من الحبشة، ومحاولات تهجير اليهود الروس، وصدق الله _ تعالى _:[فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً] (الإسراء: 104).
ولعل تلك الهجرات مصداق للآيات، والأحاديث التي أخبرت بذلك.(1/69)
وبرغم تلك العمليات التهجيرية، فإن هناك كثيراً من اليهود لم يستجب للعودة إلى فلسطين، وليس ذلك كرهاً لفلسطين، وإنما ذلك لخوفهم من الذبح في فلسطين، فهم يعلمون من كتبهم بأنهم سيذبحون بسيوف عباد الله، وأنهم في فلسطين سيدفنون بلا أحفاد.
ولهذا فإن كثيراً منهم هاجر من فلسطين بعد أن هاجر إليها.
وما هذا الوعد المشؤوم إلا سلسلة من التعاون بين اليهود والنصارى الذين يودون إبعاد المسلمين عن دينهم.
اليهود لم يكتفوا بفلسطين فقط، بل إنهم يسيرون ويعملون على تحقيق أطماعهم، وأحلامهم المستقبلية، وذلك بإقامة دولة إسرائيل الكبرى التي تسيطر على العالم.
وكما أنهم يسعون سعياً حثيثاً في سبيل رفع الحصار عنهم فهم يعملون على إزالة حاجز النفرة بينهم وبين المسلمين باسم السلام تارة، وباسم التطبيع أخرى.
وقد حدث شيء من ذلك، فقد حصل تطبيع بينها وبين بعض الدول العربية، فوجدوا بذلك الفرصة للإفساد والخراب، ونشر الرذيلة والفحشاء، كما حدث في مصر وغيرها، وهم لا يقتنعون بشيء، ولا يرضون حتى نتبعهم وندخل معهم في كل ما يريدون، وصدق الله إذ يقول:[وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120).
وقد استعملوا في ذلك شتى الطرق، واستعانوا بالنصارى وغيرهم، وجعلوهم حميراً يمتطونها؛ لتحقيق أغراضهم وأهدافهم.
1-حقيقة اليهود: سيد رفاعي.
2-العلمانية: د. سفر الحوالي.
3-المخططات التلمودية: أنور الجندي.
4-المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم: د. محمد البار.
5-معركتنا مع اليهود: سيد قطب.
6-الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة: د. ناصر العقل و د. ناصر القفاري.
7-الموسوعة الميسرة: الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
8-نهاية اليهود: د. أبو الفداء محمد عزت عارف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:(1/70)
فهذه صفحات يسيرة، تعطي صورة موجزة عن منظمة يهودية سرية ألا وهي (الماسونية).
والحديث عنها سيكون في المباحث التالية:
_ تعريف الماسونية.
_ صورة عامة عن تاريخ الماسونية.
_ العلاقة بين الماسونية والصهيونية.
_ طريقة دخول الماسونية.
_ شعار الماسونية.
_ أنواع الماسونية.
_ أهداف الماسونية قديماً وحديثاً.
_ وسائل الماسونية ومخططاتها.
_ أعمال الماسونية قديماً وحديثاً.
_ حكم الإسلام في الماسونية.
هذا ما تيسر جمعه وتقييده حول هذه المنظمة اليهودية الخطيرة، والله المستعان، وعليه التكلان.
الماسونية لغة: لفظ مشتق من كلمة (Mason)، ومعناها البنَّاء، ويضاف إليها كلمة (free) ومعناها حر، فتكون (freemason) أي البناؤون الأحرار.
وهم يرمزون بها إلى البنَّاء الذي سيبني هيكل سليمان، والذي يمثل بزعمهم رمز سيطرة اليهود على العالم.
الماسونية اصطلاحاً: لها تعريفات منها:
1_ أنها منظمة سرية يهودية إرهابية غامضة محكمة التنظيم، ترتدي قناعاً إنسانياً إصلاحياً، وتهدف من وراء ذلك إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم، وتدعو إلى الإلحاد والإباحية والفساد، وجلُّ أعضائها من الشخصيات المرموقة في العالم يوثِّقهم عهد بحفظ الأسرار، ويقومون بما يسمى بالمحافل؛ للتجمع، والتخطيط، والتكليف بالمهام.
2_ وعرفها بعضهم بأنها: أخطر تنظيم سري إرهابي يهودي متطرف، يحتوي على حُثالات البشر؛ من أجل السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية في كل أنحاء المعمورة.
...
الماسونية حركة يهودية، وتاريخها يدخل في تاريخ اليهود.
أما نشأتها فقد اختُلف فيها؛ فبعضهم يرى أنها قديمة النشأة، وبعضهم يرى أنها حديثة النشأة، ويرجح بعض الباحثين أن الماسونية يرجع تاريخ نشأتها إلى بداية القرن الأول الميلادي عندما كان (حاخامات) اليهود يتوقعون قرب ظهور نبي جديد، وكانت تتلخص مهمة هذه الجمعية في التخلص والقضاء على الدين الجديد، وهو دين عيسى _ عليه السلام _.(1/71)
يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري ×: =أسسوها بادئ الأمر ضد النصارى؛ لتعمل على تحريف إنجيلهم، وإفساد عقائدهم وأفكارهم، وتشتيت أمرهم بأنواع الخلاف.
وقد سلكوا شتى الأساليب الدقيقة؛ لتحقيق ذلك، فلما جاء الإسلام وسعوا دائرتهم؛ ليحيطوه بأشراكها+.
ويقال: إن الذي أسسها هو (هيردوس أكربيا) ت44م ملك الرومان بمساعدة مستشارَيه اليهوديين:
1_ حيرام أبيود: نائب الرئيس. ... 2_ موآب لالي: كاتم السر.
والماسونية منذ أيامها الأولى قامت على المكر، والتمويه، والإرهاب؛ حيث اختاروا رموزاً وأسماءاً وإشاراتٍ؛ للإيهام وسموا محفلهم هيكل أورشليم للإيهام بأنه هيكل سليمان.
والماسونية _كما مر_ حركة يهودية، وقد قال الحاخام لاكويز: =الماسونية يهودية في تاريخها، ودرجاتها، وتعاليمها، وفي إيضاحاتها، وكلمات السر فيها، فهي يهودية من البداية إلى النهاية+.
هذا وقد اتخذت الماسونية لنفسها مسمياتٍ عديدةً، فكانت في بدايتها تسمى بالقوة الخفية، ومنذ بضعة قرون تسمت بالماسونية؛ لتتخذ من نقابة البنائين الأحرار لافتة تعمل من خلالها، ثم التصق بهم هذا الاسم دون حقيقته.
تلك هي المرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية فتبدأ سنة 1770م عن طريق آدم وايز هاريت النصراني الذي ألحد، واستقطبته الماسونية؛ بهدف السيطرة على العالم، وانتهى المشروع عام 1776م ووضع أول محفل في هذه الفترة، وهو المحفل النوراني؛ نسبة إلى الشيطان الذي يقدسونه.
وبعد ذلك استطاعوا استقطاب وخداع كثير من رجالات الفكر والسياسة، وأسسوا بهم المحفل الرئيس المسمى بمحفل الشرق الأوسط، وفيه تم إخضاع هؤلاء الساسة لخدمة الماسونية.
وأعلنوا شعارات براقة تخفي حقيقتهم، فخدعوا كثيراً من المسلمين، وغيرهم.
الصهيونية قرينة الماسونية إلا أن الصهيونية يهودية بحتة في مظهرها، وأسلوبها، ومضمونها، وأشخاصها، في حين أن الماسونية يهودية مبطنة فهي الوجه المقنع لليهود؛ حيث تظهر شعارات إنسانية عامة.(1/72)
ولهذا قد ينضوي تحت لوائها غير اليهود من المخدوعين والنفعيين.
ثم إن الصهيونية حركة دينية سياسية تخدم اليهود بطريق مباشر؛ فهي الجهاز التنفيذي الشرعي والرسمي لليهودية العالمية.
في حين أن الماسونية حركة علمانية إلحادية سرية تخدم اليهود بطريق غير مباشر؛ فهي القوة الخفية التي تهيئ الظروف والأوضاع لليهود.
ويدل على ذلك ما جاء في النشرة اليهودية سنة 1861م حيث جاء فيها ما نصه: =إن روح الماسونية الأوربية هي روح اليهودية في معتقداتها الأساسية، لها نفس المثل واللغة وفي الأغلب نفسُ التنظيم.
والآمال التي تنير الماسونية وتدعمها هي الآمال التي تنير طريق إسرائيل وتدعمها+.
وجاء في النشرة اليهودية سنة 1901 م الصادرة في نيويورك: =إن الماسونية الأوروبية تشيد بناءها حيث يعيش إله إسرائيل إلى الأبد+.
وفي سنة 1928م قالت المجلة اليهودية في عدد يوليو: =إن أعظم واجب ماسوني للأوربي هو تمجيد الجنس اليهودي الذي حافظ على المستوى الكهنوتي للحكمة+.
ويقول الحاخام إسحاق وايز: =إن الماسونية مؤسسة يهودية وليس تاريخها، وشروطها، ورجالتها، وتعاليمها وكلمات السر فيها إلا أفكاراً يهودية من البداية إلى النهاية+.
وتقول دائرة المعارف الماسونية الصادرة في فيلاديلفيا بأمريكا 1906م: =يجب أن يكون كل محفل رمزاً لهيكل اليهود وهو بالفعل كذلك، وأن يكون كل أستاذ على كرسيه ممثلاً لملك اليهود، وكل ماسوني تجسيداً للعامل اليهودي+.
وهكذا يتبين لنا أن الماسونية والصهيونية وجهان لعملة واحدة إلا أن أحد هذين الوجهين باطن وهو الماسونية، والآخر ظاهر وهو الصهيونية.(1/73)
إذا أراد أحد المخدوعين دخول الماسونية فإن ذلك يتم في جوٍّ مرعب مخيف وغريب، حيث يقاد إلى الرئيس معصوب العينين ثم يؤدي القسمَ، والقسمُ صيغٌ منها: =أقسم بمهندس الكون الأعظم في حضرة هذا المحفل الموقر، وأتعهد أمام الحاضرين أن أصون وأكتم الأسرار الماسونية التي تباح لي، ولا أطبعها، ولا أدل عليها، وأن أمنع بكل قدراتي من يريد أن يفعل ذلك؛ كي لا تنكشف أسرارنا لغير أبناء عشيرتنا+.
أو يقول: =أقسم بشرفي بلا مواربة أن أحافظ على قسمي هذا، وأتودد إلى إخوتي، وأعضاء محفلي، وأساعدهم، وأعاونهم على احتياجاتهم، وأواظب على الحضور في جلسات المحفل بقدر استطاعتي، وأن أحافظ على طاعة قانون المحفل الأكبر، وإن حنثت في يميني أكن مستحقاً قطع عنقي، واستئصال لساني، وإلقاء جثتي لطيور السماء، ولحيتان البحر.
وإني لأرضى بأن تعلق جثتي في محفل ماسوني؛ لأضَحى عبرة للداخلين من بعدي، ثم تحرق، ويذر رمادها في الهواء+.
وبعد أداء القسم، وما إن يفتح عينيه حتى يفاجئ بسيوف مسلولة حول عنقه، وبين يديه كتاب العهد القديم، ومن حوله غرفة شبه مظلمة فيها جماجم بشرية، وأدوات هندسية مصنوعة من الخشب، ويحصل له أشياء مفزعة في تلك الأثناء، ويحصل له أنواع من الإذلال، وربما التقطت له صور وهو في أوضاع مزرية حتى تكون ورقة بأيديهم يهددونه بها.
وكل ما يجرى في تلك الأثناء إنما هو من باب بث المهابة في نفس العضو الجديد.
وعلى المنضمين للمحافل أن يستلهموا الأفكار والتعليمات الماسونية وإلا فهم مهددون بالاغتيال والسحق.
وللماسونية أساليب إجرامية في القضاء على من يحاول كشف أسرارها، أو التمرد على تعاليمها مهما كانت منزلته.(1/74)
ولكن الذي ينبغي الإشارة إليه أن كيدهم يخيب في كثير من الأحيان، إذ إن كثيراً من الذين انتسبوا إليها تركوها بعد ما تبينت لهم الحقيقة، ومن ثم قاموا بكشف زيفها وعوارها، ولم يضرهم شيء و[إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ](آل عمران:175)، [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً](الطلاق:2).
أما من خافهم، وأسلم قياده لهم، ورضي بولاية الشيطان بدلاً من ولاية الرحمن فلا يلومن إلا نفسه، وليعلم أنه سيكون عبداً ذليلاً لهذه الشرذمة و[بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً] (الكهف:50).
كما مر _ قبل قليل _ أن الماسونية حركة يهودية تقوم على خدمة اليهود، ولكنها تقوم بهذا الدور بشكل مبطن ومُقَنَّع.
وإمعاناً من الماسونية في إخفاء أهدافها اليهودية فإنها تُظهر شعاراً براقاً خداعاً وهو (الحرية، والإخاء، والمساواة).
وتحت شعار الحرية: تحارب الأديان _ غير اليهودية _ وتنشر الفساد والفوضى.
وتحت شعار الإخاء: تحاول التخفيف من كراهية الشعوب الأخرى لليهود.
وتحت شعار المساواة: تنشر الفوضى الاقتصادية، والسياسية، وتحرض على اغتصاب حقوق الناس، وأموالهم، وأعراضهم، وتروج للشيوعية والاشتراكية.
تنوعت الماسونية حسب أهدافها التي رسمها اليهود إلى ثلاثة أنواع:
أولاً: الماسونية الرمزية العامة: وهي ثلاث وثلاثون درجة، وهذا يعني أن العضو الماسوني يبدأ من الدرجة الأولى حتى الثالثة والثلاثين، ويصل إليها بعد امتحانات، ومراسم دقيقة ورهيبة.
فإذا وصل إلى هذه الدرجة سمي بالأستاذ الأعظم.
وهذه الماسونية تتظاهر بأنها جمعية خيرية تدعو إلى الإخاء.
وسميت بالرمزية؛ لأن جميع خطواتها تتم بالرموز.
وسميت بالعامة؛ لأن أبوابها مفتوحة للجميع على اختلاف أجناسهم، وشعوبهم، ودياناتهم.
وشعار الماسونيةِ العامةِ الحَيَّةُ الرمزيةُ المثلثةُ الرؤوس.(1/75)
وهذه الفرقة تسعى إلى ضم رؤساء الدول، والوزارات، وكبار الشخصيات التي بيدها الحل والربط في كل بلد؛ حتى تضمن حمايتهم لها، وتسهيل مآربهم، وحمايتها لهم عند الضرورة إذا كشف أمرهم.
ثانياً: الماسونية الملوكية: وهي امتداد للماسونية الأولى _الرمزية_ إلا أنها تؤكد ولاءها لليهود والتوراة، وتهدف إلى العمل لقيام دولة إسرائيل، وبناء هيكل سليمان في القدس، وتعمل في أوساط اليهود الخلَّص.
وهذه الفرقة تُطْلِق على الماسونيين الكبار لقب الرفيق؛ فنرى هذا اللقب يُمنح لأقطاب الشيوعية وغيرهم، فيقال: الرفيق لينين، الرفيق ستالين، الرفيق تروتسكي، الرفيق خروتشوف، وغيرهم.
ثالثاً: الماسونية الكونية الحمراء: وهي خاصة بكبار اليهود، ومحصورة في محفل واحد لا غير، مكون من 12 عضواً، وهؤلاء جميعهم منتخبون من كبار حاخامات اليهود، وأحبارهم، وكهنتهم، وزعمائهم، وأثريائهم، وهم الذين صاغوا (بروتوكولات حكماء صهيون).
وتلك الماسونية تهدف إلى قيام الشيوعية الإلحادية، وإثارة الفوضى والاضطرابات في العالم؛ تمهيداً لقيام مملكة (إسرائيل العظمى).
وكل زعماء الصهيونية من الماسونية الكونية كـ: هرتزل.
...
1_ القضاء على جميع الأديان _ غير اليهودية _ ولعل سبب نشأتها في القرن الأول الميلادي هو القضاء على الدين النصراني، وقد عملوا الشيء الكثير في سبيل ذلك، وكذلك ما فعلوا في محاربة الإسلام، وليس أدل على ذلك مما قام به ابن سبأ اليهودي.
2_ تكوين جمهوريات عالمية لا دينية تحت تَحَكُّم اليهود؛ ليسهل تقويضها عندما يحين موعد قيام (إسرائيل الكبرى).
3_ جعل الماسونية سيدة الأحزاب.
4_ العمل على إسقاط الحكومات الشرعية.
5_ القضاء على الأخلاق والمثل العليا.
6_ نشر الإباحية، والفساد، والانحلال، واستعمال المرأة كوسيلة للسيطرة.
7_ هدم البشرية.
8_ العمل على تقسيم البشرية إلى أمم متنابذة تتصارع بشكل دائم.(1/76)
9_ العمل على السيطرة على رؤساء الدول؛ لضمان تنفيذ أهدافهم.
10_ السيطرة على الإعلام.
11_ نشر الإشاعات، والأراجيف الكاذبة؛ حتى تصبح وكأنها حقائق؛ للتلاعب بعقول الجماهير، وطمس الحقائق.
12_ دعوة الشباب والشابات للانغماس في الرذيلة.
13_ الدعوة إلى العقم وتحديد النسل لدى المسلمين.
14_ السيطرة على المنظمات الدولية بترؤسها من قبل أحد الماسونيين كمنظمة الأمم المتحدة،وقد ذكر الشيخ عبدالرحمن الدوسري × أسماء أربعة وسبعين من أسماء موظفي الأمم المتحدة على اختلاف مناصبهم كلهم من الماسونية.
15_ إقامة دولة إسرائيل (مملكة إسرائيل العظمى) وتتويج ملك اليهود في القدس يكون من نسل داود، ثم التحكم في العالم، وتسخيره لما يسمونه (شعب الله المختار) اليهود؛ فهذا هو الهدف الرئيس والنهائي.
الماسونية سعت سعياً حثيثاً في سبيل تحقيق أهدافها، وسلكت في سبيل ذلك طرائق شتى، ومن تلك الوسائل التي أعلنتها الماسونية في محافلها ومؤتمراتها ما يلي:
1_ تجنيد الشباب في كل العالم لخدمة مصالح اليهود، وذلك بتوفير أسباب اللهو والفساد والعبث من خلال نشاط الجمعيات الرياضية، والموسيقية، واستغلال وسائل النشر والإعلام، وبث المخدرات، وبيوت الدعارة، كل ذلك فعلته الماسونية؛ لشغل الشباب عن الجد والحزم.
2_ استغلال المرأة، والعمل على نشر الدعاوى البراقة التي تدعوا إلى انحلالها وسفورها وذلك من خلال إطلاق بعض الشعارات مثل:
أ_ تحرير المرأة. ... ب _ عمل المرأة. ... ج _ مساواة المرأة بالرجل.
د_ المرأة نصف الرجل. ... هـ _ المرأة العاملة خير من المرأة غير العاملة.
و_ مساهمة المرأة في الاقتصاد الوطني. ... ز_ المرأة والفن البريء.
ح _ المرأة والعقل المعطل. ... ط _ أين الأيدي الناعمة؟
3_ الدخول في الأحزاب؛ لتسيير الأحزاب حسب المصالح اليهودية، أو لتضمن عدم مقاومتها لليهود، أو اعتراض مصالحهم.(1/77)
4_ تأسيس وتشجيع النظريات، والاتجاهات، والجمعيات، التي تنادي بالحرية؛ لأنها أسرع وسيلة لنشر الفوضى الخلقية وتقويض البناء الأسري والعائلي للأمم، كنظرية فرويد، وسارتر، ودور كايم.
5_ استعمال الرشوة بالمال والجنس خصوصاً مع ذوي المناصب المهمة؛ لضمهم لخدمة الماسونية، والغاية عندهم تسوغ الوسيلة.
6_ تشجيع النظريات التي تساعد على تقويض الاقتصاد العالمي سواء كانت رأسمالية ربوية، أو اشتراكية شيوعية.
7_ اجتذاب أكبر عدد ممكن من الأتباع للانتماء للمحافل والوقوع في شباكها خاصة أولئك النفعيين الذين يحبون الكراسي والتسلطَ، وتكثيفُ العمل في أوساط المفكرين والأدباء من ذوي الميول الفوضوية، والتأثير على أصحاب النفوذ في المجتمعات كالساسة، والوزراء، والتجار، ورجال الصحافة والفن.
8_ إحاطة الشخص الذي يقع في حبائلهم بالأشراك من كل جانب؛ لإحكام السيطرة عليه وتسييره لمآربهم، وهو ينفذ صاغراً ما يريدون.
9_ يشترطون على الشخص الذي يريد الانضمام إليهم أن يتجرد من كل رابط ديني، أو خلقي، أو وطني، ويجعل ولاءه للماسونية فحسب.
10_ إذا تململ شخص، أو عارض في شيء دبرت له فضيحة كبرى، وقد يكون مصيره القتل.
11_ التخلص من كل شخص استفادوا منه، ولم تعد لهم به حاجة.
مر معنا شيء من أهداف الماسونية، ووسائلها، ومخططاتها في تنفيذ تلك الأهداف.
والماسونية لا تستطيع أن تحقق كل ما تصبو إليه، والتهويل من شأنها مغالاة في تضخيم شرذمة حقيرة.
كما أن التهوين من أمرها يؤدي إلى تجاهلها، وعدم إعطائها شيئاً من الاهتمام، وبالتالي تنفذ ما تريد دون شعور بها من أحد.
ومهما يكن من شيء فالماسونية نجحت في تحقيق كثير من الأهداف.
وفيما يلي من أسطر بيان لبعض ما حققته الماسونية في القديم والحديث:
1_ تحريف الكتب المقدسة، والعبث بتفريق الأديان والجماعات، والعمل على إضرام نار الحروب والعداوة بين الأمم.
2_ عمل مؤامرة لقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ÷.(1/78)
3_ اختلاق الأكاذيب على الخليفة الثالث عثمان ÷ وعمَّاله.
4_ تشويه التاريخ الإسلامي عن طريق كثير من مؤرخيهم وكتَّابهم كجورجي زيدان وغيره.
5_ نشر وتأسيس الفرق الضالة، إما ابتداءاً أو تدخلاً ومساعدة، ومن تلك الفرق في القديم الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، وغيرهم إلى القرامطة، والرافضة، وسائر فرق الباطنية.
6_ أكاذيبهم على الأمويين، والتعاون مع الأعاجم على الإطاحة بهم؛ حتى يتسنى لهم ترويج المذاهب الهدامة.
7_ قيامهم بالثورة الفرنسية.
8_ نشر الإباحية الجنسية، وذلك عن طريق دور السينما، والصحف، والمجلات، ومختلف وسائل الإعلام.
9_ نشر الأدب المتهتك السافر المستهتر بكل القيم والثوابت كأدب الحداثة وغيره.
10_ إنشاء الأندية التابعة لها كأندية الروتاري، وبناي برث، والليونز.
11_ إشغال الأمم بالرياضة والفن حتى ماتت همم كثير من الشعوب، وتبلدت أحاسيسهم، ولم تعد تعرف ما يضرها مما ينفعها.
12_ إثارة الدعاوى الباطلة الهدامة كدعوى تحرير المرأة والسفور وغير ذلك من الدعاوى، التي روجت لها الماسونية وآثارها لا تخفى على ذي بصيرة.
13_ بلبلة الأفكار، وتشكيك الناس في عقائدهم.
14_ تعطيل الحكم بما أنزل الله، وإحلال القوانين الوضعية في كثير من بلاد العالم الإسلامي.
15_ الإطاحة بالخليفة العثماني السلطان عبدالحميد، وإسقاط الخلافة الإسلامية على أيدي يهود الدونمة.
16_ نشر الربا.
17_ نشر الجريمة، وتفشي الأمراض المستعصية كالإيدز وغيره وكل ذلك بسبب الإباحية والفوضى التي ورائها أصابع الماسونية.
وفي الجملة فالماسونية وراء عدد من الويلات التي أصابت الأمة الإسلامية كما كانت وراء الثورة الفرنسية _ كما مر _ والثورة البلشفية الروسية، وهي كما قال أحد المؤرخين: =آلة صيد بيد اليهود ويصرعون بها الساسة، ويخدعون عن طريقها الشعوب والأمم الجاهلة+.(1/79)
صدرت العديد من الفتاوى تبين حكم الإسلام في الماسونية ومن تلك الفتاوى فتوى المجمع الفقهي الذي عقد في مكة المكرمة في العاشر عام 1398 هـ برئاسة سماحة الشيخ عبدالله بن حميد × وعضوية عدد من العلماء وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
وبعد أن استعرض أعضاء المجمع ما كتب وما نشر عن الماسونية من قديم وحديث ودونوا ما تبين لهم قرروا أن الماسونية أخطر المنظمات الهدامة على الإسلام والمسلمين، وأن من ينتسب إليها وهو على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام مجانب لأهله.
وإليك نصَّ الفتوى:
=الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
نظر المجمع الفقهي بدورته الأولى المنعقدة في مكة المكرمة في العاشر من شعبان 1398هـ الموافق 15/7/1978م في قضية الماسونية، والمنتسبين إليها، وحكم الشريعة الإسلامية في ذلك.
وقد قام أعضاء المجمع بدراسة وافية عن هذه المنظمة الخطيرة، وطالع ما كتب عنها من قديم وجديد، وما نشر من وثائقها نفسها فيما كتبه أو نشره أعضاؤها، وبعض أقطابها، من مؤلفات، ومقالات، في المجالات التي تنطق باسمها.
وقد تبين للمجمع بصورة لا تقبل الريب من مجموع ما اطلع عليه من كتابات ونصوص ما يلي:
1_ أن الماسونية منظمة سرية تخفي تنظيمها تارة، وتعلنه تارة بحسب ظروف الزمان والمكان.
ولكن مبادءها الحقيقية التي تقوم عليها هي سرية في جميع الأحوال، محجوب علمها حتى على أعضائها الخواص الذين يصلون بالتجارب العديدة إلى مراتب فيها.
2_ أنها تبني صلة أعضائها بعضهم ببعض في جميع بقاع الأرض على أساس ظاهري؛ للتمويه على المغفلين، وهو الإخاء الإنساني المزعوم بين جميع الداخلين في تنظيمها دون تمييز بين مختلف العقائد والنحل والمذاهب.(1/80)
3_ أنها تجذب الأشخاص إليها ممن يَهُمُّها ضمهم إلى تنظيمها بطريق الإغراء بالمنفعة الشخصية على أساس أن كل أخ ماسوني مُجَّندٌ في عون كل أخ ماسوني آخر في كل بقعة من بقاع الأرض، يعينه في حاجاته، وأهدافه، ومشكلاته، ويؤيده في الأهداف إذا كان من ذوي الطموح السياسي، ويعينه إذا وقع في مأزق من المآزق أياً كان على أساس معاونته في الحق والباطل ظالماً أو مظلوماً، وإن كانت تستر ذلك ظاهرياً بأنها تعينه على الحق لا الباطل.
وهذا أعظم إغراء تصطاد به الناس من مختلف المراكز الاجتماعية، وتأخذ منهم اشتراكات مالية ذات بال.
4_ أن الدخول فيها يقوم على أساس احتفال بانتساب عضو جديد تحت مراسم وأشكال رمزية إرهابية؛ لإرهاب العضو إذا خالف تعليماتها، والأوامر التي تصدر إليه بطريق التسلسل بالرتبة.
5_ أن الأعضاء المغفلين يُتركون أحراراً في ممارسة عباداتهم الدينية، وتستفيد من توجيههم، وتكليفهم في الحدود التي يصلحون لها، ويبقون في مراتب دنيا، أما الملاحدة، أو المستعدون للإلحاد فترتقي مراتبهم تدريجياً في ضوء التجارب والامتحانات المتكررة للعضو على حسب استعدادهم لخدمة مخططاتها، ومبادئها الخطيرة.
6_ أنها ذات أهداف سياسية، ولها في معظم الانقلابات السياسية والعسكرية والتغيرات الخطيرة ضلع، وأصابع ظاهرة أو خفية.
7_ أنها في أصلها وأساس تنظيمها يهودية الجذور، ويهودية الإدارة العليا العالمية السرية، وصهيونية النشاط.
8_ أنها في أهدافها الحقيقية السرية ضد الأديان جميعاً؛ لتهديمها بصورة عامة، وتهديم الإسلام في نفوس أبنائه بصورة خاصة.
9_ أنها تحرص على اختيار المنتسبين إليها من ذوي المكانة المالية، أو السياسية، أو الاجتماعية، أو العلمية، أو أية مكانة يمكن أن تستغل نفوذاً لأصحابها في مجتمعاتهم، ولا يهمها انتساب من ليس لهم مكانة يمكن استغلالها؛ ولذلك تحرص كل الحرص على ضم الملوك والرؤساء والوزراء وكبار موظفي الدولة ونحوهم.(1/81)
10_ أنها ذات فروع تأخذ أسماء أخرى تمويهاً وتحويلاً للأنظار؛ لكي تستطيع ممارسة نشاطاتها تحت مختلف الأسماء إذا لقيت مقاومة لاسم الماسونية في محيط ما, وتلك الفروع المستوردة بأسماء مختلفة من أبرزها منظمة الأسُود، والروتاري، والليونز إلى غير ذلك من المبادئ والنشاطات الخبيثة التي تتنافى كلياً مع قواعد الإسلام، وتناقضه مناقضة كلية.
وقد تبين للمجمع بصورة واضحة العلاقة الوثيقة للماسونية باليهودية الصهيونية العالمية، وبذلك استطاعت أن تسيطر على نشاطات كثير من المسؤولين في البلاد العربية وغيرها في موضوع قضية فلسطين، وتحول بينهم وبين كثير من واجباتهم في هذه القضية المصيرية العظمى لمصلحة اليهود والصهيونية العالمية.
لذلك، ولكثير من المعلومات الأخرى التفصيلية عن نشاط الماسونية، وخطورتها العظمى، وتلبيساتها الخبيثة، وأهدافها الماكرة _ يقرر المجمع الفقهي اعتبار الماسونية من أخطر المنظمات الهدامة على الإسلام والمسلمين، وأن من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام مجانب لأهله، والله ولي التوفيق+.
1_ الأجوبة المفيدة في مهمات العقيدة: الشيخ عبدالرحمن الدوسري.
2_ الماسونية أقدم الجمعيات السرية، وأخطرها.
3_ الماسونية ذلك العالم المجهول: د. صابر طعيمة.
4_ الماسونية ذلك المحفل الشيطاني: أحمد الحصين.
5_ الماسونية في الميزان: د.سعود الصقري.
6_ المخططات التلمودية: أنور الجندي.
7_ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة: د.ناصر العقل، د.ناصر القفاري.
8_ نهاية اليهود: أبو الفداء محمد عزت عارف.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه نبذة موجزة عن النصرانية، وذلك من خلال المباحث التالية:
تعريف النصرانية، وسبب تسميتها.
نبذة تاريخية عن النصارى.
موقف النصارى من عيسى _ عليه السلام _.
النصارى بعد رفع المسيح _ عليه السلام _.(1/82)
عقيدة المسلمين في عيسى _ عليه السلام _.
نماذج من انحرافات النصارى العقدية.
نماذج من انحرافاتهم في القرآن والسنة وتحذير المسلمين من ذلك.
فرق النصارى.
كتب النصارى.
مواطن انتشار النصرانية.
علاقة النصارى باليهود وعداؤهم للإسلام.
عداوة النصارى للمسلمين وموقفهم منهم.
أولاً: تعريف النصرانية: النصرانية مصطلح حادث أطلق على الديانة المحرفة عما جاء بها عيسى _ عليه السلام _.
ومن خلال هذا التحريف يتضح لنا خطأ من يعرف النصرانية بأنها الدين الذي جاء به عيسى _ عليه السلام _.
فالدين الذي جاء به عيسى هو الإسلام والتوحيد, فالإسلام دين جميع الأنبياء قال _تعالى_: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ](آل عمران: 19).
وقال _تعالى_: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ](آل عمران:67).
فلو كانت النصرانية هي الدين الحق ما برَّأ الله نبيه إبراهيم _ عليه السلام _ منها.
ومما يدل على أن عيسى _ عليه السلام _ جاء بالإسلام قوله _تعالى_ عن الحواريين: [قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران:52).
ثانياً: سبب التسمية: سميت النصرانية بهذا الاسم أخذاً من كلمة النصارى الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
وقد اختلف في سبب تسميتهم على أقوال منها:
1_ أنهم سموا بذلك؛ لتناصرهم فيما بينهم.
2_ لأنهم نصروا عيسى _ عليه السلام _ لما قال _ كما أخبر الله عنه _ [مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ] (آل عمران: 52).
3_ لأنهم سكنوا مدينة ناصرة ثم أطلقت كلمة النصارى عليهم كلهم على وجه التغليب.
هذا وقد سماهم القرآن الكريم نصارى على سبيل الذم، وهم يهربون من هذه التسمية، ويسمون أنفسهم مسيحيين؛ نسبة إلى المسيح _ عليه السلام _ وهو منهم براء.(1/83)
أما الذين اتبعوه، وآمنوا ببشارته بمحمد _ عليه الصلاة والسلام _ فهم مسلمون، ويؤتون أجرهم مرتين.
أما من كفر بمحمد فقد كفر بعيسى وبجميع الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _.
أرسل الله _ سبحانه وتعالى _ رسله تترا إلى بني إسرائيل يدعونهم إلى الهدى، ويقومون اعوجاجهم، ويصلحون ما انحرف من عقائدهم، وأخلاقهم.
وآخر من أرسل إليهم من الرسل عيسى بن مريم _ عليه السلام _ ورسالته التي أرسل بها إنما هي امتداد لرسالة موسى _ عليه السلام _ وتجديد لها، وتصحيح لما دخلها من التحريف، وفيها تحليل لما حرم على اليهود من بعض الطيبات.
ودعوته _ عليه السلام _ كانت إلى التوحيد الخالص، والأخلاق القويمة.
والكتاب الذي أنزل إليه هو الإنجيل.
وإننا _معشر المسلمين_ لا نعرف مصدراً صحيحاً جديراً بالاعتماد والثقة من المسلم غير القرآن الكريم، والحديث الشريف.
وينص القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح هي التوحيد الكامل: التوحيد بكل شعبه.
التوحيد في العبادة فلا يعبد إلا الله، والتوحيد في التكوين؛ فخالق السموات والأرض وما بينهما هو الله(1).
والتوحيد في الأسماء والصفات فله الأسماء الحسنى، وله الوصف الكامل؛ فالقرآن الكريم يثبت أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد الكامل.
__________
(1) _ محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة ص12.(1/84)
وهذا ما أخبر به _ عز وجل _ حيث قال مبيناً ما يكون من عيسى _ عليه السلام _ عندما يجيب ربه إذا سأله وهو _ عز وجل _ أعلم، قال _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)] (المائدة).
فهذا نص يفيد بصريحه أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد(1).
إذاً هذه حقيقة عيسى _ عليه السلام _ التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية.
أما عن حقيقة صاحب الدعوى عيسى _ عليه السلام _ وأمه, فقد بيَّنها الله _سبحانه وتعالى _ في القرآن غاية البيان, قال ابن كثير ×: =قال الله _تعالى_ في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى _عليهم لعائن الله_ الذين زعموا أن لله ولداً _ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً _.
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله "فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم، ويدَّعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة، وعيسى، ومريم.
__________
(1) _ انظر المرجع السابق.(1/85)
وهم على اختلاف فرقهم, فأنزل الله صدر هذه السورة بيَّن فيها أن عيسى عبدٌ من عباد الله خلقه، وصوَّره في رحم كما صور غيره من المخلوقات، وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وقال له: كن فكان _ سبحانه وتعالى _ وبيَّن أصل ميلاد أمه مريم، وكيف كان من أمرها، وكيف حملت بولدها عيسى, وكذلك بُسط ذلك في سورة مريم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته+(1).
ثم شرع × بإيراد الآيات والآثار التي وردت في هذا السياق, بداية من قصة ميلاد مريم كما في قوله _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] (آل عمران: 33) إلى أن بين حياتها، وحملها بعيسى، ووضعها له، وما أظهره الله على يديه من المعجزات؛ فهذه _إذاً_ حقيقة عيسى _ عليه السلام _ وأمه وسيمر بنا _إن شاء الله تعالى_ شيء من ذلك عند الكلام عن عقيدة المسلمين في عيسى _ عليه السلام _.
لقد بعث الله عيسى _ عليه السلام _ بالبينات، وأيده بالمعجزات التي أظهرها الله على يديه، وكان جديراً بقومه أن يؤمنوا به ويصدقوه ويتبعوه، ولكن القوم الذين بعث فيهم كانوا غلاظ الرقاب، قساة القلوب, فكانت مهمته شاقة إذ حاول هدايتهم.
فاليهود قوم عكفوا على المادة، واستغرقتهم، واستولت على أهدافهم ومشاعرهم، حتى لقد كان نساكهم وسدنةُ الهياكل عندهم _ وقد فاتهم العمل على كسب المال من أبوابه الدنيوية _ يجمعون المال من نذور الهياكل، والقرابين التي يتقرب بها الناس.
ولقد كانوا يجعلون لأحبارهم، وعلماء الدين فيهم المنزلة السامية، والمكانة العالية دون الناس؛ فجاء المسيح وجعل الناس جميعاً سواءاً أمام ملكوت الله(2).
__________
(1) _ قصص الأنبياء ابن كثير ص518.
(2) _ انظر محاضرات في النصرانية ص22_23.(1/86)
فما كان من اليهود تجاه هذه الدعوة إلا أن وقفوا ضدها، وناصبوا صاحبها العداء، ولم يؤمن منهم إلا القليل, كما قال _تعالى_ عنهم:[فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 52).
وقال _تعالى_: [كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14).
فالذين آمنوا برسالته هم المؤمنون المسلمون, والذين كذبوا وكفروا به هم الكفار, ثم إن الذين كفروا به على فريقين: فريق غلا فيه، وقال: إنه إله، وابن إله؛ فعبدوه من دون الله, وفريق رموه وأمه بالبهتان والزور، وكذبوا برسالته، ووشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان، وهموا بقتله إلا أن الله خلَّصه ورفعه إليه، وألقى شَبَهَه على أحد أصحابه، وقيل: إنه يهوذا الأسخريوطي الذي درس عليه.
وقد اختلفوا في المسيح، وفي رفعه فمنهم من قال: إنه صلب, ومنهم من قال: إنه رفع, ومنهم من قال: غير ذلك.
وقد بين الله حقيقة ذلك في القرآن الكريم فقال _عز وجل_:[وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ] (النساء: 157).
مر بنا أن عيسى بن مريم _ عليه السلام _ أتى بدين التوحيد وقد دعا إليه، فآمن به من آمن, ولما رفعه الله إليه بقي عدد من أتباعه وأنصاره على الحق مدة يسيرة إلا أنهم لقوا من اليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى _ عليه السلام _ أذىً كثيراً؛ حيث طاردوهم، وقتلوهم، ووشوا بهم عند السلاطين.(1/87)
يقول الشيخ محمد أبو زهرة ×: =اتفقت المصادر شرقية وغربية، دينية وغير دينية على أن المسيحيين نزل بهم بعد المسيح بلايا وكوارث جعلتهم يَسْتَخْفُون بديانتهم، ويفرون بها أحياناً، ويصمدون للمضطهدين مستشهدين أحياناً أخرى, وهم في كلتا الحالتين لا شوكة لهم، ولا قوة تحميهم وتحمي ديانتهم وكتبهم+(1).
ويقول _ أيضاً _: =وأشد ما نزل من أذى كان في عهد نيرون سنة 64م وترجان سنة106م ودبيون سنة 49م+(2).
وفي تلك الفترة كتبت أناجيلهم وهي عبارة عن اجتهادات لم تسمع من عيسى _ عليه السلام _ مشافهة، وبعضها من دس اليهود.
وقد عاشت النصرانية بعد ذلك ثلاثة قرون في تخبط وافتراق، وتأثر بالفلسفات والآراء والطقوس الوثنية السائدة، إضافة إلى ما قام به اليهود خلال تلك الفترة من الدس والتحريف، وإشاعة الفرقة والاختلاف العقدي والمذهبي في صفوف أتباع النصرانية.
كما أنه خلال تلك الفترة فُقِدَ النصُّ الصحيح للإنجيل، وكثرت الأناجيل إلى حد لا يمكن معه الاهتداء إلى نص الإنجيل الثابت.
وتتفق المصادر التاريخية _ فيما نعلم _ على أن اليد الطولى في التحريف كانت لمبشر من أتباع الحواريين تُسَمِّيه المسيحية المحرفة بولس الرسول وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله _تعالى الله عن ذلك_ وكانت هذه الدعوى البذرة الأولى للتثليث.
وفي سنة 325م بدأ التجمع النصراني الكبير الذي عقده قسطنطين ملك الرومان في نيقية، وهو تجمع حاسم قرر فيه غالبية النصارى الاتجاه نحو النصرانية الضالة والتي هي مزيج من الوثنية الرومانية السائدة آنذاك، ومن اليهودية المحرفة، وبقايا النصرانية المشوشة، والديانات الوثنية الهندية.
__________
(1) _ 2 محاضرات النصرانية ص29_30.(1/88)
وفي هذا اللقاء رسخت عند النصارى عقيدة التثليث الوثنية وهو اعتقادهم أن الله ثالث ثلاثة: الأب وهو الله بزعمهم _ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً _ والابن وهو عيسى بزعمهم، وروح القدس يتمثل في الروح التي حلت في مريم.
ومنذ ذلك الحين وحتى الآن والنصرانية على هذا الاعتقاد الفاسد(1).
عقيدة المسلمين في عيسى ــ عليه السلام ــ (2)
عقيدة المسلمين _ وهي الحق الذي لا مرية فيه _ في المسيح _ عليه السلام _ تتلخص فيما يلي:
1_ أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه: قال الله _تعالى_:[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ](النساء:171).
وقال ": =من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل+(3) .
فقوله: =عبد الله+: رد على الغالين, وقوله: =ورسوله+: رد على الجافين, ومعنى: =كلمته+: أي كن؛ فعيسى خلق بكن، وليس هو كن.
وقوله: =وكلمته+ = وروح منه+ ليس معنى ذلك أنه جزء من الله؛ لأن ما أضيف إلى الله أو جاء بلفظ =منه+ فإنه على وجهين:
__________
(1) _ انظر العلمانية د. سفر الحوالي ص36، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص71.
(2) _ الكلام في هذا أكثره مستفاد من كتاب فقه العبادات للشيخ محمد بن عثيمين ص24_25، ومن محاضرات في التوحيد للشيخ محمد بن قاسم لطلاب كلية اللغة العربية في جامعة الإمام بالرياض. ص18_19.
(3) _ البخاري (3435)، ومسلم (28).(1/89)
أ_ إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو مملوك له، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى مالكه أو المخلوق إلى خالقه, وقد تقتضي تلك الإضافة تشريفاً كناقة الله، ورسول الله، وبيت الله، وكليم الله, وقد لا تقتضي تشريفاً مثل أرض الله، وسماء الله.
ب _ وإن كان المضاف إلى الله عيناً غير قائمة بنفسها فهي صفة من صفات الله مثل: سمع الله، يد الله، كلام الله.
وقوله =منه+: أي مخلوقة منه صادرة من عنده.
2_ أنه ولد من غير أب كما خُلق آدم من غير أب ولا أم: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ](آل عمران: 59).
3_ أنه أحد أولي العزم من الرسل: قال الله _ عز وجل _:[ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7)] (الأحزاب)
4_ أنه عبد ليس له من خصائص الربوبية والألوهية شيء: [إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ](الزخرف: 59).
5_ أن الله أظهر على يديه المعجزات والآيات: كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، وكلامه وهو في المهد صبياً.
6_ أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له: ودعاهم إلى العقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة: [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ] (آل عمران:51).
7_ أنه بشر بنبوة محمد ": [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف:6).
8 _ أنه ليس بينه وبين محمد _ عليهما الصلاة والسلام _ نبي لقوله _تعالى_:[مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف:6).(1/90)
9_ أنه لم يصلب ولم يقتل بل رفعه الله إليه كما قال _تعالى_: [إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ](آل عمران:55), وكما قال:[وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً(158)] (النساء).
10_ أنه يَنْزِلُ في آخر الزمان: فيحكم بشريعة محمد " ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب ويضع الجزية(1) وينتقم من مسيح الضلالة, ثم يموت في الأرض، ويدفن فيها، ويخرج منها كما يخرج سائر بني آدم لقوله _تعالى_:[مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى](طه:55).
هذه هي عقيدة المسلمين في عيسى _ عليه السلام _ وهي العقيدة الصحيحة؛ فمن خالفها فقد شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين: [ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)] (مريم).
منذ أن ابتعد النصارى عن ملة التوحيد، ومنذ أن حرفوا دينهم وهم يهيمون في أودية الضلالة والكفر؛ حيث أصبحت عقيدتهم خليطاً من وثنيات شتى هندية ورومانية ويونانية؛ فأتوا بذلك بالمتناقضات والمضحكات التي تحيلها العقول، ولا تقبلها.
حتى إن النصارى أنفسهم عجزوا عن فهمها وإدراكها فضلاً عن غيرهم.
__________
(1) _ انظر صحيح البخاري (3448)، ومسلم (115، 2937).(1/91)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى, وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا, بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين؛ ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً, وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالث+(1).
=ولو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً لما استطاع ذلك+(2).
فمن تلك العقائد التي يعتقدها النصارى ما يلي:
1_ عقيدة التثليث: وهي بزعمهم أن الله _تعالى_ عما يقولون _ ثالث ثلاثة ويزعمون أن الله _تعالى_ له ثلاث حالات وتسمى عندهم (الأقانيم) جمع أقنوم بمعنى (عنصر أو طبيعة) _ =فالله عندهم ثلاثة:
أ _ الإله الأب: وله خصائص اللاهوتية أي الإلهية: وهو (الله).
ب _ الإله الابن: وله خصائص الناسوتية أي البشرية وهو (عيسى).
ج _ الإله الروح القدس: وله خصائص الازدواجية بين الإلهية والبشرية وهو الروح التي حلت في مريم(3).
هذا وقد اختلفوا في تقرير تلك العقيدة وتفسيرها اختلافاً كثيراً.
ولقد ظل العقل البشري يلح على الكنيسة أن تعطيه إجابة مقنعة يتخلص بها من سؤال داخلي قاتل وهو كيف أصدق أن: 1+1+1=1
فكان رد الكنيسة المتكرر دائماً أن ذلك سرٌ لا يستطيع العقل إدراكه(4).
__________
(1) _ الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح، لابن تيمية 2/155.
(2) _ ما يجب أن يعرفه المسلم عن حقائق النصرانية، للشيخ إبراهيم الجبهان ص13.
(3) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص71.
(4) _ العلمانية للحوالي ص40.(1/92)
هذا وقد بين الله ذلك الزعم منهم، ورد عليهم بقوله _تعالى_:[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً](النساء:171).
وقد كفرهم الله _ سبحانه وتعالى _ في اعتقادهم هذا بقوله _عز وجل_: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ] (المائدة:73).
2 _ عقيدة الصلب والفداء، والخطيئة الأصلية الموروثة: =فإن النصارى يعتقدون أن أرواح الأنبياء _ عليهم السلام _ كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح بسبب خطيئة آدم _ عليه السلام _ وأكله من الشجرة, وأن كل من مات من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه.
قالوا: ثم إن الله _تعالى_ لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيَّل على إبليس، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم حتى وُلِد، وكَبِر، وصار رجلاً؛ فمكن أعداءه اليهود من نفسه حتى صلبوه، وسمروه، ووضعوا تاجاً من الشوك على رأسه وهو يصيح ويستنجد، وهم يصفقون حوله ويرقصون؛ فخلصهم بذلك من الشيطان، واستحق أعداؤه العذاب والسجن في الجحيم.
ولذلك سموه (المخلِّص) قالوا: من أنكر صلبه، أو شك فيه، أو قال: بأن الإله يَجِل عن ذلك فهو في سجن إبليس معذبٌ حتى يقر بذلك .(1/93)
هذه هي قصة الفداء الذي يزعمون, وهي أهم دليل عندهم في الدعوة إلى التنصير وحكايتها كافية في الدلالة على بطلانها؛ إذ هي من أحط الخرافات، ويستحيل في العقول السليمة التصديق بها؛ إذ نسبوا الإله الحق إلى ما يأنف أسقط الناس، وأقلهم عقلاً أن يفعله بخادمه _ تعالى الله عن إفك أمة الضلال علواً كبيراً _.
وقد صاروا بذلك ضحكة للسفهاء، ومثلة للعقلاء في جمعهم بين النقيضين: دعواهم ربوبيته مع دعواهم قتله وصلبه.
وآدم _ عليه السلام _ تاب؛ فتاب الله عليه: [وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] (الأنعام:164)، وإبليس أحقر مما نسبوه إليه(1).
3_ تقديس الرهبان ورجال الكنيسة: وهذا من تحريف النصارى وباطلهم بحيث اتخذوا الرهبان أرباباً من دون الله، وأعطوهم الثقة المطلقة في التحليل، والتحريم، والمغفرة عن الذنب.
قال _تعالى_: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ](التوبة:31).
4_ الرهبانية التي ابتدعوها في دينهم: ويتضمن نظام الرهبانية شروطاً لابد من تحقُّقها في الراهب وهي:
1_ العزوبة. ... ... ... 2_ التجرد الكامل عن الدنيا.
3_ العبادة المتواصلة. ... ... 4_ التعذيب الجنوني(2).
وقد قال الله _تعالى_ عنهم: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا](الحديد:27).
5_ العشاء الربَّاني: وحقيقته أنهم يزعمون بأن المسيح قد جمع الحواريين في الليلة التي سبقت صلبه، وأنه قد وزع عليهم خمراً وخبزاً كسَّره بينهم؛ ليلتهموه؛ إذ إن الخمر يشير إلى دمه، والخبز يشير إلى جسده(3).
__________
(1) _ مستفاد من محاضرات في التوحيد، للشيخ ابن قاسم، ص30.
(2) _ انظر العلمانية، ص89_91.
(3) _4 انظر الموسوعة الميسرة ص504، وانظر ما هي النصرانية ص95.(1/94)
6_ الاستحالة: وهي التحول: فمن أكل الخبز وشرب الخمر من الكنيسة في يوم الفصح؛ فإن ذلك يستحيل فيه وكأنه قد أدخل في جوفه لحم المسيح ودمه، وأنه قد امتزج في تعاليمه بذلك(1).
وظاهرٌ أن عقيدة الاستحالة مما لايتردد العقل في إنكاره ونبذه؛ إذ لا يستطيع عقل سليم أن يتصور استحالة خبز وخمر إلى لحم ودم في حين أن الآكلين يتذوقون طعم الخبز والخمر العادي.
ثم إن جسد المسيح واحد، وموائد العشاء تعد بالآلاف سنوياً وفي أماكن متفرقة؛ فكيف يتفرق جسده ودمه عليها جميعاً؟(2).
7_ الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته مقتصرين على أكل البقول وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى(3).
8_ الصلاة: ليس لها عدد معلوم مع التركيز على صلاتي الصباح والمساء، وهي عبارة عن أدعية وتسابيح وإنشاد، كما أن الانتظام في الصوم والصلاة إنما هو تصرف اختياري لا إجباري(4).
9_ الاعتراف: =وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب وهذا الاعتراف يسقط عن الإنسان العقوبة، بل يطهره من الذنب؛ إذ يدَّعون بأن رجل الدين هو الذي يقوم بطلب الغفران له من الله+(5).
10_ صكوك الغفران: وهذه إحدى مهازل الكنيسة، وهي حماقة يترفع عن ارتكابها من لديه أدنى مُسْكَةٍ من عقل، أو ذرة من إيمان, تلك هي توزيع الجنة وعرضها للبيع في مزاد علني، وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة؛ فإذا ما تسلم المشتري صك غفرانه، ودسه في محفظته فقد أبيح له كل محظور وحل له كل حرام (6).
__________
(2) _ العلمانية ص99.
(3) _ الموسوعة الميسرة ص504_505.
(4) _4انظر الموسوعة الميسرة ص504_505.
(6) _ انظر العلمانية ص110_111.(1/95)
ثم تبقى عنده مشكلة أخرى تنغص عليه حياته وهي والداه وأقاربه الذين ماتوا دون شراء تلك الصكوك, فما العمل إذاً؟ العمل يشتري لهم وينتهي الأمر، ويبقى بعد ذلك الضعيف المسكين لا يملك لنفسه أو لغيره شيئاً.
11_ عبادة الصور والتماثيل: وهذا مما اقتبسته النصرانية من الديانات الوثنية =فلم يكن شيء من عقائدها وطقوسها إلا وعليه بصمات وثنية واضحة يتجلى ذلك في التماثيل والصور التي لا يخلو منها دير أو كنيسة رغم أن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل، وتعده من أعمال الوثنيين+(1).
=وبلغ الأمر بصورة المسيح وأمه حد الابتذال والامتهان وكانت الطامة الكبرى في الأفلام السينمائية، حيث وصل السخف والاستهتار بإحدى الشركات السويدية _ وربما كانت يهودية _ سنة 1397هـ إلى إنتاج فيلم عن حياة المسيح الجنسية+(2).
كل ما مضى شيء من عقائد النصارى الباطلة التي تتنافى مع النقل الصحيح والعقل الصريح، ولا يمكن أن يعتقدها، أو يقتنع بها إلا من ألغى عقله تماماً؛ فما الظن بتلك العقائد المنتنة؟ وما الثمرات التي ستنتج منها؟
الجواب لا يخفى على من هو ذو عقل: [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً] (الأعراف:58).
فتلك العقائد الباطلة كانت إرهاصاتٍ وأسباباً مباشرة لظهور العلمانية وبالتالي نبذ الدين بالكلية.
نماذج من انحرافاتهم في القرآن والسنة، وتحذير المسلمين من ذلك(3)
تظاهرت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في بيان ما وقع به النصارى من انحراف خلقي وعقدي، وما ذلك البيان إلا لحكمة عظيمة وهي أن يبتعد المسلمون عن سلوك سبيلهم، وألا يتشبهوا بهم.
ومن تلك الانحرافات التي ذكرت في القرآن والسنة:
أولاً: نماذج من انحرافات النصارى من القرآن الكريم:
__________
(1) _ العلمانية ص100_103.
(2) _ العلمانية ص100_103.
(3) _ انظر في هذا الباب إلى كتاب: مناظرات بين الإسلام والنصرانية ص 459_472.(1/96)
1_ الحسد: قال _تعالى_: [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ](البقرة:109).
2_ كتمان العلم: قال _تعالى_: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ](آل عمران:187).
3_ معرفة الحق بالرجال: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ](البقرة:91).
4_ الغلو: قال _تعالى_: [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] (النساء:171).
5_ الرهبانية: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا](الحديد:27).
6_ جعل حق التشريع لغير الله: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ](التوبة:31).
7_ حكم الأغلبية: [قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً] (الكهف:21).
8_ احتقار ما عند الخصم: [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ](البقرة:113).
9_ الاختلاف بسبب البغي: [فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم] (الجاثية:17).
10_ التفرق: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ](آل عمران:105).(1/97)
11_ البعد عن سبيل المؤمنين: [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115).
12_ اتباع الهوى: [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ](المائدة:49).
13_ قسوة القلوب: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16).
ثانياً: نماذج من انحرافات النصارى من السنة:
1_ الفتنة بالنساء: قال ": =فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء+(1).
2_ كثرة السؤال، والاختلاف على الأنبياء: كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ÷قال: =ذروني ماتركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه+(2).
3_ التشدد: قال ":=لا تشددوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم, فتلك بقاياهم في الصوامع والديار+(3).
__________
(1) _ رواه مسلم (2742).
(2) _ مسلم (1337).
(3) _ رواه أبو داود(4904).(1/98)
4_ التفرقة العنصرية: كما جاء في الصحيحين عن عائشة _رضي الله عنها_ أن قريشاً أهمهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم رسول الله "؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله " فكلمه أسامة، فقال رسول الله ": =أتشفع في حد من حدود الله+ ثم قام فاختطب، ثم قال: =إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها+(1).
5_ اتخاذ القبور مساجد: كما في حديث جندب بن عبدالله البجلي في صحيح مسلم: =ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك+(2).
ومع ذلك البيان الجلي والنهي الشديد عن التشبه بهم فقد وقعت طوائف كثيرة من هذه الأمة فيما وقع به أهل الكتاب والله المستعان.
منذ أن تخلى النصارى عن ملة التوحيد, انقسمت النصرانية إلى فرق عديدة منها:
1_ الموحدون: وهم أتباع آريوس الذي كان يقول بأن الأب وحده هو الله، والابن مخلوق له.
2_ النسطوريون: وهم أصحاب نسطور بطريرك الإسكندرية سنة 431م والذي قال: بأن مريم لم تلد إلا الإنسان، فهي بذلك أم الإنسان، وليست أماً لإله، ومذهب النساطرة وضع الأساس للقول بطبيعتين في المسيح أي القول بالحلول.
3_ اليعاقبة: وهم يقولون بأن للمسيح طبيعة واحدة وهي التقاء اللاهوت بالناسوت أي القول بالاتحاد(3), وهناك فرق أخرى غير ما ذكر.
أما الفرق النصرانية الكبيرة الآن فهي ثلاث:
1_ الكاثوليك: وهم أتباع الكنيسة الكاثوليكية العامة، وهي أعرق وأكبر الطوائف النصرانية، ومركزها في روما، وجمهورها في أوربا عموماً.
__________
(1) _ رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(2) _ مسلم (532).
(3) _ الموسوعة الميسرة ص502_503.(1/99)
وهم يعتقدون بزعمهم أن الله الابن مساوٍ في خصائص الألوهية لله الأب، وروح القدس منبثق عنهما (1).
2_ الأرثوذكس: وهم أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، وهي كنيسة الروم الشرقية، ومركزها قديماً القسطنطينية، وأكثر أتباعها من شمال وغرب آسيا، وشرق أوربا.
والآن ليس لها مركز معين؛ فكل كنيسة من كنائسهم لها صفة الاستقلال.
ويعتقد أتباعها أن الله الأب أفضل من الله الابن، وأن روح القدس انبثقت عن الله الأب(2).
ومما ينبغي الإشارة إليه أن هاتين الكنيستين بينهما تناحر عظيم، وخلاف مستمر؛ وذلك لأن كل واحدة منهما تدعي الرئاسة العامة، وتريد أن تكون الأخرى تابعة لها.
وإضافة إلى ذلك الخلاف فإنه حصل بينهما خلاف في مسائل فرعية منها:
أ_ استعمال الفطير في العَشاء الرباني بدل الخبز؛ فإن ذلك أَقَرَّتْهُ الكنيسة الغربية؛ ولم تعترف به الكنيسة الشرقية.
ب _ أكل الدم المخنوق؛ فإن الكنيسة الغربية أباحته وهو مخالف لمَجْمَع الرسل في أورشليم الذي انعقد بعد مفارقة المسيح بنحو اثنتين وعشرين سنة.
3_ أكل الرهبان دهن الخنزير؛ فهو مباح عند الكاثوليك دون الكنيسة الشرقية.
=ولقد كان يأتي الفينة بعد الأخرى صوت يدعو إلى الوحدة والالتئام بدل الاستمرار على الفرقة والانقسام؛ فَتُعقَد لأجل هذا مجامع, وترسل الوفود, ولكن ما إن يتلاقى المتخاصمان حتى تعاد أسباب النزاع جَذَعة، إذ كل واحدة ترغب في أن تنزل الأخرى عن رأيها, فَتُلاحي كلُّ واحدة عما تعتقده، فيشتد الجدل، ويحمى وطيس القول، فتفترقان وقد زادت القطيعة قوة واحتداماً+(3).
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص76_77.
(2) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص76_77.
(3) _ محاضرات في النصرانية ص 162.(1/100)
و=هكذا ازدادت الفرقة بينهم، وأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء، ويظهر أن السبب في ذلك ما تعتقده كل واحدة منها أن الأخرى خارجة على الدين، ورغبة كل واحدة أن تجتذب الأخرى إليها+ (1).
3_ البروتستانت(2): أو الإصلاح الكنيسي: وهم أتباع الكنيسة البروتستانتية التي أسسها الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي.
ويقول عنه الشيخ أبو زهرة ×: =وكان شديد التورع مبالغاً في تقدير سيئاته، وقد سيطرت على مشاعره نَفْسُهُ اللوامة حتى لقد قال بنفسه: إنه لن ينجو من عذاب الجحيم إلا برحمة الرب الرحيم+(3).
وقد ذهب لوثر إلى روما للحج؛ ليتيمن بلقاء رجال الدين الذين كان يظن أنهم على قدر عالٍ من الزهد والعبادة إلا أنه فوجئ بفسادهم وجرأتهم على الخطايا؛ فأَثَّر ذلك بنفسه، واستنكر هذه الأفعال التي تصدر من رجال الدين.
ومن هنا بدأ ثورته على الكنيسة وعلى آرائها ومعتقداتها.
كما ظهر في الوقت نفسه في سويسرا رجل آخر اسمه زونجلي ينادي بما نادى به لوثر وذلك لِمَا رآه من حال الكنيسة المزري.
وكان مما نادى به لوثر وزونجلي الثورة على صكوك الغفران وما يسمى بالعشاء الرباني.
=بيد أن حركة لوثر كانت أوسع دائرة وأسرع انتشاراً, كما ظهر _ أيضاً _ رجل آخر في فرنسا ينادي للإصلاح واسمه كَالْفن، وأهم مبادئ الإصلاح الكنيسي الذي نادى به هؤلاء:
1_ جعل الخضوع التام لنصوص الكتاب المقدس.
2_ عدم الرياسة في الدين.
3_ ليس لرجل الدين غفران.
4_ عدم الصلاة بلغة غير مفهومة.
5_ رأوا أن العشاء الرباني إنما هو تذكار بالغداء، وعظة واستبصار.
6_ أنكروا الرهبنة.
__________
(1) _ محاضرات في النصرانية ص163.
(2) _ سمي البروتستانت الذين خرجوا على الكنيسة الكاثوليكية بهذا الاسم لأنهم عندما أريد تنفيذ قرار الحرمان عليهم أعلنوا احتجاجاً يسمى بالإنجليزية برتستنت فسمي الذين امضوا القرار بروتستنت:أي المحتجين.
(3) _ محاضرات في النصرانية ص 177.(1/101)
7_ منعوا اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس، والسجود لها.
هذه أعظم المسائل التي خالف بها المصلحون في المسيحية ما عليه الكنيسة+(1).
ويرى الدكتور السيد محمد الشاهد أن ثورة مارتن لوثر ومعارضات سابقيه من رجال الكنيسة لم تكن نتيجة سوء الأوضاع الداخلية، وفساد الكنيسة الاجتماعي والخلقي فحسب، بل هناك سبب آخر، يقول الدكتور الشاهد: =هذا السبب الآخر والأقدر في نظري هو انتشار المعرفة بالإسلام عقيدة وفكراً في الغرب؛ فقد كان الإسلام هو المحرك للعقل الأوربي بعد أن أيقظته من سبات دام طوال عصور الظلام والعصور الوسطى كما يقول غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب ص 527.
وأما مارتن لوثر فإنه من المأثور عنه أنه كان يعرف القرآن معرفة جيدة، وله كتابات تهجم فيها عليه تدل على مدى اهتمامه بالقرآن، وتأثره به.
وقد كان رجال الكنيسة المحافظون يتهمونه بأنه يريد أن يقيم مملكة محمد " بدلاً من مملكة عيسى _ عليه السلام _ ويستشهدون على ذلك بدخول بعض أنصاره في الدين الإسلامي+ (2).
وكان جديراً بهؤلاء المصلحين الذين قرروا أن يأخذوا مذهبهم الديني من كتبهم الصحيحة أن ينظروا في هذه الكتب نظرة فاحصة؛ ليصلوا إلى الحق الذي بدأوا بالسير إليه من خلال منهجهم الإصلاحي بدلاً من أن يتخذوا أحبارهم وقساوستهم أرباباً من دون الله.
ولهذا فإن هذه الحركة تعد أميل الفرق الثلاثة إلى التوحيد، ويظهر تأثرها بالمسلمين لكنها لم تصمد أمام الضغط النصراني؛ فانغمست في الكفر والشرك(3).
ولقد حصل من تعدد الكنائس وانشقاقها التناحر الشديد، والعداوة المغراة المستمرة.
__________
(1) _ محاضرات في النصرانية ص 188.
(2) _ انظر مجلة البيان التي تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن عدد22 ص 83 في مقالة للدكتور محمد الشاهد بعنوان =أثر الإسلام على حركة الإصلاح البروتستنتية+.
(3) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص79.(1/102)
وكما تناحر النصارى في السابق بسبب المعتقدات فقد تناحروا في الزمن الحاضر بسبب الأطماع الدنيوية؛ فحصل بينهم حروب طاحنة بسبب ذلك كالحروب العالمية.
وكل دولة من الدول تساعد كنيستها, وليست العداوة بين الكنائس فحسب، بل إن العداوة شديدة في الكنيسة الواحدة، وكل ذلك مصداق لما قاله _تعالى_ في كتابه العزيز: [وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ](المائدة:14).
فهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير؛ فبقدر ما ينسى الناس حظاً مما ذكروا به فإن العداوة تُغرى بينهم بحسب ذلك النسيان.
الكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة، والإنجيل، ورسائل الرسل, وتسمى التوراةُ وأسفارُها الموسويةُ وغيرُها _ كتب العهد القديم الذي يعد أصلاً للديانة النصرانية.
وتسمى الأناجيل ورسائل الرسل كتب العهد الجديد(1).
فالعهد الجديد _ إذاً _ هو الذي يشتمل على أناجيلهم.
والأناجيل المعتبرة عند النصارى هي:
1_ إنجيل متَّى: وهو أحد التلاميذ الاثني عشر, وقد دون الإنجيل باللغة العبرية أو بالسريانية.
وآخر نسخة عُثر عليها كانت باللغة اليونانية كما أن هناك خلافاً حول مَنْ دَوَّن الإنجيل ومَنْ ترجمه (2).
2_ إنجيل مَرْقَص: وكاتبه يوحنا، ويلقب بمرقص، ولم يكن من الحواريين الاثني عشر الذين تتلمذوا للمسيح، واختصهم بالزلفى إليه.
وأصله من اليهود، وكانت أسرته بأورشليم في وقت ظهور المسيح، وهو من أوائل الذين أجابوا دعوته؛ فاختارهم من بين السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقادهم بعد رفعه (3).
__________
(1) _ انظر محاضرات في النصرانية ص40، والموسوعة الميسرة ص501.
(2) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 40.
(3) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 46.(1/103)
وكان رجلاً نشيطاً في نشر النصرانية في أنطاكية، وشمال أفريقيا، ومصر، وروما, وقد قتل حوالي عام 62م(1).
3_ إنجيل لوقا: يقولون: إن لوقا ولد في أنطاكية ودرس الطب، ونجح في ممارسته، ولقد رافق بولس في أسفاره وأعماله(2).
4_ إنجيل يوحنا: وهو حواريٌّ كان المسيح يحبه، وبعضهم يقول: إنه شخصية مجهولة انفرد بالقول بالتثليث، وبألوهية المسيح في الوقت المبكر من تاريخ النصرانية(3).
وهناك أناجيل أخرى كإنجيل برنابا، وهناك أناجيل أخرى أهملت.
هذا وقد بين كثير من علماء المسلمين قديماً وحديثاً، ومن علماء النصارى الذين دخلوا في الإسلام، أو العلماء المتحررين منهم عدم صحة الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى، ووجهوا لها انتقادات كثيرة.
ومن هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية × في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وابن القيم × في كتابه (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) والجويني ×في كتابه (شفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل).
ومن العلماء المُحْدَثين الشيخ رحمة الله الهندي × في كتابه (إظهار الحق) والشيخ محمد أبو زهرة ×في كتابه (محاضرات في النصرانية).
ومن علماء النصارى الذين أسلموا إبراهيم خليل أحمد كما في كتابه (محاضرات في مقارنة الأديان).
وفيما يلي إجمال لبعض الأمور التي تُبَيِّنُ عَدَمَ صحة الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى:
1_ أن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى لم يملها عيسى _ عليه السلام _ ولم تنزل عليه وحياً، ولكنها كُتبت بعده.
2_ ما وقع في الأناجيل من تلاعب النُّسَاخ وتبديلهم وتحريفهم.
3_ اشتمال الأناجيل على المتناقضات والاختلاف فلقد أتى الشيخ رحمة الله الهندي × بآخر كتابه _إظهار الحق_ بأكثر من مائة اختلاف بين هذه الكتب(4).
__________
(1) _ انظر الموسوعة ص 501.
(2) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 47.
(3) _ انظر الموسوعة ص501.
(4) _ انظر محاضرات في النصرانية ص 89.(1/104)
4_ انقطاع السند في نسبتها لكاتبها.
5_ اشتمالها على تنقص الرب _ جل وعلا _.
6_ اشتمالها على العقائد الباطلة المخالفة للعقل والنقل.
7_ تعارضها مع الحقائق العلمية وهذا ما أثبته العالم الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (أصل الإنسان) و(والتوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث) حيث أثبت فيهما وجود أخطاء علمية في التوراة وفي الإنجيل وأثبت في الوقت نفسه عدم تعارض القرآن مع العلم الحديث وحقائقه بل سجل شهاداتِ تَفَوُّقٍ سبق بها القرآنُ العلمَ الحديث بـ 1400 سنة(1).
8_ أن الكتاب المقدس _ وبغض النظر عن كونه محرفاً _ يخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو علمي(2).
وعلى هذا فإنه لا يجب الإيمان بتلك الأناجيل؛ لأن باطلها أضعاف ما فيها من حق، ولو افترضنا صحتها جميعاً لما جاز لنا اتِّباعُها؛ لأنها نسخت بالقرآن الذي تكفل الله _تعالى_ بحفظه كما قال _ عز وجل _ :[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجرات:9).
أما التوراة والإنجيل فقد وكل الله حفظها إلى اليهود والنصارى، فأضاعوها.
تنتشر النصرانية في أكثر بلاد العالم فهي في عدد أتباعها تأتي بالدرجة الثانية بعد الإسلام.
هذا وقد أعانها على انتشارها الاستعمار، والتنصير.
وتتركز النصرانية في أوربا وأمريكا.
وأكثر الأقليات النصرانية وجوداً في العالم الإسلامي في مصر، والشام، والمغرب، والسودان كما أن لها نشاطاً واسعاً في أفريقيا، وأستراليا، وشرق آسيا.
فالكنيسة الكاثوليكية تنتشر في إيطاليا، وبلجيكا، وفرنسا، وأسبانيا، والبرتغال.
أما الكنيسة الأرثوذكسية فمعظم انتشارها في روسيا، والبلقان، واليونان.
ومقرها الأصلي في القسطنطينية، ويتبعها عدد من الكنائس الشرقية المستقلة.
__________
(1) _ انظر مقارنة التوراة والقرآن لمحمد الصوياني ص 35.
(2) _ انظر مقال للدكتور الشاهد مجلة البيان عدد 22 ص 86.(1/105)
أما البروتستانتية فمركز انتشارها ألمانيا، والدانمرك، وهولندا، وسويسرا، والنرويج، وأمريكا الشمالية(1).
أرسل الله _ سبحانه وتعالى _ المسيح عيسى _ عليه السلام _ إلى بني إسرائيل متمماً رسالة موسى _ عليه السلام _ ومصححاً ما حرفه اليهود فيها إلا أن اليهود ناصبوه العداء، وكذبوه، وأَغْروا به الحكام, وحاولوا قتله.
بل ادعوا قتله وصلبه _ عليه السلام _.
ومنذ ذلك الحين والعداوة بين اليهود والنصارى على أَشُدِّها, وقد بلغ ذلك العداء قمته قديماً عندما اعتنقت الدولة البيزنطية العقيدة النصرانية، فعملت بعد ذلك على قتل اليهود، وتشريدهم، وملاحقتهم.
وبالرغم من تلك العداوة، والاختلاف، وقيام بعضهم بتكفير بعض إلا أن ذلك يزول ويختفي أثره، بل يَحُلُّ محلَّه الوئامُ إذا كان عدو الطرفين الإسلام أو المسلمين(2).
وهذا مصداق لقوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ](المائدة:51).
=وليس في تاريخ العداوات عداوة تماثل شراستها وأبديتها ذلك النوع الذي تواجه به طوائفُ اليهودِ والنصارى الأمةَ الإسلاميةَ+(3).
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص77.
(2) _ موقف أصحاب الأهواء والفرق من السنة النبوية ورواتها: جذورهم ووسائلهم وأهدافهم قديماً وحديثاً د. محمد بن مطر الزهراني ص32.
(3) _ العلمانية د. سفر الحوالي.ص 528.(1/106)
ولم يكن الرضا عن اليهود متفقاً عليه من قبل جميع النصارى بل إن هناك من النصارى المتعصبين من يقف ضد اليهود؛ فقد طردوا من إنجلترا عام 1290م، ومن فرنسا عام 1390م، ومن النمسا سنة1420م، ومن أسبانيا سنة 1692م وذلك من قبل محاكم التفتيش التي أقيمت ضد المسيحيين واليهود على السواء، ثم أخرجوا من ألمانيا عام 1719م، ومن روسيا سنة 1727م، ثم جاء هتلر فقتل منهم من قتل(1).
وإزاء هذه العداوة العنيفة، وهذا الاضطهاد العظيم _خصوصاً وأنهم يزعمون أنهم شعب الله المختار_ فكروا جدياً بالتخلص من تلك العداوة التي تقف أمام كثير من مخططاتهم.
خصوصاً وأن أوربا كانت تعاني من الخواء الروحي، والطغيان الكنيسي بكافة ألوانه؛ فسلكوا في هذا الموضوع خطوات عديدة منها:
1_ تظاهرُ كثيرٍ من حاخاماتهم وعلمائهم بالدخول في النصرانية.
2_ إنشاء المنظمات السرية كالصهيونية، والماسونية وغيرها التي كانت ترفع شعارات الحرية والإخاء والمساواة.
3_ إحداث الثورات ضد الكنيسة أو استغلالها إذا قام بها غيرهم، ومن ذلك ما قام به مارتن لوثر ضد الكنيسة الغربية الكاثوليكية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وكذلك الثورة الفرنسية التي قام بها نابليون عام 1789م والتي كانت تنادي بنفس شعارات الماسونية: الحرية والإخاء والمساواة.
4_ السعي للسيطرة الاقتصادية على الدول الأوربية(2).
وقد حصل اليهود على نتائج مهمة، واستغلوا الفرصة التي أتاحها لهم نفور الأوربيون من دينهم.
ومن تلك النتائج التي حققها اليهود من وراء مخططاتهم ما يلي:
1_ علمنة الحياة في أوربا، حيث أُقصي الدين المسيحي عن الحياة تماماً.
2_ تمكن اليهود من تَبَوُّء مناصب ومواقع رفيعة في الحكومات الغربية لم يكونوا يحلمون بها في عصور الاضطهاد.
__________
(1) _ انظر موقف أصحاب الأهواء والفرق من السنة النبوية ورواتها ص 33.
(2) _ انظر موقف أصحاب الأهواء والفرق ص 33.(1/107)
3_ السيطرة التامة على الاقتصاد الغربي وثرواته، بل وعلى اقتصاد وثروات العالم.
4_ كسر حدة العداء لليهود عند الأوربيين.
5_ تمكن اليهود من إحياء التحالف اليهودي النصراني مرة أخرى ضد الإسلام(1).
يقول الشيخ الدكتور سفر الحوالي _ حفظه الله _: =ومنذ أن أحكمت اليهودية العالمية أنشوصتها على العالم الغربي الذي أوقعته أسيراً في شباكها الأخطبوطية اتخذت العداوة مساراً واحداً تحفزه الروح الصليبية، وتوجهه الأفعى اليهودية؛ فقد تشابكت، وتداخلت مصالح الطرفين.
وكان الغرب الصليبي مستعداً للتخلي عن كل حقد وعداوة إلا عداوته للإسلام في حين كانت الخطط التلمودية تروم تسخير العالم الصليبي بعد أن شلت قواه، وركبت رأسه للقضاء على عدوها الأكبر الإسلام+(2).
ويقول الشيخ _ حفظه الله _: =وتجدر الإشارة إلى أن خطة العمل الموحد المشترك بين الصليبية واليهودية أصبحت لزاماً وواجباً على كلا الطرفين بعد الموقف الصلب الذي وجه به السلطان عبد الحميد × هرتزل؛ إذ تعين بعدها أن القضاء على الخلافة الإسلامية ضروري لمصلحة الفريقين: النصارى الذين كانت لهم دولهم الاستعمارية تتحين الفرصة للأخذ بثأر الحروب الصليبية، واليهود الذين أيقنوا أن فشلهم مع السلطان يستوجب التركيز على العالم الصليبي، وتسخيره لمآربهم التلمودية.
وبلغت الخطة ذروة التوحد بعد قرار المجمع الماسوني الذي ينص على تبرئة اليهود من دم المسيح _ عليه السلام _ والذي كان يهدف إلى محو كل أثر عدائي مسيحي لليهود، وبالتالي إيجاد كتلة يهودية نصرانية واحدة لمجابهة الإسلام+(3).
وهكذا نجد أن اليهود والنصارى متعادون متناحرون لا يجمعهم سوى مصالحهم، وأعظم مصلحة يجتمعون عليها هي عداء الإسلام والمسلمين.
وما نراه اليوم من تحالف بين أمريكا وإسرائيل, وما وعد بلفور المشؤوم _ إلا نموذج لذلك التحالف.
__________
(1) _ انظر موقف أصحاب الأهواء والفرق ص 34.
(2) _ العلمانية ص 532.
(3) _ العلمانية ص534.(1/108)
وقد تبنى بعض النصارى في أمريكا وأوربا فكرة وجود إسرائيل الحديثة على أنها تحقيق لنبوآت الكتاب المقدس، وعلامةٌ على قرب عودة المسيح إلى الأرض ثانية؛ حيث إنهم يعتقدون أن المسيح سينزل في آخر الزمان وهم متفقون مع المسلمين في هذه القضية إلا أن اليهود _ بخبثهم ومكرهم وبغباء النصارى _ حولوا هذه القضية لصالحهم؛ فاليهود يعتقدون بمجيء مُنْتَظر؛ لأنهم يعتقدون أن عيسى _ عليه السلام _ كذاب دجال.
أما المنتظر الذي ينتظرونه فهو _ ملك السلام _ كما يزعمون، وفي الحقيقة هو المسيح الدجال.
ومن هنا غرروا بالنصارى وقالوا: لابد أن نعمل بما اتفقنا عليه وهو أن المسيح سينزل, أما من هو المسيح الذي سينزل فسنتركه جانباً؛ فاليهود يعتقدون بأن النصارى سينتهون إذا جاء منتظرهم، والنصارى بعكسهم، حيث يعتقدون بأن المسيح إذا نزل سيقتل كل من لم يدخل في المسيحية.
ومن المؤتمرات التي عقدت بهذا الصدد المؤتمر المسيحي الصهيوني الدولي الذي عقد في إبريل عام 1988م في إسرائيل وألقى فيه إسحاق شامير رئيس الوزراء بنفسه كلمة الافتتاح.
وفي كلمته التي اتسمت بالعاطفة والحماسة أكد شامير _ وبكل وضوح _ استمراره في تثبيت أركان الدولة الصهيونية، ومقاومة الفلسطينيين بكل الوسائل.
وفي نهاية كلمته وقف كل المستمعين لتحيته وذلك حينما دعاهم لأن يدعوا كل مسيحي العالم لتعضيد دولة إسرائيل(1).
وفي هذا المؤتمر قال أحد القساوسة المشاركين فيه وهو (فان درهوفيه) قال : =إن الكنيسة التي لا تتبع هذا الطريق _ تأييد إسرائيل _ سوف تنتهي مثل الدخان+(2).
ولعلنا نجد من ثمار ذلك ما تقوم به الدول الغربية من حماية لمصالح اليهود، والحرص على هجرتهم، وتشجيعها، وتسهيل ذلك، أو محاولة تخفيف عداء المسلمين لليهود.
__________
(1) _ انظر مجلة المجتمع ص 23العدد 982.
(2) _ مجلة المجتمع ص 23العدد 982.(1/109)
وبالرغم من هذا التحالف إلا أننا نجد بين الفينة والأخرى من يعارضه من النصارى، ويعده أضحوكة يهودية؛ لكي يستغلوا النصارى في تنفيذ مخططاتهم التلمودية.
ومن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا عن هذا الموضوع قس مصري اسمه إكرام لمعي وينتمي للكنيسة الإنجيلية وله كتاب اسمه (الاختراق الصهيوني للمسيحية).
حيث بين فيه مدى الاستغلال الصهيوني اليهودي للدين المسيحي؛ لتحقيق الأطماع والأحلام(1).
ومن خلال ما مضى يمكن إجمال علاقة النصارى مع اليهود بما يلي:
1_ أنهم أهل كتاب كما سماهم الله _تعالى_ وكتابهم الذي يجمعهم هو الكتاب المقدس إلا أن اليهود لا يؤمنون بالأناجيل في آخره.
2_ أنهم متعادون فيما بينهم عداءاً شديداً، وأهم ما يجمعهم عداء المسلمين؛ حسداً من عند أنفسهم.
3_ أنهم متفقون مع اليهود في عقيدة المسيح المنتظر الذي سينزل في آخر الزمان، وأن مكان نزوله في فلسطين.
ولكنهم يختلفون في ماهية هذا المنتظر؛ فاليهود يزعمون أنه ملك السلام الذي سيحكم الأرض ويقتل كل من سوى اليهود.
والنصارى يعتقدون أنه المسيح _ عليه السلام _ وأنه سيدخل جميع الناس في النصرانية ومن رفض قتله.
والحقيقة أنهم ينتظرون المسيح الدجال، والنصارى ينتظرون مسيحاً وهمياً لا حقيقة له.
والمسلمون ينتظرون المسيح _ عليه السلام _ ليحكم بشرع محمد " ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وقد حققوا من جراء هذا التحالف الشيء الكثير كالإطاحة بالخلافة الإسلامية، وباحتلال اليهود لفلسطين.
أ _ في القديم: منذ أن ظهر دين الإسلام وأهل الكتاب يكيدون لهذا الدين ولنبيه " ويتربصون بالمؤمنين الدوائر.
وقد أخبر الله _سبحانه وتعالى_ عن عداوتهم للمسلمين، وأنها من سننه الكونية قال الله _تعالى_: [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا](البقرة:217).
__________
(1) _ انظر مجلة المجتمع ص 23 عدد 982.(1/110)
وقال:[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ](البقرة:109).
وقال: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ](البقرة:105).
وأخبر _تعالى_ أنهم لا يقنعون بشيء حتى نتبعهم في دينهم, قال _عز وجل_: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم](البقرة:120).
ولقد وقف النصارى من المسلمين موقف المعادي المبغض الشانئ , وحاولوا بكل ما أوتوا من قوة على مر العصور أن يردوا هذه الأمة عن دينها, وسلكوا في هذا السبيل طرائق شتى، وخططاً مختلفة ملائمة لكل زمان ومكان.
ففي الماضي قاموا بحرب المسلمين وغزوهم في بلادهم مع أنهم كانوا ينعمون في ظل عدالة الدولة الإسلامية أكثر مما يلقونه تحت حكم النصارى أنفسهم.
وما الحروب الصليبية عنا ببعيد تلك الحروب التي استمرت قرنين من الزمان 490هـ _690هـ والتي قامت بين المسلمين في المشرق العربي وبين الصليبيين القادمين من أوربا؛ لاحتلال بيت المقدس وبلاد الشام ومصر، والقضاء على الإسلام، وَوَقْفِ انتشاره في أوربا.
وهي حروب دينية شنتها أوربا النصرانية الحاقدة بدعوى تحرير القدس من المسلمين، والحقيقة أنها قامت لإذلال المسلمين، ورغبة في القضاء على الإسلام.
ويذكر المؤرخون أن لتلك الحرب أسباباً كثيرة، ولعل أهمها وأجلاها وأوضحها ما يلي:
1_ الحقد الصليبي، والعداء للإسلام.
2_ ما أثاره الرهبان والبابوات في نفوس النصارى في أوربا, ومن تلك الإثارات ما قام به القديس بطرس؛ حيث أخذ يجوب أوربا على حماره، ويحرض الأوباش والعوام على تحرير القدس, والاستعداد لنزول المسيح.
3_ رغبة النصارى في التوسع.(1/111)
4_ رغبة البابا أوربان الثاني في توحيد الكنيستين الشرقية والغربية, ومحاولته جمع النصارى تحت هدف مشترك وهو قتال المسلمين, وغزوهم في بلادهم، وذلك عندما دعا البابا أوربان الثاني إلى مؤتمر (كليرمونت) وألقى فيه كلمة مشهورة ملأها بالهجوم على المسلمين، وإثارة الأحقاد في نفوس النصارى, ثم أخرج في نهاية الخطبة صليباً وعلقه على صدره, ودعا الحاضرين إلى تعليقه والدفاع عنه.
هذه _ بإجمال _ أسباب الحروب الصليبية.
وبعد ذلك بدأت أول حملة عام 490هـ بقيادة (جود فري دريموند) واستولى على كثير من بلاد الشام، ثم تتابعت الحملات، واستولوا على كثير من بلاد المسلمين وأهمها بيت المقدس عام 492هـ وما كانوا ليستطيعوا فعل ذلك لولا أن المسلمين متناحرون متفككون يشتغل بعضهم ببعض.
عندئذ قام النصارى بتلك الحروب، وقتلوا المسلمين شر قتله في كثير من الأماكن وخصوصاً في بيت المقدس؛ حيث مثلوا في القتلى، فلم يوقروا كبيراً، ولم يرحموا صغيراً, حتى النساء لم تسلم منهم، بل إن الزهاد والعباد الذين انقطعوا للعبادة في بيت المقدس لم يسلموا منهم, حتى إن الخيل غاصت إلى الركب من جثث القتلى؛ حيث قتل الآلاف من أهل تلك البلاد.
ومهما يكن من شيء فإن المسلمين آنذاك كانوا يعرفون الداء والدواء؛ فالداء يكمن في بعدهم عن دينهم وعقيدتهم, والدواء بالرجوع إلى ذلك, فهم يعرفون سبيل العزة.
ولماَّ كانت تلك الجذوة تتحرك في قلوبهم؛ ولما كانوا يتهمون أنفسهم ويلقون باللائمة عليها _ كان ذلك بداية طريق العزة.
ومن هنا تعالت صيحات الجهاد، وارتفعت الدعوات مطالبة باستعادة الأراضي وطرد عباد الصليب, ولذلك سادت الروح الجهادية في ذلك العصر, ونجد أن الشعراء قد وقفوا شعرهم على شعر الجهاد وتحريك الهمم كما نجد ذلك في قصيدة أبي المظفر الأبيوردي التي قالها محرضاً على الجهاد بعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس عام 492هـ يقول:(1/112)
مزجنا دماءاً بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراحم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً بني الإسلام إن أمامكم ... وقائعَ يُلْحِقْنَ الذُّرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم في الشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت ومن دُمى ... تواري حياءًا حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظُّبا ... وسمر العوالي داميات اللهازم
وتلك حروب من يَغِبْ عن غمارها ... ليسلمَ يقرعْ بعدها سن نادم
فليتهم إن لم يذودوا حميةً ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا بالأجر إذ حمي الوغى ... فهلا أتوه رغبة في الغنائم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
ومن ذلك قول ابن المجاور يبكي القدس:
أعيني لا ترقي من العبرات ... صلي في البكا الآصالَ بالبكرات
إلى أن يقول:
لتَبكِ على القدس البلادُ بأسرها ... وتعلن بالأحزان والترحات
لتَبكِ عليها مكة ٌفهي أختها ... وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
لتَبكِ على ما حل بالقدس طيبة ... وتشرحه في أكرم الحجرات
وهكذا نجد أن روح الجهاد سرت في ذلك العصر, ثم قيض الله _سبحانه وتعالى_ رجالاً مؤمنين مخلصين مجاهدين كأمثال عماد الدين زنكي, ونور الدين محمود وصلاح الدين _ رحمهم الله أجمعين _ فاستعاد المسلمون بعد ذلك ما أخذه الصليبيون، واستردوا بيت المقدس, ولا ينسى الصليبيون موقف صلاح الدين منهم عندما عفى عنهم بعد أن قدر عليهم.(1/113)
وإن ينسَ المسلمون شيئاً فلن ينسوا ما فعله النصارى في الأندلس, تقول الدكتورة سينجريد هونكه: =في 2 يناير 1492م رفع الكاردينال (دبيدر) الصليب على الحمراء القلعة الملكية للأسرة الناصرية؛ فكان ذلك إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على إسبانيا, وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال القرون الوسطى.
وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضاراتهم وثقافتهم.
لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه كما حرم عليهم استخدام اللغة العربية والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي, ومن يخالف ذلك كان يحرق حياً بعد أن يعذب أشد العذاب+(1).
وهكذا قوضت أطناب الدولة الإسلامية في الأندلس، وانتهى الإسلام من تلك الربوع التي رفرفت فيها رايته ثمانية قرون، فلم يبقَ مسلم واحد في أسبانيا يظهر دينه.
وغير خافٍ ما قامت به محاكم التفتيش من التفنن في أساليب القتل والوحشية في المخالفين لها من المسيحيين فضلاً عن المسلمين.
فمن ذلك أنهم وضعوا غرفاً فيها آلات رهيبة للتعذيب منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري, وكانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم.
ومن ذلك أن هناك آلة للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة يلقى بها المعَّذب ثم يطبقون بابه وخناجره, فإذا أغلق مَزَّق جسم المعذب المسكين وقطَّعة إرباً إرباً.
وهناك آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج منها اللسان( (2).
__________
(1) _ قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله، لجلال العالم ص12.
(2) _ انظر قادة الغرب ص 16_17_18.(1/114)
ثم بعد ذلك كان هناك تفكير ذكي اتعظ بالهزائم العسكرية المتلاحقة التي مني بها الغرب، ونقَّب عن السر العظيم لصلابة المسلمين، وانتفاضتهم المفاجئة، ووجد السر فعلاً؛ أنه الإسلام نفسه ولا شيء سواه.
ولقد فكر الغرب في تحطيم تلك القوة وذلك الرصيد في نفوس المسلمين، ووضع خطته الخبيثة بناءاً على النتيجة, خطة لا تقوم على إبادة المسلمين، ولا على احتلال أراضيهم، وإنما تقوم على إبادة الإسلام نفسه واقتلاعه من نفوس أبنائه وضمائرهم، أو تقليص دائرته، وعزله عن واقع الحياة(1).
وبدأوا بالسير حثيثاً في سبيل ذلك الأمر، وأخذوا بوصية لويس التاسع الذي أسر بالمنصورة في إحدى الحروب الصليبية، وعندما خرج أوصى قومه بأن يعملوا على إذابة الإسلام من نفوس أهله، وإطفاء تلك الجذوة التي ما تفتأ تعود بقوة بعد أن يُظنَّ أن المسلمين قد انتهوا تماماً، ألا وهي العقيدة.
فطالما أن جذوة العقيدة تتقد في قلوب المسلمين فإنهم لن يهزموا، وإن هزموا فسيعودون مرة أخرى.
فما الحل _إذاً_ وكيف تهزم هذه الأمة؟
أخذ الغرب يبحث عن الحل فارتأى أن الحل هو حرب العقيدة نفسها.
وقد سلكوا في هذا السبيل وسائل عديدة امتازت بالدقة والتنظيم، وتتلخص جهودهم في عدة وجوه وهي:
1_ الاستشراق.
2_ الاحتلال العسكري.
3_ التنصير (التبشير).
وسيكون التفصيل في هذه الوسائل في الرسائل التالية.
__________
(1) _ انظر العلمانية ص 535.(1/115)
تعريف الاستشراق: هو دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون كافرون من أهل الكتاب بوجه خاص للإسلام والمسلمين من شتى الجوانب عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة وتاريخاً ونظماً وثروات وإمكانيات؛ بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه وتضليلهم عنه, وفرض التبعية للغرب عليهم , ومحاولة تسويغ هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي(1).
والمستشرقون هم: =أدمغة الحملات الصليبية الحديثة، وشياطين الغزو الثقافي للعالم الإسلامي, ظهروا في حلبة الصراع في فترة كان المسلمون فيها يعانون من الإفلاس الحضاري والخواء الروحي وفقدان الذات؛ مما جعل الفرصة سانحة لأولئك الأحبار، والرهبان، وجنود الصليبيين الموتورين كي يثأروا لهزائمهم الماضية، وينفثوا أحقادهم الدفينة+(2).
والمستشرقون يلتقون مع المبشرين في الأهداف؛ فكلهم يهدف إلى إدخال المسلمين في النصرانية، أو رد المسلمين عن دينهم، أو _في الأقل_ تشكيكهم بعقيدتهم, كما أن من أهدافهم وقف انتشار الإسلام.
خصائص الاستشراق: أما خصائص الاستشراق فيمكن إيجازها فيما يلي(3):
1_ أنها دراسات ذات ارتباط وثيق بالاستعمار الغربي.
2_ أنها دراسات ذات ارتباط وثيق بالتنصير.
3_ أنها دراسات تسهم في صنع القرار السياسي في الغرب ضد الإسلام والمسلمين.
وسائل المستشرقين(4): سلك المستشرقون لتحقيق أهدافهم وسائل عديدة منها:
1_ تأليف الكتب، وإصدار المجلات، وإلقاء المحاضرات في الجامعات والجمعيات العلمية عن الإسلام، والقرآن العظيم, والسنة المطهرة، وتاريخ المسلمين وتراثهم.
__________
(1) _ انظر رؤية إسلامية للاستشراق _ أحمد عبد الحميد غراب ص 7.
(2) _ العلمانية ص 453.
(3) _ رؤية إسلامية للاستشراق _ أحمد عبد الحميد غراب ص 8_9.
(4) _ انظر رؤية إسلامية لغراب وسموم المستشرقين لأنور الجندي.(1/116)
2_ إنشاء الجمعيات والمراكز لخدمة الاستعمار الغربي، ومن هذه الجمعيات الجمعية الآسيوية الفرنسية، والجمعية الآسيوية الملكية البريطانية، والجمعية الشرقية الأمريكية، ومعهد الشرق الأوسط، ورابطة الدراسات الشرق أوسطية.
3_ شراء العديد من الصحف المحلية من بلاد المسلمين إضافة إلى المجلات التي يصدرونها.
4_ عقد المؤتمرات لإحكام خططهم.
5_ تأليف الكتب والموسوعات المليئة بالدس والكيد للإسلام والمسلمين كدائرة المعارف الإسلامية، وكتاب المنجد.
6_ إرسال البعثات، وإنشاء الكليات والمراكز في العالم الإسلامي مستترة باسم العلم والخدمات الإنسانية, وهي في حقيقتها أوكار لتغريب أبناء المسلمين، وترويج لأفكار المستشرقين.
7_ جمع الحقائق عن الشرق وهي التي يمكن أن تكون لها أهمية في أوربا وجعلها مجالاً للتخصص العلمي.
خلاصة جهود المستشرقين(1):
للمستشرقين جهود كبيرة تتلخص فيما يلي:
1_ الطعن في حقيقة الإسلام وحقيقة القرآن: فقالوا عن الإسلام إنه تطوير محرف لليهودية والنصرانية، أو هو جزء من تولد مجموعة الأديان الشرقية تولد من احتكاك الوثنية العربية بأديان فارس والهند، وإن القرآن من وضع محمد "أو هو من إملاء راهب نسطوري.
2_ الطعن في نبي الإسلام محمد ": ودليل ذلك أن مارت جليوت _ وهو من أئمتهم _ يقول في فصل له منشور في موسوعة تاريخ العالم: إن محمداً "رجل مجهول النسب؛ لأنه محمد بن عبد الله وكان العرب يطلقون على من لا يعرفون نسبه اسم عبد الله.
__________
(1) _ انظر العلمانية ص 554 إلى ص 557, والولاء والبراء د.محمد بن سعيد القحطاني ص 413، والإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين الفصل الرابع، والخامس، والسادس، ورؤية إسلامية للاستشراق ص 16_ 24, ومقال د.محمد بن صامل السلمي في مجلة البيان العدد 20 ص 64_69، والعدد 21 ص 68_ 76.(1/117)
أوليس منبع هذا هو الحقد الصليبي لا الروح العلمية المتجردة؟ وإلا كيف يشكك في تلك الحقائق البديهية المُسَلَّمة؟ وكيف يقال هذا الكلام ورسول الله "من قوم لا يعرفون شيئاً كما يعرفون الأنساب، ولا يعتزون بشيء كاعتزازهم بالأنساب؟!
3_ القول بأن الإسلام استنفد أغراضه: وهي دعوى تأتي في صور شتى, منها وصف الإسلام بأنه دعوة أخلاقية جاءت لإنقاذ المجتمع العربي من عاداته السيئة كعبادة الحجارة، ووأد البنات، والسلب، والنهب، وشرب الخمر..إلخ.
وتارة بأنه حركة اجتماعية تهدف إلى تغيير البنية الاجتماعية القبلية، بحيث تكون تركيباً اجتماعيا قومياً منحصراً للعرب, إلى غير ذلك من الدعاوى.
4_ القول بأن الإسلام طقوس وشعائر روحية: فلا دخل له بأمور الحياة والحكم والحياة الاجتماعية والسياسية.
5_ القول بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني: وهي دعوى مركبة على الدعوى السابقة وهدفها إسقاط توحيد الألوهية من جهة، وتهوين شأن الأخذ من القوانين الوضعية من جهة أخرى؛ فما دام الفقه القديم مستقى من أصول أوربية فما المانع اليوم من الاقتباس من القوانين الأوربية كالقانون السويسري أو الفرنسي؟
6_ الادعاء بأن الشريعة الإسلامية لاتتلاءم مع الحضارة: وهذه الدعوى تقوم على استغلال الشعور بالنقص عند بعض المسلمين.
7_الدعوى إلى نبذ اللغة العربية وهجر أساليبها والدعوى إلى اللهجات العامية: حيث قالوا: إن اللغة العربية غير مناسبة للعصر, وحروفها وتراكيبها معقدة.
والهدف من وراء ذلك معروف وهو الهجوم على العقيدة والقرآن عن طريق مهاجمة اللغة العربية؛ إذ كيف يتصور أن يقرأ الناس القرآن الكريم وهم لا يعرفون اللغة العربية؟
بل إن تراث هذه الأمة من كتب السلف كيف يصنع به؟
ثم إن اللهجات العامية التي يريدون هل هي لهجة واحدة محددة؟ لا بل إن كل قطر له لهجة خاصة, وهذه الدعوى لا يخفى أثرها في تفكيك الروابط بين المسلمين.(1/118)
وما قام به ولكوكس الذي استمر من عام 1882م حتى عام 1932م يدعو للعامية ويؤلف بالعامية, وما قام به سبيتا والقاضي ولمور _ شاهد على ذلك.
8_ إثارة ما يسمى بتحرير المرأة: وهي دعوى يهدف من ورائها إلى تحطيم القيم، والأخلاق، والأسر، ونشر الإباحية، والانحلال.
9_ التهوين من شأن الحضارة الإسلامية، وتشويه التاريخ الإسلامي: وشاركهم في ذلك تلاميذهم وقد استخدموا في ذلك وسائل عديدة منها:
أ_ اختلاق الأخبار، وإبراز المثالب.
ب _ استخدام المنهج العلماني _اللاديني_ في البحث والنقد.
ج _ التفسير الخاطئ والفهم العجيب للنصوص.
د _ الاعتماد على مجرد الهوى في النقد والتحليل للحوادث التاريخية.
هـ _ عرض جانب من الحقيقة، ووضع الخبر في غير سياقه الصحيح.
و_ إضعاف دراسة التاريخ الإسلامي، ومزاحمته بغيره.
ز_ جعل واقع المسلمين في العصور المتأخرة الصورة الحقيقية لتعاليم الإسلام.
ح _ تجاهل الترتيب الصحيح لمصادر التاريخ الإسلامي؛ فهم يرجعون _ على سبيل المثال _ إلى كتب السمر وكتب الأدب كالأغاني، والحيوان، والمستطرف وغيرها من كتب الطرائف التي لم يقصد مؤلفوها تدوين الحقائق التاريخية بقدر ما قصدوا التسلية وتغذيه المجالس بينما نجدهم يغفلون كتباً من أوثق الكتب بما تضمنت من الحقائق التاريخية مثل كتب الحديث، وكتب الفقه التي تذكر السوابق التاريخية التي وقعت من القضاة والفقهاء, وكتب السير والتراجم؛ فهم يصححون ما في كتب الأدب والتاريخ، ويكذبون ما يرويه مالك والبخاري وغيرهما.
10_ بعث الحركات الهدامة والطوائف الضالة وتضخيم أدوارها: وهذا العمل جزء من تشويه التاريخ الإسلامي؛ فقد اهتموا بالطوائف الضالة كالمعتزلة، وسائر فرق الباطنية على أنها مرحلة من مراحل الفكر الحر أو حرية الفكر.
كما حفلوا في كتبهم ككتب إخوان الصفا, واعتنوا بالشخصيات الضالة كالحلاج، وعبد الله بن سبأ، وعبد الله بن ميمون القداح، والحاكم بأمر الله العبيدي وغيرهم.(1/119)
11_ نبش الحضارات القديمة وإحياء معارفها: كالحضارة الأشورية، والفرعونية، والطورانية، وذلك لإحياء النعرات القومية، وتفريق الأمة.
ونجم عن ذلك نتائج خطيرة منها تحسين سمعة الجاهلية, وتمجيد طواغيتها، وقطع صلة الأمة بماضيها الحقيقي، أو على الأقل إشغالها عنه.
نماذج من أسماء أشهر المستشرقين:
المستشرقون كثر، وهم متفاوتون في حماسهم لأداء رسالتهم، ومتفاوتون في آثارهم وأثرهم، ومن هؤلاء على سبيل الإيجاز ما يلي(1):
1_ بطرس المحترم: من أشهر رجال الدين المسيحي المعروفين بالعداوة الشديدة للإسلام في أوربا في القرون الوسطى، توفي عام 1156م وقد قام بدور من أخطر الأدوار في تاريخ الاستشراق والتنصير؛ فهو راهب ولاهوتي فرنسي, ترقى في سلك الرهبنة حتى أصبح رئيساً لدير كلوني في فرنسا.
2_ سنوك هرجر ونية: مستشرق هولندي تمثل حياته ونشاطاته بكل وضوح العلاقة بين الاستشراق والتنصير.
وقد ولد سنة 1857م لأب قسيس، ودرس اللاهوت المسيحي في كلية أنشأت خصيصاً لإعداد القسس, ثم درس اللغة العربية والإسلام, وكانت رسالته للتخرج عن الحج إلى مكة، وقد توفي سنة 1936م.
3_ صمويل زويمر: وقد عُرف القسيس الأمريكي صمويل زويمر منصراً أكثر مما عُرف مستشرقاً، ولكنه في الحقيقة قد جمع بينهما في نشاطاته العلمية والأكاديمية, ومن أهم إنجازاته تأسيسه لمجلة العالم الإسلامي وهي أخطر مجلة تنصيرية عالمية, وقد رأس تحريرها مدة ست وثلاثين سنة.
__________
(1) _ انظر كتاب رؤية إسلامية للاستشراق من ص 54 إلى آخر الحديث عن المستشرقين.(1/120)
4_ فنسنك: مستشرق هولندي كان يعمل أستاذاً للغة العربية بجامعة ليدن توفي 1939م ينسب إليه أنه صاحب المبادرة إلى مشروع وضع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ويرجع تاريخ الفكرة إلى سنة 1916م وقد خرج المعجم في ثمانية أجزاء ظهر الجزء الأول منها سنة 1936م والأجزاء الأخرى بعد وفاة فنسنك وظهر الجزء الثامن والأخير سنة 1969م وأشرف على إخراج هذا المعجم بعد وفاة فنسنك عدد من المستشرقين، وقد ألفه لتحقيق أهدافه وأراد من ذلك الوصول بسرعة وسهولة إلى الأحاديث واستخدامها للطعن في القرآن والسنة والعقيدة والشريعة وفي الإسلام كله.
5_ ريلاند: هارديان ريلاند (ت 1718م) أستاذ اللغات الشرقية بجامعة أوثرست بهولندا، له كتاب في جزأين اسمه: الديانة المحمدية في جزأين.
6_ دي ساسي: سلفستر دي ساسي ت 1838م، مستشرق فرنسي تعده بعض المؤلفات من المنصفين؛ لأنه اهتم بالأدب والنحو مبتعداً عن الخوض في الدراسات الإسلامية وإليه يرجع الفضل في جعل باريس مركزاً للدراسات العربية, وكان ممن اتصل به رفاعة الطهطاوي.
ومن الواضح أن مجرد الاهتمام باللغة العربية لا يجعل من أي إنسان منصفاً؛ فجميع المستشرقين يشتركون في هذا الاهتمام، بل إن نشأة الاستشراق في الغرب المسيحي ترتبط بالتنصير.
وقد كان هذا المستشرق حلقة وصل بين الاستشراق والسياسة الفرنسية الخاصة بالمسلمين.
7_ إدواردولين: مستشرق إنجليزي عاش في نفس القرن الذي عاش فيه دي ساسي, وقد وصف كذلك بأنه من المستشرقين الذين قاموا بدراسة الشرقيات والإسلاميات بدون تأثير عوامل سياسية واقتصادية أو دينية بل لمجرد حب العلم.
وقد تظاهر خلال إقامته في مصر بأنه مسلم واتخذ له صاحباً مصرياً؛ ليساعده في الاختلاط بالمصريين دون إثارة الشكوك والشبهات حوله.
وله كتاب مشهور من عادات المصريين وأساليب حياتهم نشرته سنة 1836م الجمعية الاستشراقية البريطانية المعروفة باسم الجمعية الآسيوية الملكية.(1/121)
والكتاب يعكس صفات صاحبه هذا وبخاصة صفاته السيئة على الإسلام والمسلمين جميعاً, ولا سيما الجمع بين التدين والشهوانية جرياً على عادة المستشرقين في نسبة النزعة الشهوانية؛ افتراءً على الرسول ".
8_ مرجليوث: إنجليزي متعصب ضد الإسلام ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية) كان عضواً بالمجمع اللغوي المصري والمجمع العلمي في دمشق ومن كتبه (محمد ومطلع الإسلام) وهو من أوائل من شكك في الشعر الجاهلي، وتأثر به طه حسين بعد ذلك.
هذا وقد حقق المستشرقون الكثير من أهدافهم التي يريدون تحقيقها لخدمة مخططاتهم الصليبية اليهودية.
وهم بعيدون _ في الجملة _ عن الموضوعية والإنصاف, أما من أراد منهم الحق وسعى له فإنه لا محالة سيدخل في الإسلام عن رغبة أكيدة وعزيمة صادقة, وكل ما ألفوه من كتب وما نشروه من بحوث لم يكن إلا لخدمة أهدافهم، ولكي يجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق.
=وبالإجمال فالاستشراق في جوهره ليس ظاهرة جديدة، بل هو امتداد لموقف العداوة العقائدية: أي موقف الكافرين بالإسلام من المشركين وأهل الكتاب منذ ظهور الإسلام حتى اليوم , وهو موقف لإنكار الرسالة والتكذيب للرسول " وإثارة الشبهات حول الإسلام وحول القرآن والرسول " بوجه خاص, وذلك لتشكيك المسلمين في دينهم, وردهم عنه,كما قال _تعالى_ : [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ](البقرة:105)+(1).
هذا وقد سار على نهج الاستشراق عدد كبير من المستغربين وقاموا بما لم يقم به المستشرقون أنفسهم.
وخلاصة القول أن من تأثر بالمستشرقين لا يمكن أن يكون ولاؤه ولا براؤه خالصين لأمته إلا من تداركه الله برحمة منه.
__________
(1) _ رؤية إسلامية للاستشراق ص 83.(1/122)
الاحتلال العسكري أو ما يسمى بالاستعمار في العصر الحديث ما هو إلا امتداد للحملات الصليبية التي شنتها أوربا الحاقدة على المسلمين؛ حيث استغلوا ضعف المسلمين، وتخلفهم العقدي الناتج عن كثرة البدع والخرافات كالطواف بالقبور، والتمسح بالعتبات.
كما استغلوا من جهة أخرى اشتغال المسلمين بملذات الدنيا ناسين رسالتهم الحقيقية.
عندئذ تناوحت صيحات النصارى منادية بخطر الإسلام، ووجوب القضاء عليه في عقر داره.
ومن ثم قَدِمَتْ جيوش الاحتلال إلى بلاد المسلمين تقودها عقول غير العقول البربرية الصليبية؛ عقول تتمتع بقسط كبير من الدهاء والخبث، وتعرف _سلفاً_ أن مهمتها أعظم من مهمة أجدادها، وأن نجاح هذه المهمة يتوقف على الدقة في تنفيذ الخطة الجديدة.
وقد قطفت أولى ثمرات الخطة عندما استطاعت أن تحارب جيوش الدولة العثمانية بأناس مسلمين ساروا في ركاب اللورد اللِّنبي حتى فتح القدس(1).
وفي غضون القرن التاسع عشر استطاع الغرب النصراني أن يسيطر تدريجياً على العالم الإسلامي.
ولم تأتِ نهاية ذلك القرن حتى كانت كل أجزاء العالم الإسلامي تقريباً _ في آسيا وأفريقيا _ قد سقطت في براثن الاستعمار الغربي بوجه عام، والاستعمار البريطاني والفرنسي بوجه خاص(2).
أهداف الاستعمار: للاستعمار أهداف كثيرة، يمكن إجمالها فيما يلي:
1_ القضاء على الإسلام والمسلمين.
2_ رد المسلمين عن دينهم وذلك بإدخالهم بالنصرانية، أو تركهم متذبذبين.
3_ الرغبة في إذلال المسلمين.
4_ الانتقام مما حصل للنصارى إبان الحروب الصليبية.
5_ الحد من انتشار الإسلام.
6_ قطع حاضر المسلمين عن ماضيهم.
7_ سلب ثروات بلاد المسلمين وخيراتها، وتسخيرها لأطماع المستعمرين.
أعمال المستعمرين:
سلك المستعمرون في سبيل تحقيق أهدافهم طرقاً شتى، وحققوا نتائج كثيرة.
وتتلخص جهودهم وأعمالهم فيما يلي:
__________
(1) _ انظر العلمانية ص 538.
(2) _ انظر رؤية إسلامية للاستشراق ص 40.(1/123)
1_ احتلال معظم بلاد المسلمين؛ إذ لم يسلم منها إلا ما ندر.
2_ إلغاء المحاكم الشرعية، وإحلال القوانين الوضعية محلها, ولا تكاد جيوش الاحتلال تضع أقدامها على أرض إسلامية حتى تبادر إلى هذا العمل؛ لأنهم يدركون نتائجه؛ فبدأوا بالهند سنة 1791م, ثم الجزائر 1830م, ثم مصر 1838م، ثم تونس1906م, ثم تتابعت بعد ذلك الدول حتى عم ذلك الوباء أكثر بلاد المسلمين.
3_ القضاء على التعليم الإسلامي والأوقاف الإسلامية: وما قام به كرومر ودانلوب في مصر، والمستر كوك في العراق وغيرهم دليل على ذلك.
4_ استخدام الطوائف المنحرفة غير الإسلامية وإحياؤها، وهذه الخطوة من أخبث الخطوات، وأعمقها دلالة.
وحيثما حل المستعمرون يقومون بنبش العقائد الميتة، أو تنظيم الطوائف غير الإسلامية، ثم يمهدون لها السبل لتولي المناصب المهمة مستثيرين حقدهم على المسلمين بالزعم بأن الفتح الإسلامي كان استعماراً لهم.
ففي بلاد الشام قام المستعمرون بتمكين النصارى، ودعمهم وتسليمهم المناصب العليا , كذلك قاموا بنبش عقائد الطوائف الباطنية بواسطة المستشرقين، وقاموا بنشر كتبهم كالنصيريين الذين سماهم الاستعمار الفرنسي علويين, واصطنعهم عملاء له، وحثَّهم على الالتحاق بالجيش حتى احتلوا قيادته العليا واستطاعوا أن يتحكموا في الأكثرية المسلمة.
5_ ساعد الاستعمار على قيام طوائف عديدة تهدف إلى هدم الإسلام كالبهائية، والبابية، والقاديانية.
6_ العمل على تدويل بلاد المسلمين إلى دويلات صغيرة؛ لكي تضعف قواها ولا تصمد أمام أعدائها.
7_ العمل على إذكاء العداوة بين تلك الدول.
8_ اصطناع العملاء من أبناء المسلمين: كما قال زويمر: =تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها+.
9_ تنفيذ توصيات المستشرقين والمبشرين، والإشراف على إنجاح مهامهم، وتذليل العقبات التي قد تعترض جهودهم.(1/124)
آثار الاستعمار(1): ترك الاستعمار والاحتلال العسكري آثاراً كبيرة منها:
1_ تَرْكُ الحكم بما أنزل الله في معظم بلاد المسلمين.
2_ إحداث الهزيمة النفسية لدى كثير من المسلمين، وقلة ثقتهم بأنفسهم، وزهدهم بالدين الإسلامي.
3_ إحداث التبعية للغرب، والإعجاب بما عنده، والتقليد الأعمى له.
4_ شيوع الأخلاق المرذولة، وانتشار الفساد والانحلال.
5_ تفتيت الوحدة الإسلامية، وإثارة الفتن والشقاق.
6_ انتشار اللهجات المحلية، وإضعاف اللغة العربية.
7_ فصل المجتمع المسلم عن ماضيه.
8_ التنفير من الفضيلة، ومهاجمة المجتمع المسلم بالكتب الخبيثة.
9_ رفع قيمة الأراذل والأنذال، والحط من قيمة الدعاة والمصلحين، ووصمهم بالألقاب المنفرة.
10_ نشر الأفلام الهابطة، والقصص الداعرة.
11_ التحكم بمصير الشعوب، ونهب ثروات المسلمين.
12_ ضياع الشخصية.
13_ التميع، والتفسخ، وتحطم حاجز النفرة من الكفار، وإضعاف عقيدة الولاء والبراء.
14_ الركون إلى الملذات، والاشتغال بتوافه الأمور.
وكما أنه حصل من جراء الاستعمار آثار سيئة فكذلك حصل بعض الآثار التي انعكست على الأمة بالفائدة، منها:
1_ تنبه المسلمين إلى الخطر المحدق بهم.
2_ انبعاث الغيرة على الدين الإسلامي.
3_ الحرص على تحقيق كتب الأسلاف.
4_ انبعاث الصيحات المنادية للجهاد في سبيل الله.
مع بطلان ما يدين به النصارى من عقائد مخالفة للمنقول إلا أنهم لا يألون جهداً في سبيل نشر باطلهم، وإضلال الناس، وصدهم عن الحق, وصدق الله _سبحانه_ إذ يقول: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ](الأنفال:36).
فما التنصير؟ وما أهدافه؟ وما وسائله؟ وماذا حقق من أعمال؟
__________
(1) _ ارجع إلى كتاب قوى الشر المتحالفة لمحمد محمد الدهان.(1/125)
تعريف التنصير: هو حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر إخفاق الحروب الصليبية؛ بغية نشر النصرانية بين دول العالم الثالث بعامة، وبين المسلمين بخاصة؛ بهدف إحكام السيطرة على هذه الأمم(1).
والتنصير إنما هو امتداد وإكمال لأعمال المستعمرين والمستشرقين؛ فالمنصرون والمستشرقون والمستعمرون أهدافهم واحدة تقريباً وإن اختلفت الطرق.
أهداف المنصرين: للمنصرين أهداف، يمكن إجمالها فيما يلي:
1_ إدخال من استطاعوا من المسلمين في النصرانية: وصدق الله إذ يقول: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ](البقرة:120).
2_ رد المسلمين عن دينهم: وهذا هدف ثان فإن لم يحصل دخولهم في النصرانية فلا أقل من زعزعة إيمانهم وتشكيكهم: [وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا](البقرة: 217).
3_ تحطيم عقيدة الولاء والبراء في نفوس المسلمين: وذلك بهدف كسر حاجز النفرة في نفوس المسلمين؛ لكي يذوبوا في المجتمعات، وتضيع شخصيتهم، ويفقدوا هويتهم، ومن ثم يسهل القضاء عليهم.
4_ إفساد أخلاق المسلمين وعقولهم: وذلك بإغراقهم بتوافه الأمور، وبالشهوات، وإضعاف هممهم.
5_ الحد من انتشار الإسلام.
6_ تشتيت المسلمين وتفريق كلمتهم.
7_ استهلاك جهود العلماء والدعاة في مقاومة أفكار التبشير(2).
8_ القضاء على القرآن ومحوه.
9_ السعي المستمر لإبعاد قادة المسلمين الأقوياء عن استلام الحكم في دول العالم الإسلامي؛ حتى لا ينهضوا بالإسلام.
10_ إفساد المرأة وإشاعة الانحراف الجنسي(3).
أساليب المنصرين ووسائلهم: سلك المنصرون في سبيل نشر باطلهم، وتحقيق أهدافهم طرقاً مختلفة، وأساليب متنوعة ملائمة لكل زمان ومكان, ومن تلك الطرق والأساليب(4):
__________
(1) _ انظر الموسوعة الميسرة ص 159.
(2) _ انظر العلمانية ص 556.
(3) _ انظر قادة الغرب يقولون ص 74_75.
(4) _ انظر العلمانية ص554_ 556.(1/126)
1_ فتح المحاضن والمدارس والكليات والجامعات في أنحاء العالم الإسلامي.
2_ الاهتمام بالريف الإسلامي.
3_ ركزوا على إفساد المرأة، حيث رأى المبشرون أن حجاب المرأة يقف سداً منيعاً دون إفسادها وبالتالي إفساد الأجيال المؤمنة, فبذلوا كل جهودهم لإخراجها من حرزها الذي لم يستطيعوا اقتحامه عليها.
ولا شيء يعدل التعليم في ذلك؛ فاهتموا في تعليمها، وتدرجوا في نزع الحجاب، ونجحوا في ذلك أيما نجاح.
4_ السيطرة على وسائل التربية والتعليم والتوجيه, وجعلوها وسيلة لنشر سمومهم، وتهوين العقيدة الإسلامية في النفوس، وعرض الشبهات حول كمال وصلاحية الشريعة، أو على الأقل الانحراف بهذه الوسائل عن مقاصدها الصحيحة إلى العبث واللهو مع صرف العناية إلى الأطفال، والنفاذ إلى عقولهم.
5_ تحريمُ تحديدِ النسل وتنظيمِه بين شعب الكنيسة, وتشجيعُ تحديدِ النسل وتنظيمه بين المسلمين خاصة وأن أكثر من 65% من الأطباء وبعض الخدمات الصحية هم من شعب الكنيسة(1).
6_ تشجيع قيام المسارح ونشاط حركة ما يسمى بالفن.
7_ مراقبة العالم الإسلامي، والتجسس عليه، وجس نبض الأمة، ورصد الحركات الإسلامية.
وقد ثبتت صلة الإرساليات التبشيرية بدوائر الاستخبارات الدولية, وهذا هو والمتوقع مادامت الغاية واحدة(2).
8_ التنصير الفردي وذلك عن طريق الدعوة الفردية.
9_ التنصير الجماعي وذلك عن طريق الإذاعات التي تبث برامجها بلغات عديدة، وعن طريق أجهزة الإعلام المرئية.
10_ نشر الأراجيف في صفوف المسلمين والعمل على إثارة الشبهات بين المسلمين في بعض القضايا كقضية الحرية، وتطبيق الشريعة، والردة، والجهاد، والحدود، وتعدد الزوجات، والميراث، والرق، والطلاق، والمساواة، وهي شبهات واهية داحضة.
__________
(1) _ انظر ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن النصرانية والتبشير لإبراهيم الجبهان ص 24.
(2) _ انظر العلمانية ص 556.(1/127)
11_ استغلال الأوضاع السيئة في كثير من بلاد المسلمين كأفغانستان والسودان وأفريقيا عموماً.
12_ العمل تحت غطاء الخدمات الاجتماعية.
13_ إنشاء الكنائس.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه صفحات يلقى من خلالها الضوء على طائفة النصيرية، وذلك من خلال المباحث التالية:
-تعريف النصيرية، وسبب تسميتها بذلك، وأسماؤها الأخرى.
-نشأة النصيرية.
-أشهر رجالات النصيرية.
-عقائد النصيرية.
-العلامات التي يعرف بها النصيريون بعضهم بعضاً.
-اليمين عند النصيرية.
-تعاليم النصيرية.
-أعياد النصيرية.
-كتب النصيرية، ونماذج منها.
-طريقة الدخول في عقيدة النصيرية.
-فرق النصيرية.
-عداء النصيرية للمسلمين.
-حكم الإسلام في النصيرية.
أولاً: تعريف النصيرية: هي طائفة باطنية غالية، انبثقت من الشيعة الاثني عشرية في القرن الثالث الهجري على يد رجلٍ يُقال له: محمد بن نصير.
ثانياً: سبب التسمية(1): سميت النصيرية بهذا الاسم نسبة إلى محمد بن نصير النميري الفارسي الأصل الذي عاش في القرن الثالث الهجري؛ فهو الذي أسس المذهب، ودعا إليه، ونظَّم شؤونه.
ثالثاً: أسماء النصيرية الأخرى(2): يُطلق على النُصيرية أسماء أخرى منها:
1_ النميرية: نسبة إلى محمد بن نصير النميري؛ حيث قيل: إنه مولى من موالي بني نمير؛ فنُسب إليهم(3).
2_ المعنوية: لأنهم يقولون في علي بن أبي طالب ÷: إنه هو المعنى، أي الإله؛ فالمعنى رمز للألوهية المجردة عندهم؛ فيُقرون بأنه الإمام في الظاهر، والإله في الباطن(4).
3_ العلويون أو العلوية: نسبة إلى تأليههم عليَّ بن أبي طالب ÷.
__________
(1) _2_3 انظر الحركات الباطنية في العالم الإسلامي عقائدها، وحكم الإسلام فيها د. محمد أحمد الخطيب ص321، والنصيرية د. سهير الفيل ص16_20.
(4) _ انظر النصيرية ص17 و48_58.(1/128)
وهم يحبِّذون هذه التسمية، وقد قيل: إن الفرنسيين أثناء احتلالهم لسوريا عام 1920م أطلقوا عليهم هذا الاسم إما للتمويه وستر حقيقتهم، أو لاستمالتهم، ومكافأتهم، وحفزهم على مزيد من موالاتهم(1).
4_ العلي إلهية: نسبة إلى قولهم بألوهية علي بن أبي طالب ÷.
5_ المؤمنون وأهل التوحيد: فهم يُطلقون على أنفسهم هذا الاسم(2).
6_ الحشاشون: فقد عرفوا في التاريخ بذلك الاسم؛ لأن كبراءهم كانوا يستهوون مريديهم بالتخدير بالحشيش(3).
ويبدو أن هذه التسمية ليست خاصة بالنصيرية فحسب، بل تشمل بعض طوائف الباطنية.
هذه _ بإيجاز _ أسماء النصيرية.
ولعل أكثر هذه الأسماء شهرة هي النصيرية، والعلوية أو العلويون.
النصيرية _ كما مر _ فرقة باطنية غالية، انبثقت من الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وخرجت عنها.
وتكاد المصادر التي تناولت النصيرية بالدراسة والبحث تجمع على أن النصيرية نشأت في القرن الثالث الهجري على يد مؤسسها محمد بن نصير النميري الفارسي الأصل؛ فصارت فيما بعد تُنسب إليه.
هذه هي نشأة النصيرية بإجمال.
أما بسط ذلك فيحتاج إلى نظرة في مسألة الإمامة والغَيبة عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ثم يُتوصل من خلال ذلك إلى كيفية انبثاق النُّصيرية منها.
وبيان ذلك أن يُقال: إن الشيعة سُميت بالإمامية الاثني عشرية؛ لأنهم يرون أن الإمامة ركن من أركان الدين، وأن من لا يقر بها لا إيمان له، وأن الإمامة منصب إلهي كالنبوة، وأنها ثبتت لعلي ÷ بعد النبي " وأن الإمامة منصوص عليها من الله _ عز وجل _ وأن الأئمة معصومون، وأن الأئمة محصورون باثني عشر إماماً، وهم:
1_ علي بن أبي طالب ÷ ولد قبل البعثة بعشر سنوات، واستشهد سنة أربعين.
2_ الحسن بن علي (الزكي) ( 3 _50هـ) .
3_ الحسين بن علي (سيد الشهداء) (4 _61هـ).
__________
(1) _ انظر النصيرية ص18_19.
(2) _ انظر النصيرية ص17.
(3) _ انظر تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص638، والنصيرية ص17.(1/129)
4_ أبو محمد علي بن الحسن (زين العابدين) (38 _95 هـ).
5_ أبو جعفر محمد بن علي (الباقر) (57_114 هـ).
6_ أبو عبدالله جعفر بن محمد (الصادق) (83 _ 148 هـ).
7_ أبو إبراهيم موسى بن جعفر (الكاظم) (128_183هـ).
8_ أبو الحسن علي بن موسى (الرضا) (148_202 أو 203 هـ).
9_ أبو جعفر محمد بن علي (الجواد) (195_220 هـ).
10_ أبو الحسن علي بن محمد (الهادي) (212_254هـ).
11_ أبو محمد الحسن بن علي (العسكري) (232_260هـ).
12_ أبو القاسم محمد بن الحسن (المهدي).
ولكن هل استمرت على النحو الذي ذكروه، وهل سارت في طريقها الذي زعموه؟
الجواب لا؛ لأن إمامهم الحادي عشر _ الحسن العسكري _ توفي سنة 260هـ بلا عقب، كما قاله كبار المؤرخين، واعترفت به كتب الشيعة بأنه لم يُرَ له خلف، ولم يعرف له ولد ظاهر؛ فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه.
ولقد تحير الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري بلا ولد، وتفرقوا _ فيمن يخلفه _ فرقاً شتى، بلغت _ كما قال المسعودي _ عشرين فرقة، أو خمس عشرة فرقة _كما يقول القمي_(1).
=حتى إن بعضهم قال: إن الإمامة انقطعت، وكاد أن يكون موت الحسن بلا عقب نهاية للشيعة والتشيع؛ حيث سقط عموده وهو الإمام+(2).
إلا أن فكرة الغيبة _ غيبة الإمام _ وهي عقيدة يهودية(3) _ =كانت هي القاعدة التي قام عليها كيان الشيعة بعد التصدع، وأمسكت ببنيانه عن الانهيار؛ ولهذا أصبح الإيمان بغيبة ابن الحسن العسكري هي المحور الذي تدور عليه عقائدهم، ودان بها أكثر الشيعة بعد تخبط واضطراب؛ فلم يكن لهم من ملجأ إلا ذلك+(4).
__________
(1) _ انظر منهاج السنة 4/87 و1/113_114 ومسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة د.ناصر القفاري 1/350.
(2) _ مسألة التقريب 1/350.
(3) _ انظر بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود، لعبدالله الجميلي.
(4) _ مسألة التقريب 1/350_351.(1/130)
ومن هنا ادعوا أن للحسن العسكري ولداً، وقالوا: =إنه غاب عن الأعين، وله غيبتان: الغيبة الصغرى، والغيبة الكبرى.
كما كذبوا على جعفر أنه قال: للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة، والغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه+(1).
ولقد اضطربت الشيعة في مسألة غيبة الإمام؛ فهي =في أركان المذهب الشيعي من المسائل التي حيرت كثيراً من الشيعة؛ لشكهم في أمره، وطول غيبته، وانقطاع أخباره+(2).
ولعل هذا الاضطراب في مسألة غيبة الإمام _ يرجع إلى أن الأسباب التي يذكرها الشيعة عِلَّةً لغيبته _ لا يقتنع بها عاقل؛ فالشيعة يعللون سبب غيبته بأنه يخاف القتل، مع أنهم يقولون: بأن الأئمة يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم؛ فكيف يحتجب خوفاً، وأمر الموت بيده؟! (3).
أما مكانه الذي غاب فيه فيزعمون أنه في سرداب سامراء؛ حيث دخل فيه وسيخرج منه في آخر الزمان.
ويرون أنه حي غائب منتظر، وسيعود ليملأ الأرض عدلاً ومعروفاً كما مُلئت جوراً وطغياناً.
وبعد أن شاعت تلك العقيدة _ أي عقيدة الغَيْبَة _ خرج مجموعة من غلاة الشيعة كلٌّ يدَّعي أنه الواسطة بين هذا الإمام الغائب في السرداب _ في زعمهم _ وبين الشيعة.
ومن هؤلاء محمد بن نصير الذي سُمي أتباعه فيما بعد بالنصيرية.
__________
(1) _ الشيعة والتشيع للشيخ إحسان إلهي ظهير ص351_352، وانظر الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام للشيخ منظور نعماني ص146_147.
(2) _ مسألة التقريب 1/254.
(3) _ انظر مسألة التقريب 1/354.(1/131)
ومنذ ذلك الوقت نشأت النصيرية كما نشأت طوائف أخرى كل طائفة اتَّبعت أحد هؤلاء النواب، وأنكرت ما سواه؛ لذلك فإن النصيرية يقولون: إن محمد ابن نصير هو باب الله الذي لم يتَّخذ باباً غيره، وهو بعد غيبة الاسم _ محمد ابن الحسن العسكري _ أصبح هو الاسم _ أي النبي _ فالاسم شخصان: هما المهدي صاحب الزمان، والسيد أبو شعيب محمد بن نصير(1).
وبعد ذلك تطورت النصيرية، وغلا ابن نصير في علي ÷، وقال بالتناسخ، وادعى النبوة، وقال بالإباحية كإباحة نكاح المحارم، ونكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، زعماً منه أن ذلك من التواضع والتذلل في المفعول به، وأنه من الفاعل والمفعول به إحدى الشهوات والطيبات؛ وأن الله لم يُحرِّم شيئاً من ذلك(2).
وهكذا نشأت النُصيرية، وتطوَّرت، إلى أن صارت على ما هي عليه من الباطل، والخرافة _ كما سيتبين خلال المباحث التالية _.
أشهر رجالات النُصيرية (3)
1_ محمد بن نصير: فقد اتفقت الغالبية العظمى من المصادر على أن المؤسس الحقيقي لهذا المذهب هو محمد بن نصير بن بكر النميري.
ويُكنى بأبي شعيب من بني نمير، وهو فارسي من خوزستان.
وكان معاصراً لاثنين من أئمة الشيعة، وهم: علي الهادي الإمام العاشر 214_254، والحسن العسكري الإمام الحادي عشر 230_260هـ.
وكان من أنصار الإمام الحادي عشر، ثم انحرف عنه، ووضع لنفسه ولجماعته مذهبه في الغلو؛ فقيل: إنه ادَّعى النبوة، والرسالة، وغلا في حق الأئمة؛ إذ نسبهم إلى الألوهية.
وقيل: إنه كان إباحياً قد اشتهر بالخلاعة والفجور.
وكانت وفاته سنة 270هـ.
2_ محمد بن جندب: وهو الذي خلف ابن نصير، ولا تكاد المصادر تذكر عنه إلا أنه كان من بلاد فارس.
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص350.
(2) _ انظر الحركات الباطنية ص324.
(3) _ انظر الموسوعة الميسرة الندوة العالمية للشباب ص511_512، وحركات الغلو والتطرف في الإسلام لأحمد الشاذلي ص89_91، والنصيرية د. سهير الفيل ص22_29.(1/132)
3_ الجنبلاني: هو أبو محمد عبدالله بن محمد الجنان من بلاد جنبلا بفارس.
وقد اشتهر بـ: العابد، والزاهد، والفارس.
وقد أجمعت المصادر على أنه ترك بلدته جنبلا، وسافر إلى مصر، وعرض دعوته على الخصيبي، وتمكن من استمالته وجعله يعتنق المذهب النصيري.
وكان الجنبلاني قد ترأس المذهب النصيري في المدة ما بين سنة 235_287هـ.
ومن هنا نلاحظ أن المؤسسين الأوائل لهذا المذهب كانوا من الفرس.
4_ الحسين بن حمدان الخصيبي: فبعد وفاة الجنبلاني تولى زعامة النصيرية تلميذه الخصيبي المولود في مصر سنة 260هـ.
وبعد وفاة الجنبلاني أصبح الخصيبي هو المرجع الأعلى للمذهب النصيري، حيث جعل مقره مدينة بغداد، وأخذ يتجول بين الأتباع، ثم استقرَّ أخيراً في شمال مدينة حلب السورية؛ حيث توفي بها سنة 346، وقيل: سنة 358هـ.
ويُعد الخصيبي واحداً من أكثر زعماء النصيرية حجية في الديانة؛ فهو الشارح، وهو المرسِّخ للمذهب، وإليه يُنسب الشكل النهائي للعقيدة، والصلوات، والأدعية النصيرية، وما إلى ذلك.
وقد ساعده عمره الطويل حيث عاش 260_358هـ، وذكاؤه وقدرته على التأليف في المذهب والتطوير فيه حتى كان يُلقب بـ: شيخ الدين.
5_ شخصيات نصيرية أخرى: هناك شخصيات أخرى أقل ممن ذُكروا، ومنهم محمد علي الجلي، وعلي الجسري، ومنهم سليمان أفندي الأَذَنِي صاحب كتاب الباكورة السليمانية الذي تلقى التعاليم على أيدي النصيرية، ثم تنصر على يد أحد المبشرين، وهرب إلى بيروت، وكشف أسرار الديانة النصيرية؛ فاستدرجوه حتى رجع، فوثبوا عليه، وخنقوه، وأحرقوا جثته.
وكتابه المذكور يكاد يكون مفقوداً، وسترى نقولاً كثيرة منه في الصفحات التالية.
ومن رجالات النصيرية سليمان الأحمد، وسليمان المرشد.
عقائد النصيرية خليط من عقائد شتى، فهي تتألف من عقائد شيعية، ومجوسية، ونصرانية تدور حول الحلول، والاتحاد، والقول بالتناسخ، والتأويل الباطني.
وفيما يلي بيان لشيء من تلك العقائد:(1/133)
1_ القول بألوهية علي بن أبي طالب ÷: فالعقيدة الأساسية عند النصيريين هي تأليه علي ÷ فيزعمون أن علياً إله، أو حلت فيه الألوهية.
وهم _ كذلك _ يؤلفون ثالوثاً من علي ومحمد " وسلمان الفارسي، ويتخذون من ذلك شعاراً يتكون من الحروف الثلاثة (ع _ م _ س).
وهذا الثالوث يفسر عندهم بـ (المعنى والاسم والباب).
فالمعنى: هو الغيب المطلق، أي الله الذي يرمز إليه بحرف (ع).
والاسم: هو صورة المعنى الظاهر، ويرمز إليه بحرف (م).
والباب: هو طريق الوصول للمعنى، ويرمز إليه بحرف (س)(1).
ويزعم النصيريون =أن مسكنَ عليٍّ السحابُ، وإذا مر بهم السحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن.
ويقولون: إن الرعد صوته، والبرق سوطه، وهم من أجل ذلك يعظمون السحاب+(2).
=ومنهم من يعتقد أن علياً حالٌّ في القمر+(3).
ويعتقد النصيرية =أن علي بن أبي طالب قد خلق محمداً، ومحمد قد خلق سلمان الفارسي، وسلمان قد خلق المقداد، والمقداد قد خلق الناس، ولذلك يدعونه رب الناس+(4).
والنصيريون متناقضون =فهم تارة يجعلون علياً إلهاً، وتارةً أخرى يجعلونه شريكاً لمحمد " في الرسالة+(5) ).
=مع أن بعض النصيرية مثل الكلازية لا تقول بربوبية محمد " لأنه في نظرهم لايجوز أن ننسب الربوبية تارة لعلي، وتارة لمحمد.
ولكن الفريق الآخر وهم الشمالية يجيب أن محمداً وعلياً متصلان بعضهما ببعض وليسا منفصلين، وأن الغاية الكبرى هي علي، وأن محمداً _أيضاً_ خالق ولو اعتقدنا بربوبيته فلا نخطئ؛ لأن اعتقادنا واعتقادكم بالثالوث واحد+(6).
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص341.
(2) _ دراسات في الفرق د.صابر طعيمة ص42.
(3) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة د.ناصر العقل، ود.ناصر القفاري ص138.
(4) _ الحركات الباطنية ص321.
(5) _ دراسات في الفرق ص42.
(6) _ الحركات الباطنية ص347.(1/134)
2_ تناسخ الأرواح: يعد القول بالتناسخ =من الدعائم الرئيسة والأركان المهمة في المذهب النصيري، فهذا عندهم بديل البعث والقيامة+(1).
فالنصيرية تؤمن بتناسخ الأرواح =وأن الأرواح عندما تفارق الجسم بالموت تتقمص ثوباً آخر، وهذا الثوب يكون على حسب إيمان هذا الشخص بديانتهم أو كفره بها.
وعلى هذا فهم يرون أن الثواب والعقاب ليسا في الجنة والنار، وإنما في هذه الدنيا+(2).
ويعتقدون أن المؤمن بديانتهم =يتحول عندهم سبع مرات قبل أن ياخذ مكانه بين النجوم+(3).
ومن هنا فإنهم يزعمون أن جميع ما في السماء من الكواكب فهي أنفس المؤمنين الصالحين منهم.
ومن هنا _ أيضاً _ فإنهم يلقبون علي بن أبي طالب بأمير النحل: أي أمير المؤمنين، أو أمير الكواكب والنجوم التي هي أرواح المؤمنين الصالحين+(4).
وأما الأرواح الشريرة فيعتقد النصيريون أنها تحل بالحيوانات النجسة كالكلاب، والذئاب، والخنازير، والقرود، وبنات آوى.
وقد تمسخ هذه الأرواح الشريرة في صور جامدة من معدن وحجر مثلاً، فَتُذاقُ بذلك حر الحديد، والحجر، وبرْدَه؛ فالجبال في معتقدهم: الجبابرة، والطواغيت الذين ظلموا أهل الحق الذين هم في زعمهم النصيرية.
وهناك نوع من أنواع التناسخ والتقمص عندهم وهو اعتقادهم بأن مرتكب الآثام منهم يعود إلى الدنيا بالتناسخ يهودياً، أو نصرانياً، أو مسلماً سنياً.
ويعتقدون _ أيضاً _ بأن الإنسان إذا ارتقى في كفره، وعتوه، وتمرده، وتناهى في ضلاله _ صار إبليساً على الحقيقة لا على سبيل التشبيه والمجاز.
وبناءاً على هذا فإنهم يحكمون على كل من هو ليس بنصيري بأنه إبليس، وقد تدثر بقمصان الآدمية والبشرية(5).
__________
(1) _ النصيرية. سهير الفيل ص76.
(2) _ الحركات الباطنية ص355.
(3) _ دراسات في الفرق ص14.
(4) _ 4 _ 5 _ النصيرية ص 77_ 79.
(5) _ انظر النصيرية ص 77_79.(1/135)
يقول صاحب الباكورة سليمان الأذني(1): =إن النصيرية كافةً تعتقد بأن شرفاء المسلمين الراسخين في العلم إذا ماتوا تَحُلُّ أرواحهم في هياكل الحمير، وعلماء النصارى في أجسام الخنازير، وعلماء اليهود في هياكل القرود، وأما الأشرار من طايفتهم تَحُلُّ أرواحهم في المواشي التي توكل، ولكن الخاصة المشكون في الديانة فبعد موتهم يصيرون قروداً، والممتزجون إما ذو الخير والشر يتقمصون إلى هياكل بشرية عند الطوايف الخارجة عنهم+(2).
ولاشك أن هذا الاعتقاد الباطل _ وهو القول بالتناسخ بكل صوره _ يهدم ركناً من أركان الإيمان، وهو الإيمان باليوم الآخر بما فيه من حساب، وعقاب، وجنة، ونار، وغير ذلك من أمور الآخرة.
وعدم الإيمان باليوم الآخر كفر مخرج عن الإسلام، وقد تظاهرت الآيات على ذلك كما في قوله _تعالى_: [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً] (النساء:136).
3_ معاداة الصحابة: فالنصيريون يقفون من الصحابة _ باستثناء الذين يقدسونهم _ موقف العداء والحقد =باعتبارهم أبالسة ظالمين لعلي _ وخاصة أبا بكر وعمر وعثمان _ فيصبون عليهم اللعنات والشتائم+(3).
ذلك لأنهم يرون أنهم تعدوا على علي، واغتصبوا الخلافة منه؛ لذلك فهم =يبغضون هؤلاء الثلاثة بغضاً شديداً، ويلعنونهم، ويسبونهم بأقسى وأقذع ألفاظ وأساليب اللعن والسباب+ (4).
__________
(1) _ ملحوظة: ما ينقل من الباكورة السليمانية فيه أخطاء نحوية، ولغوية، وأسلوبية، وذلك حسب ما هو موجود في الكتاب، نشر دار الصحوة للنشر _ القاهرة _ الطبعة الأولى 1410هـ، 1990م.
(2) _ الباكورة السليمانية ص96.
(3) _ الحركات الباطنية ص364.
(4) _ 3 _ النصيرية ص110_111.(1/136)
=ولهم في الطعن على أبي بكر وعمر _رضي الله عنهما_ هيام خاص حيث يزعمون أنهما رجسان ملعونان، وهما الجبت والطاغوت، وهما فرعون هذه الأمة وهامانها، وهما أشد أهل النفاق نفاقاً وعداءاً للنبي "، وضرراً للإسلام.
ويزعمون أن أبا بكر هو أب لكل الشرور، وأنه لم يسمَّ صديقاً إلا بعد أن شاهد من النبي " في الغار معجزات أدهشته وحيرته، فأضمر في قلبه: الآن صدَّقتُ يا محمد أنك ساحر عظيم+(1).
ومن شدة حقدهم على عمر ÷ أنهم يحتفلون بعيد مقتله ويسمونه (يوم مقتل دلام _لعنه الله_).
وهذا اليوم هو اليوم التاسع من ربيع الأول من كل سنة.
ثم إن الجهاد عند النصيرية هو ذكر الشتائم على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة(2).
وينقل صاحب الباكورة السليمانية أنه روى عن محمد بن نصير أنه قال: =من أراد النجاة من حر النيران فليقل: اللهم العن فيئة أسست الظلم والطغيان الذين هم التسعة رهط المفسدين الذين أفسدوا وما أصلحوا بالدين الذين هم إلى جهنم سايرين، وإليها صالين، أولهم أبو بكر اللعين، وعمر بن الخطاب الضد الأثيم، وعثمان بن عفان الشيطان الرجيم، وطلحة، وسعد، وسعيد، وخالد ابن الوليد صاحب العمود الحديد، ومعاوية وابنه يزيد، والحجاج بن يوسف الثقفي النكيد، وعبد الملك بن مروان البليد، وهارون الرشيد، خلد عليهم اللعنة تخليد ليوم الوعيد يوم يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، ثم إنك يا علي بن أبي طالب تفعل ما تشاء وتحكم بما تريد+(3).
هذا هو موقف النصيرية ممن نشروا الإسلام في أصقاع المعمورة ومن الذين زكاهم الله في كتابه العزيز في آي كثير منها [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ](الفتح:29).
وقال فيهم الرسول ": =خير الناس قرني ثم الذين يلونهم+(4).
__________
(2) _ انظر الحركات الباطنية ص365.
(3) _ الباكورة السليمانية ص54.
(4) _ رواه البخاري (3651)، ومسلم (1533).(1/137)
ولكن إذا عرف السبب بطل العجب؛ فهؤلاء لم تقم ديانتهم إلا على تعطيل الشريعة، وترك العمل بها، ووجدوا أن الطعن في الصحابة منفذ لذلك.
4_ تعظيم ابن ملجم: ففي مقابل بغض النصيرية للصحابة _رضي الله عنهم_ نجد أنهم يعظمون ويحبون عبد الرحمن بن ملجم _قاتل علي بن أبي طالب ÷_ وتعده النصيرية =أفضل الناس؛ لأنه خلص اللاهوت من الناسوت بقتله، وبذلك تخلص اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره+(1).
ومن هنا فإنهم يُخطِّئون من يلعنه أو يذكره بسوء، فيا لها من مفارقات عجيبة ومتناقضات غريبة! تلك التي يعتقد بها النصيريون أنهم يحبون، ويكرهون، ويمدحون، ويقدحون، ويحاربون، ويسالمون بحسب تقلبات أهوائهم، ورغباتهم، ونزواتهم دون وازع من عقل، أو منطق، أو حتى دين(2).
5_ تعظيمهم للخمر: فللخمر عند النصيرية مكانة خاصة، وهي في نظرهم =مقدسة أيما تقديس؛ لأنها تُقدم بسر النقباء والنجباء خلال دخول الجاهل في أسرار عقيدتهم؛ لذلك يطلقون عليها اسم عبد النور باعتبار أن الخمر خلق من شجرة النور وهي العنب+(3).
=وهي شعيرة مهمة ومقدسة في حياة كل النصيريين؛ فهي ركن مهم من أركان قدَّاساتهم، وأعيادهم، وحفلاتهم+(4).
ولذلك يكثر ذكرها في أشعارهم ومن ذلك =شعر الشيخ إبراهيم الطوسي يمدح به الست زينب:
اسقياني أحبتي واطرباني ... في هوى زينب زين المعاني
اسقياني من الصبوح رحيقاً ... عنقت في دنانها الإرجواني(5)
ومن ذلك _ أيضاً _ قول الشيخ محمد بن كلازو يمدح الخمر:
يا خليلي أن تكون عليلا ... ظامي القلب والفؤاد غليلا
اشرب الخمر إن فيه شفاء ... حيث كان مزاجها زنجبيلا
وإذا ما شربتها وهي صِرْفٌ ... فكل داء يعود عنك رحيلا
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص365.
(2) _ انظر النصيرية ص119.
(3) _ الحركات الباطنية ص369.
(4) _ النصيرية ص108.
(5) _ الباكورة السليمانية ص75. يلاحظ أن معظم الأبيات مكسورة ومشتملة على أخطاء نحوية أو لغوية.(1/138)
وإنها في كؤوسها تتلالا ... في الدياجي كأنها قنديلا
إن موسى الكليم حين رآها ... في دجا الليل والركام هطيلا
قال إني آنست جذوة نار ... جانب الطور في ضياء شعيلا
إلى أن يقول:
ثم نوح النبي لما طغى الماء ... شربها فنال خيرا منيلا
وكذا السيد الرسول احتساها ... حين أُلْقِيْ عليه قولاً ثقيلا
قال يا أيها المزمل قم في الـ ... ليل طوعاً ورتل الترتيلا
ناشية الليل أشد وطأ ... وهي للعارفين أقوم قيلا(1)
ومن ذلك قول =إبراهيم شيخ العيدية من سلالة الشيخ يوسف أبي ترخان:
نديمي هات لي الزين من العلكوم يا
عيني ... أنا وإياك نتمشى إلى دير الرهابين
ننادي راهب الرهبان هات الخمر
واسقيني ... ونلقي هذه الأحزان في حكم الملاعين+ (2)
وهكذا تحتل الخمر عندهم هذه المكانة، بل إنهم يزعمون أن الله =حللها لهم بصفتهم أولياء الله الذين آمنوا به وعرفوه بشخص: علي، وحرمها على الجاحدين لله المنكرين له _ أي الذين لم يؤمنوا بعلي _ فهي نوع من الأغلال والآصار وضعت عليهم؛ لعدم إيمانهم بعلي+(3).
وما تقديسهم للخمر واستحلالهم لها إلا امتداد لتلك العقائد الباطلة التي يهدف من ورائها إلى تعطيل الشريعة واستحلال المحرمات.
ولذا نجد =تسمية بعض صلواتهم بـ (القدَّاس) إنما يعود إلى تقديسهم للخمر؛ لأن القداس في اعتقادهم هو تقديس الشراب، وشربه بسر النقباء والنجباء+(4).
6_ احتقار المرأة: فالنصيريون يحتقرون المرأة =فهي في نظرهم نوع من أنواع المسخ الذي يصيب غير المؤمن؛ فهي كالحيوان؛ لأنها مجردة عن وجود النفس الناطقة؛ لذلك فهم يعتقدون أن نفوس النساء تموت بموت أجسادهن؛ لعدم وجود أرواح خاصة بهن+(5).
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص81، 82.
(2) _ الباكورة السليمانية ص 94.
(3) _ الحركات الباطنية ص370.
(4) _ الحركات الباطنية ص370.
(5) _ الحركات الباطنية ص 370.(1/139)
وبناء على ذلك =فإن النصيريين لا يُعَلِّمون نسائهم صلوات، ويحرمونهن من ممارسة شعائر الديانة، وطقوسها+(1).
=والمرأة النصيرية لاحق لها في الميراث من والدها لاسيما إذا كان لها إخوة ذكور، ولكن من الممكن أحياناً أن يعطى لها جزءٌ يسيرٌ جداً من التركة على سبيل المساعدة.
وعند الزواج قد تعطى البنت بديلة _ أي أن والدها يزوجها من رجل لقاء أخذ أخته أو بنته لنفسه أو لولده _.
وفي هذه الحالة لا تستفيد البنت من مهرها ألبته؛ لأنها غدت سلعة تجارية للمقايضة+(2).
7_ إباحية نكاح المحارم: فالنصيريون لا يحرمون نكاح المحارم، بل إنهم يقولون بشيوعية النساء، وقد قال عنهم القلشندي: =وهي طائفة ملعونة، مرذولة، مجوسية المعتقد، لا تحرم البنات، ولا الأخوات، ولا الأمهات، قال: ويحكى عنهم في هذا حكايات+(3).
ولما كانت المرأة محتقرة عندهم فإنهم =يستبيحون الزنا بنساء بعضهم بعضاً، لأن المرأة _ بزعمهم _ لا يكمل إيمانها إلا بإباحة فرجها لأخيها المؤمن، وفي ذلك اشترطوا أن لا يباح ذلك للأجنبي، ولا لمن هو ليس داخلاً في دينهم.
وهذا يفسر لنا ظاهرة كون المرأة جزءاً من الضيافة المقدمة عند الدخول في أسرار العقيدة، وكذلك الإباحية المطلقة التي تظهر خلال أعيادهم الكثيرة كالنوروز، والميلاد، وغيرهما؛ حيث تدار كؤوس الخمرة، ويختلط الحابل بالنابل من نساء ورجال+(4).
والنصيرية يسمون تقديم النساء للضيف إذا كان من أهل المذهب: الفرض اللازم، والحق الواجب.
يقول صاحب الباكورة السليمانية سليمان الأذني في معرض حوار له مع أحد مرشدي النصيرية، يقول: إنه قال له: =والفرض اللازم، والحق الواجب يجوز لك تقديمُه.
__________
(1) _ النصيرية ص118.
(2) _ النصيرية ص118.
(3) _ دراسات في الفرق صابر طعيمة ص45 نقلاً عن صبح الأعشى للقلشندي 13/50.
(4) _ الحركات الباطنية ص 370_371.(1/140)
ثم بعد أيام قليلة سافرتُ إلى مدينة أنطاكية إلى قرية اسمها وادي الجرب، فصادفت شيخاً من الخاصة، وأضافني عنده، ولما أقبل الليل فرشوا لي فراشاً في موضع غرفةٍ خالية فلما كانت نحو الساعة الثانية وإذا بطارق يطرق الباب، ففتحته وإذا بامرأة دخلت إليَّ، وغلقت الباب، واضطجعت بجانبي وأنا متحيِّر منها ما أعلم ماذا كان غرضها، ثم بعد قليل جعلت تحادثني وقالت: أما تقبل الفرض اللازم، والحق الواجب؟
حينئذٍ جالت في عقلي كلمة الإمام المرشد، وعرفت أن الفرض اللازم والحق الواجب هو تقديم نسائهم لبعضهم.
وفي اليوم التالي كنت أفتكر في نفسي وأقول: إني خاطب بنت إمامهم، وكلما أتاني شيخ منهم فأنا ملتزم أن أقدمها لهُ حسب الفرض اللازم والحق الواجب؛ فهذا أمر عسير جداً، ولا أستطيع قبوله أبداً+(1).
ومن الطبيعي _ أيضاً _ أن ترجعنا هذه العقائد لأقوال المؤرخين عن إباحة المحارم والنساء التي نادى بها ابن نصير في بداية دعوته، وكذلك إباحته لنكاح الرجال بعضهم بعضاً لأن هذا نوع من التذلل+(2).
واستباحة المحارم والإباحية المطلقة معروف عند الباطنية عموماً كالحشاشين =تلامذة الحسن ابن الصباح الذي كان يُخدِّر تابعيه، ويدخلهم إلى جنات ملأى بالنساء؛ ليفرض عليهم ما يريد.
وكذلك القرامطة الذين كان لهم يوم يجتمعون فيه في مكان مظلم رجالاً ونساء، فينكح الرجل أخته، أو أمه، أو أي امرأة تقع في يده+(3).
ولذلك نجد الشاعر علي بن الفضل القرمطي قال قصيدة على منبر الجامع تقطر إباحية وفساداً وتعطيلاً للشريعة ومنها:
خذي الدف يا هذه واضربي ... وغني هزازيك ثم اطربي
تولَّى نبي بني هاشم ... وهذا نبيُّ بني يعرب
لكل نبي مضى شرعه ... وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة ... وفرض الصيام فلم نتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوموا فكلي واشربي
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص108.
(2) _ الحركات الباطنية ص371.
(3) _ الحركات الباطنية ص371.(1/141)
ولا تطلبي السعي عند الصفا ... ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين ... من الأقربين أو الأجنبي
بماذا حللت لهذا الغريب ... وصرت محرمة للأب
أليس الفراس لمن ربه ... وأسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء ... أبيحت فقدست من مذهب(1)
8_ التقية: فهم يتسترون، ويخفون مذهبهم عن غير أهل ملتهم، ويتظاهرون أمام الناس بغير ما يبطنون.
يقول سليمان الأذني صاحب الباكورة: =وأنهم يتظاهرون في جميع الطوايف وإذ لقوا المسلمين يحلفون لهم ويقولون: نحن مثلكم نصوم ونصلي؛ فالصوم يوجهونه على الرضاعة، وإذا دخلوا المسجد مع المسلمين فلا يتلون من الصلاة شيئاً بل يخفضون ويرفعون مثلهم، ويشتمون أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم، ويسمون التظاهر في الطوايف بمَثَلٍ وهو قولهم: إننا نحن الجسد وباقي الطوايف هم لباسٌ؛ فأي نوع يلبس الإنسان لا يضرُّه، ومن لا يتظاهر هكذا فهو مجنون؛ لأنه ليس عاقل يمشي عرياناً في السوق لكني أوضع علامة يُعرف بها المراءي، وهي متى قال: إني بريءٌ من أن أعبد عليّ بن أبي طالب فحينئذٍ يعرف أنه جحد معتقده؛ فلا يمكنه أن يقول هذه الكلمة إلا إن ترك ديانته، أو متى ما باح بصلاته فقد خرج من مذهبه، لأنه هكذا يقول سيدهم الخصيبي: من باح بشهادتنا فحرمت عليه جنَّتنا، وإن قال لكم أحدٌ بيحوا وتبرَّأوا فعجَّلوا بمد أعناقكم+(2).
ويقول صاحب الباكورة في معرض مجادلة لهم: = وصرت أجادلهم، وقلت لهم: إن هذه الديانة مضادة للقرآن؛ لأن القرآن يقول [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ].
__________
(1) _ انظر الحركات الباطنية ص66، وكشف أسرار الباطنية للشيخ محمد بن مالك ابن أبي الفضائل الحمادي اليمني ص55.
(2) _ الباكورة السليمانية ص97.(1/142)
فإن تكن ديانتكم هذه هدى فلماذا تكتمونها وتتجاسرون على احتمال هذه اللعنة، ثم اعلموا _ أيضاً _ أن كل إلهٍ يأمر بكتمان عبادته عن الناس لا يكون ذلك إلا لإحدى غايتين: إما أنه يخاف من إله غيره، ويخشى قصاصه، أو أنه يكون غشاشاً، وهذا لا يليق بخالق الناس أن يخاف خليقته، أو أن يغشهم حاشا الإله العادل أن يشرع هذه الشريعة الفاسدة.
ومن هذه لا يقتضي أن يعذب الذين لا يؤمنون به وإن عذبهم يكون إلهاً ظالماً ما أغلظ هذا الكفر العظيم الذي تكاد السموات والأرض تتزعزع منه+(1).
9_ التأويل الباطني: التأويل الباطني، أو القول بأن نصوص الشرع لها ظاهر، وباطن هو أحد مرتكزات العقيدة النصيرية، ويزعم النصيرية أنهم وحدهم هم العالمون ببواطن الأسرار والأمور.
وفي اعتقاد النصيرية أن معرفة المراتب ظاهراً وباطناً هو ذروة العبادة، وتُغْنيهم عن الفروض والعبادات؛ لأنها في نظرهم أغلال للجاهلين والمقصِّرين(2).
فالنصيريون يرون أن =من عرف الباطن سقط عنه عمل الظاهر، وخرج من حد المملوكية ورق العبودية إلى حد الحرية+(3).
ومن هذا المنطلق ذهب النصيريون إلى تأويل العبادات كلها تأويلاً بعيداً عن فهم العقل، ومنطق اللغة، ومنهج الدين.
_ وإليك بعض تأويلاتهم:
أ_ الشهادة: التي هي أول ركن من أركان الإسلام ماهي عند النصيرية؟
=هي أن تشير إلى صيغة (ع _ م _ س) التي هي رموز لـ (علي بن أبي طالب÷، ومحمد "، وسلمان الفارسي ÷ على الترتيب+(4).
ب _ الصلاة: التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين ما هي عند النصيرية؟
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص109_110.
(2) _ انظر الحركات الباطنية ص349.
(3) _ 4 _ النصيرية ص87.(1/143)
=يزعمون _إجمالاً_ أنها معرفة النصيريين بأسرار دينهم، وهذا لا يكون إلا بالولاء لخمسة أشخاص هم: علي، ومحمد، والحسن، والحسين، وفاطمة التي يدعونها بـ فاطر، وهؤلاء الخمسة معروفون في المذهب النصيري بنعت _ الخمسة المصطفون _ أو يُذكرون بدلاً من محمد مُحسناً+(1).
ج _ الصيام: الصيام المفروض عندهم هو كتمان أسرارهم، وهو _ أيضاً _ حفظ السر المتعلق بثلاثين رجلاً تمثلهم أيام رمضان، وثلاثين امرأة تمثلهن ليالي رمضان؛ فمعرفة هذه الأسماء الستين وتلاوتها يُجْزيهم عن الصيام(2) ).
د _ الزكاة: أما الزكاة عندهم فهي رمز لسلمان الفارسي؛ فمجرد ذكر سلمان الفارسي يغني عن دفع الزكاة(3).
هـ _ الحج: أما الحج فيزعمون أن جميع مناسكه وشعائره ما هي إلا رموز لأشخاص معينة، وما الحج عندهم إلا مجرد التوصل إلى معرفة الأشخاص بأسمائهم(4).
يقول سليمان الأذني صاحب الباكورة السليمانية في تفسير السورة الرابعة عشرة واسمها البيت المعمور =اعلم أن هذه السورة قد رتبها سلفاؤهم بإقامة الحج وهو أن البيت المأمور في القرآن زيارته، وأركان البيت وسقفه وحيطانه هو كناية عن معرفة أولئك الأشخاص كقول الشيخ إبراهيم الطوسي في عينيته:
أيا قلب بيت الله وهو حجابه ... وأما الصفي المقداد للضد قامع
ومروة مذكور أبو الدر شخصها ... شعايره سلسل إلى الذات خاضع
وعتباته الحآت أيا قلب شخصها ... وحلقة باب البيت جعفر طالع
البيت هو: الحجاب السيد الميم، والصفي هو: المقداد، والعتبتان هما: الحسن والحسين، وحلقة الباب هي: معرفة جعفر الصادق، والمروة: معرفة أبي الدر، والمشعر الحرام: معرفة سلمان الفارسي، ويوجد ذلك مصرحاً في أكثر كتبهم، ومعرفة هؤلاء الأشخاص هو نهاية حجهم ومعنى معرفتهم.
وأما سعي المسلمين إلى مكة فهو باطل عندهم ومذموم كما قال بعض شيوخهم في هذا المعنى:
__________
(1) _ 2 _ انظر النصيرية ص 87_89.
(3) _ انظر النصيرية ص89.
(4) _ انظر النصيرية ص89.(1/144)
ولقد لعنت لمن يحرم شربها ... وجميع أهل الشام والحجاج(1)
و_ الجهاد: أما الجهاد عند النصيرية فهو على نوعين ذكرها صاحب الباكورة السليمانية =أولها الشتائم على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وعلى جميع الطوائف المعتقدين بأن علي بن أبي طالب أو الأنبياء، أكلوا، أو شربوا، أو تزوجوا، أو ولدوا من نسائهم؛ لأن النصيرية يعتقدون بأنهم نزلوا من السماء بدون أجسام، وأن الأجسام التي كانوا فيها إنما هي أشياء، وليست هي بالحقيقة أجسام.
والنوع الثاني إخفاء مذهبهم عن غيرهم، ولا يظهرونه ولو أصبحوا في أعظم خطر، ولو خطر الموت+(2).
ز_ الجنابة: =هي موالاة الأضداد والخصوم، والجهل بالعلم الباطني+(3).
ح _ الطهارة: =هي معاداة الأضداد والخصوم، ومعرفة العلم الباطني+(4).
يقول الدكتور محمد الخطيب معلقاً على تلك التأويلات الباطنية: =وهكذا نتبين أن جميع الفرائض والعبادات الإسلامية لا اعتبار لها عند هذه الطائفة بأفعالها وأعمالها الظاهرة، وإنما ذِكْر بعض الأشخاص يغني عن كل هذه الأعمال التي يقوم بها الجهلة المقصرون من أهل الظاهر.
وهذا يفسر لنا عدم وجود المساجد في قراهم ومدنهم حيث يقيمون الصلاة في أماكن خاصة وسرية؛ لأن الصلاة _ كما ذكرنا _ من قبل لا تؤدى وفق الأسلوب المعروف عند المسلمين، ولكنها مجموعة رموز تدل على أشخاص معينين يرددها النصيري في مواقف العبادة والابتهال+(5).
ويضيف قائلاً: =ولهذا فهم لا يشترطون الطهارة في صلاتهم هذه؛ فالجماع، والاحتلام لا يفسدان الطهارة، وإنما الذي يفسدها موالاة الأضداد والجهل بالعلم الباطني؛ فتكون الطهارة _ إذن _ معاداة الأضداد، ومعرفة العلم الباطني+(6).
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص40_41.
(2) _ الباكورة السليمانية ص34_35.
(3) _ 2 _ النصيرية د. سهير الفيل ص91.
(5) _ 4 _ الحركات الباطنية ص 392_393.(1/145)
ط _ يوم القيامة: =أما يوم القيامة عندهم فهو ظهور القائم (محمد بن الحسن العسكري) الذي يقتل جميع أعدائهم+(1).
قال صاحب الباكورة السليمانية: =وأما العلامة التي بها يعرف بعضهم بعضاً فهي إن أتى غريب إلى بين النصيرية يسألهم ويقول: لي قريب فهل تعرفونه؟ فيجيبون: ما اسمه؟ الحسين، فيجيبونه: ابن حمدان، فيقول: الخصيبي.
والعلامة الثانية: يقولون للغريب: شاش عمك كم دور؟ فإن أجاب: ستة عشر يقبلوه.
العلامة الثالثة: إن عطش عمك من أين تسقيه؟ الجواب: من عين العلوية.
العلامة الرابعة: إن غاط عمك فماذا تهديه؟ الجواب: لحية معاوية.
العلامة الخامسة: إن ضاع عمك فأين تلاقيه؟ الجواب: بالنسبة.
العلامة السادسة: أربعة وأربعتَين وثلاثة واثنين وقدرهم مرتين في دينك أين؟ الجواب: بالمسافرة.
سؤال اقسم لي ايَّاهم جواب منهم سبعة عشر عراقي، وسبعة عشر شامي وسبعة عشر مخفي سؤال أين يوجدون؟ جواب: على باب مدينة حرَّان، سؤال: ما يعملون؟ جواب: يأخذون بالحق ويعطون بالحق+(2).
قال صاحب الباكورة السليمانية: =أما اليمين عند النصيرية كافَّة فهي أن تضع يدك في يده، وتقول: احلفك بأمانتك عقد علي أمير المؤمنين وبعقد ع م س، فلا يمكنه بعد هذا اليمين أن يكذب.
و _أيضاً _ بلّ أصبعك بريقك، واجعلها في عنقه، وتقول تبريتُ من خطاياي وأوضعتها في عنقك وأحلفك _ أيضاً _ بأساس دينك بسر عقد ع م س أن تخبرني عن صحة أمر كذا، فلا يمكنه الكذب بعد هذا.
وهذه اليمين ثابتة عند الشمالية أكثر من شركائهم، ويظن الحالف بهذه اليمين كاذباً أنه قد أخذ كل خطايا المستحلف له+(3).
تعاليم النصيرية (4)
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص375.
(2) _ الباكورة السليمانية ص98.
(3) _ الباكورة السليمانية ص98.
(4) _ انظر دراسات في الفرق، د. صابر طعيمة ص46_49.(1/146)
أورد الدكتور عبد الرحمن بدوي خلاصة لتعاليم النصيرية، استخلصها من كتيب صغير لهم بعنوان (كتاب تعليم الديانة النصيرية) وهو مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس وهو على طريقة السؤال والجواب، ويتألف من 101 سؤال.
وقد أورد الدكتور صابر طعيمة خلاصة لبعض الأسئلة والأجوبة، على ضوء ما جاءت عند الدكتور عبد الرحمن بدوي، وهي كما يلي:
1_ من الذي خلقنا؟ ... ...
ج _ علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
2_ من أين نعلم أن علياً إله؟
ج _ مما قاله هو عن نفسه في خطبة البيان وهو واقف على المنبر إذ قال: =أنا سر الأسرار، أنا شجرة الأنوار، أنا دليل السموات، أنا سائق الدعوة، أنا شاهد العهد، أنا زاجر القواصف، أنا محرك العواصف، أنا مزن السحائب، أنا حجة الحجج، أنا جوهر القدم، أنا الأول والآخر، أنا الباطن والظاهر، أنا نور الأئمة البررة+.
3_ من الذي دعانا إلى معرفة ربنا؟
ج _ محمد كما قال هو في خطبة ختمها بقوله: =إنه _ أي علي _ ربي وربكم+.
4_ إذا كان هو _أي علي_ الرب فكيف تجانس مع المتجانسين؟ أي اتخذ صورة إنسانية.
ج _ إنه لم يتجانس بل احتجب في محمد في دور تحوُّله، واتخذ اسم علي.
5_ كم مرة تحول ربنا؛ ليتجلى في صورة إنسانية؟
ج _ سبع مرات فقد احتجب:
... أ _ في شخص آدم باسم هابيل. ...
ب _ وفي شخص نوح باسم شيث.
... ج _ وفي شخص يعقوب باسم يوسف.
... د _ وفي شخص موسى باسم يوشع.
... هـ _ وفي شخص سليمان باسم آصف.
... و _ وفي شخص عيسى باسم باطرة.
... ز _ وفي شخص محمد باسم علي.
6_ كيف احتجب هكذا ثم ظهر؟
ج _ هذا سر تحوله الذي لا يعلمه إلا الله _ تعالى _ كما قال هو.
7_ هل سيظهر مرة أخرى؟
ج _ نعم كما هو بدون تحول في مجده وجلاله.
8_ ما الظهور الإلهي؟
ج _ هو ظهور الباري بواسطة الاحتجاب بالإنسانية، وألطف غلاف في جوف غلاف.
9_ وضح هذا أكثر؟
ج _ لما دخل (المعنى) في (الباب) احتجب (بالاسم) واتخذه لنفسه كما قال مولانا جعفر الصادق.(1/147)
10_ لكن ما (المعنى) وما (الاسم) وما (الباب)؟
ج _ هؤلاء الثلاثة لا ينفصلون كما في قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم؛ فالله هو (المعنى) والرحمن هو (الاسم) والرحيم هو(الباب) وهكذا...
11_ ما القرآن؟
ج _ هو البشرى بظهور مولانا في صورة بشرية.
12_ من الذي علم محمد القرآن؟
ج _ مولانا الذي هو (المعنى) على لسان جبريل.
13_ هل يحق للمؤمن أن يبوح لإنسان آخر بسر الأسرار؟
ج _ لا يبوح به إلا لإخوانه في الدين وإلا باء بسخط الله.
14_ ما هو القدَّاس الأول؟
ج _ هو الذي يقام قبل دعاء النوروز.
15_ وما دعاء النوروز؟
ج _ تقديس الخمر في الكأس.
16_ مَنْ مِن شيوخنا نشر الدعوة في كل البلاد؟
ج _ أبو عبد الله الحسين بن حمدان.
17_ لماذا نسمى نحن باسم (الخصيبية)؟
ج _ لأننا نتبع تعاليم شيخنا أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي.
للنصيرية أعياد كثيرة، يقول عنها الدكتور محمد الخطيب: =وأما أعيادهم فيمكن تقسيمها إلى: إسلامية، وشيعية اثني عشرية، ونصرانية، وفارسية.
وهذا يبين أن النصيرية تتكون من عناصر غير متجانسة، وهياكل اعتقادية مختلفة استقت منها ومن غيرها عقائدها وتقاليدها، بينما نرى هذه الطائفة تحتفل بعيدي الفطر والأضحى نراها تذهب بعيداً بعد ذلك وتحتفل بعيدي الميلاد والبربارة النصرانيين+(1).
وأهم تلك الأعياد عندهم ما يلي(2):
1_ عيد الغدير: ويحتفلون به في 18 من ذي الحجة، وهو عيد عند الشيعة عامة، وسبب اتخاذهم هذا اليوم عيداً ما ذكروه من مؤاخاة النبي " يوم غدير (خُمّ) وهو غدير على ثلاثة أميال من الجحفة حول شجر كثير، وهي الغيضة التي تسمى (خماً)، وذلك في أثناء رجوعه من حجة الوداع؛ حيث نزل بالغدير وآخى بين الصحابة، ولم يؤاخ بين علي وأحد منهم؛ فرأى النبي " منه انكساراً، فضمه إليه وقال: =أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي+.
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص410.
(2) _ انظر دراسات في الفرق ص 49_51.(1/148)
والتفت إلى أصحابه وقال: =من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه+(1).
وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة، وقد ذكر المحققون من رجال الحديث أن عبارة =اللهم وال من والاه وعاد من عاداه+ كذب، ودعاء النبي " مستجاب، وهذا الدعاء ليس بمجاب؛ فقد قاتل علياً من كان من السابقين ممن بايع تحت الشجرة، فعلم أن هذا الدعاء ليس من دعاء النبي "(2).
وأحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة، والنبي " لم يؤاخ أحداً ولا آخى بين مهاجري ومهاجري، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة، أما قوله " =أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي+(3) ) فقد قاله في غزوة تبوك ولم يتكرر منه.
2_ عيد الفراش: ويحتفلون به في ذكرى مبيت علي ÷ في فراش النبي " حيث تآمرت قريش على قتل النبي ".
3_ عيد عاشوراء: وذلك في العاشر من محرم شأنهم في ذلك شأن سائر الشيعة، وهو ذكرى مصرع الحسين بن علي ÷ في كربلاء.
ولكن النصيرية يعتقدون أن الحسين لم يمت، بل اختفى مثل عيسى بن مريم _ عليه السلام _.
4_ عيد النيروز: أي اليوم الجديد بالفارسية، ويحتفلون به طول الربيع، وهو عيد فارسي الأصل قيل: إنه اليوم الذي خلق فيه النور، وبعضهم يزعم أنه أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران، والنصيرية يحتفلون به.
5_ عيد المهرجان: ويحتفل به في أول الخريف، وهو عيد فارسي كذلك.
__________
(1) _ انظر إلى كلام ابن تيمية عن حديث الغدير في منهاج السنة ج7ص313، وما بعدها، والإمامة في ضوء السنة عند الجعفرية د. علي السالوس، والشيعة من خلال كتب أهل السنة للمؤلف، مبحث _أخبار الغدير_ (مخطوط).
(2) _ انظر منهاج السنة ص318 ج7، ودراسات في الفرق ص49_51، وأضواء على دراسة السيرة صالح الشامي ص109.
(3) _ أخرجه البخاري (3706،4416)، ومسلم (2404).(1/149)
6_ عيد الميلاد: في الليلة الرابعة والعشرين من كانون أول وهي آخر السنة الرومية.
7_ أعياد شعبية: وهي أعياد نصرانية الأصل مثل عيد القامة أو الفصح، وعيد الغطاس، وعيد السعف، وعيد العنصرة.
وقد قام أحد رؤسائهم أبو سعيد الطبري بتأليف كتاب حول هذا الموضوع أسماه (مجموع الأعياد) وقد أورد الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه مذاهب الإسلاميين عنوانات فصول هذا الكتاب وأنموذجاً من مواضيعه، ومن تلك العناوين التي ذكرها:
1_ أخبار شهر رمضان وما ورد فيه عن الموالي منهم السلام.
2_ دعاء شهر رمضان.
3_ ذكر عيد الفطر.
4_ خطبة عيد الفطر.
5_ دعاء عيد الفطر.
6_ ذكر عيد الأضحى.
7_ دعاء عيد الأضحى.
8_ خطبة عيد الأضحى.
9_ أخبار يوم الغدير.
10_ ذكر عيد الفراش.
11_ عيد المباهلة.
12_ ذكر عيد عاشوراء.
13_ في معرفة يوم كربلاء وما رواه رجال التوحيد، ويتلوه قصائد لأبي عبدالله الخصيبي.
14_ مقتل دلام _ لعنه الله _.
15_ دعاء مقتل دلام.
16_ دعاء ليلة الميلاد.
17_ خبر المهرجان والنوروز.
إلى غير ذلك من الأعياد التي ذكر(1).
=ومما يذكر أن النصيريين في هذه الأعياد يقدمون الخمور والنبيذ ويخرجون مع نسائهم وأطفالهم إلى خارج مدنهم وقراهم، بين الأشجار، والبساتين، حيث تتحول هذه الأعياد بعد ذلك إلى مهرجان للفسق والدعارة+(2).
كما مر بنا أن العبادات، والفرائض عند النصيرية تعني =ذكر بعض الأشخاص المقدسين لديهم في قداسات، وأذكار، تؤدى في مواقف معينة.
وفي هذه القداسات والأذكار يتضح لنا تأليه علي بن أبي طالب، وكذلك تقديس الحروف الثلاثة (العين، والميم، والسين).
والحقيقة أن مفهوم كلمة (قدَّاس) يدل على تأثر النصيرية بالنصرانية؛ فهذه الكلمة مألوفة تماماً عند النصارى؛ لأنها من جملة الطقوس التي يعتقدون بها.
__________
(1) _ انظر الحركات الباطنية ص412_415.
(2) _ الحركات الباطنية ص415.(1/150)
والنصيرية تقدم أثناء هذه القداسات كؤوس النبيذ والخمر، وهذه القداسات والأذكار لها صفة مقدسة لدى النصيرية؛ لأنها بمثابة الكتب المقدسة عندهم+(1).
ويعلق الدكتور الخطيب على هذه القداسات مبيناً أهمية قراءتها لمن يريد معرفة عقيدة هؤلاء القوم فيقول: =وقراءتها _ في الواقع _ ضرورية لأي باحث منصف، حيث يتبين له بشكل واضح وكامل الهيكل العام لهذه العقيدة، وحقيقتها من خلال كتبهم، ومخطوطاتهم التي لم تستطع النصيرية أن تنكرها+(2).
وقد ذكر صاحب الباكورة السليمانية هذه القداسات منها:
1_ قداس الطيب: وقد جاء فيه: =يا أيها المؤمنون انظروا إلى مقامكم هذا الذي أنتم به مجتمعون، وانزعوا الغل من قلوبكم، والشك والحقد من صدوركم؛ ليكمل لكم دينكم بمعرفة معينكم، ويستجاب منكم دعاؤكم، ويكرم مثواكم مولانا ومولاكم.
اعلموا أن علي بن أبي طالب قائم معكم، وحاضر بينكم، ويسمع ويرى ويعلم ما فوق السماوات السبع، وما تحت الثرى، وهو عليم بذات الصدور العزيز الغفور، إياكم إياكم يا إخوان من الضحك والقهقهة في أوقات الصلاة مع الجهال؛ فإنها بئس الفعال، وتقرب الآجال، وتحبط صالح الأعمال.
ولكن اصغوا واسمعوا لمقال السيد الإمام؛ لأنه قائم فيكم كقيام الفرد الصمد العلي العلام.
إنا مَزَجْنا لكم هذا الطيب على هذه النية كما مُزجت السماوات في السبعة الإمامية في خالص عقد النفوس الجوهرية؛ تنزيهاً للصورة البشرية المرية الأنزعية، طيبوا بها أنفسكم الطاهرة الزكية من سائر الأفعال الردية، لقد خص بها من الميم للسين في كل وقت وحين أليَّا أليَّا فهو علياً إله له الدين الخالص إنما يدعون من دونه باطل، وعبادة المخلوقات هي الرأي العاطل؛ لأنه _ تعالى عز شأنه _ في علو مكانه السميع العليم العلي العظيم+(3).
__________
(1) _ 2 _ الحركات الباطنية ص394.
(3) _ الباكورة السليمانية ص48_49.
_ يلاحظ على القداسات كثرة الأخطاء اللغوية والنحوية.(1/151)
2_ القداس الثاني واسمه قداس البخور =وهو هذا: قداس البخور وروايح تدور في البيت المعمور في محل الْهَنَا والفرح والسرور، قال: إنه كان شيخنا وسيدنا محمد بن سنان الزاهري علينا سلامه يقوم إلى صلاة الجماعة في كل يوم وليلة مرة أو مرتين، ويأخذ بيده ياقوته حمراء، وقيل صفراء، وقيل خضراء تنزيهاً لفاطمة الزهراء، ويبخر الأقداح، وتتم الأفراح، ويبخر بها عبد النور، في وقت الزينة والزهور.
اعلموا يا مؤمنين أن النور محمد، والليل سلمان، بخروا أقداحكم، وأنيروا مصباحكم، وقولوا بأجمعكم: الحمد لله الذي جعل لنا فضله تام، وسره كاتم؛ إنه جواد كريم علي عظيم، آمنوا وصدقوا يا مؤمنين أن شخص عبد النور حلال معكم حرام مع غيركم+ا.هـ. والمراد (بعبد النور: الخمر)(1).
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص49_52.(1/152)
3_ القداس الثالث واسمه قداس الأذان، وهذا هو: =الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وجهت وجهي إلى السيد محمد المحمود، وطالب سره المقصود، وعينه الودود مقراً بالمعرفة والتجليات، ومنزهاً المعنى بالذات هو عين العلوية الذاتية الأنزعية(1) هو المعنى علي المتعال، وأما فاطر ذو الجلال والحسن ذو الكمال، ومحسن سر الخفي المفضال إني عبد يا مؤمنين مقر بما مَرَّ به السيد سلمان في وقت النداء والأذان، أذن المؤذن في المأذنة وبلغ القدم في آذانه وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر أشهد بأن ليس إله إلا علي أمير النحل الأصلع المعبود، ولا حجاب إلا السيد محمد الحميد الآجل الأعظم المحمود، ولا باب إلا السيد سلمان الفارسي المقصود، وأن السيد محمد حجابه المتصل ونبيه المرسل، وكتابه المنزل، وعرشه العظيم، وكرسيه المتين، وأن السيد سلمان سلسل سلسبيل بابه الكريم ونهجه القويم الذي لا يؤتى إليه إلا منه، وسفينة النجاة وعين الحياة حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة صلوا يا معشر المؤمنين تدخلوا الجنة التي أنتم بها موعودين، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح تفلحون يا مؤمنين وتخلصون من كثايف الأبدان وظلمة الأجسام، وتسكنون بين الحور والولدان، وتعاينون مولاكم أمير النحل العلي الكبير الله أكبر الله أكبر مولاكم أمير النحل علي أكبر ممن تكبر، وأعظم ممن تجبر، صمداً لا يرام، عزيزاً لا يضام، قيوماً لا ينام، الله أكبر الله أكبر قد قامت الصلاة على أربابها وثبتت الحجة على أصحابها.
أسألك يا أمير النحل يا علي بن أبي طالب أن تقيمها وتديمها كما دامت السماوات والأرض، واجعل السيد محمد ختامها وصيامها وصلاتها، والسيد سلمان سلامها وزكاتها والمقداد يمينها ومعينها، وأبو الدر شمالها وكمالها، والعالمين سبيلها والمؤمنين دليلها إلى الأبد آمين+(2).
__________
(1) _ الأنزع: صفة لعلي ÷.
(2) _ الباكورة السليمانية ص51_52.(1/153)
هذا وقد ذكر صاحب الباكورة _أيضاً_ ست عشرة سورة هي خلاصة المعتقدات النصيرية، وهذه السور تحمل العناوين التالية:
السورة الأولى ... واسمها الأول
السورة الثانية ... واسمها تقديسة ابن الولي
السورة الثالثة ... واسمها تقديسة أبي سعيد
السورة الرابعة ... واسمها النسبة
السورة الخامسة ... واسمها الفتح
السورة السادسة ... واسمها الجود
السورة السابعة ... واسمها السلام
السورة الثامنة ... واسمها الإشارة
السورة التاسعة ... واسمها العين العلوية
السورة العاشرة ... واسمها العقد
السورة الحادية عشرة ... واسمها الشهادة، والعامة تسميها الجيل
السورة الثانية عشرة ... واسمها الإمامية
السورة الثالثة عشرة ... واسمها الساخرة
السورة الرابعة عشرة ... واسمها البيت
السورة الخامسة عشرة ... واسمها الحجابية
السورة السادسة عشرة ... واسمها النقيبية
وإليك نماذج من بعض تلك السور:
السورة الأولى واسمها الأول: =قد أفلح من أصبح بولاية الأجلح استفتح بأني عبد استفتحت بأول إجابتي بحب قدس معنوية أمير النحل علي ابن أبي طالب المكنى بأبي حيدرة أبي تراب فيه استفتحت، وفيه استنجحت، وبذكره أفوز، وفيه أنجو، وإليه ألجأ، وفيه تباركت، وفيه استعنت، وفيه بدأت، وفيه ختمت بصحة الدين وإثبات اليقين(1)...إلخ+.
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص18.(1/154)
السورة الثالثة واسمها تقديسة أبي سعيد:=أسألك يا مالك الملك يا أمير النحل يا علي يا وهاب يا أزل يا تواب يا داحي الباب، أسألك بالخمسة المصطفية والستة التجلية بالسبعة الكواكب الدرية بالثمانية حمالة العرش القوية، وبالتسعة المحمدية، وبالعشر دجاجات الذكية، وبالأحد عشر مطالع البابية، وبالاثني عشر سطر الإمامية بحقهم عندك يا غاية الكلية، يا أمير النحل، يا صاحب الدولة العالية، يا من أنت الأحد، واسمك الواحد، وبابك الوحدانية، يامن ظهرت في السبع قباب الذاتية _ بأن تجعل قلوبنا وجوارحنا ثابتة على معرفتك الزكية وخلِّصنا من هذه الهياكل الناسوتية، ولبسنا القمصان النورانية بين الكواكب السماوية+(1).
السورة الخامسة واسمها الفتح(2): =إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا. أشهد بأن مولاي أمير النحل علي اخترع السيد محمد من نور ذاته، وسماه اسمه ونفسه وعرشه وكرسيه وصفاته، متصل به، ولا منفصل عنه ولا متصل به بحقيقة الاتصال ولا منفصلاً عنه في مباعدة الانفصال، متصل به بالنور منفصل عنه بمشاهدة الظهور، فهو منه كحس النفس من النفس أو كشعاع الشمس من القرص، أو كدوى المآء من المآء، أو كالفتق من الرتق، أو كلمع البرق من البرق، أو كالنظرة من الناظر، أو كالحركة من السكون، فإن شآء علي بن أبي طالب بالظهور أظهره، وإن شاء بالمغيب غيبه تحت تلالي نوره.
__________
(1) _ الباكور السليمانية ص22.
(2) _ الباكورة ص28_30.(1/155)
وأشهد بأن السيد محمد خلق السيد سلمان من نور نوره، وجعله بابه، وحامل كتابه؛ فهو سلسل وسلسبيل، وهو جابر وجبرائيل، وهو الهدى واليقين، وهو بالحقيقة رب العالمين، وأشهد بأن السيد سلمان خلق الخمسة الأيتام الكرام؛ فأولهم اليتيم الأكبر والكوكب الأزهر والمسك الأذفر والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر المقداد بن الأسود الكندي، وأبو الذر الغفاري، وعبد الله بن رواحة الأنصاري، وعثمان بن مظعون النجاشي، وقنبر بن كادان الدوسي هم عبيد مولانا أمير المؤمنين لذكره الجلال والتعظيم، وهم خلقوا هذا العالم من مشارق الشمس إلى مغربها، وقبلتها وشمالها، وبرها وبحرها، وسهلها وجبلها، ما حاطت الخضراء، وحوت الغبراء من جابلقا إلى جابرصا، إلى مراصد الأحقاف إلى جبل قاف، إلى ما أحاطت به قبة الملك الدوار إلى مدينة السيد محمد السامرة التي اجتمع فيها المؤمنون، واتفقوا على رأي السيد أبي عبد الله ولا يشكون ولا يشركون، ولا في سر على بن أبي طالب يبيحون، ولا يخرقون له حجاباً، ولا يدخلون إليه إلا من باب، اجعل المؤمنين مؤمنين ومطمانين ومؤيدين مجبورين على أعدائهم وأعدائنا منصورين، واجعلنا بجملتهم مؤمنين مؤمَّنين ومطمانين مستورين مجبورين على أعدائنا وأعدائهم منصورين بسر الفتح، ومن فتح الفتح، ومن كان الفتح على يده اليمين بسر سيدنا محمد وفاطر _أي فاطمة_ والحسن والحسين ومحسن سر الخفي وأشخاص الصلوة وعدَّة العارفين علينا من ذكرهم السلام صلوة الله عليهم أجمعين+.(1/156)
السورة الثالثة عشرة واسمها الساخرة(1): =سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم، أصبحنا وسبحنا وأصبح الملك لله، وسبح الملك لله بسم الله، وبالله، وسر السيد أبي عبد الله سر الشيخ وأولاده المختصين الشاربين من بحر (ع.م.س) فهم واحد وخمسون منهم سبعة عشر عراقياً، وسبعة عشر شامياً، وسبعة عشر مخفي، وهم واقفون على باب مدينة حران يأخذون بالحق، ويعطون بالحق ومن يتدين بديانتهم، ويعبد عبادتهم وفقه الله إلى معرفته، ومن لا يتدين بديانتهم ولا يعبد عبادتهم فعليه لعنة الله بسر الشيخ وأولاده المختصين بسرهم أسعدهم الله أجمعين+.
السورة الرابعة عشرة واسمها البيت المعمور(2): =والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور بسر طالب وعقيل وجعفر الطيار هم أخوة علي بن أبي طالب نور من نور، وجوهر من جوهر، وعلي بن أبي طالب منزه عن الإخوة والأخوات والآباء والأمهات أحداً أبداً موجود باطن بغير غمود سر البيت وسقف البيت وأرض البيت وأربع أركان البيت.
أما البيت فهو السيد محمد، وسقف البيت أبو طالب، وأرض البيت فاطمة بنت أسد وأربع أركان البيت محمد وفاطر والحسن والحسين سر الزاوية الغامضة الخفية التي هي في نصف البيت هي محسن سر الخفي سر صاحب البيت العلوي الشريف الهاشمي الذي هشم القرون وكسر الأصنام علينا من ذكره الرضى والسلام+.
طريقة الدخول في عقيدة النصيرية (3)
تُقسِّم النصيرية أتباعها إلى عقَّال وجُهَّال.
وإذا أراد أحد من جهال النصيرية الدخول في سلك عُقَّالهم فإنه يمر بعدة مراحل؛ حتى يتيقنوا من خلالها من إخلاصه وصدقه؛ فلا يلقنون الداخل جميع الأسرار دفعة واحدة، بل يكون ذلك تدريجياً ومن خلال جلسات.
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص39.
(2) _ الباكورة السليمانية ص49.
(3) _ انظر الحركات الباطنية ص373_380.(1/157)
وتبدأ عملية الدخول بأن يتخذ الشاب الذي يريد ذلك أستاذاً من مشايخهم يلقبونه والداً روحياً أو دينياً يكون الواسطة له بينه وبين مجلس مشايخهم.
وهذا هو الوالد الحقيق بزعمهم؛ لأنه يقوده إلى السعادة والخير.
أما والداه الحقيقيان فلا فضل لهما عليه؛ لأنهما أنجبا الولد؛ إشباعاً لشهوتهما، وتسببا في خروجه لدار الشقاء.
لذا فإن الخضوع التام، والتذلل مطلوب من التلميذ أمام شيخه، وإلا لا يمكن أن يُلَقَّن أسرار الدين؛ لأنها بزعمهم لا تلقن إلا للمتواضع الذليل لأخيه المؤمن.
والتواضع عندهم يمر في مرحلتين:
الأولى: وضع أحذية المشايخ على رأس الشاب الراغب في دخول العقيدة يتبعها تقبيل أقدام هؤلاء المشايخ.
الثانية: تتم في الجلسة الثانية من جلسات التلقين وهي قبوله مناكحة الرجال له؛ لأن هذا عندهم يدل على عدم التكبر والتذلل للأخ المؤمن _كما يزعمون_.
وإذا رجعنا إلى مبادئ ابن نصير مؤسس فرقتهم والتي دعا إليها، وطبقها عملياً نجد هذا التواضع من جملة المبادئ التي حملها؛ ففي رواية سعد القمي =أن يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان رأى ابن النصير ، وغلامٌ له _أي لابن نصير_ على ظهره _أي على ظهر ابن نصير_ قال _أي ابن خاقان_: فلقيت ابن نصير؛ فعاتبته بذلك فقال: إن هذا من اللذات؛ وهو من التواضع لله وترك التجبر+(1) ).
وهذا الشيء يطبق عملياً في الجلسة الثانية من التلقين (السماع) وذلك بعد أن تدور الخمرة في الرؤوس، وتكمل المرأة عملها الشيطاني ينام الحاضرون بجانب بعضهم بعضاً حتى السحر حيث يحين _ وفي ذلك الوقت بالذات _ عملية التلقين الثانية بعد أن يصبح التلميذ ذليلاً قولاً وفعلاً.
والمرأة والخمر أمران مهمان ومتلازمان يقدمان للشاب الداخل في أسرار الدين باعتبارهما جزءاً من الضيافة للدخول في الفردوس.
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص384، نقلاً عن المقالات والفرق :سعد القمي ص100_101.(1/158)
ويعلق الدكتور الخطيب على ذلك بقوله: =وفي نظري أن تلقين أسرار النصيرية في جو الخمرة والمرأة، يوضح لنا عملية التخدير النفسي والجسدي والعقلي التي تقع على الشاب وهو يلقن أسرار دينه؛ فكؤوس الخمر تدار بين وقت وآخر، فتلعب دورها في تخدير عقل الشاب، وتأتي الأنثى لتكمل الدور الذي بدأته الخمرة؛ فيكون الشاب حينذاك في وضع لا يمكنه أن يرفض أي شيء من أسرار الدين، وخاصة أنه أصبح في الفردوس: الخمر والمرأة+(1).
وهكذا تمر عملية الدخول في النصيرية بطقوس عديدة يحصل فيها للداخل أمور كثيرة ومتنوعة من الذلة والمهابة، وبعد تلك الخطوات يُفضى إليه بأسرار العقيدة، وبعدها تُؤخذ عليه الأيمان المغلظة بكتم الأسرار وعدم البوح بها.
وفيما يلي نموذج لشخص يروي قصة دخوله في النصيرية وهو صاحب كتاب الباكورة السليمانية سليمان الأذني الذي دفع حياته ثمناً لإذاعته الأسرار.
ومع أن فيما يرويه الأذني بعض الاختلافات اليسيرة عما جاء في الطريقة التي مر معنا شيء منها إلا أنه في الإمكان أن نأخذ الخطوط العريضة التي يسير عليها النصيريون في كلتا الطريقتين.
وفيها _ أيضاً _ بيان لما يصيب الشاب من أساليب نفسية رهيبة.
يقول سليمان الأذني متحدثاً عن قصته =إني ولدت في مدينة أنطاكية سنة 1250هجرية، وأقمت فيها نحو سبع سنين ثم انتقلت إلى أدنه، ولما بلغت السنة الثامنة عشرة من العمر أخذ بنو طائفتي يطلعونني على أسرارهم الباطنة التي لا يكشفونها إلا لمن بلغ هذا السن أو سن العشرين.
وفي ذات يوم اجتمع منهم جمهور من الخاصة والعامة، واستدعوني إليهم، وناولوني قدح خمر ثم وقف النقيب بجانبي وقال لي: قل بسرِّ إحسانك يا عمي، وسيدي، وتاج رأسي أنا لك تلميذ، وحذاؤك على رأسي.
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص369.(1/159)
ولما شربت الكأس التفت إلي الإمام قائلاً لي: هل ترضى أن ترفع أحذية هؤلاء الحاضرين على رأسك؛ إكراماً لسيدك فقلت: كلا بل حذاء سيدي فقط؛ فضحك الحاضرون؛ لعدم قبولي القانون، ثم أمروا الخادم فأتى بحذاء السيد المذكور، فكشفوا رأسي، ووضعوه عليه، وجعلوا على الحذاء خرقة بيضاء، ثم أخذ النقيب يصلي عليّ لكي أقبل السر، ولما فرغ من الصلاة رفعوا الحذاء عن رأسي، وأوصوني بالكتمان، وانصرفوا؛ فهذه الجمعية يسمونها المشورة.
ثم بعد أربعين يوماً اجتمع جمهورٌ آخر، واستدعوني إليهم، ووقف السيد بجانبي وبيده كأس خمر، فسقاني الكأس وأمرني بأن أقول سر ( ع م س) أما العين فهي علي ويسمونه المعنى، وأما الميم فهي محمد ويسمونه الاسم والحجاب، وأما السين فهي سليمان الفارسي ويسمونه الباب.
ثم بعد ذلك قال لي الإمام: أنه فرض عليك أن تتلو هذه اللفظة كل يوم خمسمائة مرة وهي سرّ عمس، ثم أوصوني بالكتمان وانصرفوا وهذه الجمعية الثانية يسمونها بجمعية المليك.
ثم بعد سبعة أشهر _ والمدة للعامة تسعة أشهر _ اجتمع جمهور آخر _أيضاً_ واستدعوني حسب عادتهم وأوقفوني بعيداً عنهم، ونهض وكيل من بين الجماعة والنقيب عن يمينه، والنجيب عن شماله، وبيد كل واحد منهم كأس خمر واستقبلوا نحو الإمام مترنمين الترنيمة الثالثة التي هي للحسين بن حمدان الخصيبي، وسيأتي ذكرها بعد انتهاء صلاة أعيادهم، وبعد ذلك توجهوا نحو المرشد الثاني مترنمين له هذه الترنيمة:
سألت عن المكارم أين حلُّوا
... بعض الناس دلوني عليكا
بحق محمد مع آل بيته ... ارحم من أتى يقبل يديكا
قصدتك لا تخيب فيك ظني ... نحن اليوم محسوبين عليكا
ثم وضعوا أياديهم على رأسه وجلسوا، وأما هو فنهض قائماً، وأخذ القدح مع الوكيل، وخر ساجداً، وقرأ سورة السجود، وهي الفصل السادس، ورفع رأسه، وقرأ سورة العين، وهي الفصل التاسع ثم شرب الكأس وقرأ سورة السلام، وهي الفصل السابع، وسيأتي ذكر هذه السور في مكانه.(1/160)
ثم قام متوجهاً نحو الإمام قائلاً: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام.
فقال له الإمام : ينعم عليك وعلى من حواليك، لقد عملت ما لم تعمله هذه الجماعة؛ لأنك أخذت القدح بيدك، وشربت، وسجدت، وسلمت ولله السجود، فما هي حاجتك؟ وماذا تريد؟
فقال: أريد أن أتمسى بوجه مولاي، ثم انصرف ونظر نحو السماء ورجع إليه قائلاً: نعم نعم نعم يا سيدي، فأجابه الإمام كالأول، وما حاجتك؟ وماذا تريد؟
فقال: لي حاجة أريد قضاءها، فقال: اذهب اقضيها، ثم انصرف عنهم ودنا مني لكي أقبل يديه ورجليه فقبلتهما، ورجع إليه _ أيضاً _ وقال: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام.
فقال له الإمام: ما مرادك؟ وماذا تريد؟
فأجابه: أنه تراءى لي شخص بالطريق، فقال: ألم تسمع ما قال سيدنا المنتجب الدين العاني: الليل يجزع منه كل صنديد، فأجاب لي قلب قوي ولا خوف علي.
ثم نظر إلي _ أيضاً _ والتفت إليهم وقال هذا الشخص اسمه فلان، وهو قد أتى؛ ليتأدب أمامكم.
فقال: من دله علينا؟ فأجاب: المعنى القديم، والاسم العظيم، والباب الكريم، وهي لفظة عمس .
فقال الإمام: إيت به؛ لنراه فأخذ المرشد بيدي اليمنى، وذهب بي إلى الإمام، فلما دنوت منه مد لي رجليه فقبلتهما، ويديه _ أيضاً _ وقال لي: ما حاجتك؟ وماذا تريد أيها الغلام؟ ثم نهض النقيب ووقف بجانبي، وعلمني بأن أقول بسر الذي أنتم فيه يا معشر المؤمنين.
ثم نظر إلى بعبوسة وقال ما الذي حملك على أن تطلب منا هذا السر المكلل باللؤلؤ والدر، ولم يحمله إلا كل ملك مقرب أو نبي مرسل؟
اعلم يا ولدي أن الملائكة كثيرون، ولا يحمل هذا السر إلا المقربون والأنبياء كثيرون، وليس منهم من يحمل هذا السر إلا المرسلون.
والمؤمنون كثيرون وليس منهم من يحمل هذا السر إلا الممتحنون.
أتقبل قطع الرأس واليدين والرجلين ولا تبيح بهذا السر العظيم؟ فقلت له: نعم.
فقال لي أريد منك ماية كفيل، فقال الحاضرون: القانون ياسيدنا الإمام، فقال إكراماً لكم ليكن اثني عشر كفيلاً.(1/161)
ثم قام المرشد الثاني، وقبل أيدي الاثني عشر كفيلاً، وأنا _ أيضاً _ قبَّلت أيديهم ثم نهض الكفلاء، وقالوا: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام؟
فقال الإمام ما حاجتكم أيها الشرفاء؟ قالوا أتينا لنكفل فلاناً.
فقال: إذا باح بهذا السر أتأتوني به لكي نقطعه تقطيعاً، ونشرب دمه؟
فقالوا: نعم، فأجاب وقال: لست أكتفي بكفالتكم فقط بل أريد اثنين معتبرين يكفلانكم، فجرى واحد من الكفلاء وأنا وراءه وقبل أيدي الكفيلين المطلوبين وقبلتهما أنا _ أيضاً _ ثم نهضا قائمين وأيديهما موضوعة على صدريهما، فالتفت إليهما الإمام وقال: الله يمسيكما بالخير أيها الكفيلان المعتبران الطاهران أهل البرس والكرش، فما تريدان؟ فأجابا: إننا قد أتينا لنكفل الاثني عشر كفيلاً، وهذا الشخص _أيضاً_.
قال: فإذا هرب قبل أن يكمل حفظ الصلاة، أو باح بهذا السر هل تأتياني به لنعدم حياته؟ فقالا: نعم.
قال الإمام: إن الكفلاء يفنون وكفلا الكفلا يفنون، وأنا أريد منه شيئاً لا يفنى، فقال له: افعل ما شئت.
فالتفت إلي وقال: ادن مني يا غلام، فدنوت منه، وحينئذ استحلفني بجميع الأجرام السماوية بأني لا أبيح بهذا السر ثم ناولني كتاب المجموع في يدي اليمنى، وعلمني النقيب الواقف بجانبي أن أقول: تفضل حلفني يا سيدي الإمام على هذا السر العظيم، وأنت بريء من خطيئتي.
فأخذ الكتاب مني، وقال: يا ولدي احلّفك ليس لأجل مال ولا جوار، بل لأجل سر الله فقط كما حلفنا مشايخنا وساداتنا.
وهكذا تكرر العمل والقول ثلاث مرات، ثم وضعت يدي على المجموع ثلاث مرات حالفاً به أن لا أبيح بهذا السر ما دمت حياً.
وأما العامة فيستحلفونهم أكثر من ذلك لا سيما نصيرية أيالة اللاذقية.
ثم قال الإمام: اعلم يا ولدي أن الأرض لا تقبلك فيها مدفوناً إن أبحت بهذا السر، ولا تعود تدخل القمصان البشرية، بل حين وفاتك تدخل قمصان المسوخية وليس لك منها نجاة أبداً.(1/162)
ثم أجلسوني بينهم وكشفوا رأسي، ووضعوا عليه غطاء، ثم إن الكفلاء وضعوا أيديهم على رأسي وأخذوا يصلون، فقرأوا أولاً سورة الفتح، والسجود، والعين، ثم شربوا خمراً، وقرأوا سورة السلام، ورفعوا أيديهم عن رأسي وأخذني عمُّ الدخول وسلمني إلى مرشدي الأول ثم أخذ بيده كأس خمر وسقاني، وعلمني أن أقول بسم الله وسر السيد أبي عبد الله العارف بمعرفة الله سر تذكاره الصالح سره أسعده الله ، ثم انصرفت الجماعة، وأخذني السيد إلى بيته واسمه أحمد أفندي بن رضوان أغا من أعيان مدينة أدنه، والمرشد الثاني اسمه الشيخ صالح الجبلي رئيس الرمالين.
ثم ابتدأ السيد يعلمني أولاً التبرِّي، وهي سورة الشتائم الآتي ذكرها في الباب الثاني في باءة صلاة أعيادهم، وحينئذٍ أطلعني على صلاتهم المشهورة فيها عبادة علي بن أبي طالب، وهي ستة عشر سورة+.(1)
مواطن انتشار النصيرية (2)
يسكن النصيريون في منطقة جبال النصيريين في اللاذقية بسوريا، وانتشروا مؤخراً في المدن السورية المجاورة لهم.
ومنهم من يسكن في جنوب تركيا، وأطراف لبنان الشمالي، وفارس، وتركستان الروسية.
ولهم أسماء محلية يعرفون بها في أماكن سكناهم، ويعرفون باسم: (التختجية والحطابون) في غربي الأناضول، ويعرفون بـ: (القزلباشية) شرقي الأناضول، و(العلي إلهية) في فارس، وتركستان، وكردستان.
والنصيرية الآن ينتشرون في جميع أنحاء البلاد السورية، والعشائر النصيرية في سوريا موزعة في أربع مجموعات:
1_ الخياطون: نسبة إلى جدهم علي الخياط، وهذه المجموعة تستوطن في (سرقب) مع الصرامته، والمخاليصة، والقفاورة، والعمامرة.
2_ الحدادون: وهم عشيرة الأمير حسن بن المكزون السنجاري، ومعهم المحالبة، وبنو علي، والياشوطية، والعطاوية، والمثلبة.
__________
(1) _ الباكورة السليمانية ص13_18.
(2) _ انظر الحركات الباطنية ص323، النصيرية ص39، الموسوعة ص516.(1/163)
3_ المثاورة: نسبة إلى قرية مثور في قضاء جبلة، ومعهم الجواهرة، والصوارمة والميلاتية، والدراوسة، والبشارغة، والعراجنة، والمحاذرة.
4_ الكلبية: وتستوطن قرداحة مع النواصر والقراصلة، والجليقية، والرشاونة والشلاهمة، والرسالنة، والجروية، وبيت محمد، والدراوية.
أما عددهم فقيل إنه يبلغ مائة وستين ألفاً، ولكن يبدو أن هذا التقدير كان قديماً، وذكر مؤخراً أن آخر التقديرات تشير إلى أن عددهم قد جاوز المليون نسمة سنة 1979م.
فرق النصيرية (1)
انقسمت النصيرية إلى فرق شتى، ولا غرو في ذلك؛ فالاجتماع لا يكون إلا على الحق، والهدى، وأنى للنصيرية ذلك؟ فقد افترقوا واختلفوا فيما بينهم.
ومن أهم تلك الفرق ما يلي:
1_ فرقة الشمالية أو الشمسية: وهم يسكنون السواحل في لواء اللاذقية، ويسبلون اللِّحى ولا يجوز حلقها عندهم، وهم يعتقدون كسائر النصيرية بألوهية علي ÷ وأنه متحد في السماء، إلا أنهم يفترقون عن بقية أبناء المذهب بقولهم: إن علياً يتخذ من الشمس التي يمثلها محمد " مسكناً له.
لذلك فهم يتوجهون إلى الشمس في عبادتهم؛ لاعتقادهم أن علياً فيها، ومن هنا فهم عبدة الشمس، ولذا يسمون بالشمالية وبالشمسية.
وهم _ أيضاً _ يعتقدون بأن الكواكب والنجوم تعد أماكن المؤمنين والصالحين من أبناء الطائفة النصيرية؛ لذلك فهم يعظمونها، ويطلقون على عليِّ ÷ أمير النحل.
2_ فرقة الكلازية أو القمرية: وهي تنتسب إلى محمد بن الكلازي، وهؤلاء يسكنون الجبال، وهم يحلقون لحاهم بلا استثناء، ويعتقدون بألوهية علي ÷ ويقولون بأنه: بعد أن خلع رداء الآدمية صعد إلى القمر الذي هو سلمان، واستقر فيه، وأن علياً هو الجزء المعتم من القمر، ومن هنا فإنهم يقدسون القمر ويعبدون علياً ممثلاً فيه، ولذلك فهم معروفون بـ: (عبدة القمر).
__________
(1) _ انظر النصيرية د. سهير الفيل ص93_103.(1/164)
3_ فرقة الحيدرية: ويبدو أن اسم (الحيدرية) هذا يرجع إلى لقب (حيدرة) وهو الأسد، ذلك اللقب الذي كان يلقب به علي ÷ لشجاعته.
وهذه الفرقة يسكن أفرادها فضاء اللاذقية، وهي حزب ديني انبثق عن بعض العشائر العلوية في محافظة اللاذقية، وهم يعتقدون بأن محمداً هو الشمس، وسلمان الفارسي هو القمر.
4_ فرقة الغيبية: وهم يعتقدون أن الله يتجلى ويستتر أو يظهر ويغيب، والأزمنة الحالية هي أزمنة الستر والغيبة، وهم يعتقدون أن الله _ تعالى _ في كل مكان دون أن يراه أحد؛ إذ الإله عندهم هو الهواء.
ومن هنا فإنهم عندما يقرأون من كتاب المجموع عبارة: يا علي بن أبي طالب أنت هو فإنهم يقرأونها بشيء من التحريف فيقولون: أنت الهواء، ومن هنا فهم يلقبون بعابدي الهواء.
عداء النصيرية للمسلمين (1)
النصيرية فرقة باطنية خبيثة نبتت في بلاد المسلمين، وأبرز هدف لقيامها ونشأتها تعطيل شريعة الإسلام، وهدمه وتقويض أطنابه.
ولذلك نجدهم يقفون مع كل عدو للمسلمين في القديم وفي الحديث، ومن ذلك وقوفهم مع الصليبيين، ومع التتار، ومع الصفويين، ومع الفرنسيين، ومع الصهاينة؛ فلقد كانت النصيرية أثناء الهجمة الصليبية على العالم الإسلامي عوناً للصليبيين على المسلمين، ولما استولى الصليبيون على بعض البلاد الإسلامية قربوهم وأدنوهم، ولما تمكن المسلمون من طرد الصليبيين اعتصم النصيريون بجبلهم، واقتصر عملهم على تدبير المكائد والفتن.
ولما أغار التتار على الشام، كان للنصيرية أيادٍ بيضاء في ذلك، فمكنوا التتار من رقاب المسلمين، ولقد كان للنصيريين دور في تحريض تيمور لنك زعيم التتار على غزو دمشق.
كذلك وقف النصيريون مع الصفويين ضد العثمانيين وأيدوا الصفويين؛ لارتباطهم بهم عقائدياً وفكرياً ومادياً.
__________
(1) _ انظر الحركات الباطنية ص 326_335، والنصيرية ص29_36، وطائفة النصيرية _ تاريخها وعقائدها _ تأليف د. سليمان الحلبي ص106_109.(1/165)
وبعد أن تجزأ الوطن العربي في مطلع القرن العشرين على يد المستعمرين _ بحث المستعمرون عن النصيريين، وأدنوهم، ومكنوهم؛ فكان النصيريون عند حسن ظن أسيادهم المستعمرين، وكانوا خيرَ مُخْلِصٍ للانتداب الفرنسي.
أما وقوفهم مع الصهاينة فواضح كل الوضوح ويبرز ذلك في التنازلات تلو التنازلات التي قدمها النصيريون للصهاينة.
ولا أدل على ذلك من مهزلة تسليم مرتفعات الجولان السورية لليهود سنة 1967م.
وإن ينسى المسلمون شيئاً من مخازي النصيرية فلن ينسوا المجزرة الرهيبة التي قام بها النصيريون في مدينة حماة _ وذلك عندما قتلوا الآلاف من المسلمين، وانتهكوا الأعراض حتى تخضبت أرض حماة بالدماء من جراء تلك المجزرة.
بعد تلك الجولة في معتقدات النصيرية يتضح لنا أن أولئك القوم بعيدون كل البعد عن دين الإسلام.
فالنصيرية يعتقدون بألوهية علي، ويقولون بالتأويل الباطني، ويدعون إلى تعطيل الشريعة.
=وهم بالإضافة إلى ذلك فقد اعتقدوا بالتناسخ، وكفروا بالبعث والحساب؛ فهدموا بذلك ركناً من أركان الإيمان، وأباحوا المحرمات بشرب الخمر والزنا.
وهذا كله بل واحد منه مخالف للإسلام وخروج عنه، بل هو كفر به واستهانة بما فرض+(1).
ومن هنا يتبين لنا أن النصيرية لا علاقة لها بالإسلام ألبتة، بل هي بعيدة كل البعد عنه.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية × فلقد كان أوائل من عرف حقيقة هذه الطائفة فحاربها، ووقف ضدها باللسان والسنان.
ولقد استفتي عنهم فأجاب عن ذلك إجابة مطولة جاء فيها:
=الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية وسائر أصناف القرامطة أكفر من اليهود والنصارى بل أكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد "أعظم من ضرر الكفار المحاربين، مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم.
__________
(1) _ الحركات الباطنية ص417.(1/166)
فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا بكتابه، ولا بأمر، ولا بنهي، ولا ثواب، ولا عقاب، ولا جنة، ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد "، ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها+.
ثم قال ×: =ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين+.
وقال: =وأما أوانيهم وملابسهم فكأواني المجوس، على ما عرف من مذهب الأئمة+.
=والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها، فإن ذبائحهم ميتة، فلابد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك+.
وقال فيهم _ أيضاً _: =لا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلى على من مات منهم، فإن الله _سبحانه وتعالى_ نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين كعبدالله بن أبي ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة، والزكاة، والصيام، والجهاد، مع المسلمين، ولايظهرون مقالة تخالف دين الإسلام لكن يُسرون ذلك فقال الله _ تعالى _ : [وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ](التوبة:84).
فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد.(1/167)
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم؛ فإنهم من أغش الناس للمسلمين، ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة، وهم شر من المخامر الذي يكون في المعسكر؛ فإن المخامر مرتد يكون له غرض إما مع أمير العسكر وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين، وعلى إفساد الجند على ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته.
والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة؛ فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر؛ فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام، وعلى النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لايستخدم من يغشه وإن كان مسلماً، فكيف بمن يغش المسلمين كلهم؟
ولايجوز تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه، بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك+(1).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد ظهر في بلاد إيران في القرن الثالث عشر الهجري فرقة كافرة أرادت هدم الإسلام، واستبدال شريعة جديدة به.
وهذه الفرقة تسمى (البابية) وقد أسسها رجل يدعى محمد علي الشيرازي، ويلقب بالباب، وإليه تنسب.
وفيما يلي من صفحات نبذة يسيرة عن هذه الفرقة، وذلك من خلال المباحث التالية:
_ تعريف البابية.
_ سبب التسمية.
_ الظروف التي نشأت فيها البابية.
_ أسباب قيام البابية.
_ نبذة عن مؤسس البابية.
_ أبرز شخصيات البابية.
_ نبذة عن سيرة قرة العين.
_ مؤتمر بدشت.
_ معتقدات البابية وتعاليمهم.
_ بطلان البابية.
فلعل في هذه الصفحات إيضاحاً للخطوط العريضة لتلك الفرقة، ولعل القارئ الكريم يأخذ صورة عامة عنها.
__________
(1) _ مجموع الفتاوى 35/145_160.(1/168)
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تعريف البابية، وسبب تسميتها بذلك (1)
أولاً: تعريف البابية: هي فرقه ضالة، ونحلة كافرة، انبثقت من الشيعة الاثني عشرية، وظهرت في القرن الثالث عشر الهجري في إيران، على يد رجل شيعي، يدعى الميرزا علي محمد الشيرازي، الذي ظهر بفكرة الباب إلى المهدي المنتظر.
ثانياً: سبب التسمية: سميت البابية بهذا الاسم نسبة إلي زعيمها الأول، والذي لقب نفسه بالباب: أي الباب إلى المهدي المنتظر المزعوم عند الشيعة؛ فالشيعة يزعمون أن المهدي قد دخل في الغيبة، وأن الطريق إليه إنما يكون عن طريق الأبواب؛ فصار كثير ممن يؤمن بهذه الفكرة يدعي أنه الباب.
ومن هؤلاء هذا الشيرازي الذي ادَّعى ذلك؛ فنسبت إليه هذه النحلة.
وسيأتي مزيد بيان لهذا في الفقرة التالية.
ظهرت البابية في بلاد إيران، تلك البلاد التي كانت _ ولم تزل _ مصدراً للقلاقل والفتن، ومرتعاً خصباً للنزعات الباطنية، والأفكار الشيعية، وموطناً صالحاً للفرق الضالة الملحدة، والمذاهب الهدامة الباطلة.(2)
=وقد ظهرت هذه النحلة في وسط شيعي اثني عشري، يعتقد أن الإمام الثاني عشر من أئمتهم _ وهو محمد بن الحسن العسكري _ قد اختفى من القرن الثالث الهجري، ولا يزال حياً إلى اليوم وهو الإمام المنتظر+. (3)
وكانوا يعتقدون أن له غيبة صغرى يقوم فيها السفراء والوكلاء بدور الواسطة بينه وبين أتباعه، وهؤلاء يسمون بالأبواب.
وعندما طالت غيبته قالوا: إنه دخل في الغيبة الكبرى في سرداب سامراء إلي اليوم.
__________
(1) _ انظر عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية: د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي ص 202، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة، د. ناصر العقل ود. ناصر القفاري ص 156.
(2) _ انظر البابية عرض ونقد إحسان إلهي ظهير ص 45.
(3) _ عقيدة ختم النبوة ص 202.(1/169)
=والشيعة هؤلاء ينتظرون عودته، وخروجه كل يوم، ويشتد تطلعهم إليه كلما حل بهم كرب، أو نزلت بهم شدة+. (1)
وكانوا يخرجون إليه في كل ليلة ينتظرون خروجه حتى تشتبك النجوم، ثم يرجعون على أعقابهم، والحزن ملء قلوبهم.
وقد صاروا بذلك محلاً للسخرية حتى قيل فيهم:
ما آن للسرداب أن يلد الذي ... صيرتموه بزعمكم إنسانا
فعلى عقولكم العفاء لأنكم ... ثلثتم العنقاء والغيلانا(2)
=وقد كانت الشيعة في القرن الثالث عشر الهجري تعاني شدة الحكام، وبلغ ترقبهم لظهور المهدي المخلص منتهاه، وأصبح ادعاء المهدية آنذاك سهلاً ميسوراً ولا يحتاج من يرشح نفسه لذلك إلا إلى شيء من التمويه، والتلبيس؛ ليقنعهم بصدق دعواه.
وما كانوا يرددونه من الأدعية في عصرهم ذلك يكشف لنا مدى استعدادهم النفسي لمتابعة أي دعوة تخرج فيهم باسم المهدي.
فمن أدعيتهم في ذلك: =اللهم طال الانتظار، وشمت بنا الفجار، وصعب علينا الانتظار+.
وكذلك قولهم: =اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وعجل ظهوره، وإنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، برحمتك يا أرحم الراحمين+.
وكذلك قولهم: =يا صاحب الزمان، قطعت في صلتك الخلان، وهجرت لزيارتك الأوطان، وأخفيت أمري عن أهل البلدان؛ لتكون لي شفيعاً عند ربي وربك+.
=وغير هذه مما يصور لنا مدى ما تعانيه الشيعة من شدة الانتظار في ذلك الزمان+.(3)
زد على ذلك ما قام به رجلان من قاده الشيخية(4) وهما الشيخ أحمد الأحسائي، والسيد كاظم الر شتي.
__________
(1) _ المصدر السابق ص202.
(2) _ انظر التشيع والشيعة لأحمد الكسروي، تحقيق د. ناصر القفاري ود. سلمان العودة ص87.
(3) _ عقيدة ختم النبوة ص 202_203.
(4) _ إحدى فرق الشيعة.(1/170)
وهذان الرجلان مشكوك في تاريخهما؛ فلقد قاما بتهييج أشواق الناس _ من خلال دروسهما _ إلى ظهور المهدي، بل قد صرح الرشتي أنه موجود بين أهل عصره، بل بين تلاميذه، فكان يردد في دروسه دائماً هذه العبارة: =إن الموعود يعيش بين هؤلاء القوم، وإن ميعاد ظهوره قد قرب، فهيِّئوا الطريق له، وطهروا أنفسكم حتى تروا جماله، ولا يظهر لكم جمالُه إلا بعد أن أفارق هذا العالم؛ فعليكم بعد فراقي أن تقوموا على طلبه، ولا تستريحوا لحظة واحدة حتى تجدوه+.(1)
ففي مثل هذه البيئة نشأت البابية خصوصاً بعدما مُهِّدَت الطريق لتلك الدعوى.
ومن هذا المنطلق أصبحت الفرصة مواتية لمن أراد أن يدعي تلك الدعوى (المهدية) فقام بها الشيرازي كما سيمر بنا.
من خلال ما مضي وما سيأتي يمكننا إجمال أسباب قيام البابية فيما يلي:
1_ عقيدة الغيبة والرجعة عند الشيعة الاثني عشرية: ذلك أن البابية ظهرت في مجتمع يعتقد تلك العقيدة، فساعد ذلك على قيامها .
2_ كثرة الاضطرابات والفتن التي كانت تمر بها إيران: مما جعل اليأس والقنوط يدب إلى النفوس، فبدأت تتطلع إلى أوهام تتشبث بها، وتعلق آمالها عليها.
3_ ما قام به الأحسائي والرشتي: حيث قاما بتهييج النفوس لذلك الغائب.
4_ شخصية الشيرازي الشاذة: فلقد كانت سبباً قوياً في قيام البابية _ على ما سيمر قريباً _.
5_ الدور الاستعماري: فلقد حرص المستعمرون _ كعادتهم _ على تبني مثل هذه الحركات، والفرق الضالة، والتي تخدم مصالحهم، وتفرق كلمة المسلمين، وتوهن قواهم، وتضعف ارتباطهم بعقيدتهم.
6_ الجهل بدين الإسلام وعقائده الصحيحة: فهذه من أعظم الأسباب التي تمهد لرواج البدع والخرافات.
__________
(1) _ أنظر عقيدة ختم النبوة ص202 _ 203، والبهائية لإحسان إلهي ظهير ص47.(1/171)
وهذا راجع لقلة العلماء الربانيين الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، والذين يجد الناس فيهم القدوة والأسوة، ولكثرة علماء السوء الذين فسدت عقائدهم، ومرجت أخلاقهم، مما جعل الناس يفقدون الثقة بهم؛ وبالتالي يسهل رواج كل دعوة أو دعيٍّ في أوساط الناس.
7_ ما قامت به قرة العين: تلك المر أة التي كان لها دور عظيم في قيام البابية _كما سيأتي بيان ذلك_.
نبذة عن مؤسس البابية(1)
أولاً: بيئته وسيرته:
في تلك البلاد المضطربة التي تعج بالفتن، وتميد بالاضطرابات والمحن ولد علي ابن محمد رضا الشيرازي، بمدينة شيراز جنوب إيران، عام 1235هـ في أول المحرم الموافق 20 أكتوبر على أصح الأقوال، حيث ولد في بيت يدعي انتسابه إلى أهل بيت النبي ".
وقد توفي والده وهو صغير، فكفله خاله الميرزا علي الشيرازي، ولما بلغ السادسة من عمره عهد به إلى الشيخ عابد، أحد تلامذة السيد كاظم الرشتي، وفي طفولته تحصل على التعليم العادي للأطفال، وكان عزوفاً عن الدرس، غير راغب فيه إلا أنه أطاع خاله في ذلك، فتعلم شيئاً من العربية، ومن النحو الفارسي، كما أنه برع في الخط براعة مدهشة؛ فكان أعجوبة زمانه في حسن الخط وسرعة الكتابة، ولما رأى خاله قلة رغبته في التعليم أخذه معه إلى التجارة، فتعلم شيئاً من فنون التجارة، واشتغل بها، وافتتح متجراً للأقمشة، وكان قد بلغ آنذاك السابعة عشرة من عمره.
__________
(1) _ انظر حقيقة البابية والبهائية د. محسن عبد الحميد ص39_44، وعقيدة ختم النبوة ص203_204، والبابية لظهير ص49 _ 56 .(1/172)
وهناك اتصل به أحد تلامذة الرشتي المغالين في حبه وتعاليمه وهو السيد جواد الكربلائي، وبدأ يلقي في مسامعه أفكار الشيخية _ الرشتي والأحسائي _ عن الغائب المنتظر، والموعود المزعوم، ويوهمه بأنه يظهر في سيماه ومحياه، وأنه هو ذلك الموعود، الذي أخبر بقرب ظهوره الرشتي، ومن قبله الأحسائي؛ فوقع الغلام في فخه، وكان من قبل قد تلقى شيئاً من تعاليم الشيخية على يد المعلم عابد، فتأثر الغلام لذلك، وترك التجارة، وأقبل على كتب الصوفية، والرياضات الروحية؛ فاشتغل بفن تسخير روحانيات الكواكب، وأجهد نفسه بضروب من العبادات، والرياضات النفسية، التي أثرت على قوَّته الجسمية والعقلية؛ فلقد كان يقف في حر الظهيرة المحرقة تحت أشعة الشمس على سطح البيت عاري الرأس، مكشوف البدن، مستقبلاً قرصَ الشمس، متحملاً حرارتها ساعات وساعات، حتى كان يعتريه الوجوم والذهول .
وبقي ذلك الخداع الماكر _ الكربلائي الطبطبائي _ ستة أشهر في بيته بجواره يحرضه على تلك الخرافات، ويقوي عزائمه لممارسة تلك الرياضات، ويهيج أشواقه للقاء الرشتي بكربلاء؛ لإكمال هذه الفنون على يديه؛ فأنتجت هذه الأعمال في الشيرازي هوساً وشذوذاً، فلما رأى خاله منه ذلك أرسله إلى النجف؛ للاستشفاء بزيارة المشاهد هناك _ حسب زعمهم _ رغبة منه في شفائه؛ وطلباً لتسليته عن وفاة ابنه الذي مات بعد ولادته بسنة؛ فأثرت هذه الأحداث في نفسه، إضافة إلى ما كان فيه من الهوس والشذوذات، حتى أصبح من كثرة الأوراد والأذكار، ولعبة الحروف، والاختلال العقلي، والصدمات الذهنية _ يظن أنه يفوق الآخرين، إضافة إلى حسن منظره، ووسامة وجهه، وإعجابه بنفسه.
وقد وصل إلى كربلاء، وكان عمره آنذاك عشرين عاماً واستقر في النجف، وتتلمذ على كاظم الرشتي، الذي كان يشعره أنه هو المنتظر؛ وذلك لِمَا رأى فيه من التقشف والاعتكاف، فوجد فيه ضالته، وبدأ يسعر أشواقه، ويهيج عواطفه، ويغريه أنه من الممكن أن يكون هو المهدي.(1/173)
إضافة إلى ما سبق فقد كان في تلك المجالس جاسوس روسي اسمه (كنياز دالغوركي) المتظاهر باسم الشيخ (عيسى اللنكراني).
وكان هذا الجاسوس يبحث عن عميل يجد فيه ضالَّتَه في التفرقة بين المسلمين، وتوهين قواهم؛ فكان هذا الغلام هو الحائزَ على مراده ومرامه.
وقد نشر هذا الجاسوس مذكراته باسم (مذكرات دالغوركي) في مجلة روسية (الشرق) عام 1924م بعد زوال القيصرية وانقلاب بالشويك، فذكر فيها تلك الحوادث والوقائع بالتفصيل، وأنه كيف دفع هذا الغرّ المأفون إلى المهدوية، ومنها إلى الرسالة والربوبية.
فكل هذه العوامل مجتمعه آلت بهذا الغلام إلى ادعاء دعاواه الباطلة.
ثانياً: دعاوى الشيرازي: الملابسات التي مرت سابقاً تعد إرهاصات ومقدمات لدعاوى الشيرازي؛ حيث قام بعد ذلك ببث دعاواه، التي تتلخص فيما يلي:
1_ ادعى لنفسه أولاً أنه الباب، والوسيلة للوصول إلى الإمام الخرافي المنتظر الذي تنتظر الشيعة خروجه منذ مدة تزيد على أحد عشر قرناً.
2_ تحول عن ذلك، وزعم أنه هو بعينه الإمام المنتظر.
3_ تجاوز ذلك، وزعم أنه نبي مرسل، وأن له كتاباً أفضل من القرآن العظيم اسمه البيان.
4_ وبعد ذلك تطور به الأمر وزعم أن الإله حل فيه.(1)
ثالثاً: شخصية الشيرازي، وأخلاقه: لقد أثرت ثقافة الشيرازي ونفسيته على شخصيته وأخلاقه .
=أما شخصيته فلقد كانت قلقة، وضعيفة، وجاهلة في آن واحد.
أما قلقها فيظهر من سيره في دعوته الباطلة؛ فلقد ادعى أولاً أنه الباب إلى الإمام المنتظر، ثم ادعى أنه هو نفسه، وبعد ذلك ادعى النبوة، ثم تعداها إلى ادعاء الربوبية عن طريق حلول الإله فيه.
وأما ضعفها فيظهر من موقفه في شيراز، عندما طلب الحاكم منه التوبة أمام المصلين يوم الجمعة، فما كان منه إلا أن صعد المنبر، وأعلن رجوعه، وتوبته كذباً+(2).
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب العاصرة ص157.
(2) _ حقيقة البابية والبهائية ص41.(1/174)
=وتاب مرة أخرى عن ادعاءاته في (تبريز) بعد ما جرى بينه وبين علماء الشيعة مناظرة شهيرة وضرب ثماني عشر ضربة على قدميه.
وبهذه الضربات الخفيفة وعلى القدمين تزلزلت قدماه، وذهب عنه ما كان يدعيه من النبوة، والرسالة، والمهدوية وغيرها+.(1)
=وأما جهله فيظهر من أخطائه اللغوية، والنحوية، والبلاغية، وأفكاره البدائية الساذجة+.(2)
يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير ×: =وأما لغته فتنضح جهلاً،وكان قليل العلم، كثير الجهل، فاقد البصيرة والفكرة، غزير السفاهة والبلاهة، مغتراً، مغروراً، وكان يرى نفسه _ مع وفور بلادته، وجودة حمقه _ أنه أعقل الناس وأفقههم، ومع غفلته وعدم إلمامه بالعلوم العربية، والشرعية _ أنه أعلم الناس وأمهرهم+.(3)
وإليك نماذج من كلامه ووحيه المزعوم:
يقول: =إنا جعلناك جليلاً للجاللين، وإنَّا قد جعلناك عظيمانا عظيماً للعاظمين، وإنَّا قد جعلناك نوراً نوراناً للناورين، وإنا قد جعلناك تماماً تميمًا للتامين، قل إنَّا قد جعلناك كمالاً كميلاً للكاملين، قل إنَّا جعلناك كبراناً كبيراً للكابرين+.(4)
ومن ذلك قوله: =تبارك الله من شمخ مشمخ شميخ، تبارك الله من بذخ مبذخ بذيخ، تبارك الله من بدء مبتدئ بديء، تبارك الله من فخر مفتخر فخير، تبارك الله من ظهر مظهر ظهير، تبارك الله من قهر مقهر قهير، تبارك الله من غلب مغتلب غليب، تبارك الله من علم معتلم عليم+.(5)
ومن ذلك قوله: =تبارك الله من سلط مستلط رفيع، تبارك الله من ورز مؤترز وزير، تبارك الله من حكم محتكم بديع، تبارك الله من جمل مجتمل جميل+.(6)
__________
(1) _ البابية عرض ونقد ص79 _80.
(2) _ حقيقة البابية ص41.
(3) _ البابية عرض ونقد، ظهير ص103.
(4) _ الموجز في الأديان والمذاهب والفرق المعاصرة ص159.
(5) _ البابية عرض ونقد، ظهير ص102.
(6) _ البابية عرض ونقد، ظهير ص102.(1/175)
هذا شيء من كلام ذلك الدَّعي الذي قال: =مخاطباً علماء المسلمين: إن نبيكم لم يخلف بعده غير القرآن، فهاكم كتابي البيان، فاتلوه، واقرأوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن، وأحكامه ناسخة لأحكام القرآن+.(1)
إن اطلاعنا على مثل هذا الهراء المهلهل نعمة من نعم الله علينا؛ حيث يتبين لنا عظمة القرآن، وجماله، وحلاوته، وطلاوته؛ إذ إن الأشياء تتميز بضدها.
وإن كان هناك من عجب فهو من أولئك الذين صدقوا هذا الجاهل البليد، واتبعوا سبيله، وساروا في ركابه.
رابعاً: نهاية الباب الشيرازي: بعدما استتيب الباب في المرة الأولى رجع إلى الدعوة إلى معتقداته الفاسدة، فأصدر العلماء الفتوى بقتله، =وتقرر تنفيذ الحكم في صبيحة يوم الاثنين في السابع والعشرين من شعبان سنه 1266هـ، الثامن من يوليو 1850م.
ولما علم به الشيرازي انهارت قواه، وأسقط في يده، وصار يبكي وينوح، وغمره الذهول العميق والشرود+(2).
وفي ميدان عسكري فسيح في إيران قد اكتظ بفئات كثيرة من الناس حيث لم يبق محل في الميدان، فصعد الناس على سطوح البيوت المطلة على الميدان وجدرانها، ففي هذا الميدان سيق الشيرازي وتابِعُه الزنوزي إلى محل الإعدام، ووثقا بحبل إلى عمود غليظ، والناس يلعنونه بأصوات مرتفعة، ويستعجلون الفتك به .
وكان من بين الحاضرين القنصل الروسي الذي دبر مؤامرة لإنقاذه، وكان يري أن خطته ستجدي، وفعلاً كاد أن ينجح لولا قدرة القادر _ عز وجل _ فعندما بدأت عمليه إطلاق الرصاص دوت صرخات الباب مع أصوات الرصاص الذي أطلقة الجنود، الذي كان عددهم يزيد على الثمانمائة، وقد استقرت كلها في جسد تابعه الزنوزي إلا واحدة من تلك الطلقات وجهت بإحكام إلى الحبل الذي كان الشيرازي مشدوداً به.
وحينما انجاب الدخان الكثيف رأى الناس جسد التابع ممزقاً تحت العمود.
__________
(1) _ البابية عرض ونقد، ظهير ص104.
(2) _ البابية عرض ونقد ص92.(1/176)
أما الباب فلم يقفوا له على أثر؛ فقد فر بعد أن قطعت الرصاصة حبله، فتهلل وجه القنصل ورفاقه؛ حيث إنهم قد هيأوا الأسباب لاختطافه من قبل، وإخفائه في إحدى المنازل التابعة للقيصرية، أو إنقاذه من الموت على الأقل، حسب الدستور الرائج: أن الذي ينجو من الموت مرة لا يعدم ثانية.
ولكنهم أخفقوا في المحاولتين؛ حيث أحاط الجنود بكل الحجرات والطرق المؤدية إلى خارج الساحة، فوجدوه قد اختبأ هارباً في ظلام الدخان في حجرته التي كان مسجوناً فيها، وقيل في المرحاض الذي كان بجانب الحجرات، ومن ثم اقتادوه إلى الساحة مرة أخرى، وأخذ يصرخ ويستجديهم، ويستدر عطفهم.
ولكن صرخاته لم تؤثر، حيث علقوه بالحبل من جديد، وغُيِّر الجنود المرتشون، وجيء بالوحدة العسكرية الأخرى، فما إن أطلقوا الرصاص إلا وقد مزق جسده، فمات وتركت جثته للوحوش والطيور.(1)
قامت البابية على أيدي أحداث صغار ليس فيهم من المسنين والمعمرين أحد؛ =فالجميع ما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، من الشيرازي وقرة العين والبار فودشي، والملا علي البستاني، والسيد يحيى الدارابي، ومحمد على القزويني، والملا محمد باقر، والسيد حسين اليزديي، والمرزه حسين على النوري المازنداري، والمرزه يحي صبح الأزل المازندراني، وغيرهم، اللهم إلا البشروئي؛ فإنه كان في الثلاثين من العمر وهو أسنهم.
وكان كل هؤلاء إما من هواة الشهرة والسمعة، أو الساقطين السوقة الذين يرفضهم المجتمع وينفر منهم، أوالمنبوذين خلقياً أومادياً+.(2)
__________
(1) _ انظر إلى المذاهب المعاصرة، وموقف الإسلام منها ص244 _ 245 د. عبد الرحمن عميرة، والبابية عرض ونقد لظهير ص 92_ 96.
(2) _ البابية عرض ونقد ص237 .(1/177)
فهؤلاء الأحداث هم الذين كونوا البابية، على اختلاف في مشاربهم، فبعضهم كان فريسة للشهوات، ويريد كسر الحواجز الخلقية، وبعضهم أرباب دين جديد، أرادوا من خلاله نسخ شريعة محمد " وإشاعة الإباحية، وغير ذلك من المعتقدات التي سيمر بنا شيء منها.
وسيكون الحديث فيما يلي عن أبرز الشخصيات بعد الباب، وهي قرة العين التي تعد المؤسس الحقيقي للبابية.
نبذة عن سيرة قرة العين (1)
هذه المرأة لها اليد الطولى في إنشاء البابية ونشرها، واسمها الحقيقي فاطمة، وكنيتها أم سلمى، وقد ولدت في قزوين سنه 1231هـ، وأبوها الملا محمد صالح القزويني أحد علماء الشيعة، وقد لقبت في صغرها (بزرين تاج) أي التاج الذهبي؛ وذلك لأن شعرها كان ذهبي اللون.
وقد لقبها أستاذها كاظم الرشتي بـ قرة العين وفرح الفؤاد.
وكانت رائعة الجمال، طاغية الأنوثة، ذكية، شاعرة، وقد أوتيت قدرة عجيبة على الكلام، والتأثير في الرجال.
تلقت تعاليم الفرقة الشيخية على يد عمها ملا علي.
ولقد خاف أبوها وعمها على جمالها اللامع، وعلى ذكائها المفرط، وإحساسها المرهف؛ فزوجها قبل أن تبلغ الثالثة عشر من عمرها بابن عمها الملا محمد الملا تقي إمام الجمعة في المدينة، فولدت له ثلاثة أولاد ابنين وبنتاً.
ولقد انكبت منذ الصغر على كتب الشيخ أحمد الأحسائي، فانتهرها والدها عن ذلك، ولكنها لم تنتهر.
وعندما بلغت، وأدركت قوة تأثيرها الكلامي، وفتنه شبابها النضر _ نفرت من الجو الذي تعيش فيه، واحتقرت زوجها، وتطلعت إلى رجل يرضي غرورها، ويشبع غرائزها.
ولما لم تجده قامت بمراسلة كاظم الرشتي زعيم الشيعة، فأعجب بعباراتها، ولقبها في رسائله بقرة العين.
__________
(1) _ انظر حقيقة البابية والبهائية ص72 _83، والبابية عرض ونقد ص 239 _251، والمذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص 263 _ 266.(1/178)
ولما كانت البيئة التي نشأت فيها لا تزال محافظة على بعض القيم _ لجأت إلى الشعر الغزلي الفاضح، الذي تبث فيه لوعتها، وغرامها، وعشقها.
فاشتهرت قصائدها بالغزل المشبوب المهيج للعواطف الحيوانية الشهوانية، وشعرت أن لا سبيل إلى قضاء شهواتها، وإشباع غرائزها إلا برفع القيود، وإماطة اللثام عن الحشمة، وخدش برقع الحياء؛ فبدأت تفكر في ذلك، وتسعى إليه سعياً حثيثاً.
ولهذا كانت تردد ذلك القول كثيراً: يا أواه متى يطلع ذلك اليوم الذي تظهر فيه شريعة جديدة، ومتى يأتي ربي وإلهي بتعاليمه الحديثة، وأتشرف أن أكون أول نساء العالم التي أعتنقها وألبي دعوته.
ومن شعرها الذي قالته في اللغة العربية:
يا نديمي قم فإن الديك صاح ... غن لي بيتاً وناول كأس راح
لست أصبر عن حبيبي لحظة ... هل إليه نظرة قبل الصباح؟
بذل روحي في هواه هين ... تحمد القوم السرى عند الصباح
قاتلتني لحظة من غير سيف ... أسكرتني عينه من دون راح
هام قلبي في هواه كيف هام ... راح روحي في قفاه أين راح
لم يفارقني خيال منه قط ... لم يزل هو في فؤادي لا يراح
إن يشأ يحرق فؤادي في النوى ... أو يشأ يقتل له قتلي مباح
ولقد أرغمت قرة العين أهلها على السماح لها بسفرها من قزوين إيران إلى كربلاء العراق؛ لزيارة العتبات المقدسة _ على حد زعم القوم _ فراراً من الضيق العائلي، وهرباً من التقاليد السائدة.
وقيل: إنها وصلت بغداد قبل موت كاظم الرشتي بقليل، وقيل إنها وصلت بعد موته.
وهي على كل حال جلست في مسند الشيخية، وفي مقام الرشتي بعد موته، وأبهرت عقول الدراويش في تلك المدرسة بخطبها الرنانة، وخلبت عقولهم بجمالها المدهش، وآثرت المكوث هناك بين الشباب، وأنكرت الرجوع إلى أهلها، وآمنت أول ما آمنت به أن المرأة يجوز لها أن تتزوج بتسعة رجال.
وعندما أعلن الميراز علي بن محمد ظهوره ودعوته _ آمنت به، وراسلته، وأحبته، حباً جنونياً، وطلَّقت نفسها من زوجها، وعلى غير شريعة الإسلام.(1/179)
ولم تقف المرأة عند هذا الحد من الانحراف وراء شهواتها في حب الميراز علي محمد، بل إنها لما وجدت أن عمها يقف في طريقها أمرت أحد أتباعها بقتله، فقتل وهو يصلي الصبح في الجامع.
وعندما رجعت إلى إيران ألقي القبض عليها بتهمة قتل عمها، ثم استطاعت الفرار بمعاونة الميراز حسين البهاء.
ولقد تجلت إباحية هذه العاهرة في مؤتمر بدشت الذي سيمر الحديث عنه قريباً؛ فلقد ظهرت هذه المرأة أمام زعماء الحركة البابية سافرة متبرجة، ودعت إلى نسخ الشريعة بكل صراحة.
وكان من فجورها أنها بعد المؤتمر رحلت مع الملا محمد علي تلميذ الباب الذي سماه بـ: القدوس في هودج واحد ودخلت معه الحمام؛ للاستحمام.
ومن مظاهر إباحيتها أنها تجتمع مع أنصارها بكامل زينتها، وكان مباحاً للبابيين تقبيلها، والتمسح بوجوههم على صدرها.
وأخيرا اشتركت في مؤامرة اغتيال الشاه ناصر الدين القاجاري بعد قتل الشيرازي، وقبض عليها، وحكم بأن تحرق حية، ولكن الجلاد خنقها قبل أن تلعب النار بالحطب الذي أعد لإحراقها، ورميت جثتها في حفرة بعد ما ملئت بالحجارة والتراب.
وكان ذلك في أول ذي القعدة سنه 1268هـ الموافق 1852 م وكان عمرها آنذاك من اثنتين وثلاثين سنة إلى سبع وثلاثين سنة على مختلف الأقوال.
مؤتمر بدشت (1)
عقد البابيون هذا المؤتمر في صحراء بدشت الواقعة على نهر شاهرور بين خراسان ومازندران عام 1264هـ في شهر رجب الموافق يونيو1848م.
__________
(1) _ انظر العقائد الباطنية د. صابر طعيمة ص352، والمذاهب المعاصرة وحكم الإسلام منها ص 239 _ 242، والبابية عرض ونقد ص70 _ 78، وحقيقة البابية والبهائية ص81 _ 83 والبهائية والقاديانية أ. د أسعد السحمراني ص72.(1/180)
وحضر فيه جميع زعماء البابية وأقطابها، وكانوا زهاء واحد وثمانين شخصاً من بينهم قرة العين، ومحمد علي البارفروشي الملقب بالقدوس، والملا حسين البشروئي الملقب بباب الباب، والمرزه حسين علي النوري المازنداري الملقب ببهاء الله، والمرزه يحي الملقب بالوحيد وصبح الأزل.
ولقد نُصبت الخيام بتلك الصحراء، وصار هؤلاء يرتكبون الفواحش، والفجور، وفي مقدمة هؤلاء قرة العين والملقب بالقدوس، ولقد كان الحاضرون في سن الشباب.
ولقد ظهرت قرة العين سافرة متبرجة تسحر بجمالها الفاتن ألباب المجتمعين، وخطبت خطبة طويلة، دعت فيها إلى الإباحية، ونسخ الشريعة الإسلامية.
ومما قالته: =أيها الناس اعلموا أن أحكام الشريعة المحمدية قد نسخت الآن بظهور الباب، وإن أحكام الشريعة البابية لم تصل إلينا، وأن اشتغالكم بالصوم، والصلاة،والزكاة، وسائر ما أتى به محمد كله لغو، وإن مولانا الباب سيفتح الباب، ويسخر العباد، وستخضع له الأقاليم السبعة المسكونة، وسيوحد الأديان الموجودة على وجه البسيطة، حتى لا يبقى إلا دين جديد، هو دينه الجديد، ومزقوا هذا الحجاب الحاضر بينكم وبين نسائكم، بأن تشاركوهن بالأعمال، وتقاسموهن بالأفعال، وصلوهن بعد السلوة، وأخرجوهن من الخلوة إلى الجلوة؛ فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا، وإن الزهرة لابد من قطفها وشمها؛ لأنها خلقت للشم، ولا ينبغي أن يُعَدَّ ولا يُحَدَّ شاموها بالكيف والكم؛ فالزهرة تجنى وتقطف؛ وللأحباب تهدى وتتحف+.
وقد ذكر المؤرخون البابيون والبهائيون أن جميع البابيين كانوا يعتقدون أن شريعة الإسلام التي جاء بها محمد " نسخت بمجيء الشيرازي.
وبعد اجتماعاتهم المتوالية التي استمرت اثنين وعشرين يوماً خرجوا فيها باعتقاداتهم ودعاواهم.
يدين البابيون بعقائد تناقض الإسلام، فمن تلك العقائد التي يدينون بها ويدعون إليها ما يلي:
1_ نسخ الشريعة الإسلامية، والعمل على ذلك.(1/181)
2_ القول بالحلول، والاتحاد: بحيث يزعم الباب أن الألوهية قد حلَّت فيه، أو أنه هو الإله.
3_ البابيون ينكرون جميع أمور الآخرة: من القيامة، والبعث، والصراط، والحساب، والميزان، والجنة، والنار، وغير ذلك(1).
4_ التأويل الباطني: فالقيامة عندهم =هي قيام القائم أي النبي والرسول أو المظهر حسب مصطلحهم، والبعث عندهم هو اليقظة الروحية لمن هم نيام في قبور الأوهام، والجهالة والشهوات+. (2)
=والجنة والنار عبارة عن الإثبات أي التصديق، والإيمان بنقطة الظهور، ويعني نفسه _الباب_ والنار عبارة عن النفي يعني عدم الإيمان بنقطه الظهور وإنكاره هو+(3).
=والدنيا عندهم هي الإيمان بالشيرازي علي محمد الباب+(4).
5_ لا يؤمنون بعقيدة ختم النبوة بالنبي محمد ".
6_ تقديس الرقم 19: فهم يقدسون العدد 19، ويجعلونه عدد الشهور 19 شهراً، وعدد أيام الشهر 19 يوماً(5).
والبابية تأمر معتنقيها بإبقاء الأموات في البيت تسعة عشر يوماً وليلة، وتفرض زيادة على ذلك أن لا يبتعد عنها أحد من أهل بيتها(6).
7_ الصلاة: نسخ الباب الصلاة =بصلاة جديدة تصلى عند الزوال، ويقول في ذلك: رفع عنكم الصلوات كلهن إلا من زوال تسعة عشر ركعة واحداً واحداً بقيام وقنوت، وقعود لعلكم يوم القيامة بين يدي تقومون، ثم تسجدون، ثم تقنتون، وتقعدون+.(7)
ثم نسخ صلاة الجماعة، وأباح الحضور إلى المساجد، والجلوس على كراسي.
8_ نسخ الباب قبلة الصلاة، وجعلها تجاه الأرض التي يظهر الله فيها الباب؛ فالقبلة هي البيت الذي ولد فيه بشيراز، أو مكان سجنه، أو البيوت التي عاش فيها هو وأتباعه.(8)
__________
(1) _ انظر البابية عرض ونقد ص295 .
(2) _ المرجع السابق ص295 .
(3) _ المرجع السابق ص200.
(4) _ المرجع السابق ص201.
(5) _ الموسوعة الميسرة ص64.
(6) _ انظر البابية عرض ونقد ص208.
(7) _ عقيدة ختم النبوة ص208.
(8) _ انظر البابية: عبد الله صالح الحموي.(1/182)
9_ الزكاة: =هي عندهم أن تدفع إلى المجلس الأعلى البابي زكاة مقدارها خمس العقار، وتجمع في كل عام من رأس المال، ولا يوجد أي تفصيل بأنها متى تجب؟ وعلى من تجب؟ ولم تجب؟ ولمن تصرف؟+(1).
10_ الصيام: =أما الصيام فقد أمر بصيام تسعة عشر يوماً من كل سنة، وهو عندهم شهر، ويسميه شهر العلاء+.(2)
أما حقيقة الصيام عندهم فهي: =كف النفس عن كل ما لا يرضاه الشيرازي+(3).
ويوجبونه على الرجل والمرأة من سن الحادية عشرة وعندما يبلغ اثنتين وأربعين سنة يعفى عنه، ويبدأ الصوم عندهم من شروق الشمس إلى غروبها.
11_ الحج: أما الحج عندهم فهو =زيارة البيت الذي ولد فيه الشيرازي، أو البيت الذي عاش فيه، أو بيوت أصحابة الثمانية عشر+. (4)
12_ الإباحية: فمما يدين به البابيون الإباحية الجنسية، وقد مرَّ معنا شيء من ذلك في الحديث عن قرة العين ومؤتمر بدشت.
13_ الطهارة: =لا تحكم البابية على شيء بالنجاسة؛ فالإنسان حينما يعتنق البابية يصبح طاهراً، ويصبح كل ما يملكه كذلك+. (5)
14_ حد السارق: ومن تعاليم البابية أن السارق =تَحْرُم عليه زوجته تسعة عشر يوماً، ويدفع تسعة عشر مثقالاً من الذهب إلى علماء البابية؛ ليقدموها إلى المسروق+.(6)
=وحد الذي يقطع شيئاً من جسم الإنسان، أو يغير لونه، أو يمزق لباسه، أو يغيره، أو أراد إهانته _ فإنه تحرم عليه زوجاته تسعة عشر شهراً، ويدفع خمسة وتسعين واحداً (7) من الذهب+.(8)
15_ التحية: عندهم نوعان: =تحية خاصة بالرجال وهي أن يقول المسلم: الله أكبر، ويرد عليه، يقول: الله أعظم، أما النساء فتحيتهم: الله أبهى، والإجابة: الله أجمل+.(9)
__________
(1) _ انظر البابية عرض ونقد ص219.
(2) _ عقيدة ختم النبوة ص211.
(3) _ البابية عرض ونقد ص222.
(4) _ نفس المرجع ص224.
(5) _ عقيدة ختم النبوة ص211.
(6) _ عقيدة ختم النبوة ص222.
(7) _ هكذا في الأصل.
(8) _ عقيدة ختم النبوة ص 212.
(9) _ عقيدة ختم النبوة ص 212.(1/183)
16_ الزواج الإجباري: من تعاليمهم الزواج الإجباري فقد فرضوا =على البنت الزواج الإجباري بعد إحدى عشرة سنة+.(1)
17_ الشهور البابية: تسعة عشر شهراً، وهي:
4_ شهر العظمة ... 3_ شهر الجلال ... 2_ شهر الجمال ... 1_ شهر البهاء
8_ شهر الكمال ... 7_ شهر الكلمات ... 6_ شهر الرحمة ... 5_ شهر النور
12_ شهر العلم ... 11_ شهر المشيئة ... 10_ شهر العزة ... 9_ شهر الأسماء
16_ شهر الشرف ... 15_ شهر المسائل ... 14_ شهر القول ... 13_ شهر القدرة
19_ شهر العلاء ... 18_ شهر الملك. ... 17_ شهر السلطان
18_ العيد الرئيسي للبابية هو عيد النيروز، ومدته تسعة عشر يوماً(2).
19_ يستقبلون الشمس صباح كل جمعة بالسلام، ويوجبون ذلك.
من خلال ما مضى يتبين لنا بطلان هذه النحلة، وبُعدها عن دين الإسلام، بل ومناهضتها له.
كما يتضح لنا _أيضاً_ منافاتها للعقل؛ فَتَصَوُّر تلك النحلة كفيل بردها، وفسادها يغني عن إفسادها، ومما يتبين به بطلان هذه النحلة ما يلي:
1_ شخصية مؤسسها: فشخصية الشيرازي _الباب_ واضطرابه النفسي، وتخبطه، وشذواته الفكرية، وما مر من أطوار في حياته _ كل ذلك يؤكد كذب دعواه.
2_ تناقضه المستمر: فتارة يزعم أنه الباب إلى الإمام المنتظر، وتارة يزعم أنه هو المهدي، وتارة يدعي النبوة، وتارة يزعم أن الألوهية حلت فيه.
3_ تعاليمه الباطلة: فالتعاليم التي جاء بها الباب، والتي أراد من خلالها أن ينسخ شريعة الإسلامية لا يخفى فسادها، وعدم صلاحيتها على من عنده أدنى مُسكة من عقل.
4_ منافاة كتابهم للروح العلمية: فكتاب البابية _البيان_ لو وقع في يد أي شخص من العقلاء وقرأ فيه _ لأيقن أن تلك المقالات لا يكتبها إلا شخص مصاب في عقله؛ فلا وجود فيه لأفكار منتظمة، ولا تصور منطقي له حظ من القبول.
كما أن لغته غير سليمة؛ فكتاباته تعج باللحن، وأسلوبه ركيك، ممجوج.
__________
(1) _ حقيقة البابية والبهائية د. محسن عبدالحميد ص96.
(2) _ البابية للحموي ص32.(1/184)
ولولا الهوى والحقد اللذان يحجبان الإنسان عن رؤية الحق _ لما وجد الباب إلا الإهانة والازدراء لذلك السخف والجهل.
5_ خلو ادعاءاته من الأدلة: فلم يقدم الباب الأدلة على دعوته، بل ألقاها جزافاً عارية من الأدلة، وكل دعوى متجردة من الأدلة فهي _ بلا شك _ دعوى باطله.
6_ جبن الباب وخوره وعدم إصراره على دعواه: وذلك حينما قدم للمحاكمة، وهذا يدل دلالة واضحة على كذبه ودجله، وإلا كيف يليق بصاحب المبدأ الحق أن يتنازل عن مبادئه؟!.
بقي أن نعلم أنه لا يمكن لذلك الهراء أن ينطلي على العقلاء، وأنه لا يمكن للبابية أن تلقى ذلك الرواج إلا بمساندة المستعمرين الروس، الذين أرادوا من خلال ذلك أن يقضوا على المسلمين، أو يوهنوا قواهم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه صفحات معدودة، يُقَدَّمُ من خلالها نبذة يسيرة، عن فرقة ضالة كافرة، ظهرت في بلاد إيران في القرن الثالث عشر الهجري.
وهذه الفرقة هي البهائية، ومؤسسها رجل يدعى حسين علي المازندراني.
وسيتضح للقارئ من خلال الصفحات التالية ما يلي:
_ تعريف البهائية، وعلاقتها بالبابية.
_ مؤسس البهائية.
_ خصومات البهاء مع أخيه يحيى .
_ دعاوى البهاء.
_ تعاليم البهائية.
_ عقائد البهائية وشرائعهم.
_ أساليب الدعوة عند البهائيين.
_ كتب البهائية.
_ نماذج من كتابات البهاء.
_ علاقات البهائية باليهود.
_ حكم البهائية والانتماء إليها.
هذا ما تيسر كتابته في هذه النبذة، والله المستعان وعليه التكلان.
أولاً: تعريف البهائية: هي فرقة باطنية كافرة، ظهرت في إيران، في القرن الثالث عشر الهجري على يد حسين علي المازندراني، الملقب بالبهاء.
ثانياً: علاقة البهائية بالبابية: البهائية هي البابية السابقة، ولكنها انتقلت إلى مرحلة جديدة بعد مقتل الباب زعيم البابية.(1)
__________
(1) _ انظر عقيدة ختم النبوة لأحمد بن سعد بن حمدان الغامدي ص222.(1/185)
فالبهائية إذاً قامت على أنقاض البابية، وأراد المستعمرون من خلالها إكمال فصول المسرحية التي بدأت مع بداية البابية.
=هو الميرزا حسين علي بن الميرزا عباس بزرك المازندراني النوري، ولد سنة 1233هـ وكان والده مأموراً للمالية+(1).
=ولد الميرزا في أسرة كانت لها علاقات طيبة وطيدة مع السفارة الروسية بطهران+(2).
وقد تلقى الميرزا العلوم الشيعية، والصوفية منذ الصغر، وكان يعاشر الصوفية، ويتعب نفسه كثيراً في قراءة كتبهم، كما كان مطلعاً على كتب الباطنية، وكتب الفلاسفة القدامى.
=وعندما ادعى الميرزا علي محمد المهدية، مال إليه بإرشاد من الملا عبدالكريم القزويني+(3).
وقد =بدأ ينشر تعاليم أستاذه في طهران، ثم توجه إلى مازندران، وحضر مؤتمر بدشت مع غانية البابية _قرة العين_ وكان له تأثير عظيم عليها+(4).
وقد كان يوجه _ مؤتمر بدشت(5) _ خلف الكواليس، مستغلاً بذلك خضوع قرة العين له.
وكان الميرزا حسين يَتَّبع لتمكين شخصيته طرقاً عديدة؛ فتارة يتستر بالتقية المعروفة عند الشيعة، وتارة يتستر بالزهد، وتارة يضفي على نفسه شيئاً من الهالة، والهيبة، والعظمة؛ وذلك بعدم السماح بمقابلته إلا لأشخاص معدودين.
أما ثقافته فخليط بين البرهمية والبوذية، والكنفوشيوسية، والصوفية، والشيعية، والمزدكية، والباطنية، والنصرانية، والإسلامية.
وأكثر ما أَثَّر فيه من تلك الثقافات الثقافة الصوفية.
وكان موالياً للدول الاستعمارية _ بريطانيا وروسيا _ كما يوجد تعاون بينه وبين اليهود(6).
والميرزا حسين يلقب بالبهاء وإليه نسبت البهائية.
__________
(1) _ حقيقة البابية والبهائية للدكتور محسن عبدالحميد ص105.
(2) _ البهائية نقد وتحليل لإحسان إلهي ظهير ص8.
(3) _ حقيقة البابية والبهائية ص105.
(4) _ حقيقة البابية والبهائية ص105، وانظر البابية للكاتب.
(5) _ انظر البابية للكاتب.
(6) _ انظر المرجع السابق ص171.(1/186)
خصومات البهاء مع أخيه يحيى: بعد أن أعلن البهاء دعوته نفي إلى بغداد، وكان معه أخوه يحيى، ولكنهما لم يلبثا أن تنازعا على الزعامة الدينية؛ فكل منهما يدعيها لنفسها.
و=يتفق جميع المؤرخين على أن الباب(1) استخلف الميرزا يحيى نور الذي لقبه بـ: صبح أزل قبل إعدامه بمدة، وكتب بذلك ورقة التوصية بخطه، وختمها، وجعله بها خليفة من بعده، ثم عين أخاه الميرزا حسين علي (البهاء) وكيلاً عنه، وأمره بحجبه وإخفائه؛ لئلا يُمس بسوء، ولا يقع في أيدي الحكومة الإيرانية؛ لذا انتقل سراً مع البهاء إلى بغداد+(2).
ولكن الذي حصل أن البهاء بالغ في إخفاء أخيه، حتى حجبه عن أتباعه.
ولما رأى يحيى أن الميرزا حسين تمادى في ذلك وجد أن الأمر قد خرج من يده؛ فحصل بينهما خصومة، ومشاغبة، =حتى أدى ذلك إلى أن وضع كل منهما السم لأخيه في الطعام؛ فتدخلت الحكومة العثمانية باتفاق مع سفارة إيران، فنفت صبح أزل، وأتباعه إلى قبرص، ونفت الميرزا حسين علي، وأتباعه إلى عكا+.(3)
ثم استمر الميرزا حسين علي البهاء في منفاه حتى هلك عام 1309هـ وقد أوصى بالخلافة لابنه المسمى بعبد البهاء.
دعاوى البهاء: مرت دعوته بثلاث مراحل، كما حدث مع سلفه الباب، إلا أنه لم يدَّع البابية، وإنما ادَّعى أولاً أنه عيسى بن مريم _ عليه السلام _ ثم ادَّعى النبوة، ثم انتهى أخيراً إلى مرتبة الربوبية(4).
=البهائية مجموعة من التعاليم التي لا ترتبطها فكرة موحدة؛ فهي أخلاط من الأقوال، أخذها الميرزا حسين من المذاهب والأديان السابقة+(5).
__________
(1) _ زعيم البابية السابقة علي محمد الشيرازي.
(2) _ حقيقة البابية والبهائية ص108_ 109.
(3) _ حقيقة البابية والبهائية 108 _ 109.
(4) _ عقيدة ختم النبوة ص223.
(5) _ حقيقة البابية والبهائية ص150.(1/187)
وتعاليمها تقارب إلى حد كبير تعاليم البابية، فمن تلك التعاليم ما يلي(1):
1_ وحدة الأديان: فالبهائيون يزعمون أن الأديان بأوضاعها الحاضرة سببت البغضاء، والشحناء، ثم هم يعالجون هذا بالدعوة إلى الخروج على الأديان جميعاً.
وهذه الفكرة مأخوذة من الصوفية الغلاة كابن عربي الذي يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكرُ صاحبي ... إذا لم يكنْ إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ ... فمر عى لغزلانٍ ودير لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائفٍ ... وألواح توارة ومصحفُ قرآن
أدين بدين الحبِّ أنى توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني(2)
وكعبدالكريم الجيلي الذي يقول:
وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى
الهوى ... ومالي عن حكم الحبيب تنازع
فطوراً تراني في المساجد راكعاً ... وأنيَ طوراً في الكنائس راتع
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً ... فإني في علم الحقيقة طائع(3)
هذه هي دعاوى الصوفية، الذين يؤمنون بها وِحْدة الأديان، وهي تلك الدعوى التي ادعاها البهاء، ولا غرو في ذلك؛ فلقد تربى في أحضان الصوفية، وتأثر بهم، وبكتبهم.
وكما أن البهائيين تأثروا بالصوفية الحلولية والاتحادية في هذه الدعوى _ فهم _ أيضاً _ متأثرون بما دعت إليه الماسونية من ترك الأديان والاجتماع على دين واحد هو دين الحب على حدِّ زعمهم.
2 _ وحدة الأوطان: وهذه هي الفكرة الثانية للبهائية التي تدَّعي أن حسين علي (البهاء) دعا الناس إليها.
__________
(1) _ انظر البهائية نقد وتحليل ص93_114، وحقيقة البابية والبهائية ص150_165، والبهائية من الدعوات الضالة لأنوار الجندي ص11.
(2) _ انظر هذه هي الصوفية لعبدالرحمن الوكيل ص93، والصوفية في نظر الإسلام لعاطف الزين ص473.
(3) _ هذه هي الصوفية ص96.(1/188)
ومن أقواله في ذلك: =ومن التعصبات الرديئة التي تلحق بالتعصب الجنسي التعصبُ السياسي، أو الوطني، فقد حان الوقت لأن تندمج الوطنية الضعيفة ضمن الوطنية العمومية الكبرى، التي يكون فيها الوطن عبارة عن العالم بأجمعه+.
ويقول ابنه عباس أفندي: =التعصب الجنسي وهمٌ وخرافة واضحة؛ لأن الله خلقنا جميعاً جنساً واحداً، ومنذ الابتداء لم تكن هناك حدود بين البلدان المختلفة، فلا يوجد في الأرض جزء مملوك لقوم دون غيرهم+.
وهذه الدعوى تحمل في طياتها أهدافا كثيرة، وأهمها: خدمة الاستعمار الروسي آنذاك؛ حيث كان يطمع في إيران، وفي ذلك الوقت كان هذا العميل يمهد لهم الطريق للتوغل والتدخل في تلك الدولة بنزع الحمية الوطنية من قلب الشعب الإيراني.
3 _ وحدة اللغة: حيث قالوا: إنه يجب أن تكون هناك لغة مشتركة واحدة للإنسان بجانب اللغات المحلية؛ لأن وحدة اللغة _ في زعمهم _ تؤدي إلى التفاهم المشترك.
ولقد ربطوا هذه الفكرة بمجيء طاغوتهم الميرزا حسين وقالوا: تتكون وتتحقق ببركات ظهوره.
ولا أحد يشك ببطلان هذه الفكرة؛ فوحدة اللغة ليست هي التي تجمع الناس أو تفرقهم؛ فالمؤمن والكافر لا يمكن أن يجتمعا ولو كانت لغتهم واحدة، وكانا ينتميان إلى أسرة واحدة.
4 _ السلام العالمي وترك الحروب: ويهدفون من وراء ذلك إلى تعطيل فريضة الجهاد، وإلى الذل والخنوع والخضوع للمستعمرين.
5_ مساواة النساء بالرجال: وقد سارت البهائية في ذلك على طريق البابية حيث خَلُصت من هذه الدعوة إلى الإباحية المطلقة، وإلى تحطيم البقية الباقية من الأخلاق.
1_ التوحيد عندهم: يرى البهائيون أن التوحيد =هو معرفة الأجساد البشرية التي حلت أو تجلت فيها حقيقة الإلهية، فكل ما يقال عن الله يجب أن يقال عن الجسد البشري+(1) الذي حلت فيه الألوهية وهو البهاء، فهم يؤلهونه، ويعبدونه، ويزعمون أنه لا يعزب عن علمه شيء.
__________
(1) _ البهائية لعبدالله بن صالح الحموي ص31_32.(1/189)
2_ التأويل الباطني: وهذا مما يدين به البهائيون، ولا غرو في ذلك؛ فالبهائية فرقة باطنية.
ومن مظاهر باطنيتهم أنهم يقولون: =إن للقرآن ظاهراً، وباطناً، ورموزاً، وأسراراً؛ فهم لا يأخذون من القرآن إلا بما يفسرونه حسب رأيهم، ويقولون عن قصص القرآن: أنها رموز وأسرار، وأنه ليس لها سند من العلم والواقع والتاريخ+(1).
ومن تأويلاتهم للقرآن ما يلي: في قوله _ تعالى _:[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ](إبراهيم: 27).
=قال البهائيون _ وبئس ما قالوا _: الحياة الدنيا هي الإيمان بمحمد، والآخرة هي الإيمان بميرزا حسين علي البهاء+(2) .
وقالوا في قوله _ تعالى _: [كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ(30)](الأعراف).
=قالوا: أَيْ فريقاً هدى فآمن ببهاء الله، وفريقاً لم يؤمن فحق عليه الضلالة+(3).
وقالوا في قوله _ تعالى _: [وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ](التكوير:7): اجتمع اليهود والنصارى والمجوس على دين واحد؛ فامتزجوا وهو دين البهاء.
[وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ](التكوير:8) وهي الجنين يسقط في هذه الأيام، فيموت، فيُسأل عنه قبل القوانين؛ لأنها تمنع الإجهاض[وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ](التكوير:10): كثرت الجرائد والمجلات.
[وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ](التكوير:11): انقشعت أي الشريعة الإسلامية لم يعد يستظل بها أحد.
__________
(1) _ المرجع السابق ص37، وانظر البهائية لأنور الجندي ص18_23.
(2) _ حقيقة البابية والبهائية ص127 نقلاً من التبيان والبرهان 2/67.
(3) _ حقيقة البابية والبهائية ص127 نقلاً من التبيان والبرهان 2/67.(1/190)
[وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13)](التكوير): الأولى لمن عارض الميرزا، والثانية لأتباعه المؤمنين(1).
3_ القبلة: قبلة البهائيين التي يتوجهون إليها عند الصلاة هو البهاء كما صرح هو بذلك، وتتقلب القبلة حسب تنقلاته وتحركاته؛ فعندما كان في طهران كان سجن طهران قبلتهم، وفي بغداد تكون القبلة بغداد، وفي جبال السليمانية الجبال، وفي أدرنة أدرنة، وفي عكا عكا.
فهل رأى أحدٌ لعبة مثل هذه اللعبة؟!
ثم كيف للبهائيين أن يعرفوا أين قبلتهم في كل آن، وفي أسفاره إلى من كانوا يتجهون في عصر لم يكن اللآسلكي والتلفاز موجودين؟!(2).
4_ الصلاة(3): أما الصلاة عندهم فهي مختلفة عن الصلاة المعروفة عند المسلمين؛ فالصلاة عندهم ليست إلا لعبة من اللُّعب، أما عدد الصلوات فهي ثلاث بركعات تسع حين الزوال والبكور والآصال، وهذه الثلاث تسمى الكبرى، والوسطى، والصغرى ويكفي أداء واحدة منها كما قال ابنه وشارح آياته ومفسر تعليماته في جواب سائل: هل تجب الصلوات الثلاث كما نزل في الأقدس _ كتاب البهائية _ أم لا؟
فقال: إن الصلوات ليست واجبة بل تكفي منها الواحدة.
ويكفي أن يقول فيها: =شهد الله أنه لا إله إلا هو المهيمن القيوم+ فإذا قال هذا فقد أدى الصلاة الوسطى.
وفي السَّفر يكفي عن الصلاة أن يقول ساجداً: (سبحان الله).
أما حسين علي البهاء فلم يصلِّ في حياته قط؛ لأنه كان القبلة التي يتجهون إليها في صلواتهم؛ فإلى من كان يتَّجه إذاً؟!
__________
(1) _ حقيقة البابية والبهائية ص127 نقلاً من التبيان والبرهان 2/120_128.
(2) _ انظر البهائية نقد وتحليل لظهير ص150.
(3) _ انظر المرجع السابق ص157_162.(1/191)
وابنه كان مثله؛ لأنه لم ينقل عنه صلاة بهائية مطلقاً، بل كان منافقاً خداعاً، يتستر بالتقيِّة، فيصلي مع المسلمين في صلاتهم وخلف إمامهم وفي مساجدهم، فكان مسلماً مع المسلمين، ونصرانياً مع النصارى يدخل معهم في كنائسهم، ويهودياً مع اليهود، وملحداً مع الملحدين.
5_ الصوم: أما الصوم عندهم فهو تسعة عشر يوماً في شهر العلاء، وهو آخر الشهور البهائية التسعة عشر.
والصوم عندهم معناه الكف عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها، والمعنى أن الصائم يفعل كل شيء إلا الأكل والشرب.
أما فرضيته فقد عُفي عن المسافر، والمريض، والحامل، والمرضع، والكسول والهرم، والذي يشتغل بالأعمال الشاقة!(1).
6_ الزكاة: أراد البهائيون محاكاة الإسلام بفرض الزكاة، فها هو البهاء يقول: =قد كتب عليكم تزكية الأقوات، وما دونها بالزكاة، هذا ما حكم به منزل الآيات في هذا الرَّقِ المنيع+(2).
ولكن البهائيين لم يبينوا أحكام الزكاة، ولا تفاصيلها.
يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير ×: =فالباحث في كتب البهائية لا يجد مطلقاً وبتاتاً تفصيل الزكاة، ولا نصابها، لا في الأقدس، ولا غيره، من كتب المازندراني البهاء والبهائية، اللهم إلا ما قالوا: =يعمل في الزكاة كما نزل في الفرقان _أي القرآن_+.(3)
وهكذا لما عجزوا عن بيان تفاصيلها رجعوا إلى القرآن مع دعواهم أنه منسوخ بكتابهم الأقدس، ومع ذلك لم يعملوا بما جاء في القرآن.
7_ الحج: وأما الحج عندهم فهو حج للبيت الذي أقام فيه حسين علي في بغداد، والبيت الذي سكنه علي محمد الشيرازي _ الباب _ بشيراز.
وهذا واجب على الرجال دون النساء، مع دعواهم المساواة بين الرجال والنساء!(4)، ولم يذكر في كتبهم كيفية الحج أو زمانه(5).
__________
(1) _ انظر البهائية نقد وتحليل ص165_167.
(2) _ المرجع السابق ص168 نقلاً عن الأقدس.
(3) _ المرجع السابق ص168_169.
(4) _ المرجع السابق ص168_169.
(5) _ المرجع السابق ص 165.(1/192)
8_ الطهارة: البهائيون يحكمون على كل شيء بالطهارة =فالمني طاهر عند البهائية، والأشياء النجسة الأخرى يقول فيها المازندراني على الإطلاق: وكذلك رفع حكم دون الطهارة على كل شيء قذرة كانت أم نجسة.
وأمر المازندراني هكذا بالغسل في كل أسبوع مرة، وغسل الأرجل في الصيف مرة، وفي الشتاء مرة بعد الأيام الثلاثة، وأما الوجه والأيدي فليس له أهمية+(1).
9_ أمور الآخرة: أما أمور الآخرة فإنهم يؤولون الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحساب، والكتاب، والجنة، والنار، والبعث، والحشر، والميزان، وعذاب القبر، وغيرها، من الأمور الآخرة، شأنهم في ذلك شأن الفرق الباطنية(2).
10_ نكاح المحارم: تنص تعليمات البهائية على أنه =لا يحرم أية امرأة عندهم على الرجل، غير زوجة الأب.
وأما بقية نساء العالم فحلال أن ينكحهن المرء، بما فيهن الأخوات، والخالات، والعمات، وأمهات الرضاعة، وأمهات الأمهات إلى أعلاهن، والبنات إلى أسفلهن+.(3)
11_ عقائد أخرى: إضافة إلى ما مضى فإن البهائيين يدينون بعقائد أخرى غير ما سبق كتحريم الجهاد، والتناسخ، والحلول، والمكاشفة، والتقية، وغير ذلك من العقائد الباطلة(4).
يقوم البهائيون في سبيل نشر عقائدهم وتعاليمهم بأساليب عديدة، شأنهم في ذلك شأن سائر الفرق الباطنية التي تعمل في السراديب والأخبية، وخلف الكواليس، متسترين بالنفاق، وبالتقية، بحيث يبدأون بمعرفة حال المدعوين أفراداً وجماعات، ثم =يأتون كل واحد من أقرب شيء إلى قلبه، وأدناه إلى فهمه، أي أنهم يلبسون لكل أمر ملبوساً، ويتصرفون مع كل طائفة بتصرف ينسجم مع عاداتها وتقاليدها.
__________
(1) _ المرجع السابق ص169.
(2) _ انظر حقيقة البابية والبهائية ص149.
(3) _ البهائية نقد وتحليل ص183.
(4) _ انظر البهائية لعبد الله الحموي ص34_38.(1/193)
إن الميرزا حسين أمر أتباعه بأن يكونوا مخلصين لكل دولة، مطيعين لكل قانون، ويتعاملون مع جميع أهل الأرض بالروح والريحان+(1).
ولقد طبق أتباعه تلك التعاليم، لذلك قد =يُرون وهم يصلون مع المسلمين في المساجد، أو يقفون وقفة خشوع أمام الصليب مع النصارى، أو يرتلون مع اليهود قصص التوراة، ويقرؤون الوصايا العشر، ولا مانع لديهم حسب خطتهم وحسب وصية طاغوتهم أن يقدسوا البقر مع الهنود، أو يمجدوا نار المجوس مع الزرادشتيين+(2).
كتب البهائية (3)
للبهائية عدة كتب، أشهرها الإيقان، والأقدس.
وكتاب الإيقان هذا يتنازعه البهاء المازندراني وأخوه المخالف له يحيى المازندراني؛ فكل منهما يدعيه لنفسه.
أما الأقدس فهو من تأليف البهاء الميرزا حسين الذي زعم أنه نزل من سماء المشيئة الإلهية، ويقع في 22 صفحة من الحجم المتوسط.
والناظر في هذا الكتاب يلاحظ ما يلي:
1_ ضعف التركيب، وكثرة اللحن، والأخطاء اللغوية.
2_ كثرة التعقيد، والتكرار الممجوج.
3_ كثرة الأخطاء العلمية الفاحشة، والمعاني الساقطة، والأحكام العشوائية.
4_ الجهل المركب بأمور الحياة والمجتمع.
5_ كتاباته تطفح بادعاء الربوبية والألوهية.
6_ اشتماله على الأفكار الصوفية، التي يهيم صاحبها في أودية الخيال، وسنوحات الفكر.
7_ لم يقف الميرزا عند حد تقليد أسلوب القرآن الكريم، وإنما سطا على آياته، وحشرها في كتبه، موهماً أنها أحكام جديدة.
هذه بعض النماذج من كتابات البهاء؛ يتبين من خلالها حقيقة ما سبق في الفقرة الماضية:
__________
(1) _ 2_ حقيقة البابية والبهائية ص166.
(3) _ انظر البهائية لمحب الدين الخطيب ص27، وحقيقة البابية والبهائية ص119، والبهائية نقد وتحليل ص220_248، وعقيدة ختم النبوة ص227، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للقفاري والعقل ص162_163.(1/194)
يقول البهاء عن كتابه الأقدس: =قل تالله الحق لا تغنيكم اليوم كتب العالم، ولا ما فيه من الصحف إلا بهذا الكتاب الذي ينطق في قطب الإبداع، وإنه لا إله إلا أنا العليم الحكيم+(1) .
ويقول في موضع آخر من الأقدس: =احمدوا الله بهذه الموهبة، التي أحاطت السموات والأراضين، اذكروا الله بهذه الرحمة التي سبقت العالمين، قل قد جعل الله مفتاح الكنز حبي المكنون، لو أنتم تعرفون، لولا المفتاح لكان مكنوناً في أزل الآزال، لو أنتم توقنون، قل هذا المطلع الوحي، ومشرق الإشراق الذي به أشرقت لو أنتم تعلمون+(2).
ويقول _أيضاً_: =قد حكم الله دفن الأموات في البلور، أو الأحجار الممتنعة، أو الأخشاب الصلبة اللطيفة، ووضع الخواتيم المنقوشة في أصابعهم، إنه لهو المقدر العليم، ويكتب للرجال، ولله السموات والأرض وما بينها وكان بكل شيء عليماً، وللورقات، ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وكان الله على كل شيء قديراً+(3).
ومن ذلك قوله: =وجعلنا الدار المسكونة والألبسة المخصوصة للذرية من الذكران دون الإناث والوارث إنه لهو المعطي الفياض+(4).
وهناك أقوال مضحكة منها: =من يقرأ آية من آياتي خير له من أن يقرأ كتب الأولين والآخرين+(5).
وقوله: =من يُحزن أحداً فله أن ينفق تسعة عشر مثقالاً من الذهب هذا ما حكم به مولى العالمين+(6) ويقصد بذلك نفسه.
ومن سرقاته من القرآن الكريم قوله: =إنه يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يشاء+(7) أخذاً من قوله _تعالى_: [لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ](الانبياء: 23).
__________
(1) _ البهائية نقد وتحليل ص222 نقلاً عن الأقدس.
(2) _ حقيقة البابية والبهائية ص120 نقلاً عن الأقدس ص 110.
(3) _ نفس المرجع نقلاً عن الأقدس ص123.
(4) _ نفس المرجع السابق ص121 نقلاً عن الأقدس ص111.
(5) _ نفس المرجع ص 123 نقلاً عن الأقدس ص125_ 126.
(6) _ المرجع السابق.
(7) _ المرجع السابق ص124 نقلاً عن الأقدس ص109.(1/195)
ومن ذلك قوله: =إذا أرسلتم الجوارح للصيد اذكروا الله إذ يحل ما أمسكن لكم ولو تجدونه ميتاً إنه لهو العليم الخبير+(1) أخذاً من قوله _تعالى_: [وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ](المائدة:4).
فهذه النماذج تكشف لنا عوار المازندراني، وكذبه وافتراءه ودجله.
ولقد =شعر البهائيون بانكشاف أمرهم فلم يطبعوا الكتاب الأقدس من مدة طويلة، بل كانوا يمنعون أتباعهم من طبعه؛ خوفاً من الخزي والفضيحة، فهذا هو ابن البهاء عباس والذي ورث عن أبيه زعامة البهائية يرد على من يستأذن منه بطبع (الأقدس): =إن الكتاب الأقدس لو طبع لانتشر ووقع في أيدي الأراذل والمتعصبين؛ لذا لا يجوز طبعه كل ذلك خوفاً من انتشار أمرهم وتآمرهم+(2).
كعادة اليهود في تأسيس الفرق الضالة أو احتضانها حرصوا كل الحرص على تشجيع البهائية واستغلالها، ولقد كانت اليهودية من قبل =وراء الحركة البابية التي ظهرت في إيران، وأنها لم تكتف بالتشجيع، بل تعدته إلى المساندة الفعلية، فسخرت كل ما لديها من وسائل مادية هائلة في سبيل إنجاح تلك الحركة+(3).
ولسائل أن يسأل، ما الذي حدا باليهود إلى ذلك الأمر؟ وما الذي جعلهم يقومون بتلك الأعمال؟
الجواب على ذلك أن اليهود وغيرهم من الكفار يخافون الإسلام، ويعلمون أنه إذا عاد المسلمون إلى دينهم عودة صادقة فلن تقوم لليهود ولا لأعداء الله قائمة؛ ذلك أن روح الجهاد تسري في مسارب دماء المسلمين، تلك الشعيرة العظيمة، التي ترهب أعداء الإسلام.
__________
(1) _ البابية والبهائية وأهدافها في دعوى النبوة والرد عليها لأحمد بن حجر آل بوطامي النبعلي ص105.
(2) _ الموجز ص163.
(3) _ حقيقة البابية والبهائية ص171.(1/196)
فلما كان الأمر كذلك عمد اليهود إلى تفتيت قوة المسلمين من الداخل، وذلك بتفريق صفوفهم، وإماتة روح الجهاد فيهم؛ حتى يتسنى لهم تحقيق ما يريدون من أطماع توسعية، ومكاسب تخدم مصالحهم.
ولما رأوا أن فكرة ظهور المهدي الشيعي المنتشرة في إيران تسعفهم في سبيل التخلص من الإسلام _ احتضنوا حركة الرشتي، ورفعوا الميرزا علي محمد؛ تمهيداً لإعلانه مهدياً جاء لنسخ شريعة الإسلام، وإلغاء الجهاد.
وبعد إخفاق الحركة البابية في إيران، وإعدام الميرزا، ومطاردة أتباعه أرادوا أن يخطوا الخطوة التالية، وهي دفع تلميذ من تلامذة الباب إلى إعلان ظهوره؛ ليساهم في هدم مبادئ الإسلام، وإبطال الجهاد؛ فهيأوا له الظروف الملائمة، فساعدوه في بغداد متعاونين مع الأوساط الاستعمارية، ثم نقلوه إلى تركيا، ومنها دبروا نقله إلى عكا؛ حيث أعدوا المؤامرة الكبرى(1).
=وبلغ الأمر ببعض اليهود المتحمسين للبهائية أن استخلصوا من دفائن العهد القديم، وتنبؤات أسفاره ما يُنْبئ بظهور بهاء الله، وعباس، وزعموا أن كل آية تشيد بِمجْد يهوَهْ _إله اليهود_ أنها تعني ظهور مخلص للعالم في شخص بهاء الله+(2).
وقد أراد اليهود من الميرزا في دعوته أن يثبت أحقية اليهود في فلسطين، فكان ابناً باراً باليهود؛ فلقد قضى حياته في الدعوة إلى التجمع الصهيوني على أرض فلسطين.
__________
(1) _ انظر حقيقة البابية والبهائية ص171.
(2) _ عقيدة ختم النبوة ص237 نقلاً عن العقيدة والشرعية لجولد زيهر ص280.(1/197)
قال في كتابه الذي زعم أنه وحي ينزل عليه من السماء(1): =هذا يوم فاز الكليم بأنوار القديم، وشرب زلال الوصال من هذا القدح الذي به سجرت البحور، قل تالله إن الطور يطوف حول مطلع الظهور، والروح ينادي من في الملكوت: هلموا وتعالوا يا أبناء الغرود هذا يوم فيه سرع كرم الله شوقاً للقائد، وصاح الصهيون قد أتى الوعد، وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله تعالى العزيز المحبوب+(2).
ويقول ابنه عبد البهاء عباس عن هذه الدعوة الماكرة لهذا التجمع اليهودي الصهيوني: =وفي زمن ذلك الغصن الممتاز، وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وتكون أمة اليهود التي تفرَّقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة+.
ثم يقول: =فانظر الآن تأتي طوائف اليهود إلى الأرض المقدسة، ويمتلكون الأراضي والقرى، ويسكنون فيها، ويزادون تدريجياً إلى أن تصير فلسطين جميعاً وطناً لهم+.
ولا يكتفي بهذا بل يدافع عنهم في خبث ظاهر، ويذكر جملة أباطيل فيقول: =وقد اعتبر المسيحيون والمسلمون أن اليهود شياطين، وأنهم أعداء، ولذلك لعنوهم واضطهدوهم، وقتلوا الكثيرين منهم، وأحرقوا منازلهم، ونهبوا أموالهم، وأسروا أطفالهم+(3).
ومن هنا يتبين لنا عمق العلاقة التي تربط بين اليهود والبهائيين.
ومما يضاف إلى ذلك أن البهائية تلتقي _ أيضاً _ مع الماسونية في أمور عديدة تكاد تجعلها متطابقة معها تطابقاً كاملاً لولا ادعاء البهائية أن لها كتاباً وأنها مذهب بل دين جديد؛ فكلاهما تنكران جميع الأديان وتتنكران لها، وكلاهما يقول بالتقية، وينسخ الجهاد، وينادي كذباً وزوراً بالسلام العالمي(4).
__________
(1) _ انظر حقيقة البابية والبهائية ص172.
(2) _ حقيقة البابية والبهائية ص172 نقلاً عن الأقدس ص118.
(3) _ حقيقة البابية والبهائية ص172_ 173 نقلاً عن مفاوضات عبدالبهاء ص59.
(4) _ انظر الماسونية ذلك المحفل الشيطاني لأحمد الحصين ص62.(1/198)
وكما أن للبهائية علاقة مع اليهود والماسونية كذلك لها علاقة وطيدة مع الاستعمار الروسي(1) والإنجليزي(2).
وهكذا نجد أن هؤلاء القوم يلبسون لكل أمر لبوسه، حسب ما تقتضيه شهواتهم، ومصالحهم، وتقلبات أمزجتهم، منفذين بذلك تعليمات طاغوتهم ودجالهم؛ فتارة يعطي الولاء لليهود، وتارة للروس، وتارة للإنجليز، ولسان حاله يقول:
يوماً يمان إذا لاقيتَ ذَا يمنٍ ... وإنْ لَقيْتَ مَعْدِياً فَعَدْنَاني
فتوى المجمع الفقهي في البهائية (3):
أفتى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي المنعقد من 10_17 شعبان 1389هـ بفتوى تبين حكم البهائية وهذا نص تلك الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي نحلة البهائية التي ظهرت في بلاد فارس (إيران) في النصف الثاني من القرن الماضي، ويدين بها فئة من الناس منتشرون في البلاد الإسلامية والأجنبية إلى اليوم.
ونظر المجلس فيما كتبه ونشره كثير من العلماء، والكتاب، وغيرهم من المطلعين على حقيقة هذه النحلة، ونشأتها، ودعوتها، وكتبها، وسيرة مؤسسها المدعو ميرزا حسين علي المازندراني المولود في 20 من المحرم 1233، 12 من تشرين الثاني نوفمبر 1817م وسلوك أتباعه، ثم خليفته ابنه عباس أفندي المسمى عبدالبهاء، وتشكيلاتهم الدينية التي تنظم أعمال هذه الفئة ونشاطها.
وبعد المداولة، واطلاع المجلس على الكثير من المصادر الثابتة، والتي يعرضها بعض كتب البهائيين أنفسهم تبين لمجلس المجمع ما يلي:
__________
(1) _ انظر عقيدة ختم النبوة ص 238_ 239.
(2) _ انظر حقيقة البابية والبهائية ص176_ 180، وعقيدة ختم النبوة ص439.
(3) _ قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي عن دورته الأولى حتى الثامنة ص40، وانظر مجلة البحوث الفقهية المعاصرة عدد 11 ص 171_ 172.(1/199)
1_ أن البهائية دين جديد مخترع، قام على أساس البابية، التي هي _ أيضاً _ دين جديد مخترع ابتدعه المسمى باسم (علي محمد) المولود في أول المحرم 1235هـ، من تشرين الأول أكتوبر 1819م في مدينة شيراز، وقد اتجه في أول أمره اتجاهاً صوفياً فلسفياً على طريقة الشيخية، التي ابتدعها شيخه الضال كاظم الرشتي، خليفة المدعو أحمد زين الدين الأحسائي، زعيم طريقة الشيخية، الذي زعم أن جسمه كجسم الملائكة نوراني، وانتحل سفسطات وخرافات أخرى باطلة.
وقد قال علي محمد بقولةِ شيخه هذه، ثم انقطع عنه، وبعد فترة ظهر للناس بمظهر جديد أنه هو علي بن أبي طالب الذي يروي فيه عن الرسول " أنه قال: =أنا مدينة العلم وعلي بابها+ ومن ثم سمى نفسه (لباب) ثم ادعى أنه الباب المهدي المنتظر، ثم قال إنه المهدي نفسه، ثم في أخريات أيامه ادعى الألوهية، وسمى نفسه الأعلى.
فلما نشأ ميرزا حسين علي المازندراني (المسمى بالبهاء) المذكور وهو معاصر للباب، اتبع الباب في دعوته وبعد أن حوكم، وقتل لكفره وفتنته أعلن ميرزا حسين علي أنه موصى له في الباب برئاسة البابية.
وهكذا صار رئيساً عليهم وسمى نفسه (بهاء الدين).
ثم تطورت به الحال حتى أعلن =أن جميع الديانات جاءت مقدمات لظهوره، وأنها ناقصة لا يكملها إلا دينه، وأنه هو المتصف بصفات الله، وهو مصدر أفعال الله، وأن اسم الله الأعظم هو اسم له، وأنه هو المعني برب العالمين، وكما نسخ الإسلام الأديان التي سبقته تَنْسَخُ البهائية الإسلام+.
وقد قام الباب وأتباعه بتأويلات لآيات القرآن العظيم غاية في الغرابة والباطنية، وبتنزيلها على ما يوافق دعوته الخبيثة، وأن له السلطة في تغيير أحكام الشرائع الإلهية، وأتى بعبادات مبتدعة يعبده بها أتباعه.
وقد تبين للمجمع الفقهي بشهادة النصوص الثابتة عن عقيدة البهائيين التهديمية للإسلام، ولا سيما قيامها على أساس الوثنية البشرية في دعوى ألوهية البهاء وسلطته في تغيير شريعة الإسلام.(1/200)
يقرر المجمع الفقهي بإجماع الآراء خروج البهائية والبابية عن شريعة الإسلام، واعتبارها حرباً عليه، وكفر أتباعه كفراً بواحاً سافِراً لاتأويل فيه، وإن المجمع ليحذر المسلمين في جميع بقاع الأرض من هذه الفئة المجرمة الكافرة، ويهيب بهم أن يقاوموها ويأخذوا حذرهم منها، ولاسيما أنها قد ثبت مساندة الدول الاستعمارية لها؛ لتمزيق الإسلام والمسلمين، والله الموفق.
الرئيس/ محمد بن علي الحركان.
نائب الرئيس/ عبدالله بن حميد.
الأعضاء:
1_ عبدالعزيز بن باز. ... ... 2_ محمد محمود الصواف.
3_ صالح بن عثيمين. ... ... 4_ محمد بن عبدالله بن سبيل.
5_ محمد رشيد قباني. ... ... 6_ مصطفى الزرقاء.
7_ محمد رشيدي. ... ... ... 8_ عبدالقدوس الهاشمي الندوي.
9_ أبو بكر جومي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن القاديانية فرقة ضالة، ونحلة كافرة، خرجت في بلاد الهند في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، على يد رجل يُدعى ميرزا غلام أحمد القادياني.
وهذه الفرقة تتستر بالإسلام، وتهدف إلى خدمة الأهداف الاستعمارية، والقضاء على المسلمين، وتفريق كلمتهم.
وفيما يلي من صفحات نبذة يسيرة عن هذه الفرقة، يتضح من خلالها ما يأتي:
_ تعريف القاديانية، واسمهم الآخر.
_ نشأة القاديانية.
_ أسباب قيام القاديانية.
_ أهداف قيام القاديانية.
_ نبذة عن حياة غلام أحمد القادياني.
_ بداية شهرة القادياني، ودعوته.
_ شخصية القادياني، وأخلاقه.
_ دعاوى القادياني الباطلة.
_ نهاية القادياني.
_ عقائد القاديانية.
_ مواطن انتشار القاديانية.
_ القاديانية بعد هلاك مؤسسها.
_ فرق القاديانية.
_ أعمال القاديانية، ونشاطاتها الدعوية.
_ الرد على دعاوى القاديانيين.
_ حكم القاديانية، والانتماء إليها.
فإلى تلك الصفحات والله المستعان، وعليه التكلان.(1/201)
أولاً: تعريف القاديانية: هي طائفة كافرة، ونحلة هدامة، ظهرت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري في أرض قاديان من أرض الهند على يد رجلٍ اسمه ميرزا غلام أحمد القادياني، واتخذت من الإسلام شعاراً؛ لستر أغراضها الخبيثة، وعقائدها الفاسدة(1).
والقاديانية هم أتباع ميرزا غلام أحمد القادياني، وسموا بذلك نسبة إلى البلد الذي ولد فيه هذا المتنبئ الكذاب.
ثانياً: اسمهم الآخر: للقاديانية اسم آخر، فهم في أفريقيا وغيرها من البلاد الإسلامية يسمون أنفسهم: (أحمدية) تزويراً على المسلمين.
والحقيقة أنه لا علاقة لهم برسول الله " الذي اسمه أحمد، وإنما النسبة لمتنبئهم أحمد القادياني.
أما في الباكستان والهند فيعرفون بالقاديانية. (2)
نشأة القاديانية (3)
في منتصف القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد سنة 1857م قام الإنجليز بالاستيلاء على الهند، وسقطت بذلك إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن السادس عشر الميلادي.
وبرغم ذلك فإن المسلمين _ إزاء هذا الاستعمار _ لم يقر لهم قرار، ولم يهدأ لهم بال، فقاوموا الاستعمار بشتى الوسائل، فقادوا الثورات، والحركات الداخلية، التي تطالب بجلاء المستعمر من بلادهم مما أفزع ذلك الإنجليز، وأقض مضاجعهم، وجعلهم يبحثون عن طريق يقاومون به تلك الحركات الجهادية التي تثار ضدهم من قبل المسلمين.
__________
(1) _ انظر عقيدة ختم النبوة لأحمد بن سعد بن حمدان ص242، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة د. ناصر العقل و د.ناصر القفاري ص144.
(2) _ انظر القاديانية دراسات وتحليل لإحسان إلهي ظهير ص1.
(3) _ انظر القاديانية لإحسان إلهي ظهير المقال الأول ص1_18، وعقيدة ختم النبوة ص242، والمذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة، ص275.(1/202)
ولقد أدركت الحكومة الإنجليزية ذلك الخطر، وعرفت أن طبيعة المسلمين دينية؛ فالدين هو الذي يحركها، والدين هو الذي يُسكنها، وأن المسلمين لا يؤتون إلا من قبل العقيدة والإقناع الديني، وما يكون له طابع ديني.
واقتنعت أخيراً بأنه لا يؤثر في المسلمين وفي اتجاههم مثل ما يؤثر قيام رجل منهم باسم منصب ديني رفيع، ويجمع حوله المسلمين، ويخدم سياسة الإنجليز، ويؤمنهم من جهة المسلمين، وعائلاتهم.
وفي شخص ميرزا غلام أحمد القادياني _ الذي كان مضطرب الأفكار والعقيدة، وكان طموحاً إلى أن يؤسس ديانة جديدة ويكون له أتباع ومؤمنون، ويكون له مجد واسم في التاريخ مثل ما كان للنبي " _ وجد الإنجليز ضالتهم؛ فاتخذوه وكيلاً لهم يعمل لمصلحتهم بين المسلمين (1).
وحينئذٍ استطاعوا شغل المسلمين ببعض، وتمكنوا من عمل ما يريدون، ومن هنا نشأت القاديانية.
أولاً: أسباب قيام القاديانية:
من خلال ما مضى يمكن إجمال بعض الأسباب والعوامل التي ساعدت على قيام القاديانية فيما يلي:
1_ طبيعة بلاد الهند: فمن أسباب قيام القاديانية طبيعة البيئة الهندية، التي يخيم عليها الجهل، فهي من قديم الزمان موطن الأديان الوثنية، والنِّحل والمذاهب، وبيئة المتنبئين والمتألهين، حتى قال الأستاذ مسعود الندوي: =كان أهل الهند يعبدون ثلاثين مليوناً من الآلهة+(2) .
2_ احتضان الإنجليز لتلك الدعوة، ودفع الناس إلى اعتناقها.
3_ شخصية القادياني: حيث شخصية القادياني الشاذة بحبه للشهرة، وطموحه لتولي الزعامة، وغير ذلك من شذوذاته التي سيمر شيء منها _ إن شاء الله _.
4 _ تقصير المسلمين في واجب الدعوة إلى الله: فعندما قصروا في ذلك غُزو في عقيدتهم، وراجت الخرافات والأباطيل في أوساطهم.
ثانياً: أهداف قيام القاديانية:
__________
(1) _ القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام، أبو الحسن الندوي ص5.
(2) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للعقل والقفاري ص 145.(1/203)
أنشئت هذه النحلة الخبيثة لأهداف عديدة منها:
1 _ خدمة الأهداف الاستعمارية.
2 _ رد المسلمين عن دينهم أو توهين العقيدة في نفوسهم.
3 _ حمل المسلمين على التعلق بالإنجليز، والسير في ركابهم.
4 _ تفكيك روابط الأخوة بين المسلمين، وتحطيم الولاء والبراء.
5 _ إلغاء فريضة الجهاد التي كادت أن تطيح بالإنجليز(1).
نبذة عن حياة غلام أحمد القادياني (2)
هو غلام أحمد بن غلام مرتضى، وهو فارسي الأصل، رحل آباؤه إلى منطقة البنجاب، من أرض الهند، وبنوا بها قرية سموها إسلام بور، وتعرف الآن بـ: قاديان، ويزعم القادياني أنه مغولي.
والمعروف أن المغول قوم من الأتراك، ولكنه يشير في موضع آخر إلى أن أسرته فارسية حيث قال: =والظاهر أن أسرتي من المغول، ولكن الآن ظهر لي من كلام الله أن أسرتي حقيقة أسرة فارسية، وأن أؤمن بهذا؛ لأنه لا يعرف أحد حقائق الأسر مثل ما يعرفها الله _ تعالى _+.
ويقول: =أنا قرأت في بعض الكتب من سوانح آبائي وأجدادي أنهم من قبيلة مغول، وهكذا سمعت من أبي.
ولكن الله أوحى إلي أنهم ليسوا من الأتراك، بل هم من بني فارس، و_أيضاً_ أخبرني الله أن بعض جداتي كن من بني فاطمة وآل البيت+.
=وسُئل كيف تقول: إنك من المغول ثم تنحرف وتقول إنك من بني فارس؟ وبأي دليل؟
فقال لا دليل عندي بأني من بني فارس سوى إلهام الله في ذلك+.
وقد ولد غلام أحمد عام 1256هـ، ودرس في صغره عدة علوم منها الصرف والنحو، وبعض الكتب العربية، والفارسية، والطب، والعرافة، ولكنه لم يفلح في دراسة علوم الشريعة كالحديث والفقه وغيرهما.
وكان بعض أساتذته حشاشين وأفيونيين كما ذكر ابنه وخليفته أحمد في خطابه المنشور في جريدة قاديانية (الفضل) 5 فبراير 1929م.
__________
(1) _ انظر أجنحة المكر الثلاثة لعبد الرحمن الميداني ص227.
(2) _ انظر القاديانية لإحسان إلهي ظهير ص124 ، وإلى عقيدة ختم النبوة ص242 _ 246.(1/204)
ودرس الكتب البدائية في الإنجليزية في سيالكوت، كما ذكر ابنه بشير أحمد.
وفي أثناء قيامه في سيالكوت فتحت مدرسة ليلية إنجليزية لموظفي الحكومة، وعين الطبيب أمير شاه مدرساً في هذه المدرسة، وبدأ يدرس الإنجليزية في هذه المدرسة وقرأ كتاباً أو كتابين.
ويعلق الشيخ إحسان إلهي ظهير × على تعليم القادياني بعد أن استعرضه قائلاً: =فهذا كل تعليمه ودراسته ويظهر أثراته(1) في كتاباته ومقالاته؛ فهو لا يخطئ فقط في المسائل العلمية الدقيقة، بل يغلط أغلاطاً فاحشة في الأمور المعروفة البسيطة التاريخية فمثلاً يقول: إن رسول الله " ولد، وبعد أيام من ولادته مات أبوه+(2) .
هذا وقد بدأ حياته في التقشف والزهادة، وعندما تبوأ الزعامة الدينية اتسع له العيش، وأغدقت عليه الأموال، فأصبح يعيش هو وأهله في بذخ وطيش ونعيم.
كحال كل داع إلى ضلالة أو بدعة ظهر القادياني أول ما ظهر بصورة المدافع عن الإسلام؛ لأنه حينما ترك الوظيفة في سيالكوت، صار معطلاً لا شغل له، فبدأ يدرس كتب الهندوس، والنصرانية؛ لأن المعارك الكلامية والمناظرات المذهبية كانت دائرة آنذاك بين علماء المسلمين ورجال الدين النصراني، والهندوس في الهند، وكان عامة المسلمين يحترمون علماءهم ومناظريهم، ويخدمونهم قدر استطاعتهم بكل ما كانوا يملكون من الأموال والأنفس، شأن المسلمين قبل نصف قرن في كل أنحاء العالم، فوجد غلام أحمد أن هذا العمل عمل سهل ومُجدٍ بالنسبة له، ويستطيع أن يكسب به من المال ما لم يستطع كسبه في الوظيفة، ففعل أول ما فعل أنه نشر إعلاناً ضد الهندوس ثم كتب بعض المقالات ضدهم، وبعد ذلك تابع الإعلانات والنشرات ضد الهندوس والنصارى؛ فتوجه إليه المسلمون.
وكان هذا في سنة 1877 و 1878م.
__________
(1) _ لعل المقصود بتلك الكلمة =آثاره+ أو =آثار ذلك+.
(2) _ القاديانية لظهير ص128.(1/205)
ثم أعلن أنه بدأ يكتب كتاباً في خمسين مجلداً يدفع فيه كل الإيرادات والاعتراضات التي تعترض بها الكفار عامة على الإسلام .
وهكذا غرر هذا الدجال ببعض المسلمين، فانخدع به الجهلة والعوام، وظنوا أنه ولي من أولياء الله، فالتفوا حوله وساندوه.
ثم استمر القادياني في إصدار الكتب التي يتحدث بها عن نفسه ومكاشفاته، فأصدر الجزء الأول والثاني والثالث، إلا أنه عندما أصدر الجزء الرابع من براهين أحمدية وبعدما وصل هذا الكتاب إلى الناس تعجبوا منه؛ لأنه بدل أن يذكر فيه الإيرادات والشبهات للمتربصين سَوَّد صفحاته بكراماته، ومدح الاستعمار الكافر؛ ففطن العلماء أن الرجل ليس إلا مخادعاً كذاباً أراد من إعلانه وشهرته ضد الهندوس والنصارى، استغلال المسلمين واكتساب المال والجاه، والشهرة لا خدمة الإسلام والمسلمين والمدافعة عنهما.
ولما كان الإنجليز مضطربين خائفين من ثورات المسلمين بحثوا عن شخص له سمعته عند المسلمين، فوجدوا في هذا الدجال ضالتهم، خصوصاً وأنه كان من أسرة معروفة بعمالتها لهم، فأصبح بذلك أداة للاستعمار يحركها كيف يشاء. (1)
وحينما اعترض بعض المسلمين على صنيعه ووقوفه مع الاستعمار قال: =فليعرف كل واحد أني ما مدحت هذه الحكومة إلا اتباعاً بتعليمات(2) السنة+(3).
وهكذا احتضنه الإنجليز، وقدموا له ما يريد، ورفعوا من شأنه، فبدأ يبث دعاواه الباطلة الهدامة.
لم تكن شخصية القادياني تؤهله لقيادة أقل الجماعات الدينية، بل ولا رعاية نفسه ؛ لما كان عليه من بذاءة اللسان وسوء الأخلاق، إلى جانب البلادة والجبن اللذين كان يتصف بهما .
__________
(1) _ انظر القاديانية ص135_137.
(2) _ الصواب أن يقال: =إلا اتباعاً لتعليمات+.
(3) _ القاديانية لظهير ص37.(1/206)
يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير عنه: =وأما الأشياء التي امتاز بها في طفولته فكما يلي: أولاً بجبنه، وثانياً بسفاهته، وثالثاً باختلاس الأموال، ورابعاً بكثرة أمراضه+(1).
فمن جبنه أنه =لم يدخل المنازلات والمصارعات، كعادة أبناء الشرفاء آنذاك، ولم يتعلم الفنون العسكرية، مع أن الناس كانوا يعدون هذه الأشياء من لوازم الشرف والشجاعة+(2).
ومن ذلك أنه =أراد أن يذبح فروجا ًفقطع أصبعه، وسال منها الدم، فقام مستغفراً تائباً؛ لأنه طوال حياته ما ذبح حيواناً قط+(3).
أما سفاهته وغباؤه فيظهر في أمور عديدة منها =جهله بأبسط الأمور الحياتية التي يعرفها الأطفال بالتعود والمران، كالتمييز بين يمين الحذاء من شمالها، وكاستخدام الساعة، ونحو ذلك من الأمور التي لا تحتاج إلى جهد عقلي لمعرفتها أو استخدامها.
ولكن القادياني كان لفرط بلادته وغبائه لم يكن يحسن ذلك، فقد لا يميز الحذاء اليمين والشمال، مما اضطره لوضع علامة بإحداهما؛ ليتمكن من معرفتها.
وكان الناس يسخرون منه لذلك فقال فيهم: =ويذكرون النعلين عند المقال كأنهم يتمنون ضرب النعال+(4) .
=ومن سفاهته ما ذكره _ أيضاً _ ابن الغلام: أخبرتني أمي أن حضرته حدثها مرة أنه حين طفولته قال له بعض الأطفال هات لنا السُّكَّر من البيت، فجئت إلى البيت، وبدون أن أسأل أي واحد أخذت ما ظننته سكراً، وفي الطريق بدأت آكله فلما وصل هذا الشئ إلى الحلقوم اختنقت، وأوذيت إيذاءاً شديداً، وعرفت أن ما كنت أفهمه سكراً كان ملحاً+. (5)
__________
(1) _ 2 _ 3 _ القاديانية لظهير ص129.
(4) _ عقيدة ختم النبوة ص245.
(5) _ القاديانية لظهير ص129_130.(1/207)
=أما أمراضه فكانت كثيرة جداً، منها أن يده اليمنى كانت مكسورة إلى آخر عمره، وكانت ضعيفة لا يستطيع أن يرفع بها إناء الماء، كما أصيب بمرض الدق، والسل، ومرض البول، ودوران الرأس، وكان مصاباً بمرض عصبي، كما كان سيء الذاكرة، وكانت عيناه ضعيفتين مريضتين، وأخيراً ابتلي بما لو يسمى مجموعة الأمراض لما يكون خلاف الواقع؛ فكان مصاباً بالمراق وهو نوع من الماليخوليا، وكان _أيضاً_ مصاباً بدوران الرأس، وقلة النوم، وسوء الهضم، وضعف القلب، والإسهال، كما أصيب بهستريا بعد موت ابنه بشير الأول+(1).
أما أخلاقه فقد كان سيِّء الخلق، ويظهر ذلك من خلال كثير من عباراته البذيئة المقذعة التي كان يرمي بها مخالفيه، ومن تلك الألفاظ قوله: =لا يوجد في الدنيا شيء أنجس من الخنزير، ولكن العلماء الذين يخالفونني هم أنجس من الخنزير، أيها العلماء يا آكلي الجيفة وأيتها الأرواح النجسة+(2).
ومن ذلك قوله وهو يشتم مخالفيه: =بعضهم كالكلاب، وبعضهم كالذئاب، وبعضهم كالخنازير+(3) .
ومن ذلك _أيضاً_ قوله: =بل تكلموا كالنساء متسترين+، ويقول: =أنتم رجال أم مخنثون أيها الجاهلون+(4).
تدرَّج القادياني في دعوته _ كما مر _ حيث بدأ دعوته محامياً للإسلام، راداً على النصارى والهندوس، وانتهت به الحال إلى أن ادعى النبوة والرسالة، بل ادعى أنه هو الله _ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً _.
وقد اضطربت أقواله وادعاءاته أيما اضطراب =فادعى أنه مجدد ومحدث ومهدي، وادعى أنه عيسى بن مريم، وأنه ظل محمد " بل ادعى أنه خير منه، وادعى كذلك أنه آدم، وإبراهيم، وأخيراً ظهر برؤيا رأى نفسه فيها كأنه الله _ عزوجل _ فأعاد خلق السماء والأرض، ثم خلق آدم.
هذا ملخص دعاواه التي جاءت في كتبه+(5).
__________
(1) _ انظر المرجع السابق ص130_ 133.
(2) _ المرجع السابق ص140.
(3) _ المرجع السابق ص140.
(4) _ عقيدة ختم النبوة ص245.
(5) _ انظر عقيدة ختم النبوة ص246.(1/208)
ولعاقل أن يسأل كيف يمكن أن يُصَدَّق كذاب أشر مثل هذا؟ كيف يقبل من عنده أدنى مُسْكةٍ من عقل تلك التُّرهات التي لا يدعمها نقل ولا عقل ولا فطرة؟!.
والجواب: أن الخرافة لا يحدها حد، فإذا تغلغلت في النفس ألغت وظيفة العقل تماماً؛ إذ إن أول شرط للخرافة هو إلغاء العقل، وإذا كان الأمر كذلك سهل على النفس تقبل كل شيء وتصديقه.
وصدق الله _تعالى_ إذ يقول: [وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ](النور: 40).
إذ لا يصدق مثل هذه الأقوال إلا فاقد للنور والهدى، ولكن:
إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
عندما ادعى القادياني تلك الدعاوى العريضة التي ليس لها مستند من عقل أو نقل قام عليه الغيورون من العلماء، وعلى رأسهم شيخ العلماء ثناء الله الأمْرِتْسَرِي مناظر الإسلام ومحامي المسلمين في القارة الهندية، فقد جرى بينه وبين الغلام القادياني عدة مناظرات ومناقشات تحريرية وتقريرية(1).
وكان الانتصار دائماً للشيخ ثناء الله، فحصل أن غضب القادياني، وطلب أن يكون بينهما مباهلة.
=وكتب المتنبئ الدجال في 5 إبريل1907م يستفتح ويدعو الله أن يقبض الكاذب في حياة صاحبه، ويسلط عليه مثل داء الطاعون يكون فيه حتفه+(2).
=وفعلاً قُبلت دعوته هذه، وقُضي بينه وبين ثناء الله بالحق، وبعد ثلاثة عشر شهراً وعشرة أيام بالضبط جاءه قضاء الله وقدره بصورة بشعة، كان يتمناها للشيخ الجليل ثناء الله، نعم بنفس الصورة وبنفس المرض الذي نص عليه هو بالكوليرا+(3).
__________
(1) _ القاديانية لظهير ص154.
(2) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة، للعقل والقفاري ص148.
(3) _ القاديانية لظهير ص157.(1/209)
وقد بين ابنه بشير أحمد ذلك بقوله: =أخبرتني أمي أن حضرته _ أي الغلام _ احتاج إلى بيت الخلاء بعد الطعام مباشرة، ثم نام قليلاً، وبعد ذلك احتاج إلى بيت الخلاء، فذهب مرة أو مرتين بدون أن يشعرني، ثم أيقظني فرأيت أنه ضعف جداً، وما استطاع الذهاب إلى سريره؛ فلذا جلس على سريري أنا فبدأت أمسِّجُهُ وأمسِّحُه، وبعد قليل أحس بالحاجة مرة أخرى، ولكن الآن ما استطاع الذهاب إلى بيت الخلاء، فلذا قضاها عند السرير، واضطجع قليلاً بعد القضاء، ولكن الضعف بلغ منتهاه فجاءته الحاجة مرة أخرى، فقضاها ثم جاءه القيء، وبعدما فرغ من القيء خر على ظهره، واصطدم رأسه بخشب السرير، وتغيرت حالته+(1).
=هذا وقد نشرت الجرائد الهندية آنذاك أن غلام أحمد المتنبي القادياني لما ابتلي بالكوليرا كانت النجاسة تخرج من فمه قبل الموت، ومات وكان جالساً في بيت الخلاء لقضاء الحاجة+(2).
وهكذا وافاه أجله، وتوفي على هذه الصورة البشعة وذلك في العاشرة والنصف صباحاً بتاريخ 26 مايو1908م فمات، وبقي الشيخ ثناء الله حياً بعد موت القادياني قريباً من أربعين سنة يهدم بنيان القاديانية، ويقمع جذورهم.
وهكذا كذَّب الله الكذَّاب، وذلك بعد أن لاقى ألواناً من العذاب(3).
عقائد القاديانية (4)
للقاديانية عقائد باطلة مظلمة يدينون بها، ومن تلك العقائد ما يلي:
1_ فساد اعتقادهم بالله _ عزوجل _: فالقاديانية يعتقدون بأن الله يصوم، ويصلي، وينام، ويصحو، ويكتب، ويوقع، ويصيب، ويخطئ، ويجامع، ويُشَبَّه، ويُجَسَّم [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً] (الكهف:5).
__________
(1) _ القاديانية لظهير ص157_ 158.
(2) _ المرجع السابق.
(3) _ انظر القاديانية لظهير ص159.
(4) _ انظر القاديانية لظهير ص34_48 و ص94_123، وعقيدة ختم النبوة ص251_255، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص151_152، والموسوعة الميسرة ص390.(1/210)
2_ لا يؤمنون بعقيدة ختم النبوة بمحمد ": بل يكفرون بالنصوص الكثيرة المتواترة المتنوعة في ذلك، ولهذا قالوا بنبوة دجالهم، كما ادعى النبوة مجموعة من أتباعهم.
3_ يعتقد القاديانيون أن غلام أحمد أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم محمد ".
4 _ يعتقدون أن جبريل _ عليه السلام _ ينزل على غلام أحمد، وأن غلام أحمد يوحى إليه.
5_ يعتقد القاديانيون أنهم أصحاب دين مستقل وشريعة مستقلة، وأن رفقاء غلام كالصحابة.
6 _ تفضيل قاديان على مكة والمدينة؛ فيرى القاديانيون أن القرية (قاديان) التي ولد فيها دجَّالهم أفضل من مكة المكرمة والمدينة النبوية، ويرون أن أرضها أرض حرم، وفيها شعائر الله، وتنزل منها أنوار الله وبركاته، وفيها قطعة من الجنة.
7_ يعتقدون أن الحج المفروض هو الحضور في المؤتمر السنوي في القاديان.
8_ إلغاء فريضة الجهاد؛ فيرون أن الوقت لم يعد وقت جهاد بالسيف، بل جهاد باللسان فقط، مع التركيز على عدم جواز قتال الدولة البريطانية بالذات.
9_ الولاء والوفاء للاستعمار البريطاني، بل إن ذلك من شروط البيعة عندهم، ويرون أنه نصف دينهم، وركنه الأكبر.
10_ يكفرون من لم يؤمن بغلام أحمد، ويرون خلوده في النار.
11 _ لا يجوزون الصلاة خلف المسلمين إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك فإنه يجوز للقادياني أن يصلي خلف المسلم ثم يعيدها مرة أخرى.
12 _ يعتقدون بأن كتابهم منزل، واسمه (الكتاب المبين) وهو غير القرآن الكريم.
13 _ ينهون عن مشاركة المسلمين في حفلات الزواج، وعن الصلاة على جنائز المسلمين، وعن الاستغفار لهم.
مواطن انتشار القاديانية (1)
__________
(1) _ انظر الموسوعة الميسرة ص391، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص148، وقلاع المسلمين مهددة من داخلها وخارجها د. محمد عبدالقادر هنادي ص102_103، والماسونية ذلك المحفل الشيطاني لأحمد الحصين ص64.(1/211)
ينتشر القاديانيون في الهند والباكستان، وقليل منهم في فلسطين المحتلة، والعالم العربي، ولهم مراكز في أمريكا، وأوربا، وأفريقيا، كما أن لهم مراكز متعددة منها مراكز في الكويت، والبحرين، ومسقط، ومصر، ودبي، والشارقة والأردن، وسوريا.
ومركزهم الرئيس في باكستان في منطقة سموها الربوة، كذلك لهم معابد في ألمانيا في مدينة فرانكفورت.
بعد هلاك دجال القاديانية خلفه في دجله وكذبه عدد من أتباعه، منهم نور الدين الخليفة الأول للقاديانية، وكان دجالاً طماعاً، وحريصاً على أن يحصل على العزّ والجاه، فمنذ نشأته الأولى كان يريد أن يبرز شخصيته(1).
=وقد بايعه القاديانيون خليفة لنبيهم؛ لأجل روابطه المتينة مع أسرة غلام أحمد، ولما عرفوا من احترام متنبئهم له، وخاصة بعد ما وافقت الحكومة المستعمرة على وضع تاج الخلافة على رأسه، وما كان لأحد بعد ذلك أن ينحرف عن التسليم به خليفة.
والجدير بالذكر أن الاستعمار ما وافق على خلافته إلا بعد أن جرَّب ولاءه، وإخلاصه وخدمته له، وخيانته للمسلمين، فتمكن من عرش القاديانية، وسمى نفسه مثيل أبي بكر الصديق ÷+(2).
=وكان موته بتاريخ: 13 مارس 1914 م+(3) .
وقبل موته أصيب بأمراض ومصائب عديدة(4).
ومن رجالات القاديانية أيضاً محمد علي أمير القاديانية اللاهورية.
ومحمود أحمد الخليفة الثاني للقاديانية بعد وفاة نور الدين ومنهم محمد صادق مفتي القاديانية، وعبد الكريم إمام الصلاة لغلام أحمد القادياني.
وجلّ هذه الشخصيات قد ابتلي بأمراض عديدة، ومصائب متنوعة في الأنفس والأهل والجاه، ولعل هذا من عاجل العقوبة لهؤلاء الدجالين المفترين.
=بعد موت نور الدين انقسمت القاديانية إلى فرقتين:
1_ فرقة يتزعمها الميرزا بشير الدين محمود بن المتنبيْ الكذاب وتسمى بالقاديانية أو الأحمدية.
__________
(1) _ انظر القاديانية لظهير ص238_ 239.
(2) _ القاديانية لظهير ص239.
(3) _ القاديانية لظهير ص242.
(4) _ انظر المرجع السابق ص242.(1/212)
2_ الطائفة الأخرى يتزعمها محمد علي اللاهوري، وتسمى اللاهورية أو الأحمدية _أيضاً_.
وكلا الطائفتين تتبع المتنبيْ الكذاب وتأخذ بأقواله وتقدس كتبه، وإن كانت الأولى (القاديانية) تعلن نبوته صراحة، أما الأخرى (اللاهورية) فتقول بأنه المسيح الموعود، ومجدد القرن الرابع عشر الهجري، ولا تصرح بنبوته.
وهذه مؤامرة منهم، وخدعة لكسب التأييد؛ لأن كلتا الفرقتين تقدس وتتبع كل كلمة قالها المتنبي الكذاب، والمسلمون لا يفرقون بين هاتين الطائفتين، والكفر ملة واحدة وإن تعددت صوره وأشكاله(1).
للقاديانية نشاطات متعددة في سبيل نشر مذهبهم الباطل، وهم في دعوتهم يتسترون بالإسلام ولا يفصحون عن اسمهم، بل يدعون أنهم مجددون للإسلام، ودعاة له، وقد ألفوا العديد من الكتب، وأنشأوا العديد من الصحف، كما عنوا بإنشاء المستشفيات، وبعث الإرساليات لنشر نحلتهم في العالم.
ويستخدمون في دعوتهم منشورات تتضمن أفكاراً ثلاثة:
1_ أن مؤسس الدعوة غلام أحمد يشبه المسيح في دعوته.
2_ أنه لا فرق بين الأديان السماوية إلا بالأفكار التي زرعها متعصبوا هذه الأديان.
3_ أن القاديانية تدعو للسلم، والتعارف بين الشعوب، وتنبذ الحرب والعنف بكل صوره وأشكاله.
ويلاحظ أن ما يوزعونه يحمل اسم وخاتم مطبعة في حيفا بفلسطين المحتلة، هذه الملاحظة الأخيرة توصلنا إلى نقطة جديدة، مفادها أن إسرائيل تحاول كبريطانيا الاستفادة من هرطقات القاديانية في الدس بين المسلمين وتخريب الفكر والمعتقد عندهم.
وأهم ما في هذا التخريب هو دعوى نسخ الجهاد التي تخدم المشروع الإسرائيلي(2).
ما جاء به القادياني من دعاوى وخرافات لا تستحق الرد، بل إن تصورها كاف للرد عليها، ومما يرد به على القاديانية من خلال ما مضى من دعاواهم ما يلي:
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص149.
(2) _ انظر البهائية والقاديانية د. أسعد السحمراني ص152، وانظر أجنحة المكر الثلاثة ص275_276.(1/213)
1_ تناقض القادياني واضطرابه في نسبه ودعاويه.
2_ أن ادعاءه للنبوة مخالف لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة وهو عقيدة ختم النبوة بمحمد " فكل من ادعى النبوة بعده فهو دجال أفاك أثيم.
3_ أن ادعاءه أنه يوحى إليه كذب صراح؛ إذ إن الوحي انقطع بعد وفاة النبي " اللهم إلا وحي الشياطين، الذي تنزل على كل أفاك أثيم.
4_ أن عمالته لبريطانيا وتبجحه وافتخاره بذلك دليل على بعده عن الإسلام، وإلا كيف يوالي أعداء الإسلام والمسلمين، ويخون أمته ودينه؟
ومن هنا يتبين لنا أن القاديانية نحلة بعيدة كل البعد عن الإسلام.
لقد أفتى علماء المسلمين في عدد من البلدان في هذه الطائفة الخبيثة، وبينوا حكمها، وحكم الانتماء إليها.
ومن تلك الفتاوى فتوى المجمع الفقهي وهذا نصها(1):
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي موضوع الفئة القاديانية التي ظهرت في الهند في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) والتي تسمى (الأحمدية).
ودرس المجلس نحلتهم التي قام بالدعوة إليها مؤسس هذه النحلة ميرزا غلام أحمد القادياني 1876م مدعياً أنه نبي يوحى إليه، وأنه المسيح الموعود، وأن النبوة لم تختم بسيدنا محمد بن عبد الله رسول الإسلام " _ كما عليه عقيدة المسلمين بصريح القرآن العظيم والسنة _ وزعم أنه قد نزل عليه وأوحى إليه أكثر من عشرة آلاف آية، وأن من يكذبه كافر، وأن المسلمين يجب عليهم الحج إلى قاديان؛ لأنها البلدة المقدسة كمكة والمدينة، وأنها هي المسماة في القرآن بالمسجد الأقصى كل ذلك مصرح به في كتابه الذي نشره بعنوان (براهين أحمدية) وفي رسالته التي نشرها بعنوان (التبليغ).
__________
(1) _ انظر قرارات المجمع الفقهي العالمي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى لعام 1398هـ حتى الدورة الثامنة لعام 1405هـ.(1/214)
واستعرض مجلس المجمع _ أيضاً _ أقوال وتصريحات ميرزا بشير الدين ابن غلام أحمد القادياني وخليفته، ومنها ما جاء في كتابه المسمى (آينة صداقت) من قوله: =إن كل مسلم لم يدخل في بيعه المسيح الموعود (أي والده غلام أحمد) سواء سمع باسمه أو لم يسمع _ هو كافر وخارج عن الإسلام (الكتاب المذكور صفحة35).
وقوله _ أيضاً _ في صحيفتهم القاديانية (الفضل) فيما يحكيه هو عن والده غلام أحمد نفسه أنه قال: =إننا نخالف المسلمين في كل شيء في الله، في الرسول، في القرآن، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في الزكاة، وبيننا وبينهم خلاف جوهري في كل ذلك+ (صحيفة الفضل) في 30 من تموز 1931م.
وجاء _ أيضاً _ في الصحيفة نفسها (المجلد الثالث) ما نصه: =أن ميرزا هو النبي محمد " زاعماً أنه هو مصداق قول القرآن حكاية عن سيدنا عيسى _عليه السلام_ [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ](الصف:6) (كتاب أنزار الخلافة ص21).
واستعرض المجلس _ أيضاً _ ما كتبه ونشره العلماء والكتاب الإسلاميون الثقات عن هذه الفئة القاديانية الأحمدية لبيان خروجهم عن الإسلام خروجاً كلياً.
وبناء على ذلك اتخذ المجلس النيابي الإقليمي لمقاطعة الحدود الشمالية في دولة باكستان قراراً في عام 1974م بإجماع أعضائه يعتبر فيه الفئة القاديانية بين مواطني باكستان أقلية غير مسلمة.
ثم في الجمعية الوطنية (مجلس الأمة الباكستاني العام لجميع المقاطعات) وافق أعضاؤها بإجماع _أيضاً_ على اعتبار فئة القاديانية أقلية غير مسلمة.(1/215)
يضاف إلى عقيدتهم هذه ما ثبت بالنصوص الصريحة من كتب ميرزا غلام أحمد نفسه، ومن رسائله الموجهة إلى الحكومة الإنجليزية في الهند، التي يستدرها، ويستديم تأييدها وعطفها من إعلانه تحريم الجهاد، وأنه ينفي فكرة الجهاد؛ ليصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية المستعمرة في الهند؛ لأن فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال المسلمين تمنعهم من الإخلاص للإنجليز.
ويقول في هذا الصدد في ملحق كتابه (شهادة القرآن) الطبعة السادسة ص17 ما نصه: =أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعي وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد؛ لأنه يلزم من الإيمان بأني المسيح أو المهدي إنكار الجهاد+ تنظر رسالة الأستاذ الندوي نشر الرابطة ص25.
وبعد أن تداول مجلس المجمع الفقهي في هذه المستندات وسواها من وثائق كثيرة؛ والمفصحة عن عقيدة القاديانية ومنشئها، وأسسها، وأهدافها الخطيرة في تهديم العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتحويل المسلمين عنها تحويلاً وتضليلاً _ قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية المسماه _ أيضاً _ بالأحمدية عقيدة خارجة عن الإسلام خروجاً كاملاً، وأن معتنقيها كفار مرتدون عن الإسلام، وإن تظاهر أهلها بالإسلام إنما هو للتضليل والخداع.
ويعلق مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتاباً ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان من العالم، وبالله التوفيق.
الرئيس/ عبدالله بن حميد
نائب الرئيس/ محمد علي الحركان
الأعضاء:
1 _ عبدالعزيز بن باز. ... ... 2 _ محمد محمود الصواف.
3 _ صالح بن عثيمين. ... ... 4 _ محمد رشيد قباني.
5 _ محمد بن سبيل. ... ... ... 6 _ مصطفى الزرقاء.
7 _ محمد رشيدي. ... ... ... 8 _ عبدالقدوس الهاشمي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:(1/216)
فإن (الوجودية) مذهب إلحادي، وتيار فلسفي إباحي، يقوم على فكرة خادعة ، تتمثل في إعلاء قيمة الفرد، وأن عليه أن يبرز نفسه، ويثبت وجوده.
على أن الوجوديين مختلفون في كيفية ذلك؛ فَمِنْ قائل منهم: إن الفرد يثبت وجوده من خلال إطلاق العنان للشهوات دون مبالاة بعرف، أو دين، أو خلق.
ومن قائل: إن ذلك يتم بمواجهة المخاوف والأخطار، والتعرض للمحن والقلاقل، إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه.
وبما أن الوجودية مذهب قائم، وله آراؤه، ودعاته ومفكروه، وبما أن الكتابة فيه بشكل ميسر قليلة جداً _ رغبت في تقديم هذه النبذة عن الوجودية، والتي تتمثل في الوقفات التالية:
_ تعريف الوجودية.
_ سبب التسمية.
_ أسماء الوجودية وأوصافها الأخرى.
_ أنواع الوجودية.
_ نشأة الوجودية.
_ أبرز الشخصيات الوجودية.
_ أهداف الوجودية.
_ الأسباب التي دعت إلى ظهور الوجودية.
_ الوجودية في بلاد الإسلام.
_ أفكار الوجودية واعتقاداتها وآراؤها.
_ بطلان الوجودية.
_ حكم الوجودية والانتماء إليها.
هذا ما تيسر تقييده حول هذا المذهب الإلحادي الإباحي، فعسى أن يكون في ذلك تعريف بالوجودية ولو على سبيل الإجمال.
والله المسؤول أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عُرِّفت الوجودية بعدة تعريفات، وتلك التعريفات متقاربة، ونعني بالوجودية في هذا المقام الوجودية عند سارتر.
ومن تلك التعريفات ما يلي:
1_ هي =مذهب فلسفي يقوم على دعوة خادعة، وهي أن يجد الإنسان نفسه، ومعنى ذلك عندهم أن يتحلل من القيم وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته بلا قيد+(1).
2_ وقال عنها العقاد: =إباحية سافرة لا فرق بين من يتعاطونها وبين سائر الإباحيين في كل زمن+(2).
__________
(1) _ 2 _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة _ العقل والقفاري ص116.(1/217)
3_ ومن تعريفاتها أنها: =تيار فلسفي يعلي من قيمة الإنسان، ويؤكد على تفرده، وأنه صاحب تفكير، وحرية وإرادة، واختيار، و لا يحتاج إلى موجِّه.
وهو جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة، وليس نظرية فلسفية واضحة المعالم+(1).
4_ ويقول الدكتور عبدالرحمن عميرة: =الوجودية عند سارتر هي طاعة النفس، والوجودي في مذهبه هو الذي لا يقبل توجيهاً يأتي إليه من الخارج+.(2)
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أنها دعوة إلى إبراز قيمة الوجود الفردي، وإلى أن يهتدي الإنسان إلى وجوده بنفسه، فهي تدعو الإنسان إلى التفرد بسلوكه، وحياته بعيداً عن الصلة بالله _ سبحانه وتعالى _ بل إنها لا تعترف بإله يدبر الكون.
اختلف في سبب تسمية الوجودية بهذا الاسم؛ فقيل أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنهم يعدون وجود الإنسان مقدماً على ماهيته فهم =يقولون بأن الوجود مقدم على الماهية، وهذا اصطلاح فلسفي عندهم معناه: =أن الوجود الحقيقي هو وجود الأفراد، أما النوع فهو اسم لا وجود له في الخارج+(3).
=فمثلاً زيد، وإبراهيم، وخالد، وفلان، وعلان، هؤلاء موجودون حقيقيون لاشك في وجودهم، ولكن الإنسان أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقة لها في الخارج كما يزعمون+(4).
=وهذا لم يقل به أحد قبل هؤلاء+(5).
وقيل: =لأنهم يرون أن وجود الكائن لذاته أهم من كونه واحداً من نوع متعدد الآحاد+(6).
__________
(1) _ الموسوعة الميسرة ص543.
(2) _ المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها د. عبدالرحمن عميرة ص 211.
(3) _ في الخارج: أي خارج الذهن.
(4) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة للعقل والقفاري ص116.
(5) _ 4 _ المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص 407.(1/218)
ويقول الدكتور عبدالرحمن عميرة عن ذلك: =إن كلا الاحتمالين وارد في التسمية؛ فهي وجودية؛ لاهتمامها بوجود الإنسان، وهي دعوة إلى التفرد: تفرد الإنسان في سلوكه، وفي حياته؛ حتى لا يصبح _ في نظرهم _ كَمَّاً مهملاً لا يُعبأ به، كما حدث في النظرية الشيوعية التي تهمل الفرد في سبيل المجموع، ولاتنظر إليه إلا كما تنظر إلى قطع غيار من ماكينة من الماكينات، كلما أصابه عطب أو تلف ألقت به، واستبدلت به آخر+(1).
أسماء الوجودية وأوصافها الأخرى:
للوجودية أسماء كثيرة، وأشهرها هو:
1_ الوجودية. ... ... ... 2_ وتسمى _ أيضاً _ بفلسفة العدم.
3_ وفلسفة التفرد. ... ... ... 4_ والفلسفة الانحلالية.
وأما أوصافها فقد وصفت بأنها:
1_ مرض العصر
2_ ومرض الإنسان في منتصف القرن العشرين.
ليست الوجودية وجوديةً واحدةً، بل هي وجوديات متعددة كثيرة متباينة.
=وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد، والبلد الواحد؛ فلكل فيلسوف صياغة معينة لفلسفة الوجودية، ويتفق الجميع في الاهتمام بأن يجد الفرد نفسه، ويختلفون في الطريقة التي يقرر بها الفرد وجوده+(2).
فبعضهم يرى أن الوجودية لا تتحقق إلا عن طريق اليقظة العاطفية، وصحوة الضمير، أو بضربات التجارب، وهذه هي وجهة نظر (كير كجورد)(3).
__________
(1) _ المرجع السابق.
(2) _ الموجز في الأديان والمذاهب، للعقل والقفاري ص 118.
(3) _ هو سورين كير كجورد أو كجارر، عاش ما بين 1813_1855م فيلسوف دانماركي نصراني، كتب بحوثاً خرج بها عن المألوف، فاختلف مع الكنيسة، كان يعتقد أنه ينبغي للإنسان أن يلتمس المعرفة الحقة من داخل نفسه، وأن المثقف إنما يعاني بسبب التعارض بين الوجود الفردي المؤقت من جهة والحقيقة الأبدية من جهة أخرى، وهو من رواد المذهب المعاصر. من أشهر كتبه =إما أو+، و=مراحل طريق الحياة+. انظر كواشف زيوف، عبدالرحمن الميداني ص 361.(1/219)
أما (سارتر) فيرى أنها لاتتحقق إلا إذا أطلق الإنسان لنفسه الرغبات والشهوات بحيث يفعل ما يشاء ويترك ولا يبالي بعرف أو دين(1).
وأما (كاموس) فيرى أن تحقق وجود الفرد يكون بمواجهة المخاوف والأخطار، والتعرض للقلق والمحن.
وعند آخر(2) من الوجوديين: يتحقق وجود الفرد إذا اتصل بالوجود الأعظم _ وجود الإله _ أو وجود الكارما في عرف البراهميين (3).
الوجودية(4) رأى فلسفي قديم، والتفكير فيها كان قديماً عبر العصور الغابرة الممتدة في رحاب الزمن، فكانت في حياة البشرية يقظات وجودية، تهتف بأن الإنسان هو المشكلة الأساسية التى يجب أن يكون له أولوية الصدارة في الفكر الإنساني، وأن هذا الفكر يخطىء خطأً كبيراً عندما يمنح الأولوية في بحثه للفكرة المجردة، أو لبيان وجود العالم وتعليله، كما حدث في دولة اليونان قديماً، وفي إبان عصر النهضة في أوربا حديثاً.
ومن أول هذه اليقظات الوجودية ما ينسب إلى سقراط؛ وذلك بمعارضته فلاسفة اليونان ممن كانوا يوجهون جُل اهتمامهم في البحث عن أصل المادة، أوفي طبيعة الكون؛ حيث قعَّد لهم قاعدته المشهورة عندما قال: اعرف نفسك بنفسك.
__________
(1) _ انظر تهافت العلمانية د. عماد الدين خليل ص87. وانظر مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب ص 492.
(2) _ انظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص210.
(3) _ البراهميون أو البرهميون: هم الذين ينتسبون إلى البرهمية، وهي ديانة الهندوس في الهند، وهي تنسب إلى براهما الذين يزعمون أنه الروح العليا الخالدة للكون، وأنه موجد العالم، وبراهما هو أكبر الألهة الثلاثة التي يعبدونها، والآخران هما: سيفا الإله المخرب، ويشنو: الذي حل بالمخلوقات. انظر مقارنات الأديان: الديانات القديمة للشيخ محمد أبو زهرة ص23_29، والديانات والعقائد لأحمد عبدالغفور عطار ص331_333.
(4) _ انظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص215_220، وانظر نحو بناء منهج البدائل الإسلامية لأنور الجندي ص 253_259.(1/220)
ومن بعد سقراط كان (الرواقيون )(1) الذين فرضوا سيادة النفس، ومواجهة المصير على الإنسان الإغريقي الذي تجلد لتلاعب (السوفسطائيين)(2) ولن يتراجع عن ما وطَّن نفسه عليه من البحث عن طبيعة النفس أمام المجادلات العقلية التي لاتكاد تكل أوتمل.
ولقد جاءت الرسالات السماوية التي كرمت الإنسان، ووضعت له منهج حياته، وأوقفتهُ على حقيقة ذاته، فانصرفت البشرية إلى شرع الله، تهذب به سلوكها، وتنظم به حياتها، إلا من صُد عن ذلك السبيل.
__________
(1) _ الرواقيون أو الرواقية: من الفلاسفة اليونانيين، الذين جاءوا على طور جديد من أطوار الفلسفة اليونانية، وسُموا بذلك لأنهم يسكنون الأروقة، ومؤسس مذهب الرواقية هو زينون الرواقي (عاش بين 336_264 ق م) وله اتباع يونانيون، ورومانيون، وأهم مبادىء الرواقية: أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العلمية، وقالوا: ليس في الوجود غير المادة، ولذلك قالوا بوحدة الوجود، وكل شىء عندهم مادي حتى المعرفة والعقل والإله. انظر خريف _ الفكر اليوناني ص10_15 لعبدالرحمن بدوي، وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص223_233، وانظر القضاء والقدر د. عبدالرحمن المحمود ص 76.
(2) _ السفسطة: هي قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم، وإسكاته، ويراد بالسفسطة التمويه، والخداع، والمغالطة في الكلام، وهي لفظ معرَّب مركب في اليونانية من =سوفيا+ وهي الحكمة ومن =أسطس+ وهي المموه؛ فمعناه: حكمة مموهة، ومؤرخو الفلسفة اليونانية يكتبون عن السوفسطائيين، وهم أناس عرفوا بهذه المهنة التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد. انظر تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/322_324، والتدمرية لابن تيمية ص19، والتعريفات للجرجاني ص124، وإحصاء العلوم للفارابي ص81، وتاريخ الفلسفة ليوسف كرم ص 45.(1/221)
ولما جاء الإسلام وجدت البشرية في كتابه (القرآن) منهجاً متكاملاً عن النفس وطبائعها، والنفس وخصائصها، والنفس المطمئنة، والنفس المؤمنة، والنفس اللوامة، والنفس الأوابة، والنفس الأمارة بالسوء، ولم يهمل الإسلام العلاج إذا مرضت.
قال الله _ عز وجل _:[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)] (الشمس).
وقال: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)] (الفجر).
وقال: [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)](القيامة).
وقال _ على لسان امرأة العزيز _: [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] (يوسف: 53).
والنفس _ كما يقرر الإمام ابن القيم × _: =قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة.
بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب من أحوالها؛ فكونها مطمئنةً وصفُ مدحٍ لها، وكونُها أمارةً بالسوء وصف ذمٍّ لها، وكونها لوامةً ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه+(1).
ويقرر ×: =أن النفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه _ فهي مطمئنة+(2).
__________
(1) _ إغاثة اللهفان لابن القيم ص86.
(2) _ إغاثة اللهفان ص84.(1/222)
ولكن هذا لا يمنع من ضلال بعض البشر، ونفورهم من هدي الشرائع؛ حيث تظهر بين الفينة والأخرى دعواتٌ إلى التفلت والانحلال؛ فمرة تحمل اسم المانوية(1) وتدعو الناس إلى الرهبنة والخلاص من هذه الدنيا، وتدين بالولاء لإلهين، وتصدق ببعض الرسل وتكفر ببعضهم الآخر، ومرة باسم المزدكية(2)، ومرة باسم الباطنية (3)، إلى غيرها من الدعاوى الهدامة.
__________
(1) _ المانوية: إحدى فرق الثنوية، وهم أصحاب ماني بن فاتك، الذي ظهر زمن سابور ابن أردشير، وقال: إن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين النور والظلمة وأنهما أزليان، وأنكر وجود شيء إلامن أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا بين قويين، حساسين، دراكين، سميعين، بصيرين، وهما _ مع ذلك _ في النفس والصورة، والفعل والتدبير متضادان متحاذيان تحاذي الشخص والظل. انظر الملل والنحل للشهرستاني1/244، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص24_26 تحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(2) _ المزدكية: هي حركة ظهرت عام487م في بلاد فارس على يد رجل اسمه مُزدك حيث دعا إلى الشيوعية، واشتراك الناس في الأموال والنساء وتسمى حركته بالمزدكية. انظر الملل والنحل 1/249_250
(3) _ الباطنية: هم الذين جعلوا لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً ويذكر المؤرخون لهم ألقاباً كثيرة تدل على أنهم يدرجون تحت وصف الباطنية، ومن الفرق التي قالت بالتأويل الباطني الرافضة، والنصيرية والقرامطة، وغيرهم. انظر التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق د. محمد بن عودة السعودي ص14.(1/223)
حتى أتى عصر النهضة وتخلص فيه رجال الفكر من سلطان الكنيسة، وتحرروا من ربقة الدين _ أيضاً _ وجاء بعض المفكرين كديكارت(1)حيث جاء ليرفع قيمة العقل، ويقوض سلطان الكنيسة، ويطالب بتحكيم المنطق، ويرفض زيف المزيفين.
ثم جاء (بسكال) ورفض أصول المذهب الديكارتي الذي عني فيه بالعلم، ولم يهتم بمصير الإنسان وحياته وموته إلا قليلاً.
ويمكن الجزم بأن (بسكال) هو الذي رسم طريق الوجودية الحديثة، وخطط معالمها، ووضع الخطوط العريضة لهياكل نماذجها.
ثم جاء (سورين كيركجورد)الذي يعده رجال الفكر في الغرب الأب الرسمي لمدرسة الوجودية.
وقد كان متأثراً بالمبادىء النصرانية وعلى الأخص البروتستانتية، ولكنه مع هذا ظل مجهولاً نحو مائة سنة؛ إذ لم تُتَرْجَمْ آراؤه إلى الألمانية إلا في أوائل القرن العشرين، ولم يعرف في فرنسا إلا في عصر الاضطراب الذي حدث في الحربين العالميتين، ومن ثم تضافرت آراؤه مع كوارث الحرب، وآثارها في النفوس على ترعرع الوجودية وتفتيحها، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا.
وفي روسيا ظهر (بيرديائيف) و(شيستوف) و(سولوفييف) حيث ارتموا في أحضان الوجودية لأسباب منها: تَحَكُّمُ البابويةِ، وفَرْضُ الآراءِ التي لاتتفق مع العقل، إلى غير ذلك.
ثم جاء بعد ذلك (جان بول سارتر) الذي يعد زعيم الوجودية في العصر الحديث، وهو أكثر الوجوديين شهرة ودعاية، فهو القدوة للمخدوعين بهذا الاتجاه.
ولو استعرضنا حياة بعض رجال الوجودية لو جدنا أن العامل الأساسي لاندفاعهم في هذا الطريق هو تحكم رجال الكنيسة وطغيانهم.
مر بنا ذكر لبعض الشخصيات الوجودية البارزة، إلا أن أبرز هؤلاء هو ذلك الرجل الذي سيلقى الضوء على سيرته فيما يلى وهو:
__________
(1) _ رينيه ديكارت من فلاسفة القرن السابع عشر =1556_1650+ فرنسي وعالم رياضي، وابتكر الهندسة التحليلية ثم حاول تطبيق المنهج الرياضي على الفلسفة، وأقام فلسفته على الشك المنهجي. انظر كواشف زيوف ص365.(1/224)
جان بول سارتر(1): هذا الرجل يعد أكثر الوجوديين شهرة، وهو يهودي فرنسي، فيلسوف وأديب، من فلاسفة القرن العشرين، ولد سنه1905م بباريس.
ولما نشأ بدأ دراسته في مدينة (لاردشيل) ثم أتمها في باريس، وقد أخذ شهادة في الفلسفة في سنة 1929، ثم عين أستاذاً للفلسفة في مدينة (لان) في (ليهافر).
وقد اجتذبته الفلسفة الألمانية، فسافر إلى (برلين)، ومكث فيها سنة على نفقة المعهد الفرنسي.
وقام سنة 1938م بنشر مؤلفه الأول، أو روايته الأولى (الغثيان) التى تشتمل على كثير من معالم النظريات الوجودية، التي أعلنها فيما بعد واضحة صريحة.
وفي سنة 1939 نشر مجموعة قصص عنوانها (الحائط).
وعندما اشتعل لهيب الحرب العالمية الثانية جُنِّد في التعبئة العامة، ثم أسر في سنة 1940م من قبل الألمان، وبعد أن أطلق سراحه اشترك في حركة المقاومة، وأنشأ سنة 1950مجلة (العصور الحديثة) التي تتضمن أبحاثاً وجودية في الأدب والسياسة.
وقد أطلق كلمة (وجودية) على فلسفته فقط دون فلسفات الوجودية.
هذا وقد كتب عدداً من المؤلفات مثل:
1_ الغثيان 1938م.
2_ المتخيل 1942م.
3_ مسرحية الذباب 1943م.
4_ مسرحية الباب المغلق 1943م.
5_ الكينونة والعدم 1943م.
6_ مسرحية الأيدي القذرة 1948م.
وقد لقيت مؤلفاته رواجاً جعله الممثل الأول للوجودية، وقد ترجمت إلى لغات عديدة.
أما حياته الشخصية فإنها تحمل طابعاً شاذاً.
وقد نشرت الصحف أنه اشترك في مظاهرات يهودية صهيونية في فرنسا، وحملات تبرع لإسرائيل في الستينيات كان شعارها: ادفع فرنكاً فرنسياً تقتل عربياً (أي مسلماً).
وحين حضره الموت 1979م سأله من كان عنده: ترى إلى أين قادك مذهبك؟ فأجاب في أسىً عميق ملؤه الندم: إلى هزيمة كاملة.
__________
(1) _ انظر كواشف زيوف ص359_360، والمذاهب المعاصرة ص 221_223، ومذاهب معاصرة ص491.(1/225)
أهداف الوجودية (1)
الوجودية دعوة قديمة، تظهر في صور براقة، ويستعمل في الدعاية لها كافة الوسائل.
وحيث وجَدْتَ فكراً يهدف إلى هدم الدين، أو الأخلاق، أو النظم الاجتماعية أو السياسية الصالحة _ فابحث عن الأصابع اليهودية تجدْها وراءه.
وسارتر واحد من قافلة اليهود، الذين حملوا على عواتقهم رسالة تضليل الناس، وإغوائهم على منهج إبليس؛ لتحقيق أهداف اليهود العالمية، التي رسمتها بروتوكولات أحبارهم الذين مردوا على كل إثم وشر وتضليل.
وأهداف سارتر لا تخرج عن أهداف فرويد(2)، ودوركايم(3)وبرجسون(4).
ومن الأهداف التي قامت لأجلها الوجودية ما يلي:
1_ تحطيم القيم والأخلاق، والخروج على المبادىء والتمرد على المسلمات والثوابت.
2_ إشاعة الرذيلة والإباحية بين الشباب والشابات.
3_ رد الناس عن أديانهم أوتشكيكهم في عقائدهم.
4_ السخرية من دعوة الرسل.
هناك أسباب كثيرة أدت إلى قيام الوجودية، وتلك الأسباب _في الأغلب_ هي التي أدت إلى قيام كثير من الحركات والمذاهب الفكرية.
وفيما يلى إجمال لتلك الأسباب التي أدت إلى قيام الوجودية:
1_ أنها ردة فعل للماركسية: التي ترى أن الإنسان ليس إلا قطعة في الآلة الكبيرة التي هي المجتمع؛ فليس للفرد عندها أي قيمة.
__________
(1) _ انظر: على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم لأنور الجندي ص12_20. وانظر: المذاهب المعاصرة، عميرة ص224، وكواشف زيوف ص 360.
(2) _ فرويد: هو سيجموند فرويد عاش ما بين =1856_1939م+ يهودي من أبوين نمساويين، وهو مؤسس مدرسة التحليل النفسي، انظر كواشف زيوف 289_315.
(3) _ دور كايم: هو إميل دوكايم يهودي فرنسي عاش ما بين =1858_1917م+ تخصص في علم الاجتماع. قالوا: وقد صار رائد علم الاجتماع بعد أوجست كونت. انظر كواشف زيوف ص335_348.
(4) _ برجسون: هو هنري برجسون، فيلسوف يهودي فرنسي عاش ما بين =185_1941+ انظر كواشف زيوف ص 349_348.(1/226)
2_ الطغيان الكنسي: وتحكم البابوات في شؤون الناس، وفرض الآراء التي لا تتفق مع العقل والفطرة، وادعاؤهم أن تلك الآراء هي الدين.
3_ حدوث الحروب المدمرة: وخصوصاً الحرب العالمية الثانية، التي ذاقت البشرية ويلاتها، حيث دَمَّرت المدن، ومَزَّقت الأسر، وألقت بالآلاف في لهيب الدمار، والموت.
4_ الخواء الروحي: الموجود في كثير من بلدان العالم، مما يجعل الناس يقبلون أي نحلة، فهم كلما خرجوا من نفق مظلم دخلوا في نفق أشدَّ حلوكةً وظلمة منه.
5_ غياب المنهج الصحيح: الذي يُعنى بجميع جوانب الحياة سواء كانت اجتماعية أو فردية أو غير ذلك، وهو الإسلام الذي أَفَلَتْ شمسه في أوربا، مما جعل الناس يتخبطون، ويبحثون عن الحل، فلا يجدونه.
6_ تقصير أمة الإسلام في أداء رسالتها: فهي الأمة القوامة، وهي الأمة الشاهدة على الناس، فلمَّا قصرت في أداء واجبها تجاه البشرية تاهت البشرية في دياجيرالظلمة.
7_ المكر اليهودي: الحاقد على البشرية، والذي كان له دور في قيام الوجودية؛ فاليهود إما أن يتبنوا كل مذهب خبيث، أو يعملوا على إنشائه.
ومن هذه المذاهبِ الوجوديةُ حيث دعمتها الصهيونية دعماً كاملاً، والدليل على ذلك أن الصفحات التى كتبها (كيركجورد) ظلت مغمورة لمدة مائة سنة حتى أخرجتها الصهيونية التلمودية، وأذاعتها، وترجمتها.
الوجودية في بلاد الإسلام (1)
__________
(1) _ انظر الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص118، وانظر نحو بناء منهج البدائل الإسلامية لأنور الجندي ص258_259.(1/227)
عندما نسي المسلمون حظاً مما ذكروا به، وقصروا في تبليغ دينهم، وزهد كثير منهم في الأخذ به ودعوة الناس إليه _ أصبحوا عُرْضَةً لكل عدو، وغرضاً لكل دخيل، فهوجموا في عقائدهم، وأخلاقهم، حتى ضعف قدر الإسلام في قلوب كثير من أبنائه، مما جعل كثيراً من الببغاوات والمنهزمين يأخذون بهذه الفكرة الخبيثة، وذلك ناتج عن الولع بالغرب، والتقليد الأعمى، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، حتى إن المذاهب في الغرب تموت ولها في الشرق دعاة يهتفون لها؛ فقد تخلى سارتر عن وجوديته، ولازال بعض أولئك بوجوديته متعلقاً.
أفكار الوجودية واعتقاداتها وآراؤها (1)
قامت الوجودية على أفكار باطلة, واعتقادات مضطربة، وآراء متناقضة ومما يعتقده الوجوديون ويقولون به ما يلى:
1_ الإلحاد: فهم يكفرون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويرون أن الأديان عوائق أمام الإنسان تقف في طريقه نحو المستقبل.
فهم قد اتخذوا الإلحاد مبدأ وعقيدة، ودانوا بما يتبع ذلك من نتائج مدمرة.
بل إن سارتر ذهب إلى أبعد من ذلك؛ فإلحاده لم يكن كإلحاد غيره من الملاحدة، بل إنه يضع الإنسان في مواجهة الخالق _ سبحانه _ فيعلن تجاهله لوجود الله _ عز وجل _ على حد قوله: =الإله موجود، والإنسان عدم+.
أي أن الإنسان هو الله _ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً _.
2_ الدعوة إلى التفرد: فالوجودية تدعو إلى التفرد، والانطواء، والعزلة الاجتماعية.
__________
(1) _ انظر: كواشف زيوف ص 365 فما بعدها، والمذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص211، والموسوعة الميسرة ص 543_544 والموجز في المذاهب والأديان ص117_118.(1/228)
يقول سارتر: =إننا منذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنساناً ينظر إلينا إنما نشعر _أيضاً_ بأن الآخر يسلبنا عالمنا على نحو من الأنحاء لهذا العالم الذي نمتلكه وحدنا حتى هذه اللحظة+(1).
ويقول: =إنني ابتداء من الآونة التي أشعر فيها أن أحداً ينظر إلي أشعر أنني سُلبتُ عن طريق النظر الموجه إلي وإلى العالم.
إن العلاقة بيننا وبين الآخرين هي التي تخلق شقاءنا+(2).
ويقول: =إن الآخرين هُم الجحيم+(3).
3_ إلغاء حقيقة الخير والشر، وإبطال القيم الثابتة: فهم لايومنون بقيم ثابتة توجه سلوك الناس، وتضبطه، وإنما لكل إنسان أن يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قِيَماً وأخلاقاً مُعينة على الآخرين.
وجعلوا الشعور الإنساني التابع للهوى ونوازع النفس هو الذي يخلق الخير والشر، والحق، والجمال.
يقول سارتر: =إنك تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس ثمة مَنْ له الحقُ في توجيه النصح إليك، وليس في نظرك شر وخير إلا إذا خلقتهما+(4).
إذاً فليفعل الإنسان أية جريمة، وليرتكب أي عمل قبيح، وله بعد ذلك أن يعد ما فعله خيراً لا شر فيه، وليس من حق أحد أن يحاكمه أو يؤاخذه؛ طالما أنه هو الذي يضع مقاييس الحق والخير ونحوها!
4_ الدعوة إلى الانفلات والحرية المطلقة: فهم يقولون بحرية الإنسان المطلقة، وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد، دون أن يقيده شيء.
ويرون أن على الإنسان أن يطرح الماضي، وينكر كل القيود، دينية كانت، أم اجتماعية، أم فلسفية، أم منطقية.
ويقولون: إن الوجودية هي طاعة النفس.
والوجودي _ حقيقة في مذهبهم _ هو الذي لا يقبل توجيهاً يأتي إليه من الخارج، بل هو الذي يكب على شهواته غير مبال بشيء.
__________
(1) _ انظر كواشف زيوف ص 386 عن كتاب الفلسفة الوجودية،تأليف جال فال. تعريب تيسير شيخ الأرض ص 176.
(2) _ 2 _ انظر كواشف زيوف ص 386 عن كتاب الفلسفة الوجودية ص 176.
(4) _ كواشف زيوف ص 367.(1/229)
يقول سارتر: =إن من لايستمع إلينا، ولايقبل حرية إطلاق النفس من قيودها إنما هو جبان+.
ويقول: =إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي _ تلبيةُ كل ما تدعو إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية، وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان، ثم تطليق الماضي، وسلخ المرء نفسه منه متجهاً إلى الأمام، إلى المستقبل، قفزاً إلى المصير المحتوم، إلى الهاوية، إلى الموت، والعدم الأبدي+.
5_ يعتقدون أن الإنسان أقدم شيء في الوجود: وأن ما قبله كان عدماً، وأن وجود الإنسان سابق لماهيته، وأنه بحريته الاختيارية هو الذي يخلق ماهيته.
6_ يعتقدون بأن الأديان، والنظريات الفلسفية التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة _ لم تحل مشكلة الإنسان، وأن الحل إنما هو الوجودية التي قرروها، ودعوا إليها.
7_ وبالجملة فهي تدعو إلى كل رذيلة، وتحارب كل فضيلة.
بيان بطلان الوجودية لا يحتاج إلى كبير جهد؛ ففسادها يغني عن إفسادها، وتصورها كافٍ في الرد عليها.
يقول الأستاذ عبدالرحمن الميداني: =لا تحتاج آراء سارتر، وكذلك كل آراء الوجودية الملحدة إلى جهد كبير لتفنيدها، وكشف زيوفها؛ فهي أقل من أن توضع بين الفلسفات التى تستحق المناقشة، والاعتراض، والنقد.
ولولا أنها كتبت بأيدي رجال متخصصين في دراسة الفلسفة، ثم قامت منظمات ذات مخططات سياسية عالمية هدامة بترويجها في أسواق الفارغين من العقول لنشر الإلحاد بالله، وتدمير الأخلاق، وسائر القيم الصحيحة عن طريقها _ لما كان لها شأن يذكر، ولما رفعها أحد من مجمع قمامات الآراء لينظر إليها، ويفحص ماهيتها، ولما شُغل بقراءة كتبها مشغولون حريصون على أوقاتهم أن تضيع سدى في قراءة كلام هراء متهافت سخيف لا قيمة له لدى أهل الفكر و النظر +(1).
وفيما يلي ذكر لبعض الأمور التي يتبين من خلالها بطلان الوجودية وزيفها:
__________
(1) _ كواشف زيوف ص 368_369.(1/230)
1_ بطلان قولها بإنكار الخالق: فالوجودية أنكرت وجود الخالق _ عز وجل _ وهذا الأمر منقوض بالشرع، والعقل، والفطرة، والحس.
فهذه كلها تدل على وجود الله _ عز وجل _.
أما دلالة الشرع على وجود الله فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، فما جاءت به من العقائد الصحيحة، والأخلاق القويمة، والأحكام العادلة _ دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح عباده.
وأما دلالة العقل فلأن المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق؛ إذ لا يمكن أن تُوجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن الشيء لايخلق نفسه، ولأن كل حادث لا بد له من مُحدِث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض _ يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة.
إذا تقرر ذلك تَعَيَّن أن يكون لها مُوجد وهو الله رب العالمين، وبطل القول بإنكاره _ عز وجل _(1).
وأما دلالة الفطرة على وجود الله فلأن كل مولود قد فُطر وجُبل على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكيرٍ أو تعليم.
ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها(2).
قال النبي ": =ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أويمجسانه+(3).
أما دلالة الحس على وجود الله فلأن كل ما في الكون شاهد ودليل على وجود الله _ عز وجل _.
فكيف يأتي جاهل سفيه موتور كفور فينكر وجود الله _ عز وجل _ بجرة قلم؟!
ومن أدلة الحس إجابة الدعوات، ومعجزات الأنبياء، ودلالة الأنفس، والآفاق ونحو ذلك.(4)
2_ بطلان دعواهم إلى الحرية المطلقة: فلقد دعا الوجوديون إلى الحرية المطلقة زعماً منهم بأن هذا هو الطريق الوحيد لأن يثبت الإنسان وجوده.
__________
(1) _ 2 _ انظر نبذة في العقيدة الإسلامية للشيخ محمد بن عثيمين ص13_ 18.
(3) _ رواه البخاري 2/97، ومسلم (2658).
(4) _ انظر: الإيمان بالله للكاتب.(1/231)
ويقال لهؤلاء: ما مفهوم الحرية عندكم؟ أهي على حساب حريات الآخرين؟ أم على حساب القيم والمبادىء؟ وهل الإنسان إذا أطلق العنان لنفسه وشهواته يكون حراً فيثبُت وجوده من خلال ذلك؟
الجواب أن هذا فهم خاطىء للحرية؛ فهي لا تكون بإطلاق الشهوات، ولا تكون على حساب الآخرين، فإذا لم تضبط بالشرع أصبحت البشرية كقطيع من البهائم السائبة، لايردعها دين، ولا يزُمُّها حياء، ولا يحكمها عقل.
=وإذا كانت الغاية من الوجودية هي أن تحقق للإنسان وجوده فإن ذلك مقرر في الإسلام في إطاره الطبيعي، وضوابطه الأصلية، التي تحمي وجوده وكيانه، وليس للإنسان أن يطلق العنان لتحقيق شهواته فيدمر نفسه و يدمر الآخرين+(1).
ثم إن الإنسان _ أي إنسان _ عبد، لا ينفك عن هذه العبودية طرفة عين.
فإذا رضي بعبودية الله _ تحرر مما سواه، وإلا تناوشته سائر العبوديات، فصار عبداً للشهوة، أو عبداً للشهرة، أو عبداً للمال أو المنصب، أو عبداً للطواغيت، ونحو ذلك.
ثم إن الحرية المطلقة سبب للشقاء، والدمار، والتفكك، والانهيار.
ولا أدل على ذلك من حال الدول التي يشيع فيها هذا النوع من الحرية؛ فهي تعاني الأمرَّين من السرقة، والشذوذ، والأمراض الجنسية، والانتحار، وما جرى مجرى ذلك مما يطول ذكْرُه.
3_ قيامها على التناقض والجهل، ومخالفتها للثوابت: فمما يكشف زيف الوجودية أنها قامت على التناقض، والجهل، ومخالفة العلم والعقل، والحقائق الثابتة.
فلقد قدم سارتر وسائر الوجوديين آراءهم على أنها أحكام تقريرية، دون أن تُؤيد بدليل علمي، أو حسي، أو واقعي.
فما قيمة آراء وأفكار من هذا القبيل؟ !
إن أي صاحب خيال يستطيع أن يقول أيَّةَ فكرةٍ تخطر في وهمه، فيزينها بصبغة كلامية، ويزوقها بزخرف من القول، ثم يطرحها في ميادين الفكر، ويجعلها مذهباً فكرياً.
ولكن عند النظر فيها لايثبت لها قدم، ولايستوي لها ساق.
__________
(1) _ الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 118.(1/232)
وكما قدم الوجوديون أحكاماً تقريرية بدون أي دليل _ أنكروا حقائق يشعر بها الناس جميعاً بدون أي دليل(1).
ونظراً لهذا الاضطراب والتذبذب لم تستطع الوجودية إلى الآن أن تأخذ مكانها بين العقائد والأفكار(2).
4_ شذوذ روادها وانحرافهم: فلقد قامت الوجودية على أيدي دعاة كانوا جميعاً من الشذاذ، وكانت حياتهم مليئة بالاضطرابات والقلق.
وهذا مما يدل على بطلانها؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
ثم إن كتابات أربابها كانت متسمة بالانحراف والسقوط؛ فهم يُعَنْوِنُونها دائماً بعنوانات ساقطة، ينفر منها الذوق السليم، وتأباها الفطرة القويمة.
ومن مقالاتهم في ذلك: القلق، الحائط، الذباب، الغثيان، التمزق، اللامعقولية(3).
ولا غرو في ذلك؛ فكل إناء بما فيه ينضح.
5_ آثارها ونتائجها المدمرة: وهذا يدل بجلاء على فساد تلك الفكرة وزيفها؛ ذلك أنها قامت _ فيما تزعم _ من أجل إسعاد الفرد، ورد اعتباره.
فما النتيجة التي حصلت بالدعوة إليها؟ وماذا حدث من جراء اعتناقها؟ النتيجة كما قيل: تلك آثارنا تدل علينا.
فلقد انتشر التشاؤم والقلق، والحيوانية، والضياع، والخوف الرهيب،والانتحار والتمرد، والأنانية المفرطة.
أضف إلى ذلك ضياع المشاعر الإنسانية، كالمحبة، والرحمة، والإيثار، ونحو ذلك كلها ضاعت في مستنقع الوجودية الآسن.
يقول (بوخينسكي) أستاذ الفلسفة بجامعة (فريبورج) بسويسرا بعد عرضه آراء سارتر في الوجودية: =وليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي ترتبت على هذه الفلسفة، والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعة، وهي ادعاء عدمية واستحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية.
بل إن الوجودية قد أفرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يد سارتر.
__________
(1) _ كواشف زيوف ص 376_377.
(2) _ انظر الموسوعة الميسرة ص 543.
(3) _ انظر نحو بناء منهج البدائل الإسلامية ص 254.(1/233)
ومن نتائج الوجودية _ أيضاً _ دعوتها إلى التشكيك في جدوى قيام كل ما يتسم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تماماً+(1).
6_ وبالجملة: فليست الوجودية كما حددها سارتر سوى صورة من صور الضياع؛ فهي ليست إلا ثورة سلبية يائسة، لم تستطع أن تشخص الداء فضلاً عن تقديم الدواء.
وكل ما تستطيع أن تقول بصدق: إن ما قدمته الوجودية للإنسانية هو عرض بعض جوانب المأساة البشرية، تلك المأساة التي تعبر عنها جملة واحدة هي: (البحث عن الإله).
فهي ترفض الإيمان بالله كما يبينه الدين، ولكنها لا تجد البدليل.
والإنسان الذي تحاول تأليهه محصورٌ مقهور أمام القدر الكوني، وأمام وضعه التاريخي المحدد.
وحول إيجاد مخرج من هذا التناقض تأتي الفلسفات الوجودية بشعارات شتى كالحرية عند سارتر، والعبث عند البيركامو، وهكذا ضلوا وأضلوا، وشقُوا وأشقوا.
وصدق الله إذ يقول: [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)] (طه).
حكم الوجودية والانتماء إليها (2)
عُرض موضوع الوجودية على مجلس المجمع الفقهي في دورته المنعقدة في 26/4/1399هـ _ 4/5/1399هـ، وأصدر بذلك قراراً حول الوجودية وهذا نصه: الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:
__________
(1) _ كواشف زيوف ص 377.
(2) _ انظر قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي.(1/234)
فقد درس مجلس المجمع الفقهي البحث الذي قدمه الدكتور محمد رشيدي عن (الوجودية) بعنوان (كيف يفهم المسلم فكرة الوجودية)، وما جاء فيه من شرح لفكرتها، ولمراحلها الثلاث التي تطور فيها هذا المذهب الأجنبي إلى ثلاثة فروع تميز كل منها عن الآخر تميزاً أساسياً جذرياً، حتى يكاد لا يبقى بين كل فرع منها والآخر صلة أو جذور مشتركة.
وتبين أن المرحلة الثالثة رجعت بفكرة الوجودية إلى إلحاد انحلالي يستباح فيه تحت شعار الحرية كل ما ينكره الإسلام والعقول السليمة.
وفي ضوء ما تقدم بيانه يتبين أنه حتى فيما يتعلق بالمرحلة الثانية المتوسطة من هذه الفكرة، وهي التي يتسم أصحابها بالإيمان بوجود الخالق، والغيبيات الدينية، وإن كان يقال إنها رد فعل للمادية والتكنولوجيا والعقلانية المطلقة.
وكل ما يمكن أن يقوله المسلم عنها في ضوء الإسلام هو أن هذه المرحلة الثانية منها، أوعقيدة الفرع الثاني من الوجودية _ رأي أصحابها في الدين على أساس العاطفة دون العقل _ لا يتفق مع الأسس الإسلامية في العقيدة الصحيحة، المبنية على النقل الصحيح، والعقل السليم في إثبات وجود الله _ تعالى _ وماله من الأسماء الصفات، وفي إثبات الرسالات على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد ".
وبناء على ذلك يقرر مجلس المجمع بالإجماع: إن فكرة الوجودية في جميع مراحلها وتطوراتها وفروعها لاتتفق مع الإسلام؛ لأن الإسلام إيمان يعتمد النقل الصحيح، والعقل السليم معاً في وقت واحد.
فلذا لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال أن ينتمي إلى هذا المذهب متوهماً أنه لايتنافى مع الإسلام، كما أنه لا يجوز بطريق الأولوية أن يدعو إليه أو ينشر أفكاره الضالة.
الرئيس/ عبدالله بن حميد
نائب الرئيس/ محمد علي الحركان
الأعضاء:
1_ عبد العزيز بن باز. ... ... ... 2_ محمد السبيل.
3_ صالح بن عثيمين. ... ... ... ... 4_ محمد عبد الودود.
5_ حسين مخلوف. ... ... ... ... 6_ عبد المحسن العباد.(1/235)
7_ مصطفى الزرقاء. ... ... ... ... 8_ محمد قباني.
9_ اللواء محمود شيت خطاب. ... ... 10_ محمد رشيدي
11_ محمد الشاذلي. ... ... ... ... 12_ محمد الصواف. ...
13_ عبد القدوس الهاشمي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي جاء بالحق المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الباطل ما برح يحارب الحق بسيوفه المفلولة، وشبهاته الضئيلة، وإن العصور ما برحت تلد مِنَ الضالين المعاندين والمضلين المخادعين مَنْ يحاولون رد الناس عن أديانهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ولئن كانت الضلالات كثيرة متنوّعة _ فإن أشرَّها وأخسَّها مذهب الشيوعية الماركسية، ذلك المذهب الذي أنشأه اليهود، فتربى في أحضانهم، وأخرج نباته النكد.
فالشيوعية الماركسية مذهب إلحادي يؤمن بالمادة وحدها، ويكفر بالغيب وما جاء عن الله وعن رسله _ عليهم السلام _ ويقوم في سبيل الدعوة إليه على الحديد والنار، وما أوتي من قوة.
ولقد ظهر ذلك المذهب في القرن التاسع عشر الميلادي، فَمَدَّ رواقه في بلاد عديدة؛ حيث اعتنقه أفراد، وتبنته حكومات.
ولقد تهيأ لهؤلاء المضلين من وسائل الإغواء والدعاية والفساد والإفساد _ ما لم يتهيأ لغيرهم من الغابرين.
ولهذا راجت دعايتهم، وانتشر مذهبهم، حتى لقد اعتنق الشيوعية فئام غير قليلة من المسلمين.(1/236)
وبما أن الشيوعية مذهب هدام، وأنه قد انتشر بصورة مذهلة _ فإن الغيرة قد دبت في قلوب كثير من أهل العلم والفضل من المسلمين؛ فقاوموا الشيوعية بما أوتوا من علم وبيان، فأوضحوا عوار ذلك المذهب وزيفه، وأخبروا بأن الشيوعية إلى زوال واضمحلال، وأن نهايتها لن تكون إلا على أيدي أتباعها؛ لأنها باطل، والباطل لا دوام له، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وبسبب هذه الجهود المباركة أنقذ الله أمماً كثيرة من وباء الشيوعية المدمر.
وإن مما يدعو للعجب أن يعتنق هذا المذهب نفر من أبناء جلدتنا، الذي أكرمهم الله بالإسلام.
وما اعتناقهم لذلك المذهب إلا ضرب من التقليد الأعمى، واستبدالٌ للذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى إن المذاهب لتموت في الغرب ويزهد بها أربابها ولها من يهتف لها ويدعو إليها من أبناء جلدتنا.
ولقد يسر الله أن كتبت بعض الصفحات حول الشيوعية قبل سنوات؛ إذ كنت أستعين بها في إعداد بعض الدروس حول الشيوعية.
وبعد ذلك أعدت النظر فيما كتبت، ثم رغبت في نشره؛ عسى أن يكون فيه شيء من الفائدة.
هذا وقد جاءت خطة البحث في هذا الكتاب بعد المقدمة مشتملة على تمهيد، وأربعة فصول، وخلاصة وخاتمة للبحث وذلك على النحو التالي:
تمهيد
وتحته:
أولاً: تعريف الشيوعية.
ثانياً: نبذة عن تاريخ الشيوعية عموماً.
الفصل الأول: نشأة الشيوعية الماركسية وأشهر شخصياتها:
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: نشأة الشيوعية الماركسية.
المبحث الثاني: مؤسس الشيوعية الماركسية، وأشهر شخصياتها.
المبحث الثالث: أسبابُ قيامِ الشيوعيةِ، ومواطنُ انتشارها.
الفصل الثاني: معتقدات الشيوعية الماركسية، وأخلاقها، وأهدافها:
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: معتقدات الشيوعية وآراؤها.
المبحث الثاني: أخلاق الشيوعية.
المبحث الثالث: أهداف الشيوعية ووسائلها.
الفصل الثالث: موقف الشيوعية من الإسلام:
وتحته تمهيد، وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طرق الشيوعيين في محاربة الإسلام.(1/237)
المبحث الثاني: أعمال الشيوعيين ضد المسلمين.
المبحث الثالث: أسباب انتشار الشيوعية في العالم الإسلامي.
الفصل الرابع: بطلان الشيوعية والرد على مزاعمها:
وتحته مبحثان:
المبحث الأول: آثار الشيوعية.
المبحث الثاني: الرد على مزاعم الشيوعية، وحكمُ الانتماء إليها.
خلاصة البحث
الخاتمة
هذا ما يسر الله تقييده، وأعان على إتمامه، فعسى أن يكون فيه فائدة، وإيضاح لذلك المذهب.
والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
1_ تعريف الشيوعية في اللغة: الشيوعية في اللغة مأخوذة من مادة شيع.
وهذه المادة تدور حول عدة معانٍ، فتطلق على الظهور، والافتراق، والانتشار، والذيوع.
قال ابن منظور ×: =شاع الشيب شيعاً، وشياعاً، وشيعاناً، وشيوعاً، وشيعوعة، وتشيعاً: ظهر وتفرق، وشاع فيه الشيب، والمصدر ما تقدم، وتشيعه كلاهما: استطار.
وشاع الخبر في الناس يشيع شَيْعاً، وشيعاناً، ومشاعاً، وشيعوعة، فهو شائع: انتشر، وافترق، وذاع، وظهر+(1).
ومن إطلاقات هذه المادة: التفريق.
قال ابن منظور ×: =أشعتَ المال بين القوم، والقِدْرَ في الحي: إذا فرقته فيهم+(2).
وتُطلق مادة شيع _أيضاً_ على العموم.
قال ابن منظور: =أشاعكم السلام: أي عمكم+(3).
وتطلق على الشراكة يقال: =هما متشايعان، ومشتاعان في وادٍ وأرض إذا كانا شريكين فيها، وهم شيعاء فيها، وكل واحد منهم شَيِّعٌ لصاحبه، وهذه الدار شَيِّعة بينهم أي مشاعة+(4).
وتطلق على التفرق وورد من ذلك قولهم: =شاعت القطرة من اللبن في الماء وتشيعت: تفرقت+(5).
ومن خلال ما مضى يتبين لنا أن هذه المادة _ شيع _ تدور حول الظهور، والانتشار والافتراق، والذيوع، والعموم، والشراكة، والتفرق.
__________
(1) _ 2 _ 3 _ لسان العرب لابن منظور8/191.
(4) _ لسان العرب لابن منظور8/191
(5) _ لسان العرب 8/192(1/238)
وكلمة شيوعية نسبة إلى الشيوع، فيقال شيوعي للمذكر، وشيوعية للمؤنث، فتطلق على فكرة الشيوعية، وتطلق على من اتصف بها، أو انتسب إليها.
2_ تعريف الشيوعية في الاصطلاح العام: هي نظام يقوم على إلغاء الملكية الفردية، وعلى حق الناس في الاشتراك في المال والنساء؛ فالناس في الشيوعية شركاء في المال، والنساء، وسائر الثروات والمكتسبات.
3_ تعريف الشيوعية الماركسية الحديثة: عُرِّفت الشيوعية الماركسية الحديثة بعدة تعريفات، تكاد تكون متقاربة، ومما عرفت به ما يلي:
أ _ قيل: هي حركة فكرية، واقتصادية، يهودية، إباحية، وضعها كارل ماركس تقوم على الإلحاد، وإلغاء الملكية الفردية، وإلغاء التوراث، وإشراك الناس كلهم في الإنتاج على حد سواء(1).
ب _ وقيل: هي تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولقضية الألوهية كذلك، وهي تفسير لذلك كله على أساس مادي، وعن هذا التصور الشامل ينبثق المذهب الاقتصادي.
ثم إنها من جهة أخرى مذهب اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، وفكري مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض (2).
ج _ وقيل: الشيوعية تنظيم بقيادة يهودية، ذو هيمنة عقائدية، ووسائل تستدرج مغرية بالشهوة الإباحية، والنفعية الميكافيلية(3)، وتسيطر بالاستبداد المطلق المقرون بالعنف الدموي، والإرهاب المعطل لطاقات الحرية العملية والفكرية.
__________
(1) _ الأديان والذاهب المعاصرة د. ناصر العقل ود. ناصر القفاري ص92
(2) _ مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب ص 409 _410.
(3) _ الميكافيلية: هي أسلوب في المعاملات، يتسم بالخداع والمخاتلة، مبني على مبدأ =الغاية تسوغ الواسطة+ أو =الغاية تسوغ الوسيلة+، وهذا المبدأ يأخذ به أكثر السياسيين.
وينسب إلى المفكر الإيطالي =ماكيافلي+ 1469_1527م رائد هذا المبدأ، والذي سجله في كتابه =الأمير+ وقدمه لأحد ملوك أوروبا الوسطى، انظر القاموس السياسي لأحمد عطية ص1105_1106.(1/239)
والهدف الغائي من هذا التنظيم تحقيق جانب من المخطط اليهودي العالمي الرامي إلى تدمير الأمم والشعوب والأديان وكل قيم المجتمع البشري، تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية العالمية، التي يحلم قادة اليهود بأنهم سيصلون إليها عن طريق مخططاتهم التي يعملون على تنفيذها بكل ما أوتوه من مكر وقوة.
د _ ويمكن أن تعرف الشِّيوعيَّة بأنها: حركة يهودية، أسسها كارل ماركس وطبقها من جاء بعده، تقوم على الإلحاد، وتنظر إلى الكون والحياة من منظور مادي، وتسعى إلى تحقيق أهدافها بالحديد والنار، وبكل ما تملكه من وسائل.
ثانياً: نبذة عن تاريخ الشيوعية ــ عموماً ــ (1)
الشيوعية فكرة قديمة، ظهرت في التاريخ أكثر من مرة؛ فقد جاء في كتاب (الجمهورية) لأفلاطون الأثيني الإغريقي (427_347) ق.م. ما يدل على نشأة هذا المذهب، حيث أقام في كتابه نظاماً يقوم _ بالنسبة للحكام _ على شيوعية المال، والنساء، وشرع لهذا منهجاً مفصلاً؛ فهناك أمثلة خيالية، ولمحات عن الاشتراكية أثبتها أفلاطون في كتابه، تصور حقيقة أن القرن الخامس قبل الميلاد _وهو الذي وجد فيه أفلاطون_ كان فيه مبادئ اشتراكية لم تزل في مهدها.
يقول أفلاطون في كتابه الآنف الذكر ما فحواه: =يجب أن يشتمل النظام على اشتراكية النساء والأولاد، فليس لأحد حق بإنشاء أسرة مستقلة، كما ليس له الحق بتربية الأولاد؛ لأن الجميع ملك الدولة، وهي وحدها تشرف على تنشئة العضو الصالح كما تشرف على إنجاب النسل المختار+(2).
هذا وقد قسم أفلاطون المجتمع إلى ثلاثة أقسام:
1_ الحكام.
2_ رجال الحرب.
3_ الخدم والعمال.
وقال: إنه يجب أن تكون الزوجات والأموال، والمآكل مشاعة بين أفراد الفئة الأولى والثانية، أما الثالثة فإنها تعيش على النظام الأسري المعهود.
__________
(1) _ انظر الشيوعية في موازين الإسلام ، لـ: لبيب السعيد ص 11 _ 12، ونقد أصول الشيوعية للشيخ صالح بن سعد اللحيدان ص 18.
(2) _ نقد أصول الشيوعية ص 18.(1/240)
وكذلك قال بالشيوعية أكزينوف (425 _ 352 ق.م) من فلاسفة الإغريق(1).
وقال بها _ أيضاً _ مزدك عام (487م) ، حيث دعا إلى الشيوعية واشتراك الناس في الأموال، والأعراض، وتسمى حركته بالمزدكية، وظهرت هذه الحركة في بلاد فارس(2).
كما دعا إلى الشيوعية كثير من أرباب النزعات الإباحية، كالباطنية المتأثرين بالمزدكية، ومنهم حمدان قرمط وقومه، ومنهم علي بن الفضل الذي صور مذهبهم بقوله:
خذي الدفَّ يا هذه واضربي ... وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم(3) ... وهذا نبي بني يعرب
لكل نبيٍّ مضى شرعة ... وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة ... وفرض الصيام فلم نتعب
أباح البنات مع الأمهات ... كذاك أباح نكاح الصبي
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوَّموا فكلي واشربي
ولا تطلبي الحج عند الصفا ... ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين ... من الأقربين أو الأجنبي
بماذا حللت لهذا الغريب ... وصرت محرمة للأب
أليس الفراس لمن ربَّه ... وغذَّاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء ... أبيحت فقدِّست من مذهب(4)
ثم توالت بعد ذلك الدعوات إلى الشيوعية على يد عدد من الأشخاص، منهم توماس مور _1478 _ 1535م_ حيث وضع نظاماً لمدينته الفاضلة الخيالية ضمن شيوعية مالية.
ثم جاء بعده كامبانيلا الإيطالي _1568 _ 1639م_ في كتابه مدينة الشمس، حيث ضمنه نظاماً اشتراكياً لمدينته هذه أغفل فيه الملكية الفردية والزواج.
__________
(1) _ انظر الشيوعية في موازين الإسلام ص 12.
(2) _ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/249_250.
(3) _ يقصد بالذي تولى: نبينا محمد ".
(4) _ انظر كشف أسرار الباطنية للشيخ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليمني ص 55، والحركات الباطنية د. محمد بن أحمد الطيب الخطيب ص 66 .(1/241)
ومن الذين دعوا إليها فرنسيس بيكون _1626م_ وهاريخ تون _1677م_ وجان جاك روسو _1787م _ والكاتب الفرنسي مورللي _1817م_ وباييف الذي أعدم أمام الناس عام _1797م_.
هذه نبذة عن تاريخ الشيوعية عموماً.
وبعد هذه الدعوات ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة على يد كارل ماركس، وزميله فريدريك إنجلز، وهي مدار الحديث في هذا الكتاب، وسيأتي الحديث عن تفصيلها _إن شاء الله تعالى_.
المبحث الأول: نشأة الشيوعية الماركسية (1)
ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة في القرن التاسع عشر الميلادي، فقد خرج كارل ماركس (1818_1883م) بآرائه التي تعد حجر الزاوية في المبادئ الشيوعية، وقد بسطها في كتابه (رأس المال).
وقد شاركه في صياغة أفكاره ونظرياته وتابع ذلك من بعده _ صديقه الألماني فريدريك إنجلز.
وقد اندفع الرجلان بقوة ومن ورائهما ثقل الكيد اليهودي يعملان في نشر الشيوعية.
ثم جاء من بعد ماركس أتباع له يدعون بدعوته أهمهم وأوضحهم أثراً لينين، فعلى يده قامت الشيوعية عملاً واقعياً ماثلاً للعيان بعد أن كانت أشبه بنظرية على ورق؛ ففي عهد لينين زادت الشيوعية، وامتدت، واشتهرت.
وفي مطالع القرن العشرين أضاف لينين إلى آراء ماركس تعاليم جديدة، وجمع حوله شباب الروس والعمال الفقراء مكوناً منهم الحزب الشيوعي الروسي.
ومن بعد ذلك ثارت روسيا سنة 1917م على الحكم القيصري، واستولى البلاشفة _ الأكثرية _ بزعامة لينين على الحكم، وأعدموا القيصر وآله وأعوانه، وأزالوا جميع النظم القائمة وأحلوا محلها النظام الشيوعي الذي أصبحت روسيا بعد ذلك مصدره ومورده.
وبعدما مات لينين خلفه ستالين، وبعده جاء خروتشوف، ومن بعده بريجينف، ومن بعده أندربوف، ومن بعده جورباتشوف، وعلى يده انهارت الشيوعية، حيث انفرط عقدها، وسُلَّ نظامها.
هذه باختصار هي قصة نشأة الشيوعية الماركسية الحديثة.
__________
(1) _ انظر الشيوعية في موازين الإسلام ص 15.(1/242)
وإذا أمعنت النظر في نشأة الشيوعية وجدت أنها لم تنشأ من فراغ؛ فهناك إرهاصات مهدت لقيامها.
وإذا أردت معرفة الخيوط التي كانت نواةً لقيام الشيوعية وجدت أنها نشأت في حِجْرِ الماسونية اليهودية.
فالذين كتبوا عن الماسونية في مرحلتها الثالثة حددوا أنها بدأت عام 1770م وأن بَدْأها كان إرهاصاً قوياً لقيام الشيوعية الماركسية.
يقول وليم كار صاحب كتاب (الدنيا لعبة إسرائيل): =كان آدم وايزهاويت أحد رجال الدين المسيحي أستاذاً لعلم اللاهوت في جامعة (انغولت شتات) الألمانية بيد أنه ارتد عن المسيحية ليعتنق الإلحاد، وتقمصت فيه روح الشر الإلحادي بشكل خبيث.
وفي عام 1770م اتصل به رجال الماسونية في ألمانيا، وقد وجدوا فيه بغيتهم، فكلفوه بمراجعة (بروتوكولات حكماء صهيون) القديمة وإعادة تنظيمها على أسس حديثة +(1).
=والهدف من وراء ذلك في هذه المرة ليس محاربة الديانة المسيحية، ووضع أيديهم على اقتصاديات ومقدرات العالم كما حدث سابقاً.
إن الأمر في هذه المرة أكبر من ذلك، وهو وضع خطة للتمهيد للسيطرة على العالم، وعن طريق فرض عقيدة الإلحاد والشر على البشر جميعاً+(2).
يقول وليم كار: =وقد أنهى وايزهاويت مهمته خلال عام 1776م، ويقوم المخطط الذي رسمه على ما يلي:
1_ الهدف الأول: تدمير جميع الحكومات الشرعية، وتدمير وتقويض جميع الأديان السماوية.
__________
(1) _ الدنيا لعبة إسرائيل وليم كار ص 11، وانظر المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها د.عبدالرحمن عميرة ص 45.
(2) _ المذاهب المعاصرة ص 46.(1/243)
2_ تقسيم (الجوييم)(1) إلى معسكرات متنابذة تتصارع فيما بينها بشكل دائم حول عدد من المشاكل تتولى المؤامرة توليدها وإثارتها باستمرار ملبسة إياها ثوباً اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو سياسياً، أو عنصرياً.
3_ تسليح هذه المعسكرات بعد خلقها، ثم تدبير حادث في كل مرة يكون من نتيجته أن ينقض كل معسكر على الآخر.
4_ بث سموم الشقاق والنزاع داخل البلد الواحد وتمزيقه إلى فئات متناحرة، وإشاعة عقلية الحقد والبغضاء فيه، حتى تتقوض كل دعاماته الأخلاقية، والدينية، والمادية.
5_ الوصول شيئاً فشيئاً إلى النتيجة بعد ذلك، وهي تحطيم الحكومات الشرعية، والأنظمة الاجتماعية السليمة، وتهديم المبادئ الدينية الأخلاقية، والفكرية والكيانات القائمة عليها؛ تمهيداً لنشر الفوضى والإرهاب، والإلحاد+(2).
هذا هو المخطط الذي وصفه وايزهاويت، والذي يهدف الماسونيون من خلاله إلى تحقيق ما يريدون.
والمتتبع لأحوال العالم يشاهد آثار ذلك التخطيط.
ولما انتهى وايزهاويت من وضع مخططه السابق كُلِّف _ أيضاً _ بتنظيم المحفل (النوراني) نسبة إلى الشيطان الذي كان مخلوقاً نورانياً _ كما يقولون _ وسمي ذلك المحفل بهذا الاسم؛ تذكيراً بالرابطة التي تربط جماعة الماسون والشيطان.
وهكذا استمرت المحافل في أداء رسالتها الشيطانية في جميع البلاد التي تحل بها، بل واستطاعت أن تغزو بعض البلاد الإسلامية عن طريق شعاراتها البراقة: الحرية، والإخاء، والمساواة، فخدعت الكثير من الناس بهذه الشعارات.
__________
(1) _ الجوييم: كلمة عبرية، معناها الأ صلي =شعب+ أو (قوم) لكن دلالتها عند اليهود أصبحت تعني الشعوب من غير اليهود. انظر المغني الوجيز، وموسوعة المصطلحات الأجنبية الشائعة لمنذر الأسعد 1/130_131.
(2) _ الدنيا لعبة إسرائيل ص11، وانظر المذاهب المعاصرة ص 46.(1/244)
وفي عام 1830م فوجئت المحافل الماسونية بوفاة آدم وايزهاويت الرأس المفكر عندهم، والمخطط لأعمالهم بعد حياة طويلة سخر خلالها عبقريته الشريرة لخدمة أتباع الشيطان.
حينئذٍ فترت أعمال المحافل، وخمدت أنشطتها، وأوشكت أن تشل حركتها بالكامل بعد أن علمت بعض الحكومات بما تدبره وتعمل له، وبعد أن أحاطت بآراء تلك المحافل وأهدافها البعيدة، لكن الاجتماع المفاجئ الذي دعت له المحافل عام 1834م والذي تقرر فيه اختيار الزعيم الإيطالي (مازيني) خلفاً لآدم وايزهاويت _ مكَّن هذه المحافل من تنفيذ برامجها في إثارة الفوضى والتخريب في ربوع العالم.
وفي عام 1840م استطاع المحفل الماسوني العالمي النوراني أن يضم إلى عضويته شخصية جديدة هو الجنرال الأمريكي (ألبرت بايك)الذي سُرِّح من الجيش الأمريكي ومعه قواته من الجنود الحمر؛ لارتكابهم فظائع وحشية تحت ستار الأعمال الحربية.
ونجحت الماسونية في استغلال حقده، وغضبه لما حل به من جراء تسريحه لخدمتها ولم تمض إلا فترة وجيزة على انضمام هذا الرجل للمحفل حتى أصبح المشرف الأول، والمخطط لهم في تنفيذ برامجهم.
لقد عمد النورانيون إلى بايك بالناحية التخطيطية، واختاروا له مقراً للعمل في بلدة صغيرة هادئة في الولايات المتحدة الأمريكية في (ليتل روك).
وفي هذه البلدة استقر (بايك) في قصر هادئ واعتكف فيه من عام 1859_ 1871م وفي خلال هذه الأعوام قام بدراسة مستفيضة لمخططات (وايزهاويت) ثم وضع مخططاته الجديدة على ضوئها(1).
والذي يعنينا في هذا الصدد أن بايك أقرَّ ونظم تبني النورانيين لحركات التخريب العالمية الثلاث المبنية على الإلحاد وهي:
1_ الشيوعية.
__________
(1) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 51_52.(1/245)
2_ الفاشستية(1).
3_ الصهيونية(2).
فالأولى: وهي الشيوعية للإطاحة بالحكم الملكي في روسيا، وبعد الإطاحة بالحكم تجعل هذه المنطقة من العالم هي العقل المركزي للحركة الشيوعية الإلحادية، تم تأتي بعد ذلك مرحلة الانطلاق بالشيوعية إلى كل أرجاء العالم، بغية تدمير المعتقدات الدينية والأخلاقية.
والثانية: وهي الفاشستية تُؤَمِّن الحرب العالمية الثانية واجتياح الحركة الشيوعية العالمية لنصف العالم مما يمهد للمرحلة القادمة هى إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
والثالثة: وهي الصهيونية تتصدى للزعماء الإسلاميين، وتشن حرباً على الإسلام الذي يعد القوة الأخيرة التي تجابه القوة الخفية _ الماسونية _ حتى تتوصل إلى تدمير العالم وعقيدته(3).
والذي يعنينا من هذه الحركاتِ الشيوعيةُ، فلقد اختارت المؤامرة العالمية روسيا لتكون مقراً لقيام الشيوعية؛ لكثرة أقطاب اليهود القاطنين فيها.
ففي القرن التاسع عشر وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا تحكم بالقيصرية _ بلغ يهود روسيا ذروة السيطرة المالية والمهنية، وكان اتجاه القياصرة الروس أن يصهروا اليهود في المجتمع الروسي؛ حتى لا يكون لهم انفصال متميز.
إلا أن اليهود كانوا يرفضون ذلك بدافع عرقي وديني.
__________
(1) _ الفاشستية ويقال:الفاشية: هي نظام،أو حركة أو فلسفة سياسية تمجد الدولة، والعرق،وتدعو إلى إقامة حكم أوتوقراطي مركزي على رأسه زعيم دكتاتوري، وإلى السيطرة على كل شكل من أشكال النشاط القومي. ومن أبرز زعماء هذه الحركة الزعيم الإيطالي موسوليني.
(2) _ الصيهيونية: هي منظمة يهودية سياسية أسسها اليهودي تيودورهرتزل ،وتهدف إلى تجميع اليهود في فلسطين وإلى تنفيذ المخططات المرسومة لإعادة مجد بني إسرائيل وبناء هيكل سليمان، ثم إقامة مملكة إسرائيل ثم السيطرة على العالم من خلالها تحت ملك اليهود المنتظر المزعوم.
(3) _ انظر الدنيا لعبة إسرائيل ص26، والمذاهب المعاصرة ص 53_54.(1/246)
ثم كانت محاولة اغتيال اسكندر الثاني، فَبَدَّل هذا سياسته تجاه اليهود بعد أن كانت سياسة انفتاح وتسامح شديد.
عندئذٍ نقم اليهود على القيصر، وأسسوا جمعية سرية إرهابية هي جمعية (نارود نايافوليا)أي إرادة الشعب، وظلوا يأتمرون بالقيصر؛ ليقتلوه، حتى نجحت مؤامرة اغتياله في آذار سنة 1881م، وكان رؤوس المؤامرة جميعهم من اليهود، وفي مقدمتهم اليهودية (هيسيا هيلفمان).
وكان لاغتيال اسكندر الثاني رد فعل روسي معادٍ لليهود، وعندئذٍ نشطت الحركتان الشيوعية والصهيونية نشاطاً كبيراً في صفوف اليهود.
واتجهت الخطة اليهودية لتقويض القيصرية، وإقامة النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية، فأخذ اليهود يدبرون المكائد، ويحيكون الدسائس، وينظمون الجمعيات السرية اليهودية لذلك الشأن، فكان من تلك المنظمات فرقة أطلق عليها (فرقة تحرير العمل).
وكانت مهمتها نشر أفكار كارل ماركس وآرائه وذلك عام 1883م.
وقد حققت تلك الفرقة _بما توفر لديها من عون_ التنظيمات اليهودية في داخل روسيا _ بعض مهمتها، واعتبر لينين وستالين أن ما حققته هذه الفرقة الماركسية كان النواة الأولى، وأنها أدت مهمة خطيرة جداً.
كما قامت المنظمات الأخرى كمنظمة (اتحاد العمال اليهود) بنشاطات واسعة في تأجيج الثورة ضد القيصرية، وببث النظرية الشيوعية الماركسية، وبالاتصال بكبار أصحاب الأموال الضخمة في العالم من الرأسماليين لتمويل حركتهم الشيوعية اليهودية.
وفي عام 1893م ذهب لينين إلى (بطبرسبرغ) فأقام فيها، وأنشأ حلقة ماركسية انضم إليها عدد واسع من اليهود، ثم قام بمهمة توحيد الحلقات الماركسية في المدينة، وكان يزيد عددها على العشرين، فجمعها في (اتحاد النضال لتحرير الطبقة العاملة).
وظل الاتحاد يعمل بقيادة لينين في اتجاه آرائه حتى اعتقل عام 1895م.(1/247)
ثم تابع اليهود في الولايات الغربية من روسيا مسيرة لينين، فأنشأوا حزب (البوند)أي الاتحاد العام للحزب الاشتراكي اليهودي، ولم يحضر لينين هذا المؤتمر بسبب نفيه إلى سيبيريا.
وفي عام 1903م انعقد في بروكسل عاصمة بلجيكا مؤتمر التوحيد بهدف جمع الحركات الماركسية كلها تحت حزب العمال الاشتراكي، وكان برنامج الحزب الذي وضعه لينين هو الثورة الاشتراكية وقلب سلطة الرأسمالية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا(1).
ثم عاشت روسيا فترة طويلة من الاضطرابات التي كان لها أكبر الأثر على الإنتاج العام الذي منيت به البلاد، والذي ظهر أثره عندما دخلت روسيا الحرب ضد ألمانيا؛ فمع بداية القرن العشرين الميلادي كانت روسيا مسرحاً لنشاط ثوري أسسه اليهود، واستطاعت تنظيماتهم السرية اغتيال عدد من الزعماء الروس.
وفي عام 1905م قامت في روسيا أول ثورة شيوعية نظمها اليهود إلا أنها أخفقت ولم يتمكن اليهود من فرض الماركسية في روسيا.
وفي كانون الثاني من عام 1917م بدأت الاضطرابات في موسكو ضد نظام الحكم القيصري؛ نتيجة ضعفه، وكثرة المؤامرات ضده، والحرب التي يخوضها على الجبهة الألمانية.
وظلت هذه الاضطرابات تستفحل وتنتشر حتى بلغت حد الثورة التي استطاعت أن تسقط نظام الحكم القيصري في شباط سنة 1917م.
وكانت الثورة في بدايتها ديمقراطية ذات اتجاه إصلاحي ولم تكن شيوعية، ولم يظهر الشيوعيون على الساحة، وقامت الحكومة المؤقتة برئاسة الأمير لفوف، واتخذت هذه الحكومة المؤقتة بعض التدابير الأولية للتهدئة؛ ظناً منها أن ذلك لمصلحة روسيا، فأصدرت قراراً بإعادة جميع المنفيين في سيبيريا والسماح لمن كان يقيم في الخارج أن يعود إلى البلاد.
وفي نيسان عام 1917م عاد إلى موسكو قادة المنظمات اليهودية الماركسية؛ فعاد لينين من سويسرا، وعاد ستالين من سيبيريا، وعاد تروتسكي من نيويورك مع مئات الشيوعيين اليهود الحمر.
__________
(1) _ البروليتاريا: الطبقة العاملة.(1/248)
وفي شهر نيسان نفسه من عام 1917م اجتمع البلشفيك برئاسة لينين، ووضعوا مخططاً لتحويل الثورة لمصلحتهم، ومصادتها بأية وسيلة.
وفي تشرين من عام 1917م استطاع البلشفيك الاستيلاء على السلطة المؤقتة، فصارت بأيدي الشيوعيين: لينين وأتباعه.
وبعد ذلك اتحدت المنظمات الماركسية، وخضعت لجهاز مركزي واحد، وفرض على روسيا حكم شديد العنف والصرامة مستخدماً كل وسائل القمع بالحديد والنار.
وبهذا يتبين لنا كيف قامت الشيوعية، ومدى العلاقة بينها وبين اليهودية العالمية(1).
بل لقد كشفت اليهودية عن عملها ومخططها في نجاح الثورة، حيث صرح جاكوب شيف المليونير اليهودي بأن الثورة الروسية نجحت بفضل دعمه المالي.
وقال: =إنه عمل على التحضير لها مع رفيقه تروتسكي+(2).
وفي استكهولم كان اليهودي (ماكس واربورج) ينفق بسخاء على هدم النظام القيصري، ثم انضم إلى هذه المجموعة من أصحاب الملايين اليهود _ (والف اشبورغ) (وجيفولوفسكي) الذي تزوج ابنة (تروتسكي)(3).
وتقول إحدى الصحف الفرنسية القديمة الصادرة في عددها 115 عام 1919م:
=المعروف أن الحركة البلشفية ليست سوى حركة يهودية سرية يربطها ويوجهها التمويل اليهودي، فضلاً عن القيادات اليهودية فكراً وتنظيماً+(4).
ونتساءل كيف يتفق أصحاب رؤوس الأموال في العالم مع دعوة (البروليتاريا) أصحاب الطبقة الفقيرة أيكون هذا دعاية من الدعايات التي تطلقها الدول الرأسمالية ضد النظام الشيوعي وأتباعه؟
إن الصحيفة الفرنسية تحسم هذه التكهنات والتناقضات عندما تكشف شيئاً من مخطط اليهود بقولها: =إن الهدف من تمويل الثورة الشيوعية من قبل الرأسمالية اليهودية هو إقامة دولة إسرائيل في فلسطين+(5).
__________
(1) _ انظر في تفاصيل ذلك إلى المذاهب المعاصرة ص 111_113، والكيد الأحمر ص 84 _94.
(2) _ المذاهب المعاصرة ص 112.
(3) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 111_112.
(4) _ 3 _ المذاهب المعاصرة ص 112.(1/249)
يؤيد ما قالته الصحيفة الفرنسية أن من أول القرارات التي أصدرها لينين عقب توليه السلطة: هو قراره المعروف بتأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
والعجيب في الأمر أن قرار لينين هذا تزامن مع وعد بلفور الإنجليزي لهذا الغرض.
وهكذا التقت الشيوعية مع الرأسمالية عام 1917م(1).
أولاً: مؤسس الشيوعية الحديثة _ كارل ماركس (2) 1818 _ 1883م _ :
مؤسس الشيوعية الحديثة، والرجل الأول فيها هو كارل هنريك ماركس، فالعالم يعرفه بأنه أبو الشيوعية، وأنها إليه تنسب، فيقال: الشيوعية الماركسية.
وتلامذة ماركس يغالون في حبه، ويعدونه رجل الثورة والحرية؛ فهو _ بزعمهم _ ذلك الرجل الرقيق الذي يحمل قلباً مليئاً بالعطف والحنان، وأنه ذلك الرجل الذي يكره الاستبداد، ويتدسس في مخازن الأغنياء، فيفتح صناديقهم المليئة بحثاً عن لقمة عيش يسد بها جوعة فقير أو مسكين، أو يتيم أو شيخ كبير، أو عامل كادح.
هذه هي الصورة الخادعة والدعاية البراقة عن كارل ماركس.
أما الحقيقة والوثائق فتقول غير ذلك، فتقول: إنه حبر يهودي، إنه ذلك الألماني المولود عام 1818م، فهو يهودي ابن يهودي، وجده هو الحاخام اليهودي الكبير (مردخاي)، بل إن أجداده من جهة أمه يهود، كما أنه ولد في حي اليهود المسمى (غيثو).
ولقب أسرته الحقيقي (لاوي) أو (ليفي) واللاويون من بني إسرائيل ينتسبون إلى لاوي بن يعقوب _ عليه السلام _ ؛ فماركس _ إذاً _ يهودي الوجه واليد واللسان.
__________
(1) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 112_113.
(2) _ انظر: الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام للعقاد ص 24_25 ,28_ 67 ، والمذاهب المعاصرة ص 185_191، والكيد الأحمر 74_75، والموسوعة الميسرة ص 309_310، والشيوعية وموقف القرآن الكريم منها د. عبدالباقي أحمد عطا الله ص 41_49، وأيها الشيوعيون هؤلاء قواد ثورتكم لمحمد الصوياني.(1/250)
أما عن تعليمه فقد وجهه والده إلى الفكر الفلسفي، كما درس له شيئاً من الأدب الكلاسيكي، ثم دخل ماركس جامعة بون، ثم جامعة برلين.
وكان أبوه يريد أن يدرس ابنه القانون، ولكنه بعد فصلين دراسيين تحول إلى دراسة الفلسفة، ثم تركها ليدرس الاقتصاد.
وكانت حالة أبيه متدهورة ولكن كارل ماركس لم يقدر ذلك، فساءت العلاقات بينهما، فلم يكن باراً بأبيه حتى بعد موته؛ فحين نعي إليه أبوه وهو في السنة النهائية من دراسته الجامعية _ لم يذهب إلى بلدته؛ ليواسي أمه وإخوته، وما كان منه إلا أن بعث إلى أمه يطلب نصيبه من ميراث أبيه، ثم ظل بعد استيفاء ميراث أبيه يرهق أمه بمطالب مالية، غير مبال بحاجة إخوانه وضعفهم.
ومما يذكر عنه أنه لم يكن حميد السيرة لما كان في الجامعة، فكان على مستوى عالٍ من الفساد الخلقي، وشرب المسكرات، واستعمال المخدرات، وكان يسترسل في سهراته مع غواة العربدة واللهو، وكان يترك بلدة بون لما كان في جامعتها، ويذهب إلى بلدة كولون يبتغي ما فيها من ملاهي السهر مما لم يكن ميسوراً له تحت الرقابة الجامعية.
ولما كان في برلين ضبط أكثر من مرة وهو سكران.
وكان جباناً رعديداً يخاف من الشرطة خوفاً شديداً، فكان يذهب إلى قرية قريبة من برلين؛ ليشرب فيها كما يريد، ولقد كان ذا طبيعة ميالة إلى الهدم والتدمير، كما وصفه بذلك والده.
ومما يذكر في سيرة ماركس أنه كان مُنَفِّراً لمن حوله، مفرطاً في أنانيته وسوء خلقه، وبذاءة لسانه.
وكان معجباً بنفسه متعالياً على غيره، ولا يتحرج من قذف المخالفين له بالشتائم القذرة، وألفاظ الازدراء والسخرية ولو كان المخالف ممن يقول بفكرته، وينادي بما ينادي به.
ومما يذكر عنه أنه كان قذراً يهمل نظافة جسمه، وترجيل شعره، والعناية بملابسه ومظهره.
وكان منظر القروح التي تملأ وجهه وما ظهر من جلده يزيده قذارة إلى قذارته.(1/251)
ومما ذكر عنه أنه كان كثير الاستدانة من معارفه، حتى لقد مَلُّوا من كثرة طلباته، وعدم وفائه.
ثم إن هذا الرجل الذي يحارب الملكية الفردية ويعدها سرقة أخبث من سرقة اللصوص وقطاع الطريق _ رد خطيب ابنته (لورا) ريثما يتحقق من صحة ميراثه، ومن كفاية ذلك الميراث؛ للتعويل عليه في طلباته.
كما أنه كان معروفاً باستخدام الغش، والمكر والخداع، وسرقة الكتب والمقالات وغيرها.
ومما مَرَّ بماركس في حياته من أحداث _ موت ابنتيه منتحرتين، فالأولى (النيورا) انتحرت بعد أن عاشت في الحرام مع عشيق لها ثم اكتشفت سبق زواجه، والثانية (لورا) وقد انتحرت؛ خوفاً من أن تدركها الشيخوخة، مما كان له أثر في نفسه.
هذه لُمَعٌ من سيرة هذا الرجل، وإذا كان هناك من شيء يدعو للعجب فهو حال أتباعه ومريديه، ومحبيه، فكيف يكون له أتباع ومريدون ومحبون وهو بهذه الحال الغريبة المنفرة؟!
ولكن إذا عرف السبب بطل العجب؛ فالأرواح جنود مجندة، والطيور على أشكالها تقع، و:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
ثم إن أصابع اليهود من وراء ذلك _ كما مر _ فاليهودية هي حاضنة الشذاذ، وفاتحة المجال أمام المجرمين المفسدين.
على أن في حياة ماركس زاوية لم يلق عليها الضوء إلا مؤخراً؛ ذلك أن ماركس قد اتصل عام 1862م بفيلسوف الصهيونية الأول، وواضع أساسها النظري (موشيه هيس) وعن هذا أخذ هرتزل(1).
وقد بلغ من إعجاب ماركس وتأثره بـ (هيس) أن كتب فيما بعد يقول: =لقد اتخذت هذا العبقري لي مثالاً وقدوة؛ لما يتحلى به من دقة التفكير، واتفاق آرائه مع عقيدتي وما أؤمن به، إنه رجل نضالي الفكر والسلوك+(2).
__________
(1) _ هرتزل: هو مؤسس الصهيونية الحديثة.
(2) _ المذاهب المعاصرة ص 120.(1/252)
و(موشيه هيس) هذا هو صاحب كتاب (الدولة اليهوية) ولم يزد هرتزل على أفكار هيس سوى أن بسطها، وأقام لها تنظيمها السياسي، فيما يعرف بالحركة الصهيونية تماماً كما كان لينين من ماركس، فماركس صاحب النظرية، ولينين منفذها، وموضح عويصها بالإضافة إلى ما زاد عليها(1).
ثانياً: أشهر شخصيات الشيوعية الماركسية:
هناك شخصيات مهمة وذات أثر في نشأة الشيوعية والتمكين لها، وأشهر هذه الشخصيات لينين، وتروتسكي، وستالين.
وفيما يلي نبذة عن هذه الشخصيات(2) :
1_ لينين: اسمه الحقيقي فلاديمير ألتيش بوليانوف، وهو قائد الثورة البلشفية الدامية، ودكتاتورها المرهوب، فهو الذي قاد الثورة على القيصرية الروسية عام 1917م وتولى زمام الحكم الشيوعي إلى أن مات عام 1924م.
وهناك دراسات تقول بأنه يهودي الأصل وأنه كان يحمل اسماً يهودياً ثم تسمى باسمه الذي عرف به، وربما كان من سلالة التتار الوافدين على روسيا.
وأما أمه (ماريا الكسندر) فيقال: إنها ألمانية الأصل من سلالة يهودية، ولم يطلع لينين على الأفكار الشيوعية إلا في العشرين من عمره، وقد اتصل بالثوريين فقبض عليه عام 1897م وظل في السجن مدة عام، ثم نفي إلى سيبيريا، وفي منفاه عكف على التأليف.
وفي سنة 1900م سُمِح له بالعودة فهاجر إلى سويسرا وهناك أسس أهم صحيفة ثورية (القبس) ثم انتقل إلى لندن؛ ليتصل بالاشتراكيين هناك، ومكث فترة ثم استطاع بعدها أن يدخل روسيا سراً سنة 1905م.
وفي عام 1917م تولى قيادة الثورة ضد القيصرية، واستطاع القبض على زمامها لصالح الحزب البلشفي كما مر عند الحديث عن نشأة الشيوعية.
وهكذا تبوأ لينين مقعد الرئاسة منفذاً ما كان يريد لا ما كانت الثورة تريد.
__________
(1) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 120.
(2) _ انظر المذاهب المعاصرة ص185_191 والموسوعة الميسرة ص309_310, والشيوعية ومواقف القرآن الكريم منها ص41_49 وأيها الشيوعيون هؤلاء قواد ثورتكم.(1/253)
ولئن كان ماركس هو المؤسس الأول للشيوعية بأفكاره النظرية _ فإن لينين هو المنفذ لهذه الأفكار؛ فهو الذي وضع الشيوعية موضع التنفيذ.
ومما ذكر عن لينين أنه كان مُعَقَّداً عنيفاً قاسي القلب مستبداً بالرأي، حاقداً على البشرية.
ومن صفاته أنه كان كالح الوجه، دائم العبوس، سيء الظن بكل من حوله، يفترض أن العداوة كامنة في كل نفس؛ فمن كلامه للأديب الروسي مكسيم جورجكي: =ينبغي أن يحذر الإنسان من التربيت بيده على رؤوس الناس؛ لأنها قد تصادف هناك عضة تستأصلها+(1).
وكان ذا شخصية شاذة، فله شذوذات كثيرة، منها أنه لا يقبل أن يكون في مكتبه مقعد مريح للجلوس عليه.
وكان خطيباً بارعاً، وقد اتخذه الروس صنما معبوداً وأضفوا عليه ألقاباً كثيرة، فيصفونه بأنه سلس منقاد، بسيط كالحق، رقيق كالنسيم.
وهي في الحقيقة _ صفات أملاها الرعب، و لم يملها الحقائق والواقع؛ ذلك أن الشعب يبغضه بشدة، والدليل على ذلك كثرة المؤامرات التي دبرت لقتله، غير أنه لم يمت إلا في يناير عام 1924م.
أما الريبة التي أحاطت بموته فهي حقيقة تناولها الناس بعد مدة من وفاته؛ فقد ألزمه المرض فراشه في أواخر أيامه، وكان الفالج يعاوده بالإلحاح بين الفينة والأخرى.
وفي تلك الأثناء تغير رأيه في ستالين وكان إذ ذاك سكرتير الحزب، وكان قد أفضى إلى بعض رفاقه أنه لا يطمئن إليه، وأن في عزمه أن يخلعه من سكرتارية الحزب.
ويقال إن ذلك نما إلى علم ستالين، فدس له سماً قضى عليه(2).
2_ تروتسكي(3) : وهو من الشخصيات البارزة في الحزب الشيوعي بروسيا، وكانت مكانته تلي مكانة لينين، فلقد كان تروتسكي من المصطفين والموثوق بهم لدى لينين.
وقد ولد سنة 1879م واغتيل سنة 1940م في المكسيك.
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص191, والشيوعية وموقف القرآن الكريم منها ص 47.
(2) _ انظر: المذاهب المعاصرة 191.
(3) _ انظر: المذاهب المعاصرة 192_194.(1/254)
وليس هذا هو اسمه الحقيقي، بل اسمه بروستالين، وهو ابن لرجل يهودي من الطبقة المتوسطة.
وفي عام 1898م كان له نشاط ثوري فقبض عليه وحكم عليه بالسجن أربعة أعوام ونصف، ثم رحل منفياً إلى شرق سيبيريا، ولكنه في عام 1902م تمكن من الهرب إلى إنجلترا باستعمال جواز سفر مزيف، وكان صاحب الجواز يدعى تروتسكي، فاستولى على الجواز والاسم جميعاً، وظل ينادى بذلك الاسم طيلة حياته.
وأقام عقب هربه في لندن، وهناك اتصل بالحزب الديمقراطي الاشتراكي؛ وكان حينئذ في الثالثة والعشرين من عمره.
ورغم حداثة سنه أصبح عضواً بارزاً، و كان من رفاقه في هذا المجتمع لينين، وليمنانوف.
وقد شارك في تحرير جريدة لينين (القبس) التي تعد أشهر صحيفة اشتراكية، وعاد إلى روسيا سنة 1905م وأجري انتخابٌ لاختيار مندوبين عن العمال في مدينة (بطرسبرج) عقب عودته، فاختير عضواً، ثم اختير رئيساً.
وفي إحدى الجلسات هجم عليهم رجال الشرطة فاعتقلوا جميعاً، ونفي تروتسكي مرة ثانية إلى سيبيريا.
ومرة ثانية تمكن من الهرب عقب وصوله مباشرة، فاتخذ طريقه هذه المرة إلى النمسا، ثم ظل يراسل ويكتب للصحف الروسية.
وفي سنة 1913م عمل مراسلاً حربياً، وتنقل في العواصم بين باريس وزيورخ، وبذل نشاطاً مع الثوار الاشتراكيين، وأخرج في هذا الوقت كتاباً عن أسباب الحرب العالمية الأولى، ثم حكم عليه بالسجن ثمانية شهور وكان ذلك _أيضاً_ بسبب نشاطه الثوري وخطورته أيام الحرب.
وفي سنة 1916م والحرب قريبة من نهايتها طردته الحكومة الفرنسية من بلادها، فسمح له بالذهاب إلى بلاده، ووصل إلى بطرس جراد بعد وصول لينين إليها بيومين، واستفاد من معرفته السابقة بلينين، ولهذا اختير في يوليو سنة 1917م عضواً في الحزب، ولأسباب غامضة قبض عليه واعتقل.
وفي معاهدة الصلح التي أجريت بين روسيا وألمانيا وهي معاهدة (بريست ليتوفسك) كان تروتسكي أبرز مندوبي روسيا فيها.(1/255)
وفي عام 1920م نظم فرقاً من جماعات العمال، وهو صاحب فكرة التجنيد الإجباري في المصانع، وفي الحرب الروسية البولندية كان تروتسكي يعارض بشدة دخول الجيش الروسي وارسو، وكان دخوله يتصف بالقوة والعنف وتحطيم كل ما يقابله، ولكن لينين أصر على رأيه، ولم يكن أحد يجرؤ على معارضته.
وفي سنة 1923م تعرض لهجوم عنيف من حملة الشيوعية القدامى وتزعم الحركة ضده ستالين، وعندما مات لينين كان تروتسكي مريضاً فأرسل إلى القوقاز، للاستشفاء وليخلو الجو لستالين.
وظلت الحملة ضده مدة، وانتهت بتجريده من منصبه كرئيس للقوى الحربية، وعندما عاد من القوقاز أسند إليه عمل أقل أهمية، إذ عين رئيساً لفرقة تعمل لتنمية القوى الكهربائية.
وفي سنة 1925م استقال أو أقيل من هذا المنصب، وعين رئيساً لإحدى اللجان المركزية ولم يظل في المنصب طويلاً.
وفي نوفمبر سنة 1927م فصل من الحزب الشيوعي متهماً بنشاط وأعمال ضد الحزب وفي سنة 1928م نفي إلى تركستان، وفي سنة 1929م ذهب إلى القسطنطينية، فأمضى بها مدة أطول.
وفي سنة 1936م اتخذ النرويج مقاماً له، وفي سنة 1937 رأى أن يذهب إلى المكسيك، ليقيم هناك، فاتخذ له بيتاً في العاصمة.
وفي سنة 1940م وبينما هو آمن في بيته بالمكسيك فوجئ بشخص يهجم عليه؛ ليغتاله، فضربه ضربة مميتة وهرب القاتل، ومات تروتسكي في اليوم التالي، وكان القاتل أحد أصدقائه.
وأَصَرَّ المنتمون إليه في منفاه أن القاتل مندوب من ستالين، ولا يوجد من يعارض هذا القول.
الجدير بالذكر أن هناك حدثاً مهما، وانقلاباً كبيراً في حياة تروتسكي قلما يذكره من يتحدث عنه ألا وهو خبر اعتناقه للإسلام، فقد جاء في جريدة الأهرام في عددها،19الصادر في إبريل سنة 1929م، ونقلته عنها مجلة الهداية الإسلامية في الجزء السابع من المجلد الأول _ ما يلي:
=تروتسكي يعتنق الإسلام في بيئة تجهل على الإسلام+
وتحت هذا العنوان قالت مجلة الهداية الإسلامية نقلاً عن الأهرام ما يلي:(1/256)
=نقلت الصحف خبر اعتناق تروتسكي الزعيم البلشفي للإسلام وهو منفي في تركيا، وجاء في حديث إسلامه =أنه على إثر شفائه من مرضه في الأستانة دعا مفتي الأستانة، فأجاب دعوته، وشهد اجتماعهما مندوب جريدة وقت التركية، فقال تروتسكي: كنت يهودياً غير أن مبادئي لم ترق لبعض الحاخامين، فحرموني من ديانتي، ولكني لم أعر حرماني هذا اهتماماً كثيراً؛ لأن مبادئ الدين الإسرائيلي لم تكن لتروقني، فلم أَحْتَجَّ ولم أعارض.
وأما الآن وأنا أتقدم في السن فإني أشعر كغيري من الناس بأني في حاجة إلى إيمان ودين سماوي، ففكرت في وقت ما أن أصبح مسيحياً غير أني عدلت عن ذلك؛ لكرهي اعتناق دين القياصرة، والمستبدين، وراسبوتين(1) الراهب الشرير، فلم يبق أمامي غير الدين الإسلامي الذي دققت النظر في البحث في شرائعه فوجدت فيه مزايا حسنة، منها أنه يحض على المناقشة، والمباحثة في أصوله، ولذا سأعتنق الإسلام.
وسيتناول فضيلة المفتي العشاء معي، ثم يبدأ بتلقيني الشرائع الإسلامية+(2)
__________
(1) _ راسبوتين: هو جريجوري يفيمتش راسبوتين، راهب روسي فاجر =1872_1916م+ كان أمياً، وبرغم ذلك سيطر على القيصر وزوجته عن طريق شعوذته، وقد استغل نفوذه الطاغي بصورة شريرة، وتلاعب بالساسة،واتسم سلوكه الشخصي بالتهتك،إلى أن اغتاله فريق من طبقة النبلاء بزعامة الأمير يوسوبوف. انظر المغني الوجيز 1/179.
(2) _ وبعد أن نقلت مجلة الهداية الإسلامية هذا الخبر علق مصدر المجلة الشيخ محمد الخضر حسين × قائلاً:=يحدثنا تروتسكي أنه اعتنق الإسلام بعد أن دقق البحث في حقائق شريعته الغراء، ومن نظر إلى أن تروتسكي نشأ في منبت غير إسلامي، وأشرب مذهباً ذا مبادئ لا تلائم طبيعة الدين الحنيف، ثم وقع في بيئة أخذ مترفوها يفسقون على الإسلام علانية _ وثق بأن تروتسكي إنما يسلم على سلطان من الحجة مبين.
ولا عجب أن يهتدي تروتسكي إلى الإسلام،ويزيغ عنه نفر ترددوا على معاهد شريعته بضع سنين؛ فإن هؤلاء النفر لم ينظروا في حقائقه نظر الباحث النبيه، وما كان تعاليمه إلاَّ كالصور تقع على ظاهر = = قلوبهم دون أن تخالط سرائرها؛ فما هم من أولئك الذين يتجافون عنه بجهاله مطلقة ببعيد.
ولنا الأمل في أن تصلح طرق التأليف والتعليم؛ فيسهل على كل ناشئ يدرس حقائق الشريعة أن يصل إلى لبابها ،وينفذ إلى بالغ حكمتها .
ولو عنيَ القائمون على شؤون الدين بترجمة محفوفة بالاستدلال وبيان الحكمة _ لأصبح عدد المعتنقين للإسلام من أمثال تروتسكي غير قليل+الهداية الإسلامية لمحمد الخضر حسين ص163.(1/257)
.
3_ ستالين (1879_ 1954م): هو أحد أساطين الشيوعية، وأكابر مجرميها، واسمه الحقيقي جوزيف فاديونوفش زوجاشفلي، وهو سكرتير الحزب الشيوعي ورئيسه بعد لينين.
اشتهر بالقسوة، والجبروت، والطغيان والاستبداد، وشدة الإصرار على رأيه، وكان يعتمد في تصفية خصومه على القتل والنفي، وكان بمناوراته وألاعيبه شيطاناً مريداً.
فمن أجل أن يحقق أهدافه في التصفية كان يبدأ بالخلاف مع بعض العناصر، ثم يوجه أنصاره للقيام بأشرس الحملات الدعائية ضده مع تظاهره هو بمظهر الاعتدال والحياد.
وبعد ذلك يدفع خصمه حتى يتورط بعمل ما، ثم يقوم بتصفيته بأي وسيلة، وكان أشدها المحاكمات الصورية التي كان يجريها.
ولقد كان يجمع حوله أنصاراً ثم يرفعهم إلى مراكز عالية في الحزب والقيادة، لكنه يختار من لا يملك القدرة على أن يبصر إلا ما يمليه عليه الزعيم الأوحد (ستالين).(1/258)
وكان مستعداً لأن يضحي بالشعب كله، وبأي أحد في سبيل شخصه، وقد ناقشته زوجته مرة فقتلها(1).
وكان بارعاً في تلفيق الاتهامات فيمن يريد تصفيتهم ولو كانوا أقرب الأقربين إليه.
__________
(1) _ فقد ذُكر في سيرته أن زوجته =ناديوتشكا+سمعت أثناء وجودها بصحبة زوجها =ستالين+ في إحدى الحفلات أن أحد زملائها في الدراسة قد أودع السجن، وأنه قد صدر الحكم ضده بالإعدام رمياً بالرصاص فطلبت عقب عودتها للمنزل من زوجها أن يصدر أوامره بالعفو عنه وإطلاق سراحه بعد أن تأكدت من براءته، ولكن ستالين عدّ ذلك تدخلاً من الزوجة لا يليق به أن يسمعه، فانفجر في وجهها غاضباً على جرأتها في مخاطبته في مثل هذه الأمور فصاحت في وجهه قائلةً:إنك بهذا تعذب ابنك الذي من لحمك ودمك، وها أنت تعذب زوجتك، وإنك اليوم تعذب الشعب الروسي كله، وتقلِّبه على الجمر،ثم تابعت حديثها قائلة: إنني ذاهبة عنك، رضيت بذلك أو لم ترض. فأجابها ستالين بصوت رصين هادئ _ وكانت تلك عادته عندما يواجه مثل تلك الثورات، وعندما يضمر الشر لمن أمامه _ وقال لها:أنت منهوكة القوى، مضطربة الأعصاب قال ذلك ، وتوجه إلى حجرته الخاصة؛ كي يحضر شراباً لها، وعاد وبصوت أكثر هدوءاً ورصانة، قائلاً: اشربي من هذا الكأس وستهدئين بعده.
ومرت بعد ذلك دقائق، فسمع صوت ارتطام جسم على الأرض, واندفع رجال الحرس الخاص إلى داخل مسكن ستالين على صوت الزجاج الذي تهشم,فوجدوا الزوجة جثة هامدة.
ورغم من أن الوفاة قد كتمته الأجهزة الرسمية عن الشعب في بداية الأمر إلا أن الإشاعات قد انتشرت فيما بعد، ويُقال: إن ستالين بعد وفاة زوجته هرع إلى شلة اللعب، يرقص ويمرح، وكأن شيئاً لم يحدث. انظر المذاهب المعاصرة ص175_ 176، وحرب الأكاذيب لعامر العقاد ص 30_ 31.(1/259)
وكانت وسائل التحقيق في وقته مقرونة بالتعذيب الذي لا يحتمل، بحيث تجعل المعذب يعترف على نفسه بأي شيء؛ ليتخلص من آلام التعذيب، الذي ينزل به على أيدي المحققين وجلاديهم.
وكان من وسائل انتزاع الاعترفات الإكراهية _ التحقيقات المتواصلة ليلاً ونهاراً؛ حيث تكرر الأسئلة دون سأم؛ حتى تتحطم إرادة المتهم.
ومما يمهد للاستجواب من قبل رجال المباحث _ تعريض المنكوب لسلسلة من الإرهاب النفسي والتعذيب مع الإرهاق الجسدي الطويل، مع ما يصحب ذلك من امتهان الكرامة، وإثارة الحمية التي تحركها المبادئ والمعتقدات؛ حتى يجد المنكوب نفسه أمام عذاب لا قبل له بتحمله.
ومن الصور التي تتم بها عمليات الإرهاق في سجون ستالين الحجز الطويل في غرفة صغيرة حارة توقد فيها المدافئ في الصيف، أو في غرفة شديدة البرودة كأنها الثلج في الشتاء البارد، أو حمام أرضه ماء ولا شيء يمكن الجلوس عليه إلا الماء والأرض الرطبة الباردة.
ومنها الوقوف على رؤوس الأصابع إلى جانب جدار عدة ساعات والمنع من النوم، والإيقاظ السريع بعد النوم، كل ذلك من غير ما جريمة أو بيِّنة.
وبمواصلة هذه الأساليب يعترف المنكوب على نفسه، ولو كان كاذباً(1).
هذا وسيأتي مزيد بيان لوسائل التعذيب فيما بعد.
أولاً: أسباب قيام الشيوعية: لقد قامت الشيوعية الحديثة، ونشرت مذهبها الإلحادي، فامتد رواقه إلى كثير من بلدان العالم، وذلك يعود لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بالمجتمع الذي نشأت فيه، ومنها ما يتعلق بشخصية مؤسسيها ومنفذيها، ومنها أسباب خارجة عن ذلك.
__________
(1) _ انظر تفصيل ذلك في المذاهب المعاصرة ص173_ 177 والكيد الأحمر ص276_ 332.(1/260)
وفيما يلي تفصيل لتلك الأسباب التي أدت إلى قيام الشيوعية(1).
1_ الطغيان الكنسي: الذي حارب العلم والعقل ومكن للجهل والخرافة، وأعان الحكام الظلمة، وفرض على الناس الضرائب والعشور وما إلى ذلك مما قامت به الكنيسة الأوروبية فكان أن قامت الشيوعية كردة فعل لذلك الطغيان.
2_ مظالم النظام الرأسمالي: حيث طغى الرأسماليون وأفسدوا واستبدوا؛ فقام الشيوعيون _ بزعمهم _ بمحاولة الإصلاح.
3_ غياب المنهج الصحيح عن أوروبا: فلما قصَّر المسلمون في أداء رسالتهم، في تبليغ الدعوة وقوامة البشرية _ غاب الإسلام عن ساحة أوروبا، فمكن ذلك لنشأة الشيوعية وغيرها من الاتجاهات والنظريات والمبادئ.
4_ الخواء الروحي: إذ الكنيسة لا تقدم منهجاً يزكي النفس، ويجلب السعادة والطمأنينة للأفراد والمجتمعات، مما جعل النفوس تهفو إلى ما ينقذها مما هي فيه من القلق والاضطراب والحيرة.
5_ الاستعمار وما خلفه من دمار: فلذلك أثره الواضح في انحطاط الشعوب المُسْتَعْمَرة، وذلك عن طريق الكبت وقفل باب الحرية، مما أفسح المجال لنشر الشيوعية.
6_ المكر اليهودي: فاليهود يتآمرون على العالم ويخططون لإفساده؛ تمهيداً للسيطرة عليه، ومما يقومون به في ذلك السبيل استغلال المذاهب الهدامة والتمكين لها.
__________
(1) _ انظر نقد أصول الشيوعية ص40، والإسلام والشيوعية د. عبد العزيز كامل ص3_4، وحكم الاشتراكية في الإسلام للشيخ عبد العزيز البدري ص58, والشيوعية خلاصة ضروب الكفر والموبقات للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار ص31_32, والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق ص10_ 18, وبعض أسباب الإلحاد د. عبد الحليم أحمدي, ورسائل في العقيدة للكاتب ص 44_ 46 .(1/261)
7_ الجهل بدين الإسلام: فهذا من أكبر أسباب الإلحاد، وإلا فمن عرف ما جاء به الإسلام _ ولو معرفة يسيرة _ استحال أن يقع منه الإلحاد؛ فإن الدين بطبيعته وما اشتمل عليه من البراهين يضطر صاحبه إلى الاعتراف بوحدانية الله، وبطلان ما ناقض ذلك؛ فلا تجد ملحداً إلا وهو معرض، أو مكابر، أو معاند(1).
8_ الهالة الإعلامية والدعاية القوية: فمما ساعد على قيام الشيوعية ما قام به أربابها من دعاية وهالة لتحسين ضلالتهم، وترويج مذهبهم، فإذا سمع الجاهل عن ذلك هاله الأمر، واغتر بالشيوعية، وظن صدقها مع أن كل عاقل منصف يعلم بطلانها وزيفها.
فالشيوعيون زعموا أن ما جاؤوا به هو الرقي والتقدم والتجديد وما أشبه ذلك من العبارات الفضفاضة.
ولولا أن باطلهم زُخْرِفَ ورُوِّجَ له من قبل الدعايات المضللة، والدول المنحرفة _ لم يقبله، ولم يصغ إليه أحد؛ لأن حججهم أوهن من حبل القمر ومن بيت العنكبوت.
9_ الانقلاب الصناعي: فما يقوم به الشيوعيون من بحث علمي جاد مستند على أدلة مغرية صار سبباً لاغترار كثير من الخلق بهم؛ حيث ظنوا _ بجهلهم _ أن الترقي الدنيوي دليل على أن أهله على حق وصواب في كل شيء.
فإذا رأى الجاهل حال المسلمين وما هم عليه من الضعف والهوان، ورأى حال الكفار وما هم عليه من القوة والتفنن في الصناعة، ورأى أمم الأرض تذعن وتسلم لهم _ صار ذلك فتنة له، فظن أن الكفار على حق، وأن المسلمين على ضلال.
ولقد جهل هؤلاء، بل لقد ضلوا ضلالاً مبيناً بذلك الزعم؛ لأنه لا تلازم بين التقدم الصناعي وصحة المعتقد والمبدأ؛ فقد يكون الإنسان من أمهر الناس في أمور الطبيعة وهو أجهل من حمار أهله في الدين والأخلاق، والأمور النافعة في العاجل والآجل؛ فمسألة التقدم المادي مسألة همة ودأب، وجد ليس إلا.
__________
(1) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين للشيخ عبد الرحمن ابن سعدي ضمن مجموعة الشيخ ابن سعدي الجزء الخامس المجلد الثاني ص 374.(1/262)
ولهذا لما خلت بحوثهم ومخترعاتهم من روح الدين وحكمته صارت نكبة عليهم، وعلى البشرية جمعاء؛ بسبب ما ترتب عليها من الحروب التي لم يشهد لها نظير.
ولقد عجز ساستها ونُظَّارها أن ينظموا للبشر حياة مستقرة عادلة طيبة.
10_ ملذات الحياة ومباهج الحضارة : فلقد فتح العالم المادي أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف؛ فالمراكب الفخمة الفارهة؛ من سيارات، وقطارات، وبواخر، وطائرات .
وكذلك الملابس والمطاعم، ووسائل التسلية والترفيه، كل ذلك مكَّن للغفلة، وجعلها تستحكم على النفوس، ولا تشعر بالعاقبة، مما فتح المجال لترويج أي مبدأ.
11_ شذوذ مؤسِّسيها وانحرافهم: فهذا كارل ماركس مؤسس الشيوعية كان حبراً يهودياً، وكان مخفقاً في شؤونه الخاصة، وكان ذا طبيعة ميَّالة للهدم والفساد، كما كان على مستوى عال من الفساد الخلقي والسلوكي.
أضف إلى ذلك موت ابنتيه منتحرتين.
كل هذه العوامل وغيرها تحركت في نفس هذا المجرم، فأخرجت أكلها النتن النكد.
وقل مثل ذلك في شأن بقية زعماء الشيوعية ومنفذيها كلينين، وستالين، وغيرهم.
وبالجملة فأقل ما يقال عن الشيوعية أنها عقوبة إلهية للبشرية بسبب تماديها في الغواية والضلال.
ثانياً: مواطن انتشارها(1): تنتشر الشيوعية في أماكن كثيرة من العالم فعلى مستوى الأفراد لا يكاد صقع من أصقاع العالم يخلو من معتنقين لها، إذ تنتشر عبر الوسائل والقنوات المختلفة.
أما على مستوى الحكومات والأحزاب والتنظيمات فتنتشر في أماكن عديدة، فالشيوعية حكمت عدة دول منها:
1_ الاتحاد السوفياتي. ... ... ... 2_ الصين.
3_ تشيكوسلوفاكيا. ... ... ... ... 4_ المجر.
5_ بلغاريا. ... ... ... ... ... 6_ بولندا.
7_ ألمانيا الشرقية. ... ... ... ... 8_ رومانيا.
9_ يوغسلافيا. ... ... ... ... 10_ ألبانيا.
11_ كوبا.
__________
(1) _ انظر الموسوعة الميسرة ص212_ 213 , والكيد الأحمر 116_123 .(1/263)
ومعلوم أن دخول الشيوعية لتلك الدول كان بقوة الحديد والنار والتسلط الاستعماري، ولذلك فإن جل شعوب تلك الدول أصبحت تتململ من قبضة الشيوعية بعد أن استبانت لها الحقيقة الواضحة، فلم تكن الشيوعية هي الفردوس المنتظر.
وبالتالي فقد بدأت الثورات تظهر هنا وهناك كما حدث في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، كما أنك لا تكاد تجد دولتين شيوعيتين في وئام تام.
أما على مستوى الأحزاب والتنظيمات فقد دخلت الشيوعية في أماكن شتى، ومنها بعض دول العالم الإسلامي؛ حيث استفاد الشيوعيون من جهل بعض الحكام، وحرصهم على تدعيم كراسيهم ولو على حساب الدين؛ فالشيوعية اكتسحت أفغانستان، وشردت شعبها المسلم، كما أنها تحكم بعض الدول الإسلامية بواسطة عملائها.
كما أنها أسست أحزاباً لها في مصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين والأردن، وسوريا، والجزائر، واليمن، وغيرها.
ومواقف تلك الأحزاب العربية من قضايا العرب والمسلمين لا تخفى؛ فهي تعج بالخيانة، ويصدق ذلك ويشهد له الحقائق الدامغة لدى الباحثين والمتابعين.
تقوم الشيوعية الماركسية على معتقدات باطلة، وأصول واهية، وآراء زائفة، لا يقرها عقل صريح، ولا فطرة سليمة، فضلاً عن النقل الصحيح، هذا وقد مر بنا فيما مضى شيء من آرائهم ومعتقداتهم؛ ومما يراه الشيوعيون ويعتقدونه زيادة على ما مضى ما يلي(1):
1_ الإيمان بالمادة وإنكار الغيب: فهم ينكرون الغيب، ولا يؤمنون إلا بالمادة وحدها، فيرون أن المادة هي أساس كل شيء.
ومن شعاراتهم قولهم: نؤمن بثلاثة: ماركس، ولينين، وستالين، ونكفر بثلاثة: الله، الدين، الملكية الفردية.
ومن مقولاتهم: لا إله، والحياة مادة، والدين أفيون الشعوب.
__________
(1) _ انظر حكم الاشتراكية في الإسلام ص68، الموسوعة الميسرة ص310، ومذاهب فكرية معاصرة ص285_286، والمذاهب المعاصرة ص166_ 167 والشيوعية ومواقف القرآن ص13_18.(1/264)
كما أنهم يعدون أمور الغيب خرافة من صنع رجال الدين؛ ليأكلوا أموال الناس بالباطل.
وعلى هذا فهم يكفرون بالله، وبالبعث والحساب والجنة والنار، وما إلى ذلك من أمور الغيب.
يقول لينين: =ليس صحيحاً أن الله هو الذي ينظم الأكوان، وإنما الصحيح هو أن الله فكرة خرافية، اختلقها الإنسان؛ ليبرر عجز نفسه؛ ولهذا فإن كل شخص يدافع عن فكرة الله إنما هو شخص جاهل وعاجز+(1).
وقد اتخذوا مما يسمونه بـ:(المادية الجدلية) ذريعة لتسويغ أفكار ما يسمى بالاشتراكية العلمية، أو الشيوعية.
و (المادية الجدلية) نظرية عقائدية جذرية يؤمن بها الشيوعيون.
وسميت (مادية) لأن نظرتها مادية بحتة.
وسميت (جدلية) لأنها تنظر إلى الحوادث الكونية والتأريخ الإنساني وكأنه صراع بين خصمين متجادلين، متناظرين(2).
وسيأتي مزيد بيان لهذه الفكرة في الفقرة التالية، وما بعدها من صفحات.
2_ التفسير المادي للتاريخ: وهذا ناتج عن إنكارهم للغيب، فهم يرون بأن الصراع بين الطبقات في المجتمع يؤثر على المجتمع وعلى المعتقدات والنظم؛ فإذا تولت طبقة فإنها لا تدوم؛ بل تظهر طبقة أخرى فتصارعها، ويستمر الصراع بينهما؛ فالذي يؤثر في أحداث التاريخ إنما هو الصراع بين الطبقات _بزعمهم_ فهم يفسرون التاريخ من زاوية واحدة دونما نظر إلى بقية المؤثرات، كالدين وغيره(3).
ولذلك فهم يقسمون التاريخ البشري إلى خمسة أطوار رئيسة هي:
1_ المشاعية الابتدائية. ... ... ... 2_ عصر الرق .
3_ عصر الإقطاع . ... ... ... ... 4_ الرأسمالية .
5_ الاشتراكية الممهدة للشيوعية .
ويرون أن الصراع لن ينتهي، وأن الراحة لن تتحقق إلا عندما يتحقق الحلم الشيوعي بقيام مجتمع خال من الطبقات، ومن التملك، والمصالح الخاصة وهو المجتمع الشيوعي.
__________
(1) _ الشيوعية ومواقف القرآن 17.
(2) _ انظر تفصيل هذه النظرية وسقوطها في الكيد الأحمر ص351_ 394.
(3) _ انظر الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام لعباس محمود العقاد ص11.(1/265)
وهم بذلك أبرزوا القيم المادية الاقتصادية للتاريخ، وأهملوا ما عداها من القيم الإنسانية والأخلاقية، والدينية، لا لأنها غير موجودة، بل لأن الشيوعية تفتقدها؛ لكونها جاهلية.
ولهذا عجز الشيوعيون عن تفسير الإسلام، ولماذا ظهر؟ وكيف ظهر في هذه الصورة المخالفة للبيئة في أكثر سماتها، والمخالفة لكل حتميات التاريخ المزعومة؟
فليفسروا هذه الظاهرة العجيبة ظاهرة الإسلام وبعثة النبي " والدعوة إلى نبذ الآلهة وغيرها من الظواهر، كتحرير الناس، وتربيتهم على الفضائل، وإبراز قيمة الأفراد والمجتمعات.
أنَّى للشيوعيين أن يفسروا ذلك؟
3_ محاربة الدين: فالشيوعية تقوم على محاربة الدين، وتعلن الحرب بلا هوادة على الدين وما يَمُتُ إليه بصلة.
يقول ستالين: =لا يستطيع الحزب أن يقف من الدين موقف الحياد؛ إن الحزب يشن حملة ضد أي انحياز للدين؛ لأن الحزب يؤمن بالعلم؛ بينما العلم يتعارض مع الانحياز للدين؛ لأن الدين كل شيء مناوئ للعلم+(1).
ولا ريب أن هذا الكلام ناتج عن جهل قائله، وإلا فالدين الحق لا يحارب العلم بل يدعو إليه.
وجاءت التعليمات الرسمية للحزب الشيوعي إلى جميع المعلمين في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي ما نصه: =إن المعلم الذي يؤتمن على تعليم النشء لا يمكنه، ولا يجب أن يكون محايداً في موقفه من الدين، إن عليه ألا يتخلص من الإيمان فحسب، بل عليه أن يقوم بدور إيجابي في الدعوة إلى عدم الإيمان بوجود إله، وأن يكون داعية متحمساً للإلحاد+(2).
ومن حربهم للدين هدمهم للمساجد، وتحويلها إلى دور ترفيه ومراكز للحرب.
ومن ذلك منعُ المسلم من إظهار شعائر دينهِ، وهُجومُهم على القرآن، وطعنُهم فيه، وزعمهم أنه وضع خلال حكم عثمان ÷ وأنه طرأت عليه عدة تغييرات حتى القرن الثامن.
ولهذا فمن وجدوا معه مصحفاً عاقبوه بالسجن سنة كاملة.
__________
(1) _ الشيوعية وموقف القرآن ص 15.
(2) _ الشيوعية وموقف القرآن ص18.(1/266)
أما محاربتهم للمسلمين وإبادتهم لهم فذلك أشهر من أن يذكر؛ فلقد أقاموا لهم المجازر والمذابح، وتفننوا بتعذيبهم بما لم يسبق له مثيل في التاريخ، وسيأتي _إن شاء الله_ بيان لشيء من ذلك.
4_ محاربة الملكية الفردية: فهم لا يرون الملكية الفردية؛ إذ يزعمون أنها استبداد يجب القضاء عليه؛ لكي لا ينشأ بين البشرية تنافس؛ فالشيوعية المحضة، وإلغاء التملك والتوارث كفيل بالقضاء على الملكية.
فلا يجوز لأحد _ على حد زعمهم _ أن يمتلك متاعاً أكثر من الضروريات، ولا أن يكون له دار يغلقها، وكل ما يتقاضاه الحكام من أجر يجب ألا يزيد عن مبلغ محدود يكفي لسد حاجتهم طوال العام.
ويرون أنه ينبغي أن يشترك الناس جميعاً في موائد عامة للطعام، ويعيشوا عيشة الجند في معسكراتهم.
إن الشيوعية تعد الدولة هي المالك الحقيقي للمال، ولكل مقدرات الحياة، وليس للإنسان أن يمتلك فيها إلا ما يقوم بحياته الضرورية من الأمور الاستهلاكية.
أما ما عدا ذلك من الطاقات والمواهب فإنه ملك للدولة في نظر الشيوعية.
وبذلك ندرك أن النظام الشيوعي يقوم على النظرية القائلة: بأن وسائل الإنتاج كلها مشتركة بين أفراد المجتمع، ولا حق للأفراد بصفتهم الفردية أن يمتلكوها ويتصرفوا فيها حسب ما يرون.
وهذا النظام الاقتصادي لا وجود فيه للملكية الشخصية، فضلاً عن أن يكون لأحدٍ متسع أن يجمع المال، ثم يوظفه بنفسه كيفما يشاء في وجوه الإنتاج والاستثمار.
وهي بذلك تحارب الفطرة الإنسانية المجبولة علي حب التملك، كما أنها تقضي على روح الإبداع، وتسلب الناس حريتهم وتتركهم كالآلات سواء بسواء.(1/267)
5_ محاربة نظام الأسرة والقول بشيوعية النساء: فمن منطلق محاربة الملكية الفردية حاربت الشيوعية نظام الأسرة، وقالت بشيوعية النساء؛ فلا مكان للأسرة؛ فالشيوعية لا تستريح كثيراً لنظام الأسرة، بل وتعده دعامة من دعامات المجتمع (البرجوازي) وترى أن الحب الطليق ينبغي أن يحل محل الزواج، فكل مجموعة من الرجال يخصص لها مجموعة من النساء، يتصل الواحد منهم بمن شاء منهن؛ ولهذا قررت الشيوعية عند قيامها مباشرة بتيسير الطلاق للراغبين فيه من المتزوجين.
ثم إنها تأبى أن يقوم الوالدان بتربية أولادهما؛ لأن الفرد ليس ملكاً لنفسه، ولكنه ملك للجماعة، فالأولاد يوضعون في أماكن خاصة بهم، ويقوم على شؤونهم مختصون في تربيتهم، وتأتي الأمهات فيقمن بالإرضاع دون أن تعلم الواحدة منهن ولدها.
يقول إنجلز: =إن الأسرة هي وضع من أوضاع مجتمع لا نضج فيه ولا جدوى منه.
ولا محل لاستبقاء هذا الوضع وتأييده إلا بالقدر الذي يلائم مصلحة الدولة+(1).
وتستند الماركسية في موقفها هذا إلى أن الأسرة تدعم النزعة الفردية، والرغبة في التملك والملكية _ كما مر _.
وهذا يعني القضاء على الأسرة بمنع رباطها وهو الزواج، وإقامة الحظائر لتربية أبناء الدولة، ومنع الأبوين من القيام بدور التربية؛ لأن ذلك يعطل الإنتاج.
كما يعني ذلك إطلاق المشايعة الجنسية بين رجال الدولة ونسائها، أو الزواج الاختياري كما يسمونه.
المبحث الثاني: أخلاق الشيوعية (2)
لا ريب أن عقيدة الإنسان ترسم له طريقه، وتحدد له معالم سلوكه ومعاملاته فالناس توجههم عقائدهم وأفكارهم، والانحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في الاعتقاد.
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص167.
(2) _ انظر الشيوعية للعقاد 202 _220، والكيد الأحمر ص249، والشيوعية وموقف القرآن منها ص138، والموسوعة الميسرة ص311 _312، ودعاة على أبواب جهنم للحصين ص5.(1/268)
ولهذا فلا غرو أن تفسد أخلاق الشيوعيين؛ لأن الأصل لديها منهار، وإذا انهار الأصل تداعت الأركان والفروع.
بل إن عقائدهم أحط العقائد، فلا تسل _ إذاً _ عن فساد أخلاقهم، وما يتبع ذلك من انحطاط سلوكهم.
فالشيوعيون على أتم الاستعداد لعمل أي شيء مناف للأخلاق، من غش وكذب، وخداع، في سبيل تحقيق مكاسبهم، والوصول إلى غاياتهم؛ فهم يأخذون بالمبدأ الميكافيلي: الغاية تسوغ الوسيلة.
يقول إنجلز: =إذا لم يكن المناضل الشيوعي قادراً على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقاً للظروف مهما تطلب منه ذلك من كذب، وتضليل، وخداع _ فإنه لن يكون مناضلاً ثورياً حقيقياً+.
ولهذا فالشيوعيون لا يحجمون عن أي عمل مهما كانت بشاعته في سبيل غايتهم، وهي أن يصبح العالم شيوعياً تحت سيطرتهم.
يقول لينين في رسالة بعث بها إلى الأديب الروسي مكسيم جوركي: =إن هلاك ثلاثة أرباع العالم ليس بشيء، إنما الشيء المهم هو أن يصبح الربع الباقي شيوعياً+(1).
ولقد طبقوا هذه القاعدة في روسيا أيام الثورة، وكذلك في الصين، حيث أبيدت ملايين من البشر، كما أن اكتساحهم للجمهوريات الإسلامية كبخارى وغيرها، واكتساحهم لأفغانستان _ ينضوي تحت هذه القاعدة.
ومما تؤمن به الشيوعية من أخلاق _ العنف، والسعيُ في إثارة الحقد والضغينة في نفوس العمال.
ومن ذلك القسوة المتناهية؛ فلا يَتَصوَّر الفكر، ولا يتوهم الخيال لوناً من ألوان التعذيب الهمجي، والقمع الإجرامي، والإبادة الجماعية للمجموعات البشرية دون أية عاطفة إنسانية مع التفنن العجيب في وسائل التعذيب _ إلا ويمارسه الشيوعيون بأقبح صوره، وأبشع مستوياته.
بل لم يتورع القادة الشيوعيون _ عن الاعتراف بتلك الأفاعيل ضد كل من خالفهم ولو كانوا رفقاء العمل الثوري، ومن حملة الفكرة الشيوعية.
بل ربما كان هؤلاء أحق بأن يعاقبوا بأشد أنواع العذاب؛ فكأن الرحمة نزعت تماماً من قلوب هؤلاء القساة العساة العتاة.
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص173.(1/269)
ومما تؤمن به الشيوعية وتدعو إليه من أخلاق _ أنها تشجع على الفساد، والانحلال الخلقي، من شرب للخمور إلى ممارسة البغاء وسائر الفواحش إلى غير ذلك من طرق الفساد.
ولقد صرح الرئيس اليوغسلافي الهالك _ تيتو _ في إحدى خطبه للشعب قائلاً: =لقد تركنا لكم الخمر والنساء فخذوها، واتركوا لنا السياسة+(1).
ولهذا أصبحت المرأة في المجتمع الشيوعي أرخص سلعة في البلاد، فكانت ترمي بنفسها على الرجل ولاسيما الغريب، وقصارى ما تطلبه منه أن يتزوجها ولو مؤقتاً؛ لتفر خارج البلاد من جحيم الشيوعية.
وصفوة المقال أن المجتمع الشيوعي هو أحط المجتمعات البشرية المعاصرة، سواء من الناحية الأخلاقية أو العقيدية، أو من ناحية الطمأنينة النفسية، والسعادة الاجتماعية؛ فهو مجتمع منحل، مذعور يخيم عليه كابوس الشقاء المطبق، إلى حد أن الإنسان في ذلك الوضع لا يكاد يفكر في أمل حقيقي للخلاص.
أولاً: أهداف قيام الشيوعية(2):
مرَّ بنا أن اليهودية العالمية هي التي صنعت الشيوعية الماركسية، وأنها جعلتها وسيلة لتحقيق أهدافها للسيطرة على العالم، وتسخير المواد والمنتجات لخدمة أغراضها الدنيئة، وأهوائها المنحطة.
ثم إن دراسات ماركس ليست وليدة بحث علمي أو تفكير منطقي يهدف إلى إصلاح العالم، بل كان البحث الذي قام به في هذا الصدد بمثابة الدفاع أو التسويغ لتلك النظرية التي اعتنقها من قبل؛ لكي تلبس لبوس العلم والبحث.
وكان من الأهداف التي ترمي إليها الشيوعية ما يلي:
1_ بث الأحقاد والفرقة والعداوة بين المجتمع العالمي عن طريق التآمر والصراع بين الطبقات.
2_ معارضة الدين، والملكية الفردية، وحرية الرأي.
3_ نشر الإلحاد، والفساد والإباحية.
4_ القضاء على الأديان الموجودة عدا اليهودية.
__________
(1) _ العلمانية د. سفر الحوالي ص446.
(2) _ انظر الشيوعية للعقاد ص 20 _ 25، والشيوعية وموقف القرآن ص138.(1/270)
5_ القضاء على الحياة الأسرية، وجعل الولاء مقصوراً على السلطة الحاكمة، مع تخويل السلطة الحاكمة بألاَّ تحكم وفق قوانين ثابتة، وإنما تتغير القوانين حسب مصالح الحاكم الخاصة، وأهوائه الذاتية المتقلبة من وقت لآخر.
6_ وبالجملة فأهداف الشيوعية تتفق كثيراً مع أهداف اليهودية العالمية التي مضى ذكر لبعضها ضمناً عند الحديث عن أسباب قيام الشيوعية وعن معتقداتها، وأخلاقها.
ثانياً: الوسائل التي توصل بها الشيوعيون إلى تحقيق أهدافهم:
لقد دأب الشيوعيون وساروا سيراً حثيثاً في سبيل تحقيق أهدافهم والوصول إلى مآربهم، وقد سلكوا في ذلك السبيل طرقاً شتى، ومن ذلك ما يلي(1):
1_ إقامة المنظمات الشيوعية في مختلف بلدان العالم وفق أرقى التنظيمات الحزبية، معتمدة في ذلك على إرضاء الشهوات، وإثارة الأحقاد، وسلخ جذور الدين والأخلاق من أعماق النفوس.
2_ اعتماد وسيلة الثورات الدموية العنيفة لقلب أنظمة الحكم، واستيلاء الشيوعيين عليه.
3_ بعد الوصول للحكم يتجه الشيوعيون لتصفية كل العناصر المضادة، ثم العناصر ذات الولاء المشوب، ثم العناصر التي يمكن أن تنافس أو تضاد في المستقبل.
4_ محاربة جميع الأديان لاسيما الإسلام _ باستثناء اليهودية _ فإن لليهود في معظم أنظمة الحكم الشيوعي تمكيناً سرياً، ومعاملة خاصة، وحماية وحصانة، وتركاً لقضاياهم الدينية الخاصة.
5_ القضاء على علماء الدين والدعاة إليه، ولاسيما المسلمين منهم ومحاربتهم بالتشريد، والنفي، وتشويه السمعة؛ حتى يتسنى للشيوعيين تحقيق ما يريدون دون أن ينتبه أحد لخطرهم وخططهم.
6_ فرض الضرائب الباهظة على أفراد الشعب؛ لإذلالهم، وإرهاقهم كي يقبلوا الشيوعية طوعاً، أو كرهاً.
7_ القضاء على الملكية الفردية، وجعل الزراعة تحت إدارة الحكومات الشيوعية.
8_ امتلاك المصانع، وجعلها تحت سيطرة الدولة.
9_ الاستيلاء التام على التجارة.
__________
(1) _ انظر الكيد الأحمر ص14_ 18.(1/271)
10_ القضاء المبرم على الأخلاق الفاضلة، وفتح الأبواب للفساد، وإقامة الأخلاق الحزبية التي تخدم مصالح الحزب، وتتوجه أين توجهت ركائبه.
11_ إشاعة الإباحية الجنسية، ودفع المرأة للتحلل التام من ضوابط العفة، ومبادئ الشرف، مع نزع النخوة والغيرة من نفوس الرجال.
12_ تقسيم الشعب إلى طبقتين:
أ _ طبقة السادة: وهم الشيوعيون، ومن تابعهم وخضع لهم.
ب _ طبقة المنبوذين: وهم الذين لم ينتظموا في الحزب ولم يقبلوا نظام حكمه، أو لم يخضعوا له، ولم يعلنوا له ولاءهم التام.
13_ السيطرة التامة على التعليم؛ فلا يسمح لأي شيء إلا عن طريقهم، ووفق خططهم، ومناهجهم، ويمنع بذلك التعليم الديني تماماً حتى في البيوت والكتاتيب.
14_ إحكام السيطرة على الإعلام _ فلا ينشر في وسائل الإعلام إلا ما يمليه الحزب، وما يوافق هواه.
15_ القضاء على المعابد الدينية قضاءاً شبه كلي إلا قليلاً منها يترك للدعاية الخارجية، بل لم يكتفوا بهدم المعابد، وإنما حولوها إلى مباءات فسق، ومنتديات خناً وفجور.
16_ إقامة السياسة الدكتاتورية المستبدة بكل شيء، وبهذه السياسة تصادر جميع الحريات، الفردية والجماعية، باستثناء الحرية الشخصية الضيقة، والتي منها الحرية الجنسية.
17_ إقامة شبكة تجسس واسعة النطاق، وتكليف كل فرد _ قانوناً _ بأن يبلِّغ عن كل ما يراه مخالفاً لقانون الدولة وسياستها، حتى ولو كان المخالف ابنه أو أمه أو أباه، أو أخاه، أو قريبه، أو صديقه أو زوجه.
وإلا عُدَّ مجرماً بجرم السكوت عن التبليغ، ويستحق بذلك الجزاء والعقاب بالسجن فما فوقه، وقد يكون بمثابة شريك في الجرم.
18_ نشر الشيوعية بمختلف وسائل الترغيب والترهيب بين أفراد الشعب، وفي الشعوب غير الخاضعة للحكم الشيوعي.
19_ العمل على تحويل العالم إلى دولة شيوعية واحدة خاضعة للأيدي القابضة على الأنظمة الشيوعية من وراء الستار.(1/272)
مرَّ بنا أن الشيوعية تحارب الدين، وتعده مخدراً للشعوب، ومانعاً من التقدم.
ومر بنا أن من أسباب قيام الماركسية طغيان الكنيسة النصرانية.
فموقف الماركسية من الدين النصراني المحرف وأنه يقف في طريق العلم والتقدم _ له حظه من الصحة والواقعية.
أما موقفها من الدين الصحيح وهو الإسلام، ومحاربتها له، وزعمها أنه ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من سائر الأديان _ فذلك بهتان عظيم، وافتراء مبين؛ إذ لابد للشيوعية أن تنظر إلى مبادئ الإسلام، وعقائده، ومناهجه، وتكافله، وما يؤديه للبشرية من خير وفلاح.
فالذي دفع الشيوعيين إلى ذلك الموقف من الإسلام هو الجهلُ بالإسلام، والكيد له، والتَرَبُّصُ بأهله.
إن الماركسية لا تعرف عن الإسلام إلا أنه ذلك السد المنيع الذي يقف في طريق انتشارها، ويحول بين الناس وبين اعتناقها.
لا يفعل الإسلام ذلك بالدعايات المضللة، أو الشعارات الزائفة كما تفعل الماركسية.
وإنما بقواعده المحكمة، وعقائده الصحيحة الواضحة، وبنظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتفرد في كل شيء، المتلائم مع النفس البشرية، ومع الجماعة الإنسانية في كل زمان ومكان؛ لأنه الدين الحق الذي ارتضاه رب العباد للعباد [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] (الملك: 14).
من أجل ذلك حاربت الشيوعية الإسلام حرباً لا هوادة فيها، وأطلقت على منهجه الشائعات الباطلة، والأراجيف المضللة، واتهمت أصحابه بالتخلف والجمود.
ولم تقتصر المعركة على ذلك فحسب، بل قام جيشها الأحمر بحملات متتالية، وضربات موجعة متتابعة على المسلمين.
ولكنه لم يحرز نصراً، ولم يعد بغنيمة كبيرة، مما جعل مولوتوف _ أحد زعماء الشيوعية _ يقول:
=لن تنتشر الشيوعية في الشرق إلا إذا أبعدنا أهله عن تلك الحجارة التي يعبدونها في الحجاز، وإلا إذا قضينا على الإسلام+(1).
__________
(1) _ المذاهب المعاصرة ص 152.(1/273)
ومن هنا جاء الكيد العظيم، والمكر الكبار بالإسلام من قبل الشيوعية، فوضعت الخطط الرهيبة المحكمة؛ لإبعاد الإسلام عن مجال التوجيه والإدارة؛ ليتسنى للشيوعيين تحقيق ما يريدون.
وهذا ما سيتبين من المباحث التالية.
لقد أدرك الشيوعيون أن للإسلام أثراً عجيباً في نفوس أهله؛ وأنه من الصعوبة بمكان أن يتخلوا عنه، أو أن يرضوا به بدلاً.
كما أدركوا أن قوة الإسلام كامنة فيه، وفي ملاءمته للفطر القويمة، والعقول السليمة.
تقول إحدى الوثائق الصادرة من جهات رسمية في الاتحاد السوفيتي(1): =برغم مرور خمسين سنة تقريباً على الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وبرغم الضربات العنيفة التي وجهتها أضخم قوة اشتراكية في العالم إلى الإسلام _ فإن الرفاق الذين يراقبون حركة الدين في الاتحاد السوفيتي صرحوا _كما تذكر مجلة (العلم والدين) الروسية في عددها الصادر في أول كانون الثاني من سنة 1961م_ بما نصه:
إننا نواجه في الاتحاد السوفييتي تحديات داخلية في المناطق الإسلامية، وكأن مبادئ لينين لم تتشرَّبْها دماء المسلمين.
وبرغم القوى اليقظة التي تحارب الدين _ فإن الإسلام ما يزال يرسل إشعاعاً، وما يزال يتفجر قوة، بدليل أن ملايين من الجيل الجديد في المناطق الإسلامية يعتنقون الإسلام، ويجاهرون بتعاليمه+.
ولهذا جاء في الوثيقة المذكورة بيان للبنود التي يجب على الشيوعيين محاربة الإسلام من خلالها، مع ما حورب به الإسلام من ذي قبل، ومع الحرب الضروس بالحديد والنار التي اصطلى بها المسلمون منذ قيام الشيوعية، مما سيأتي الحديث عنه في المبحث الثاني.
ومما جاء في تلك الوثيقة ما يلي(2):
1_ مهادنة الإسلام؛ لتتم الغلبة عليه، والمهادنة لأَجَل؛ حتى نضمن السيطرة، ونجتذب الشعوب العربية للاشتراكية.
__________
(1) _ نشرتها مجلة =كلمة الحق+ في العدد الصادر في شهر المحرم سنة 1387هـ, وانظر الكيد الأحمر ص52 _ 55، والمذاهب المعاصرة ص159_ 164.
(2) _ المرجع السابق.(1/274)
2_ تشويه سمعة رجال الدين، والحكام المتدينين، واتهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية.
3_ تعميم دراسة الاشتراكية في جميع المعاهد، والكليات، والمدارس في جميع المراحل، ومزاحمة الإسلام ومحاصرته؛ حتى لا يصبح قوة تهدد الاشتراكية.
4_ الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم بيقظة لمحو أي انبعاث ديني، والضرب بعنف لا رحمة فيه لكل من يدعو إلى الدين ولو أدى إلى الموت.
5_ ومع هذا لا يغيب عنا أن للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات؛ ولذا وجب أن نحاصره من كل الجهات، وفي كل مكان، وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأسلوب الذي لا ينم عن معاداة الإسلام.
6_ تشجيع الكُتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرية كلها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية، والتركيز في الأذهان على أن الإسلام انتهى عصره _ وهذا هو الواقع _ ولم يبق منه اليوم إلا العبادات الشكلية التي هي الصوم، والصلاة، والحج، وعقود الزواج، والطلاق، وستخضع هذه العقود للنظم الاشتراكية.
أما الصوم والصلاة فلا أثر لهما في الحياة الواقعية، ولا خطر منهما.
وأما الحج فمقيد بظروف الدولة، ويمكن استخدام الحج في نشر الدعوة إلى الاشتراكية بين الحجاج القادمين من جميع الأقطار الإسلامية، والحصول على معلومات دقيقة عن تحركات الإسلام؛ لنستعد للقضاء عليه.
7_ قطع الروابط الدينية بين الشعوب قطعاً تاماً وإحلال الرابطة الاشتراكية محل الرابطة الإسلامية التي هي أكبر خطر على اشتراكيتنا العلمية.
8_ إن فصم روابط الدين ومحو الدين لا يتمان بهدم المساجد والكنائس؛ لأن الدين يكمن في الضمير، والمعابد مظهر من مظاهر الدين الخارجية، والمطلوب هو هدم الضمير الديني.(1/275)
ولم يصبح صعباً هدم الدين في ضمير المؤمنين به بعد أن نجحنا في جعل السيطرة والحكم والسيادة للاشتراكية، ونجحنا في تعميم ما يهدم الدين من القصص، والمسرحيات، والمحاضرات، والصحف، والأخبار والمؤلفات التي تروج للإلحاد، وتدعو إليه، وتهزأ بالدين ورجاله، وتدعو للعلم وحده، وجعله الإله المسيطر.
9_ مزاحمة الوعي الديني بالوعي العلمي، وطرد الوعي الديني بالوعي العلمي.
10_ خداع الجماهير بأن نزعم لهم أن المسيح اشتراكي، وإمام الاشتراكية؛ فهو فقير، ومن أسرة فقيرة، وأتباعه فقراء كادحون، ودعا إلى محاربة الأغنياء
وهذا يُمَكِّننا من استخدام المسيح نفسه لتثبيت الاشتراكية لدى المسيحيين.
ونقول عن محمد: إنه إمام الاشتراكيين؛ فهو فقير، وتَبِعَه فقراء، وحارب الأغنياء المحتكرين، والإقطاعيين، والمرابين، والرأسماليين وثار عليهم.
وعلى هذا النحو يجب أن نصور الأنبياء والرسل، ونبعد عنهم القداسات الروحية، والوحي، والمعجزات عنهم بقدر الإمكان؛ لنجعلهم بشراً عاديين؛ حتى يسهل علينا القضاء على الهالة التي أوجدوها لأنفسهم، وأوجدها لهم أتباعهم المهووسون.
11_ إخضاع القصص القرآني لخدمة الشيوعية وذلك بتفسيرها تفسيراً مادياً تاريخياً.
فقصة يوسف _ على سبيل المثال _ وما فيها من جزئيات يمكن أن نفيد منها في تعبئة الشعور العام ضد الرأسماليين، والإقطاعيين، والنساء الشريفات، والحكام الرجعيين.
12_ إخضاع جميع القوى الدينية للنظام الاشتراكي، وتجريد هذه القوى تدريجياً من مُوجِداتها.
13_ إشغال الجماهير بالشعارات الاشتراكية.
14_ تحطيم القيم الدينية والروحية، واصطناع الخلل والعيوب لها.
15_ الهتاف الدائم ليل نهار، وصباح مساء بالثورة، وأنها هي المنقذ الأول والأخير للشعوب من حكامها الرجعيين، والهتاف للاشتراكية بأنها هي الجنة الموعود بها جماهير الشعوب الكادحة.
16_ هدم الدين باسم الدين، وذلك باتخاذ الإسلام أداة لهدم الإسلام نفسه.(1/276)
ولا بأس من أداء الزعماء الاشتراكيين بعض الفرائض الدينية الجماعية؛ للتضليل والخداع على ألاَّ يطول زمن ذلك؛ لأن القوى الثورية يجب ألاَّ تُظهر غير ما تبطن إلا بقدر، ويجب أن تختصر الوقت والطريق؛ لتضرب ضربتها؛ فالثورة قبل كل شيء هدم للقيم والمواريث الدينية جميعها.
17_ الإعلان بأن الاشتراكيين يؤمنون بالدين الصحيح لا الدين الزائف الذي يعتنقه الناس لجهلهم، والدين الصحيح هو الاشتراكية.
18_ إلصاق كل عيوب الدراويش، وخطايا المنتسبين للدين بالدين نفسه؛ لإثبات أن الدين خرافة.
19_ تسمية الإسلام الذي تؤيده الاشتراكية لبلوغ مآربها وتحقيق غاياتها _ بالدين الصحيح، والدين الثوري، والدين المتطور، ودين المستقبل؛ حتى يتم تجريد الإسلام الذي جاء به محمد من خصائصه ومعالمه، والاحتفاظ منه بالاسم فقط؛ لأن العرب إلا القليل منهم مسلمون بطبيعتهم؛ فليكونوا الآن مسلمين اسماً، اشتراكيين فعلاً؛ حتى يذوب الدين لفظاً كما ذاب معنى.
20_ باسم تصحيح المفاهيم الإسلامية، وتنقية الدين من الشوائب، وتحت ستار الإسلام يتم القضاء عليه بأن نستبدل به الاشتراكية.
هذا بعض ما جاء في تلك الوثيقة، وهو يمثل شيئاً من أساليب الشيوعية في محاربة الإسلام.
ومما قاموا به من أساليب في حرب الإسلام _ دعايتهم ضد الإسلام عبر المحاضرات والكتب؛ فلقد أنشأ الشيوعيون اتحاداً سموه (اتحاد من لا إله لهم)، وبعد الحرب (جمعية نشر المعلومات السياسية) ومعظم عملها محاربة الإسلام.
ففي الفرع القازاني نظمت الجمعية سنة 1946_ 1948م ما يقارب 30528 محاضرة، منها 23000 محاضرة ضد الإسلام.
وفي أوزبكستان سنة 1951م نظمت أكثر من 10000 محاضرة ضد الإسلام.
وفي تركمانستان سنة 1963م أكثر من 5000 محاضرة ضد الإسلام.
وطبعت من الكتب ما بين سنة 1955_ 1957م 84 كتاباً في 800000 نسخة ضد الإسلام.(1/277)
وطبعت من الكتب ما بين سنة 1962_ 1964م 219 كتاباً ونشرة ضد الإسلام، وموجهة للمسلمين(1).
بعد نجاح الثورة الماركسية البلشفية في روسيا، وقبل أن يستتب الأمر تماماً للشيوعيين _ أرادوا استمالة المسلمين في البلاد، واستثارتهم ضد الحكم القيصري الذي كان يضطهدهم ويعتدي على حرماتهم؛ وذلك من أجل أن يساند المسلمون الشيوعيين الثائرين ضد المعارضة النصرانية الموالية للحكم السابق؛ فأصدر مجلس فوميسيري البلشفي نداءاً موجهاً للمسلمين سنة 1917م جاء فيه: =إن امبراطورية السلب، والعنف، والرأسمالية توشك أن تنهار، والأرض التي تستند عليها أقدام اللصوص الاستعماريين تشتعل ناراً.
وفي وجه هذه الأحداث الجسام نتجه بأنظارنا إليكم أنتم يا مسلمي روسيا، والشرق، أنتم يا من تَشْقَوْن وتكدحون، وعلى الرغم من ذلك تُحرمون من كل حق أنتم أهل له.
أيها المسلمون في روسيا، أيها التتر على شواطئ الفولجا وفي القرم، أيها الكرغيز والسارتيون في سيبيريا والتركمستان، أيها التتر والأتراك في القوقاز، أيها التشيشيين، أيها الجبليون في أنحاء القوقاز، أنتم يا من انتهكت حرمات مساجدكم، وقبوركم، واعتدي على عقائدكم وعاداتكم، وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكم.
ستكون حرية عقائدكم، وعاداتكم، وحرية نظمكم القومية، ومنظماتكم الثقافية _ مكفولة لكم منذ اليوم، لا يطغى عليها طاغٍ، ولا يعتدي عليها معتدٍ.
هُبُّوا إذاً فابنوا حياتكم القومية كيف شئتم فأنتم أحرار لا يحول بينكم وبين ما تشتهون حائل، إن ذلك من حقكم إن كنتم فاعلين.
واعلموا أن حقوقكم شأنها شأن حقوق سائر أفراد الشعب الروسي، تحميها الثورة بكل ما أوتيت من عزم وقوة، وبكل ما يتوافر لها من وسائل: جند أشداء، ومجالس للعمال، ومندوبين عن الفلاحين.
وإذاً فشدوا أزر هذه الثورة، وخذوا بساعد حكومتها الشرعية+(2).
__________
(1) _ انظر السرطان الأحمر د. عبد الله عزام ص52.
(2) _ الكيد الأحمر, ص 251_252.(1/278)
إلى آخر ما جاء في ذلك النداء الخادع.
وما كان من المسلمين حين سمعوا ذلك النداء إلا أن أسرعوا يجمعون قواهم؛ فبادرت شعوب إسلامية كانت مستعمرة مضطهدة تحت الحكم الروسي القيصري فأعلنت استقلالها، واستعادت سيادتها على أرضها.
وقامت جمهوريات إسلامية عديدة، لكنها لم تكن شيوعية، ولم تكن خاضعة خضوعاً كلياً للشيوعيين الذين أقاموا الثورة في روسيا، وما كان باستطاعة هذه الدول _ وهي ملتزمة بإسلامها وعقائدها ومفاهيمها الإسلامية _ أن تتحول إلى الشيوعية؛ لأنها تتناقض مع الإسلام تناقضاً كلياً في جذورها الاعتقادية، وفي تطبيقاتها ونظمها.
ولم تمض فترة وجيزة حتى ثبَّت الشيوعيون أقدامهم، وأحكموا قبضتهم.
فلما تمكنوا، واستتب لهم الأمر _ قلبوا ظهر المجن، وأسفروا عن حقيقتهم الكالحة، حيث توجهوا بجيشهم المعروف بالجيش الأحمر، فأعملوا أسلحتهم بالمسلمين، وحصدوا الجمهوريات الإسلامية حصداً.
وكان هجوم الجيش الأحمر لها مباغتة لم تعدَّ لها بَعْدُ عدتها؛ فهي دول فتية ما زالت في طور نشأتها.
وفي مدة ثلاث سنين استولى الشيوعيون على هذه الجمهوريات الإسلامية بعد أن قدم المسلمون تضحيات جسيمة، ولكن قواهم كانت أضعف من أن تقاوم جيشاً مدرباً مزوداً بأحدث الأسلحة من طائرات، ودبابات، وسيارات مصفحة، ومدافع بعيدة المدى، في حين أنها لا تملك شيئاً من مثل هذه الأسلحة؛ فلقد كانت شعوباً مستعمرة للحكم القيصري النصراني وما إن تخلصت من نيره حتى عاد المستعمرون السابقون بوجه شيوعي أكثر شراسة وعنفاً لفرض سلطانهم الأحمر(1).
ولقد قام الشيوعيون إبان فترة حكمهم بأعمال وحشية، ومذابح رهيبة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في أحقابه المتطاولة، وسيتضح شيء من ذلك من خلال ما يلي:
أولاً: نكبات المسلمين ومذابحهم على أيدي الشيوعيين(2):
__________
(1) _ انظر الكيد الأحمر, ص 252_253.
(2) _ انظر الكيد الأحمر, ص 253_268, والسرطان الأحمر ص 47_50.(1/279)
1_ الإبادة الجماعية، أو نفي جزء من الشعب، أو الشعب كله من وطن آبائه وأجداده إلى سيبيريا، أو إلى مناطق أخرى حيث يفقدون الصلة بوطنهم الأصلي، ويضيعون بمرور السنين.
وإليك هذه الوقائع دليلاً على أفعالهم:
أ _ أعمالهم في التركستان: قتل الشيوعيون في التركستان وحدها سنة 1934م مائة ألف مسلم من أعضاء الحكومة المحلية، والعلماء، والمثقفين، والتجار، والمزارعين.
وفي ما بين سنة 1937_ 1939م ألقت روسيا القبض على 500 ألف مسلم، وعدد من الذين استخدمتهم في الوظائف الحكومية، ثم أعدمت فريقاً، وأرسلت فريقاً آخر إلى مجاهل سيبيريا.
وقتلوا سنة 1950م سبعة آلاف مسلم، ونفوا من التركستان سنة 1934م ثلاثمائة ألف مسلم.
وقد هرب من التركستان منذ سنة 1919م حتى اليوم مليونان ونصف مليون من المسلمين.
وفي سنة 1949م هرب ألفان من التركستان الشرقية، ولاقى 1200 من هذا الفريق حتفه وهم في الطريق إلى الهند.
وفي سنة 1950م هرب من التركستان 20000 من المسلمين والتجأوا إلى البلاد الإسلامية في الشرق الأدنى.
ومن سنة 1932م إلى 1934م مات ثلاثة ملايين تركستاني جوعاً؛ نتيجة استيلاء الروس على محاصيل البلاد، وتقديمها إلى الصينيين الذين أدخلوهم إلى تركستان.
ونتيجة لقانون مزج الشعوب في الاتحاد السوفياتي نفت روسيا 40000 مسلم تركستاني إلى أوكرانيا، وأواسط روسيا، فاندمجوا في تلك الشعوب، وفقدوا وطنهم الأصلي.
وفي سنة 1951م ألقي القبض على 13565 مسلم في التركستان وأودعوا المعتقلات.
ب _ في القرم: أبادوا في القرم سنة 1921م مائة ألف مسلم بالجوع، وأرغموا خمسين ألف مسلم على الهجرة في عهد بلاكون الشيوعي الهنغاري الذي نصبوه رئيساً للجمهورية القرمية الإسلامية.
وفي سنة 1946م نفوا شعبين إسلاميين كاملين، وهم شعب جمهوريتي القرم وتشيس إلى مجاهل سيبيريا، وأحلوا محلهم الروس.(1/280)
2_ هدم المساجد وتحويلها إلى دور للهو، واستخدامها في غايات أخرى، وإقفال المدارس الدينية:
أ _ بلغ مجموع المساجد التي هُدِّمت أو حُوِّلت إلى غايات أخرى في التركستان وحدها 6682 جامعاً ومسجداً، منها أعظم المساجد الأثرية مثل (منارة مسجد كالان) في مدينة بخارى، و(كته جامع) في مدينة قوقان، و(جامع ابن قتيبة) و(جامع الأمير فضل بن يحيى) و(جامع خوجه أحرار) في مدينة طشقند.
ومجموع عدد المدارس والكتاتيب التي أقفلوها في التركستان يبلغ 7052 مدرسة، منها: (ديوان بيكي مدرسة) في مدينة بخارى، و(بكلريك مدرسة) و(بران حان مدرسة) في مدينة طشقند، وغيرها من المدارس التاريخية التي كانت منهلاً من مناهل العلم والعرفان.
ب _ وفي القرم طمسوا معالم الإسلام بما فيها الجوامع الأثرية في مدينة (باغجة سراي) عاصمة القرم الجميلة، مثل (جامع حان) وجامع (طوزيازرا) وجامع (أصماقويو) وغيرها.
ج _ وهدموا في مدينة (زغرب) في يوغسلافيا جامعاً عظيماً شيد رمزاً لوحدة عنصري الشعب الكرواتي.
وأغلقوا في مدينة (سراييفوا) الأكاديمية الإسلامية العليا للشريعة الإسلامية، وجميع المدارس الدينية باستثناء واحدة فقط، أبقوها للدعاية!.
3_ قتل علماء الدين أو نفيهم، أو الحكم عليهم بالأشغال الشاقة، أو منعهم من الحقوق السياسية، بل والحقوق الإنسانية، وإيجاد أية عقبة أخرى تحول بينهم وبين مزاولتهم لمهنتهم.
وممن قتل من العلماء في تركستان الشيخ برهان البخاري قاضي القضاة، والشيخ خان مروان خان مفتي بخارى، والشيخ عبدالمطلب واملا، والشيخ محسوب متولي، والشيخ عبدالأحد وادخان، والشيخ ملا يعقوب، والشيخ ملا عبدالكريم، وغيرهم كثيرون.
وكذلك عملوا في القرم، وأضافوا إلى ذلك حرق المصاحف الكريمة في الميادين العامة.
وفي يوغسلافيا قتلوا مفتي كرواتيا الشيخ عصمت مفتيش، والعالم الفاضل مصطفى يوصلولاجيتش.(1/281)
وحكموا بالأشغال الشاقة مدداً مختلفة على 12عالماً بعد محاكمة صورية في مدينة سراييفو، منهم الشيخ قاسم دوراجا شيخ علماء البوسنة والهرسك، والشيخ عبدالله دروبسيوفتش، وكلاهما من علماء الأزهر الشريف.
4_ قتل الزعماء السياسيين أو نفيهم: ومن أمثال ذلك أن الشيوعيين قتلوا في التركستان الشرقية سنة 1934م الحاج خوجه نياز رئيس الجمهورية، ومولانا ثابت رئيس مجلس الوزراء، وشريف حاج قائد مقاطعة (ألتاء) وعثمان أوراز قائد مقاطعة (كاشفر) ويونس بك وزير الدولة، والحاج أبو الحسن وزير التجارة وطاهر بك رئيس مجلس النواب، وعبدالله داملا وزير الأشغال، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المقام لذكرهم.
وكلما أحس الشيوعيون ببوادر أية حركة قومية أو إسلامية بين التركستانيين قاموا بحملة التصفية، وهي حملة يراد بها القضاء على كل من تحدثه نفسه بما قد يخالف تعاليم آلهة الشيوعيين: (ماركس)، و (لينين)، و(ستالين).
5_ منع المسلمين من التمتع بالنظم الإسلامية في دائرة الأحوال الشخصية: فقد ألغيت المحاكم الشرعية في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا.
ومعنى ذلك خروج الأسرة من دائرة توجيه الشريعة الإسلامية إلى دائرة القوانين الشيوعية، التي تنادي بالإباحية التامة، وبانحلال جميع الروابط الطبيعية بين أعضاء الأسرة الواحدة.
هذا إلى جانب نهب الثروات، ونقلها إلى مقاطعات أخرى، وتمزيق أوصال كل بلد إسلامي واحد، وخلق قوميات مستقلة على أساس لهجات لغة واحدة؛ بقصد تشتيت المسلمين في نفس الجنس واللغة، وخلق منازعات مصطنعة بينهم، كما قسموا تركستان إلى ست جمهوريات على هذا الأساس الواهي.
كما أنهم يقومون بشتى أنواع الدعاية اللادينية من غير أن يسمحوا بالدعاية الدينية.
ومن أمثال ذلك قيام الشبيبة الشيوعية، وجماعة من الملحدين الرواد بمظاهرات لا دينية صاخبة في مواسم الأعياد، وإهانة كل ما يقدسه المسلمون.(1/282)
وإن ينسَ المسلمون فلن ينسوا ما حلَّ بأفغانستان وأهلها من مآس، وحروب، وتشريد، وكذلك ما حلَّ أخيراً بالشيشان وأهلها إلى حين كتابة هذه السطور.
ثانياً: نماذج من صور التعذيب للمسلمين:
ومن جرائم الشيوعيين التي أنزلوها بالمسلمين صور التعذيب، وأفانينه العجيبة، فمن ذلك ما حل بمسلمي تركستان الشرقية عندما رفضوا إلحادية ماركس.
وفيما يلي ذكر لبعض صور التعذيب التي تقشعر منها الجلود، ويقِف لِهَوْلِها شعر الرأس(1).
1_ دقُّ مسامير طويلة في رأس المُعذَّب حتى تصل مُخَّه.
2_ صبُّ البترول على المُعذَّب، ثم إشعال النار فيه حتى يحترق.
3_ جعل المسجون المعذب هدفاً لرصاص الجنود الذين يتدربون على تسديد الأهداف.
4_ حبس المعتقلين في سجون لا تدخل إليها الشمس، ولا ينفذ منها هواء، وتجويعهم حتى الموت.
5_ وضع خوذات معدنية على رأس المعذب، وإمرار تيار كهربائي فيها؛ لاقتلاع العيون.
6_ ربط رأس المعذب في طرف آلة ميكانيكية، وربط باقي الجسم في آلة أخرى، ثم تحريك كلٍّ من الآلتين في تباعد وتقارب شداً وضغطاً على المُعذَّب، حتى يعترف على نفسه وغيره، أو يموت.
7_ كيُّ كلِّ عضوٍ من الجسم بقطعة من الحديد المحمي إلى درجة الاحمرار.
8_ صبُّ زيتٍ مغليٍّ على الجسم.
9_ دقُّ مسامير حديدية، أو إبر في أجسام المُعذَّبين.
10_ إجلاس المعذبين جلساتٍ خاصةً فيها ألم شديد؛ إذ يستطيع المشرفون على التعذيب الضربَ على الأعضاء التناسلية.
11_ إدخال شعر الخنزير في الإحليل _ فتحة العضو التناسلي _.
12_ إدخال قضيب من الحديد المحمي في مكان شديد الحساسية من الجسم.
13_ دقُّ المسامير في رؤوس الأصابع حتى تخرج من الجانب الآخر.
14_ ربط المسجون المُعذَّب على سرير حديدي ربطاً محكماً لا يستطيع معه التحرك، وذلك لعدة أيام قد يتفطر بها جسمه.
__________
(1) _ انظر الكيد الأحمر, ص 264_266, وتعليق الشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني على كتاب الإلحاد للشيخ محمد الخضر حسين ص30_32.(1/283)
15_ إجبار المسجون المُعذَّب على أن يمد جسمه عارياً على قطع من الثلج أيام الشتاء والبرد القارس .
16_ وضع لوح من الخشب فوق رقبة المُعذَّب وكتفيه؛ ليظل منحنياً لا يستطيع الحركة.
17_ نتف خصل من شعر الرأس بعنف يسبب اقتلاع جزء من جلد الرأس.
18_ تمشيط جسم المُعذَّب بأمشاط حديدية حادة.
19_ صبُّ المواد الكيماوية الكاوية في أنوف المسجونين وفي أعينهم بعد ربطهم ربطاً محكماً.
20_ وضع صخرة ثقيلة على ظهر المسجون والمُعذَّب بعد ربط يديه وراء ظهره.
21_ ربط يدي المسجون وشدهما إلى أعلى، وتعليقه منهما حتى يكون متدلياً في الهواء بثقل جسمه، وتركه كذلك ليلة كاملة أو أكثر.
22_ ضرب المتهم بعصا بها مسامير حادة.
23_ سجن المتهم في سجن انفرادي ضيق.
24_ ضرب المعذب بالكرباج، وهو شيء يشبه أذناب البقر حتى يتفطر جسمه، وتسيل الدماء منه.
25_ تقطيع جسم المُعذَّب إلى قطع صغرى بالسكاكين.
26_ إحداث ثقب في مكان ما من الجسم، وإدخال حبل ذي عقد فيه، ثم استعمال هذا الحبل بعد يومين كمنشار لقطع أطراف الجلد المتآكل.
27_ تثبيت المُعذَّب واقفاً إلى جدار بمسامير تُدَقُّ في أذنيه على الجدار؛ ليظل واقفاً معذباً أطول مدة.
28_ وضع المسجون المُعذَّب في برميل مملوء بالماء في فصل الشتاء.
29_ خياطة أصابع اليدين والقدمين، ووصل بعضهما ببعض.
إلى غير ذلك من فنون التعذيب المستحدثة التي لا تخطر على بال أخبث المجرمين.
وعلى هذا قام نظام الشيوعيين في روسيا، خلافاً لما يعتقده كثير ممن انخرطوا في سلكها من بهائم العرب، إذ يعتقدون أنها قامت على الحق، والخير، وأنها قامت ضد المستعمرين، أو الغزاة، أو الملكية القيصرية.
والحق أنها قامت على المكر، والخديعة، والخيانة، والإرهاب، والظلم، والاستبداد، والتسلط.(1/284)
لقد دخلت الشيوعية الماركسية كثيراً من بلاد المسلمين، وما كان ذلك ليتم لها؛ لأن مسوغات انتشارها في أوربا وروسيا كثيرة؛ وأبرزها غياب المنهج الصحيح وهو الإسلام.
أما بلاد المسلمين فإنها تنعم بالدين الحق، فما حاجتها _ إذاً _ للشيوعية؟!.
وكيف تسمح لمثل هذه المذاهب الباطلة أن تنخر في جسم الأمة وقد أغناها الله _ عز وجل _ بوحي السماء عن زبالة أفكار أهل الأرض؟!
والجواب عن ذلك أن الشيوعية دخلت بلاد الإسلام لأسباب عديدة منها(1) :
1_ انحراف كثير من المسلمين، وجهلهم بعقيدتهم: فما كان للشيوعية أن تنتشر في بلاد المسلمين إلا عندما انحرف كثير من المسلمين عن دينهم، وجهلوا عقيدتهم، ونسوا حظاً مما ذكروا به.
وإلا لما كانت العقيدة سليمة، والإيمان قوياً راسخاً، والتمسك بأمر الله قائماً _ لم يجد الأعداء منفذاً ينفذون من خلاله، وإن وجدوا منفذاً فلن يجدوا مكاناً يؤثرون فيه، وإن وجدوا مكاناً ففي أندر الأحوال يقع ذلك، ثم سرعان ما يقاوم ويعالج.
2_ الهزيمة النفسية الداخلية: فلما انحرف المسلمون عن دينهم أصابهم الوهن، وداخلتهم الهزيمة، ففقدوا العزة، وتدثروا الذلة، فسهل دخول المذاهب الهدامة ومنها الشيوعية.
وإلا فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تأخذ، ومقدار ما تعطي، ونوع ما تأخذ، ونوع ما تعطي، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة حتى تحمي رأيها، فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع؛ فالأمة التي تُشْرَب في نفوسها العزة يشتد فيها الحرص على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم من غيرها، وتبالغ في الحذر في أن تقع في يد من يطعن في نحر كرامتها، ولا يستحيي الإنسانية أن تراه مهتضماً لحق من حقوقها.
__________
(1) _ انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1/125_126 و 215_216, والسرطان الأحمر 99_106, والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها , ورسائل في العقيدة للكاتب ص46_48.(1/285)
3_ هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية: فما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويعملون المصانع _ حتى اتجهوا إلى دول العالم الثالث؛ بحثاً عن الأسواق؛ لبيع منتجاتهم الصناعية، وجلباً للمواد الخام اللازمة للصناعة.
ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما تريد بأبخس الأثمان، أو بلا ثمن أصلاً _ فإنها استخدمت قوتها العسكرية.
ولما كان العالم الإسلامي في غاية التخلف عسكرياً، وسياسياً، وصناعياً _ لم يصمد أمام تلك الهجمة، وكان للهزيمة العسكرية أثرها في زعزعة العقيدة والشعور بالنقص، وتقليد الغالب، والتشبه بأخلاقه؛ ظناً منهم _ لفرط جهلهم _ أن أوربا لم تتطور إلا عندما اعتنقت الإلحاد، ورفضت الدين.
4_ الاستعمار وما خلَّفه من دمار: فلقد عانى المسلمون من الاستعمار، وويلاته، حيث امتص المستعمرون دماء المسلمين، وخيراتهم، وأوطانهم، كما فرضوا عليهم أفكارهم ومذاهبهم الباطلة.
5_ حال المسلمين المتردية: فَتَفَرُّق المسلمين، وتخلُّفهم، وتشتت كلمتهم _ صار فتنة للكفار والمنافقين، والجهال؛ حيث استدلوا بذلك على بطلان الدين، كما سيأتي في الفقرة الآتية.
6_ جعل واقع المسلمين في العصور المتأخرة هو الصورة التي تمثل الإسلام: فيروج الشيوعيون، وأذنابهم من الزنادقة المنتسبين للإسلام أن دين الإسلام دين تخلف، وانحطاط، وتأخر عن مواكبة الأحداث، ويستدلون على ذلك بواقع المسلمين في العصور المتأخرة، ويوهمون الناس بأنه لو كان ديناً حقاً لما انحدر المسلمون، وصاروا في ذيل الركب.
7_ انتشار الخرافات والبدع: حيث شاعت في بلاد الإسلام بدع، وضلالات، وخرافات تروج لها المذاهب الباطلة والطرق الصوفية التي تقوم على الدجل، وعبادة القبور، والمبالغة في قصص الكرامات.
كل ذلك اغتنمه الشيوعيون، وسددوا من خلاله سهامهم نحو الدين؛ ليروجوا أن الدين خرافة ودجل.(1/286)
8_ سقوط الخلافة الإسلامية: فلقد كانت تجمع المسلمين وترهب أعداء الله، مع ما كانت عليه في أواخر عهدها من انتشار البدع، ونخرها في جسد الخلافة.
9_ التقصير في الدعوة إلى الله: ذلك أن كثيراً من المنتسبين إلى علوم الشريعة _ فرطوا في جانب الغيرة على الحق، بل ربما كان منهم من يواد الملاحدة، ويتملقهم بالإطراء، ويغض الطرف عن إلحادهم، بل ربما شهدوا لهم بالإخلاص للدين.
يفعلون ذلك رجاء متاع الحياة الدنيا،أو خشية أن يوصفوا بالتشدد والانغلاق أو رغبة بأن يوصفوا بالانفتاح وسعة الأفق، وهم يعلمون أنهم إنما يوالون طائفة تفسد على الأمة دينها وأخلاقها.
ومن العلماء من أخلدوا إلى الأرض، فلا ينكرون على الناس شركهم بالله، وطوافهم حول الأضرحة، ولا يبينون الحق، ولا ينصحون للأمة، وربما زينوا للطواغيت باطلهم، وسوغوا لهم أعمالهم الإجرامية.
10_ ترك الجهاد في سبيل الله: حيث ركن أكثر المسلمين إلى ملذات الحياة الدنيا، فدبت إلى الجفون غفوة، فلم تكد الأمة تستفيق منها إلا ويد أجنبية تقبض على زمامها، وتديرها كما تشاء.
11_ تركيز الغرب على إفساد التعليم والإعلام والمرأة: فشوه الإعلام صورة الإسلام وعلمائه، وروج للعري والإباحية والفوضى الجنسية، فغرق كثير من الشباب في هذا المستنقع الآسن، والشيوعية لا تُفَرِّخ إلا بمثل ذلك الجو.
ثم إن الطعنة النجلاء، والخنجر المسموم _ هو فساد التعليم، ومناهجه الدراسية، حيث قطعت صلة الطلاب برب الأرباب، وأصبحت مناهج الدين في زاوية ضيقة محدودة، فانفتح المجال على مصراعيه للشيوعية؛ حيث زاحمت علومها علوم الدين، بل أقصتها جانباً، ونَحَّتْها عن مجال التأثير؛ فشاع الجهل بالدين، وسهل دخول الأفكار المضللة إلى العقول.(1/287)
12_ الابتعاث وما فيه من مفاسد: حيث يبتعث إلى بلاد الكفر مَنْ هو خالي الوفاض _ في الغالب _ فلا علم لديه، ولا ورع يزمُّه، ولا تقوى تردعه ولا عزة تمنعه، فيعيش في تلك البلاد فترة من الزمان، فيتأثر بما فيها من انحلال، وفساد، وكفر، وربما رجع بشهادة الدكتوراه بعد أن يفقد شهادة أن لا إله إلا الله، فيصبح بذلك معول هدم لأمته، وربما تولى زمام التأثير في المجالات المهمة؛ فيفرغ فيها كُثبة من سمومه، وفساده.
13_ خيانات العملاء والمنافقين: فلهؤلاء دور كبير في نشر الشيوعية، والتمكين لها، ولا أدل على ذلك من خيانة الأحزاب الشيوعية العربية للقضايا العربية والإسلامية؛ فذلك أمر تؤيده الحقائق المشهورة؛ فحيثما وُجِدَتْ مصلحة الاتحاد السوفييتي أو مصلحة إسرائيل فإن تلك الأحزاب تنحاز إلى تلك المصالح ضد المصالح الإسلامية والعربية.
وأوامر الحزب الشيوعي اليهودي أوامر مقدسة عند الأحزاب الشيوعية العربية، حيث تنفذها دونما اعتراض.
وحركات التحرر التي قامت ضد فرنسا، وبريطانيا تعد _ في نظر الأحزاب الشيوعية العربية _ حركات بورجوازية انتهازية لا تستحق الدعم والتأييد، بل تستحق المعارضة، والكفاح.
وكل وجهة نظر سوفياتية تتعلق بالقضايا العربية أو الإسلامية هي الوجهة التي لا يجوز العدول عنها عند تلك الأحزاب.
14_ سوء التربية: وذلك بأن ينشأ الشخص في بيت خالٍ من آداب الإسلام ومبادئ هدايته، فلا يرى فيمن يقوم على أمر تربيته من نحو أب، أو أم، أو أخ _ استقامةً، ولا يتلقى ما يَطْبَعُه على حب الدين، ويجعله على بصيرة من حكمته؛ فأقل شبهة تمس ذهن هذا الناشئ تنحدر به في هاوية الضلال.
15_ مصاحبة الملاحدة: فمن أسباب اعتناق الإلحاد أن يتصل الفتى الضعيف النفس بملحد يكون أقوى منه نفساً، وأبرع لساناً، فيأخذه ببراعته إلى سوء العقيدة، ويفسد عليه أمر دينه.(1/288)
16_ قراءة الناشئ مؤلفات الملاحدة: فالملاحدة يدسون سموماً من الشبه تحت ألفاظ منمقة، فيصغى إليها فؤاد الناشئ، وتضعف نفسه أمام هذه الألفاظ المنمقة، والشبه المبهرجة، فلا يلبث أن يدخل في زمرة الملاحدة الألدَّاء.
17_ غلبة الشهوات: فقد تغلب الشهوات على نفس الرجل، فتريه أن المصلحة في إباحتها، وأن تحريم الشارع لها خالٍ من كل حكمة، فيخرج من هذا الباب إلى إباحية وجحود.
هذه بعض الأسباب لانتشار الشيوعية في العالم الإسلامي سواء على مستوى أفراده، أو شعوبه، أو دوله.
ثم إن بعض أسباب نشأة الشيوعية الحديثة تشترك مع أسباب دخولها في بلاد الإسلام.
لقد قامت الشيوعية على أسس ومبادئ آمن بها الشيوعيون، وحاولوا تطبيقها على مجتمعاتهم، زاعمين بأن تلك الأسس والمبادئ ستخلِّص الشعوب من وطأة الرأسمالية وتوصلها إلى الفردوس المنتظر، وتقضي على جميع المشكلات وتنأى عن الطبقية والفردية.
فماذا تم بعد قيام الشيوعية؟ وما الذي حدث من جراء تطبيقها؟ وما الآثار التي ترتبت على اعتناقها؟ وماذا كانت النتيجة ؟
الجواب سيتضح _ إن شاء الله _ من خلال الحديث عن الشيوعية بعد التطبيق، وعن الآثار المترتبة على الإلحاد، ثم عن سقوط الشيوعية.
أولاً: الشيوعية بعد التطبيق(1):
لقد زعمت الشيوعية بأنها ستحقق العدل، وتنشره بين الناس؛ حيث ستلغي الفوارق بين الطبقات، وستجعل الناس يعيشون في مستوى اقتصادي واحد، وسيأخذ كل واحد منهم قدر حاجته من المال.
وإذا تساوى الناس في مستواهم الاقتصادي والمالي فسيكون الطريق أمامهم مفتوحاً للمساواة في جميع المجالات سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.
هذه هي الدعوى، ولكن أي البينة؟
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بيناتٍ أصحابها أدعياء
__________
(1) _ انظر الأديان والمذاهب المعاصرة ص 96_99, والعلمانية ص 254/444_447, ومذاهب فكرية ص 231, والشيوعية وموقف القرآن ص59_64, والصنم الذي هوى ص 73.(1/289)
إن الحقائق تكذب تلك الدعاوى، والواقع يقول بخلاف ذلك؛ فلقد حصل بعد تطبيق الشيوعية ما يلي:
1_ وقوع الشيوعيين في الطبقية: لقد ادعى الشيوعيون أن إلغاء الفوارق بين الطبقات أمر لابد منه، وأن السبيل إلى ذلك هو الصراع الدموي؛ فكل امتياز أو طبقية _ بزعمهم _ إنما هو أثر من آثار الأنانية وتحكيم المصلحة الذاتية.
وإذا كان النظام الشيوعي يدعي تلك الدعوى فإن واقعه يكذبها؛ فما تلك الدعاوى سوى شعارات براقة، ووعود معسولة كاذبة يخدعون بها السذج دونما التزام بها، وإليك بعض الأمثلة:
أ _ تفاوت الأجور: فمعدل الأجر المتوسط للعامل في الاتحاد السوفيتي عام 1935م حوالي 1800 روبل سنوياً، في الوقت الذي بلغ فيه راتب الأمين العام للجنة الغزل والحرير الصناعي مبلغ 45 ألف روبل سنوياً.
ثم إن أجرة الفلاح الروسي 300 روبل شهرياً، ويقتطع منها 150 روبلاً لتقوية الصناعات.
في الوقت الذي يتقاضى فيه أهل الطبقة المثقفة _ كما يزعمون _ من الممثلين والفنانين والأدباء والراقصات أجوراً عالية تصل إلى 20 ألف روبل شهرياً.
ب _ تفاوت مستويات التعليم: فأبناء الطبقة المثقفة يتمتعون بالتعليم الجامعي المجاني وغير المجاني.
أما أبناء الفلاحين فلا يستطيعون ذلك.
ج _ إقرار الحوافز: فهؤلاء الذين يرفعون شعار المساواة، والعدل ورفض الطبقية أقروا الحوافز والجوائز؛ فلقد أذاعت وكالة الأنباء السوفيتية _ تاس _ أن جائزة ستالين للموسيقى وقدرها مائة ألف روبل _ قد منحت سنة 1947م لجوزيف كلينا من أجل أنه لَحَّنََ أغنية عن ستالين.
وأن جائزة ستالين للتصوير _ وقدرها مائة ألف روبل _ قد منحت لأراكلي طويزر من أجل تصويره ستالين يخطب في احتفال الذكرى الرابعة والعشرين لثورة أكتوبر.
أما الجائزة الثالثة _ وقدرها خمسون ألف روبل _ فقد منحت للرسام باراكر فتشنكو من أجل تصويره الأديب مكسيم جوركي يقرأ قصة أمام ستالين، ومولوتوف، وتورسيلوف.(1/290)
وأما جائزة ستالين للنحت _ وقدرها مائة ألف روبل _ فهي لنيقولا توسكي من أجل رسمه تمثال ستالين.
بالإضافة إلى جوائز أخرى سلمت لموسيقيين، ورسامين، ونحاتين، من أجل أعمال قاموا بها لشخص ستالين.
ولما رأوا أن العمال لا يمكن أن يعملوا بجد وإخلاص طالما أن جهدهم يتمتع به غيرهم، لجأوا إلى الحوافز، واضطروا إلى الاعتراف بها لتشجيع المنتجين من فلاحين ورعاة، وعمال مصانع؛ فأخذت الدولة تُمَلِّكهم شيئاً من إنتاجهم؛ فأين المساواة؟ وأين محاربة الملكية الفردية؟!
د _ سحق العمال تحت نظام السخرة في المصانع: والسخرة هي العمل المجاني، حيث يقوم العمال بالعمل دون أن يكون لأحد من نصيب إلا حد الكفاف لا الكفاية.
فالعامل الفرد في ظل هذا النظام يجبر على أن يحشر هو وكل أفراد أسرته في غرفة واحدة، هي غرفة جلوسهم، ونومهم ومطبخهم.
ثم هي غرفة في مجمع سكاني ضخم غير متجانس، ويشترك سكان الشقة في دورة مياه واحدة، وقد تكون تلك الدورة بنيت بلا أبواب منذ إنشائها.
وإذا كانت الغرفة لا تحتوي إلا على سرير واحد فردي _ فإن الأبوين ينامان عليه حين ينام الأولاد صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم على المنضدة متلاصقين.
وتلك المنضدة هي التي تستعمل في النهار للطبخ، وربما كان الزوجان والثلاثة يعيشون في غرفة واحدة يفصل بينهم حبل من حبال الغسيل تثبت به قطعة من القماش.
ثم إن الطعام الذي توزعه المزارع الجماعية لا يكاد يسد الرمق.
أضف إلى ذلك غلاء الأسعار الفاحش، فثمن الكيلو غرام الواحد من الزبدة في السوق الحرة يوازي الأجر الشهري للعامل العادي، وثمن زوج الأحذية يوازي أجر شهرين وإذا مرض أحد من عامة الناس لم يُهتم بعلاجه.(1/291)
هـ _ إغراق الطبقة الحاكمة في الترف والنعيم: ففي الوقت الذي يسحق فيه عامة الناس، ويعانون من شظف العيش، وضيقه _ إذا بالطبقة الحاكمة تغرق في النعيم والترف إلى الأذقان؛ فأعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالملذات والمساكن الراقية الفسيحة، والمراكب الفارهة التي تستورد من الغرب الرأسمالي.
وإذا مرض واحد من أعضاء الحزب بُودر في علاجه بأرقى أنواع العلاج.
ويكفي شاهداً على ترفهم ذلك القصر الباذخ الذي كان يتخذه الرئيس خروتشوف مشتىً له على ضفاف البحر الأسود الدافئة.
ولقد وصف الصحفي المصري محمد حسنين هيكل ذلك القصر وصفاً مذهلاً وذلك في ملحق الأهرام بتاريخ 22مايو سنة 1964م فذكر الأثاث الفاخر، والحدائق الغناء، وحمام السباحة المثير المغطى بقبة من البلور الشفاف، المُكَيَّف بدرجة حرارة مناسبة تتغير آليا حسب الجو، إلى آخر ما وصف به ذلك القصر.
2_ تسلط الحزب الحاكم واستبداده: فبالرغم من أن الاتحاد السوفيتي يتكون من 15 ولاية رئيسة فُرِض عليها الاتحاد فرضاً وفي كلٍّ منها مجلس وزراء _ إلا أن سلطاتها تنحصر في الأمور العادية.
أما الحل والعقد والبت في الأمور فيملكه الحزب في موسكو، ولا يناقشه أحد بذلك.
3_ البطش والإرهاب: حيث اتسمت سياسة الشيوعية بعد التطبيق بالبطش والإرهاب والتدمير والتعذيب، والتنكيل الذي لم يسبق له على مدى التاريخ مثيل، ولقد مرَّ بنا قبل قليل نماذج من ذلك.
4_ انقسام المعسكر الشيوعي على نفسه: حيث توالت الخلافات بين الدول الشيوعية، بل داخل الدولة الواحدة وبين أعضاء الحزب الواحد؛ فلا يكاد يجمعهم سوى خوف كل طرف من الطرف الآخر فهناك خلافات لينين مع ستالين والتي كان لينين بسببها ينوي إقصاء ستالين من مكانته، وهناك الخلافات بين ستالين وتروتسكي، والتي أدت بستالين إلى تدبير اغتيال تروتسكي.
وكلما وصل رئيس إلى سدة الحكم ندد بسلفه، وأقذع في شتمه وسبه.(1/292)
ومن ذلك ما حصل في المؤتمر الخمسين للحزب الشيوعي عندما وقف الرئيس خروتشوف يندد بستالين، ويقول عنه: إنه ديكتاتور سفاح، مجرم سافل دنيء، وإنه غلطة لا ينبغي أن تتكرر، وإنه ارتكب من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان(1).
وفي مؤتمر الحزب الشيوعي الذي عقد في موسكو في 28/6/1988م دعا جورباتشوف إلى إصلاحات جذرية في الشؤون السياسية والاقتصادية للاتحاد السوفيتي، كما انتقد سياسة ستالين وبريجنيف التي حجرت على الفكر في الاتحاد السوفيتي _ وصدق الله إذ يقول: [كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا] (الأعراف:38).
5_ التجسس والرقابة الصارمة: فالتحركات في المجتمع الشيوعي مراقبة، والاتصالات الهاتفية مسجلة، والزيارات _ وخاصة من الغرباء _ مراقبة تماماً ولقد روى ذلك كثير من الزائرين لروسيا بعد أن لاحظوا من يراقبهم ويرصد تحركاتهم.
ولذلك يتحاشى الروسيون الحديث عن السياسة، وكثيراً ما يرددون عبارات جاهزة مكررة في مدح سياسة بلادهم بمناسبة أو بغير مناسبة؛ فقد يكون جزاء المقصر أو المتجاوز النفي إلى سيبيريا؛ حيث البرد القارس والأعمال الشاقة.
وقد قال أحد الكتاب: إن نصف سكان موسكو جواسيس على النصف الآخر، فقال له صاحبه: ولكن النصف الآخر جواسيس _ أيضاً _ على النصف الأول، وتلك فكاهة ليست ببعيدة عن واقع المجتمعات الشيوعية.
__________
(1) _ ومن الطريف أن خروتشوف لما قال عن ستالين في ذلك المؤتمر تقدم مجهول بسؤال إلى خروتشوف يقول فيه: إنك كنت عضواً بارزاً في الحزب الشيوعي ورأيت هذه الجرائم, وكنت عالماً بوقوعها؛ فلماذا سكت على ارتكابها؟ وقرأ خروتشوف الورقة, وكان حاضر البديهة حاضر النكتة فقال: من الذي أرسل إليَّ هذه الورقة. وبالطبع لم يجب أحد, فقال خروتشوف : الآن قد عرفت السبب؛ لقد كنت خائفاً مثلك ؛ فلم أنبس ببنت شفة. انظر مذاهب فكرية معاصرة ص 431.(1/293)
ويدل على ذلك ما حصل في ألمانيا الشرقية عندما سقطت الشيوعية؛ حيث ذهب بعض الناس لأقسام الشرطة والمباحث؛ ليتسلم ما كتب عنه من تقارير؛ ففوجئ كثير منهم بأن الذي تجسس عليه أمه، أو زوجته، أو أخوه، أو أقرب الناس إليه.
6_ السرية والغموض: فمعظم الأمور هناك أسرار غامضة؛ فلا دليل للهاتف ولا مخطط للمدينة، ولا كتب عن مشاهير الناس.
أما أعضاء الحكومة فحياتهم وأماكن سكناهم، واجتماعاتهم وتحركاتهم _ سر مغلق، لا يُعلن عنه، ولا يُتحدث فيه.
بل من الصعب أن تقابل روسياً عادياً على انفراد.
ومما اعتاده الناس هناك اختفاء بعض الناس في ظروف غامضة، سواء كانوا مسؤولين أم من عامة الناس، ثم إنه لا يجرؤ أحد على السؤال عنهم أو الاستفسار.
يقول آرثر كستلر(1) عن مجتمع الحزب الشيوعي: =كان عالماً يسكنه أناس يعرفون بأسمائهم الأولى فقط، أما أسماء أسرهم، أو عناوين سكناهم فلم يكن لها وجود، كان الجو متناقضاً؛ فهو خليط من الزمالة الأخوية، والارتياب المتبادل.
ويمكن أن نقول: إن الشعار هنا هو: أحبب رفيقك ولكن لا تثق فيه أنملة لصالحك؛ لأنه يشي بك ولصالحه؛ إذ من الخير له ألا تعرضه للإغراء والوشاية+(2).
7_ غياب شموس الحرية عن الحياة الفكرية: فجميع الصحف ودور النشر خاضعة تماماً لرقابة الدولة، ومهمتها كيل المديح الأجوف الممل لقادة الحزب مع تسويغ أعمالهم وحماقاتهم.
وأبرز مثال على ذلك دائرة المعارف الروسية التي ملئت بالتشويهات وقلب الحقائق؛ إرضاء لهوى المتسلط.
__________
(1) _ آرثر كستلر ولد عام 1905 من أب هنغاري وأم من فينا , وقد انظم إلى الحزب الشيوعي في آخر يوم من شهر كانون الأول ديسمبر 1931م ثم انفصل عنه في ربيع عام 1938م .انظر الصنم الذي هوى ص18.
(2) _ الصنم الذي هوى ص 35.(1/294)
وبالجملة فإن البلاد التي ساد فيها النظام الشيوعي قد تحولت إلى سجن كبير لا مكان فيه لحرية الرأي، ولا يستطيع الفرد أن يفصح عما يدور في خلده تجاه النظام؛ فهو يعيش في رعب دائم، وقلق مستمر.
8_ إهدار كرامة المرأة: فالمرأة في النظام الشيوعي أداة من أدوات الإنتاج للأطفال، وما دامت أدوات الإنتاج الأخرى على الشيوع فينبغي أن تكون المرأة كذلك.
ولقد تحققت شيوعية المرأة في مجتمعهم بصورة مستترة، لكنهم يريدون أن يتحول الواقع إلى نظام علني.
لقد أراد ماركس بمخططه أن تكون كل أنثى لكل ذكر، أو أن تتحول كل امرأة في مجتمعه إلى أنثى من إناث الدولة، وكل رجل من رجال مجتمعه إلى فحل من فحول الدولة، فيجمعهم الفراش ثم يذهب كل منهما إلى عمله وإنتاجه؛ فلا يجوز _ في نظرهم _ أن يختص أحد بالمرأة؛ لأنهم يرون أن الزواج قيد لحريتها.
وبذلك تكون المرأة كلأً مباحاً للأعين والأيدي، وتتحول البشرية إلى حياة الغاب والقطيع.
ولقد لجأ الشيوعيون في سبيل إفساد المرأة إلى أساليب ماكرة؛ حيث ألقوا في روعها أنها إذا تحررت من تبعيتها الاقتصادية للرجل فستكون حرة طليقة، كما أفهموها أن الدين شيء صنعه الرجل؛ لتظل المرأة تحت سلطانه؛ فإذا خلعت ربقة الدين، وتحررت من قيود الأخلاق _ فستنعم بالحرية، والحياة السعيدة.
فما الذي حصل؟ لقد تحقق لهم ما يريدون.
ولكن هل تحققت السعادة للمرأة؟ وهل كانت النتائج في صالحها وصالح المجتمع؟
الجواب: لا؛ فلقد لاحظوا نذر الكارثة؛ إذ انتشرت الأمراض، وكثر الإجهاض، وبدأ الشعب الروسي يتناقص؛ فَحَرَّموا الإجهاض، فأخفقوا؛ لأن الشباب اعتاد الزنا والفواحش فأباحوا الإجهاض، ووزعوا حبوب منع الحمل مجاناً، وكافأوا الأم براتب عن كل مولود بِغَضِّ النظر عن شرعيته من عدمها.
كما اضطربوا في الطلاق؛ حيث أباحوه، ثم حرموه، ثم حدَّدوه، وهكذا أصبحت المرأة ميداناً لتجاربهم وتخبُّطهم.(1/295)
9_ تخبط نظام الأسرة: فمن أهداف نظام الشيوعية القضاء على نظام الأسرة؛ فالكيان الأسري الذي يربط أفراد الأسرة بروابط لها قوتها وقدسيتها _ يتعارض في نظر الماركسية _ مع الرابطة المقدسة الكبرى _ الأم _ التي هي الدولة.
فهي تطلب من الفرد أن يفنى في الأمة فناء تاماً يتلاشى فيه كل انتماء لدين، أو رحم، أو وطن، ويحل محل ذلك الانتماء للدولة بنظمها الماركسية.
ومن هنا قَوَّضت الشيوعية كل التقاليد والشرائع المُرَغِّبة في الزواج حتى أصبح الأمر فوضى لا حد لها.
وتهدف من وراء ذلك أن ينشأ الأطفال نشأة ماركسية تقوم فيها الدولة بدور الحضانة والتربية والتعليم دونما حاجة ماسة إلى أبوة، أو أمومة، أو بُنُوَّة؛ فالرجال رجال الدولة والنساء نساؤها، والأطفال الذين هم ثمرة هذه العلاقات الجنسية _ المشروعة أو غير المشروعة _ هم أبناء الدولة _ ومعلوم أن الفرد في النظام الشيوعي ليس ملكاً لنفسه، ولكنه ملك للدولة؛ ولهذا فهم لا يحبذون الترابط الأسري؛ لأجل أن يكون الولاء خالصاً للدولة.
ثانياً: الآثار المترتبة على الإلحاد:
لقد اعتنقت الشيوعية الإلحاد، وقام عليه أكبر الدول في الشرق وهي روسيا، حيث حملت في بنودها رفض الغيب، والنظر إلى الحياة كلها من منظور مادي بحت.
ولقد أصبح الإلحاد ظاهرة عالمية؛ فالعالم الغربي في أوروبا وأمريكا _ وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة النصرانية _ إلا أنه ترك هذه العقيدة تقريباً، وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا، وأصبحت الكنيسة مجرد تراث تافه، وأصبح الإلحاد هو الدين الرسمي المنصوص عليه في دساتير البلدان الأوروبية والأمريكية، ويعبر عن ذلك بالعلمانية تارة، وباللادينية تارة أخرى.(1/296)
والإلحاد له آثاره السيئة، وثمراته المنتنة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات؛ فالأمم الكافرة تعيش حياة صعبة معقدة لا يجدون حلاً لأكثر مشكلاتهم؛ نظراً لغياب المنهج الصحيح وهو دين الإسلام، فهم يعاقبون في هذه الدنيا أشد أنواع العقوبات، وإن ماتوا على كفرهم وإلحادهم فالخلود في النار بانتظارهم.
ولقد مرَّ بنا في الصفحات الماضية ذكر لما تعانيه تلك الأمم بسبب كفرها وإلحادها، وبعدها عن الله، وفيما يلي إجمال للآثار المترتبة على الإلحاد زيادة على ما مضى(1):
1_ القلق والاضطراب: فالملاحدة محرومون من طمأنينة القلب، وسكون النفس، قال الله _ تعالى _: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى](طه: 124).
كيف لا يصيب الملاحدة القلق والهم والغم وفي داخل كل إنسان أسئلة محيرة؟ من خلق الإنسان؟ ومن خلق الحياة؟ وما نهايتها؟ وما بدايتها؟ وما سر هذه الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
من يجيب عن تلك التساؤلات؟ آلشيوعية ؟! أنى لها؟
ثم إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان بسبب مشاغل الحياة، إلا أنها ما تلبث أن تعود، ملحة على صاحبها.
وما نراه اليوم من كثرة الانتحارات، وإدمان المخدرات إلا هروب من ذلك الواقع المؤلم.
2_ الأثرة والأنانية: فلا رحمة، ولا شفقة، ولا بر بالوالدين، ولا صلة للأرحام، ولا إحسان إلى الجيران وسائر الناس؛ فكل فرد معني بنفسه فحسب؛ فالإلحاد لا يعير هذه الروابط أدنى اهتمام.
3_ حب الجريمة: فالملحد يجد في نفسه حباً للجريمة، وإرادة الانتقام، ورغبة في التشفي من كل موجود.
كما أن الثقة بين الناس في المجتمع الملحد شبه مفقودة؛ فكلٌ يخاف من أقرب الناس إليه.
__________
(1) _ انظر: كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن الميداني ص553 وما بعدها , والإلحاد أسباب هذه الظاهرة وأسباب علاجها ص20_33، ورسائل الإصلاح 1/220.(1/297)
4_ الانطلاق في الإباحية: فالملحد لا يحافظ على عرض أحد، ولا يؤتمن على مال، أو حرمة إلا أن يعجز عن الوصول إلى شيء من ذلك.
ومتى ساعدته الفرصة، وظن أنه بمأمن من العقوبة _ عاث في الأعراض والأموال غير متحرج من انتهاك حرماتها.
وقد يقع انتهاك الأعراض، وغشيان الحرمات، ونحوها من غير الملحد بدافع الشهوة، أما الملحد فإنه يأتيها مستبيحاً لها.
وضرر الطائفة التي ترتكب الفسوق مستبيحة له أشد من ضرر من يفعله معتقداً أنه يأتي أمراً محرماً.
5_ الإجرام السياسي: وهذا من أعظم آثار الإلحاد؛ ذلك أن الأخلاق المادية الإلحادية ملأت قلوب أصحابها بالقسوة والجبروت مما دفعهم إلى تطبيق ذلك عملياً؛ ولذلك ترى الدول الكبرى كيف تفعل بالدول المستعمرة من الإهانة، والقتل، والإذلال، والتشريد.
هذا شيء من الآثار المترتبة على الإلحاد، وقد جاء القرآن بما يدل على ذلك.
قال تعالى: [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ](الأنعام: 125).
وقال _ عز وجل _: [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ](الحج:31).
وقال _ سبحانه وتعالى _: [فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ](التوبة: 55).
ولقد عبر عن ذلك العذاب النفسي والهلع الذي لا يهدأ فريق من كبار فلاسفة الملاحدة، فمنهم على سبيل المثالث:(1/298)
أ _ الفيلسوف الإنكليزي _ هربارت سبنسر: فلما نظر إلى الوجود بالمنظار المادي المحدود الذي لا يفسر الحياة تفسير المؤمنين بالله واليوم الآخر _ بدت له الحياة تافهة حقيرة لا تستحق البقاء؛ حيث قال ذلك في خاتمة كتابه =المبادئ الأولى+.
ولما دنا الموت منه نظر وراءه يستعرض حياته، فإذا هي في نظره أيام كلها تنقضي في كسب الشهرة الأدبية، دون أن يتمتع بشيء من الحياة نفسها؛ فَسَخِر من نفسه، وتمنى لو أنه قضى أيامه الدابرة حياة يسيرة، سعيدة.
ب _ الفيلسوف الملحد (شوبنهور): وهو فيلسوف التشاؤم، قال: =إننا لو تأملنا الحياة المصطخبة لرأينا الناس جميعاً يشتغلون بما تتطلبه من حاجة، وشقاء، ويستنفدون كل قواهم لكي يرضوا حاجات الحياة التي لا تنتهي، ولكي يمحو أحزانها الكثيرة+.
والسبب في تشاؤمه أنه عزل عن تصوره مسألة الإيمان بالله، واليوم الآخر.
ج _ الفيلسوف الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر): ذلك الملحد الذي أبصر الوجود كله من خلال دوائر القلق، والغثيان، والمتاعب والآلام، وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آراءه الفلسفية الوجودية، التي تتقيأ المكاره، والتي أبرز فيها الحياة تافهة، حقيرة، مملوءة بالمشقيات، مشحونة بالآلام
ثالثاً: سقوط الشيوعية:
لقد أخفقت الشيوعية في التطبيق أيما إخفاق، وقادت البشرية إلى ويلات إثر ويلات، ونزلت بالمستوى البشري إلى أحط الدركات.
وبعد ذلك كله سقطت الشيوعية وهوت من عليائها؛ حيث تفككت دولها، وانفرط عقدها، وسُلَّ نظامها.
ولم يكن سقوط الشيوعية مفاجأة لمن سبر أغوارها، وعرف أطوارها؛ ذلك لأنها قامت على أسس لا يمكن أن تدوم وتخلد، حيث أسست على شفا جرف هار فانهار بأصحابه.(1/299)
هذا وقد تكلم كثير من الكتاب المسلمين على نهاية الشيوعية المحتومة قبل أن تسقط بسنوات عديدة، وذلك لأن المسلمين يعتقدون بيقين ثابت أن الشيوعية مبدأ ولد ميتاً، وحكمهم عليها _ منذ عرفوها _ ليس من باب التنبؤ، والضرب بالرمل، أو علم الغيب.
وإنما هو حكم منتزع من وحي عقيدتهم، وهدى دينهم.
إنها مبدأ أرضي، والمبادئ الأرضية لا تثبت للمبادئ الربانية.
ولئن حُرست هذه المبادئ الباطلة بالقوة الغاشمة فترة ما _ فلن تظل محروسة إلى الأبد؛ لأن حراسها سيدركهم التعب، وسوف ينتابهم ما يرخي قبضتهم الحديدية.
وقد ينخدع بالكذب أناس على أمل أن يُحَقَّق لهم شيءٌ، فإذا اكتشفوا أنه كسراب بقيعة كفروا به(1).
ثم إن سنة الله _ عز وجل _ لا تتبدل ولا تتحول؛ ومن تلك السنن أن الزبد يذهب جفاءاً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، والشيوعية زبد؛ فلا بد أن تذهب جفاء.
يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار × مبيناً مصير الشيوعية المحتوم، وذلك قبل أن تسقط بسنوات: =ومهما كان الأمر فمصير الشيوعيين المحتوم معروف، ولن يكون هذا المصير إلا الفناء نهاية مذاهب الهدم والتخريب.
وستتبدل الشيوعية على أيدي أتباعها قبل أن تتغير على أيدي أعدائها، ثم تلقى المصرع الذي يسلمها إلى القبر، فترتاح الإنسانية من هذا المذهب الباطل الهدام +(2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني متحدثاً عن ذلك المصير: =وإذا كان لنا أن نتنبأ عن المستقبل فإن لنا أن نقول: إن الشيوعية وأنظمتها ستتساقط في كل أرجاء العالم طال الزمن أو قصر متى وهنت القبضة الحديدية الخانقة لرقاب الشعوب المحكومة بها، أو متى استنفد الذين دفعوا إليها وأقاموا أنظمتها أغراضهم منها وغدت عبئاً عليهم، أو تعمل ضد مصالحهم+(3).
__________
(1) _ انظر مجلة البيان العدد 20 ص7 _1410هـ.
(2) _ الشيوعية والإسلام لأحمد عبد الغفور عطار ص213.
(3) _ الكيد الأحمر ص4.(1/300)
وهكذا صحت التوقعات، فتراجعت الشيوعية شيئاً فشيئاً، ثم سقطت ذلك السقوط المريع على يد الرئيس ميخائيل جورباتشوف فأين فردوس الشيوعية المنتظر! وأين تفسيرهم المادي للتاريخ؛ ليفسر لنا ذلك السقوط؟!
أولاً: الرد على مزاعم الشيوعية:
لقد اتضح من خلال ما مضى أن الشيوعية الماركسية مذهب إلحادي، لا يؤمن إلا بالمادة، ولا يعترف إلا بالمحسوس.
ومرَّ بنا كيف كان الشيوعيون ينظرون إلى الحياة من خلال المنظور المادي، وكيف كانوا يفسرون التاريخ تفسيراً مادياً، إلى غير ذلك من مبادئ الشيوعية وأعمالها.
والرد على مبادئ الشيوعية لا يحتاج إلى كبير جهد؛ ففسادها يغني عن إفسادها، وتصورها كافٍ في الرد عليها، وأدلة الشرع والعقل، والفطرة والواقع تنقض مبادئ الشيوعية.
ولقد مرَّ شيء من الرد على مبادئ الشيوعية من خلال عرضها، وفيما يلي ذكر لبعض التفصيل في الرد على مزاعم الشيوعية، ومبادئها، يتبين من خلاله بطلان هذا المذهب.
1_ الشرع: فأدلة الشرع أكبر برهان على بطلان الشيوعية، فهي تدل على وحدانية الله _ عز وجل _ وعلى صدق رسله _ عليهم السلام _.
فالله _ عز وجل _ أرسل الرسل من لدن نوح إلى محمد _ عليهم السلام _ بالتوحيد الخالص فكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده، وإفراده بالعبادة دون من سواه.
قال _تعالى_: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ](النحل:36)، وهذه الدعوة التي جاء به الرسل الكرام _ عليهم السلام _ توضح العلاقة بين العبد وربه، وتكفل للبشرية أن تعيش بسعادة وهناء.
ثم إن عبادة الله _عز وجل_ هي الغاية التي خلق من أجلها الجن والإنس، قال _تعالى_: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](الذاريات:56).(1/301)
ثم إن القرآن بإعجازه وببلاغة أسلوبه، وشدة تأثيره، وإخباره عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وتضمنه لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم، وصلاحه لكل زمان ومكان وأمة _ لأكبر برهان على بطلان الشيوعية التي تدعو إلى الإلحاد، وتكفر بكل دين.
إضافة إلى ذلك فالحقائق العلمية تشهد للقرآن والسنة بالصحة؛ فمع اتساع علوم الطبيعة وما استجد من العلوم العصرية لم يأت علم صحيح ينقض شيئاً مما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، مع أن الذي جاء بتلك الحقائق نبينا محمد الأمي "(1).
فالعلم الصحيح لا يناقض النقل الصحيح، بل يتفق معه تمام الاتفاق، كما لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبداً، وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة _ فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبداً(2).
وهذا ما قرره العلماء في القديم والحديث ولقد بنى شيخ الإسلام ابن تيمية × كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) على هذه القاعدة.
بل لقد صرح كثير من الكتاب الغربيين بهذه الحقيقة، ومنهم الكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم).
حيث قرر في ذلك الكتاب أن التوراة والإنجيل المحرفين الموجودين اليوم _ يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تفوق للقرآن الكريم سبق بها القرآن العلم الحديث.
وأثبت من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل يتفق معها تمام الاتفاق(3).
__________
(1) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص350.
(2) _ انظر مجموعة فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين 3/77.
(3) _ انظر التوراة والإنجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاي ترجمة الشيخ حسن خالد.(1/302)
وبالجملة فالكتاب والسنة كلاهما رد على الشيوعية والمقام لا يستدعي الإكثار من ذكر الآيات والأحاديث؛ فالحديث مع من يعظم الكتاب والسنة شيء، ومع من لا يراهما شيء آخر(1).
أما ما يروج له الشيوعيون من عزو التخلف الذي حل بالمسلمين إلى تمسكهم بالدين، ومن نسبة انحرافات المنتسبين للإسلام إلى نفسه؛ إرادة الطعن فيه، والتنفير عنه _ فتلك فرية عظمى، ويُرَدُّ عليها بما يلي:
أ _ أن حال المسلمين في عصورهم المتأخرة لا تمثل الإسلام حقيقة: فعلى من يريد الحقيقة بعدل وإنصاف _ أن ينظر إلى دين الإسلام نفسه، وما هو عليه من الإحكام والحسن، وما فيه من الهداية إلى كل خير، والتحذير من كل شر.
ب _ أن انحرافات المنتسبين للإسلام لا يعاب بها الإسلام، ولا تحسب عليه: فالشيوعيون يطعنون بالدين من خلال ما يرونه من انحرافات بعض المنتسبين للإسلام، كبدع الرافضة، وشطحات المتصوفة، وغيرهم ممن ينحرف به المسار، وينسب انحرافه إلى الدين.
ولاريب أن الدين براء من هذه التهم، فمن أراد الإسلام الحق فليطلبه من مصادره الصحيحة.
ج _ النظر في حال القائمين بالدين الحق: فالعدل يقتضي بأن ينظر في حال القائمين بالدين حق القيام، المنفذين لأوامره وأحكامه في أنفسهم وفي غيرهم كما كان الصدر الأول ومن تبعهم بإحسان.
فإن ذلك النظر يملأ القلب إجلالاً، والعين هيبة ووقاراً لهذا الدين وأهله المتمسكين به، العاملين بتعاليمه، مما يسر الناظرين، وتقوم به الحجة على المعاندين.
أما مجرد النظر إلى حال المسلمين التاركين لدينهم، الناكبين عن صراطه، الناكثين عهده فليس من العدل في شيء، بل هو الظلم بعينه؛ فالدين بريء من تبعة المنتسبين إليه دون أن يعملوا بما جاء به.
__________
(1) _ انظر تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله ص 474.(1/303)
د _ أن تأخر المسلمين ليس بسبب التمسك بالدين: بل إن العكس هو الصحيح؛ فلم يتأخر المسلمون عن ركب الحضارة إلا عندما فرطوا في دينهم، ونسوا حظاً مما ذكروا به؛ فهبطوا من عليائهم، ولقوا ذلاً بعد عز، وضعة بعد رفعة، وهبوطاً بعد شمم، وجهلاً بعد علم، وخمولاً بعد نباهة؛ فمن له أدنى بصيرة يعلم أن الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح في أمور الدين والدنيا، ويحث على الاستعداد في تعلم العلوم النافعة، ويدعو إلى كل ما من شأنه تقوية العزائم، وإنهاض الهمم؛ كي تقوى الأمة، وتتبوأ مكانها اللائق بها.
وإنه لمن الظلم، والتعصب المقيت، وقصور النظر أن ينظر إلى حال المسلمين في هذه الأوقات، فيظن أنها هي الصورة التي تمثل الإسلام.
فإذا أراد المرء أن ينظر بعدل فلينظر إلى الصدر الأول وما يليه من عصور العز؛ عندما دانت أمم الأرض للمسلمين، فنشروا فيها الرحمة، ورفعوا في سوحها لواء العدل والحكمة، فهفت إليهم القلوب قبل الأبدان، وخضعت لهم الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
وهل رقت أمم الغرب الآن، وبزت غيرها في الصناعات والاختراعات المذهلة إلا بعد أن استنارت عقولهم بعلوم المسلمين بعد الحروب الصليبية؟
ألم تكن تلك الأمم في غابر الأزمان، وفي القرون التي يسمونها القرون المظلمة في غاية الجهل والوحشية والهمجية؟
ألم يكن المسلمون وقت قيامهم بهذا الدين هم سادات الخلق ؟
ألم تكن مدنية الإسلام هي المدنية الزاهرة الحقيقية؟ حيث كان روحها الدين، والعدل والرحمة والحكمة، وقد شملت بظلها الظليل وإحسانها المتدفقِ الموافِقَ والمخالفَ والعدو والصديق؟
فهل أَخَّرهم دينهم، وهل منعهم الرقي الحقيقي؟ وهل نفع الآخرين كفرهم بالله في تلك القرون الطويلة؛ إذ كانوا هم الأذلين المخذولين؟(1/304)
ثم لما قصَّر المسلمون في الاستمساك بدينهم، وتفرقوا شيعاً، وارتقى الكفار في علوم المادة وفنون الصناعات، ووصلوا إلى شأن لم يسبق له مثيل _ هل أغنت عنهم تلك المدنية، وذلك الترقي فتيلاً؟ ألم تكن حضارتهم قائمة على الظلم، والجشع، والاستبداد، والاستبعاد، والقتل، والنفي، والتشريد؟
فهذا أكبر برهان على أن الرقي المادي ينقلب ضرراً إذا خلا من الدين الحق؛ لأن من انفرطت عليه مصالح دينه انفرطت عليه مصالح دنياه تبعاً لذلك.
ثم إن الملاحدة لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من الرقي بسبب نبذهم للدين، وإنما أوصلهم إلى ذلك جدهم، واجتهادهم، وأخذهم بالأسباب التي مَنْ أخذ بها وصل إلى غايته.
وبهذا يُرَدُّ على من زعم أن نَبْذَ الدين سبب للترقي.
2_ العقل الصحيح: فالعقل الصحيح يدل دلالة قاطعة على بطلان الشيوعية؛ فأهل العقول الصحيحة متفقون على أن أفضل المغانم والمكاسب ما اكتسبته القلوب، واستنارت به العقول من العلوم الصحيحة، والمعارف النافعة والإيمان الصادق، والأخلاق العالية، التي من اتصف بها كمل سؤدده وتناهى فضله إن كان فرداً والتي تسعد بها الأمة، ويرتفع شأنها، ويهاب جنابها.
ومعلوم أن الشيوعية تناقض العقل الصحيح في أعظم القضايا، ألا وهي قولها بالإلحاد، وإنكار الخالق، ودعوى أن الطبيعة مُوْجِدَةٌ لنفسها، أو أنها وجدت صدفة.
ومن نظر إلى هذا العالم، وما أودع الله فيها من المخلوقات المتنوعة، والحوادث المتجددة أدرك أن لهذا الكون خالقاً مُحْدِثاً وهو الله _ عز وجل _.
فالقسمة العقلية في هذا الصدد لا تخرج عن ثلاثة أمور:
أ _ إما أن تُوْجَدَ هذه المخلوقات صدفة من غير مُحدث ولا خالق.(1/305)
وهذا محال ممتنع يجزم العقل ببطلانه؛ لأن كل من له عقل يعلم أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير مُحْدِث، ولا موجد، ولأن وجودها على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات، وبين الكائنات بعضها مع بعض _ يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة.
ب _ وإما أن تكون هي المحدثة لنفسها الخالقة لها، وهذا محال ممتنع _ أيضاً _ فكل عاقل يجزم أن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم؛ فكيف يكون خالقاً؟!
وإذا بطل هذان القسمان تعين الثالث:
ج _ وهو أن هذه المخلوقات لها خالق خلقها، ومُحْدِثٌ أحدثها، وهو الرب العظيم الخالق لكل شيء، المدبر للأمور كلها.
وقد ذكر الله هذا التقسيم العقلي القاطع في سورة الطور، قال _ تعالى _:[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُون](الطور:35).
يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولاهم الذين خلقوا أنفسهم؛ فتعين أن يكون خالقهم هو الله _ تبارك وتعالى _.
فالمخلوق لابد له من خالق، والأثر لابد له من مُؤَثِّر، والمحدَثُ لابد له من مُحْدِث، والمُوْجَدُ لابد له من مُوجِد، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل.
هذه قضايا واضحة تُعرف في بداهة العقول، ويشترك في العلم بها جميع العقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية؛ فمن ارتاب بها فقد دل على اختلال عقله، وبرهن على سفهه وفساد تصوره(1).
__________
(1) _ انظر الرياض الناضرة لابن سعدي ص 194، ونبذة في العقيدة الإسلامية للشيخ محمد ابن عثيمين ص 11_15، ورسائل في العقيدة للكاتب ص 15_20.(1/306)
ومن نظر في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) الذي كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه الأمور، وكتاب (الإنسان لا يقوم وحده) لكريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، وتُرجم إلى العربية بعنوان: (العلم يدعو إلى الإيمان) _ يدرك أن العالِم الحقيقي لا يكون إلا مؤمناً، وأن العامي لا يكون إلا مؤمناً، وأن الإلحاد والكفر لا يكون إلا من المكابرين المعاندين، ومن بعض أنصاف العلماء وأرباع العلماء، ممن تعلم قليلاً من العلم المادي وخسر بذلك الفطرة المؤمنة ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان(1).
وبهذا يتبين لنا أن العقل يدل على وحدانية الله، وعلى بطلان دعاوى الشيوعية، وسفاهة عقولهم.
إن الشيوعية خرافة، وشرط الخرافة أن تلغي عقلك تماماً، وتستسلم لتعاليم سادتها.
يقول ريتشارد كروسمان في مقدمة كتاب (الصنم الذي هوى)(2): =فإن من يدخل الشيوعية يُخْضِع روحه لشريعة الكرملين(3)ويحس في ذلك شيئاً من الخلاصِ.
وإذا تم هذا فإن العقل _بدلاً من أن يعمل ويفكر بحرية_ يصبح عبداً للغاية التي لا تناقش، ولا تعارض، ويصبح إنكار الحقائق الواضحة شعيرة وعبادة+ (4).
__________
(1) _ انظر كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعات الأرض، أشرف على تحريره جون كلوفر مونسيما ترجمة د. الدمرداش عبدالمجيد سرحان، راجعه وعلق عليه د. محمد جمال الدين الفندي.
وانظر إلى كتاب:=العلم يدعو للإيمان+ تأليف كريسي موريسون،ترجمة محمد صالح الفلكي.والكتابان من منشورات دار القلم بيروت.
(2) _ سيأتي تعريف بالكتاب بعد قليل.
(3) _ الكرملين: يطلق على قصر الحزب الشيوعي الحاكم، ويطلق على الحكومية الروسية.
(4) _ الصنم الذي هوى ص 9.(1/307)
3_ الفطرة: فالفطرة تدل على بطلان الشيوعية؛ فكل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه.
فالفطرة تدل على أن البشر جميعاً فطروا على عقيدة التوحيد، والاتجاه إلى الله _ سبحانه وتعالى _ ولم يفطروا على ماركسية، أو رأسمالية، أو داروينية، أو غيرها.
ثم إن الله _ عز وجل _ بعث الرسل، وأنزل الكتب لتقرير الفطرة؛ فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكمَّلَةِ بالشِّرْعَة المنزلة(1).
قال النبي ": =مامن مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه+(2).
وفي حديث عياض بن حمار ÷ يقول _ تعالى _: في الحديث القدسي: =وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم+(3).
ثم إن الإنسان مفطور على اللجوء إلى ربه _ تبارك وتعالى _ عند الشدائد؛ فإذا ما وقع الإنسان _ أي إنسان حتى الكافر الملحد _ في شدة أو أحدق به خطر _ فإن الخيالات تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فطر عليه؛ ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه منادياً ربه؛ ليفرج كربته.
وصدق الله إذ يقول: [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ](العنكبوت: 65).
__________
(1) _ انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/371، وشفاء العليل لابن القيم ص 57_75، ونبذة في العقيدة الإسلامية ص11.
(2) _ رواه البخاري 2/97، ومسلم (2658).
(3) _ رواه مسلم(2865).(1/308)
ثم إنه لو قدِّر لأي إنسان أي يتجرد من كل عقيدة، ويصير قلبه خالياً من كل حق وباطل، ثم ينظر في العقائد بحق وعدل وإنصاف _ لَعَلِمَ علم اليقين أن عقائد الشيوعيين أحط العقائد وأخسها، ولاتَّضح له الفرق العظيم، والبون البعيد بين عقائد الإسلام الصحيحة وبين سائر العقائد وخصوصاً عقائد الملاحدة الشيوعيين، فمتى علم المنصف ذلك عرف أنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
وهكذا تشهد الفطرة على بطلان الشيوعية في أعظم القضايا وهي مسألة الإيمان بالله.
إضافة إلى ذلك فإن بقية دعاوى الشيوعية تنافي الفطرة، ومن ذلك _ على سبيل المثال _ قولهم بإلغاء الملكية الفردية.
يقول الشيخ عبد العزيز البدري ×: =وأما إلغاء الملكية الفردية جزئياً وبعبارة _ كما يقولون _ تحديد التملك الفردي _ فإن الدارس لهذا القول يجد أنه يعني تحديد التملك الفردي بالكمية والمقدار.
وهذا _ أيضاً _ مناقض للفطرة البشرية، ومخالف للأحكام الشرعية كما تفهم من نصوص الشرع؛ حيث إن هذا التحديد والإلغاء الجزئي يَحُدُّ من نشاط الفرد، ويعطل جهوده، ويقتل عبقريته ومواهبه في حسن الإنتاج والإبداع فيه، وبالتالي يقلل من إنتاجه ويوقفه عند نشاط معين لا يتجاوزه.
وبذلك يحرم من مواصلة نشاطه الذهني والجسمي، وعند ذاك تخسر الأمة بمجموعها كفاءة الأفراد المجدين+(1).
وقال الدكتور محمد محمد حسين × بعد أن ذكر شيئاً من مساوئ الشيوعية: =وليس ها هنا مجال الرد على دعاواهم، ويكفي أن نقول في إيجاز: إن دعوتهم تنزل بالنوع البشري إلى الحيوانية؛ لأنها تهمل الجانب الروحي في الإنسان؛ الذي هو به إنسان؛ فهي خرافة لا سبيل إلى تحقيقها؛ لأنها مخالفة للناموس؛ فالناس متباينون: قوة بدن، وذكاءاً، وخلقاً، وفطرة.
__________
(1) _ حكم الاشتراكية في الإسلام ص82.(1/309)
والله _سبحانه وتعالى_ يقول في محكم كتابه: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] (الأنعام: 165).
ويقول _ جلت قدرته _: [وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ](النحل: 71).
ويقول: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ](الزخرف: 32_ 35) (1).
__________
(1) _ الإسلام والحضارة الغربية د. محمد محمد حسين ص 183_184.(1/310)
وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي×: =دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا كقوله _ تعالى _ [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ] (الزخرف:32) وقوله:[وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ](النحل:74)، ونحو ذلك من الآيات _ على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سُنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه، [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر:43)(1).
قال ×: =وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات، والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم _ أمر باطل، لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاؤوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيدهم يعلفون ببطاقة كما تعلف الحمير.
__________
(1) _ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي7/246.(1/311)
وقد عَلِم الله _ جل وعلا _ في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى _ جل وعلا _ عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأَوْعَدَ من لم ينته عن ذلك بقوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً](النساء:135)(1).
4_ أن الأمور المدركة لا تحصر بالمادة وحدها: فالملاحدة لما آمنوا بالمادة وحدها حصروا الأمور المدركة في دائرة ضيقة؛ فما أدركوه في حواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه نفوه وأنكروه.
ومن أجل ذلك أنكروا علوم الغيب، وما جاءت به الرسل، وما أنزلت به الكتب.
وهذا الزعم باطل، شرعاً، وعقلاً، وتجربة؛ ذلك أن الأمور المدركة لا تقتصر على ما أثبته الحس؛ فهناك مدارك أخرى؛ فهناك الأخبار الصادقة، وأعلاها وأحقها خبر الله ورسله؛ ففي ذلك تبيان لكل شيء.
وإذا نسبت العلوم المدركة بالحس إلى ما جاءت به الرسل من العلوم _ كانت كقطرة في بحر لجي.
ثم إن هناك أشياء يؤمن بها الناس وإن لم يشاهدوها كالروح مثلاً؛ فهي لا ترى ومع ذلك لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؛ فهل ينكر الروح أحد بحجة أنها لا تدخل في المحسوس؟
وكذلك الكهرباء؛ فهل شاهدها أحد؛ إنما يشاهد الناس أثرها، أتكون الكهرباء أيسر أن نؤمن بها وأقرب إلى أن نصدق بها من أن نؤمن بالله الذي أبدعها ضمن ما أبدع من أسرار هذا الكون ؟
__________
(1) _ أضواء البيان 7/246_247.(1/312)
ثم إن الملاحدة ينقضون مبدأهم في حصر الإدراك بالمحسوس، والتجربة؛ فهم يثبتون تجارب ونظريات ثم تحصل تجارب ونظريات أخرى لهم تنفي ما أثبتوه، وتثبت ما نفوه(1).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي × ضمن ردوده على الملاحدة: =أن يقال لهؤلاء الملحدين المنكرين لأمور الغيب التي أخبر بها الله ورسوله: لم أنكرتموها؟
فيجيبون بأنها لم تدخل تحت علومنا التي بنيناها على إدراكات الحواس والتجارب، فيقال لهم: قدروا أنها لم تدخل في ذلك؛ فإن طرق العلم اليقينية كثيرة، وأكثرها لا تدخل تحت إدراكاتكم؛ فإن إدراكاتكم قاصرة حتى باعترافكم فإنكم تعترفون أن مدركاتكم خاصة ببعض المواد الأرضية وأسبابها وعللها، ومع ذلك لم تدركوها كلها باعترافكم وأعمالكم؛ فإنكم لا تزالون تبحثون وتعملون التجارب التي تنجح مرة، وتخفق مرات؛ فإذا كانت هذه حالكم في الأسباب والمواد الأرضية التي يشترك بنو آدم في إدراكها، ويفترقون في مقدار الإدراك _ فكيف تنفون بقية العوالم عوالم السماوات وعوالم الغيب؟ وما هو أعظم من ذلك من أوصاف الرب وعظمته، وأنتم لم يتصل شيء من علومكم بذلك؟ فإن هذا النفي باطل بإجماع العقلاء، وإنما هذا مكابرة+(2).
5_ كثرة التناقض: فالتناقض عند الشيوعيين لا يكاد يحصر وذلك أمر لا بد منه؛ فالمبدأ باطل من أساسه؛ فلابد من التناقض؛ فإذا تهاوى الأساس تداعت الأركان.
فالحق يشبه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، أما الباطل فيتناقض، ويهدم بعضه بعضاً، وتجد أهله متناقضين مختلفين، بل تجد الواحد منهم متناقضاً مع نفسه، متهافتاً في أقواله(3).
ومن الأمثلة على تناقضهم دعواهم محاربة الدين، وقولهم: إن الدين أفيون الشعوب.
ومع ذلك فإن روسيا أول من اعترف بدولة دينية تحكمها التوراة المحرفة، وقامت على أساس ديني، وهي دولة إسرائيل.
__________
(1) _ انظر المذاهب المعاصرة ص 142.
(2) _ الأدلة والقواطع والبراهين ص 322.
(3) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 348.(1/313)
كذلك لما اشتد ضغط هتلر على روسيا إبان الحرب العالمية الثانية دعا ستالين إلى فتح المساجد والمعابد للصلاة، والعبادة [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ](العنكبوت:65).
ومن أمثلة تناقضهم قولهم بالحتميات، وأن الأشياء تتطور ثم تزول سواء كانت فكرة أو مبدأ، أو غير ذلك.
وفي الوقت نفسه يزعمون بأن الشيوعية هي نهاية المطاف والفردوس المنتظر.
فإذا كانوا يقولون بالحتميات فإن الشيوعية داخلة فيما يقولون؛ لأنها مبدأ وفكرة، ومصيرها الحتمي الزوال، وهو ما حدث بالفعل؛ فأين الفردوس المنتظر؟
ومن الأمثلة على تناقضهم زعمهم أنهم يحاربون الطبقية، ومع ذلك فإن الطبقية في المجتمع الشيوعي قائمة على أشدها، وقد مر بنا كيف كان العمال وعامة الناس في المجتمع الشيوعي يعيشون عيشة الشظف في الوقت الذي يتمتع أعضاء الحزب الشيوعي بأقصى درجات الترف والنعيم.
6_ الإخفاق في التطبيق: فهذا دليل على بطلانها، ولقد مر بنا كيف كان حال المجتمع الشيوعي بعد تطبيق الشيوعية.
لقد عجز الشيوعيون عن تطبيق المساواة، وعجزوا عن إسعاد المجتمع، وحل مشكلاته؛ فكلما خرجوا من نفق دخلوا في نفق آخر أشدَّ حلوكة، وكلما حلوا مشكلة نتج عنها مشكلات، وكلما ولوا وجوههم وجهة تبين فيها النقص والخلل والاضطراب.
[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً](النساء:82).
أين هذا من دين الإسلام، الذي هو الطريق الوحيد لحل جميع المشكلات، سواء مشكلات العلم، أو مشكلات الفقر، أو مشكلات السياسة أو غيرها من المشكلات.
فمن المشكلات التي اضطرب فيها الخلق مشكلة العلم؛ فإنه إذا صح صحت العقائد والأفكار، وصلحت الأعمال المبنية عليه.(1/314)
وشريعة الإسلام حضت على العلم، بل فرضت على العباد أن يتعلموا جميع العلوم النافعة في أمور دينهم ودنياهم، وتكفلت مع ذلك ببيان العلوم وتفصيلاتها.
أما علوم الدين فقد فصلتها تفصيلاً بعد ما أصلتها تأصيلاً، وأما العلوم الدنيوية فقد أسست لها الأصول والقواعد.
وبهذا يسير العلم الصحيح على الطريق المستقيم؛ فيجتمع علم الدين إلى علم الدنيا، وما يتعلق بالروح إلى ما يتعلق بالجسد.
قال _ تعالى _: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...](الإسراء:9)، وقال: [وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ](الأحزاب:4).
فجمع _ عز وجل _ في هاتين الآيتين بين علم المسائل الصحيحة وهو الحق النافع، وبين علم البراهين وهو هداية السبيل الموصلة إلى كل علم، المبرهنة على جميع المعارف.
وكذلك مشكلات الغنى والفقر؛ فالدين قد حلها حلاً تتم به الأمور، وتحصل الحياة الطيبة؛ فكما أمر بسلوك الطرق المشروعة في أسباب الرزق المناسبة لكل زمان ومكان وشخص _ فكذلك أمر بالاستعانة بالله في تحصيلها، وأن تجتنب الطرق المحرمة، وأن يقوم العباد بواجبات الغنى المتنوعة من زكاة وصدقة، ونحوها.
وكذلك عند حلول الفقر أمر بالصبر، وترك التسخط، مع السعي في طلب الرزق بأنواع المكاسب والأعمال ونهى عن الكسل المضر بالدين والدنيا.
ومع أمره بالصبر وفعل الأسباب الدافعة للفقر _ نهى عن ظلم الخلق في دمائهم وأعراضهم، وأخذ حقوقهم بغير حق كما هو دأب الفقراء الذين لا دين لهم.
ومن ذلك مشكلات السياسات الكبار والصغار؛ فالشيوعية تقوم على البطش والاستبداد.
أما الإسلام فقد أمر بحلها، وذكر الطرق الموصلة إلى ذلك بفعل ما توضحت مصلحته، وترك ما تبينت مفسدته، والمشاورة في الأمور المشكلة والمشتبهة.(1/315)
وبالجملة فما من مشكلة دقت أوجلت إلا وفي الشريعة الإسلامية المحضة حلها بما تصلح به الأحوال، وتستقيم في جميع الوجوه(1).
7_ قواعد الأخلاق العامة: فهي ترد على دعاوي الشيوعية وتبطلها؛ فأين الشيوعية من الصدق في الأقوال والأفعال؟ وأين هي من النصيحة والأمانة، والبر، والصلة، والقيام بحقوق الجيران، والأصحاب والمعامَلين، ومن يتصل الإنسان بهم على اختلاف طبقاتهم ؟.
وأين هي من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء، والبغي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟.
وأين هي من الوفاء بالعهود، والحقوق، والعقود؟.
إنها دعوة تقوم على العداوات بين الطبقات وتأليب بعضهم على بعض.
والمجتمعُ الإنساني المطمئن لا يقوم إلا على التوادد والتراحم، والتآخي(2).
ومن هنا يستحيل أن تتزكى النفوس، وتتهذب الأخلاق بعلوم المادة؛ فكل إناء بما فيه ينضح، والتجارب أكبر شاهد على ذلك؛ فمع تطور علوم الملاحدة عجزوا كل العجز عن تهذيب النفوس وإصلاحها.
8_ سيرة أرباب الشيوعية: فلقد مر بنا شيء من سيرة أرباب الشيوعية وأساطينها، وما كانوا عليه من الشذوذ والفساد، والتسلط والطغيان، فكم هدموا من فضائل، وكم أقاموا من شرور ورذائل، حتى هبطوا بالبشرية إلى أسفل سافلين، فَشَقُوا وأَشْقَوا، وضلوا وأضلوا؛ فماذا يرجى من مذهب هؤلاء أربابه ومُنَظِّروه؟
ثم إن أكبر الدلائل على رشد الرشيد، وسفه السفيه تصرفاتُه، ونتائج أعماله.
وهذه آثار الشيوعيين تدل عليهم؛ فأين سير هؤلاء من سير الأنبياء _ عليهم السلام _ وأتباعهم؛ حيث هَدَوا البشرية إلى كل عقيدة صالحة، وإلى كل خلق جميل، ونهوا عن ضد ذلك؛ فانتشرت الرحمة، وعم الصلاح بسبب ما جاؤوا به، بعكس الشيوعيين تماماً بتمام.
__________
(1) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 346.
(2) _ انظر الأدلة والقواطع والبراهين ص 337 والإسلام والحضارة الغربية ص 184.(1/316)
9_ كثرة الخلافات بين الشيوعيين: سواء بين أرباب الشيوعية أو بين دول المعسكر الشيوعي، مما يدل على بطلانها، وزيفها وقد مر شيء من ذلك فيما سبق.
10_ رجوع كثير من كتاب الشيوعية عنها، واعترافهم ببطلانها:
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب (الصنم الذي(1) هوى) ذلك الكتاب الذي اجتمع على تأليفه _ دون موعد _ ستة من كبار كتاب الغرب، آمنوا بالشيوعية، ثم نفضوا أيديهم منها يوم أن انكشفت لهم حقيقتها.
وإليك نماذج من بعض ما قالوه عن الشيوعية:
أ _ يقول آرثر كستلر (2) _ بعد تجربته مع الشيوعية ودخوله فيها بعد خروجه من السجن _: = إن الدرس الذي يتعلم الإنسان من خبرة كهذه لا يكاد الإنسان يضعه في كلمات حتى يبدوا أمراً عادياً؛ لقد تعلمت أن الإنسان هو الحقيقة، أما الإنسانية فتجريد، وأن الناس لا يمكن أن يعاملوا على أنهم وحدات في عملية حساب سياسية؛ لأنهم يتصرفون كرموز الصفر، واللانهائي التي تعطل كل العمليات الرياضية، وأن الغاية لا تبرر الواسطة إلا في حدود ضيقة إلى أبعد الحدود، وأن علم الأخلاق ليس شيئاً تابعاً للمنفعة الاجتماعية، وأن البر ليس عاطفة بورجوازية تافهة، بل هو القوة الجاذبة التي تمسك المدنية في مدارها.
لقد كان كل ما تعلمته يتناقض مع العقيدة الشيوعية التي آمنت بها+ (3).
__________
(1) _ نقل الكتاب إلى العربية الأستاذ فؤاد حمودة المدرس بجامعة دمشق، والكتاب من منشورات المكتب الإسلامي ط1 _ 1380هـ _1960م .
(2) _ مرت ترجمته ص502.
(3) _ الصنم الذي هوى ص 82.(1/317)
ب _ ويقول لويس فيشر(1) بعد تجربته مع الشيوعية: =إن تأييدي السابق للنظام السوفيتي قادني إلى خطأ آخر حين ظننت أن نظاماً يقوم على قاعدة (الغاية تبرر الواسطة) يمكن أن يخلق عالماً أفضل، أو إنساناً أفضل؛ إن الواسطة الفاجرة لا تؤدي إلا إلى غاية فاجرة، وأفرادٍ فجرة سواء في النظام البلشفي أو الرأسمالي+ إلى أن قال: =إن الدكتاتورية ترتكز على نهر من الدماء، وبحر من الدموع، وعالم من الآلام.
وكلها نتائج لوسائلها القاسية؛ فكيف تستطيع _ إذن _ أن تجلب الفرح، أو الحرية، أو السلام الداخلي أو الخارجي؟
كيف يمكن للخوف، والسطوة، والأكاذيب والبؤس أن تخلق إنساناً أفضل.
إن السنوات التي قضيتها مؤيداً للنظام السوفيتي علمتني أنه لاينبغي لرجل يحب البشرية ويحب السلام أن يؤيد الدكتاتورية+(2).
__________
(1) _ لويس فيشر: ولد في فيلادلفيا عام1896م واشتغل بالتدريس بضع سنوات واحترف الصحافة، و أرسلته الـ =نيويورك بوست+ إلى برلين عام 1921م وبعدها قضى خمسة وعشرون عاماً متنقلا في مهمات بين أوروبا وآسيا، ورغم أنه لم ينضم إلى الحزب الشيوعي أبداً إلا أنه أصبح نصيرا ً للاتحاد السوفييتي، ثم أصبح نصيرا لأسبانيا الجمهورية التي دافع عنها خلال الحرب الأهلية، ومن بين مؤلفاته (السوفيتون في الشؤون العالمية) و(الناس والسياسية) و(الخطر العظيم) و(غاندي وستالين) انظر الصنم الذي هوى ص 238.
(2) _ الصنم الذي هوى ص 277.(1/318)
ج _ وهذا ستيفن(1) سبندر يقول بعد انفصاله عن الحزب الشيوعي: =إن الشيوعية هي الإيمان بأن في الإمكان تغيير المجتمع عن طريق تحويل الرجال إلى آلات تقوم هي بتغيير المجتمع +(2).
وهكذا يتبين لنا بطلان الشيوعية جملة وتفصيلاً.
ثانياً: حكم الانتماء إلى الشيوعية _ فتوى المجمع الفقهي _:
وبعد أن تبين لنا أن الشيوعية مذهب كفري باطل، بل يعد أحط المذاهب الكفرية على مدار التاريخ_ نأتي إلى حكم الانتماء إلى ذلك المذهب من خلال فتوى المجمع الفقهي الإسلامي، فلقد عرض موضوع الشيوعية على مجلس المجمع في دورته الأولى المنعقدة في 10_ 17/8/1398هـ.
وبعد أن استعرض المجلس ذلك الموضوع أصدر فيه قراراً بيَّن فيه حكم الشيوعية والانتماء إليها، وهذا نصه(3) :
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي درس فيما درسه من أمور خطيرة (موضوع الشيوعية والاشتراكية) وما يتعرض له العالم الإسلامي من مشكلات الغزو الفكري على صعيد كيان الدول، وعلى صعيد نشأة الأفراد وعقائدهم، وما تتعرض له تلك الدول والشعوب معاً من أخطار تترتب على عدم التنبه إلى مخاطر هذا الغزو الخطير.
__________
(1) _ ستيفين سبندر ولد في عام 1909م وأبوه الكاتب إدوارد هارولد سبندر، وقد تعلم في سويسرا فترة ثم في أكسفورد، حيث بدأ بالاشتراك مع =ديا ليسو+، و =أودن+ بكتابة الشعر، وبعد ذلك اشتغل بالحركة السياسية، ونشر كتاب خطوة وراء مذهب الأحرار في عام 1937م ثم انضم بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي لفترة قصيرة ،انظر الصنم الذي هوى ص 282.
(2) _ الصنم الذي هوى ص 333.
(3) _ قرارات مجلس المجمع الفقهي ص33.(1/319)
ولقد رأى المجمع الفقهي أن كثيراً من الدول في العالم الإسلامي تعاني فراغاً فكرياً، وعقائدياً خاصة أن هذه الأفكار والعقائد المستوردة قد أُعِدَّت بطريقة نفذت إلى المجتمعات الإسلامية، وأحدثت فيها خللاً في العقائد، وانحلالاً في التفكير والسلوك، وتحطيماً للقيم الإنسانية، وزعزعة لكل مقومات الخير في المجتمع.
وإنه ليبدو واضحاً جلياً أن الدول الكبرى على اختلاف نظمها واتجاهها قد حاولت جاهدة تمزيق شمل كل دولة تنتسب للإسلام؛ عداوة له، وخوفاً من امتداده، ويقظة أهله.
لذا ركزت جميع الدول المعادية للإسلام على أمرين مهمين: هما العقائد والأخلاق؛ ففي ميدان العقائد شجعت كل من يعتنق المبدأ الشيوعي المعبر عنه مبدئياً عند كثيرين بالاشتراكية، فجندت له الإذاعات والصحف، والدعايات البراقة والكتّاب المأجورين، وسمَّته حيناً بالحرية، وحيناً بالتقدمية، وحيناً بالديمقراطية، وغير ذلك من الألفاظ.
وسَمَّتْ كل ما يضاد ذلك من إصلاحات ومحافظة على القيم والمثل السامية والتعاليم الإسلامية _ رجعية، وتأخراً وانتهازية، ونحو ذلك.
وفي ميدان الأخلاق دعت إلى الإباحية، واختلاط الجنسين، وسمت ذلك _أيضاً_ تقدماً، وحرية، فهي تعرف تمام المعرفة أنها متى قضت على الدين والأخلاق فقد تمكنت من السيطرة الفكرية والمادية والسياسية.
وإذا ما تم ذلك لها تمكنت من السيطرة التامة على جميع مقومات الخير والإصلاح، وصرَّفتها كما تشاء، فانبثق ذلك الصراع الفكري، والعقائدي والسياسي، وقامت بتقوية الجانب الموالي لها، وأمدته بالمال، والسلاح والدعاية؛ حتى يتمركز في مجتمعه، ويسيطر على الحكم، ثم لا تسأل عما يحدث بعد ذلك من تقتيل وتشريد، وكبت للحريات، وسجن لكل ذي دين، أو خلق كريم.(1/320)
ولهذا لما كان الغزو الشيوعي قد اجتاح دولاً إسلامية لم تتحصن بمقوماتها الدينية والأخلاقية تجاهه، وكان على المجمع الفقهي في حدود اختصاصه العلمي والديني أن ينبه إلى المخاطر، والتي تترتب على هذا الغزو الفكري، والعقائدي والسياسي الخطير الذي يتم بمختلف الوسائل الإعلامية والعسكرية وغيرها _ فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة يقرر ما يلي:
يرى مجلس المجمع لفت نظر دول وشعوب العالم الإسلامي إلى أنه من المسلَّم به يقيناً أن الشيوعية منافية للإسلام، وأن اعتناقها كفر بالدين الذي ارتضاه الله لعباده، وهي هدم للمثل الإنسانية، والقيم الأخلاقية، وانحلال للمجتمعات البشرية.
والشريعة المحمدية هي خاتمة الأديان السماوية، وقد أنزلت من لدن حكيم حميد؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي نظام كامل للدولة سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، واقتصادياً، وستظل هي المعول عليها _ بإذن الله _ للتخلص من جميع الشرور التي مزقت المسلمين، وفتت وحدتهم، وفرقت شملهم، سيما في المجتمعات التي عرفت الإسلام، ثم جعلته وراءها ظهرياً.
لهذا وغيره كان الإسلام بالذات هو محل هجوم عنيف من الغزو الشيوعي الاشتراكي الخطير؛ بقصد القضاء على مبادئه، ومثله، ودوله.
لذا فإن المجلس يوصي الدول والشعوب الإسلامية أن تتنبه إلى وجوب مكافحة هذا الخطر الداهم بالوسائل المختلفة، ومنها الأمور الآتية:
1_ إعادة النظر بأقصى السرعة في جميع برامج ومناهج التعليم المطبقة حالياً فيها بعد أن ثبت أنه قد تسرب إلى بعض هذه البرامج والمناهج أفكار إلحادية وشيوعية مسمومة مدسوسة تحارب الدول الإسلامية في عقر دارها، وعلى يد نفرٍ من أبنائها من معلمين، ومؤلفين، وغيرهم.(1/321)
2_ إعادة النظر بأقصى السرعة في جميع الأجهزة في الدول الإسلامية، وبخاصة في دوائر الإعلام والاقتصاد والتجارة الداخلية، والخارجية وأجهزة الإدارات المحلية من أجل تنقيتها وتقويمها، ووضع أسسها على القواعد الإسلامية الصحيحة التي تعمل على حفظ كيان الدول والشعوب، وإنقاذ المجتمعات من الحقد، والبغضاء وتنشر بينهم روح الأخوة، والتعاون، والصفاء.
3_ الإهابة بالدول والشعوب الإسلامية أن تعمل على إعداد مدارس متخصصة، وتكوين دعاة أمناء؛ من أجل الاستعداد لمحاربة هذا الغزو بشتى صوره، ومقابلته بدراسات عميقة ميسرة لكل راغب بالاطلاع على حقيقة الغزو الأجنبي ومخاطره من جهة، وعلى حقائق الإسلام وكنوزه من جهة أخرى.
ومن ثمَّ فإن هذه المدارس، وأولئك الدعاة كلما تكاثروا في أي بلد إسلامي يرجى أن يقضوا على هذه الأفكار المنحرفة الغريبة.
وبذلك يقوم صف علمي عملي منظم واقعي؛ من أجل التحصن ضد جميع التيارات التي تستهدف هذه البقية من مقومات الإسلام في نفوس الناس.
كما يهيب المجلس بعلماء المسلمين في كل مكان، وبالمنظمات والهيئات الإسلامية في العالم أن يقوموا بمحاربة هذه الأفكار الإلحادية الخطيرة التي تستهدف دينهم، وعقائدهم، وشريعتهم، وتريد القضاء عليهم وعلى أوطانهم وأن يوضحوا للناس حقيقة الاشتراكية، والشيوعية، وأنها حرب على الإسلام.
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الرئيس/ عبدالله بن محمد بن حميد.
نائب الرئيس/ محمد بن على الحركان. ...
الأعضاء:
1_ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. ... 2_ محمد محمود الصواف.
3_ صالح بن عثيمين. ... ... 4_ محمد بن عبد الله بن سبيل.
5_ محمد رشيد قباني. ... ... 6_ مصطفى الزرقاء.
7_ محمد رشيدي. ... ... ... 8_ عبد القدوس الهاشمي الندوي.
9_ أبو بكر جومي.(1/322)
وفي نهاية الحديث عن الشيوعية خلال ما مضى من صفحات _ هذا ملخص لأهم ما جاء في تلك الصفحات:
1_ كلمة الشيوعية في اللغة نسبة إلى الشيوع، وهي مأخوذة من مادة شيع، وهذه المادة تدور حول عدة معانٍ، فتطلق على الظهور والانتشار والذيوع، والعموم، والشراكة والتفرق، والافتراق.
2_ الشيوعية في الاصطلاح العام: نظام يقوم على إلغاء الملكية الفردية، وعلى حق الناس في الاشتراك في المال، والنساء، وسائر المكتسبات والثروات.
3_ الشيوعية فكرة قديمة ظهرت في التاريخ أكثر من مرة على اختلاف في تطبيقها، والدعوة إليها؛ فلقد دعا أفلاطون إلى شيوعية المال والنساء، وقال بالشيوعية مزدك حيث دعا إلى اشتراك الناس بالمال والنساء، وتسمى حركته المزدكية، كما دعا إلى الشيوعية القرامطة الباطنية حيث دعوا إلى الإباحية والاشتراك في النساء، ثم توالت الدعوات على أيدي بعض الأفراد من الكتاب إلى أن ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة.
4_ الشيوعية الماركسية حركة يهودية أسسها كارل ماركس في القرن التاسع عشر الميلادي وطبقها من جاء بعهده من زعماء الشيوعية، وتقوم على الإلحاد، وإلغاء الملكية الفردية، وتنظر إلى الحياة من منظور مادي، وتسعى إلى تحقيق أهدافها بالحديد والنار، وبكل ما أوتيت من وسائل.
5_ من أشهر شخصيات الماركسية كارل ماركس، وفريديك إنجلز، ولينين، وستالين، وتروتسكي، وخروتشوف، وبريجنيف، وأندربوف، وجورباتشوف، الذي انهارت على يده الشيوعية.
6_ قامت الشيوعية لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بالمجتمع الذي نشأت فيه، ومنها ما يعود إلى شخصية مؤسسيها، ومنها أسباب خارجة أخرى.
7_ من أسباب قيام الشيوعية: الطغيان الكنسي، ومظالم النظام الرأسمالي، والخواء الروحي، والمكر اليهودي، والجهل بدين الإسلام، والهالة الإعلامية للشيوعية.
8_ الشيوعية تنتشر في أماكن كثيرة من العالم سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول.(1/323)
9_ تقوم الشيوعية على معتقدات باطلة، وأصول وأسس واهية، لايقرها عقل صحيح، ولا فطرة سليمة، فضلاً عن النقل الصحيح.
10_ أخلاق الشيوعية تقوم على المصالح؛ فالغاية تسوغ الواسطة لديهم.
11_ من أخلاقهم المنحطة: البطش، والجبروت والخيانة، والغدر، والظلم، والتفنن في التعذيب، والتعطش لسفك الدماء.
12_ قامت الشيوعية لأهداف متعددة أهمها خدمة المصالح اليهودية، ونشر الإلحاد، وبث الإباحية، والقضاء على الحياة الأسرية، ومعارضة الملكية الفردية.
13_ للشيوعية وسائل متعددة متنوعة توصلوا من خلالها إلى تحقيق أهدافهم.
14_ الشيوعية تقف ضد الإسلام، وتعاديه أشد المعاداة، ولها طرق عديدة في حرب الإسلام وأهله، بهدف القضاء المبرم على الإسلام، أو الحد من انتشاره.
15_ قامت الشيوعية بأعمال فظيعة، ومجازر رهيبة، وحصل للمسلمين بسببهم نكبات عديدة.
16_ تسللت الشيوعية إلى بلاد المسلمين واعتنقها ودعا إليها فئام من المسلمين بسبب الدعاية القوية، وانحراف كثير من المسلمين عن دينهم، وتقصيرهم في الدعوة إليه، والجهادِ في سبيل الله، وبسبب الهزيمة النفسية، وكثرة الخلافات، وانتشار البدع والخرافات، وبسبب سقوط الخلافة الإسلامية، وخيانة العملاء، وتركيز الغرب على إفساد المرأة والتعليم والإعلام في بلاد الإسلام إلى غير ذلك من الأسباب.
17_ لما قامت الشيوعية أسفرت عن وجهها الكالح، فلم تطبق ما دعت إليه من العدل والمساواة، وغير ذلك، وإنما كانت دعاواهم مجرد شعارات براقة يخدعون بها السُّذَّج؛ فلقد وقعوا في الطبقية، والتسلط، والاستبداد.
18_ عاش المجتمع الشيوعي بعد التطبيق عيشة الخوف والرعب؛ حيث التجسس والرقابة الصارمة، وغياب شموس الحرية، وإهدار كرامة المرأة، وتخبط نظام الأسرة.
19_ للإلحاد آثار وبيلة منها القلق، والأنانية، وحب الجريمة، والانطلاق في الإباحية.(1/324)
20_ لقد أخفقت الشيوعية في التطبيق وقادت البشرية إلى ويلات إثر ويلات، ونزلت بالمستوى البشري إلى أحط الدركات.
21_ وبعد ذلك سقطت الشيوعية وهوت من عليائها.
22_ لم يكن سقوط الشيوعية مفاجأة لمن سبر أغوارها، وعرف أطوارها.
23_ فساد الشيوعية يغني عن إفسادها، وتصورها كافٍ في الرد عليها، وأدلة الشرع، والفطرة، والواقع تنقض مبادئ الشيوعية.
24_ الشيوعية مذهب فكري منافٍ للإسلام، واعتناقها كفر بالله، وبالدين الذي ارتضاه لعباده.
هذا ملخص لأهم ما جاء في هذا البحث.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
فلما تبين بطلان الشيوعية ومدى ما أحدثته من بلايا، وما جرته على البشرية من رزايا _ يتجلى لنا مدى حاجة البشرية، بل ضرورتها إلى الدين الحق، والمنهج القويم، الذي يكفل لها السير على طريق مستقيمة واضحة، تجد فيها السعادة، وتتحقق الراحة.
ولا ريب أن ذلك لا يوجد إلا في الإسلام الذي أكمله الله وارتضاه لعباده؛ فلن تجد البشرية الراحة، ولن تتحقق لها السعادة إلا بالأخذ به، وتطبيقه على جميع مناحي الحياة.
ومما يؤكد ذلك ويبرهن عليه _ ما خص الله به دين الإسلام من الخصائص التي لا توجد في دين أو مذهب غيره.
ومن تلك الخصائص التي تثبت تميز الإسلام، وتفرده، ومدى حاجة البشرية إليه ما يلي:
1_ أنه جاء من عند الله، والله _ عز وجل _ أعلم بما يصلح عباده [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ](الملك:14).
2_ أنه يبين للإنسان بدايته، ونهايته، والغاية التي خلق من أجلها، قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] (النساء:1).
وقال: [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] (طه: 55).(1/325)
وقال: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56).
3_ أنه دين الفطرة، فلا يتنافى معها، قال _ تعالى _: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ] (الروم:30).
قال العلماء فطرة الله: دين الإسلام(1).
4_ أنه دين العدل والأخوة الصادقة، فلا ظلم فيه، ولا عنصرية ولا طبقية، ولا تعصب للون، أو جنس، أو عرف [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم] (الحجرات: 13).
5_ أنه يعترف بالعقل ويدعو لإعماله، وفي الوقت نفسه يضع له غاية يقف عندها؛ حتى لا يتيه فيما لا طاقة له به.
6_ أنه يعترف بالعواطف الإنسانية ويوجهها الوجهة الصحيحة.
7_ أنه لا ينافي العلم الصحيح، بل يأمر به، ويحث عليه.
8_ أنه يلبي حاجات الإنسان ويجمع بين مطالب الروح، والعقل، والجسد.
9_ أن الله تكفل لمن أخذ به بالسعادة والعزة والنصر، والتمكين فرداً كان أو جماعة، قال _ تعالى _: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون](النحل:97).
وقال: [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين](المنافقون:8)، وقال:[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ](غافر:51).
وقال: [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ](الصافات:173).
10_ أن فيه حلاً لجميع المشكلات، قال _ تعالى _: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ](الأنعام: 38).
11_ اشتمال شريعة الإسلام بنصوصها وأصولها على أحكام ما لا يتناهى من الوقائع.
12_ أن شريعته أحكم ما تساس به الأمم، وأصلح ما يقضى به عند التباس المصالح، أو التنازع في الحقوق.
__________
(1) _ انظر شفاء العليل ص 573, وانظر درء تعارض العقل والنقل 8/376.(1/326)
13_ عموم الإسلام وصلاحه لكل زمان، ومكان، وأمة، بل لا تصلح الأحوال إلا به.
14_ أنه دين المحبة، والاجتماع، والألفة والرحمة.
15_ أنه دين العمل، والجد، والحزم.
16_ أنه أبعد ما يكون عن التناقض [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا](النساء:82).
17_ أنه يحمي معتنقيه من الفوضى، والضياع والتخبط، ويكفل لهم الراحة النفسية والفكرية.
18_ أنه يزكي العلوم والعقول، والنفوس والأخلاق.
وبالجملة فهو دين الكمال والرفعة، ودين الهداية والسمو؛ فهو يهدي العقول إلى ما تغفل أو تقصر عنه من وجوه الإصلاح، وهو الذي يقوي عزم الإنسان على القيام بالأعمال الجليلة، ويحثه على أن يتحرى بأعماله غاية ما يستطيع من الاتقان.
وإذا رأينا من المنتمين إليه، وهناً في العزم، أو صغراً في الهمة، أو انحرافاً عن سواء السبيل _ فالدين بريء من تبعة هذه النقائص، وإنما تبعتها على أصحابها.
ورحم الله الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي إذ يقول: =إنما مكنت للإسلام طبيعته ويسره، ولطف مدخله على النفوس،وملاءمته للفطر والأذواق، والعقول.
ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال _ لطبَّق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة والعزة، والسيادة حتى يملكوا به الكون كله+(1).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من هذا الكتاب يوم السبت 19/8/1412هـ ثم أعيد النظر فيه مرة أخرى يوم الأربعاء 8/9/1418هـ ثم أعيد النظر فيه ثالثة يوم الأربعاء 22/8/1422هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، وبعد:
فهذه نبذة عن العلمانية، وذلك من خلال المباحث التالية:
__________
(1) _ آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3/273.(1/327)
-تعريف العلمانية.
-أسباب قيام العلمانية.
-صورتا العلمانية.
-العلمانية، ومجالات الحياة.
-أسباب دخول العلمانية في العالم الإسلامي.
-بداية ظهور العلمانية في بلاد الإسلام.
-صنيع أتاتورك في قيام العلمانية وإلغاء الخلافة.
-نظرة في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق.
-وسائل تحقيق العلمانية.
فإلى تلك المباحث، والله المستعان، وعليه التكلان.
تعريف العلمانية (1)
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (secularism) في الانجليزية، أو(secalarite) في الفرنسية، وهي ترجمة مضللة؛ لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم بينما هي في لغاتها الأصلية لاصلة لها بالعلم، بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيداً عن الدين.
والترجمة الصحيحة للكلمة الأوربية السابقة هي: اللادينية.
وبناءاً على ذلك فإن التعريف الصحيح للعلمانية أن يُقال:
هي حركة تدعو إلى الفصل بين الدين والحياة، وتهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة، وتوجيههم إلى الدنيا فحسب.
أسباب قيام العلمانية (2)
قامت العلمانية أول ما قامت في أوروبا وذلك لأسباب عديدة منها:
أولاً: الطغيان الكنسي: فالكنيسة طغت، وتجبرت، وأصبحت تفرض على الناس العقائد الباطلة التي لا تتفق مع نقل ولا عقل، كعقيدة العشاء الرباني، وعقيدة التثليث، وعقيدة الخطيئة الموروثة، والصلب والفداء.
كما أنها أصبحت تحرم، وتحلل، حسب ما يتفق وأهواء رجال الدين.
وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله مثل حق الغفران، وحق الحرمان، وحق التحلة.
__________
(1) _ انظر العلمانية للأستاذ. محمد قطب ص5، والعلمانية للشيخ د. سفر الحوالي ص21_24، وتحطيم الصنم العلماني للشيخ محمد بن شاكر الشريف ص25.
(2) _ انظر العلمانية، للشيخ سفر الحوالي ص123_143.(1/328)
ولم تتردد الكنيسة في استعمال هذه الحقوق واستغلالها، فحق الغفران أدى إلى المهزلة التاريخية صكوك الغفران السالفة الذكر،وحق الحرمان عقوبة معنوية بالغة كانت شبحاً مخيفاً للأفراد والشعوب في آن واحد؛ فأما الذين تعرضوا له من الأفراد فلا حصر لهم، منهم الملوك أمثال: فردريك، وهنري الرابع الألماني، وهنري الثاني الانجليزي، ورجال الدين المخالفين مثل: أريوس حتى لوثر، والعلماء والباحثون المخالفون لآراء الكنيسة من برونو إلى آرنست رينان وأضرابه.
أما الحرمان الجماعي فقد تعرض له البريطانيون عندما حصل خلاف بين الملك يوحنا ملك الانجليز، وبين البابا، فحرمه البابا وحرم أمته، فعطلت الكنائس من الصلاة، ومنعت عقود الزواج، وحملت الجثث إلى القبور بلا صلاة، وعاش الناس حالة من الهيجان، والاضطراب، حتى عاد يوحنا صاغراً يقر بخطيئته، ويطلب الغفران من البابا.
ولما رأى البابا ذُلَّه، وصدق توبته رفع الحرمان عنه وعن أمته.
أما التَّحلَّة؛ فهو حق خاص يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين، وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت المصلحة _ مصلحتها _ ذلك.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد لاسيما بعد أن اتضح للكنيسة الأثر الإسلامي الظاهر في الآراء المخالفة، فأنشأت ذلك الغول البشع، والشبح المرعب، الذي أطلق عليه اسم (محاكم التفتيش) تلك المحاكم التي عملت على إبادة المسلمين، أو المخالفين لآراء الكنيسة.
ولا يكاد المؤرخون الغربيون يتعرضون للحديث عنها إلا ويصيبهم الاضطراب، وتتفجر كلماتهم رعباً، فما بالك بالضحايا الذين أزهقت أرواحهم، والسجناء الذين أذاقتهم ألوان المر والنكال.(1/329)
وكانت المحكمة عبارة عن سجون مظلمة تحت الأرض بها غرف خاصة للتعذيب، وآلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، وكان الزبانية يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم.
وكان لدى المحكمة آلات تعذيبية أخرى منها آلة على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، يلقون الضحية في التابوت، ثم يطبقونه عليه، فيتمزق جسمه إرباً إرباً، وآلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب، ثم تشد، فتقصه قطعة قطعة، وتغرز في أثداء النساء حتى تنقطع كذلك، وصور أخرى تتقزز منها النفوس، وتشمئز لذكرها.
كل ما سبق جعل الناس يؤمنون بالمسيحية قسراً دون أن يتجرأ أحد على مناوءتها أو مخالفتها.
أضف إلى ما سبق ما حصل من طغيان الكنيسة السياسي، حيث فرضت وصايتها على الملوك، وجعلت معيار صلاحهم معلقاً بما يقدمون للكنيسة من طاعة وانقياد.
أضف إلى ذلك الطغيان المالي، ويمكن تلخيص مظاهر الطغيان الكنيسي في هذا المجال بما يلي:
1_ الأملاك الإقطاعية: حيث أصبحت الكنيسة أكبر مُلاَّك الأراضي، وأكبر الإقطاعيين في أوروبا.
2_ الأوقاف: فلقد كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية.
إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق.
3_ العشور: حيث فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة العشور، وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية، والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين.(1/330)
4_ ضريبة السنة الأولى: فالكنيسة لم تقنع بالأوقاف، والعشور، بل فرضت الرسوم، والضرائب الأخرى، لاسيما في الحالات الاستثنائية؛ كالحروب الصليبية، والمواسم المقدسة، وظلت ترهق كاهل رعاياها.
فلما تولى البابا حنا الثاني والعشرون جاء ببدعة جديدة هي (ضريبة السنة الأولى).
وهي مجموع الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية، والإقطاعية تدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة مورداً مالياً جديداً.
5_ الهبات والعطايا: وذلك أن الكنيسة كانت تحظى بالكثير من العطايا والهبات،يقدمها الأثرياء الإقطاعيون؛ تملقاً ورياءاً، أو بدافع من الصدقة والإحسان.
6_ العمل المجاني _السخرة_: وذلك بقيام بعض الناس بالعمل لخدمة الكنيسة بالمجان مدة محددة، هي في الغالب يوم واحد في الأسبوع دون مقابل.
ثانياً: الصراع بين الكنيسة والعلم: فلقد قام الصراع بين الكنيسة والحقائق العلمية على أشده، فلقد كانت الكنيسة هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلما ظهرت بعض الحقائق العلمية التي تخالف ما تقرره الكنيسة كنظرية كوبرنيق (1543م) الفلكية، ومن بعده (جردانو برونو) وغيرها من النظريات _ حصل الصراع بين الكنيسة وبين العلم، ومن هنا اصطدمت حقائق العلم بزيوف الكنيسة؛ فقامت الكنيسة بالقبض عليهم، وتكذيبهم، ومحاربة أفكارهم.
ومن ثم نشأت الفكرة القائلة: =إن العلم لا صلة له بالدين، وإن الدين يحارب العلم+.
ثالثاً: الاضطرابات والثورات التي قامت في أوروبا: كالثورة الفرنسية، وغيرها، تعد من أسباب قيام العلمانية.
رابعاً: شيوع المذاهب والأنظمة الاجتماعية والنظريات الهدامة كنظرية التطور وغيرها.
خامساً: الخواء الروحي عند الأوروبيين؛ ذلك؛ لأن النصرانية المحرفة لا تزكي الروح، ولا تخلص أتباعها من الأسئلة القاتلة داخل النفوس حول الكون، والإله، والمصير، وما إلى ذلك.
سادساً: غياب المنهج الصحيح عن الساحة الأوروبية، وهو الإسلام.(1/331)
سابعاً: تقصير أمة الإسلام في أداء رسالتها تجاه البشرية.
ثامناً: خلو الأناجيل المحرفة من أي تصوُّر محدد لنظام سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو علمي.
تاسعاً: المكر اليهودي الذي يحرص على إنشاء المذاهب الهدامة، أو احتوائها؛ رغبة من اليهود في إفساد البشرية وجعلها حمراً يمتطونها.
كل هذه العوامل جعلت من الدين رمزاً للتسلط، والتجبر، والطغيان، والجهل والخرافة، ومحاربة العلم؛ فما الحل إذاً؟
الحل الذي ارتأوه أن الدين حجر عثرة أمام التطور، والمطلوب نبذه وإقصاؤه عن الحياة، ومن هنا قامت العلمانية.
وكان جديراً بهؤلاء الذين قاوموا هذه الكنيسة أن يبحثوا عن المنهج الحق الذي يشجع العلم ولا يقف ضده، بل هو دين العلم ألا وهو الإسلام.
ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل، ولله في ذلك حكمة.
فهذه أسباب قيام العلمانية، وتلك مسوغاتها.
للعلمانية صورتان:
1_ صورة متطرفة: وهي التي لا تكتفي بعزل الدين عن الدنيا، بل تحارب الدين جملة؛ فتنكر وجود الله، وتحارب الأديان، وتكفر بالغيب.
2_ صورة معتدلة: وهي التي تكتفي بعزل الدين عن الدنيا، دون أن تُنكر وجود الله، أو تحارب الدين.
بل إنها تسمح بإقامة بعض الشعائر والعبادات بشرط أن تقتصر علاقة العبد بربه دون أن يكون للدين علاقة في شؤون الحياة الأخرى.
العلمانية تقف موقف الرفض للدين، وتريد أن تسير كافة مجالات الحياة على غير الدين، ومن تلك المجالات:
1_ الحكم: فالعلمانية ترى أن الحكم لا يكون بما أنزل الله _ جل وعلا _ بل بالقوانين الوضعية؛ فهي ترفض التحاكم إلى الدين، وترى نبذه وطرحه.
2_ الاقتصاد: فالعلمانية ترى أنه لا دخل للدين بالاقتصاد، ولذلك فهي تبيح الاحتكار، والمكوس، والربا، وأكل أموال الناس بالباطل.
3_ التعليم: فالعلمانية ترى أن التعليم ينبغي أن يخلو من العلوم الشرعية، بل إنها تمنعها منعاً باتاً، كما أنها تدعو إلى اختلاط الطلاب بالطالبات.(1/332)
4_ الأدب: تدعو العلمانية إلى الأدب الماجن الرخيص، وترفع من قيمة الشذاذ من الشعراء وغيرهم، وتنادي بأنواع الأفكار الأدبية التي نشأت في الغرب كأدب اللامعقول، وأدب الحداثة.
5_ الإعلام: حيث ترى العلمانية أن الإعلام ينبغي أن يقوم على هدم كل فضيلة، وعلى نشر كل رذيلة، وألا يكون للدين نصيب منه.
وبالجملة فإن من أصول العلمانية: =أن الحياة العامة في الدولة والمجتمع لا تحكم بأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما تحكم بأي نظام آخر من الشرائع التي يضعها الإنسان لنفسه+(1).
الإسلام دين العلم، والإسلام يُعنى بكافة جوانب الحياة، فهو نظام متكامل، مشتمل على إسعاد البشرية جمعاء.
ولا غرو في ذلك؛ فدين الإسلام رضيه الله _تعالى_ لعباده، وأمرهم باعتناقه، وتكفل _ سبحانه _ بحفظه؛ فهو حق كله، وعدل كله [أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا] (الأنعام:114).
وإذا كان الأمر كذلك، وكان المسلمون ينعمون بهذا النور العظيم، والفضل العميم _ فما حاجتهم للمناهج الأرضية؟ وكيف تسللت تلك المذاهب الهدامة وعلى الأخص تلك النحلة الخبيثة (العلمانية)؟
وكيف تغلغلت في بلاد المسلمين؟ فكونها ظهرت في أوروبا ذلك البلد الذي يعاني من عدم وجود المنهج الصحيح الذي يكفل سعادة الأفراد والمجتمعات؛ فهذا أمر قد يعقل، أما في بلاد المسلمين فلا.
إذاً كيف دخلت العلمانية بلاد المسلمين؟ وما أسباب ذلك؟
لقد دخلت العلمانية بلاد المسلمين لأسباب عديدة يمكن إيجازها فيما يلي:
1_ انحراف كثير من المسلمين عن دينهم، وعدولهم عن سلوك الصراط المستقيم.
2_ التحالف اليهودي الصليبي، وما نجم عنه من استعمار، واستشراق، وتنصير، وغير ذلك.
3_ الجهل بدين الإسلام عند كثير من المسلمين.
__________
(1) _ مقال بعنوان: =أهمية أصول المعرفة في الإسلام+ مجلة البيان _ العدد17ص33 للدكتور عابد السفياني.(1/333)
4_ الانبهار بما عند الغرب من تقدم صناعي، وتكنولوجي، مع الغفلة عما يعانيه من خواء روحي وتخلف خلقي.
5_ الهزيمة النفسية التي حلت بكثير من المسلمين.
6_ اشتغال المسلمين بالدنيا وملذاتها، وتخليهم عن رسالتهم الخالدة، وهي قوامة البشرية وقيادتها إلى بر الأمان.
7_ ربط واقع المسلمين المزري وتخلفهم بالإسلام، واعتقاد أن أوروبا لم تتطور إلا عندما نبذت الدين النصراني، والحل هو نبذ الدين الإسلامي لكي ينهض المسلمون..!
8_ غياب مفهوم الولاء والبراء عند كثير من المسلمين.
9_ الابتعاث وما جرَّه من ويلات على المسلمين؛ حيث يذهب المسلم إلى الخارج وهو خاوي الوفاض من دينه فيعود _ بعد أن يمتلىء قلبه بما عند الكفار _ حرباً على أمته ودينه.
10_ التقصير في جانب الدعوة إلى الله، وإبرازِ محاسن الدين الإسلامي.
11_ توسيد الأمر لغير أهله في كثير من بلدان المسلمين؛ حيث تمكن كثير من عملاء الغرب من الوصول إلى سدة الحكم، وتولي المناصب المهمة.
12_ التقليد الأعمى للغرب، فبدلاً من الإفادة مما عنده من تقدم، ورقي مادي _ تجد بعض المسلمين يقلدونهم في مستهجن عاداتهم، ومرذول طرائقهم في الحكم، والسياسة، والأخلاق، وما جرى مجرى ذلك.
فهذه جملة أسباب بعضها داخل في بعض تضافرت وتكاتفت، وأدت إلى قيام العلمانية التي بسطت نفوذها، ومدت رواقها في كثير من بلدان المسلمين.
لا تكاد تعثر في الأزمنة الماضية على مسلم يشن الحرب على الإسلام، ويتنكر له خصوصاً في مجال النظام السياسي.
بل إن زمن هذه الحرب حديث جداً لا يزيد على قرنين من الزمان؛ فقد بدأ مع بداية انتشار الفكر العلماني الذي دعت إليه الثورة الفرنسية عام 1789م.
ومن ذلك الحين، وبفعل مجموعة من الأسباب التي مر الحديث عنها _ بدأ ذلك الفكر يسري إلى بلاد المسلمين، وبدأ التوجه العلماني اللاديني في بعض الدوائر يؤتي ثماره، وينتج نتائجه في العديد من مجالات الحياة، ويمهد لقيام العلمانية.(1/334)
ولقد كانت تظهر بعض المقولات، أو الفقرات في كتابات بعض الناس لتعلن عن الفكرة العلمانية غير أنها كانت فقرات قصيرة متداخلة مع كلام كثير قد لا يفطن لها الكثيرون بحيث يمرون عليها دون أن يلقوا لها بالاً.
بل ربما عدوها من سقطات الكتاب، دون أن يتبين لهم ما وراءها.
وظل الحال على هذا المنوال حيناً من الدهر حتى أفصحت العلمانية _ في المجال السياسي _ عن نفسها إفصاحاً كاملاً، وذلك على المستويين العملي، والنظري.
أما المستوى العملي فيتمثل فيما قام به مصطفى كمال أتاتورك من إلغاء الخلافة الإسلامية، وإقامة النظام السياسي العلماني على أنقاضها.
أما على المستوى النظري فيتمثل فيما أقدمت عليه العلمانية من تقديم فكرتها أو نظريتها السياسية في عزل الدين عن الدولة، وذلك في أول كتابة من نوعها في ديار المسلمين على يد شيخ أزهري، وقاضٍ شرعي وهو علي عبدالرازق.
وهذا الصنيع كان إيذاناً لإلغاء الخلافة على المستوى الفكري النظري.(1)
وسيأتي مزيد تفصيل لهذه الفقرة في الفقرات التالية.
صنيع أتاتورك في قيام العلمانية، وإلغاء الخلافة (2)
مر في الفقرة الماضية _ بإيجاز _ حديث عن أتاتورك، وأنه كان أول من طبق العلمانية على المستوى العملي؛ فالعلمانية في تركيا قامت على أنقاض الخلافة الإسلامية، على يد اليهودي مصطفى كمال أتاتورك الذي كان يتظاهر بالتدين، ويصلي في مقدمة الجنود، ويتملق العلماء، وعندما تمكن نفذ خطته اللئيمة على النحو التالي:
1_ إلغاء الخلافة الإسلامية.
2_ فصل تركيا عن باقي أجزاء الدولة العثمانية، فحطم بذلك الدولة الإسلامية العظيمة.
__________
(1) _ انظر تحطيم الصنم العلماني للشيخ محمد بن شاكر الشريف ص11_12.
(2) _ انظر الرجل الصنم كمال أتاتورك _ أول كتاب عن حياة كمال أتاتورك بالتفصيل _ لعبدالله عبدالرحمن ص506_507، والموجز في المذاهب والأديان المعاصرة للعقل والقفاري ص108_110، وحقيقة اليهود سيد بن عبد الرحمن الرفاعي.(1/335)
3_ أعلن العلمانية الإلحادية، وأشاع أن الدين علاقة قلبية بين العبد وبين الله.
4_ اضطهد العلماء أبشع اضطهاد، وقتل منهم العشرات، وعلقهم بأعواد الشجر.
5_ أغلق كثيراً من المساجد، وحرم الآذان، والصلاة باللغة العربية.
6_ أجبر الشعب على تغيير الزي الإسلامي،ولُبْس الأوروبي.
7_ ألغى الأوقاف، ومنع الصلاة في جامع أيا صوفيا، وحوَّله إلى متحف.
8_ ألغى المحاكم الشرعية، وفرض القوانين الوضعية المدنية السويسرية.
9_ فرض العطلة الأسبوعية يوم الأحد بدلاً من يوم الجمعة.
10_ ألغى استعمال التاريخ الهجري، واستبدل به التاريخ الميلادي.
11_ حرم تعدد الزوجات، والطلاق، وساوى بين الذكر والأنثى بالميراث.
12_ شجع الشباب والفتيات على الدعارة، والفجور وأباح المنكرات، وقد كان قدوة في انحطاط الخلق، وإدمان الخمر، وممارسة البغاء والشذوذ.
13_ قضى على التعليم الإسلامي، ومنع تدريس القرآن الكريم واستبدل بالحروف العربية الحروف اللاتينية.
14_ فتح باب تركيا لعلماء اليهود.
العلمانية في مصر(1)
اتجهت العلمانية في مصر اتجاهاً فكرياً في الثلاثينات من هذا القرن الميلادي، وقد كان لها مقدمات وإرهاصات أدت إلى ظهورها كحملة نابليون، وكصنيع محمد علي وأبنائه.
وبدأ هذا الاتجاه العلماني يأخذ مكانه بوجه خاص أيام الاحتلال البريطاني، وقد خطت مصر خطواتٍ في العلمانية، وبرز دعاة إليها في كثير من جوانب الحياة أمثال:
1_ قاسم أمين في الجانب الأخلاقي، والاجتماعي.
2_ طه حسين في الجانب الفكري، والثقافي، والأدبي.
3_ الشيخ علي عبد الرازق في الجانب السياسي والتشريعي وسيأتي الحديث عنه.
وغيرهم كثير كسلامة موسى، وسعد زغلول، ولطفي السيد.
__________
(1) _ انظر الموجز في المذاهب والأديان المعاصرة ص108.(1/336)
وبالرغم من هذه الاتجاهات القوية إلا أنها لم تكن ذات أثر في واقع الشعب المصري والدولة المصرية إلا بعد الثورة التي قام بها عبد الناصر عام1952م والتي بثت ما يسمى بالعلمانية، وأقامت الدولة نظامها عليها، ثم جاء من بعده السادات، وأصَّلها ودعم وجودها.
ثم سرت العدوى إلى أكثر أقطار العالم العربي والإسلامي كتونس والجزائر وغيرها من الدول.
برغم ما في هجمة أتاتورك وجنايته على الإسلام من الضراوة والقسوة والشراسة _ فإن جناية علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) أشد وأخطر؛ ذلك أن صنيع أتاتورك ردة صريحة، وخروج على الإسلام بقوة السلطان؛ فلا يكون لها أثر إلا بقدر بقاء القوة.
أما صنيع علي عبدالرازق فقد كان محاولة للتغيير في أصول الإسلام، ومسلماته.
وهذا _ بلا ريب _ يفعل فعله، ويمتد أثره؛ ليصبح هو التفسير الصحيح لعلاقة الإسلام بالسياسة والحكم.
وحينئذ توصد الأبواب _ لو قُدِّر لهذه المحاولة أن تنجح _ في وجه الإسلام، ويُحال بينه وبين القيادة والتوجيه لحياة الأمة المسلمة.
لقد كان كتاب علي عبدالرازق أول كتاب يقدمه رجل ينتمي إلى الإسلام، بل إلى العلم والقضاء معلناً عن نفسه بلا مواربة، مقدماً فيه الفكر العلماني في جرأة لا تعرف الحياء ولا الخجل.
ولم تكن كتابته مجرد فقرة قصيرة أو طويلة، بل ولم تكن مجرد مقال طويل يُنشر في إحدى الصحف.
وإنما كان كتاباً كاملاً يعرض منهجاً كلياً في معرفة الإسلام، وعلاقته بالحكم.
ومما يحسن التنبيه عليه أن الحكومة الكمالية حين ألغت الخلافة العثمانية سنة 1924م _ أصدر المجلس الوطني التركي رسالة شرح فيها وجهة نظره في إلغاء الخلافة.
إلا أن الرأي العام في العالم الإسلامي لم يقابل هذا العمل بالارتياح، بل أخذ بعض مفكري وعلماء الإسلام يتطارحون الرأي في إقامة الخلافة الإسلامية.
أما الرسالة التي أصدرها المجلس التركي فقد كانت بعنوان (الإسلام وسلطة الأمة) أو (الخلافة وسلطة الأمة).(1/337)
وقد تُرجمت إلى العربية، وطُبعت بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1924م.
وبعد صدور هذا الكتاب سنة 1925م أصدر علي عبدالرازق كتابه المذكور، وكان حينئذ قاضياً بمحكمة المنصورة الشرعية الابتدائية.
ويُلاحظ أن بين اسمي الكتاب ومضمونهما تشابهاً، إلا أن الكتاب الأول لم يبلغ ما بلغه كتاب علي عبدالرازق من القدح في علاقة الإسلام بالسياسة.
ومما يوضح الشبه بين الكتابين أنه قد جاء في كتاب (الإسلام وسلطة الأمة) ص5 ما نصه: =إن هذه المسألة _ الخلافة _ دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وإنها من مصلحة الأمة نفسها مباشرة، ولم يرد بيان صريح في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية في كيفية نصب الخليفة وتعيينه، وشروط الخلافة ما هي ...+.
وقال علي عبدالرازق في ص16 ما نصه: =إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين [مَاْ فَرَّطْنَا فِيْ الكِتَاْبِ مِنْ شيء] ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة، أو الخلافة.
إن في ذلك لمجالاً للمقال! ليس القرآن وحده الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن _ أيضاً _ وقد تركتها ولم تتعرض لها+.
وفي رسالة المجلس الوطني التركي ص4 ما نصه: =إن الفرقة المسماة بالخارجية تنكر وجوب الخلافة، وتقول إن أمر نصب الخليفة وتعيينه، ليس واجباً على الأمة الإسلامية، بل هو جائز، ووجوده وعدم وجوده سيان+.
ويقول علي عبدالرازق في ص33 ما نصه: =فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلاً، وكذلك قال الأصم من المعتزلة، وقال غيرهم _ أيضاً _ كما سبقت الإشارة إليه.
وحسبنا في هذا المقام نقضاً لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: إنهم شواذ+.(1/338)
وهكذا ردد علي عبدالرزاق في كتابه ما جاء في رسالة المجلس الوطني التركي، وزاد عليها شيئاً من فساد الفهم، وسوء الأدب في حق النبي " وحق كبار الصحابة.
وقد قابلت الدوائر الاستعمارية والمراكز التبشيرية المسيحية كتاب علي عبدالرازق بالترحيب والتصفيق، وذلك لخشيتها من كل فكرة ترمي إلى تكتل العالم الإسلامي، وارتياحها إلى نشر مثل هذه الآراء الخبيثة التي ضمنها علي عبدالرازق كتابه، تلك الآراء التي تخدم أهداف الاستعمار وتحقق آماله في السيطرة على الشعوب الإسلامية، وإذلالها إلى الأبد.
وقد كشف المؤلف عن نفسه الخبيثة في حديثه مع مراسل صحيفة (البورص إجبسيان) حينما سأله هذا المراسل:
_ هل يمكن أن نعتبرك زعيماً للمدرسة؟
فأجاب: =لست أعرف ماذا تعني بالمدرسة؟ فإن كنت تريد بهذا أن لي أنصاراً؛ يسرني أن أصرح لك أن الكثيرين يرون رأيي، لا في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي بأسره.
وقد وصلتني رسائل التأييد من جميع أقطار العالم التي نفذ إليها الإسلام.
ولا ريب أني رغم الحكم، لا أزال مستمراً في آرائي وفي نشرها، لأن الحكم لا يعدل طريقة تفكيري+.
=وسأسعى إلى ذلك بكل الوسائل الممكنة كتأليف كتب جديدة، ومقالات في الصحف، ومحاضرات، وأحاديث.
والآراء التي أراد علي عبدالرازق أن ينشرها بين المسلمين، ويُؤلف فيها الكتب تتلخص في الطعن في حكومة النبي "، واتهام كبار الصحابة بأشنع التهم.
ولم يكن من بين هذه الآراء الحض على مكافحة الاستعمار، والجهاد في سبيل الاستقلال والحرية، ولا عجب في ذلك؛ فبيت عبدالرازق كان في ذلك الوقت من البيوت العريقة في خدمة الاستعمار؛ فقد أنشأ حسن عبدالرازق حزب الأمة سنة 1908 لمحاربة الحركة الوطنية، وبعد سنة 1919م انضم آل عبدالرازق إلى حزب الأحرار الدستوريين الذي كان يعمل مع الإنجليز+.(1/339)
وسواء كان الكتاب المنسوب لعلي عبدالرازق من تأليفه هو _ كما هو مدون على غلاف الكتاب _ أو كان من تأليف بعض المستشرقين كما يذهب إلى ذلك آخرون(1) فإن الذي يعنينا هنا أن يُقال: إن العلمانية أعلنت الحرب بغير مواربة على النظام السياسي الإسلامي، وبدأت جولتها معه، التي ربما خُيِّل لأتباعها أنها الجولة الأولى والأخيرة، ولكن [رَدَّ الله الَّذِيْنَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِم لَمْ يَنَالُوا خَيْراً].
لقد كان صدور ذلك الكتاب المنبوذ _ والذي يعني عند مؤلفه ومن يشايعه إسقاط الخلافة والقضاء عليها من الناحية الشرعية _ عام 1925م، أي بعد عام واحد من إسقاط الخلافة والقضاء عليها واقعياً من قِبَلِ أتاتورك وأتباعه.
وبصدور ذلك الكتاب بدأت وقائع الجولة الأولى _ الظافرة بإذن الله _ من أهل الحق في الرد على أهل الباطل وضلالاتهم، وحمي الوطيس، وانتصب للحق أهله ودعاته، وظهرت الردود تلو الردود؛ لترد على الكائدين كيدهم في نحورهم، ولِتفضحَهم أمام أجيال الأمة المعاصرة واللاحقة، وتبين خيانتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ومتابعتهم لأولياء الشيطان من اليهود والنصارى الحاقدين.
فقام بالرد عليه السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وكذلك الشيخ محمد شاكر (2) وكيل الأزهر سابقاً، وكذلك الأستاذ أمين الرافعي، وقد أفتى بعض كبار العلماء من أمثال الشيخ محمد شاكر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت، والسيد محمد رشيد رضا بِرِدَّةِ علي عبدالرازق مؤلف الكتاب المذكور.
__________
(1) _ قد ذهب إلى ذلك الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق؛ حيث قال: =علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه إلا وضع اسمه عليه فقط+ وقد نقل ذلك د. محمد ضياء الدين الريّس في كتابه (الإسلام والخلافة في العصر الحديث) ص211، واستظهر له بالعديد من القرائن.
(2) _ وهو والد العلامة الشيخ أحمد شاكر.(1/340)
كما ألف كبار العلماء كتباً في الرد عليه: فألَّف الشيخ محمد الخضر حسين (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) وألَّف الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في وقته (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) كما ألَّف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتاب (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم).
ومن قبل ذلك فقد عقدت له محاكمة في الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر وعضوية أربعة وعشرين عالماً من كبار العلماء، وبحضور علي عبدالرازق نفسه، وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه، ثم خلصت الهيئة إلى القرار التالي: =حكمنا؛ نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء.
كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية _العدل_ بالإجماع بفصله من القضاء الشرعي+(1).
وإليك فيما يلي شيئاً من التفصيل عن تلك المحاكمة التي جرت؛ فقد انعقدت هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي، شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت، صباح الأربعاء 22 المحرم سنة 1344هـ _أغسطس سنة 1925م_ وكان عدد أعضائها أربعة وعشرين عالماً، ولما مَثُلَ علي عبدالرازق أمام الهيئة حياها بقوله (السلام عليكم) فلم يرد عليه أحد، وبعد مناقشة طويلة أصدرت الهيئة حكمها بإدانة المتهم، وإخراجه من زمرة العلماء.
ويترتب على الحكم المذكور: محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية.
أما حيثيات الحكم، فيمكن إيجازها فيما يلي:
__________
(1) _ تحطيم الصنم العلماني لمحمد بن شاكر ص14_15.(1/341)
1_ أن الشيخ علياً جعل الشريعة الإسلامية, شريعة روحية محضة, لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.
وقد ردت الهيئة على هذا الزعم الباطل بأن الدين الإسلامي هو إجماع المسلمين على ما جاء به النبي ",من عقائد, وعبادات, ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة, وأن كتاب الله _تعالى_ وسنة رسوله ", كلاهما مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا, وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
وقالت الهيئة: وواضح من كلامه _ المؤلف _ أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة, جاءت لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط, وأن ما بين الناس من المعاملات الدنيوية وتدبير الشؤون العامة فلا شأن للشريعة به, وليس من مقاصدها.
وهل في استطاعة الشيخ أن يشطر الدين الإسلامي شطرين, ويلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا, ويضرب بآيات الكتاب العزيز, وسنة رسول الله" عرض الحائط؟!
2_ ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي " كان في سبيل الملك, لا في سبيل الدين, ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
فقد قال: =... وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين, ولا يحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله+.
ثم قال: =... وإذا كان " قد لجأ إلى القوة والرهبة, فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين, وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك+.
على أنه لا يقف عند هذا الحد, بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك, ومن الشؤون الملكية _ جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم, ونحو ذلك في سبيل الملك _ أيضاً _.
وجعل كل ذلك على هذا خارجاً عن حدود رسالة النبي " فلم ينزل به وحي, ولم يأمر به الله _تعالى_.
والشيخ علي لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز, فضلاً عن صريح الأحاديث المعروفة, ولا يمنع أنه ينكر معلوماً من الدين بالضرورة.(1/342)
وذكرت الهيئة الآيات الواردة في الجهاد في سبيل الله, والآيات الخاصة بالزكاة, وتنظيم الصدقات, وتقسيم الغنائم, وهي كثيرة.
3_ ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي " كان موضع غموض, أو إبهام, أو اضطراب, أو نقص, وموجباً للحيرة.
وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهباً, هو قوله: =إنما كانت ولاية محمد " على المؤمنين ولاية رسالة غير مشوبة بشيء من الحكم+.
وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها, وهي أنه جرد النبي " من الحكم.
وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم, فقد قال الله _تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ] ثم أوردت الهيئة آيات كثيرة تتضمن معنى الآية السابقة, وتنحو نحوها.
4_ ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي ", كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.
ولو صح هذا لكان رفضاً لجميع آيات الأحكام الكثيرة الواردة في القرآن الكريم، ومخالفاً _ أيضاً _ لصريح السنة.
ثم أوردت الهيئة كثيراً من الأحاديث التي تهدم مزاعم المؤلف, وختمت ذلك بقولها: =فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد ", إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وإنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به, ولا أن يحملهم عليه؟!+.
5_ ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام, وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
وقال إنه يقف في ذلك في صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة, يعني بعض الخوارج والأصم؛ وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في بدعته أنه في صف الخوارج, لا في صف جماهير المسلمين.
6_ ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية, وقال إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعاً عن الخلافة, فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.(1/343)
وكلامه غير صحيح, فالقضاء ثابت بالدين على كل تقدير, تمسكاً بالأدلة الشرعية التي لا يستطاع نقضها.
7_ ومن حيث إنه زعم أن حكومة أبي بكر, والخلفاء الراشدين من بعده, رضي الله عنهم, كانت لا دينية, ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا تستند على وحي, ولا إلى رسالة _ مضحك موقع في الأسف, فإن أحداً لا يتوهم أن أبا بكر ÷ كان نبياً يوحى إليه حتى يُعني الشيخ علي بدفع هذا التوهم.
لقد بايع أبا بكر ÷, جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين, على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد ".
وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر ÷ من أن حكومته لا دينية, لم يُقْدِمْ على مثله أحد من المسلمين؛ فالله حسبه, ولكن الذي يطعن في مقام النبوة, يسهل عليه كثيراً أن يطعن في مقام أبي بكر وإخوانه الخلفاء الراشدين _ رضي الله عنهم أجمعين _.
هذه خلاصة الحيثيات التي بنت عليها هيئة كبار العلماء حكمها السالف الذكر.
ومنذ ذلك الحين لم تنقطع الكتابات في الرد على كتاب علي عبدالرازق سواء كان ذلك على هيئة كتاب، أو مقال.
وقد حاول بعضهم مساندة علي عبدالرازق، وإعادة وجاهته وقدره عند الناس؛ فبعد اثنين وعشرين عاماً غيرت هيئة كبار العلماء رأيها في الشيخ علي عبدالرزاق؛ فبعد أن كان سنة 1925 كافراً خارجاً على الإسلام, منكراً لكثير مما ورد في القرآن والسنة, إذا هو في سنة 1947 مؤمن يستحق العطف، ويستوجب العفو انظر إلى ما نشرته صحيفة الأهرام في 26_2_1947 تحت عنوان (العلماء يلوذون بالعرش في مسألة علي عبد الرزاق بك) وهو ما يلي:(1/344)
=عندما أصابت الأزهر تلك الصدمة التي نزلت فجأة في شيخه الأكبر المغفور له الشيخ مصطفى عبدالرازق اتجهت نية كبار العلماء إلى تكريم ذكراه في شخص شقيقه الأستاذ علي عبد الرزاق بك, وذلك بأن يلوذوا بالسدة الملكية ملتمسين عفواً ملكياً عن أثر القرار الذي اتخذته هيئة كبار العلماء من قبل؛ فما اختمرت هذه الفكرة حتى أخذت سبيلها إلى التنفيذ, وأُعِدَّت صيغة الالتماس الذي يرفع في هذا الشأن, وحمله إلى القصر العامر جماعة كبار العلماء وأعضاء المجلس الأعلى للأزهر+.
=ومما هو جدير بالذكر؛ أنه روعي في رفع هذا الالتماس أن تتقدم به الهيئتان العلمية والتنفيذية في الأزهر: تمثل الأولى جماعة كبار العلماء, وتمثل الثانية المجلس الأعلى للأزهر, وأن يكون الملاذ في ذلك؛ هو جلالة صاحب العرش, بعد أن تبين أن جماعة كبار العلماء لا تملك بوضعها الحالي أن تتخذ قراراً جديداً بإلغاء قرارها الأول في مسألة الأستاذ علي عبد الرازق بك؛ إذ إن مثل هذا القرار يجب أن يصدر بأغلبية ثلثي أعضائها, على أن يكون من بينهم شيخ الأزهر، وذلك يقضي قراراً من عشرين عضواً, على حين أن الأحياء من أعضاء الجماعة لا يبلغون هذا العدد+.
هذا ما نشرته الصحف 26_2_1947, ومنه نرى أن علماء الأزهر, بما فيهم هيئة كبار العلماء كانوا مدفوعين من تلقاء أنفسهم إلى طلب العفو عن علي عبدالرازق, وأن هيئة كبار العلماء لم يتوافر فيها العدد القانوني الذي يمكنها من إلغاء قرارها الصادر في12 أغسطس سنة 1925؛ فلذلك لجأت إلى الملك.
والحق أن هذا كله محض كذب وافتراء؛ فقد أراد الملك فاروق أن يعين علي عبد الرازق وزيراً للأوقاف؛ فأمر شيوخ الأزهر بأن يقوموا بهذه الحركة؛ فأطاعوا وتبرعوا بالكذب.
وفي يوم 3 مارس سنة 1947 نشرت الصحف مرسوماً بتعيين علي عبدالرازق وزيراً للأوقاف.(1/345)
والعجب أن يكون تكريم ذكرى مصطفى على حساب الدين؛ هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى القرار الصادر سنة 1925، وإلى الضجة الهائلة التي أحدثها علماء الأزهر حول الكتاب ومؤلفه.
وعلى كل حال فإن الكتاب لقي وما زال يلقى الهوان، والرد عند كل مسلم أومضت في قلبه بارقة إيمان، وإخلاص.
بل إن بعض من تحمسوا للكتاب أول أمره، عادوا إلى مناوأته، وتخطئته.
بل إن علي عبد الرازق نفسه عندما عرض عليه قبل وفاته عام 1966م إعادة طبع الكتاب مرة أخرى رفض ذلك، كما أنه لم يحاول من قبلُ الردَّ على منتقديه وخصومه(1)
__________
(1) _ ومع ذلك فإن هذا الكتاب يلقى رواجاً عند من يقولون بآرائه، ويبعث ما بين الفينة والفينة.
ولكنه ما إن يبعث إلا ويقيض الله من يدفع زيفه، أو يعيد طبع ما رُد به باطله. ... ... =
= ومن أحسن الردود التي كشفت عوار ذلك الكتاب ما خطته يراعة العلامة الشيخ محمد الخضر حسين × في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) الذي أُعيدت طباعته مؤخراً بتحقيق ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني.
فلقد =تناول هذا الكتاب نقض ما جاء في كتاب الإسلام وأصول الحكم مما يخالف المبادئ الإسلامية، ويحود عنها بطريقة تدل على رسوخ قدم الأستاذ السيد محمد الخضر في العلوم الإسلامية والعربية، وتضلعه منها تضلعاً يجعله في صفوف كبار العلماء الباحثين الذين يعرفون كيف يصلون بالقارئ إلى الحق الناصع في رفق وسهولة، دون أن يرهقوا ذهنه، أو يحرجوا صدره.
فأدلة ناصعة، ولغة بينة، وقصد في التعبير من غير غموض أو إبهام، وأدب صريح، وخلق متين يدل على أن صاحبه ممن تأدبوا بالأدب الإسلامي، وتشبعوا به، وفهموا معنى قوله _تعالى_: [وَجَدِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن]، ثم حسن ترتيب وتنسيق في المناقشة وسوق الأدلة.
لا يدع في نفس القارئ مجالاً للشك، ولا يترك شبهة تتردد في صدره دون أن يقضي عليها قضاءاً نهائياً.
كل ذلك في تواضع العالم الصادق النظر، النزيه الغرض، الذي لا يقصد من بحثه وجدله إلا إحقاق الحق وإزهاق الباطل+. انظر مجلة (المكتبة) شهرية أدبية تبحث عن المؤلفات وقيمتها العلمية _ الجزء الثاني من السنة الثانية الصادر في رمضان 1344هـ.
وخير تقديم، وتقريظ للكتاب أن يقدم ويقرظ نفسه بنفسه.
وكتابة الشيخ محمد الخضر حسين مرآة لقلم بليغ، ونفس طاهرة، وعقل حصيف، وكتاباته جوامع الكلم، وحكم بالغات صيغت باللفظ العذب، والسبك الجيد، إذا تُليت على الأسماع ركنت إليها النفوس لطهارتها وصدقها، وإذا قرأها القارئ عاش في روضة علمية ساحرة.
إن الشيخ محمد الخضر حسين عالم جليل يغرف العلم من بحر لا ساحل له.
ويُعَدُّ كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) أهم المراجع للرد على كتاب علي عبدالرازق.
وإذا فرح الضالون المضلون بكتاب (الشيخ القاضي الشرعي) فقد فرح المؤمنون الصادقون بكتاب الإمام الصالح، وشتان بين الضلال والهدى، وبين الشر والخير.
وإليك مقدمة ذلك الكتاب، تلك المقدمة التي تُبين عن شيء من مكنونات الكتاب ونفائسه. =
= قال الشيخ محمد الخضر حسين ×: =أحمد الله على الهداية، وأسأله التوفيق في البداية والنهاية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد المبعوث بأكمل دين وأحكم سياسة، وعلى آله وصحبه، وكل من حرس شريعته بالحجة أو الحسام، وأحسن الحراسة.
وقع في يدي كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق، فأخذت أقرؤه قراءة من يتغاضى عن صغائر الهفوات، ويدرأ تزييف الأقوال بالشبهات.
وكنت أمر في صحائفه الأولى على كلمات ترمز إلى غير هدى، فأقول: إن في اللغة كنايةً ومجازاً، ومعميات وألغازاً، ولعلها شغفته حباً حتى تخطَّى بها المقامات الأدبية إلى المباحث العلمية.
وما نشبت أن جعلت المعاني الجامحة عن سواء السبيل تبرح عن خفاء، وتناديها قوانين المنطق فلا تعبأ بالنداء.
وكنت _ بالرغم من كثرة بوارحها _ أُصبِّر نفسي على حسن الظن بمصنِّفها، وأرجو أن يكون الغرض الذي جاهد في سبيله عشر سنين حكمة بالغة، وإن خانه النظر فأخطأ مقدماتها الصادقة.
وما برحت أنتقل من حقيقة وضاءة ينكرها، وهي أشبه بمقدماته من الماء بالماء، أو الغراب بالغراب.
فوَّق المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإسلام.
وبعد أن ألقى حبالاً وعصياً من التشكيك والمغالطات _ زعم أن النبي _ عليه السلام _ ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، ومسَّ في غضون البحث أصولاً لو صدق عليها ظنه لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإسلام وآدابه مزلزلة العقيدة مضطربة العنان.
كنا نسمع بعض مزاعم الكتاب من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزناً، ولا نحرك لمناقشتها قلماً، إذ يكفي في ردها على عقبها صدورها من نفر يرون الحطَّ في الأهواء حرية، والركض وراء كل جديد كياسة.
كنا نسمع هذه المزاعم فلا نزيد أن نعرض عمَّن يلغطون بها حتى يخوضوا في حديث غيره. ... =
= أما اليوم وقد سرت عدواها إلى قلم رجل ينتمي للأزهر الشريف، ويتبوَّأ في المحاكم الشرعية مقعداً _ فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجة، وللحجة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابي، ولا يستكين.
لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقيه فيه من عوج، فإن كثيراً من آرائه تحدثك عن نفسِها اليقينَ، ثم تضع عنقها في يدك دون أن تعتصم بسند، أو تستتر بشبهة.
وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح.
ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية _ بقي الكتاب ألفاظاً لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة.
والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول: الخلافة والإسلام، وموضوع الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام، وموضوع الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ.
وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقاً للمناقشة من دعوى أو شبهة، فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها، أو يحل لغزها، أو يجتثها من منبتها.
وتخيَّرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب المطروح على بساط النقد والمناظرة+.(1/346)
.
وسائل تحقيق العلمانية (1)
سلك العلمانيون في سبيل تحقيق مآربهم أهدافاً عديدة ملائمة لكل زمان ومكان منها ما يلي:
1_ إغراء بعض ذوي النفوس الضعيفة، والإيمان المزعزع بمغريات الدنيا من المال والمناصب.
2_ السيطرة على وسائل الإعلام؛ ليبثوا سمومهم من خلالها.
3_ رفع قيمة الأقزام والمنحرفين وذلك من خلال الدعاية المكثفة لهم، وتسليط الضوء عليهم، وإظهارهم بمظهر العلماء المفكرين، وأصحاب الخبرات الواسعة والقرائح المتفتقة، ويهدفون من وراء ذلك إلى أن يكون كلام هؤلاء مقبولاً عند الناس.
4_ لبس الحق بالباطل وذلك من خلال طَرْقِ العديد من الموضوعات باسم الإسلام، كالاختلاط وغيره.
5_ القيام بتربية بعض الناس على أعينهم في محاضن العلمانية في البلاد الغربية، وإعطائهم ألقاباً علمية مثل: درجة الدكتوراه، أو درجة الأستاذية؛ فيحصل على هذه الشهادة بعد أن يفقد شهادة _ لا إله إلا الله _ وبعد رجوعهم يصبحون أساتذة للجامعات، ويتولون العديد من المنابر؛ ليمارسوا تحريف الدين، وتزييفه، والتلبيس على الناس، وتوجيههم الوجهة التي يريدونها.
6_ اتباع سياسة النفس الطويل والتدرج في طرح الأفكار.
7_ الإكثار من الأحاديث عن موضوعات معينة بهدف إقناع الناس بها انطلاقاً من قاعدة (ما تكرر تقرر).
8_ إشغال الناس بتوافه الأمور حتى لا يدركوا حقيقة العلمانيين.
9_ تشويه التاريخ الإسلامي، وإبراز الجوانب السلبية، مع كتمان الجوانب المشرقة المضيئة بهدف قطع حاضر الأمة عن ماضيها.
10_ الهجوم على الأئمة الأعلام، بل الطعن في الصحابة والتابعين باسم الموضوعية.
11_ إحياء النعرات الجاهلية، والتغني بالوثنيات القديمة.
12_ الطعن في اللغة العربية ووصفها بالجمود، حتى يكرهها المسلمون ويستصعبوها وبالتالي ينقطعون عن فهم تراث أسلافهم، وفهم نصوص الشرع، وكلام الأئمة.
__________
(1) _ انظر العلمانية وثمارها الخبيثة لمحمد شاكر الشريف ص29_34.(1/347)
13_ تفسير القرآن ونصوص الشرع تفسيراً عصرياً بحسب ما يروق لهم، ويناسب أهواءهم.
14_ إنشاء المدارس والجامعات، والمراكز الثقافية الأجنبية، والتي تكون في حقيقة الأمر خاضعة لإشراف الدول العلمانية.
15_ الحديث بكثرة عن المسائل الخلافية واختلاف العلماء وتضخيم ذلك الأمر؛ حتى يخيل للناس أن الدين كله اختلافات، وأنه لا اتفاق بين العلماء في شيء مما يوقع في النفس أن الدين لا شيء فيه يقيني مجزوم به، وإلا لما وقع الخلاف، وهم بذلك يريدون صرف الناس عن الدين.
16_ تصوير أهل العلم في كثير من وسائل الإعلام على أنهم طبقة منحرفة خلقياً، وأنهم طلاب دنيا ومناصب ونساء، وذلك بهدف الحط من قيمتهم، وتزهيد الناس بهم.
17_ الهجوم المستمر على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وتصويرهم بأبشع الصور، ودعوى أن ذلك تدخل في شؤون الخاصة.
18_ استغلال الأخطاء الفردية أو الجماعية من قبل بعض الأفراد من المسلمين أو الجماعات الإسلامية وتضخيمها واتخاذها غرضاً ينفذون من خلاله إلى رمي الإسلام والطعن فيه.
19_ تمجيد الغرب، وتعظيم دوره، بهدف إزالة الفوارق، وتحطيم حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين.
20_ الاتكاء على بعض القواعد الشرعية _ المنضبطة بقواعد وضوابط الشريعة _ بقوة، ووضعها في غير محلها كقاعدة: (تغير الفتوى باختلاف المكان والزمان) وغيرها.
21_ اقتباس وجلب المناهج اللادينية من الغرب، وبثها في الصفوف الدراسية، وحذف النصوص التي تخالف أهوائهم.
22_ الهجوم على السنة النبوية وحملتها.
23_ الاحتفاء بالفتاوى الشاذة، ونشرها، وترويجها كالفتاوى التي تبيح الربا، والسفور أو غير ذلك.
هذه وسائل تحقيق العلمانية إجمالاً، مع أنه لا يلزم من قال بشيء من ذلك، أو دعا إليه أن يُصنَّف، أو يوصم بالعلمانية؛ فقد يكون مجتهداً، أو جاهلاً، أو متأولاً.
ــ المقدمة ... 3
الرسالة الأولى: مقدمة في الفلسفة ... 7
_ المقدمة ... 9
_ مفهوم الفلسفة: ... 10(1/348)
أولاً: منشأ هذه الكلمة ... 10
ثانياً: أصلها الوضعي وسبب تسميتها بذلك ... 10
ثالثاً: تعريف الفلسفة الوضعي الأصلي ... 10
رابعاً: تطور دلالة كلمة الفلسفة ... 10
خامساً: نماذج من تعريفات الفلسفة عند الفلاسفة ... 10
سادساً: تعريف الفلسفة عند الإطلاق وفي الاصطلاح العام ... 11
_ نشأة الفلسفة ودخولها في ديار الإسلام: ... 13
أولاً: نشأة الفلسفة ... 13
ثانياً: دخول الفلسفة في ديار الإسلام ... 14
_ أشهر الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام: ... 15
1-الكندي ... 15
2-الفارابي ... 15
3-ابن سينا ... 15
_ غاية الفلاسفة وموضوعها وأقسامها: ... 16
أولاً: غاية الفلسفة ... 16
ثانياً: موضوع الفلسفة ... 16
ثالثاً: أقسام الفلاسفة ... 16
رابعاً: أقسام الفلسفة ... 16
_ نبذة عن افتراق الفلاسفة ... 18
_ مذهب متقدمي الفلاسفة في الإلهيات والشرائع ... 20
_ معتقد الفارابي وابن سينا: ... 22
أولاً: تعريف بالفارابي ... 22
ثانياً: تعريف بابن سينا ... 23
ثالثاً: معتقد الفارابي وابن سينا ... 25
_ بيانُ علماءِ الإسلام ضلالَ الفلاسفةِ وانحرافَهم عن سواء الصراط ... 27
_ الأدلة على الاستغناء بما جاءت به الرسل عن أفكار الفلاسفة ... 28
_ من أقوال بعض العلماء في ذم الفلسفة وتعظيم ما جاءت به الرسل ... 30
الرسالة الثانية: الأديان في الهند وشرق آسيا ... 37
_ المقدمة ... 39
أولاً: لمحة تاريخية عن الديانات الهندية ... 40
ثانياً: عقائد الهندوسية البرهمية ... 43
ثالثاً: البوذية: ... 48
-تعريف البوذية ... 48
-بداية البوذية ... 48
-مؤسس البوذية ... 48
-كتب البوذية ... 53
-شعار البوذية ... 53
-عقائد البوذية، وأفكارها وتعاليمها ... 54
-أقسامُ البوذيين، والبوذيةُ الصينية ... 57
-مواطن انتشار البوذية ... 58
رابعاً: السيخ أو السيخية ... 59
أ-التعريف ... 59
ب-المؤسس ... 59
ج-السيخ بعد المؤسس ... 62
د-أئمة السيخ وخلفاؤهم ... 62(1/349)
هـ-عقائد السيخ: ... 67
الكيش ... 67
الكانغا ... 67
الكاتشا ... 67
الكارا ... 67
الكريبان ... 68
و-مواطن السيخ ... 68
الرسالة الثالثة: اليهودية ... 69
_ المقدمة ... 71
_ تعريف اليهودية ... 72
_ سبب التسمية ... 74
_ أسماء اليهود الأخرى ... 75
_ نبذة عن تاريخ بني إسرائيل ... 77
_ بداية انحراف اليهود ... 88
_ نبذة مختصرة عن عقيدة اليهود المحرفة ... 91
_ من أوصاف اليهود وأخلاقهم ... 95
_ مواقف اليهود مع المسلمين قديماً وحديثاً ... 96
_ أهداف اليهود ... 99
_ كتب اليهود ... 102
_ اليهود في العصر الحديث ... 105
_ أهم المراجع ... 107
الرسالة الرابعة: الصهيونية ... 109
_ المقدمة ... 111
_ تعريف الصهيونية وسبب التسمية: ... 112
أولاً: تعريف الصهيونية ... 112
ثانياً: سبب التسمية ... 112
_ تاريخ الصهيونية ... 113
_ أهداف الصهيونية ... 117
_ أفكار الصهيونية ومعتقداتها ... 119
_ أعمال الصهيونية ... 122
_ الصهاينة وفلسطين ... 124
_ وعد بلفور ... 126
_ خطط اليهود المستقبلية ... 129
_ أهم المراجع ... 130
الرسالة الخامسة: الماسونية ... 131
_ المقدمة ... 133
_ تعريف الماسونية: ... 134
الماسونية لغةً ... 134
الماسونية اصطلاحاً ... 134
_ صورة عامة عن تاريخ الماسونية ... 135
_ الماسونية والصهيونية ... 137
_ طريقة دخول الماسونية ... 139
_ شعار الماسونية ... 141
_ أنواع الماسونية: ... 142
أولاً: الماسونية الرمزية العامة ... 142
ثانياً: الماسونية الملوكية ... 142
ثالثاً: الماسونية الكونية الحمراء ... 143
_ أهداف الماسونية قديماً وحديثاً ... 144
_ وسائل الماسونية ومخططاتها ... 146
_ أعمال الماسونية قديماً وحديثاً ... 148
_ حكم الإسلام في الماسونية ... 151
_ أهم المراجع ... 155
الرسالة السادسة: النصرانية ... 157
_ المقدمة ... 159
_ تعريف النصرانية، وسبب تسميتها: ... 160
أولاً: تعريف النصرانية ... 160(1/350)
ثانياً: سبب التسمية ... 160
_ نبذة تاريخية عن النصارى ... 162
_ موقف النصارى من عيسى –عليه السلام- ... 165
_ النصارى بعد رفع عيسى –عليه السلام- ... 167
_ عقيدة المسلمين في عيسى –عليه السلام- ... 169
_ نماذج من انحرافات النصارى العقدية ... 172
_ نماذج من انحرافاتهم في القرآن والسنة، وتحذير المسلمين من ذلك ... 179
_ فرق النصارى: ... 183
1_ الموحدون ... 183
2_ النسطوريون ... 183
3_ اليعاقبة ... 183
الفرق النصرانية في العصر الحديث: ... 183
الكاثوليك ... 183
الأرثوذكس ... 183
البروتستانت ... 185
_ كتب النصارى ... 189
_ مواطن انتشار النصرانية ... 193
_ علاقة النصارى باليهود، وعداؤهم للإسلام ... 194
_ عداوة النصارى للمسلمين، وموقفهم منهم ... 201
الرسالة السابعة: الاستشراق، والاحتلال العسكري، والتنصير ... 209
أولاً: الاستشراق: ... 211
-تعريف الاستشراق ... 211
-المستشرقون ... 211
-خصائص الاستشراق ... 212
-وسائل المستشرقين ... 212
-خلاصة جهود المستشرقين ... 213
-نماذج من أسماء أشهر المستشرقين ... 217
ثانياً: الاحتلال العسكري: ... 221
-حديث عن الاحتلال العسكري (الاستعمار) ... 221
-أهداف الاستعمار ... 222
-أعمال المستعمرين ... 222
-آثار الاستعمار ... 224
ثالثاً: التنصير: ... 226
-تعريف التنصير ... 226
-أهدف المنصرين ... 226
-أساليب المنصرين، ووسائلهم ... 227
الرسالة الثامنة: النصيرية ... 231
_ المقدمة ... 233
_ تعريف النصيرية، وسبب تسميتها، وأسماؤها الأخرى: ... 234
أولاً: تعريف النصيرية ... 234
ثانياً: سبب التسمية ... 234
ثالثاً: أسماء النصيرية الأخرى ... 234
_ نشأة النصيرية ... 236
_ أشهر رجالات النصيرية ... 241
_ عقائد النصيرية: ... 243
1-القول بألوهية علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ... 243
2-تناسخ الأرواح ... 244
3-معاداة الصحابة ... 247
4-تعظيم ابن ملجم ... 249(1/351)
5-تعظيمهم للخمر ... 259
6-احتقار المرأة ... 251
7-إباحية نكاح المحارم ... 252
8-التقية ... 255
9-التأويل الباطني ... 257
-بعض تأويلات النصيرية: ... 257
أ-الشهادة ... 257
ب-الصلاة ... 258
جـ-الصيام ... 258
د-الزكاة ... 258
هـ-الحج ... 258
و-الجهاد ... 259
ز-الجناية ... 260
ح-الطهارة ... 260
ط-يوم القيامة ... 260
_ العلامة التي يعرف بها النصيريون بعضهم بعضاً ... 261
_ اليمين عند النصيرية ... 262
_ تعاليم النصيرية ... 263
_ أعياد النصيرية ... 266
_ نماذج من كتب النصيرية ... 270
_ طريقة الدخول في عقيدة النصيرية ... 279
_ مواطن انتشار النصيرية ... 287
_ فرق النصيرية: ... 289
1-فرقة الشمالية أو الشمسية ... 289
2-فرقة الكلازية أو القمرية ... 289
3-فرقة الحيدرية ... 290
4-فرقة الغيبية ... 290
_ عداء النصيرية للمسلمين ... 291
_ حكم الإسلام في النصرانية ... 293
الرسالة التاسعة: البابية ... 297
_ المقدمة ... 299
_ تعريف البابية، وسبب تسميتها بذلك: ... 301
أولاً: تعريف البابية ... 301
ثانياً: سبب التسمية ... 301
_ الظروف التي نشأة فيها البابية ... 302
_ أسباب قيام البابية ... 305
_ نبذة عن مؤسس البابية: ... 307
أولاً: بيئته وسيرته ... 307
ثانياً: دعاوى الشيرازي ... 309
ثالثاً: شخصية الشيرازي، وأخلاقه ... 310
رابعاً: نهاية الباب الشيرازي ... 312
_ أبرز شخصيات البابية ... 315
_ نبذة عن سيرة قرة العين ... 316
_ مؤتمر بدشت ... 320
_ معتقدات البابية، وتعاليمهم ... 322
_ بطلان البابية ... 327
الرسالة العاشرة: البهائية ... 329
_ المقدمة ... 331
_ تعريف البهائية، وعلاقتها بالبابية: ... 332
أولاً: تعريف البهائية ... 332
ثانياً: علاقة البهائية بالبابية ... 332
_ مؤسس البهائية ... 333
_ خصومات البهاء مع أخيه يحيى ودعاواه ... 335
_ تعاليم البهائية ... 337
_ عقائد البهائيين، وشرائعهم ... 340(1/352)
_ أساليب الدعوة عند البهائيين ... 346
_ كتب البهائية ... 347
_ نماذج من كتابات البهاء ... 348
_ علاقة البهائية باليهود ... 351
_ حكم البهائية والانتماء إليها ... 355
الرسالة الحادية عشرة: القاديانية ... 359
_ المقدمة ... 361
_ تعريف القاديانية، واسمهم الآخر: ... 363
أولاً: تعريف القاديانية ... 363
ثانياً: اسمهم الآخر ... 363
_ نشأة القاديانية ... 364
_ أسباب قيام القاديانية، وأهدافها: ... 366
أولاً: أسباب قيام القاديانية ... 366
ثانياً: أهداف قيام القاديانية ... 366
_ نبذة عن حياة غلام أحمد القادياني ... 368
_ بداية شهرة القادياني، ودعوته ... 370
_ شخصية القادياني وأخلاقه ... 372
_ دعاوى القادياني الباطلة ... 375
_ نهاية القادياني ... 377
_ عقائد القاديانية ... 379
_ مواطن انتشار القاديانية ... 381
_ القاديانية بعد هلاك مؤسسها ... 382
_ فرق القاديانية ... 384
_ أعمال القاديانية، ونشاطاتها الدعوية ... 385
_ الرد على دعاوى القاديانيين ... 386
_ حكم القاديانية والانتماء إليها ... 387
الرسالة الثانية عشرة: الوجودية ... 391
_ المقدمة ... 393
_ تعريف الوجودية ... 395
_ سبب التسمية ... 397
_ أنواع الوجودية ... 399
_ نشأة الوجودية ... 401
_ أبرز الشخصيات الوجودية ... 406
_ أهداف الوجودية ... 408
_ الأسباب التي دعت إلى ظهور الوجودية ... 410
_ الوجودية في بلاد الإسلام ... 412
_ أفكار الوجودية واعتقاداتها وآراؤها ... 413
_ بطلان الوجودية ... 416
_ حكم الوجودية والانتماء إليها ... 423
الرسالة الثالثة عشرة: الشيوعية ... 425
_ المقدمة ... 427
_ تمهيد: ... 431
أولاً: تعريف الشيوعية ... 433
1_ تعريف الشيوعية في اللغة ... 433
2_ تعريف الشيوعية في الاصطلاح العام ... 433
3_ تعريف الشيوعية الماركسية الحديثة ... 433
ثانياً: نبذة عن تاريخ الشيوعية عموماً ... 437(1/353)
الفصل الأول: نشأة الشيوعية الماركسية وأشهر شخصياتها ... 441
المبحث الأول: نشأة الماركسية الشيوعية ... 443
المبحث الثاني: مؤسس الشيوعية الماركسية، وأشهر شخصياتها ... 454
أولاً: مؤسس الشيوعية الحديثة ... 454
ثانياً: أشهر شخصيات الشيوعية الماركسية ... 458
المبحث الثالث: أسباب قيام الشيوعية، ومواطن انتشارها ... 468
أولاً: أسباب قيام الشيوعية ... 468
ثانياً: مواطن انتشارها ... 472
الفصل الثاني: معتقدات الشيوعية الماركسية، وأخلاقها، وأهدافها ... 475
المبحث الأول: معتقدات الشيوعية وآراؤها ... 477
المبحث الثاني: أخلاق الشيوعية ... 484
المبحث الثالث: أهداف الشيوعية ووسائلها ... 487
أولاً: أهداف قيام الشيوعية ... 487
ثانياً: الوسائل التي توصل بها الشيوعيون إلى تحقيق أهدافهم ... 488
الفصل الثالث: موقف الشيوعية من الإسلام ... 491
تمهيد ... 493
المبحث الأول: طرق الشيوعيين في محاربة الإسلام ... 495
المبحث الثاني: أعمال الشيوعيين ضد المسلمين ... 501
المبحث الثالث: أسباب انتشار الشيوعية في العالم الإسلامي ... 512
الفصل الرابع: بطلان الشيوعية والرد على مزاعمهم ... 519
المبحث الأول: آثار الشيوعية ... 521
أولاً: الشيوعية بعد التطبيق ... 521
ثانياً: الآثار المترتبة على الإلحاد ... 531
ثالثاً: سقوط الشيوعية ... 535
المبحث الثاني: الرد على مزاعم الشيوعية، وحكم الانتماء إليها ... 538
أولاً: الرد على مزاعم الشيوعية ... 538
ثانياً: حكم الانتماء إلى الشيوعية _فتوى المجمع الفقهي_ ... 561
_ خلاصة البحث ... 566
_ الخاتمة ... 570
الرسالة الرابعة عشرة: العلمانية ... 575
_ المقدمة ... 577
_ تعريف العلمانية ... 578
_ أسباب قيام العلمانية ... 579
_ صورتا العلمانية ... 585
_ العلمانية ومجالات الحياة ... 586
_ أسباب دخول العلمانية في العالم الإسلامي ... 587
_ بداية ظهور العلمانية في بلاد الإسلام ... 589(1/354)
_ صنيع أتاتورك في قيام العلمانية، وإلغاء الخلافة ... 591
_ العلمانية في مصر ... 593
_ نظرة في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرزاق ... 594
_ رد الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ... 606
_ وسائل تحقيق العلمانية ... 609
ــ المحتويات ... 613(1/355)