رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان
تم جمع هذا البحث من أبحاث الشيخ :
أبو عبد الله الذهبي ...
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
http://www.saaid.net/Doat/Althahabi
Shams_aldeen21@hotmail.com
المقدمة
باسم الله العلي القدير .. والصلاة والسلام على رسول الله البشير النذير .. وبعد :-
إننا كثيراً ما نمر بقضايا من التاريخ تجعلنا نؤمن بأن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن ؛ حتى يثبت خلاف ذلك ..
والحديث عن تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم عريض الجوانب .. طويل المدى واسع الآفاق ورداً لكثير من الشبهات والتهم التي أثيرت حول الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وبالأخص خال المسلمين وأمير المؤمنين ، معاوية رضي الله عنه .. الذي يتلذذ بالطعن فيه بعض الجهلة تحت ستار النقد العلمي .. وما درى هؤلاء المساكين أن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ، من لابس الفتن منهم ومن اعتزل .. إحساناً للظن بهم ؛ لأنهم نقلة الشريعة .. والطعن في أحدهم مثل معاوية رضي الله عنه مدخلاً لأعداء هذا الدين للنيل من بقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .. وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله : معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم - يعني الصحابة - . البداية والنهاية لابن كثير (8/139 ) .
وما أعتقد أن شخصية في تاريخنا الإسلامي ، من الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قد نالها من التشويه والدس والافتراء والظلم ، ما ناله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما .. حيث امتلأت معظم المصادر التاريخية بعشرات الروايات الضعيفة أو المكذوبة على هذا الصحابي الكريم .. فكان لابد من الحديث عنه والكتابة عنه والذب عن عرضه وفق المنهج الصحيح ..
أخوكم
أبو عبد الله الذهبي ...
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم عدالة الصحابة(1/1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
إن موضوع عدالة الصحابة من المواضيع المهمة التي يجب على كل مسلم أن يعرفه حق المعرفة ، و قد ترددت كثيراُ في الكتابة أو الحديث عن هذا الموضوع لحساسيته و عظم شأنه ، لكن الذي دفعني للكتابة هو ما سمعته و قرأته من أقوال الجهال أصحاب الهوى ممن ينتسبون للعلم و هو منهم براء ، أسمعهم يتشدقون بأقوال و كلمات ما أنزل الله بها من سلطان في حق الصحابة و ما شجر بينهم ، متذرعين بشبهات يتشبثون بها ، وروايات ضعيفة ساقطة موضوعة مكذوبة واهية أوهى من خيوط العنكبوت ، يتلقفونها و يلتقطونها من كتب الأدب و التاريخ و قصص السمر و الكتب المنحولة و الضعيفة ككتاب الأغاني و البيان و التبيين و الإمامة و السياسة و نهج البلاغة و غيرها من الكتب فيطيرون بها في الآفاق كشيطان العقبة .
مثل تكفير بعض الصحابة أو الطعن في خلافة عثمان أو علي أو سبٍ للصحابة أمثال : معاوية و عائشة و طلحة و الزبير و أبو موسى الأشعري و عمرو بن العاص و غيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
يقول الإمام مالك في الذين يقدحون في الصحابة : إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك ، فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء و لو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين . الصارم المسلول (ص 553) .
و هذا القول من الإمام مالك منطلق من نظرته البعيدة إلى أبعاد الخبر فليس الأمر قدحاً في الصحابة فقط ، بل إن هذا يجر إلى ما هو أخطر منه .
و بهذا المنظار انطلق ابن تيمية رحمه الله بقوله : الطعن فيهم - أي في الصحابة - طعن في الدين . منهاج السنة (1/18) . و الأمثلة في هذا كثيرة .(1/2)
و إن الباحث المسلم كثيراً ما يحس بالمرارة ، أو يصاب بخيبة الأمل ، و هو يتابع تفاصيل العصر الراشدي ، و هو العصر الذهبي في تاريخ الإسلام ، في حشود الروايات التي تقدمها مصادرنا القديمة ، و على رأسها تاريخ الرسل و الملوك للإمام الطبري ، فيجد البون شاسعاً بين ما يعهده من عدالة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من سلامة في الاعتقاد و استقامة في السلوك ، و ما كانوا عليه من خلق كريم ، و بين ما تصوره الروايات التي نقلها الرواة و الإخباريين على أنه الواقع التاريخي .
و في العصر الحديث تلقف المستشرقون و من شايعهم و تأثر بآرائهم من المنتسبين إلى الإسلام ، هذه الأباطيل بل كانت مغنماً تسابقوا إلى اقتسامه ما دامت تخدم أغراضهم للطعن في الإسلام و النيل من أعراض الصحابة الكرام .
ولابد أن تعتقد و أنت تقرأ تاريخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرين اثنين :-
أ- أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير البشر بعد الأنبياء ، و ذلك لأن الله تبارك و تعالى مدحهم و النبي صلى الله عليه وسلم مدحهم في أكثر من حديث أنهم أفضل الأمة أو الأمم بعد أنبياء الله صلوات الله و سلامه عليهم .
ب- لابد أن تعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصومين ، لكن المصيبة أن البعض يعتقد العصمة فيهم ؛ نعم نحن نعتقد العصمة في إجماعهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة لحديث : ( إن الله تعالى قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة ) انظر : كتاب السنة لابن أبي عاصم بتخريج الألباني رحمه الله (1/41) - ، فهم معصومون من أن يجتمعوا على ضلالة ، و لكن كأفراد هم غير معصومين ، فالعصمة لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم .
و بعد هذه المقدمة السريعة ندخل إلى صلب الموضوع ، إلا و هو عدالة الصحابة ، و نبدأ أولاً ، بتعريف الصحابي ، فأقول و بالله التوفيق
تعريف الصحابي(1/3)
ذهب جمهور الفقهاء والأصوليين في تعريف الصحابي إلى أنه :-
من لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة مؤمناً به ، بعد بعثته ، حال حياته ، و طالت صحبته و كثر لقائه به ، على سبيل التبع له ، والأخذ عنه ، وإن لم يرو عنه شيئاً ، و مات على الإيمان .
شرح التعريف :
قولهم : من لقي النبي .. الخ : تقدم شرح ذلك و بيان ما فيه ، في تعريف الصحابي عند جمهور المحدثين .
و قولهم : طالت صحبته :- أي أن يكون الصحابي قد جالس النبي صلى الله عليه وسلم و لقيه كثيراً .
و قد اختلف العلماء في المدة التي يقال فيها طالت صحبته ، فمنهم من حددها بسنة فأكثر ، وعليه ابن المسيب ، كما نقله عنه الشوكاني في إرشاد الفحول ( ص 70) ، وابن الهمام في التحرير (3/66) و الآلوسي في أجوبته العراقية (ص 9) وغيرهم .
و منهم من حددها بستة أشهر فأكثر ، كما نقله عن بعض العلماء صاحب التيسير (3/66) و الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 70) والآلوسي في الأجوبة العراقية ( ص 9) و غيرهم .
و قد رد على هذين القولين بما ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 70) حيث قال : ولا وجه لهذين القولين ، لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة الذين رووا عنه ولم يبقوا لديه إلا دون ذلك ، و أيضاً لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع .
ومنهم من رأى أنها لا تحدد بمقدار ، وإنما هي تطول بحيث يطلق عليها اسم الصحبة عرفاً .
و هذا هو القول الراجح والأصح عندهم ، وإليه ذهب الجمهور منهم .
و قولهم : على سبيل التبع له والأخذ عنه :- هذا قيد إنما جيء به في الحقيقة لبيان الواقع ، لأن من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم عرفاً لا يكون إلا على سبيل المتابعة له والأخذ عنه ، ولا يصح أن يكون قيداً له مفهوم ، إذ لا نعلم أن هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن متابعاً له ، آخذاً عنه .(1/4)
و قولهم : وإن لم يرو عنه شيئاً :- اختلف جمهور أهل الفقه والأصول في ذلك ، فمنهم من يشترط لثبوت الصحبة ثبوت الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل : الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 70) والسيوطي في تدريب الراوي (2/112) وغيرهم .
ومنهم من ذهب إلى أنه لا يشترط لثبوت الصحبة ثبوت الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل : القاضي أبي يعلى الفراء في العدة (ص 3/989) والآمدي في الإحكام (1/275) و السبكي في جمع الجوامع (2/179) و غيرهم .
والقول الراجح هو القول الثاني ؛ لأن القول باشتراط الرواية لتحقق مفهوم الصحبة يؤدي إلى خروج كثير من الصحابة الذين لم تحفظ لهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اتفاق العلماء الذين ترجموا للصحابة على عدهم فيهم . و قد تقدمت الأمثلة على ذلك في تعريف الصحابي عند جمهور المحدثين .
ومن خلال ما ذكرت نستطيع أن نقول الآن بأن التعريف الراجح للصحابي هو ما ذهب إليه جمهور المحدثين ، و ذلك لسلامة أدلتهم و خلوها من الانتقاد . والله أعلم .
طريق إثبات الصحبة للرسول صلى الله عليه وسلم ..
نقول وبالله التوفيق : هناك طريقتين لإثبات الصحبة :-
الطريقة الأولى : إثبات الصحبة بالنص أي بالخبر
و تحته أنواع :-
1- القرآن الكريم : و ذلك مثل قوله تعالى{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}التوبة/40 . فهذا النص يثبت صحبة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حيث استقر الإجماع بأن المعني بالصاحب في هذه الآية هو أبو بكر رضي الله عنه . تفسير الرازي (16/65) .
2 - الخبر المتواتر : و ذلك كما في صحبة العشرة المبشرين بالجنة ، فقد تواترت الأخبار بثبوت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم . راجع الحديث في سنن الترمذي (3/311-312) .(1/5)
3 - الخبر المشهور ، كما في صحبة عكاشة بن محصن و أبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وغيرهم الكثير ممن لا يرتاب مسلم في إثبات الصحبة لهم . راجع دراسات تاريخية في رجال الحديث (ص 39) .
4 - الخبر الآحاد : و يدخل تحته أربع طرق :-
أ - رواية أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الرؤية أو السماع ، مع معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول أحد التابعين : أخبرني فلان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ، أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا ، كقول الزهري فيما رواه البخاري في فتح مكة من صحيحه . راجع صحيح البخاري كتاب المغازي (3/64) . و من الذين قالوا بهذه الطريقة ابن كثير في الباعث الحثيث (ص 190) والسخاوي في فتح المغيث (3/97) .
ب - إخبار الصحابي عن نفسه أنه صحابي ، و قد افترق العلماء في هذا الطريق إلى أربع مذاهب :
المذهب الأول : أنه يقبل قوله مطلقاً من غير شرط ، وجرى على ذلك ابن عبد البر كما نقله السخاوي في فتح المغيث (3/99) .
المذهب الثاني : أنه يقبل قوله بشرطين :-
الأول : أن يكون ذلك بعد ثبوت عدالته .
الثاني : أن يكون بعد ثبوت معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم .
و ممن جرى على ذلك و جزم به : جمهور علماء الأصول والحديث . راجع : شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/479) ، و المختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص 89) و جمع الجوامع للسبكي (2/167) و شرح الألفية للعراقي (3/11) وابن حجر في الإصابة (1/8) والسخاوي في فتح المغيث (3/97) و غيرهم الكثير .
و العلة في صحة قبول إخباره عن نفسه أنه صحابي ، أنه لو أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبلنا روايته ، فلأن نقبل خبره عن نفسه أنه صحابي من باب أولى . راجع شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/479) .(1/6)
والمعاصرة التي اشترطوها في إثبات الصحبة هي : المعاصرة الممكنة شرعاً ، وإنما تكون المعاصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ممكنة شرعاً إذا ادعى الصحبة في حدود مائة وعشر سنين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/8 ) ، و ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر حياته لأصحابه : أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد يقصد من أصحابه - . البخاري (1/33-34) و مسلم برقم (1965) .
ومن هنا يتبين أن من ادعى الصحبة وكانت المعاصرة غير ممكنة ، فإنه لا يقبل قوله ويعتبر في ذلك من الكذابين ، راجع الأمثلة على من ادعى أنه صحابي و ظهر كذبه : الإصابة (1/9) و محاضرات في علوم الحديث (1/138-139) و دراسات تاريخية (ص 46) .
المذهب الثالث : عدم قبول إنه صحابي ، و جرى على هذا القول ابن القطان كما نقل عنه ذلك الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 71) ، و به قال أبو عبد الله الصيرمي من الحنفية ، كما ذكره ابن النجار في شرح الكوكب المنير (2/479) . و أيضاً ممن يرى ذلك الإمام البلقيني في محاسن الاصطلاح (ص 427) ، و غيرهم .
و عللوا ذلك : أنه متهم بأنه يدعي رتبة عالية يثبتها لنفسه ، و هي منصب الصحابة ، والإنسان مجبول على طلبها قصداً للشرف . راجع : البلبل (ص 62) و شرح مختصر الروضة (2/13) وتيسير التحرير ( 3/67) و غيرهم الكثير .
المذهب الرابع : قالوا بالتفصيل في ذلك ، فمن ادعى الصحبة القصيرة قبل منه ، لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل ، إذ ربما لا يحضره حاله اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أو رؤيته له أحد ، و من ادعى الصحبة الطويلة و كثرة التردد في السفر والحضر ، فلا يقبل منه ذلك ؛ لأن مثل ذلك يشاهد و ينقل و يشتهر ، فلا تثبت صحبته بقوله ، كما قال بذلك السخاوي في فتح المغيث (3/98-99) .(1/7)
جـ - قول أحد الصحابة بصحبة آخر :
و هو إما أن يكون بالتصريح ، كأن يقول الصحابي : إن فلاناً صحابي ، أو من الأصحاب ، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم .
وإما أن يكون بطريق اللزوم ، كأن يقول : كنت أنا وفلان عند النبي ، أو سمع معي هذا الحديث فلان من النبي ، أو دخلت أنا وفلان على النبي صلى الله عليه وسلم .
غير أن هذا الطريق الأخير إنما يثبت فيه الصحبة إذا عرف إسلام المذكور في تلك الحالة ، كما قال السخاوي في فتح المغيث (3/96) . و مثلوا ذلك بصحبة حمحمة بن أبي حمحمة الدوسي الذي مات بأصبهان ، فشهد له أبو موسى الأشعري . راجع : ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم (1/71) و الإصابة (1/355) وأسد الغابة (2/58-59) .
و يعلل لقبول قول الصحابي في آخر أنه صحابي : بأن الصحابي عدل فإن صح لناأن نقبل قوله حين يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلأن نقبل قوله حين يخبر أن فلاناً صحابي من باب أولى .
د - إخبار أحد التابعين الموثقين عند أهل الحديث بأن فلاناً صحابي :
اختلف العلماء من المحدثين والأصوليين في ذلك ، فذهب جماعة منهم إلى قبول قوله ، و منهم الإمام السخاوي في فتح المغيث (3/96) والحافظ ابن حجر في الإصابة (1/8) ، و غيرهم .
و ذهب جماعة آخرون إلى أنه لا يقبل قوله ، و لا يثبت به صحبة من أخبر عنه ، و ممن ذهب إلى ذلك بعض شراح اللمع على ما ذكره الإمام السخاوي في فتح المغيث (3/99) .
و كانت حجتهم في هذا النفي أن التزكية إذا صدرت من مزك واحد غير مقبولة ، بل لابد فيها من اثنين ، لأن التزكية تلحق بالشهادة ، فكما أن الشهادة لا تصح ولا تتحقق إلا بمتعدد اثنين فأكثر ، فكذلك التزكية لا تقبل إلا من اثنين فأكثر ، ولأن اشترط التعدد في المزكي أولى وأحوط من الإفراد ، إذ فيه زيادة ثقة . راجع تيسير التحرير (3/58) .(1/8)
والقول الراجح إن شاء الله : هو في ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من قبول تزكية التابعي الواحد : أن فلاناً صحابي . و قد أجابوا عما ذكره النافون بما يلي :-
1 - إن التزكية تتنزل منزلة الحكم ، فلا يشترط فيها العدد ، بخلاف الشهادة فإنها تكون عند الحكم فلا بد فيها من العدد ، فلا يصح إلحاق التزكية بالشهادة . نزهة النظر (ص 134) .
2 - إن التزكية إن كانت صادرة عن اجتهاد المزكي فهي بمنزلة الحكم ، و حينئذ لا يشترط التعدد في المزكي ، لأنه بمنزلة الحكم .
3 - أن المزكي يكتفى فيه بواحد ، لأنه بمثابة الخبر ، و كما يصح قبول خبر الواحد ، فكذلك يقبل قول المزكي ، لأنه بمنزلته . شرح الألفية للعراقي (1/295) .
4 - أن اعتبار الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه ، واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه . الإحكام للآمدي (1/271) .
5 - ينبغي القول بعدم اشتراط التعدد في المزكي ، لأن اشتراط التعدد قد يؤدي إلى تضييع بعض الأحكام ، فكان عدم التعدد أولى وأحوط . تيسير التحرير (3/58) .
الطريق الثاني : إثبات الصحبة بعلامة من العلامات :
العلامة الأولى : أن يكون من يدّعي الصحبة قد تولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عزوة من غزواته ، و ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمّر على عزوة من غزواته إلا من كان من أصحابه . انظر : محاضرات في علوم الحديث (1/140) و المختصر في علم رجال الأثر (ص 27) .
العلامة الثانية : أن يكون المدعي صحبته ممن أمّره أحد الخلفاء الراشدين على إحدى المغازي في حروب الردة والفتوح . الإصابة (1/9) .(1/9)
العلامة الثالثة : أن يكون المدعي صحبته قد ثبت أن له ابناً حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو مسح على رأسه ، أو دعا له ، فإنه كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له ، كما أخرجه الحاكم عن عبدالرحمن بن عوف على ما ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/9) . وانظر صحيح مسلم (1/237) .
العلامة الرابعة : أن يكون من يدعي صحبته ممن كان بمكة أو الطائف سنة عشر من الهجرة ، إذ من المعلوم عند المحدثين أن كل من كان بمكة أو الطائف سنة عشر قد أسلم و حج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، فيكون من الصحابة . الإصابة (1/9) و محاضرات في علوم الحديث (1/139) ، و في هذه العلامة نظر ؛ لأنه وإن سلّم بإسلامهم جميعاً ، فإنه لا يسلّم بأن جميعهم حجوا معه صلى الله عليه وسلم .
العلامة الخامسة : أن يكون من يدعي صحبته من الأوس أو الخزرج الذين كانوا بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت أنهم دخلوا في الإسلام جميعاً ، و لم يثبت عن أحد منهم أنه ارتد عن الإسلام . الإصابة (1/8) و محاضرات في علوم الحديث (1/139) .
طبقات الصحابة .
الطبقة لغة : بمعنى المرتبة ، و تأتي أيضاً بمعنى المساواة . راجع : مختار الصحاح (ص 388) و ترتيب القاموس (3/53) .
الطبقة اصطلاحاً : تطلق على الجماعة الذين تشاركوا في السن ، أو تقاربوا في الأخذ عن مشايخهم ، أو في وصف عام يشملهم ، وإنما سموا طبقة ، لأن لهم من رتبة السبق أو التوسط أو التأخر ما يحدد وصفهم ، و يعيّن مراتبهم . محاضرات في علوم الحديث (1/152) .
عدد طبقات الصحابة رضي الله عنهم ..
اختلف العلماء في عدد طبقات الصحابة ما بين مقل و مكثر ، واختلافهم في ذلك مبني على اختلاف أنظارهم فيما يتحقق به معنى الطبقة عندهم ؛ فمنهم من ذهب إلى أن الصحابة طبقة واحدة .
و ممن جرى على هذا القول ابن حبان و من رأى رأيه ، و وجهتهم فيما ذهبوا إليه :-(1/10)
أن للصحابة من الشرف العظيم والفضل الكبير ما يفوق كل ملحظ ، و يعلو فوق كل اعتبار ن فهم نظروا إلى مطلق الصحبة ، قاطعين النظر عن عيرها من سائر الاعتبارات الأخرى . محاضرات في علوم الحديث (1/152) ، ومن ثم جعلوا الصحابة كلهم طبقة واحدة ، إذ جميعهم فيها متساوون لا فضل في ذلك لأحدهم على الآخر .
ومنهم من جعل الصحابة خمس طبقات
الأولى : البدريون ، ومنهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب و بلال بن رباح رضي الله عنهم أجمعين ، و غيرهم ممن حضر غزوة بدر .
الثانية : من أسلم قديماً ممن هاجر عامتهم إلى الحبشة ، و شهدوا أحداً فما بعدها ، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام و غيرهم رضي الله عنهم .
الثالثة : من شهد الخندق فما بعدها ، منهم سلمان الفارسي و سعد بن معاذ و غيرهم .
الرابعة : مسلمة الفتح فما بعدها ، منهم أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و غيرهم .
الخامسة : الصبيان والأطفال الذي رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يغزُ ، سواء حفظ عنه أو لم يحفظ .
و ممن جرى على هذا القول ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى ، و وجهته فيما ذهب إليه أن الصحابة رضي الله عنهم وإن تساووا في شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنهم متفاوتون بالنظر إلى اعتبارات أخرى ، كالسبق إلى الإسلام والغزو ، وما إلى ذلك ، فيكون قد نظر إلى أمر زائد على أصل الصحبة . راجع : محاضرات في علوم الحديث (1/153) .
ومنهم من جعلها اثنتي عشرة طبقة ، وهو الإمام أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ، فقد ذكر في كتابه معرفة علوم الحديث (ص 22-24 ) ، أن الصحابة على مراتب :
الطبقة الأولى : قوم أسلموا بمكة ، مثل أبي بكر و عمر و عثمان و علي و غيرهم رضي الله عنهم .(1/11)
الطبقة الثانية : أصحاب دار الندوة و هي دار قصي بن كلاب و ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم أسلم وأظهر إسلامه ، حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة فبايعه جماعة من أهل مكة . منهم : سعيد بن زيد و سعد بن أبي وقاص .
الطبقة الثالثة : المهاجرة إلى الحبشة . منهم : حاطب بن عمر بن عبد شمس و سهيل بن بيضاء و جعفر بن أبي طالب .
الطبقة الرابعة : الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة . منهم : رافع بن مالك و عبادة بن الصامت ، وأسعد بن زرارة .
الطبقة الخامسة : أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار و هذه العبارة فيها نظر ؛ لأنه من المعلوم والثابت أنه لم يشترك مع أصحاب العقبة الأولى والثانية أحد من غير الأنصار ، اللهم إلا العباس فقد حضر ليستوثق للنبي صلى الله عليه وسلم - .
الطبقة السادسة : أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو بقباء ، قبل أن يدخلوا المدينة و يبني المسجد . منهم : أبو سلمة بن عبد الأسد و عامر بن ربيعة .
الطبقة السابعة : أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم : لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . البخاري (2/170-171) ، ومنهم : حاطب بن أبي بلتعة ، و المقداد بن الأسود و الحباب بن المنذر .
الطبقة الثامنة : المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية . منهم المغيرة بن شعبة .
الطبقة التاسعة : أهل بيعة الرضوان ، الذين أنزل الله تعالى فيهم {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }الفتح/18
، و منهم : سلمة بن الأكوع وابن عمر و سنان بن أبي سنان .
الطبقة العاشرة : المهاجرة بين الحديبية والفتح ، منهم : خالد بن الوليد و عمرو بن العاص .
الطبقة الحادية عشرة : هم الذين أسلموا يوم الفتح ، منهم : أبو سفيان بن حرب و عتاب بن أسيد و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء .(1/12)
الطبقة الثانية عشرة : صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، و في حجة الوداع و غيرهما ، و عدادهم من الصحابة . منهم : السائب بن يزيد و عبد الله بن ثعلبة ، و أبو الطفيل بن عامر بن واثلة ، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله .
و وجهة الحاكم فيما ذهب إليه : أنه نظر إلى أمر زائد على أصل الصحبة ، و قد لاحظ اعتبارات أخرى زيادة على ما لاحظه ابن سعد في طبقاته .
ومنهم من ذهب في عد طبقات الصحابة إلى أكثر من ذلك ، كالإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي ، فقد جعلها سبعة عشر طبقة ، حيث ذكر في كتابه أصول الدين (ص 298-303) ، أن الصحابة رضي الله عنهم على مراتب :-
الطبقة الأولى : السابقون منهم إلى الإسلام ، من الرجال أبو بكر و من أهل البيت علي و من النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة ، و من الحبشة بلال ، و من الفرس سلمان .
الطبقة الثانية : هم الذين أسلموا عند إسلام عمر . و قد تقدم أمثلة عليهم .
الطبقة الثالثة : أصحاب الهجرة الأولى إلى الحبشة ، و قد تقدم أمثلة عليهم .
الطبقة الرابعة : و هم أصحاب العقبة الأولى ، و كانوا اثني عشر رجلاً من الأنصار ، و قد تقدم أمثلة عليهم .
الطبقة الخامسة : أصحاب العقبة الثانية ، منهم : كعب بن مالك الشاعر و عبد الله بن عمرو بن حرام ، و البراء بن معرور وغيرهم .
الطبقة السادسة : المهاجرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، و من أدركه منهم بقباء قبل دخوله المدينة ، و قد تقدم أمثلة عليهم .
الطبقة السابعة : المهاجرون بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة و بين بدر .
الطبقة الثامنة : البدريون ، وهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلاً .
الطبقة التاسعة : أصحاب أحد ، غير رجل منهم اسمه قزمان فأنه كان منافقاً .
الطبقة العاشرة : أصحاب الخندق و عبد الله بن عمر معدود فيهم .
الطبقة الحادية عشرة : هم المهاجرون بين الخندق والحديبية .(1/13)
الطبقة الثانية عشرة : أصحاب بيعة الرضوان بالحديبية عند الشجرة .
الطبقة الثالثة عشرة : المهاجرون بين الحديبية و بين فتح مكة .
الطبقة الرابعة عشرة : الذين أسلموا يوم فتح مكة و في ليلته .
الطبقة الخامسة عشرة : الذين دخلوا في دين الله أفواجاً بعد ذلك .
الطبقة السادسة عشرة : صبيان أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و قد تقدم أمثلة عليهم .
الطبقة السابعة عشرة : صبيان حملوا إليه عام حجة الوداع و قبيل ذلك .
و وجهة نظر الإمام أبي منصور البغدادي فيما ذهب إليه ؛ أنه نظر إلى أمر زائد على أصل الصحبة ، ولاحظ اعتبارات أخرى لم يلاحظها غيره .
والمشهور عند العلماء في عد طبقات الصحابة ، هو ما ذهب إليه الحاكم من أنها اثنتا عشرة طبقة . انظر : الباعث الحثيث تعليق أحمد شاكر (ص 184) . و هذا التقسيم هو الذي جرى عليه أكثر الذين كتبوا في طبقات الصحابة رضي الله عنهم ، مقتفين في ذلك أثر الحاكم فيما ذهب إليه ، و تقسيم الصحابة إلى طبقات كثيرة على ضوء ما ذكره الحاكم والبغدادي هو الراجح في هذه المسألة .
و لنا لقاء آخر و معنى عدالة الصحابة ، وما يتعلق بها من أمور .
معنى العدالة
العدالة لغة : جاء في الصحاح للجوهري (ص 415-416) : العدل خلاف الجور ، يقال : عدل عليه في القضية فهو عادل ، و بسط الوالي عدله ومعدِلته ومعدَلته ، و فلان من أهل المَعدلة ، أي : من أهل العدل ، و رجل عدل ، أي : رضا و مقنع في الشهادة ، و هو في الأصل مصدر ، و قوم عدل و عدول أيضاً : و هو جمع عدل و قد عُدل الرجل بالضم عدالة .. إلى أن قال : وتعديل الشيء : تقويمه ، يقال : عدلته فاعتدل ، أي : قومته فاستقام .
و جاء في المصباح المنير (2/397) : وعدلت الشاهد نسبته إلى العدالة و وصفته بها .
و جاء في القاموس (4/13) : العدل ضد الجور ، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعَدولة والمعدِلة والمعدَلة .(1/14)
فمن هذه التعاريف اللغوية تبين أن معنى العدالة في اللغة الاستقامة ، وأن العدل هو الذي لم يظهر منه ريبة ، و هو الذي يرضى الناس عنه و يقبلون شهادته و يقتنعون بها .
العدالة اصطلاحاً : تنوعت عبارات العلماء في تعريف العدالة في الاصطلاح :-
عرف الخطيب البغدادي في الكفاية (ص 103) العدالة بقوله : العدل هو من عرف بأداء فرائضه و لزوم ما أمر به و توقي ما نهي عنه ، و تجنب الفواحش المسقطة وتحري الحق و الواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه و ليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقاً حتى يكون مع ذلك متوقياً لما يقول كثير من الناس أنه لا يعلم أنه كبير .
و يعرف ابن الحاجب العدالة بقوله كما في مختصر المنتهى (2/63) : محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، وليس معها بدعة ، و تتحقق باجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر ، و بعض الصغائر و بعض المباح .
تعريف ابن الهمام : ذهب ابن همام الذين في تعريف العدالة كما في كتابه التحرير (3/44) إلى أنها : ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، والشرط : أدناه ترك الكبائر ، والإصرار على صغيرة ، و ما يخل بالمروءة .
و يعرف بعض أهل العراق العدالة بأنها : عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامة المسلم عن فسق ظاهر ، فمتى كانت هذه حاله وجب أن يكون عدلاً ، فكل مسلم مجهول عنده عدل . راجع الكفاية للخطيب البغدادي (ص 141) .
و يعرف القرافي العدالة على أنها كما في كتابه شرح تنقيح الفصول (ص 361) إلى أنها : اجتناب الكبائر و بعض الصغائر و الإصرار عليها ، و المباحات القادحة في المروءة .(1/15)
و عرفها الغزالي كما في المستصفى (1/157) : والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين و يرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً ، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن كذب ن ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضاً : اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة و تطفيف في حبة قصداً ، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالأغراض الدنيوية كيف و قد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع و صحبة الأراذل وإفراط المزاح و ضبط ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جرأته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا .
و عرفها الحافظ ابن حجر في نزهة النظر (ص 29) : المراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة ، والمراد بالتقوى : اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة .
وعرفها أيضاً في الفتح (5/251-252) بقوله : والعدل والرضا عند الجمهور من يكون مسلماً مكلفاً حراً غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة .
هذه تعريفات أهل العلم للعدالة في الاصطلاح ، و هي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد و هو أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ولا يتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي ، وأن يبعد عما يخل بالمروءة ، وأيضاً : لا تتحقق إلا بالإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الفسق .
والمراد بالفسق : ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب والإصرار على صغيرة من الصغائر لأن الإصرار على فعل الصغائر يصيرها من الكبائر .
والمروءة التي يعبر عنها أهل العلم : هي الآداب النفسية التي تحمل صاحبها على الوقوف عند مكارم الأخلاق و محاسن العادات وما يخل بالمروءة يعود إلى سببين :-(1/16)
الأول : ارتكاب الصغائر من الذنوب التي تدل على الخسة كسرقة شيء حقير كبصلة أو تطفيف في حبة قصداً .
الثاني : فعل بعض الأشياء المباحة التي ينتج عنها ذهاب كرامة الإنسان أو هيبته و تورث الاحتقار ، و ذلك مثل كثرة المزاح المذموم .
و لم تتحقق العدالة في أحد تحققها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجميعهم رضي الله عنهم عدول تحققت فيهم صفة العدالة ومن صدر منهما يدل على خلاف ذلك كالوقوع في معصية فسرعان ما يحصل منه التوجه إلى الله تعالى بالتوبة النصوح الماحية التي تحقق رجوعه وتغسل حوبته فرضي الله عنهم أجمعين .
تعديل الله تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم أجمعين ..
لقد تضافرت الأدلة من كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعديل الصحابة الكرام ، مما لا يبقى معها لمرتاب شك في تحقيق عدالتهم ، فكل حديث له سند متصل بين من رواه و بين المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد أن تثبت عدالة رجاله ، و يجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم و إخباره عن طهارتهم واختياره لهم بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، و من ذلك :-
1 - قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً }البقرة/143 .
ووجه الاستدلال بهذه الآية : أن معنى كلمة ( وسطاً ) عدولاً خياراً ، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة . تفسير الطبري (2/7) و والجامع لأحكام القرآن (2/153) و تفسير ابن كثير (1/335) .
و قد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص ، و قيل : إنه وارد في الصحابة دون غيرهم . الكفاية للخطيب (ص 64) . فالآية ناطقة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم قبل غيرهم ممن جاء بعدهم من هذه الأمة .(1/17)
2 - قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }آل عمران/110 .
وجه الاستدلال : أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها و أول من يدخل في هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول هم الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، و ذلك يقتضي استقامتهم في كل حال و جريان أحوالهم على الموافقة دون المخاطبة ، و من البعيد أ يصفهم الله عز وجل بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة ، و هل الخيرية إلا ذلك ، كما أنهلا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً أي عدولاً وهم غير ذلك . راجع الموافقات للشاطبي (4/40-41) .
3 - قوله تعالى {والذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله والذين آووا و نصروا أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم مغفرة و رزق كريم }الأنفال/74 .
ففي هذه الآية وصف الله تعالى عموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق و من شهد الله له بهذه الشهادة فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة .
4 - قوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } التوبة/100 .
وجه الدلالة : أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلاً للرضا ، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها عدلاً في دينه .
5 - قوله تعالى { لقد رضي الله عنه المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً }الفتح/18 .(1/18)
و هذه الآية فيها دلالة واضحة على تعديل الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، و وجه دلالة الآية على تعديلهم أن الله تعالى أخبر برضاه عنهم و شهد لهم بالإيمان و زكاهم بما استقر في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة ولا تصدر تلك التزكية العظيمة من الله تعالى إلا لمن بلغ الذروة في تحقيق الاستقامة على وقف ما أمر الله به .
6 - قوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله و رضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل .. الآية }الفتح/29 .
فهذا الوصف الذي وصفهم الله به في كتبه و هذا الثناء الذي أثنى به عليهم لا يتطرق إلى النفس معه شك في عدالتهم . راجع تفسير القرطبي (16/299) . إلى غيرها من الآيات الكريمة .
وأما دلالة السنة على تعديلهم رضي الله عنهم
فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث يطول تعدادها وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم بتعديلهم ، ومن تلك الأحاديث :-
1 - مارواه الشيخان في صحيحيهما البخاري (1/31) و مسلم (3/1306) من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( .. ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) الحديث .
وجه الدلالة : أن هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع ، و هذا من أعظم الأدلة على ثبوت عدالتهم حيث طلب منهم أن يبلغوا ما سمعوه منه من لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحد .
2 - روى الشيخان في صحيحيهما البخاري (2/287-288) و مسلم (4/1964) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) الحديث .
وجه الدلالة : أن الصحابة عدول على الإطلاق حيث شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة .(1/19)
3 - روى البخاري (2/292) بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
وجه الدلالة : أن الوصف لهم بغير العادلة سب لا سيما و قد نهى صلى الله عليه وسلم بعض من أدركه وصحبه عن العرض لمن تقدمه لشهود المواقف الفاضلة فيكون من بعدهم بالنسبة لجميعهم من باب أولى .
إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة ، فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم و ثنائه عليهم و ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليسوا بحاجة إلى تعديل أحد من الخلق .
الإجماع على عدالتهم رضي الله عنهم ..
أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة جميعهم عدول بلا استثناء من لابس الفتن و غيرها ولا يفرقون بينهم الكل عدول إحساناً للظن بهم و نظراً لما أكرمهم الله به من شرف الصحبة لنبيه عليه الصلاة والسلام ولما لهم من المآثر الجليلة من مناصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمر الدين والقيام بحدوده فشهاداتهم و رواياتهم مقبولة دون تكلف عن أسباب عدالتهم بإجماع من يعتد بقوله .
و قد نقل الإجماع على عدالتهم جمع غفير من أهل العلم ، و من تلك النقول
1 - قال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص 67) بعد أن ذكر الأدلة من كتاب الله و سنة رسول الله التي دلت على عدالة الصحابة وأنهم كلهم عدول ، قال : هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء .
قال ابن عبد البر في الاستيعاب حاشية على الإصابة (1/8) : و نحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين و هم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول فواجب الوقوف على أسمائهم .
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/17) : اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول و لم يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة .(1/20)
و غيرهم الكثير : انظر : فتح المغيث شرح ألفية الحديث (3/112) و تدريب الراوي للسيوطي (2/214) والمستصفى للغزالي (1/164) و مقدمة ابن الصلاح (ص 146-147) ، و النووي في شرح مسلم (15/147) و التقريب (2/214) و ابن كثير في الباعث الحثيث (ص 181-182) و شرح الألفية للعراقي (3/13-14) والسخاوي في فتح المغيث (3/108) . إلى غيرها من الكتب .
فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة كلها فيها بينان واضح و دليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً أمر مفروغ منه و مسلم ، فلا يبقى لأحد شك ولا ارتياب بعد تعديل الله و رسوله وإجماع الأمة على ذلك .
مذاهب الفرق الأخرى والأقوال الشاذة في معنى عدالة الصحابة
هناك مذاهب ذهب أصحابها إلى القول بخلاف هذا الإجماع وأصحابها ممن لا يعتد بقولهم ولا عبرة بخلافهم ، و هي لا تستحق أن تذكر ، وإنما تذكر لبيان بطلانها و مجانبتها للحق والصواب .
1 - مذهب الشيعة الرافضة :-
الشيعة الرافضة يعتقدون أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليسوا بعدول بل يعتقدون ضلال كل من لم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخليفة من بعده بلا فصل هو علي رضي الله عنه ، و يعتقدون أن جميع الناس هلكوا وارتدوا بعد أن اقبض النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً يسيراً منهم يعدون بالأصابع ، و سبب تكفيرهم لهم أنهم يزعمون أنهم بايعوا بالخلافة غير علي رضي الله عنه ولم يعملوا بالنص عليه ، ومعتقدهم هذا طافحة به كتبهم . راجع كتبهم : الاختصاص للمفيد (ص 6) و كتاب الروضة من الكافي للكليني حديث رقم (356) . وغيرها من الكتب .
2 - مذهب المعتزلة :-
أما المعتزلة فقد اضطربت آراؤهم في عدالة الصحابة إلى ثلاث أقوال وإليك مختصرها :-(1/21)
القول الأول : أن الصحابة جميعهم عدول إلا من قاتل علياً ، حيث أ، الجمهور منهم صوبوا علياً في حروبه و خطئوا من قاتله فنسبوا طلحة والزبير و عائشة ومعاوية إلى الخطأ . راجع مقالات الإسلاميين (2/145) والفرق بين الفرق (ص 120-121) .
القول الثاني : قول واصل بن عطاء ، فقد ذهب إلى أن أحد الفريقين من الصحابة في موقعتي الجمل و صفين كان مخطئاً لا بعينه كالمتلاعنين ، فإن أحدهما فاسق لا محالة ، و أقل درجات الفريقين أنه غير مقبول الشهادة كما لا تقيل شهادة المتلاعنين . فقد قال : لو شهدت عندي عائشة و علي و طلحة على باقة بقل ، لم أحكم بشهادتهم . الملل والنحل للشهرستاني (1/49) ، و ميزانالاعتدال للذهبي (4/329) و الفرق بين الفرق (ص 120 ) .
القول الثالث : قول عمرو بن عبيد ، فإنه يعتقد أن الطرفين المتحاربين في موقعتي الجمل و صفين قد فسقوا جميعاً ، و قال : لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين أو كان بعضهم من حزب علي و بعضهم من حزب الجمل . الفرق بين الفرق (ص 121) والملل والنحل (1/49) .
3 المذهب الثالث :-
أن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية . و هو قول ابي الحسين القطان من علماء الشافعية ، كما حكى ذلك السخاوي في فتح المغيث (3/112) . الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/274) و شرح مختصر المنتهى (2/67) .
4 المذهب الرابع :-
أن العدالة لا تثبت إلا لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه دون من رآه ، أو زاره أو وفد عليه لمدة قليلة . و هو قول المازري من علماء المالكية ، كما حكى ذلك عنه ابن حجر في الإصابة (1/19) .
فهذه هي المذاهب التي خالف فيها أصحابها إجماع أهل السنة والجماعة في مسألة عدالة الصحابة ، فهي كما رأينا مبنية على شبه واهية لا تزيدها إلى ضعفاً .
تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم ..(1/22)
إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز ، و هو ما تعتقده و تدين به الفرقة الناجية من هذه الأمة .
دلالة القرآن على تحريم سبهم رضي الله عنهم :-
لقد جاءت الإشارات إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله تعالى ، من ذلك :-
1 - قوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه } .
وجه الدلالة : أن الله تعالى رضي الله عنهم رضى مطلقاً ، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان و لم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان ، والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى ، و من رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً .
2 - قوله تعالى { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً } الأحزاب/57 .
وجه الدلالة : إن إيذاء الرسول يشمل كل أذية قولية أو فعلية من سب و شتم أو تنقص له أو لدينه ، أو ما يعود إليه بالأذى ، و مما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه و قد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إيذاءهم إيذاء له ، و من آذاه فقد آذى الله . المسند (4/87) و تيسير الكريم الرحمن (6/121) .
3 - قوله تعالى { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً } الأحزاب/58 .
وجه الدلالة : أن النهي عن سب المؤمنين والمؤمنات بما ينسب إليهم مما هم منه براء لم يعملوه ، فإن الصحابة رضي الله عنهم في صدارة المؤمنين ، فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله { يا أيها الذين آمنوا } . إلى غيرها من الآيات الكثيرة .
دلالة السنة عل تحريم سب الصحابة(1/23)
لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص و حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك ، لأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه و نشر دينه وإعلاء كلمته ، فبلغوا الذروة في محبته صلى الله عليه وسلم فكانوا له وزراء وأنصاراً يذبون عنه و سعوا جاهدين منافحين لتمكين الذين في أرض الله حتى بلغ الأقطار المختلفة و وصل إلى الأجيال المتابعة كاملاً غير منقوص ، فمن الأحاديث التي دلت على تحريم سبهم :-
1 - مارواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتسوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولانصيفه .
فهذا الحديث اشتمل على النهي والتحذير من سب الصحابة رضي الله عنهم ، و فيه التصريح بتحريم سبهم ، و قد عد بعض أهل العلم سبهم من المعاصي والكبائر . شرح مسلم (16/93) .
2 روى الحافظ الطبراني بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتسبوا أصحابي لعن الله من سب أصحابي . أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/21) و رجاله رجال الصحيح .
3 - وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : م سب أصحابي فعليه لعنة الله و الملائكة والناس أجمعين . أورده السيوطي في الجامع الصغير ، و حسن إسناده الألباني في صحيح الجامع .
4 - روى الطبراني من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا . مجمع الزوائد (7/202) .و صحح الألباني سنده في صحيح الجامع .(1/24)
إلى غيرها من الأحاديث الصرحية التي تنهى عن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلى المسلم أن يحذر من سبهم أو يعترض لهم بما يشينهم رضي الله عنهم ، و قد جمع الإمام الذهبي الذنوب التي هي من الكبائر في كتابه الكبائر (ص 233-237) وعد سب الصحابة منها .
والحاصل مما تقدم أن السنة دلت على أن سب الصحابة من أكبر الكبائر وأفجر الفجور ، وأن من ابتلي بذلك فهو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
من كلام السلف في تحريم سب الصحابة
إن النصوص الواردة عن سلف الأمة وأئمتها من الصحابة و من جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان التي تقضي بتحريم سب الصحابة والدفاع عنهم كثيرة جداً ، و متنوعة في ذم وعقوبة من أطلق لسانه على أولئك البررة الأخيار ، فمن ذلك :-
1 - ذكر ابن الأثير في جامع الأصول (9/408-409) عن رزين من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : قيل لعائشة : إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبابكر وعمر ، فقالت : و ما تعجبون من هذا ؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر .
2 - روى ابن بطة في شرح الإبانة (ص 119) بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة .
3 روى أبو يعلى والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي : يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ، قلت : أنى يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : أليس يسب علي و من يحبه ، و قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه . مجمع الزوائد (9/130) بسند صحيح .(1/25)
4 - روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى سعيد بن عبد الرحمن بن أبي أبزى قال : قلت لأبي : ما تقول في رجل يسب أبا بكر ؟ قال : يقتل ، قلت : سب عمر ؟ قال : يقتل . تهذيب التهذيب (6/132-133) .
5 قال مالك بن أنس رحمه الله : الذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم أو قال نصيب في الإسلام . شرح الإبانة لابن بطة (ص 162) .
6 - قال عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي : من شتم أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقد ارتد عن دينه وأباح دمه . نفس المصدر . إلى غيرها من الأقوال الكثيرة .
حكم ساب الصحابة وعقوبته
اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم ، هل يكفر بذلك و تكون عقوبته القتل ، أو أنه يفسق بذلك و يعاقب بالتعزيز .
1 - ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو انتقصهم و طعن في عدالتهم و صرح ببغضهم وأن من كان هذه صفته فقد أباح دم نفسه و حل قتله ، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم .
و ممن ذهب إلى هذا القول من السلف :-
1 - الصحابي عبد الرحمن بن أبزى ، كما في كتاب النهي عن سب الأصحاب (ص 23) .
2 - عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي ، في شرح الإبانة لابن بطة (ص 162) .
3 - أبو بكر بن عياش ، كما في شرح الإبانة ( ص 160) .
4 - سفيان بن عيينة ، كما في كتاب النهي عن سب الأصحاب (ص 24-25) .
5 - محمد بن يوسف الفريابي ، كما في شرح الإبانة (ص 160) .
6 - بشر بن الحارث المروزي ، كما في شرح الإبانة ( ص 162) .
7 - محمد بن بشار العبدي ، كما في شرح الإبانة ( ص 160) .
و غيرهم كثير ، فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة و بعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل ، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية و الحنابلة والظاهرية .(1/26)
2 و ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق و يضلل و لا يعاقب القتل ن بل يكفي بتأديبه وتعزيره تعزيراً شديداً يردعه و يزجره حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب و فواحش المحرمات ، وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة ، و ممن يرى بذلك من الأئمة :-
1 - عمر بن عبد العزيز ، كما في الصارم المسلول (ص 569) .
2 - عاصم الأحول ، كما ذكره ابن تيمية في الصارم المسلول (ص 569) .
3 - الإمام مالك ، كما في الشفاء (2/267) .
4 - إسحاق بن راهوية ، كما في الصارم المسلول (ص 568)
و جمع غفير من الأئمة ، فهذه النقول توضح أن طائفة من أهل العلم ذهبوا إلى أن ساب الصحابة فاسق و مبتدع ليس كافراً ، يجب على السلطان تأديبه تأديباً شديداً لا يبلغ به القتل .
و الذي يترجح أن ساب الصحابة لا يكفر ، لكن هذا ليس على إطلاقه ، وإنما هو مشروط بعدم مصادمة النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة ، و عدم إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، وعلى هذا يحمل كلام من أطلق القول بعدم التكفير . والله سبحانه وتعالى أعلم .
موقفنا مما شجر بين الأصحاب من فتن وقتال
أقول و بالله التوفيق : اعلم رحمني الله وإياك ؛ أن البحث فيما شجر بين الصحابة ، لا يقرب العبد إلى الله زلفى ، فهم قد لقوا ربهم و هو أعلم بما شجر بينهم ، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى و إنما قد يقودك إلى النار و أنت لا تعلم ، فتجنبه أولى ؛ إلا في حالة واحدة و سيأتي بيان هذه الحالة .
و معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة ، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب و الخلافات على سبيل التوسع و تتبع التفصيلات ، و نشر ذلك بين العامة ، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة و الانتصار لأخرى .(1/27)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 3/406) : و كذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ، و نعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب و هم كانوا مجتهدين ، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ، و ما كان لهم من السيئات ، و قد سبق لهم من الله الحسنى ، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة .
و ما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق و يدافعون فيه عن الحق ، فاختلفت فيه اجتهاداتهم ، و لكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم ، و من هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم ، فلا نقول عنهم إلا خيراً و نتأول و نحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم و لا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله ، و قد أفضوا إلى ما قدموا ، فنترضى عنهم جميعاً و نترحم عليهم و نحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم .
قال ابن قدامة المقدسي في اللمعة (ص175) : و من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و محبتهم و ذكر محاسنهم و الترحم عليهم و الاستغفار لهم ، و الكف عن ذكر مساوئهم و ما شجر بينهم ، و اعتقاد فضلهم و معرفة سابقتهم ، قال الله تعالى{ و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}[الحشر/10] و قال تعالى{محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}[الفتح/29] و قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . البخاري مع الفتح (7/25) و مسلم برقم (6435) .(1/28)
و يقول الإمام الذهبي رحمه الله في السير(10/92-93) : كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم ، و قتالهم رضي الله عنهم أجمعين و ما زال يمر بنا ذلك في الدواوين و الكتب و الأجزاء ، و لكن أكثر ذلك منقطع و ضعيف و بعضه كذب .. فينبغي طيه و إخفاؤه بل إعدامه لتصفوا القلوب ، و تتوفر على حب الصحابة و الترضي عنهم ، و كتمان ذلك متعين عن العامة و آحاد العلماء .. إلى أن قال : فأما ما نقله أهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليه ، ولا كرامة فأكثره باطل و كذب و افتراء .
و فضيلة الصحبة و لو للحظة ، لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء ، و الفضائل لا تؤخذ بالقياس .
و قد أخرج ابن عساكر في تاريخه (59/141) في ترجمة معاوية رضي الله عنه من طريق ابن منده ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي قال : جاء رجل إلى عمي فقال له : إني أبغض معاوية ، فقال له : لم ؟ قال : لأنه قاتل علياً بغير حق ، فقال له أبو زرعة : رب معاوية ربٌ رحيم و خصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما ؟.
و قال الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة (5/2485-2491) ، باب ذكر الكف عما شجر بين أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رحمة الله عليهم أجمعين : ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و فضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ، أن يحبهم و يترحم عليهم و يستغفر لهم ، ويتوسل إلى الله الكريم لهم - أي بالدعاء و الترحم والاستغفار و الترضي - ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا ، ولا يذكر ما شجر بينهم ، ولا ينقّر عنه ولا يبحث . فإن عارضنا جاهل مفتون قد خطي به عن طريق الرشاد فقال : لم قاتل فلان لفلان ، ولم قتل فلان لفلان وفلان ؟!.
قيل له : ما بنا و بك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا تضرنا إلى علمها .
فإن قال قائل : و لم ؟(1/29)
قيل : لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها ، و كانوا أعلم بتأويلها من غيرهم ، و كانوا أهدى سبيلاً ممن جاء بعدهم ، لأنهم أهل الجنة ، عليهم نزل القرآن ، و شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، و جاهدوا معه ، و شهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة و الأجر العظيم ، و شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون ، فكانوا بالله عز وجل أعرف و برسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسنة ، و منهم يؤخذ العلم ، و في قولهم نعيش و بأحكامهم نحكم ، و بأدبهم نتأدب و لهم نتبع و بهذا أمرنا .
فإن قال قائل : و أيش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم و البحث عنه ؟
قيل له : لاشك فيه ؛ و ذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا ، و عقولنا أنقص بكثير ، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فنزل عن طريق الحق و نتخلف عما أمرنا فيهم .
فإن قال قائل : و بم أمرنا فيهم ؟
قيل : أمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم و الاتباع لهم ، دل على ذلك الكتاب والسنة و قول أئمة المسلمين ، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم ، قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، و صاهرهم ، و صاهروه ، فبالصحبة له يغفر الله الكريم لهم ، و قد ضمن الله عز وجل لهم في كتابه ألا يخزي منهم واحداً ، و قد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة و الإنجيل ؛ فوصفهم بأجمل الوصف ، و نعتهم بأحسن النعت ، وأخبرنا مولانا الكريم أنه قد تاب عليهم ، و إذا تاب عليهم لم يعذب واحداً منهم أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه{ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة/22] .
فإن قال قائل : إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم ، فأكون لم يذهب عليّ ما كانوا فيه لأني أحب ذلك ولا أجهله .(1/30)
قيل له : أنت طالب فتنة ، لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك ، و لو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه و اجتناب محارمه كان أولى بك . و قيل له : ولا سيّما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة - فما يقول رحمه الله لو رأى ما يحدث و يقال في زمننا هذا - .
و قيل له : اشتغالك بمطعمك ، و ملبسك من أين ؟ هو أولى بك ، و تمسكك بدرهمك من أين هو ؟ و فيم تنفقه ؟ أولى بك .
و قيل : لا نأمن أن تكون بتنقيرك و بحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل قلبك فتهوى ما يصلح لك أن تهواه ، و يلعب بك الشيطان فتسب و تبغض من أمرك الله بمحبته و الاستغفار له و باتباعه ، فتزل عن طريق الحق ، و تسك طريق الباطل .
فإن قال : فاذكر لنا من الكتاب و السنة و عمن سلف من علماء المسلمين ما يدل على ما قلت ، لنرد نفوسنا عما تهواه من البحث عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم .(1/31)
قيل له : قد تقدم ذكرنا لما ذكرته مما فيه بلاغ و حجة لمن عقل ، و نعيد بعض ما ذكرناه ليتيقظ به المؤمن المسترشد إلى طريق الحق . قال الله عز وجل{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ..}[الفتح:29] . ثم وعدهم بعد ذلك المغفرة والأجر العظيم { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . و قال الله عز وجل{ {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة/117] . و قال عز وجل { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة/100] . و قال عز وجل{ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم/8 ] . و قال عز وجل { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ(1/32)
الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران/110] . و قال عز وجل { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح/18]. ثم إن الله عز وجل أثنى على من جاء من بعد الصحابة فاستغفر للصحابة و سأل مولاه الكريم ألا يجعل في قلبه غلاً لهم ، فأثنى الله عز وجل عليه بأحسن ما يكون من الثناء فقال عز وجل{و الذين جاءوا من بعدهم .. إلى قوله .. رءوف رحيم}[الحشر/10] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . أخرجه البخاري مع الفتح (7/5) و مسلم برقم (6419) و أحمد في المسند (1/438) . وقال ابن مسعود : إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه و بعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد - يعني من غير الأنبياء و المرسلين كما هو معلوم - فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون على دينه . رواه أحمد في المسند (1/379) و البغوي في شرح السنة (1/214-215) و هو حدث حسن .
ثم قال الآجري رحمه الله : يقال : لمن سمع هذا من الله عز وجل و من رسوله صلى الله عليه وسلم : إن كنت عبداً موفقاً للخير اتعظت بما وعظك الله عز وجل به ، و إن كنت متبعاً لهواك خشيت عليك أن تكون ممن قال الله عز وجل فيهم{و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}[القصص/50] ، و كنت ممن قال الله عز وجل{ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ }[الأنفال/23] .(1/33)
و يقال له : من جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يطعن في بعضهم و يهوى بعضهم ، و يذم بعضاً و يمدح بعضاً ؛ فهذا رجل طالب فتنة ، و في الفتنة وقع ، لأنه واجب عليه محبة الجميع ، و الاستغفار للجميع رضي الله عنهم ، و نفعنا بحبهم ، و نحن نزيدك في البيان ليسلم قلبك للجميع ، و يدع البحث و التنقير عما شجر بينهم .
ثم ساق رحمه الله مجموعة من الآثار في بيان الواجب عمله تجاه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، منها : ما رواه عن شهاب بن خراش عن العوام بن حوشب قال : اذكروا محاسن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تأتلف عليه قلوبكم ، ولا تذكروا غيره فتحرشوا الناس عليهم . أخرجه الخلال في السنة (ص 513) و إسناده حسن . و أيضاً ما رواه أبي ميسرة قال : رأيت في المنام قباباً في رياض مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لذي الكلاع و أصحابه - و كان مع من قتل مع معاوية رضي الله عنه - ، و رأيت قباباً في رياض فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لعمار و أصحابه ، فقلت : و كيف و قد قتل بعضهم بعضاً ؟ قال : إنهم وجدوا الله عز وجل واسع المغفرة . إسناده صحيح إلى أبي ميسرة ، و لم يخرجه غير الإمام الآجري . كما قال ذلك المحقق ، أنظر كتاب الشريعة (5/2493) . و أيضاً ما ذكر عن الحسن رحمه الله ، أنه كان في مجلس فذكر كلاماً و ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً و أعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم و طرائقهم ، فإنهم و رب الكعبة على الهدى المستقيم . أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/305-306) عن الحسن عن ابن عمر ، و البغوي في شرح السنة (1/214) عن ابن مسعود .(1/34)
و الذي يظهر من كلام هؤلاء الأئمة التأكيد على هذا الضابط المهم و هو : عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، على سبيل التسلية و تأليف الأشرطة والمحاضرات و عرضها بين الناس بمختلف مستوياتهم ، و هو الخطأ الذي وقع فيه الدكتور : طارق سويدان حفظه الله .
غير أن بعضهم أجاز الخوض في ذلك في حالة واحدة فقط ؛ و هي إن ظهر مبتدع مبطل يقدح فيهم بالباطل ، فيجب الدفاع عنهم بحق و عدل مع التنبيه إلى أنه لا يدافع عن بعضهم فيقع في سب آخرين منهم ، إنما يكون الدفاع عنهم رضي الله عنهم جميعاً ، و إلا فيجب الصمت و ترك الخوض فيما شجر بينهم . ضوابط إنقاذ التاريخ الإسلامي ، مقال من جريدة المسلمون للدكتور : محمد بن عبد الله الغبان . العدد (656ص 8) .
إن موضوع النزاع و الخلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه يجب أن ينظر إليه من زاويتين :-
الأولى : إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان ، لأن كل من قتل من المسلمين بأيدي
إخوانهم منذ قتل عثمان رضي الله عنه إنما يقع إثمه عليهم ، فهم الذين فتحوا باب الفتنة و كل ما وقع بعد ذلك فإثمه و وزره عليهم ، إذ كانوا هم السبب المباشر فيها ، و هم الفئة المعتدية الظالمة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل و صفين و ما تفرق عنها من أحداث و آراء و مواقف فتحت باب الخلاف و الفرقة بين المسلمين .(1/35)
الثانية : إن ما حدث من جانب الصحابة رضي الله عنهم في هذه الفتنة يحمل على حسن النية و الاختلاف في التقدير و الاجتهاد ، كما يحمل على وقوع الخطأ و الإصابة ، و لكنهم على كل حال كانوا مجتهدين و هم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة و الخطأ ، و إن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية ، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا ، و إنما كان اجتهاداً من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/340-342) بتصرف .
و قد سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما فقال : فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا - يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ و الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً
فيه - . و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و غبنا ،
و علموا و جهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، و اختلفوا فوقفنا . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/322) في تفسير سورة الحجرات .
و يقول النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم (18/219-220) : و اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد - يعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار - و مذهب أهل السنة و الحق إحسان الظن بهم ، و الإمساك عما شجر بينهم ، و تأويل قتالهم و أنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا ، بل اعتقد كل فريق أنه المحق و مخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله ، و كان بعضهم مصيباً و بعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد و المجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه .(1/36)
و يورد شيخ الإسلام في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى (35/50 و 54 و 56 و 69) رأي أهل السنة في هذه المسألة مستبعداً رأي أهل البدع من الخوارج و الرافضة و المعتزلة الذين جعلوا القتال موجباً للكفر أو الفسق ، فيقول : و أهل السنة و الجماعة و أئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة بل يمكن أن يقع الذنب منهم ، والله يغفر لهم بالتوبة و يرفع بها درجاتهم ، و إن الأنبياء هم المعصومون فقط ، أما الصديقون و الشهداء و الصالحون فليسوا معصومين ، و هذا في الذنوب المحققة ، و أما اجتهادهم فقد يصيبون فيه أو يخطئون ، فإذا اجتهدوا و أصابوا فلهم أجران ، و إذا اجتهدوا و أخطأوا فلهم أجر واحد على اجتهادهم ، و جمهور أهل العلم يفرقون بين الخوارج المارقين و بين أصحاب الجمل و صفين ممن يعد من البغاة المتأولين ، و هذا مأثور عن الصحابة و عامة أهل الحديث ، و الفقهاء و الأئمة .
يقول ابن حجر في الفتح (13/37 ) : و اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، و لو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد و قد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً ، و أن المصيب يؤجر أجرين .
و هكذا نأخذ من مجموع كلام هؤلاء الأئمة ، أن الموقف مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم هو الإمساك و عدم الخوض ، و هذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت كما عند الطبراني و غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا . أنظر : السلسة الصحيحة (1/75) .
و قد فسر المناوي في فيض القدير (2/676) الحديث بأن معناه : ما شجر بينهم - أي الصحابة - من الحروب والمنازعات .(1/37)
يقول الحافظ الذهبي في السير (3/128) : فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب ، مفرطاً في البغض ، و من أين يقع له الإنصاف و الاعتدال ؟! فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق و اتضح من الطرفين و عرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين ، و تبصرنا فعذرنا و استغفرنا و أحببنا باقتصاد ، و ترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة ، أو بخطأ إن شاء الله مغفور ، و قلنا كما علمنا الله{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}و ترضينا أيضاً عمن اعتزل الفريقين كسعد ين أبي وقاص و ابن عمر و محمد بن مسلمة و سعيد بن زيد و خلق ، و تبرأنا من الخوارج الذين حاربوا علياً و كفروا الفريقين .
فهذه مقتطفات عاجلة من معتقد أهل السنة و الجماعة في الصحابة ، و تلك قناعات و منطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين ولا تتأثر بتشكيك المشككين .
و إذا كانت أعراض المسلمين بشكل عام مصونة في الإسلام ، فأعراض الصحابة و هم أهل الفضل و السابقة و الجهاد أولى بالصيانة ، و الدفاع عنهم قربة لله عز وجل و تقديراً لمآثرهم و جهادهم .
و أخيراً لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة و لماذا الدفاع عنهم ؟
أقول : إن هناك مكمن خطر في سبهم أو التعريض بهم و بعدالتهم ، فهم نقلة الدين و الطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين .(1/38)
وإن من أسوأ الأخطاء المنهجية والتربوية معاً ، تدريس الحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة لتلاميذ المدارس ، مع ما يصاحب ذلك من تشويه في العرض ، و تقصير في تعريف التلاميذ بمنزلة الصحابة و فضلهم و حقهم على الأمة ، حيث ينشأ عن ذلك تعارض في أذهانهم بين الصورة الفطرية التي تصوروها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ما ينبغي أن يكونوا عليه من الاستقامة ، و بين الصورة التي تلقوها من المدرسة ، فلا يستطيعون معرفة الحق من ذلك ولا يستوعبونه نظراً لصغر سنهم ، و لقلة ثقافتهم ، حتى لو حاولت أن توضح لهم الصورة الصحيحة فإنهم لا يكادون يقتنعون لأن الشبهة التي أثيرت قد انقدحت في أذهانهم .
و هذه المسارعة في عرض مثل هذه المادة التاريخية على صغار التلاميذ أو عوام الناس مخالف للقواعد الأصولية مثل قاعدة : ( سد الذرائع ) . و قاعدة : ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) . و مخالف أيضاً للقواعد التربوية التي تقتضي أن لا يعرض على الناس أكثر مما لا تحتمله عقولهم .
و قد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ما يؤيد هذا ؛ فقال عبد الله بن مسعود كما في مقدمة صحيح مسلم برقم (14) : ( ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . و قد بوب البخاري في صحيحه : ( باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا ) . و أورد قول علي بن أبي طالب : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله و رسوله ) . البخاري مع الفتح (1/272) ، قال ابن حجر معلقاً عليه : ( فيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ) .(1/39)
فهذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على صحة هذه القاعدة التربوية ، و أنه لا ينبغي أن يدرّس مثل هذا لتلاميذ المدارس ، لأنه مما لا تبلغه عقولهم ، و مما يؤدي إلى فتنة بعضهم ، و هو اعتقاد ما لا ينبغي اعتقاده في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . و للمزيد حول هذا الموضوع أنظر كتاب : منهج كتابة التاريخ الإسلامي للدكتور : محمد بن صامل (ص252) . و مقال : فضيلة الإمساك عما شجر بين الصحابة : زياد سعد الغامدي في مجلة البيان الإسلامية العدد (134) .
و إذا قدر لهذه القضايا أن تبحث فينبغي أن يسند الأمر إلى أهله ، و أن يتوفر على ذلك علماء متمكنون في علمهم ، صادقين في توجههم ، برآء من أي تهمة في معتقدهم ، و أن يكونوا على مستوى الخاصة ، و ألا تفتن بهم العامة ، و ألا تكون قضية مطروحة للمزاد يهرف فيها من لا يعرف ، و يظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف .. و ليت شعري كم تنطق الرويبضة و يتصدر السفهاء إذا غاب عن الساحة صوت العلماء ، أو توارى خلف الحجب رأي النبلاء .. و مع ذلك فالزبد سيذهب جفاء و يمكث في الأرض ما ينفع الناس ، و كذلك اقتضت حكمة الله في الصراع بين الحق و الباطل قديماً و حديثاً ، ليميز الله الخبيث من الطيب و ينحاز الصادقون و ينكشف و لو بعد حين الكاذبون . خير القرون ، مقال للدكتور سليمان العودة . انظر مجلة الدعوة العدد (1610 ) .(1/40)
وما أحسن ما قيل عن التاريخ الإسلامي : فهو تاريخ ناصع مشرق ، و هو مفخرة على مر الزمن ، و درة على جبين الدهر ، لا يدانيه تاريخ أمة من الأمم في قديم الزمان و حديثه ، و مع ذلك فقد وقعت فيه بعض الحوادث التي تلقي بعض الظلال القاتمة على إشراقه ، بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ظهرت بعض الخلافات في وجهات النظر بين بعض الصحابة ، أدت إلى وقوع بعض الحروب ، مثل : وقعة صفين ، و وقعة الجمل و يوم الحرة و أمثالها ، و الطالب المسلم يمر بها في بعض مراحل حياته الدراسية ، و نحن نريد أن نلفت نظر المعلم أو المدرس إلى وجوب التزام جانب اليقظة و الحكمة و الحذر عند عرض هذه الوقائع على طلابه ، فالصحابة رضي الله عنهم شموس لامعة براقة أشرقت في تاريخ الإنسانية فغمرته بالنور ، و هي شموس تتفاوت أقدارها و تتباين في أنواع فضائلها ، و لكنها تبقى دائماً في أعلى درجات الفضل ، و في ذروة العزة و المجد ، و لو ميز المشتغلون بتاريخ الإسلام ، بين الأصيل و الدخيل من الحوادث التي وقعت بين الصحابة ، لأخذتهم الدهشة لما اخترعه أعداء الإسلام من يهود و مجوس و منافقين و ملحدين و حاقدين ، من أخبار ملفقة كاذبة ، ألصقوها بالصحابة الكرام ظلماً و عدواناً و كيداً ، فصورت أخبارهم الوضع عن غير حقيقته ، و أدخلت التشويه على الصورة الحقيقية الناصعة للصحابة رضي الله عنهم ، الذين يعتبرون بحق سادة البشر و خلاصة الإنسانية ، كيف لا ؟ و هم تلامذة أشرف المخلوقين و سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . مقتبس من كتاب : كلمات نافعة لناجي الطنطاوي (ص79) بتصرف .
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتمسك بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر/10] .(1/41)
و بعد هذا الذي ذكرت ، فإنه قد ظهر من يطعن في الصحابة الكرام و يثير هذه الأحداث من جديد لكن بشكل مشوّه مزرٍ ، لذا آثرت الحديث في هذا الموضوع ، دفاعاً عن الحق و عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
حول فضائل الصحابة عموماً ، مع أقوال أهل العلم في ذلك
لما كان معاوية رضي الله عنه واحداً من كبار الصحابة ، فإن الفضائل العامة التي أنزلها الله تعالى بخصوص الصحابة داخلة ضمن فضائله ..
أولاً : فضائلهم عموماً من القرآن الكريم ..
1- قال تعالى في شأن غزوة حنين : { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ }[التوبة/26] .
ومعاوية رضي الله عنه من الذين شهدوا غزوة حنين ، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم . انظر : الفتاوى لابن تيمية ( 4/458 ) .
2- قال تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[الحديد/10] .
ومعاوية رضي الله عنه ممن وعدهم الله الحسنى ، فإنه أنفق في حنين والطائف وقاتل فيهما . الفتاوى لابن تيمية ( 4 /459 ) . وانظر : مرويات خلافة معاوية ( ص 22 - 23 ) .
3- قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[الأنفال/64] .(1/42)
في هذه الآية الكريمة أثنى الله تعالى على جميع المؤمنين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم - ومعاوية رضي الله عنه منهم - بأنهم يكفونه في جميع أموره ، أو أنهم يكفونه الحرب بينه وبين أعدائه من الكفار والمشركين ، وفي ذلك تنويه بفضلهم وبيان لعظم شرفهم . انظر : روح المعاني ( 10/30 ) .
4- قال تعالى : { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة/88-89 ] .
في هاتان الآيتان الكريمتان أثنى الله تعالى بهما على جميع المؤمنين الذين آمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فجعل لهم الخيرات ، وهي منافع الدارين .. وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .. وفي ذلك من الفضل ما فيه . انظر : تفسير إرشاد العقل السليم لأبي السعود ( 4 / 91 ) .
5- قال تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } سورة الفتح [29] .(1/43)
في هذه الآية الكريمة أثنى الله تعالى على جميع المؤمنين الذين آمنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأن الله وعدهم بأن لهم مغفرة وأجراً عظيماً . انظر : تفسير ابن كثير ( 4/203- 205 ) .
6- قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }[البقرة/143] .
في هذه الآية خطاب إلى جميع الأمة المحمدية إلى أنها من خيار الأمم يوم القيامة وأنها ستكون شهيدة على الناس ، وأولوية الدخول في هذا الخطاب إنما هو لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بقية الأمة الإسلامية ، إذ هم أول من وجه إليهم هذا الخطاب إذ هم الموجودون حين نزولها . انظر أقول أهل العلم في تفسير هذه الآية من مثل تفسير الطبري ( 2/ 6 - 8 ) و تفسر القرطبي (2/ 153 - 154 ) وتفسير ابن كثير ( 1 / 78 ) .
7- قال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران/ 110] .
في هذه الآية يبين الله تعالى أنه جعل أمة محمد خير أمة .. والصحابة رضي الله عنهم هم أولى وأفضل من دخل في هذا الخطاب وحاز قصب السبق في هذه الخيرية بلا نزاع ، لأنهم أول من خوطب بهذه الآية الكريمة . انظر أقوال أهل العلم في تفسير هذه الآية مثل قول الزجاج في معاني القرآن ( 1 / 467 ) و الخطيب البغدادي في الكفاية ( ص 94 ) السفاريني في لوامع الأنوار البهية ( 2/ 377 ) .
8- قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} }[التوبة/100] .(1/44)
هذه الآية اشتملت على أبلغ الثناء من الله تعالى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان - ومعاوية رضي الله عنه منهم - حيث أخبر تعالى أنه رضي الله عنهم ..
9- قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[النور/55] .
الوعد بالاستخلاف في هذه الآية عام يدخل تحته كل من تولى وظيفة من وظائف المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن بشرط أن تتوفر الصفتان المذكورتان في الآية وهما : الإيمان والعمل الصالح .. فيندرج تحت هذا العموم جميع الصحابة والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ومعاوية رضي الله عنه من الصحابة الذين تحققت فيهم صفة الإيمان والعمل الصالح . انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول تفسير هذه الآية في منهاج السنة ( 1 / 157 ) .
10- قال تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى }[النمل/59] .
قال الطبري : .. الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه .. انظر : جامع البيان ( 20 / 2 ) . ومعاوية رضي الله عنه من الصحابة الذين اصطفاهم الله يكونوا كتبة وحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . انظر حول تفسير هذه الآية : تفسير ابن كثير ( 5 / 245 ) ومنهاج السنة لابن تيمية ( 1 / 156 ) . ولوامع الأنوان البهية للسفاريني ( 2 / 384 ) .(1/45)
إلى غيرها من الآيات الكثيرة التي وردت في فضائل الصحابة عموماً .. للمزيد حول هذا الموضوع راجع كتاب : صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة للدكتور عيادة أيوب الكبيسي ( ص 150 - 161 ) وكتاب عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام للدكتور ناصر بن علي عائص الشيخ (1/ 55 - 80 ) .
ثانياً : فضائلهم عموماً من السنة النبوية
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) . مسلم ( 2/ 1967) والبخاري (2/292 ) .
ففي هذا الحديث بيان لفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد نهى عن سبهم ووصفهم بالصحبة وأضافها إلى نفسه تنويهاً لفضلهم وبيان لشرف منزلتهم . انظر الفتح ( 7/34 ) .
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي عن الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون : فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون لهم : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال : فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ) . البخاري (2/287) ومسلم (4/1962) .
فلله ما أعظم هذا التكريم الذي حظي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي ما كان ولم يكن لأحد سواهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، و هذا الحديث إثبات لفضل الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك لما لهم من حسن قصد وسلامة نية وصدق في نشر الدعوة الإسلامية ، وكل ذلك كرامة لهم وبياناً لفضلهم . وكذلك فيه إثبات الفضيلة لمن صاحبهم أو صاحب من صاحبهم .(1/46)
3- عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم .. الحديث . البخاري ( 2/ 287-288 ) ومسلم (4/1964) .
في هذا الحديث إثبات الخيرية للصحابة رضي الله عنهم الذين هم قرن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهم مقدمون على التابعين وأتباع التابعين .. وفضيلتهم في ذلك ظاهرة . انظر الفتح (7/6 ) .
4- عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال فجلسنا ، فخرج علينا فقال : ( مازلتم ههنا ؟ ) قلنا : يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال : ( أحسنتم أو أصبتم ) ، قال : فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال : ( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون ) . مسلم ( 4 / 1961 ) .
في هذا الحديث بيان لفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن واختلاف القلوب ونحو ذلك ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه من ذلك . انظر : شرح النووي على مسلم (16/83) .
5- قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل أمتي مثل المطر ، لا يدري أوله خير أم آخره ) . حديث حسن له طرق يرتقي بها إلى الصحة . انظر : سنن الترمذي ( 4 / 229 ) والمسند ( 3 / 143 ) .
والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة وشهيرة بل ومتواترة .. وقد اقتصرت على ذكر بعضها هنا وللمزيد راجع كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بتحقيق وصي الله عباس . وغيرها من كتب الفضائل ..(1/47)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر بعض الأحاديث المتقدم ذكرها : وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون ، والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة . مجموع الفتاوى ( 4 / 430 ) .
وقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسوله صلى الله في أن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة الأمة المحمدية وساداتها على الإطلاق
ثالثاً : ثناء العلماء على الصحابة - رضوان الله عليهم -
لقد كثر الثناء في كلام السلف على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بما امتازوا به من الصفات الطيبة والسيرة الحسنة والأخلاق المشرقة والأعمال الصالحة التي جعلتهم أهلاً لأن يكونوا أصحاباً ووزراء لخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم .. فمن ذلك :-
1- قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إن الله نظر إلى قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء . المسند ( 1 / 379 ) .
2- قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : من كان مستناً فليستن بمن قد مات ، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا خير هذه الأمة ، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقل دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان على الهدى المستقيم والله رب الكعبة . الحلية (1/305 - 306 ) . ومنهاج السنة ( 1 / 166 ) .(1/48)
3- قال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً بصحابة آثروه على الأنفس والأموال ، وبذلوا النفوس دونه في كل حال ، ووصفهم الله في كتابه فقال : { رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً .. } الآية 29 من سورة الفتح ، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله ، واستقر دينه ووضحت أعلامه وأذل بهم الشرك ، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه ، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية ، والأرواح الطاهرة العالية ، فقد كانوا في الحياة لله أولياء ، وكانوا بعد الموت أحياء ، وكانوا لعباد الله نصحاء ، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها ، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها . مروج الذهب (3/75 ) .
4- وقال علي رضي الله عنه كما رواه أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى أبي أراكة قال : صلى علي الغداة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كأن عليه كآبة ، ثم قال : لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أرى أحداً يشبههم والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم مثل ركب المعزي قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح ، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين . الحلية (1/76 ) .
5- وقال علي رضي الله عنه أيضاً : أولئك مصابيح الهدى يكشف الله بهم كل فتنة مظلمة ، سيدخلهم الله في رحمة منه ، ليس أولئك بالمذاييع - أي الذين يشيعون الفاحشة ويذيعونها - البذر ولا الجفاة المرائين . الحلية (1/77) . والبداية والنهاية (8/7 ) .(1/49)
6- وروى مسلم في صحيحه ( 3 / 1461 ) بإسناده إلى الحسن بن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل على عبيد الله بن زياد فقال : أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن شر الرعاء الحطمة ) ، فإياك أن تكون منهم ، فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة - أي من قشور أو حثالة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : وهل كانت لهم نخالة ، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم .
وقول عائذ بن عمرو رضي الله عنه هنا إنما هم من جزل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كلهم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم ، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم و فيمن بعدهم كانت النخالة . انظر شرح مسلم ( 12 / 216 ) .
7- ذكر السيوطي في الدر المنثور ( 4/ 272 ) عن أبي صخر حميد بن زياد قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي : أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أريد الفتن ؟ قال : إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه ؟ قال : ألا تقرأ : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة ، أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم ، قلت : وما اشترط عليهم ؟ قال : اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، يقول : يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدون بهم في غير ذلك ، قال أبو صخر : لكأني لم أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ محمد بن كعب .(1/50)
8- روى أبو نعيم بإسناده إلى الحسن البصري .. أن بعض القوم قال له أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فبكى وقال : ظهرت منهم علامات الخير والسيماء والسمت والهدي والصدق وخشونة ملابسهم بالاقتصاد و ممشاهم بالتواضع ، ومنطقهم بالعمل ومطعمهم و مشربهم بالطيب من الرزق ، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى ، واستفادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا ، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم ، ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم واستخفوا بسخط المخلوقين في رضى الخالق ، ولم يفرطوا في غضب ولم يحيفوا ولم يجاوزا حكم الله تعالى في القرآن ، شغلوا الألسن بالذكر ، بذلوا دماءهم حين استنصرهم وبذلوا أموالهم حين استقرضهم ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين ، حسنت أخلاقهم وهانت مؤنتهم وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم . الحلية ( 2 / 150 ) .
9- روى الإمام أحمد بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال : أحق من صدقتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه . المسند ( 3/ 134 ) .
ذكر ابن كثير في البداية ( 8 / 13 ) عن أيوب السختياني أنه قال : .. .. ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق .
إلى غيرها من الأقوال الكثيرة الكثيرة والتي تبين فضل الصحابة عموماً لما قدموه من الأعمال الصالحة وبما لهم من شرف الصحبة .. انظر على سبيل المثال : جامع بيان العلم ( 2/ 36 ) وطبقات ابن سعد ( 2/ 342 - 343 ) والحلية ( 1 / 84 - 85 ) .(1/51)
وكما جاء الثناء على الصحابة عموماً من التابعين ، كذلك أثنى عليهم غيرهم من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ممن جاء بعدهم من أئمة العلم والهدى ، وقد أكثرت من الإحالة إلى هذه الكتب ليعلم مدى حرص العلماء في الثناء على الصحابة ومدى معرفتهم لأقدارهم ومكانتهم .. لمزيد بيان ذلك راجع : العقيدة الطحاوية مع شرحها ( ص 528 ، 531 - 532 ) ، و شرح السنة للبغوي ( 1 / 229 ) ومناقب الشافعي للبيهقي ( 1 / 442 - 443 ) وأعلام الموقعين ( 1 / 79 ، 80 ، 82 ) وطبقات الحنابلة ( 1 / 30 ) و السنة للإمام أحمد ( ص 17 ) وجامع بيان العلم وفضله ( 2 / 227 ) ومقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 1 / 7 -8 ) ورسالة أبي زيد القيرواني مع شرحها في تقريب المعاني ( ص 22- 23 ) وعقيدة السلف أصحاب الحديث الرسالة السادسة للصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/129 ) و العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ( ص 142 - 151 ) والرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة ( ص 300 - 301 ) ولوامع الأنوار البهية ( 2/ 379 - 380 ) ودراسات تاريخية في رجال الحديث ( ص 32 ) إلى غيرها من الكتب .
والذي نخلص إليه من تلكم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام السلف الذي تقدم في بيان فضل الصحابة على وجه العموم ، أنه يجب على كل مسلم أن ينقاد لما دل على إثبات فضلهم رضي الله عنهم ويسلم لهم بذلك ويعتقد اعتقاداً جازماً أنهم خير القرون ، وأفضل الأمة بعد النبيين ، ومن لم يسلم لهم بذلك أو يشك فيه فليتدارك نفسه ويتب إلى الله ، لأن مقتضى ذلك تكذيب خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن كذب الله ورسوله لا حظ له في الإسلام .
فضائل معاوية رضي الله عنه(1/52)
لما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم قدوتنا في ديننا و هم حملة الكتاب الإلهي و السنة المحمدية ، الذين حملوا عنهم أماناتهم حتى وصلت إلينا ، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرتهم كل ما ألصق بهم من إفك ظلماً و عدوانا .. حتى تكون صورتهم التي تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي كانوا عليها ، فنحسن القدوة بهم و تطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم ..
و قد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعنٌ في الدين الذي هم ورائه . قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (1/18) .
و تشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها و تشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة .
قلت : يلهث الكثير ممن استهوته الشياطين بالطعن في معاوية رضي الله عنه ، وإن لم يطعن قلل من شأنه بأنه من مسلمة الفتح وأنه من الطلقاء إلى غيرها من الأمور .. حتى وصل بالبعض منهم إلى أن يتوقف في شأنه و يعرضه على ميزان الجرح والتعديل .. ناسياً أو متناسياً أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأمة قد أجمعت على تعديلهم دون استثناء من لابس الفتن منهم و من قعد .. و لم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة . انظر حول عدالة الصحابة : الاستيعاب لابن عبد البر (1/19) و فتح المغيث (3/103) و شرح الألفية للعراقي (3/13-14) والإصابة (1/9) و مقدمة ابن الصلاح (ص 147) والباعث الحثيث (ص 181-182) وشرح النووي على صحيح مسلم (15/149) والتقريب للنووي (2/214) والمستصفى للغزالي (ص 189-190 ) وفي غيرها من الكتب .(1/53)
ذكر النووي في شرح صحيح مسلم (8/231) و ابن القيم في زاد المعاد (2/126) أن معاوية رضي الله عنه من مسلمة الفتح ، أي أنه أسلم سنة ( 8هـ ) ، في حين ذكر أبو نعيم الأصبهاني كما في معرفة الصحابة (5/2496) و الذهبي كما في تاريخ الإسلام - عهد معاوية - ( ص 308) أنه أسلم قبيل الفتح .
وقال قوّام السنة في سير السلف الصالحين ( 2/ 663 ) رواية عن معاوية رضي الله عنه أنه يقول فيها : أسلمت عام القضية ، لقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبل إسلامي ، وعام القضية هو العام الذي صُد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت ( عام 6 هـ ) . وانظر هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 / 328 ) والبداية والنهاية لابن كثير ( 8 / 21 ) والاستيعاب لابن عبد البر ( 3 / 395 ) .
وقال الإمام أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة ( 5 / 2496 ) في ترجمة معاوية رضي الله عنه : كان من الكتبة الحسبة الفصحة ، أسلم قبيل الفتح ، وقيل عام القضية وهو ابن ثمان عشرة ، وعده ابن عباس من الفقهاء ، قال : كان فقيهاً ..
ومرد الاختلاف بين المصادر حول تاريخ إسلام معاوية رضي الله عنه يعود إلى كون معاوية كان يخفي إسلامه ، كما ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (1/131) ، وهو ما جزم به الذهبي ، حيث قال : أسلم قبل أبيه في عمرة القضاء - أي في سنة ( 7هـ ) - وبقي يخاف من الخروج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه .. وأظهر إسلامه عام الفتح . انظر : تاريخ الإسلام - عهد معاوية - ( ص 308) .
وبعد هذا هل يبقى مطعن في معاوية رضي الله عنه من كونه من مسلمة الفتح - وليس في ذلك مطعن - وإن سلمنا بأنه من مسلمة الفتح ؛ فهل هذا يقلل من شأن صحبته رضي الله عنه ؟!
و فضائل معاوية رضي الله عنه كثيرة ثابتة عموماً و خصوصاً ، فبالإضافة إلى ما تم ذكره من الفضائل العامة ، أورد شيئاً من فضائله الخاصة ..(1/54)
روى الترمذي في فضائل معاوية أنه لما تولى أمر الناس كانت نفوسهم لا تزال مشتعلة عليه ، فقالوا كيف يتولى معاوية و في الناس من هو خير مثل الحسن و الحسين . قال عمير و هو أحد الصحابة : لا تذكروه إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اجعله هادياً مهدياً و اهد به . رواه الإمام أحمد في المسند (4/216) و صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/236) وقال في الصحيحة ( 4 / 615 ) بعد أن ذكر طرقه : رجاله كلهم ثقات رجال مسلم ، فكان حقه أن يصحح .. وقال : وبالجملة فالحديث صحيح وهذه الطرق تزيده قوة على قوة ، و زاد الإمام الآجري في كتابه الشريعة (5/2436-2437) لفظة : ( ولا تعذبه ) .
وقد اعتبر ابن حجر الهيتمي هذا الحديث من غرر فضل معاوية وأظهرها ، ثم قال : ومن جمع الله له بين هاتين المرتبتين كيف يتخيل فيه ما تقوّله المبطلون ووصمه به المعاندون . تطهير اللسان ( ص 14 ) .
و أخرج الإمام أحمد ، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان ، قال : ( هلموا إلى الغداء المبارك ) ، ثم سمعته يقول : ( اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب ) . فضائل الصحابة (2/913) إسناده حسن لغيره .
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب ، فجاء فحطأني حطأة وقال : اذهب وادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت هو يأكل ، قال : ثم قال لي : اذهب فادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : لا اشبع الله بطنه .
قال الحافظ الذهبي في التذكرة (2/699) : لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة و رحمة .(1/55)
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (16/156) : قد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاءً له .
قلت : وهذا الحديث أخرجه مسلم تحت الأحاديث التي تندرج تحت باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه ، وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً و رحمة .
وقد كان لمعاوية رضي الله عنه شرف قيادة أول حملة بحرية ، وهي التي شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملوك على الأسرة ..
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت : نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ، ثم استيقظ يبتسم ، فقلت : ما أضحكك ؟ قال : ( أناس من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ) ، قالت : فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ، ففعل مثلها ، فقالت قولها ، فأجابها مثلها ، فقالت : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : ( أنت من الأولين ) ، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين ، فنزلوا الشام ، فَقُرِّبت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت . البخاري مع الفتح ( 6 / 22 ) .
قال ابن حجر معلقاً على رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوله : ( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة .. ) يشعر بأن ضحكه كان إعجاباً بهم ، وفرحاً لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة .(1/56)
وأخرج البخاري أيضاً من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ) ، قالت أم حرام : قلت : يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : ( أنت فيهم ) . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر - أي القسطنطينية - مغفور لهم ) ، فقلت : أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : ( لا ) . البخاري مع الفتح ( 6 / 22 ) . ومسلم ( 13 / 57 ) .
ومعنى أوجبوا : أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة . قاله ابن حجر في الفتح ( 6 / 121 ) .
قال المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي ( ت 435هـ ) معلقاً على هذا الحديث : في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر . انظر الفتح ( 6 / 120 ) .
ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن غزو البحر وفتح جزيرة قبرص كان في سنة ( 27هـ ) في إمارة معاوية رضي الله عنه على الشام ، أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه . انظر تاريخ الطبري ( 4 / 258 ) و تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين ( ص 317 ) .
ومن فضائله : ما قاله الخلال : أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال : قلت لأحمد بن حنبل : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي ) ؟ قال : بلى ، قلت : وهذه لمعاوية ؟ قال : نعم ، له صهر ونسب ، قال : وسمعت ابن حنبل يقول : مالهم ولمعاوية ، نسأل الله العافية . السنة للخلال برقم ( 654 ) وإسناد الحديث حسن .
وقد عد ابن حجر الهيتمي ذلك من أبرز فضائله فقال في تطهير الجنان ( ص 17 - 18 ) : ومنه فوزه بمصاهرته صلى الله عليه وسلم ، فإن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها أخته .. فلعلك تنكف أو تكف غيرك عن الخوض في عرض أحد ممن اصطفاهم الله لمصاهرة رسوله .(1/57)
كما وأن اتفاق كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وهما من هما في الفضل والصحبة ولهما المكان الأعلى والأمثل من الورع والدين والتقى وسداد الرأي وحسن الفكر وتمام النظر ، على تأمير معاوية رضي الله عنه على الشام ، لهو أكبر دليل على فضل معاوية و استحقاقه لهذه المنزلة .. فأي فضل بعد هذا ؟!!
وأما عن ثناء الصحابة رضوان الله عليهم على معاوية رضي الله عنه ..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تذكروا معاوية إلا بخير . البداية والنهاية لابن كثير (8/125 ) .
و ذكر الطبري في تاريخه ( 5 / 331 ) والبلاذري في أنساب الأشراف ( 4 / 147 ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام ، فرأى معاوية في موكب يتلقاه ، فقال له عمر : يا معاوية ، تروح في موكب وتغدو في مثله ؛ وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك ! قال : يا أمير المؤمنين ، إن العدو بها قريب منا ، ولهم عيون وجواسيس ، فاردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً ؛ فقال له عمر : إن هذا لكيد رجل لبيب ، أو خدعة رجل أريب ، فقال معاوية : يا أمير المؤمنين ، مرني بما شئت أصر إليه ؛ قال : ويحك ! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك ! .
وعن علي رضي الله عنه أنه قال بعد رجوعه من صفين : أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية ، فإنكم لو فقدتموها ، رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل . ابن كثير في البداية ( 8 / 134 ) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود - من السيادة - من معاوية ، فقيل : ولا أبوك ؟ قال : أبي عمر رحمه الله خير من معاوية ، وكان معاوية أسود منه . الخلال في السنة ( 1 / 443 ) والذهبي في السير ( 3 / 152 ) وابن كثير في البداية (8/ 137 ) .(1/58)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت رجلاً كان أخلق للملك من معاوية ، كان الناس يردون منه على أرجاء واد رحب ، و لم يكن بالضيق الحصر العصعص المتغضب . رواه عبد الرزاق في المصنف (برقم 20985) بسند صحيح . وابن كثير في البداية ( 8 / 137 ) .
وفي صحيح البخاري برقم ( 3765 ) أنه قيل لابن عباس : هل لك في أمير معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة ، قال : إنه فقيه .
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه قال : لله در ابن هند - يعني معاوية رضي الله عنه - إنا كنا لَنَفْرَقه - من الفَرَق : وهو الخوف والفزع - وما الليث على براثنه بأجرأ منه ، فيتفارق لنا ، وإن كنا لنخادعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه ، فيتخادع لنا ، والله لوددت أنا مُتعنا به مادام في هذا الجبل حَجَر ، وأشار إلى أبي قبيس . أورده ابن كثير في البداية ( 8 / 138 ) .
إلى غيرها من الفضائل ..
وأما ما يتشدق به البعض من نقلهم عن إسحاق بن راهوية أنه قال : ( لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل معاوية شيء ) .
قلت : لهم الويل .. وبفيهم الحجر .. فهذا القول عن ابن راهوية باطل ولم يثبت عنه ..
فقد أخرج الحاكم كما في السير للذهبي (3/132) والفوائد المجموعة للشوكاني ( ص 407) عن الأصم - أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم - حدثنا أبي ، سمعت ابن راهوية فذكره . و في الفوائد : سقطت ( حدثنا أبي ) ، و هي ثابتة فالأصم لم يسمع من ابن راهوية .
قلت : يعقوب بن يوسف بن معقل أبو الفضل النيسابوري - والد الأصم - مجهول الحال ، فقد ترجمة الخطيب في تاريخه (14/286) فما زاد على قوله : قدم بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهوية ، روى عنه محمد بن مخلد .(1/59)
ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وله ذكر في ترجمة ابنه من السير (15/453) ولم يذكر فيه الذهبي أيضاً جرحاً ولا تعديلاً ، وذكر في الرواة عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ولم أجده في الجرح والتعديل ، ولا في الثقات لابن حبان . و بهذا فإن هذا القول ضعيف لم يثبت عن إسحاق بن راهوية رحمه الله . بتصرف من كتاب : لا دفاعاً عن الألباني لعمرو عبد المنعم ( ص 181 - 182 ) .
وأما الشبهة الثانية وهي قول الإمام البخاري : بأنه لم يجد في فضائل معاوية شيء ، فقد أجاب عنها ابن حجر رحمه الله بقوله : إن كان المراد أنه لم يصح منها شيء وفق شرطه - أي شرط البخاري - فأكثر الصحابة كذلك . انظر : تطهير الجنان عن التفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان ( ص 11 - 12 ) .
وعلى كل حال فقد كان البخاري رحمه الله يترضى عن معاوية كلما ذكر اسمه ، ثم إنه قد ثبت عند البخاري صحبة معاوية رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم ، وثبت فقهه أيضاً كما نص عليه ابن عباس ، وقد تقدم الحديث .. وكفى بهذا الثناء من حبر الأمة من فضيلة ومنقبة ..
كما وأن البخاري رحمه الله أخرج الحديث الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأن يجعله هادياً مهدياً ويهدي به في كتابه التاريخ الكبير كما حكى ذلك شيخنا الألباني رحمه الله انظر : السلسلة الصحيحة ( 4 / 9691 ) .
سئل عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة ، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية : ربنا ولك الحمد . فما بعد هذا ؟ . وفيات الأعيان ، لابن خلكان (3 /33) ، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466) .(1/60)
و أخرج الآجري بسنده إلى الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً و قال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على وحيه عز وجل . كتاب الشريعة للآجري ( 5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي ، برقم (2785) . بسند صحيح .
وسئل المعافى بن عمران ، معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز . السنة للخلال ( 2/ 435 ) .
و كذلك أخرج الآجري بسنده إلى أبو أسامة ، قيل له : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟
فقال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاس بهم أحد . كتاب الشريعة (5/2465-2466) بسند صحيح ، و كذلك أخرج نحوه الخلال في السنة ، برقم (666) .
وروى الخلال في السنة بسند صحيح ( 660 ) أخبرنا أبو بكر المروذي قال : قلت لأبي عبد الله أيهما أفضل : معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : معاوية أفضل ، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني الذي بعثت فيهم .
وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : يا أبا محمد يعني في حلمه ؟ قال : لا والله بل في عدله . السنة للخلال ( 1 / 437 ) .
وعن قتادة قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي . السنة للخلال ( 1/438 ) .
وعن مجاهد أنه قال : لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي . المصدر نفسه ، وأورده ابن كثير في البداية ( 8 / 137 ) .
وعن الزهري قال : عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئاً . السنة للخلال ( 1 /444 ) وقال المحقق إسناده صحيح .(1/61)
وقد أثنى عليه قبيصة بن جابر الأسدي بقوله : ألا أخبركم من صحبت ؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلاً أفقه فقهاً ولا أحسن مدارسة منه ، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله ، فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل من غير مسألة منه ؛ ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحب رفيقاً ، ولا أشبه سريرة بعلانية منه .. انظر تاريخ الطبري ( 5/ 337 ) وأورد هذا الخبر البخاري في التاريخ الكير ( 7 / 175 ) .
وقال أيضاً : ما رأيت أحداً أعظم حلماً ولا أكثر سؤدداً ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجاً ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية . البداية والنهاية ( 8 / 138 ) .
وإن الجمع الذي بايع معاوية رضي الله عنه بالخلافة خير من الجمع الذي بايع عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فقد بايع لمعاوية جم غفير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي ذلك يقول ابن حزم رحمه الله كما في الفصل ( 5 / 6 ) : فبويع الحسن ، ثم سلم الأمر إلى معاوية ، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بخلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل ، فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته .
و قد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله : معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم ، يعني الصحابة . انظر البداية والنهاية لابن كثير (8/139) .
و سئل الإمام أحمد : ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي ، ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً ؟ قال أبو عبد الله : هذا قول سوء رديء ، يجانبون هؤلاء القوم ، ولا يجالسون ، و نبين أمرهم للناس . انظر : السنة للخلال (2/434) بسند صحيح .
وقد سئل رجل الإمام أحمد عن خال له ينتقص معاوية رضي الله عنه ، وأنه - أي الرجل - ربما أكل مع خاله ، فقال له الإمام أحمد مبادراً : لا تأكل معه . السنة للخلال ( 2/ 448 ) .(1/62)
وقال الربيع بن نافع الحلبي ( ت 241هـ ) رحمه الله : معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه . البداية والنهاية (8/139) .
يقول ابن قدامة المقدسي : ومعاوية خال المؤمنين ، وكاتب وحي الله ، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله تعالى عنهم . لمعة الاعتقاد ( ص 33 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة ، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة ، وهو أول الملوك ، كان ملكه ملكاً ورحمة . مجموع الفتاوى ( 4 / 478 ) .
وقال أيضاً : .. فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمّره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمّر غيره ، وجاهد معه ، وكان أميناً عنده يكتب له الوحي ، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي .. وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال ، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ، ولم يتهمه في ولايته . الفتاوى ( 4 / 472 ) .
وقال : فلم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمان معاوية . منهاج السنة ( 6 / 232 ) .
وقال ابن كثير في ترجمة معاوية رضي الله عنه : وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين .. فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته ، والجهاد في بلاد العدو قائم وكلمة الله عالية ، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض ، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو . البداية والنهاية ( 8 / 119 ) .
وقال : كان حليماً وقوراً رئيساً سيداً في الناس ، كريماً عادلاً شهماً . البداية ( 8 / 118 ) .
وقال أيضاً : كان جيد السيرة حسن التجاوز جميل العفو كثير الستر رحمه الله تعالى . المصدر السابق ( 8 / 126 ) .
وقال ابن أبي العز الحنفي : وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين . شرح العقيدة الطحاوية ( ص 722 ) .(1/63)
وقال الذهبي في ترجمته : أمير المؤمنين ملك الإسلام . السير ( 3 / 120 ) .
وقال : ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم . المصدر نفسه ( 3 / 159 ) .
وأورد رأياً طريفاً للمؤرخ العلامة ابن خلدون في اعتبار معاوية من الخلفاء الراشدين فقد قال : إن دولة معاوية و أخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين و أخبارهم ، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة . انظر هذا القول في العواصم من القواصم ( ص213)
قال محب الدين الخطيب رحمه الله : سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال ما تقول في معاوية ؟ فقلت له : و من أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة ، و صاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، إنه مصباح من مصابيح الإسلام ، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره . حاشية محب الدين الخطيب على كتاب العواصم من القواصم ( ص95) .
إلى غيرها من الأقوال والآراء في هذا الصحابي الجليل ..
شبهات وأباطيل
شبهة طلب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما للخلافة
قد شاع بين الناس قديماً و حديثاً أن الخلاف بين علي و معاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة ، و أن خروج معاوية على علي و امتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام .
و قد جاء في كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة الدينوري رواية تذكر أن معاوية ادّعى الخلافة ،
و ذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه : اعلم أن معاوية طليق الإسلام و أن أباه رأس الأحزاب ، و أنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه و إن كذبك فقد حرم عليك كلامه . الإمامة و السياسة (1/113) .(1/64)
لكن الصحيح أن الخلاف بين علي و معاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية و أصحابه لعلي قبل إيقاع القصاص على قتلة عثمان أو بعده ، و ليس هذا من أمر الخلافة في شيء . فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه و من حوله من أهل الشام أن يقتص علي رضي الله عنه من قتلة عثمان ثم يدخلوا بعد ذلك في البيعة .
يقول إمام الحرمين الجويني في لمع الأدلة : إن معاوية و إن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته و لا يدعيها لنفسه ، و إنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب ، و كان مخطئاً . لمع الأدلة في عقائد أهل السنة للجويني (ص 115) .
أما شيخ الإسلام فيقول : بأن معاوية لم يدّع الخلافة و لم يبايع له بها حتى قتل علي ، فلم يقاتل على أنه
خليفة ، و لا أنه يستحقها ، و كان يقر بذلك لمن يسأله . مجموع الفتاوى ( 35/72) .
و يورد ابن كثير في البداية و النهاية (7/360) ، عن ابن ديزيل - هو إبراهيم بن الحسين بن علي الهمداني المعروف بابن ديزيل الإمام الحافظ (ت 281 هـ) انظر : تاريخ دمشق (6/387) و سير أعلام النبلاء (13/184-192) و لسان الميزان لابن حجر (1/48) - ، بإسناد إلى أبي الدرداء و أبي أمامة رضي الله عنهما ، أنهما دخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية ! علام تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك و من أبيك إسلاماً ، و أقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحق بهذا الأمر منك . فقال : أقاتله على دم عثمان ، و أنه آوى قتلة عثمان، فاذهبا إليه فقولا : فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام .(1/65)
و يقول ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ( ص 325) : و من اعتقاد أهل السنة و الجماعة أن ما جرى بين معاوية و علي رضي الله عنهما من الحرب ، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي .. فلم تهج الفتنة بسببها ، و إنما هاجت بسبب أن معاوية و من معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه ، فامتنع علي .
و هكذا تتضافر الروايات و تشير إلى أن معاوية رضي الله عنه خرج للمطالبة بدم عثمان ، و أنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحد على قتلة عثمان . و لو افترض أنه اتخذ قضية القصاص
و الثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطة ، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على قتلة عثمان .
حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي و مبايعته له ، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة ، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان ، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه ، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة ، و لا يمكن أن يقدم عليه إذا كان ذا أطماع .
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتاب الوحي ، و من أفاضل الصحابة ، و أصدقهم لهجة ، و أكثرهم حلماً فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي و يريق دماء المسلمين من أجل ملك زائل ، و هو القائل : والله لا أخير بين أمرين ، بين الله و بين غيره إلا اخترت الله على ما سواه . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/151) .
أما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل
مبادرته إلى القصاص من قتلة عثمان ، بل و يلتمس منه أن يمكنه منهم ، مع العلم أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم ، بل يدخل في الطاعة و يرفع دعواه إلى الحاكم و يطلب الحق عنده .(1/66)
و يمكن أن نقول إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً متأولاً يغلب على ظنه أن الحق معه ، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم و ذكّرهم أنه ولي عثمان -ابن عمه - و قد قتل مظلوماً و قرأ عليهم الآية الكريمة {و من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا }الإسراء/33
ثم قال : أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ، فقام أهل الشام جميعهم و أجابوا إلى الطلب بدم عثمان ، و بايعوه على ذلك و أعطوه العهود و المواثيق على أن يبذلوا أنفسهم و أموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفني الله أرواحهم . انظر : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/150-152) .
----------------------------------
وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهما
كانت وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه سنة ( 51هـ ) مسموماً ، وصلى عليه سعيد بن العاص رضي الله عنه والي المدينة من قبل معاوية من سنة ( 49 - 54هـ ) . انظر : طبقات ابن سعد ( القسم المفقود ) تحقيق محمد بن صامل ( 1 / 341 - 344 ) .
ولم يرد في خبر وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه بالسم خبر صحيح أو رواية ذات أسانيد صحيحة .. وفي ما يلي أقوال أهل العلم في هذه المسألة :-
1- قال ابن العربي رحمه الله في العواصم ( ص 220 - 221 ) : فإن قيل : دس - أي معاوية - على الحسن من سمه ، قلنا هذا محال من وجهين :-
أحدهما : أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلّم الأمر .
الثاني : أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله ، فكيف تحملونه بغير بينة على أحد من خلقه ، في زمن متباعد ، لم نثق فيه بنقل ناقل ، بين أيدي قوم ذوي أهواء ، وفي حال فتنة وعصبية ، ينسب كل واحد إلى صاحبه مالا ينبغي ، فلا يقبل منها إلا الصافي ، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم .
2- قال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة ( 4 / 469 ) : وأما قوله : إن معاوية سم الحسن ، فهذا(1/67)
مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به ، وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم .
3 - قال الذهبي رحمه الله في تاريخ الإسلام ( عهد معاوية ) ( ص 40 ) : قلت : هذا شيء لا يصح فمن الذي اطلع عليه .
4- قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ( 8 / 43 ) : وروى بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال : إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا ؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح ، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى .
5- قال ابن خلدون في تاريخه ( 2 / 649 ) : وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث ، فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية من ذلك .
وقد علق الدكتور جميل المصري على هذه القضية في كتابه : أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري ( ص 482 ) بقوله : .. ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد .. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك ؛ لأننا لا نلمس لها أثراً في قضية قيام الحسين ، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية .
قلت : ثم إن الناس في تلك المرحلة في حالة فتنة تتصارعهم الأهواء ، وكل فرقة تنسب للأخرى مايذمها وإذا نقل لنا خبر كهذا فإنه يجب علينا ألا نقبله إلا إذا نقل عن عدل ثقة ضابط .. وقد حاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجدوا علاقة بين البيعة ليزيد وبين وفاة الحسن بالسم .(1/68)
ثم إن الذي نُقِلَ لنا عن حادثة سم الحسن بن علي رضي الله عنه روايات متضاربة ضعيفة ، بعضها يقول أن الذي دس السم له هي زوجته ، وبعضها يقول أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك ، وبعضها يتهم معاوية رضي الله عنه بأن أوعز إلى بعض خدمه فسمه ، وبعضها يتهم ابنه يزيد .. وهذا التضارب في حادثة كهذه ، يضعف هذه النقول ؛ لأنه يعزوها النقل الثابت بذلك ، والرافضة خيبهم الله ، لم يعجبهم من هؤلاء إلا الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه يلصقون به التهمة ، مع أنه أبعد هؤلاء عنها ..
وقلت أيضاً : إن هذه الحادثة - قصة دس السم من قبل معاوية للحسن - تستسيغها العقول في حالة واحدة فقط ؛ وهي كون الحسن بن علي رضي الله عنه رفض الصلح مع معاوية وأصر على القتال ، ولكن الذي حدث أن الحسن رضي الله عنه صالح معاوية وسلم له بالخلافة طواعية وبايعه عليها ، فعلى أي شيء يقدم معاوية رضي الله عنه على سم الحسن ؟؟!!
وإن من الدلالة على ضعف تلك الاتهامات وعدم استنادها إلى معقول أو محسوس ، ما ذكر حول علاقة جعدة بنت قيس بمعاوية ويزيد ، حيث زعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن سمي حسناً فإني سأتزوجك ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء ، فقال : إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا .
ولعل الناقد لمتن هذه الرواية يتجلى له عدة أمور :-
1- هل معاوية رضي الله عنه أو ولده يزيد بهذه السذاجة ليأمرا امرأة الحسن بهذا الأمر الخطير ، الذي فيه وضع حد لحياة الحسن بن علي غيلة ، و ما هو موقف معاوية أو ولده أمام المسلمين لو أن جعدة كشفت أمرهما ؟!(1/69)
2- هل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد ، وبالتالي تكون زوجة له ، أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس ، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة ، إن أمه فاطمة وجده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً ، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ، إذاً ما هو الشيء الذي تسعى إليه جعدة وستحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير ؟!
3- لقد وردت الروايات التي تفيد أن الحسن قال : لقد سقيت السم مرتين ، وفي رواية ثلاث مرات ، وفي رواية سقيت السم مراراً ، هل بإمكان الحسن أن يفلت من السم مراراً إذا كان مدبر العملية هو معاوية أو يزيد ؟! نعم إن عناية الله وقدرته فوق كل شيء ، ولكن كان باستطاعة معاوية أن يركز السم في المرة الأولى ولا داعي لهذا التسامح مع الحسن المرة تلو المرة !!
4- و إذا كان معاوية رضي الله عنه يريد أن يصفي الساحة من المعارضين حتى يتمكن من مبايعة يزيد بدون معارضة ، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة ، ولن تقتصر التصفية على الحسن فقط .
5- وإن بقاء الحسن من صالح معاوية في بيعة يزيد ، فإن الحسن كان كارهاً للنزاع وفرقة المسلمين ، فربما ضمن معاوية رضاه ، وبالتالي يكون له الأثر الأكبر في موافقة بقية أبناء الصحابة .
6- ثم إن هناك الكثير من أعداء الحسن بن علي رضي الله عنه ، قبل أن يكون معاوية هو المتهم الأول ، فهناك السبئية الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية وجعل حداً لصراع المسلمين ، وهناك الخوارج الذين قاتلهم أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النهراون وهم الذين طعنوه في فخذه ، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها .(1/70)
ولمزيد فائدة راجع كتاب : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري للدكتور محمد نور ولي ( ص 367 - 368 ) لتقف على الكم الهائل من الروايات المكذوبة على معاوية رضي الله عنه من قبل الشيعة في قضية سم الحسن .. وكتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 120- 125 ) .
ويكفي أن خبركم أن أحد مؤرخيهم وهو ابن رستم في كتابه : دلائل الإمامة ( ص 61 ) قد بالغ في اتهام معاوية رضي الله عنه ، وادعى أنه سم الحسن سبعين مرة فلم يفعل فيه السم ، ثم ساق خبراً طويلاً ضمنه ما بذله معاوية لجعدة من الأموال والضياع لتسم الحسن ، وغير ذلك من الأمور الباطلة .
مناقشة الجانب الطبي في روايات السم
بعدما تبينت براءة معاوية رضي الله عنه وابنه يزيد من تهمة سم الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فيما سبق من أقوال العلماء ، وما سردناه من تحليلات ، فإنه مما يناسب المقام مناقشة الجانب الطبي في المرويات التي تحدثت عن وفاة الحسن رضي الله عنه بالسم ، ويمكنك مراجعة هذه المرويات الضعيفة في طبقات ابن سعد القسم المفقود بتحقيق الدكتور محمد بن صامل ( 1 / 334 - 339 ) .
وفيما يلي النصوص الخاصة بالجانب الطبي في هذه المسألة :-
1- أخرج ابن سعد بإسناده ، أن الحسن رضي الله عنه دخل كنيفاً له ، ثم خرج فقال : .. والله لقد لفظت الساعة طائفة من كبدي قبل ، قلبتها بعود كان معي ، وإني سقيت السم مراراً فلم أسق مثل هذا . طبقات ابن سعد ( 1 / 336 ) .
2- أخرج ابن سعد بإسناده ، أن الحسن رضي الله عنه قال : إني قد سقيت السم غير مرة ، وإني لم أسق مثل هذه ، إني لأضع كبدي . المصدر السابق ( 1 / 338 ) .
3- أخرج ابن سعد بإسناده ، قال : كان الحسن بن علي سقي السم مراراً ، كل ذلك يفلت منه ، حتى كان المرة الأخيرة التي مات فيها ، فإنه كان يختلف كبده . المصدر السابق ( 1 / 339 ) .(1/71)
هذا وبعرض النصوص المتعلقة بالجانب الطبي في هذه المسألة على أ.د. كمال الدين حسين الطاهر أستاذ علم الأدوية ، كلية الصيدلة جامعة الملك سعود بالرياض ، أجاب بقوله :
( لم يشتك المريض - أي الحسن بن علي رضي الله عنه - من أي نزف دموي سائل ، مما يرجح عدم إعطائه أي مادة كيميائية أوسم ذات قدرة على إحداث تثبيط لعوامل تخثر الدم ، فمن المعروف أن بعض الكيميائيات والسموم ، تؤدي إلى النزف الدموي ؛ وذلك لقدرتها على تثبيط التصنيع الكبدي لبعض العوامل المساعدة على تخثر الدم ، أو لمضادات تأثيراتها في عملية التخثر ؛ ولذلك فإن تعاطي هذه المواد سيؤدي إلى ظهور نزف دموي في مناطق متعددة من أعضاء الجسم مثل العين والأنف والفم والجهاز المعدي - المعوي - وعند حدوث النزف الدموي في الجهاز المعدي - المعوي - يخرج الدم بشكل نزف دبري سائل ، منفرداً أو مخلوطاً مع البراز ، ولا يظهر في شكل جمادات أو قطع دموية صلبة كانت أو إسفنجية ، أو في شكل ( قطع من الكبد ) ، ولذلك يستبعد إعطاء ذلك المريض أحد المواد الكيميائية ، أو السموم ذات القدرة على إحداث نزف دموي ) .
وعن طبيعة قطع الدم المتجمدة التي أشارت الروايات إلى أنها قطع من الكبد ، يقول أ.د. كمال الدين حسين الطاهر :
( هناك بعض أنواع سرطانات أو أورام الجهاز المعدي - المعوي - الثابتة أو المتنقلة عبر الأمعاء ، أو بعض السرطانات المخاطية التي تؤدي إلى النزف الدموي المتجمد ، المخلوط مع الخلايا ، و بطانات الجهاز المعدي - المعوي - وقد تخرج بشكل جمادات ( قطع من الكبد كما في الروايات ) ، ولذلك فإني أرجح أن ذلك المريض قد يكون مصاباً بأحد سرطانات ، أو أورام الأمعاء ) . راجع كتاب : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 395 - 397 ) .
وإن ثبت موت الحسن رضي الله عنه بالسم ، فهذه شهادة له وكرامة في حقه كما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 4/ 42 ) .(1/72)
----------------------------------
شبهة لعن علي رضي الله عنه على المنابر بأمر من معاوية ..
الجواب : إن هذه الفرية من الأشياء المكذوبة في حق معاوية رضي الله عنه بل من الأباطيل التي روج لها الرافضة ودخلت على كتب أهل السنة كأنها حقيقة لا شك فيها .. وبل وظلم العهد الأموي بها .. ولقد تبين لي بعد النظر في الأسباب الداعية لذلك أن أبرز تلك الأسباب التي دعت بعض الناس ،أو الطوائف لتشويه هذا العهد هو التعصب للمذهب والآراء ومحاولة التشهير بالآخرين ..
وهذه دعوى تحتاج إلى دليل ، وهي مفتقرة إلى صحة النقل ، وأغلب الرافضة ومن أشرب قلبه ببغض معاوية رضي الله عنه ، لا يتثبتون فيما ينقلون ، وإنما يكتفون بقولهم : ( كما ذكر ذلك المؤرخون ) أو ( وكتب التواريخ طافحة بذلك ) إلى غيرها من الترهات .. ولا يحيلون إلى أي مصدر موثوق ، وكما هو معلوم مدى أهمية الإحالة والتوثيق لمثل هذه الدعاوى عند المحققين والباحثين ..
ومعاوية رضي الله عنه منزه عن مثل هذه التهم ، بما ثبت من فضله في الدين ، كما أن معاوية رضي الله عنه كان محمود السيرة في الأمة ، أثنى عليه الصحابة وامتدحه خيار التابعين ، وشهدوا له بالدين والعلم والفقه والعدل والحلم وسائر خصال الخير .. وقد تقدم معنا في حلقات مضت الكثير من فضائل هذا الصحابي الجليل العامة والخاصة فلتراجع للأهمية ..
ونقول بعد مراجعة تلك الفضائل وأقوال أهل العلم في معاوية رضي الله عنه : إذا ثبت هذا في حق معاوية ، فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل ، و هذا يعني أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ ، قد مالؤوه على الظلم والبغي واتفقوا على الضلال !! وهذا مما نزهت الأمة عنه بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة ) السنة لابن أبي عاصم برقم ( 82 - 84 ) .(1/73)
ومن علم سيرة معاوية رضي الله عنه في الملك وما اشتهر به من الحلم والصفح وحسن السياسة للرعية ، ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه .
ولا شك أن هذه الحكاية لا تتفق أبداً مع منطق الحوادث ، ولا طبيعة المتخاصمين ، و إن الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية لم تذكر شيئاً من ذلك أبداً ، و إنما هي من كتب المتأخرين ، مثل :-
1- كتاب تاريخ الطبري (5/71 ) عن أبي مخنف .
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص285) .
3- الكامل لابن الأثير (2/397) . وغيرهم ممن كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس ..
وهذا العمل إنما كان بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية ، و يعلنوا للعلويين أن اضطهاد العباسيين للعلويين لم يبلغ القدر الذي ارتكبه الأمويون من قبل .
ثم كيف يسمح معاوية رضي الله عنه بذلك ؟! و هو الذي لم يصح عنه أبداً أنه سبّ علياً أو لعنه مرة واحدة ، فضلاً عن التشهير به على المنابر !! ..
وقد علق ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/284) على قصة لعن علي رضي الله عنه على المنابر بعد القنوت ، بقوله : ولا يصح هذا ..
ثم لنا أن نتساءل أيضاً لماذا يُعنى بنو أمية بسب علي رضي الله عنه و هم الغالبون المنتصرون ؟
و ما يمكن أن يقال في إجماع المسلمين على أنه لا يجوز لعن المسلم على التعيين ؟
و هل يكون هذا الحكم غائباً عن معاوية رضي الله عنه و من أتى بعده من بني أمية ؟
و كيف نفسر ما نقله صاحب العقد الفريد من أن معاوية أخذ بيد الحسن بن علي في مجلس له ، ثم قال لجلسائه : من أكرم الناس أباً و أماً و جداً و جدة ؟ فقالوا : أمير المؤمنين أعلم .. فأخذ بيد الحسن و قال : هذا أبوه علي بن أبي طالب ، و أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، و جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و جدته خديجة رضي الله عنها .(1/74)
و أما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية و أصحابه ، و أن معاوية إذا قنت لعن علياً و ابن عباس و الحسن والحسين ، فهو غير صحيح لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيّد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم و لعنه .
و قد قال صلى الله عليه وسلم : من لعن مؤمناً فهو كقتله . صحيح البخاري مع الفتح (10/479) .
و قوله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانون شفعاء و لا شهداء يوم القيامة . صحيح الجامع (2/1283) .
ثم إن هذا الأثر - قصة لعن علي على منابر بني أمية - مروي من طريق علي بن محمد وهو شيخ ابن سعد وهو المدائني فيه ضعف . و شيخه لوط بن يحي ( أبو مخنف ) ليس بثقة متروك الحديث وإخباري تالف لا يوثق به وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى و المجاهيل . انظر : السير (7/302 ) والميزان (3/419 ) . وفي سندها أيضاً أبو جناب الكلبي ، ضعيف ، راجع هذه الرواية الطويلة الملفقة في تاريخ الطبري ( 5 / 71 ) .
ثم إن هذا الأثر ، و هو الوحيد الذي ورد فيه التصريح المباشر بقصة اللعن وهو المشهور ، وهو الذي يتمسك به عامة أهل البدع والجهل .. يشير إلى أن علياً رضي الله عنه كان يلعن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم !! فماذا لم يتحدثوا عن هذه ؟!!
وأما ما سوى هذه الرواية ، فهي شبهات واهية ، ليس فيها أي دليل على ما يتشدق به أهل البدع والأهواء ، و سيتم الرد عليها بعد قليل إن شاء الله ..(1/75)
الشبهة الأولى : ما جاء في صحيح مسلم ( برقم 2404 ) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : خلفه في مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبوة بعدي ، وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية { قل تعالوا ندعوا أبناءكم .. } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
الجواب : هذا الحديث لا يفيد أن معاوية أمر سعداً بسب علي ، ولكنه كما هو ظاهر فإن معاوية أراد أن يستفسر عن المانع من سب علي ، فأجابه سعداً عن السبب ، ولم نعلم أن معاوية عندما سمع رد سعد غضب منه ولا عاقبه ..
كما أن سكوت معاوية هنا ، تصويب لرأي سعد ، ولو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب علي كما يدعون ، لما سكت عن سعد ولأجبره على سبه ، ولكن لم يحدث من ذلك شيء ، فعُلم أنه لم يأمر بسبه ولا رضي بذلك ..(1/76)
يقول النووي رحمه الله في ذلك : قول معاوية هذا ، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه ، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب ، كأنه يقول : هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك . فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب ، فأنت مصيب محسن ، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر ، ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون ، فلم يسب معهم ، وعجز عن الإنكار ، أو أنكر عليهم ، فسأله هذا السؤال ، قالوا : ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه : ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده ، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ . شرح صحيح مسلم ( 15 / 175 ) .
وقال القرطبي في المفهم ( 6 / 278 ) : ( وهذا ليس بتصريح بالسب ، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك ، أو من نقيضه ، كما قد ظهر من جوابه ، ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن ، وعرف الحق لمستحقه ) .
والذي يظهر لي في هذا والله أعلم : أن معاوية رضي الله عنه إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد ، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي رضي الله عنه ، فإن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً فطناً ذكياً يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم ، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي رضي الله عنهما ، فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير ..
وهذا مثل قوله رضي الله عنه لابن عباس : أنت على ملة علي ؟ فقال له ابن عباس : ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم . انظر الإبانة الكبرى لابن بطة ( 1 / 355 ) .
وظاهر قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة ، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب ، وأما ما ادعى الرافضة من الأمر بالسب ، فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك ، والمانع من هذا عدة أمور :-
الأول : أن معاوية نفسه ما كان يسب علياً رضي الله عنه ، فكيف يأمر غيره بسبه ؟ بل كان معظماً له معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام ، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه .(1/77)
قال ابن كثير : وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له : هل تنازع علياً أم أنت مثله ؟ فقال : والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل ، وأحق بالأمر مني .. البداية والنهاية ( 8 / 132 ) .
ونقل ابن كثير أيضاً عن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال : لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي ، فقالت له امرأته : أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال : ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم . نفس المصدر ( 8 / 133 ) .
الثاني : أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية رضي الله عنه تعرض لعلي رضي الله عنه بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته ، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته ، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه .
الثالث : أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً ، مشهور بالعقل والدهاء ، فلو أراد حمل الناس على سب علي وحاشاه من ذلك ، أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص ، وهو من هو في الفضل والورع ، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً !! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً ، فكيف بمعاوية ؟!!
الرابع : أن معاوية رضي الله عنه انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ، ودانت له الأمصار بالملك ، فأي نفع له في سب علي ؟! بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك ، لما فيه من تهدئة النفوس وتسكين الأمور ، ومثل هذا لا يخفى على معاوية رضي الله عنه الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير .
الخامس : أنه كان بين معاوية رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وابناء علي من الألفة والتقارب ما هو مشهور وفي كتب السير والتاريخ ..
ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف ، وقال لهما : ما أجاز بهما أحد قبلي ، فقال له الحسن : ولم تعط أحد أفضل منا . البداية والنهاية ( 8 / 139 ) .(1/78)
ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له : مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر له بثلاثمائة ألف . المصدر نفسه ( 8 / 140 ) .
وهذا مما يقطع بكذب ما ادعي في حق معاوية رضي الله عنه من حمله الناس على سب علي رضي الله عنه ، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم ..
الشبهة الثانية : ما جاء في صحيح مسلم ( برقم 2409 ) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : استُعمل على المدينة رجل من آل مروان قال : فدعا سهل بن سعد فأمر أن يشتم علياً رضي الله عنه ، فأبى سهل ، فقال له : أما إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب ، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب .. ثم ذكر الحديث وسبب تسميته بذلك .
الجواب : هذا الادعاء لا أساس له من الصحة ، بل إن استشهاد هؤلاء وأمثالهم بهذا الحديث لا حجة فيه ، فأين التصريح باسم معاوية فيه ؟؟ ثم إن الرجل من آل مروان ، ومن المعروف لدى الجاهل قبل العالم أن معاوية رضي الله عنه سفياني وليس مرواني ..
ومن الغرائب أن هؤلاء المبتدعة ينكرون سب علي ، ولم يتورعوا عن سب خير البرية بعد الأنبياء أبي بكر وعمر وعثمان !! وكتبهم طافحة بذلك ..(1/79)
و لنستمع إلى ما رواه أبو نعيم في الحلية ( 1/ 84 - 85 ) عن أبي صالح قال : دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له معاوية : صف لي علياً ، فقال ضرار : أو تعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال معاوية : لا أعفيك ، قال ضرار : أما إذ لابدّ ، فإنه كان و الله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً و يحكم عدلاً ، و يتفجر العلم من جوانبه ، و تنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا و زهرتها ، و يستأنس بالليل و ظلمته ، كان و الله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، و يخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، و من الطعام ما جشب - غليظ ، أو بلا إدام - ، كان و الله كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، و يجيبنا إذا سألناه ، و كان مع تقربه إلينا و قربه منا لا نكلمه هيبة له ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، و يحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، و قد أرخى الليل سدوله ، و غارت نجومه ، يميل في محرابه قابضاً على لحيته ، يتململ تململ السليم - اللديغ - ، و يبكي بكاء الحزين ، فكأني أسمعه الآن و هو يقول : يا ربنا ، يا ربنا ، يتضرع إليه ، ثم يقول للدنيا : إلىّ تغررت ؟ إلىّ تشوفت ؟ هيهات ، هيهات ، غري غيري ، قد بَتَتّكِ ثلاثاً ، فعمرك قصير ، و مجلسك حقير ، و خطرك كبير ، آهٍ آه من قلة الزاد ، و بعد السفر و وحشة الطريق . فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها ، و جعل ينشفها بكمه ، و قد اختنق القوم بالبكاء ، فقال - أي معاوية - : كذا كان أبو الحسن رحمه الله ، كيف وَجْدُكَ عليه يا ضرار ؟ قال ضرار : وَجْدُ من ذبح واحِدُها في حِجْرِها ، لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها ، ثم قام فخرج .(1/80)
قال القرطبي معلقاً على وصف ضرار لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية ، وبكاء معاوية من ذلك ، وتصديقه لضرار فيما قال : ( وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته ، وعظم حقه ومكانته ، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه ، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح .. ) المفهم للقرطبي ( 6 / 278 ) .
و بعد هذا الموقف ، هل يتصور من معاوية رضي الله عنه ، أن يصرح بلعن علي رضي الله عنه على المنابر ؟!
وهل يعقل أن يسع حلم معاوية رضي الله عنه الذي بلغ مضرب الأمثال ، سفهاء الناس وعامتهم وهو أمير المؤمنين ، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب على المنابر ، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان ؟؟!! والحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم ودين ..
و أما ما قيل من أن بني أمية كانوا يسبون علي بن أبي طالب في الخطب ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبطله و كتب إلى نوابه بإبطاله . انظر خبر أمر عمر بن عبد العزيز بترك سب علي على المنابر في الكامل لابن الأثير (3/255-256) و سير أعلام النبلاء للذهبي (5/147 ) .
قلت : إن من أحب شخصاً لا ينبغي أن ينسب كل عمل خير له ؛ صحيح أن عمر بن عبد العزيز من أئمة الهدى ومن المجددين ، و اعتبر خامس الخلفاء الراشدين ، لأنه سار على نهجهم في سيرتهم مع الرعية و الخلافة و طريقة العيش وغيرها من الأمور ، لكن لا يعني أن نفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية رضي الله عنه ، فمعاوية صحابي جليل القدر و المنزلة ، و هو خال المؤمنين ، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم و صافحت يده يد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولاشك أن مثل هذه الفضيلة و المكانة لا تجعل من معاوية رضي الله عنه يصرح بلعن علي رضي الله عنه على المنابر ..(1/81)
سئل عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة ، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية : ربنا ولك الحمد . فما بعد هذا ؟ . وفيات الأعيان ، لابن خلكان (3 /33) ، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466) .
و أخرج الآجري بسنده إلى الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً و قال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على وحيه عز وجل . كتاب الشريعة للآجري ( 5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي ، برقم (2785) . بسند صحيح .
وسئل المعافى بن عمران ، معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز . السنة للخلال ( 2/ 435 ) .
و كذلك أخرج الآجري بسنده إلى أبو أسامة ، قيل له : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟
فقال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاس بهم أحد . كتاب الشريعة (5/2465-2466) بسند صحيح ، و كذلك أخرج نحوه الخلال في السنة ، برقم (666) .
وروى الخلال في السنة بسند صحيح ( 660 ) أخبرنا أبو بكر المروذي قال : قلت لأبي عبد الله أيهما أفضل : معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : معاوية أفضل ، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني الذي بعثت فيهم .
وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : يا أبا محمد يعني في حلمه ؟ قال : لا والله بل في عدله . السنة للخلال ( 1 / 437 ) .(1/82)
وإن الجمع الذي بايع معاوية رضي الله عنه بالخلافة خير من الجمع الذي بايع عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فقد بايع لمعاوية جم غفير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي ذلك يقول ابن حزم رحمه الله كما في الفصل ( 5 / 6 ) : فبويع الحسن ، ثم سلم الأمر إلى معاوية ، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بخلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل ، فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته .
و لاشك أن الصحابة رضوان الله عليهم يتورعون عن مثل هذه الأعمال و الأقوال ، و هم يعلمون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن سب المسلم أو لعنه بعينه ، و هو يعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان . انظر تخريجه في : كتاب السنة لابن أبي عاصم (2/487) و الصحيحة (1/634) و مشكاة المصابيح (4847) ..
إلى غيرها من الأحاديث التي تزجر عن هذه الفعلة القبيحة ، و التي يتورع منها عوام الناس لعلمهم بحرمة دم و عرض المسلم ، فما بالك بالصحابة الكرام و من شهد بدر و بيعة الرضوان ، و هو يعلم علم يقين أن الله رضي عنهم .
----------------------------------
الشبهة التي يرددها البعض من أن الحسن البصري رحمه الله قد طعن في معاوية رضي الله عنه
ذكر الطبري في تاريخه ( 3/ 232 ) ضمن حوادث سنة ( 51هـ ) و ابن الأثير في الكامل ( 3/ 487 ) نقلاً عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحد لكانت موبقة له :
( 1 ) أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة .
( 2 ) استخلافه بعد ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير .
( 3 ) ادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر .
( 4 ) قتله حِجْراً وأصحاب حِجْر ، فيا ويلاً له من حِجْر ويا ويلاً له من حِجْر وأصحاب حِجْر .
وأما الجواب عن هذه الشبهة فهو كالتالي
أولاً : من ناحية السند(1/83)
هذه الرواية مدارها على أبي مخنف ، وأبو مخنف هذا هو لوط بن يحيى الأزدي الكوفي ، قال عنه الذهبي كما في الميزان ( 3 / 419 ) وابن حجر كما في اللسان ( 4 / 492 ) : أخباري تالف لا يوثق به . كما تركه أبو حاتم وغيره ، وقال عنه الدارقطني : ضعيف ، وقال ابن معين : ليس بثقة ، وقال مرة ليس بشيء ، وقال ابن عدي شيعي محترق . ميزان الاعتدال ( 3 / 419 ) ، وعده العقيلي من الضعفاء . انظر الضعفاء للعقيلي ( 4 / 18 - 19 ) . و للمزيد من حال هذا الرجل راجع رسالة مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى ( ص 43 - 45 ) ففيها مزيد بيان وتفصيل عن حال هذا الرجل .
وعلى ذلك فالخبر ساقط ولا حجة فيه بسبب ضعف سنده ، هذا بالنسبة لرواية الطبري . أما رواية ابن الأثير فقد أوردها ابن الأثير بغير إسناد . إذ كيف نسلم بصحة خبر مثل هذا في ذم صحابي لمجرد وروده في كتاب لم يذكر فيه صاحبه إسناد صحيح ، والمعروف أن المغازي والسير والفضائل من الأبواب التي لم تسلم من الأخبار الضعيفة والموضوعة
والشبهات المذكورة بعضها أضعف من بعض مردود عليها فلا حجة فيها
وإليكم التفصيل
الشبهة : قال الحسن البصري في ما روي عنه : أن معاوية أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة .
الجواب : هذا الادعاء باطل من أساسه .. لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قد تنازل لمعاوية رضي بالخلافة ، وقد بايعه جيمع الناس ولم نعلم أن أحداً من الصحابة امتنع عن مبايعته .. ولست هنا بصدد الحديث عن صلح الحسن مع معاوية أو أسباب ذلك ، وإنما الحديث ينصب في رد الشبهة التي أثيرت حول معاوية من كونه أخذ الأمر من غير مشورة ..
وتفصيل ذلك :-(1/84)
ذكر ابن سعد في الطبقات في القسم المفقود الذي حققه الدكتور محمد السلمي ( 1 / 316 - 317 ) رواية من طريق ميمون بن مهران قال : إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين ، بايعهم على الإمارة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ، ويرضوا بما رضي به . قال المحقق إسناده حسن .
ورواية أخرى أخرجها ابن سعد أيضاً وهي من طريق خالد بن مُضرّب قال : سمعت الحسن بن علي يقول : والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم ، قالوا : ما هو ؟ قال : تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت . طبقات ابن سعد ( 1 / 286 ، 287 ) . وقال المحقق : إسناده صحيح .
هذا ويستفاد من هاتين الروايتين ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه ، وذلك تحقيقاً منه لنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
أخرج البخاري في صحيحه ( 5 / 361 ) من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
وقد علق ابن حجر الهيتمي على هذا الحديث بقوله : وبعد نزول الحسن لمعاوية اجتمع الناس عليه ، وسمي ذلك العام عام الجماعة ، ثم لم ينازعه أحد من أنه الخليفة الحق يومئذ . انظر : تطهير الجنان ( ص 19 ، 21 - 22 ، 49 ) .(1/85)
وأخرج الطبراني رواية عن الشعبي قال : شهدت الحسن بن علي رضي الله عنه بالنخيلة حين صالح معاوية رضي الله عنه ، فقال معاوية : إذا كان ذا فقم فتكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي ، وربما قال سفيان - وهو سفيان بن عيينة أحد رجال السند - : أخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي ، فقام فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه - قال الشعبي : وأنا أسمع - ثم قال : أما بعد فإن أكيس الكيس - أي الأعقل - التقي ، وإن أحمق الحمق الفجور ، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرداة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم ، أو يكون حقاً كان لامرئ أحق به مني ففعلت ذلك { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }[الأنبياء/111] . المعجم الكبير ( 3 / 26 ) بإسناد حسن . وقد أخرج هذه الرواية كل من ابن سعد في الطبقات ( 1 / 329 ) و الحاكم في المستدرك ( 3 / 175 ) و أبو نعيم في الحلية ( 2 / 37 ) والبيهقي في الدلائل ( 6 / 444 ) وابن عبد البر في الاستيعاب ( 1 / 388 - 389 ) .
و هذا الفعل من الحسن رضي الله عنه - وهو الصلح مع معاوية وحقنه لدماء المسلمين - ، كان كعثمان بن عفان رضي الله عنه في نسخه للقرآن و كموقف أبي بكر في الردة .
وبعد أن تم الصلح بينه و بين الحسن جاء معاوية إلى الكوفة فاستقبله الحسن و الحسين على رؤوس الناس ، فدخل معاوية المسجد و بايعه الحسن رضي الله عنه و أخذ الناس يبايعون معاوية فتمت له البيعة في خمس و عشرين من ربيع الأول من سنة واحد و أربعين من الهجرة ، و سمي ذلك العام بعام الجماعة .
أخرج يعقوب بن سفيان و من طريقه أيضاً البيهقي في الدلائل من طريق الزهري ، فذكر قصة الصلح ،(1/86)
و فيها : فخطب معاوية ثم قال : قم يا حسن فكلم الناس ، فتشهد ثم قال : أيها الناس إن الله هداكم بأولنا و حقن دماءكم بآخرنا و إن لهذا الأمر مدة و الدنيا دول . المعرفة و التاريخ (3/412) و دلائل النبوة (6/444-445) و ذكر بقية الحديث .
أخرج البخاري عن أبي موسى قال : سمعت الحسن - أي البصري - يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية - و كان خير الرجلين - : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء ، هؤلاء و هؤلاء ، هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الله بن سمرة و عبد الله بن عامر بن كريز - فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما و قالا له و طلبا إليه . فقال لهما الحسن بن علي : إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال و إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا : فإنه يعرض عليك كذا و كذا و يطلب إليك و يسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به ، فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه ، فقال الحسن - أي البصري - : و لقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - و الحسن بن علي إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى و يقول - : إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . صحيح البخاري مع الفتح (5/361) و الطبري (5/158) .
و في هذه القصة فوائد كثيرة أفادها الحافظ في الفتح منها :-
1- عَلَمٌ من أعلام النبوة .
2- فيها منقبة للحسن بن علي رضي الله عنهما ، فإنه ترك الملك لا لقلة و لا لذلة و لا لعلة ، بل لرغبته فيما عند الله ، و لما رآه من حقن دماء المسلمين ، فراعى أمر الدين و مصلحة الأمة .(1/87)
3- فيها ردّ على الخوارج الذين كانوا يكفرون علياً و من معه و معاوية و من معه ، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين .
4- فيها دلالة على فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيما في حقن دماء المسلمين .
5- فيها دلاله على رأفة معاوية بالرعية و شفقته على المسلمين ، و قوة نظره في تدبير الملك و نظره في العواقب .
6- فيها جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين .
7- و فيه جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل ، لأن الحسن و معاوية ولي كل منهما الخلافة و سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ) و سعيد بن زيد (ت51هـ) في الحياة و هما بدريان . فتح الباري (13/71-72) .
و بهذا التنازل ، انتهت مرحلة من الصراع و عادة الأمة إلى الجماعة بعد أن مرت بتجارب جديدة قاسية تركت آثارها عميقة في المخيلة لأجيالها المتلاحقة حتى الوقت الحاضر .
للمزيد حول تفاصيل الصلح و خطوات ذلك ، راجع كتاب : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 126 - 167 ) ، و كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 110 - 120 ) فقد أجاد كل منهما في طرح الموضوع ومناقشته ..
الشبهة الثانية ولاية العهد ليزيد
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد ، و تنشئته التنشئة الصحيحة ، ليشب عليها عندما يكبر ، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية ، و كانت من الأعراب ، و كانت من نسب حسيب ، و منها رزق بابنه يزيد - انظر ترجمتها في : تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء - (ص397 - 401) - من أن تتولى تربيته في فترة طفولته ، وكان رحمه الله وحيد أبيه ، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة و الفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية ، و يتحلى بشمائل النخوة و الشهامة والكرم و المروءة ، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد .(1/88)
كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية ، و ذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة ، كما هو حال العرب في ذلك الوقت .
و عندما رجع يزيد من البادية ، نشأ و تربى تحت إشراف والده ، و نحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث - تهذيب التهذيب لابن حجر (10/207) - ، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث و بعض أخبار أهل العلم . مثل حديث : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ، و حديث آخر في الوضوء ، و روى عنه ابنه خالد و عبد الملك بن مروان ، و قد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة ، و هي الطبقة العليا . البداية و النهاية لابن كثير (8/226-227) .
و قد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ) انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب لابن حجر (3/210) ، مؤدباً لولده يزيد ، و كان دغفل علامة بأنساب العرب ، و خاصة نسب قريش ، و كذلك عارفاً بآداب اللغة العربية .
هذا مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة ..
أما عن فكرة ولاية العهد .. فقد بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده ، ففكر معاوية في هذا الأمر و رأى أنه إن لم يستخلف و مات ترجع الفتنة مرة أخرى .
فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر ، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية ، فرشح ابنه يزيد ، فجاءت الموافقة من مصر و باقي البلاد و أرسل إلى المدينة يستشيرها و إذ به يجد المعارضة من الحسين و ابن الزبير ، و ابن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر ، و ابن عباس . انظر : تاريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - (ص147-152) و سير أعلام النبلاء (3/186) و الطبري (5/303) و تاريخ خليفة (ص213) . إلا أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعاً ليزيد .
و كان اعتراض هؤلاء النفر حول تطبيق الفكرة نفسها ، لا على يزيد بعينه .(1/89)
ثم كانت سنة واحد وخمسين هجرية فحج معاوية في الناس و قرأ كتاب الإستخلاف ليزيد على الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : لقد علمتم سيرتي فيكم ، و صلتي لأرحامكم ، و صفحي عنكم و حلمي لما يكون منكم ، و يزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم و ابن عمكم و أحسن الناس لكم رأياً ، و إنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة و تكونوا أنتم الذين تنزعون و تؤمرون ، و تجيبون و تقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك . راجع العواصم من القواصم (ص226-228) ، و الكامل في التاريخ (2/512) .
و اعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء ليست لها أثر ، و أن البيعة قد تمت ، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة . راجع : الفصل في الملل و النحل لابن حزم (4/149-151) و قد ذكر كيفية انعقاد البيعة و شروطها فعرضها عرضاً دقيقاً .
و كان سبب تولية معاوية ابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، أسباب كثيرة ، فهناك سبب سياسي ؛ وهو الحفاظ على وحدة الأمة ، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلوا بعضها بعضاً ، و كان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد ، خاصة و القيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضاً فتقع الفتن و الملاحم بين المسلمين مرة ثانية ، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى .
وهناك سبب الاجتماعي ؛ وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية ، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد .(1/90)
وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه ، وليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم ، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة ، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء ، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته ، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة ، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير ..
وقد سأل معاوية رضي الله عنه ولد يزيد يوماً حينما أنس منه الحرص على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين ، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة بعد توليه الخلافة ، فيرد عليه يزيد بقوله : ( كنت والله يا أبةِ عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب ) . ابن عاصم في الآحاد والمثاني ( 1 / 375 ) بسند حسن .
لمزيد من التفصيل و الأسباب التي أدت بمعاوية لأخذ البيعة ليزيد ، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأستاذ : محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 126- 136 ) . فقد أجاد الباحث في طرح الموضوع وأفاد ..
و تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى ، ففيهم المعارض ، و منهم المؤيد ، و كانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما أوردته بعض الروايات التاريخية من أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً ، مغرماً بالصيد و شرب الخمر ، و تربية الفهود والقرود ، و الكلاب ... الخ . نسب قريش لمصعب الزبيري (ص127) و كتاب الإمامة والسياسة المنحول لابن قتيبة (1/163) و تاريخ اليعقوبي (2/220) و كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (5/17) و مروج الذهب للمسعودي (3/77) و انظر حول هذه الافتراءات كتاب : صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص86-122) .(1/91)
و لكننا نرى أن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية ، فإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد ، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء .
فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت ، فقال له يزيد ، و كان له مكرماً : يا أبا القاسم ، إن كنت رأيت مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه ، و أتيت الذي تُشير به علي ؟ فقال : والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه ، وأخبرك بالحق لله فيه ، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، وما رأيت منك إلاّ خيراً . أنساب الأشراف للبلاذري (5/17) .(1/92)
كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه والخروج معهم ضده ، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو و أصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون ، قد حضرته و أقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة ، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال : و ما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق و إن لم نكن رأيناه ، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء .. الخ . البداية و النهاية (8/233) و تاريخ الإسلام - حوادث سنة 61-80هـ - (ص274) و حسن محمد الشيباني إسناده ، انظر مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384) .
وقد شهد له ابن عباس رضي الله عنه بالفضيلة وبايعه ، كما في أنساب الأشراف ( 4 / 289 - 290 ) بسند حسن .
كما أن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية ، من أمثال عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عباس و أبو أيوب الأنصاري ، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية ، فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة ، و تتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة ، و يتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات .(1/93)
أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت و هو نازل في ساحة حمص و هو في بناء له و معه أم حرام ، قال عمير : فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ، فقالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ، فقلت : أنا فيهم قال : لا . البخاري مع الفتح (6/120) .
وأخرج البخاري عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود : فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها ، و يزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم . البخاري مع الفتح (3/73) .
و في هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم .
ولنستمع إلى وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول مسألة ولاية العهد ليزيد - وهي جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق ، فهو يقول : إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر و عمر في مجموع سجاياهما ، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام ، ولا عمر بن عبد العزيز ، و إن طمعنا بالمستحيل و قدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر و عمر آخر ، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر و عمر ، وإن كان مقياس الأهلية ، الاستقامة في السيرة ، والقيام بحرمة الشريعة ، والعمل بأحكامها ، و العدل في الناس ، و النظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم ، و توسيع الآفاق لدعوتهم ، والرفق بأفرادهم و جماعاتهم ، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره ، و يقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، و أجزل الثناء عليهم . العواصم من القواصم لابن العربي (ص221) .(1/94)
و نجد أيضاً في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام و ليس الخاص ، فقد ورد على لسانه قوله : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله ، فبلغه ما أملت و أعنه ، و إن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده ، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً ، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك . تاريخ الإسلام للذهبي - عهد معاوية بن أبي سفيان - (ص169) و خطط الشام لمحمد كرد علي (1/137) .
و يتبين من خلال دراسة هذه الفكرة - وهي ولاية العهد من بعده لابن يزيد - ، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه ، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها ، و حفظ لها استقرارها ، و جنبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب .
قلت : و قد رأى معاوية رضي الله عنه في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام من بعده و هو أعلم الناس بخفاياه و لو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره . وحول مبايعة يزيد بن معاوية رحمه الله بولاية العهد ، و حول نشوء هذه الفكرة ، و حول كون يزيد أهلاً و كفئ لتوليه الخلافة بعد والده ، انظر : مقال بعنوان : مبايعة يزيد بن معاوية بولاية العهد ، دراسة تاريخية ، للدكتور : عمر سليمان العقيلي ، في مجلة كلية الآداب ، جامعة الملك سعود المجلد (12) ج (2) .
و الغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية و عابه في تولية يزيد و أنه ورثّه توريثاً هم الشيعة الروافض ، مع أنهم يرون هذا الأمر في علي بن أبي طالب و سلالته إلى اثني عشر خليفة منهم .
نعم إنا نستطيع أن نقول بأن يزيد بن معاوية هو أول من عهد إليه أبوه بالخلافة ؛ ولكن لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية :-
1- ترك الناس بدون خليفة من بعده ، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد .
2- نادى في كل مصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائباً ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة .(1/95)
3- جعل يزيد هو المرشح ، وبايعه الناس كما فعل .
ولنأخذ الأمر الأول :-
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع ، وتركه ولم يرشح أحداً لخلافة المسلمين حتى توفي .
أعتقد أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة ، وترك الناس في هرج ومرج ، حتى استقرت الخلافة أخيراً لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات .
ثم لنتصور الأمر الثاني :-
نادى مناد في كل مصر بأن يرشحوا نائباً عنهم ، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها ، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية .
سيختار أهل الشام ، رجل من بني أمية بلا شك ، بل وربما أنه يزيد ، وربما غيره .
وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وسيختار أهل الحجاز : إما ابن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر ، أو ابن الزبير رضي الله عن الجميع .
وسيختار أهل مصر : عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
والسؤال الآن : هل سيرضى كل مصر بولاية واحد من هؤلاء ، ويسلموا له ، أم ستكون المعارضة واردة ؟!
الجواب : أعتقد أن المعارضة ستظهر .
ولنسأل سؤالاً آخر : في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قبل الأمصار ، هل يستطيع معاوية أن يلزم كل مصر بما اختاره أهل المصر الآخر ؟!
الجواب : ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية ، وسيعمد أدعياء الشر الذي قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية ، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية .
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات ، وربما حصل ما أشرنا إليه ، وربما حدث العكس من ذلك ، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحياناً يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك .(1/96)
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة ، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له ..
ويبقى الأمر الثالث : وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد ولياً للعهد من بعده ..
و قد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه ، كل من ابن العربي في العواصم من القواصم (ص228-229 ) ، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة ، إذا يقول : والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه - و حينئذ من بني أمية - ثم يضيف قائلاً : و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه ، دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ، و عدالتهم مانعة منه . المقدمة لابن خلدون (ص210-211) .(1/97)
و يقول في موضع آخر : عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ، مع أن ظنهم كان به صالحاً ، ولا يرتاب أحد في ذلك ، ولا يظن بمعاوية غيره ، فلم يكن ليعهد إليه ، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق ، حاشا لله لمعاوية من ذلك . المقدمة (ص206) . وانظر أقوالاً أخرى لمؤرخين وباحثين يثنون على هذه الخطوة ، من أمثال : محمد علي كرد في كتابه : الإسلام والحضارة الغربية ( 2 / 395 ) ، و إبراهيم شعوط في : أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ( ص 334 ) ، و يوسف العش في : الدولة الأموية ( ص 164 ) ، و مقال للدكتور : عمارة نجيب في مجلة الجندي المسلم ( ص 58 ) . لمزيد تفصيل في هذا الموضوع ، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية ( ص 141 - 153 ) .
و ليس أفضل - قبل أن ننتقل إلى شبهة أخرى - من أن نشير إلى ما أورده ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ( ص 231 ) من رأي لأحد أفاضل الصحابة في هذا الموضوع ، إذ يقول : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية ، فقال : أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد ، لا أفقه فيها فقهاً ، ولا أعظمها فيها شرفاً ؟ قلنا : نعم ، قال : و أنا أقول ذلك ، و لكن و الله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق
استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وموقف يزيد من مقتله
بعد أن توفي معاوية رضي الله عنه و بويع ليزيد بالخلافة في الشام ، كتب يزيد إلى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يدعو الناس للبيعة و أن يبدأ بوجوه قريش . انظر : ابن سعد في الطبقات (5/359) بإسناد جمعي ، و تاريخ خليفة ( ص 232) بإسناد فيه محمد بن الزبير الحنظلي ، و هو متروك .(1/98)
استشار الوليد بن عتبة مروان بن الحكم فأشار عليه بأن يبعث في طلب الحسين وابن الزبير للبيعة ، فيروي خليفة في تاريخه ( ص 233) : أن ابن الزبير حضر عند الوليد و رفض البيعة واعتذر بأن وضعه الاجتماعي يحتم عليه مبايعته علانية أما الناس ، و طلب منه أن يكون ذلك من الغد في المسجد إن شاء الله . واستدعى الحسين بعد ذلك و يبدوا أن الوليد تحاشى أن يناقش معه موضوع البيعة ليزيد ، فغادر الحسين مجلس الوليد من ساعته ، فلما جنّ الليل خرج ابن الزبير والحسين متجهين إلى مكة كل منها على حدة . ورواية خليفة هي الأقرب في نظري إلى الحقيقة ، فإضافة إلى تسلسل الحدث فيها ، فإن الرواية نفسها عن جويرية بن أسماء و هو مدني .
في طريق مكة التقى الحسين وابن الزبير بابن عمر و عبد الله بن عياش ، و هما منصرفين من العمرة قادمين إلى المدينة ، فقال لهما ابن عمر : أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس و تنظران فإن اجتمع الناس عليه لم تشذا ، و إن افترق عليه كان الذي تريدان . ابن سعد في الطبقات (5/360) والمزي في تهذيب الكمال (6/416) من طريق ابن سعد ، و الطبري (5/343) لكنه ذكر أن الذي لقيهما ابن عمر وابن عباس ، و لعله تحريف في اسم عياش ، والصحيح أن ابن عباس كان موجوداً بمكة حينذاك .(1/99)
فلما علمت شيعة الكوفة بموت معاوية و خروج الحسين إلى مكة و رفض البيعة ليزيد ، فاجتمع أمرهم على نصرته ، ثم كتبوا إليه ، و بعد توافد الكتب على الحسين و هو بمكة و جميعها تؤكد الرغبة في حضوره و مبايعته ، نستطيع أن نقول : إن الحسين لم يفكر بالخروج إلى الكوفة إلا عندما جاءته الرسل من الكوفيين يدعونه بالخروج إليهم ، و أنهم يدعونه مرحبين به طائعين ، فأراد الحسين أن يتأكد من صحة هذه الأقوال ، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه لينظر في أمر أهل الكوفة و يقف على الحقائق بنفسه . انظر : تاريخ الطبري (5/354 ) و البلاذري في أنساب الأشارف (3/159) .
ذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، و وقف على ما يحدث هناك و كتب إلى الحسين يدعوه إلى الخروج إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه .
و قد تتابعت النصائح من الصحابة و التابعين تنهى الحسين عن الخروج إلى الكوفة ، و من الذين نصحوا : محمد بن الحنفية أخوه - ، و ابن عباس ، وابن عمر وابن الزبير و أبو سعيد الخدري و جابر بن عبد الله ، و غيرهم الكثير ، ينهونه عن القدوم إلى الكوفة ، غير أن هذه النصائح الغالية الثمينة لم تؤثر في موقف الحسين حيال خروجه إلى الكوفة ، بل عقد العزم على الخروج ، فأرسل إلى المدينة و قدم عليه من خفّ من بني عبد المطلب ، و هم تسعة عشر رجلاً و نساء و صبياناً من اخوته و بناته و نسائه ، فتبعهم محمد بن الحنفية وأدرك الحسين قبل الخروج من مكة فحاول مرة أخرى أن يثني الحسين عن خروجه لكنه لم يستطع . انظر : ابن سعد في الطبقات (5/266-267) .(1/100)
و جاء ابن عباس و نصحه فأبى إلا الخروج إلى الكوفة ، فقال له ابن عباس : لولا أن يزري بي و بك ، لنشبت يدي في رأسك ، فقال أي الحسين - : لإن أقتل بمكان كذا و كذا أحب إلي من أستحل حرمتها ، يعني الكعبة ، فقال ابن عباس فيما بعد : و كان ذلك الذي سلى نفسي عنه . و كان ابن عباس من أشد الناس تعظيماً للحرم . انظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/96-97) بإسناد صحيح ، و الطبراني في المعجم الكبير (9/193) و قال الهيثمي في المجمع (9/192) و رجاله رجال الصحيح ، و الذهبي في السير (2/292) و غيرهم الكثير .
إن حقيقة الأمر في موقف ابن الزبير رضي الله عنه مثل باقي كبار الصحابة الذين نصحوا الحسين بعدم الخروج ، والحجة في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن قال : لقي عبد الله بن الزبير الحسين بن علي بمكة فقال : يا أبا عبد الله بلغني أنك تريد العراق ، قال : أجل ، فلا تفعل ، فإنهم قتلة أبيك ، الطاعنين بطن أخيك ، وإن أتيتهم قتلوك . المصنف (7/477) .
و لما علم ابن عمر بخروج الحسين أدركه على بعد ثلاث مراحل من المدينة فقال للحسين أين وجهتك ؟ فقال : أريد العراق ، ثم أخرج إليه كتب القوم ، ثم قال : هذه بيعتهم و كتبهم ، فناشده الله أن يرجع ، فأبى الحسين ، ثم قال ابن عمر : أحدثك بحديث ما حدثت به أحداً قبلك : إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة ، فاختار الآخرة ، و إنكم بضعة منه ، فوالله لا يليها أحد من أهل بيته ، ما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم ، فارجع أنت تعرف غدر أهل العراق و ما كان يلقى أبوك منهم ، فأبى ، فاعتنقه و قال : استودعتك من قتيل . ابن سعد في الطبقات (5/360) و ابن حبان (9/58) وكشف الأستار (3/232-233) بسند رجاله ثقات . و عند غيرهم .
لكن هذه النصائح والتحذيرات لم تثن الحسين عن إرادته و عزمه على الخروج نحو الكوفة .(1/101)
و هنا يبرز سؤال ملح : و هو كيف يجمع عدد من الصحابة و كبراؤهم و كبار التابعين و أصحاب العقل منهم ، و من له قرابة بالحسين على رأي واحد و هو الخوف على الحسين من الخروج وأن النتيجة معروفة سلفاً ، و في المقابل كيف يصر الحسين على رأيه وترك نصائح الصحابة وكبار التابعين ؟
و الإجابة على هذا السؤال تكمن في سببين اثنين :-
الأول : وهو إرادة الله جل وعلا و أن ما قدره سيكون و إن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله لا راد لحكمه ولا لقضائه سبحانه وتعالى .
الثاني : و هو السبب الواقعي الذي تسبب في وجود الأمر الأول ، و هو أن الحسين رضي الله عنه أدرك أن يزيد بن معاوية لن يرضى بأن تكون له حرية التصرف والبقاء بدون حمله بالقوة على البيعة ، و لن يسمح يزيد بأكثر مما حدث ، فرسل تأتي و رسل تذهب و دعوة عريضة له بالكوفة ، كل هذا يجعل الحسين يدرك أن موقفه في مكة يزداد حرجاً ، و هو يمانع البيعة للخليفة دون أن يكون هناك ما يبرر موقفه بشكل واضح ، ثم إن خشية الحسين من وقوع أي مجابهة بينه و بين الأمويين في مكة هو الذي جعله يفكر بالخروج من مكة سريعاً ، و هو ما أكده لابن عباس ، ولعل الأمر الذي جعله يسارع في الخروج إلى الكوفة هي الصورة المشرقة والمشجعة التي نقلها له ابن عمه لحال الكوفة و أنها كلها مبايعة له .(1/102)
و في نظري أن مسلم بن عقيل و الحسين رضي الله عنهما لم يكونا يحيطون بكثير من أمور السياسة ، فمسلم بن عقيل وثق في تلك الآلاف المبايعة للحسين و ظن أن هؤلاء سيكونون مخلصين أوفياء و لم يجعل في حسبانه أن العاطفة هي المسير لتلك الأعداد ، فكان على مسلم بن عقيل أن يستثمر الوضع لصالحه وأن يعايش الواقع الفعلي حتى يخرج بتصور صحيح ، وأما أن يرسل للحسين منذ الوهلة الأولى و يوهمه بأن الوضع يسير لصالحه ، فهذا خطأ كبير وقع فيه مسلم بن عقيل ، ثم إن الحسين رضي الله عنه وثق بكلام مسلم بن عقيل و صدق أن الكوفة ستقف معه بمجرد مجيئه إليها ، و نسي أن الكوفة هي التي عانى أبوه منها أشد المعاناة من التخاذل والتقاعس و عدم الامتثال لأوامره ثم كانت النهاية باغتياله رضي الله عنه ، ثم إن أخاه الحسن واجه الغدر والمكيدة من أهل الكوفة ، وكان يحذره منهم حتى على فراش الموت ، ثم إن الذين نصحوه يحملون حساً سياسياً واضحاً فالكل حذره و بين خطأه الذي سيقدم عليه ، و من المستحيل أن يكون كل الناصحون على خطأ و أن فرداً واحداً هو على الحق و بالأخص إذا عرفنا من هم الناصحون ، لكنه قدر الله ، و حدث ما حدث و قتل الحسين في معركة كربلاء .
و لم يختلف المؤرخون بل و الناس فيما عرض لهم و عرض عليهم من مسائل التاريخ مثلما اختلفوا في مقتل الحسين رضي الله عنه ، من بدايتها حتى نهايتها من الدوافع الأولية إلى الخديعة و خيانة الأعراب .
و النظرة التاريخية الفاحصة بعيداً عن الشطط أو الإغراق أو المغالاة تجعلنا في حيرة و أي حيرة ، لأن كل فريق له رأيه و له حجته فيما انتهى إليه ، و علينا أن ندعو لهم و نستغفر الله لنا ولهم .
و في يقيني أن أمر النزاع بين الحسين و يزيد يجب الإمساك عن الخوض فيه ، لأن هذا أفضل من الكلام في ما لا نعلم ، و صفوة القول أن الحسين قد أفضى إلى ربه شهيداً مجاهداً ، رضي الله عنه و أرضاه و ألحقنا بالصالحين في دار المقامة .(1/103)
و عن هذا الصراع الدموي الأليم العنيف بين الحسين و يزيد أقول : يفصل الله بينهم يوم القيامة ، فإني لا أجرؤ بما توافر لدي من آراء و أبحاث و مراجع على القول بغير هذا : عفا الله عنا و عنهم .
و عن حياة الإمام الحسين رضي الله عنه قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل الحسين يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين ، بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة و عليه جبة خز دكناء ، و هو ابن ست و خمسين سنة ، قاله نسابة قريش الزبير بن بكار ، و مولده لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة ، و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيها قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة رضي الله عنه . الاستيعاب (1/393) و انظر التذكرة للقرطبي (2/645) و نسب قريش للزبير بن بكار (ص 24) .
ثم يقول ابن حجر : و قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث و السمين ، و الصحيح و السقيم ، و قد صح عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول : لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم دخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . الإصابة (2/81) .
و اختلفت الأقوال في يوم قتله ، فالبعض قال يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و الأصح الأول . و اتفق على أنه قتل يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى و ستين ، و كذا قال الجمهور ، و شذ من قال غير ذلك ، و كان يوم الجمعة هو يوم عاشوراء . الإصابة (2/76-81) و العقد الفريد لابن عبد ربه (4/356) و هو يؤيد الإجماع .(1/104)
و قال الحافظ في الفتح : كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر ، و قتل يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين بكربلاء من أرض العراق ، و كان أهل الكوفة لما مات معاوية و استخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته فخرج الحسين إليهم ، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة و رهبة ، و قتل ابن عمه مسلم بن عقيل و كان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس ، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو و جماعة من أهل بيته . فتح الباري (7/120) . و تاريخ خليفة (ص 234) .
روى الحاكم عن أم الفضل بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا - يعني الحسين - فقلت : هذا ؟ فقال نعم ، و أتاني بتربة من تربته حمراء . السلسلة الصحيحة (2/464) و هو في صحيح الجامع ، رقم (61) .
و روى أحمد عن عائشة أو أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد دخل عليّ البيت مَلَكٌ لم يدخل علي قبلها ، فقال لي : إن ابنك هذا حسين مقتول ، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها . السلسلة الصحيحة (2/465) .
و روى أحمد عن ابن عباس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت و أمي ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه ، و لم أزل ألتقطه منذ اليوم . فأحصي ذلك الوقت ، فوجد قتل ذلك الوقت . مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الشيخ الألباني (6172) . و مسند أحمد (1/283) و الذي يقول فأحصينا .. هو راوي الخبر عن ابن عباس ، هو أبو عمر عمار بن أبي عمار مولى بني هشام ، صدوق من كبار التابعين (ت 120 هـ ) ، التقريب (ص 408) .(1/105)
و قد قتل معه كما يروي الحسن البصري ستة عشر رجلاً من آل البيت ما على الأرض يومئذ لهم شبه ، فقتل من أولاد علي رضي الله عنه العباس و عبد الله و جعفر و عثمان و أبو بكر ، و هؤلاء اخوته لأبيه . هؤلاء جميعهم أبناء علي من أم البنين بنت حرام أم خالد ، ما عدا أبو بكر فهو من ليلى بنت مسعود بن خالد . انظر تراجمهم في : تاريخ خليفة (ص 234) .
و قتل معه من ولده ، عبد الله و علي . عبد الله أمه أم الرباب ، و أما علي فأمه ليلى بنت أبي مرة . انظر : تاريخ خليفة (ص 234) .
و من ولد أخيه الحسن ، القاسم و أبو بكر و عبد الله . و هم أبناء الحسن بن علي ، انظر : تاريخ خليفة (ص 234) و البداية و النهاية (8/189) .
و من ولد عبد الله بن جعفر ، محمد و عون . محمد أمه الخوصا بنت خصف ، و أما عون فأمه زينب العقيلية بنت علي ، انظر : تاريخ خليفة (ص 234) .
و من ولد عقيل بن أبي طالب ، عبد الرحمن و جعفر و عبد الله و مسلم . انظر : تاريخ خليفة (ص 234) و البداية و النهاية (8/189) .
يقول الذهبي عن ذلك : و يدخل فيهم من نسل فاطمة و غيرهم ، لأن الرافضة رووا أحاديث و أعداد مهولة في من قتل مع الجيش من نسل فاطمة فقط ، حيث ذكر فطر بن خليفة أن عدد من قتل من نسل فاطمة سبعة عشر رجلاً ، و لاشك أن هذا العدد مبالغ فيه كثير جداً . انظر : تاريخ الإسلام للذهبي حوادث سنة 61 هـ (ص 21) و تاريخ خليفة (ص 235) و المعجم الكبير (3/104 و 119) ، و فطر هذا من غلاة الشيعة .
ثم إن ابن ذي الجوشن حمل رأس الحسين و أرسله إلى ابن زياد . أخرج البخاري عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي ، فجعل ينكت و قال في حسنه شيئاً ، فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كان مخضوباً بالوسمة . البخاري مع الفتح (7/119) ، و الوسمة هي نبات يخضب به الوجه و يميل إلى السواد .(1/106)
و عند الترمذي و ابن حبان من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس قال : كنت عند ابن زياد فجيء برأس الحسين فجعل يقول بقضيب في أنفه و يقول ما رأيت مثل هذا حسناً يُذكر ، قلت : أما إنه كان أشبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح سنن الترمذي (3/325) و الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (9/59-60) .
و للطبراني في المعجم الكبير (5/206) و (3/125) من حديث زيد بن أرقم ، فجعل قضيباً في يده ، في عينه و أنفه فقلت : ارفع قضيبك فقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه . و زاد البزار من وجه آخر عن أنس قال : فقلت له إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث تضع قضيبك ، قال : فانقبض . أورده الحافظ في الفتح (7/121) .
إن الصورة الحقيقة لمقتل الحسين رضي الله عنه لم تتضح بعد لدى كثير ممن يسمع عنها لما حدث من اختلاط الروايات الحقيقية بالمكذوبة التي افتراها الرافضة الحمقى و روج لها الإخباريين بأسلوب يهدر كل القيم و المثل .
نعم هناك روايات كتاب الأغاني ، - و الذي يسمى بالنهر المسموم - ، ذلك النهر الذي عب منه كل مثقفينا ، وكل من تناول جانباً من تاريخنا ، كابراً عن كابر ، فَضَّلوا و أضلوا .
و المصنفون من أهل الحديث في سائر المنقولات ، أعلم و أصدق بلا نزاع بين أهل العلم ؛ لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات ، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة ، بخلاف الإخباريين ؛ فإن كثيراً مما يسندونه ، يسندونه عن كذّاب أو مجهول ، أمّا ما يرسلونه ، فظلمات بعضها فوق بعض .
و أما أهل الأهواء و نحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلاً ، لا ثقة و لا ضعيف و أهون شيء عندهم الكذب المختلق ، و أعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن المجاهيل و الكذابين ، و روايات عن أهل الإفك المبين .(1/107)
و قضية يزيد و مقتل الحسين ، إما أن تذكر كلها بتفاصيلها ، و إما أن تبقى طي الكتمان ، أما أن يجتزأ الكلام ، و يختزل بهذه الصورة الشائعة على الألسن - قتل يزيد الحسين - فهذا فيه تدليس و تزييف .
و لنقف مع تقويم لهذه المعارضة من قبل الحسين رضي الله عنه .
كانت معارضة الحسين ليزيد بن معاوية و خروجه إلى العراق طلباً للخلافة ، ثم مقتله رضي الله عنه بعد ذلك ، قد ولد إشكالات كثيرة ، ليس في الكيفية والنتيجة التي حدثت بمقتله رضي الله عنه ، بل في الحكم الشرعي الذي يمكن أن يحكم به على معارضته ، و ذلك من خلال النصوص النبوية .
وإن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد و التأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة ، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام ، وأن ما أصابه كان جزاءاً عادلاً و ذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة .
فقد قال صلى الله عليه وسلم : من أراد أن يفرق بين المسلمين و هم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان . صحيح مسلم (12/241) ، قال السيوطي : أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم . عقد الزبرجد (1/264) . و قال النووي معلقاً على هذا الحديث : الأمر بقتال من خرج على الأمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك و ينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل و كان دمه هدراً .
و في هذا الحديث و غيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاءه القتل ، و ذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين .
وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية فرقة من الفرق مثلاً يقولون : إن الحسين رضي الله عنه باغ على يزيد ، فيصدق بحقه من جزاء القتل . نيل الأوطار للشوكاني (7/362) .(1/108)
وأما البعض فقد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين رضي الله عنه واعتبر عمله هذا مشروعاً ، و جعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين والى عدم التكافؤ مع يزيد . نيل الأوطار (7/362) .
وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد . انظر : الدره فيما يجب اعتقاده لابن حزم (ص 376) وابن خلدون في المقدمة (ص 271) .
و لكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين رضي الله عنه ومقتله ، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هذان الفريقان ، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً ، وظل معتزلاً في مكة حتى جاءت إليه رسل أهل الكوفة تطلب منه القدوم ، فلما رأى كثرة المبايعين ظن رضي الله عنه أن أهل الكوفة لا يريدون يزيد فخرج إليهم ، وإلى الآن فإن الحسين لم يقم بخطأ شرعي مخالف للنصوص ، و خاصة إذا عرفنا أن جزءً من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج .
فعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نزع يداً من طاعة فلا حجة له يوم القيامة ، و من مات مفارقاً للجماعة فقد مات ميتة جاهلية . مسلم بشرح النووي (12/233-234) . و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما ، والجمعة إلى الجمعة والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما ، قال : ثم قال بعد ذلك : إلا من ثلاث ، - قال : فعرفت إن ذلك الأمر حدث إلا من الإشراك بالله ، ونكث الصفقة ، و ترك السنة . قال : أما نكث الصفقة : أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه ، تقاتله بسيفك ، و أما ترك السنة فالخروج من الجماعة . المسند (12/98) بسند صحيح .(1/109)
و بالرغم من أن الحسين رضي الله عنه حذره كبار الصحابة ونصحوه إلا أنه خالفهم ، و خلافه لهم إنما هو لأمر دنيوي ، فقد عرفوا أنه سيقتل وسيعرض نفسه للخطر ، و ذلك لمعرفتهم بكذب أهل العراق ، والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال ، و لكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر أو إتيان يزيد .منهاج السنة (4/42) .
و لقد تعنت ابن زياد أمام تنازلات الحسين ، و كان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه ، و لكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين و هو أن ينزل على حكمه ، و كان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب ، و حُق للحسين أن يرفض ذلك ؛ لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله ، ثم إن فيه إذلالاً للحسين و إهانته الشيء الكبير ، ثم إن هذا العرض كان يعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على الكفار المحاربين ، والحسين رضي الله عنه ليس من هذا الصنف ، و لهذا قال شيخ الإسلام في المنهاج (4/550) : و طلبه أن يستأسر لهم ، و هذا لم يكن واجباً عليه .
والحقيقة أن ابن زياد هو الذي خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين ، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : .. فإن جاء آخر ينازع فاضربوا عنق الآخر . مسلم (12/233) . فإن هذا الحديث لا يتناول الحسين ، لأنه عرض عليهم الصلح فلم يقبلوا ، ثم كان مجيئه بناء على طلب أهل البلد و ليس ابتداعاً منه ، يقول النووي معلقاً على الحديث : قوله فاضربوا عنق الآخر معناه : فادفعوا الثاني ، فإنه خارج على الإمام فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فاقتلوه . شرح مسلم (12/234) . و بذلك يكون الظالم هو ابن زياد و جيشه الذين أقدموا على قتل الحسين رضي الله عنه بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح(1/110)
ثم إن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام ، و أن دمه حينئذ يكون هدراً ، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين وعرفوا أن أهل الكوفة كذابين ، و قد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم .
يقول ابن خلدون في المقدمة (ص 271) : فتبين بذلك غلط الحسين ، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه ، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه ، لأنه منوط بظنه ، و كان ظنه القدرة على ذلك ، وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز و مصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه ، فلم ينكروا عليه ولا أثمّوه ، لأنه مجتهد وهو أسوة للمجتهدين به .
و يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/556) : وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله ، فإنه رضي الله عنه لم يفارق الجماعة ، و لم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد ، و داخلاً في الجماعة معرضاً عن تفريق الأمة ، و لو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة الحسين . و يقول في موضع آخر (6/340) : ولم يقاتل وهو طالب الولاية ، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث .. بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه ، فقتل مظلوماً .
موقف يزيد بن معاوية رحمه الله من قتل الحسين رضي الله عنه
كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث و يستشيره في شأن أبناء الحسين و نسائه ، فلما بلغ الخبر إلى يزيد بن معاوية بكى وقال : كنت أرضى من طاعتهم أي أهل العراق بدون قتل الحسين .. لعن الله ابن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه ، أما و الله لو أني صاحبه لعفوت عنه ، فرحم الله الحسين . الطبري (5/393) بسند كل رجاله ثقات ماعدا مولى معاوية و هو مبهم . و البلاذري في أنساب الأشراف (3/219 ، 220 ) بسند جسن .(1/111)
و في رواية أنه قال : .. أما والله لو كنت صاحبه ، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه لا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه . الجوزقاني في الأباطيل والمناكير (1/265) بسند كل رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً بين الشعبي و المدائني .
فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه ؛ فبارد ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها . الطبقات لابن سعد (5/393) بإسناد جمعي .
و من هنا يعلم أ ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين كما ورد في بعض الروايات .
و كان رد يزيد رحمه الله على ابن زياد كان مخالفاً لما يطمع إليه ابن زياد ، حيث كان يطمع بأن يقره يزيد على الكوفة ، فلم يقره على عمله بل سبه و نال منه بسبب تصرفه مع الحسين ، و هنا يكون الداعي أكبر لأن يحمل ابن زياد آل الحسين على صورة لائقة لعلها تخفف من حدة وغضب يزيد عليه .
و لذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة (4/559) : و أما ما ذكر من سبي نسائه والذراري والدوران بهم في البلاد و حملهم على الجمال بغير أقتاب ، فهذا كذب و باطل ، ما سبى المسلمون ولله الحمد هاشمية قط ، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبي بين هاشم قط ، ولكن كان أهل الجهل والهوى يكذبون كثيراً .
و لما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت : فاطمة بنت الحسين : يا يزيد أبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا ؟ قال : بل حرائر كرام ، أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت ، قالت فاطمة : فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي . الطبري (5/464) من طريق عوانة .(1/112)
و عندما دخل علي بن الحسين على يزيد قال : يا حبيب إن أباك قطع رحمي و ظلمني فصنع الله به ما رأيت يقصد أنه قد حدث له ما قدره الله له - ، فقال علي بن الحسين { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير }[الحديد/22] ، ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجبه ، فلم يدر خالد ما يقول فقال يزيد قل له :{ و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير }[الشورى/30] . الطبري (5/464) من طريق عوانة وأنساب الأشراف (3/220) بإسناد حسن .
وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ لهن كل امرأة تدعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية . و كان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعى علي بن الحسين . و بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوي السن من موالي بني هاشم ومن موالي نبي علي . - و لعل يزيد أراد باستقدامه لهؤلاء الموالي إظهار مكانة الحسين و ذويه و يكون لهم موكب عزيز عند دخول المدينة - . وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن وأعطاهن كل ما طلبن حتى أنه لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها . و قبل أن يغادروا قال يزيد لعي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك فعلت . ابن سعد في الطبقات (5/397) بإسناد جمعي .
قال شيخ الإسلام في المنهاج (4/559) : وأكرم أبناء الحسين و خيرهم بين المقام عنده و الذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة .
و عند مغادرتهم دمشق كرر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال : لعن الله ابن مرجانة ، أما و الله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن الله قضى ما رأيت ، كاتبني بكل حاجة تكون لك . الطري (5/462) .(1/113)
وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان ، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا و متى شاءوا ، وبعث معهم محرز بن حريث الكلبي و كان من أفاضل أهل الشام . ابن سعد في الطبقات (5/397) بإسناد جمعي .
و خرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة . قال ابن كثير في ذلك : وأكرم آل الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه ، و ردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة .. البداية والنهاية (8/235) .
وإن الاتهام الموجه الآن إلى يزيد بن معاوية هو أنه المتسبب الفعلي في قتل الحسين رضي الله عنه .
قلت : يزيد بن معاوية رحمه الله كما هو معروف أصبح خليفة للمسلمين ، وانقاد له الناس وظل معترفاً به من غالب الصحابة والتابعين وأهل الأمصار حتى وفاته ، و لقد امتنع عن بيعته اثنان من الصحابة فقط و هما : الحسين بن علي و عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم .
و كان الشيعة في العراق يطالبون الحسين بالقدوم عليهم ، و خرج الحسين إلى العراق بعد أن كتب إليه مسلم بن عقيل بكثرة المبايعين وأن الأمور تسير لصالحه .
و لو أننا لاحظنا موقف يزيد بن معاوية من الحسين بن علي طوال هذه الفترة التي كان خلالها الحسين معلناً الرفض التام للبيعة ليزيد ، و هي الفترة التي استمرت ( شهر شعبان ورمضان و شوال و ذي القعدة ) لوجدنا أن يزيد لم يحاول إرسال جيش للقبض على المعارضين ( الحسين وابن الزبير ) بل ظل الأمر طبيعياً وكأن يزيد لا يهمه أن يبايعا أو يرفضا . و كما يبدو ، فإن يزيد حاول أن يترسم خطى والده في السياسة و يكون حليماً حتى آخر لحظة ، وأن يعمل بوصية والده ، و ذلك بالرفق بالحسين ومعرفة حقه و قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و قد وجه يزيد اهتمامه نحو العراق ، و بالأخص الكوفة التي بدأت مؤشرات الأحداث فيها تزداد سوءاً ، و تنذر بانفتاح جبهة داخلية في الدولة .(1/114)
و لهذا تدارك الأمر و عين عبيد الله بن زياد أميراً على الكوفة ، واستطاع ابن زياد بما وهب من حنكة و دهاء و حزم أن يسيطر على الكوفة و أن يقتل دعاة التشيع بها .
و في المقابل فإن يزيد بن معاوية لم يكن غافلاً عن تحركات الحسين رضي الله عنه ، و لهذا لما عزم الحسين على التوجه إلى الكوفة كتب يزيد إلى ابن زياد رسالة يخبره بقدوم الحسين إلى الكوفة قائلاً له : بلغني أن حسيناً سار إلى الكوفة و قد ابتلى به زمانك بين الأزمان و بلدك بين البلدان وابتليت به بين العمال .. و ضع المناظر والمسالح واحترس على الظن وخذ على التهمة ، غير ألا تقتل إلا من قاتلك ، و اكتب إلى في كل ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك ورحمة الله . مجمع الزائد (9/193) ورجاه ثقات إلا أن الضحاك لم يدرك القصة . والطبري (5/380 ) .
و عند النظر إلى المقطع الأول من كلام يزيد فإننا نحس بأن يزيد يوجه ابن زياد إلى مكانة الحسين وعلو قدره ، وإلا فما معنى ( قد ابتلي به زمانك من بي الأزمان .. ) . و لم كان يزيد حريصاً على قتل الحسين لما أطراه لعامله بهذا الشكل المخيف وحذره منه ، كما أنه لا يعني أن هذا التضخيم من شأن الحسين هو حمل ابن زياد على الاستعداد له بكل ما يستطيع ، و ذلك لأن الحسين خرج في عدد قليل و يزيد يعرف هذا . و ليس في عبارات يزيد ما يدل على أنه طلب من ابن زياد الاجتهاد في القضاء على الحسين ، بل إن الشق الثاني من رسالة يزيد تلزم ابن زياد بعدم قتل أحد إلا في حالة مقاتلة المعتدي ، كما أن فيها طلباً أكيداً من ابن زياد بوجوب الرجوع إلى يزيد في كل حدث يحدث ، و يكون المقرر الأخير فيه هو يزيد نفسه .
و بعد أن اقترب الحسين من الكوفة واجهه ابن زياد بالتدابير التي سبق ذكرها ، حتى أرسل إلى الحسين عمر بن سعد قائداً على سرية ألجأت الحسين إلى كربلاء ، كان وصول الحسين إلى كربلاء هو يوم الخميس الموافق الثالث من المحرم . الطبري (5/409 ) .(1/115)
و استمرت المفاوضات بين ابن زياد و بين الحسين بعد وصوله إلى كربلاء حتى قتل رضي في العاشر من المحرم . أي أن المفاوضات استمرت أسبوعاً واحداً تقريباً ، ومن المعلوم أن المسافة التي تفصل بين دمشق و الكوفة تحتاج إلى وقت قد يصل إلى أسبوعين ، أي أن ابن زياد اتخذ قراره والذي يقضي بقتل الحسين دون الرجوع إلى يزيد ، أو أخذ مشورته في هذا العمل الذي أقدم عليه ، و بذلك يكون قرار ابن زياد قراراً فردياً خاصاً به لم يشاور يزيد فيه ، و هذا الذي يجعل يزيد يؤكد لعلي بن الحسين بأنه لم يكن يعلم بقتل الحسين ولم يبلغه خبره إلا بعد ما قتل .
و لعل فيما ذكرنا من أدلة تبين عدم معرفة يزيد بما أقدم عليه ابن زياد من قتل الحسين رضي الله عنه ، إضافة إلى أقوال الصحابة التي ذكرناها سابقاً والتي تحمّل المسؤولية في قتل الحسين على أهل العراق ، و لم نجد أحداً من الصحابة وجه اتهاماً مباشراً إلى يزيد ، و لعل في ذلك كله دليلاً واضحاً على أن يزيد لا يتحمل من مسؤولية قتل الحسين شيئاً فيما يظهر لنا ، أما الذي في الصدور فالله وليه و هو أعلم به ، و لسنا مخوّلين للحكم على الناس بما في صدورهم ، بل حكمنا على الناس بما يثبت لنا من ظاهرهم والله يتولى السرائر و هو عليم بكل شيء .
و لذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الوصية الكبرى (ص 45 ) : ولم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله . و يقول في موضع آخر من منهاج السنة (4/472) : إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ، و لكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق ، و الحسين رضي الله عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه و يفون له بما كتبوا له .. فلما أدركته السرية الظالمة ، طلب أن يذهب إلى يزيد أو يذهب إلى الثغر أو يرجع إلى بلده ، فلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى سيتأسر لهم ، فامتنع فقاتلوه حتى قتل شهيداً مظلوماً رضي الله عنه .(1/116)
وقال الطيب النجار : و تقع تبعية قتله أي الحسين على عبيد الله بن زياد و شمر بن ذي الجوشن و عمر بن سعد ، ولا يتحمل يزيد بن معاوية شيئاً من هذه التبعة ، و هو بريء من تهمة التحريض على قتل الحسين . الدولة الأموية ( ص 103 ) .
ولكن يزيد بن معاوية انتقد على عدم اتخاذ موقف واضح من ابن زياد أو من الذين شرعوا في قتل الحسين رضي الله عنه .
فهذا شيخ الإسلام يقول : و لكنه مع ذلك أي مع إظهار الحزم على الحسين ما انتصر للحسين ، ولا أمر بقتل قاتله ، ولا أخذ بثأره . منهاج السنة (4/558 ) .
و قال ابن كثير : .. ولكنه لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك ، والله أعلم . البداية والنهاية (9/204) .
و كل الذي أبداه شيخ الإسلام و غيره من هذه الاعتراضات لها قدر كبير من الوجاهة والأهمية ، و لكن معرفة ظروف العصر الذي حدثت فيه الحادثة ، تجعلنا أكثر تعمقاً في مناقشة هذا الرأي .
فالكوفة كما هو معروف هي مركز التشيع في تلك الفترة ، و هي بلدة غير مستقرة ، معروفة بثوراتها و فتنها ، وطوائفها وأحزابها ، و عندما كان أمير الكوفة النعمان بن بشير رضي الله عنه كادت الأمور أن تنفلت من يده ، فلما أسل يزيد ابن زياد أميراً على الكوفة استطاع ابن زياد في مدة قصيرة أن يعيد الأمور إلى نصابها ، وأن يكبح جماح الثورة ، و سيطر سيطرة كاملة على الكوفة ، وحتى بعد مقتل الحسين رضي الله عنه ، فإن الوضع الأمني في الكوفة ازداد خطورة ، ولا أظن أن يزيد يسجد قائداً بحزم ابن زياد وبقوته ، ثم إن الشيعة لن ترضى سواء عُزل ابن زياد أم بقي ، ولن تغير ما في قلوب الشيعة من حقد على الدولة نفسها .
ولو أقدم يزيد على إقالة ابن زياد فإنه سيدفع تكاليف هذه الخطوة كثيراً ، وربما سوف يتحول الوضع إلى ثورة كبرى يقودها الشيعة أنفسهم والمتأسفون لقتل الحسين كما حدث بعد ذلك بقترة وجيزة والمعروفة بحركة التوابين .(1/117)
أما بالنسبة إلى تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه ، فإن هذا ليس من السهولة ، فنفس الصعوبات التي اعترضت علياً رضي الله عنه في عدم تتبعه لقتلة عثمان رضي الله عنه ، و من بعده معاوية رضي الله عنه ، و الذي كان من المصرين على تنفيذ القصاص على قتلة عثمان ، سوف تعترض يزيد بن معاوية لو أنه أراد تتبع قتلة الحسين .
و لعل تصرف سليمان بن صُرَدْ رضي الله عنه الذي قاد التوابين ضد ابن زياد يوضح هذه المسألة بوضوح ، فقد أدرك سليمان بن صرد أن قتلة الحسين رضي الله عنه في الكوفة ، ومع ذلك اتجه لمقاتلة ابن زياد بدلاً من مقاتلة قتلة الحسين في الكوفة قائلاً لأصحابه : ( إني نظرت فيما تذكرون فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة ، و فرسان العرب ، وهم المطاَلبون بدمه ، و متى علموا ما تريدون وعلموا أنهم المطاَلبون كانوا أشد عليكم ، و نظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا أنفسهم ، و لم ينكوا في عدوهم وكانوا لهم حذراً .. الطبري (5/558 ) .
و بهذا يتضح السبب أكثر في عدم تتبع قتلة الحسين ، و بالأخص من قبل الدولة الأموية ؛ إذ ليس الأمر بالهين وهم يتبعون قبائل كبيرة لها وزنها الاجتماعي والسياسي ، فلربما أدى تصرف مثل هذا ، إلى زعزعة أمن الدولة وبالأخص في منطقة العراق كلها ، ثم إن يزيد لم يتفرغ بعد لمحاسبة ولاته ، بل كانت الثورات متتابعة ، فمعارضة ابن الزبير أخذت تكبر وتنمو ، وأهل الحجاز قلوبهم ليست مع يزيد إلى غير ذلك من مشاكل الدولة الخارجية ، والتي تجعل يزيد عاجزاً عن اتخاذ موقف قوي مع ولاته أو الذين أخطأوا في حق الحسين رضي الله عنه .
الشبهة الثالثة : ادعاؤه زياداً
وهي : ادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر .(1/118)
الجواب : المراد بزياد هنا ؛ هو زياد بن سمية ، وهي أمه كانت أمة للحارث بن كلدة ، زوجها لمولاه عبيد ، فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف . انظر ترجمته في الإصابة (2 / 527 - 528 ) ، والاستيعاب ترجمة رقم ( 829 ) وطبقات ابن سعد ( 7 / 99 ) وغيرها .
إن قضية نسب زياد بن أبيه تعد من القضايا الشائكة في التاريخ الإسلامي ؛ لأنها تثير عدداً من الأسئلة يصعب الإجابة عليها ، مثل :-
1- لماذا لم تثر هذه القضية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثلما أثيرت قضايا مشابهة لها عند فتح مكة ؟
مثل قضية : نسب ابن أمة زمعة بن قيس الذي ادعاه عتبة بن أبي وقاص ، انظر القصة في صحيح البخاري مع الفتح ( 12 / 32 - 33 ) .
2 - لماذا لم تثر هذه القضية في حياة أبي سفيان رضي الله عنه ؟
3- لماذا لم تثر هذه القضية في أثناء خلافة علي رضي الله عنه ، خاصة عندما كان زياد من ولاة علي ؛ لأن في إثارتها في تلك الفترة مكسباً سياسياً لمعاوية رضي الله عنه ؛ إذ قد يترتب على ذلك انتقال زياد من معسكر علي إلى معسكر معاوية ؟
4 - لماذا أثيرت هذه القضية في سنة ( 44 هـ ) وبعد أن آلت الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه ؟
ومهما يكن من أمر فإن قضية نسب زياد تعد من متعلقات أنكحة الجاهلية ، ومن أنواع تلك الأنكحة ما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق عائشة رضي الله عنها : ( إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء - بمعنى : أنواع - : فنكاح منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها - أي يعين صداقها - ثم ينكحها .(1/119)
ونكاح آخر ، كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها - حيضها - : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه - أي اطلبي منه الجماع - ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد - النجيب : الكريم الحسب - ، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، فتسمي من أحبت باسمه ، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل .
والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً ، فمن أردهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها و دعوا لها القافة - جمع قائف ، وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية - ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه به - أي استلحقه به - ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك .
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق ، هدم نكاح الجاهلية كله ، إلا نكاح الناس اليوم . الفتح مع الصحيح ( 9 / 88 - 89 ) .
وقد أقر الإسلام ما نتج عن تلك الأنكحة من أنساب ، وفي ذلك يقول ابن الأثير : فلما جاء الإسلام .. أقر كل ولد ينسب إلى أب من أي نكاح من أنكحتهم على نسبه ، ولم يفرق بين شيء منها . الكامل في التاريخ ( 3/ 445 ) .(1/120)
وأما الذراري الذين جاء الإسلام وهم غير منسوبين إلى آبائهم - كأولاد الزنى - فقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود بإسناده قال : قام رجل فقال : يا رسول الله إن فلاناً ابني ، عاهرت - أي زنيت - بأمه في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا دعوة في الإسلام ، ذهب أمر الجاهلية ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر . صحيح سنن أبي داود ( 2 / 430 ) .
أما القول إن سبب سكوت أبي سفيان رضي الله عنه من ادعاء زياد هو خوفه من شماتة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . انظر القصة في الاستيعاب لابن عبد البر ( 2 / 525 ) . فهذا القول مردود بما يلي :-
1 - إن قضية نسب ولد الزنا قد ورد فيها نص شرعي ولم تترك لاجتهادات البشر .
2 - إن الإسلام يجب ما قبله .
3 - إن عمر رضي الله عنه توفي قبل أبي سفيان رضي الله عنه ، فلماذا لم يدّع أبو سفيان زياداً بعد وفاة عمر ؟ .
4 - إن في إسناد هذا الخبر محمد بن السائب الكلبي ، وقد قال عنه ابن حجر : ( متهم بالكذب ورمي بالرفض ) التقريب ( 479 ) .
وأما اتهام معاوية رضي الله عنه باستلحاق نسب زياد فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك ، هذا فضلاً عن أن صحبة معاوية رضي الله عنه وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) الفتح ( 12 / 39 ) .(1/121)
وبعد أن اتضحت براءة معاوية رضي الله عنه من هذا البهتان فإن التهمة تتجه إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان ، وهذا ما ترجح لدي من خلال الرواية التي أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أبي عثمان قال : لما ادعى زياد ، لقيت أبا بكرة فقلت : ما هذا الذي صنعتم ؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه ، يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) ، فقال أبو بكرة : وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح مسلم بشرح النووي ( 2/ 51 - 52 ) والبخاري مع الفتح ( 12 / 54 ) .
قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الخبر : ( .. فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة ، وذلك أن زياداً هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان ، ويقال فيه : زياد بن أبيه ، ويقال : زياد بن أمه ، وهو أخو أبي بكرة لأمه .. فلهذا قال أبو عثمان لأبي بكرة : ما هذا الذي صنعتم ؟
وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زياداً وحلف أن لا يكلمه أبداً ، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حين قال له هذا الكلام ، أو يكون مراده بقوله : ما هذا الذي صنعتم ؟ أي ما هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة ) . شرح صحيح مسلم ( 2 / 52 ) .
وقال أيضاً : قوله : ادُّعِي ) ضبطناه بضم الدال وكسر العين مبني لما لم يسم فاعله ، أي ادعاه معاوية ، ووجد بخط الحافظ أبي عامر العبدري - وهو إمام من أعيان الحفاظ من فقهاء الظاهرية ( ت 524هـ ) ، انظر ترجمته في : تذكرة الحفاظ للذهبي ( 4 / 1272 ) - ( ادَّعَى ) بفتح الدال والعين ، على أن زياداً هو الفاعل ، وهذا له وجه من حيث إن معاوية ادعاه ، وصدقه زياد فصار زياد مدعياً أنه ابن أبي سفيان ، والله أعلم . شرح مسلم ( 2 / 52 - 53 ) .(1/122)
وقد تبينت براءة معاوية رضي الله عنه من هذه التهمة فيما تقدم من القول ، وبذلك ينتفي الوجه الذي ذهب إليه النووي في كلامه عن ضبط الحافظ أبي عامر العبدري لكلمة ( ادَّعَى ) .
ويزيد هذا الأمر تأكيداً ما أورده الحافظ أبو نعيم في ترجمة زياد بن أبيه حيث قال : ( زياد بن سمية : ادَّعَى أبا سفيان فنسب إليه ) معرفة الصحابة ( 3 / 1217 ) .
وبذلك يكون زياد هو المدعي ، ولذلك هجره أخوه أبو بكرة رضي الله عنه . والله تعالى أعلم . مقتبس من كتاب : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 372 - 379 ) .
وقد أجاب الإمام ابن العربي رحمه الله عن هذه الشبهة بجواب آخر له وجه من الصحة أيضاً ، فقال فيما معناه : أما ادعاؤه زياداً فهو بخلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لعبد بن زمعة : ( هو لك الولد للفراش وللعاهر الحجر ) باعتبار أنه قضى بكونه للفراش وبإثبات النسب فباطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت النسب ، لأن عبداً ادعى سببين ، أحدهما : الأخوة ، والثاني : ولادة الفراش ، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم هو أخوك ، الولد للفراش لكان إثباتاً للحكم وذكراً للعلة ، بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها وأعرض عن النسب ولم يصرح به ، وإنما هو في الصحيح في لفظ ( هو أخوك ) وفي آخر ( هو لك ) معناه أنت أعلم به بخلاف زياد ، فإن الحارث بن كلدة الذي ولد زياد على فراشه ، لم يدعيه لنفسه ولا كان ينسب إليه ، فكل من ادعاه فهو له ، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه ، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز بل فعل فيه الحق على مذهب الإمام مالك . انظر تفصيل ذلك في كتاب العواصم من القواصم ( ص 248 - 255 ) بتخريج محمود مهدي الاستانبولي و تعليق الشيخ محب الدين الخطيب وهو من منشورات مكتبة السنة بالقاهرة .
----------------------------------
الشبهة الرابعة : قتله حِجْراً وأصحاب حِجْر(1/123)
وهو القول المنسوب للحسن : قتله حِجْراً وأصحاب حِجْر ، فيا ويلاً له من حِجْر ويا ويلاً له من حِجْر وأصحاب حِجْر .
الجواب :
تحدثت معظم المصادر التاريخية عن مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه بين مختصر في هذا الأمر ومطول كل بحسب ميله ، وكان للروايات الشيعية النصيب الأوفر في تضخيم هذا الحدث ووضع الروايات في ذلك ؛ وكأنه ليس في أحداث التاريخ الإسلامي حدث غير قصة مقتل حجر بن عدي .. هذا ونظراً لقلة الروايات الصحيحة عن حركة حجر بن عدي ، ولكون هذه الروايات لا تقدم صورة متكاملة عن هذه القضية .. لذا فلن أتطرق للحديث عنها بقدر ما سيكون الحديث منصباً على السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يقدم على قتل حجر بن عدي والدوافع التي حملته على ذلك ..
كان حجر بن عدي من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وممن شهد الجمل وصفين معه . وحجر هذا مختلف في صحبته ، وأكثر العلماء على أنه تابعي ، وإلى هذا ذهب كل من البخاري وابن أبي حاتم عن أبيه وخليفة بن خياط وابن حبان وغيرهم ، ذكروه في التابعين وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة . انظر ترجمته في الإصابة ( 2/ 31- 34 ) .(1/124)
ذكر ابن العربي في العواصم بأن الأصل في قتل الإمام ، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل ، و لكن حجراً فيما يقال : رأى من زياد أموراً منكرة ، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي والياً من ولاته ، و كان حجر بن عدي من أولياء زياد و أنصاره ، و لم يكن ينكر عليه شيئاً ، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعاً بعاطفة التحزب و التشيع ، و كان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد ، فقام حجر و حصب زياد و هو يخطب على المنبر ، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر و نادى : الصلاة ! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر و حصبه آخرون معه و أراد أن يقيم الخلق للفتنة ، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله ، وعدّ ذلك من الفساد في الأرض ، فلمعاوية العذر ، و قد كلمته عائشة في أمره حين حج ، فقال لها : دعيني و حجراً حتى نلتقي عند الله ، و أنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين . انظر هذا الخبر بالتفصيل في العواصم من القواصم لابن العربي (ص 219-220) بتحقيق محب الدين الخطيب و تخريج محمود الإستانبولي مع توثيق مركز السنة .
وأما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه ، فإنه لم يقتلهم على الفور ، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات الشيعية ، انظر : تاريخ الطبري (5/256- 257 و 275 ) . بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم ، واستشار أهل مشورته ، ثم كان حكمه فيهم ..(1/125)
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسناد حسن ، قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو المغيرة - ثقة - قال : حدثنا ابن عياش - صدوق - قال : حدثني شرحبيل بن مسلم - صدوق - قال : لما بُعِث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان ، استشار الناس في قتلهم ، فمنهم المشير ، ومنهم الساكت ، فدخل معاوية منزله ، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم جلس على منبره ، فقام المنادي فنادى : أين عمرو بن الأسود العنسي ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه ، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ، ألا وأنت أعلمنا بدائهم ، وأقدرنا على دوائهم ، وإنما علينا أن نقول : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير }[ البقرة /285] .
فقال معاوية : أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم ، ورمى بها ما بين عيني معاوية . ثم قام المنادي فنادى : أين أبو مسلم الخولاني ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك ، ولا عصيناك منذ أطعناك ، ولا فارقناك منذ جامعناك ، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك ، سيوفنا على عواتقنا ، إن أمرتنا أطعناك ، وإن دعوتنا أجبناك وإن سبقناك نظرناك ، ثم جلس .
ثم قام المنادي فقال : أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق ، إن تعاقبهم فقد أصبت ، وإن تعفو فقد أحسنت .(1/126)
فقام المنادي فنادى : أين عبد الله بن أسد القسري ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك ، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة ، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى ، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً بالليل نؤوماً ، عن عمل الآخرة سؤوماً . يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعت أوتارها ، ومالت بها عمادها وأحبها أصحابها ، واقترب منها ميعادها ثم جلس . فقلت - القائل هو : اسماعيل بن عياش - لشرحبيل : فكيف صنع ؟ قال : قتل بعضاً واستحيى بعضاً ، وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر . انظر الرواية في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 328 - 331 ) .
ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته على الأقوال فقط ولم ينتقل إلى الأفعال .. حيث أنه ألّب على عامله بالعراق ، وحصبه وهو على المنبر ، وخلع البيعة لمعاوية وهو آنذاك أمير المؤمنين .. ولكن حجراً رضي الله عنه زين له شيعة الكوفة هذه المعارضة ، فأوردوه حياض الموت بخذلانهم إياه .. ولا ننسى موقف شيعة الكوفة مع الحسين رضي الله عنه ، حين زينوا له الخروج ثم خذلوه كما خذلوا حجراً من قبله ، فآنا لله وآنا إليه راجعون ..
وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه هذا بقتل حجر بن عدي ، على قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) . صحيح مسلم بشرح النووي (12 / 242 ) .
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم : ( أنه ستكون هنات - أي فتن - وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع ، فاضربوا بالسيف كائناً من كان ) . صحيح مسلم بشرح النووي ( 12 / 241 ) .(1/127)
ولو سلمنا أن معاوية أخطأ في قتل حجر ؛ فإن هذا لا مطعن فيه عليه ، كيف وقد سبق هذا الخطأ في القتل من اثنين من خيار الصحابة ؛ هما : خالد بن الوليد وأسامة بن زيد رضي الله عنهما .
أما قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع بني جذيمة ، وقولهم صبأنا بدلاً من أسلمنا ، فرواها البخاري في صحيحه برقم ( 4339 ) من حديث عبد الله بن عمر .. وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) ..
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13 / 194 ) : وقال الخطابي : الحكمة من تَبرُّئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهداً ، أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه ، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله .. ثم قال : والذي يظهر أن التبرأ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة ، فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود .
وقصة أسامة بن زيد رضي الله عنه مع الرجل الذي نطق بالشهادتين ، وقتل أسامه له بعد نطقها ، في الصحيحين البخاري برقم ( 4269 ، 6872 ) ومسلم برقم ( 96 ) .. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ) .. الحديث
وكل ما جرى من أسامة وخالد ناتج عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم ..
وقبل أن ننتقل إلى شبهة أخرى من شبهات حول معاوية رضي الله عنه ، أذكر موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر رضي الله عنه ..(1/128)
أخرج ابن عساكر في تاريخه ( 12/230 ) بسنده إلى ابن أبي مليكة قال : إن معاوية جاء يستأذن على عائشة ، فأبت أن تأذن له ، فخرج غلام لها يقال له ذكوان قال : ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علي ، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له ، وكان أطوع مني عندها ، فلما دخل عليها قال : أمتاه فيما وجدت عليّ يرحمك الله ؟ قالت : .. وجدت عليك في شأن حجر وأصحابه أنك قتلتهم . فقال لها : .. وأما حجر وأصحابه فإني تخوفت أمراً وخشيت فتنة تكون ، تهراق فيها الدماء ، وتستحل فيها المحارم ، وأنت تخافيني ، دعيني والله يفعل بي ما يشاء . قالت : تركتك والله ، تركتك والله ، تركتك والله .
وبالإسناد نفسه أخرج ابن عساكر في تاريخيه ( 12/ 229 ) : لما قدم معاوية دخل على عائشة ، فقالت : أقتلت حجراً ؟ قال : يا أم المؤمنين ، إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم .
تم الكلام وربنا المحمود
تم جمع هذا البحث من أبحاث الشيخ :
أبو عبد الله الذهبي ...
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
http://www.saaid.net/Doat/Althahabi
جمع وترتيب :
شمس الدين
Shams_aldeen21@hotmail.com
??
??
??
??
رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان أبو عبد الله الذهبي(1/129)