ذِكرياتي
مع
الطريقة القَادِرِيَّة
كَتبها
نزيه بن علي آل عرميطي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الرسالة
إن الحمد لله،نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم- ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة ,وكل ضلالة في النار.
أُقدِّم هذه الذكريات بين يدي القراء الكرام ليتعرفوا من خلالها على ما تنطوي عليه هذه الطريقة الصُّوفية من أفكار وفلسفات بعيدة عن الشرع الإسلامي الحنيف، تعصِف بمن يسلك طريقتها إلى الزيّغ والضلال من خلال ما عايشتُه معها ولمسته فيها، أُسطِّر هذه الذكريات نصحاً للأمة، وتحذيراً من هذا الشر المُستطير عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال:لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (1).
__________
(1) "مسلم في صحيحه" (55).(1/1)
ففي كتاب الله وسنته نبيِّه الغُنْيَةُ والكفاية عن الطرق والمنهاج والأفكار المستقاة من إيحاءات الشيطان أو تهيئآت الأذهان.
وقد جاء في حديث الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم- ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليّ الحوض)) (1).
وسيجد القارىء نُبَذاً يتعرف من خلالها على طرق القوم وما هم عليه، فيحذر من الوقوع في حبائلهم أو الانخداع بمظاهرهم أو الانجرار لمصائدهم، وحتى يَرْعَوي من خَدَعَهُ سرابهم وانبهر عقله بأوجادهم وانغمست نفسه في أذواقهم ؛فصدق فيه قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104].
وقول الله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:36-37].
فالله سبحانه رضي لنا الإسلام ديناً وسمَّانا مسلمين، قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج:78].
فلماذا نعدل إلى تسميات أخرى، لم يُنزل الله بها من سلطان، فندائي للمسلمين جميعاً من القلب النّاصح أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة نبيه وفق فهم الصحابة الكرام ومن اقتدى بهم وسار على نهجهم، لتحصل لهم وحدة الكلمة، وتتآلف قلوبهم، وتتحقق لهم العزة والمنعة، والأمن والأمان.
__________
(1) "صحيح الجامع" (2937).(1/2)
فيا أيها المسلمون عودوا إلى ما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم- وصحبه، لتنالوا خير الدنيا والآخرة، وانبذوا ما خالف طريق نبيكم: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31].…
أسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة كاتبها ,وقارئها ,ومن راجعها ,وأعان على نشرها ,وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم.
وكتبها:
نزيه بن علي آل عرميطي
أبو عدي
الأردن- سحاب
7 / محرم / 1424هـ
الموافق 10-3-2003م
بداية الطريق
لا زلت أذكر تلك الأيام قبل نحو ثلاثين عاماً أو يزيد، عندما كنت أطمح أن أجد الإسلام الصافي الكامل متمثلاً بأشخاص كالصحابة الكرام ؛وأنا ابن ثمانية عشر عاما، فطفت وتجولت لأجد بُغيتي ولكن هيهات هيهات،فكثرة الجماعات الإسلامية، وتعدد فرق المسلمين جَعَلَتْ الإنسان الباحث عن حقيقة الإسلام في حيرة، فأي هذه الجماعات معها الإسلام الذي ارتضاه الله لنا:
فكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
السمُّ في الدَّسم
وبينما أنا أبحث عمَّن يدرأ عن عقلي الشبهات ويعينني على دفع الشهوات، ويُعرفني حقيقة هذا الدين العظيم؛ فإذا بشيخ يَعْتَمُّ بعمامة خضراء، يخرج الكلام مُنَمقاً يَدع إلى طريق الأولياء، وأصحاب الكرامات إلى بحر العلوم ومناهل العرفان، والوجد والذوق، حيث ينكشف الحجاب، وما دَريت أني أجري خلف السراب.
يزعم أنه صاحب طريقة تسمى "القادِريَّة" ابتدأها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - تسلسلت شيئاً فشيئاً حتى وصلت إليه. ومما قاله:
قلوب العارفين لها عُيونٌ ترى ما لا يراه الناظرونا
ومما قاله:
اشرب شراب أهل الصفا والوقت طايب
اشرب شراب أهل الصفا ترى العجايب(1/3)
حقاً أتذكر تلك الأيام بألم تارة، وبفرح تارة أخرى.
أما الألم؛ فبسبب ما أحدث هذا الأمر في نفسي وقلبي من الحيرة والاضطراب والقلق وردة الفعل العنيفة التي نتج عنها الشك وعدم اليقين فذهبت سنون من عمري سُدىً.
وأما الفرح فلأنني عرفت طريقة القوم عن قُرب وما هم عليه من الشَّر:
عرفتُ الشَّرَّ لا للشرِّ لكن لتوقيه
ومن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه
تلقّي الوِرْدَ عن الشيخ
وأوَّل أمر من المريد بعد إيهامه بجدوى هذه الطريق أن يبايع الشيخ، فيضع الشيخ يده بيد المريد ويقرأ الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10].
وهذا ما حصل معي، ثم أعطاني الشيخ ورقة مكتوب عليها بعض الوِرْدَ المطلوب مني يومياً؟ وهذا الوِرد فيه من الأذكار المشروعة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم – لكنه يزيد على هذه الورقة ذكراً آخر، وهو أن يذكر المُريد اسم (الله) مفرداً بحسب الوقت الذي يُحَدِّده الشيخ، وذلك تدرجاً على حد زعمه مع المريد بما يناسب حاله، ويضع أمامه عند الذكر لوحة سوداء مكتوب عليها بخط أبيض لفظ الجلالة (الله)، ويَعده الشيخ إن عَمِلَ بهذه الطريقة أن يصل إلى الغاية المنشودة ,وهي رؤية الله سبحانه وعندها ترى ما لا يراه الناظرون.
رؤية الله في اليقظة لم تحصل لأحد في الدنيا
لكنها لم تحصل لأحد في الدنيا، والأمر هذا لم يحصل لمحمد – صلى الله عليه وسلم – وهو سيد ولد آدم ولا للكليم موسى – عليه السلام – من قبله.
قالت عائشة – رضي الله عنها – : ((من زعم أنَّ محمداً – صلى الله عليه وسلم – رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية))(1).
__________
(1) رواه مسلم (287). الفرية: الكذب.(1/4)
ولما سُئِلَ – صلى الله عليه وسلم – هل رأيت ربك؟ قال: ((نورٌ أنى أراه))(1) ، أي رأيت النور الذي هو حجابه.…
كما جاء في الحديث: ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه))(2).
ولم يتحمل الجبل رؤية الله وهو صخر وتراب،قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
فموسى – عليه السلام – خرَّ صعقاً من رؤية ما حصل للجبل وعلم أنه لا طاقة لأحد بتحمل رؤية الله تعالى في الدنيا، والله سبحانه لم يمكّن أحداً من رؤيته في الدنيا وحجب نفسه سبحانه عن خلقه في الدنيا، ولو شاء سبحانه لمكّن الجبل من الاستقرار ولرأى موسى ربه، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يراه أحد من خلقه في الدنيا وأثبتها للمؤمنين في الآخرة ونفاها عن الكافرين، فقال سبحانه عن المؤمنين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]. وقال عن الكافرين: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15].
فالشيخ يَدَّعي أنه بهذا الذكر للاسم المفرد لفظ الجلالة (الله) يصل المريد إلى بغيته من رؤية النور المنبعث بسبب الذكر حيث يرى المريد ربَّه و(يفتح عليه) كما يزعم فيكون بذلك (عارفاً) أو (واصلاً) وعندها لا تسأل عن حال هذا المريد!!
الذكر بهذه الطريقة لا دليل عليه
__________
(1) مسلم (291).
(2) مسلم (293).(1/5)
على أنَّ الذكر بهذه الطريقة لم يدل عليه نص من كتاب ولا سنة وعمدة استدلالهم في ذلك بالآية الكريمة: {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}. فهم بتروا الآية ليستدلوا على مرادهم كمن يقرأ قول الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَة}، ويقطع القراءة ولا يتابعها {وَأَنتُمْ سُكَارَى}.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]، أي: قل لهم يا رسولنا أن الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى.
والذي جاء عن النبي– صلى الله عليه وسلم – من الأذكار المشروعة معروفة كثيرة من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار ,ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى كتب الأذكار، مثل: "حصن المسلم"، وكتاب "صحيح الكلم الطيب"، و"الأذكار" للنووي، وغيرها.
تحريفهم لمعاني النصوص
وهكذا أهل هذه الطرق يُحرِّفون النصوص عن معناها الصحيح ليستدلوا على باطلهم: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
ومن الأمثلة على ذلك استدلالهم بقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قالوا: اليقين هو المعرفة والوصول. وفي التفاسير المعتمدة عند المسلمين: اليقين هنا الموت(1).
__________
(1) "تفسير ابن كثير" (2/560).(1/6)
قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ - قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ - حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} ([المدثر:42-47]، أي: الموت.
فمعنى ذلك عندهم أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- لم يصل إلى درجة اليقين التي يعنونها لأنه - صلى الله عليه وسلم- ما انقطع عن عبادة ربه حتى موته - صلى الله عليه وسلم-.
أما هؤلاء فقد عبدوا الله زمناً ثم حصل لهم اليقين على حد زعمهم فتركوا العبادة لأنهم وصلوا!!!
وهم يُصرحون بذلك كما قال الشيخ لنا مرة يُردد قول من سبقه من أهل الضلال: "نحن خضنا بحراً وقفت الأنبياء على شاطئه"، فأي ضلال أكثر من هذا بالله عليكم أيها القراء.
الشيخ والحضْرة
ثم واصلت السير مع القوم , وكلما مرت الأيام عرفت أسراراً وأسراراً عن القوم، فمن عمدة الوصول عندهم: الذكر- السهر- الصوم- العزلة.
وكنت أشاركهم في ما يسمونه – الحضرة - يبدؤون فيها بذكر لفظ الجلالة – الله - وهم وقوف، والشيخ في وسط الحلقة يصول ويجول - وعلى الجميع أن يغمضوا أعينهم لترى بصائرهم على حد زعمهم – ثم يتدرجون بالذكر إلى قولهم - آه - بدل لفظ الجلالة - الله - بادعائهم أنه من أسماء الله الحسنى، وهذا مما لم يرد به نص من كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، ثم يحمى الوطيس ,ويشتد الأمر فيعلوا الصوت ويضرب الشيخ كفاً بكف ويلهث القوم فتسمع شهيقاً وزفيراً، وقد وصف الله أهل جهنم بقوله سبحانه: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106].
أما إذا شارك هذا اللفظ والصَّخَب صوت كأس وطبل ودف فحدِّث عما تراه من حال القوم!!!!! فيقع البعض على الأرض يصيح - يقولون أخذته الحالة - فتسمع منهم نباحاً كنباح الكلب - والعياذ بالله - ولعله في هذه الحالة يتلبسه الجني.(1/7)
ومنهم - من يُمَثِّل - فيمسح الشيخ بيده المباركة على حد اعتقادهم فيرجع الأمر إلى ما كان.
قال الله تعالى واصفاً عبادة المشركين: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]، أي تصفيقاً وتصفيراً.
وقال سبحانه في بيان آداب الذكر: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
وسيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- حافلة بكيفية ذكره لله وأدبه مع الله - تعالى- وخوفه منه ورجائه له وحبه إياه. قال - صلى الله عليه وسلم- : ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم))(1). فأقول لهؤلاء كما قال الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
ثم يظهر لك من القوم أمور عظام كلما خطوت معهم خطوات.
أقوال خطيرة وكلمات غريبة
مثل قولهم: "نحن أهل الحقيقة وغيرنا أهل الشريعة". وقولهم: "حدثني قلبي عن ربي". وقولهم: "نحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذون علمكم عن ميت". وقولهم: "نحن خضنا بحراً وقفت الأنبياء على شاطئه".
وتراهم يدافعون عن الذين صدرت منهم كلمات الكفر كالحلاج عندما قال: "ما في الجُبَّة إلا الله"، أي رأى نفسه أنها الله، فيقولون: قال هذه الكلمة في حالة فنائه بالحق عن الخلق.
وقد مرَّ معك أيها القارىء الكريم بطلان ما ادَّعوه من رؤية الله في الدنيا، وهم يدَّعون مع ذلك أنهم أولياء الله!!!!
من هم أولياء الله؟
ومن هو هذا الولي الذي يحفظه الله تعالى؟
__________
(1) البخاري: (2992) , ومسلم (2704) أربعوا: ارفقوا.(1/8)
هم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس:62-63]. فكل مؤمن تقي هو لله ولي. وبقدر تقواه تكون منزلته عند الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
والتقوى: هي القيام بالطاعات واجتناب المحرمات.
من أحوالهم العجيبة
الشيخ جار للمسجد لا يبعد عنه إلا عشرات الأمتار ثم لا يصلي الصبح إلا في البيت ويصلي عندما تكون الشمس بين قرني شيطان، أي في الوقت المنهي عن الصلاة فيه، فأطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن، فقد نمت مرّات في الزاوية، ثم يؤذن الفجر، فأَهِمُّ بالخروج للمسجد وإذا بالشيخ يمنعني ويقول: إنَّ الخَّواصَّ غير العوَّام فتكفي الصلاة ها هنا.
ثم يلتمس العذر لمن لا يصلي ولا يصوم، فهذا المفطر في رمضان ممن هو على شاكلتهم دخانه بخور، وذاك يأكل الشوك فلعله عسل، وذاك لا يصلي فلا عجب لقد وصل، وذاك يبيح له الشيخ سماع أغنية لامرأة على أن لا يعلم يه العوَّام،.
وهذا بهلول، وذاك قطب، وهذا وتد، وهذا له كرامة، وهذا يصلي في مكة، وهذا يطير في الهواء، وهذا يمشي على الماء، وذاك يشفي مريضاً، وهذا يجعل المرأة العقيم حاملاً.
لله دركم يا أهل هذه الطرق فهلا أنقذتم هذه الأمة من البلاء، وهلا رفعتم الذُّل عن العباد، وقمتم بتحرير ما اغتصب من البلاد.
إدِّعاؤهم علم الغيب "الكشْف"
وقد حصلت معي شخصياً حادثة ومع مُريد آخر كان معنا. أمَّا حادثتي فقد حصلت لي وسوسة من الشيطان أن هؤلاء القوم كاذبون، فإذا بالشيخ يوجه إليَّ الكلام فيقول: من يدَّعي أننا كاذبون فهو الكاذب، وحقيقة الأمر أن الشيخ لا يعلم ما في الصدور، ولكن الشيطان أخبره بما وسوس به، ليوهم المريد يأن الشيخ يعلم الغيب.(1/9)
ثم حادثة مع مريد آخر: ذهب إلى السينما ليشاهد فيلماً، فإذا بالشيخ يخبره في اليوم التالي عن ذهابه ويهدده بأنه لا يخفى عليه من أمره شيء, وأنه قادر على أن يُسلط عليه جنداً من جنده.
فقد يسأل سائل كيف يكون ذلك؟ الجواب يسير: كل إنسان معه قرين من الجن كما بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- : ((ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا وإياك؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير))(1). فهذا الجني يجري من ابن آدم مجرى الدم كما بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- :((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم))(2).
فيرى ويسمع ما يحدث ثم يخبر صاحبه الآخر بذلك، ويقوم الثاني هذا بإخبار الشيخ، فهي حلقة اتصالات بين الجني والشيخ مقابل خدمات يقدمها الشيخ للجني.
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} [الأنعام:128]. وقال تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:221-223]. فتنطلي حيلهم هذه على الجهلة من الناس ,ويظنون أنهم يعلمون الغيب .
__________
(1) "مسلم في صحيحه" (2814).
(2) البخاري: (2039) ومسلم (2174).(1/10)
قال الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188].
وعلم الغيب صفة لله تعالى لا يشاركه فيها أحد من خلقه.
قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-27].
فيا مشيخة التصوف عودوا إلى رشدكم إن كنتم غاوين وتعلموا إن كنتم جاهلين.
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
الشيخ عندهم بوَّاب الله!
"تعالى الله عما يقولون"
والشيخ عندهم بواب الله فلا دخول على الله إلا بإذن من الشيخ زعموا، وهذا يقود المريد إلى مقدمات:
منها: التعلق بحب الشيخ، حتى أن الشيخ كان يوزع صورته الشخصية على المريدين!!!!
ومنها: التسليم للشيخ – فيكون المريد مع الشيخ كالميت بين يدي المُغَسِّل!!!!
ومنها: خطأ الشيخ للمريد أفضل من صواب المريد لنفسه!!!!
ومنها: مكانة الشيخ الحقيقية مخفية عن عيون العوام وبادية للخواص فقط - أهل الحقيقة - على ما يزعمون!!
والحمد لله الذي لم يجعلني ممن وصلوا إلى هذا المقام وإلا لصَعُبَ عليَّ الخلاص، ممن يسمونهم بالخواص، عند تلك المعرفة للشيخ قد يأذن لك بالدخول فتعرف عنهم ما كان عندك مجهولاً، فعندها تزيغ القلوب وتضل العقول.
مشابهة الشيعة في دعاء المخلوقين وأصحاب القبور وترك سؤال الرب الصبور
هؤلاء القوم يشتركون مع الرافضة في دعاء المخلوقين وترك دعاء الخالق في جلب النفع ودفع الضر، والله سبحانه يقول:(1/11)
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
فتراهم يطلبون من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا يطلبون من الله تعالى، قال لنا الشيخ مرة: ذهبت للحج وأنشدت في باص الحجاج: "على بلدك يا رسول وَدَّيني...إلخ"، على نسق أغنية لامرأة مغنية معروفة، وعندهم البُرْدة المذكور فيها:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
والشيعة يقولون: يا علي، يا حسين، وبعض أهل الطرق يدعون: الرفاعي، البدوي، عبد القادر الجيلاني.
الدعاء عبادة
وهذا جهل منهم بمعنى لا إله إلا الله، الكلمة الطيبة، حيث تعني: أنه لا معبود بحقٍ إلا الله، والدعاء والاستعانة والاستغاثة والنذر والتوكل والرجاء والإنابة والمحبة من أنواع العبادة، فلا يجوز أن يصرف ما هو حق لله تعالى إلى أي مخلوق كان.
حيث يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم- وأمته تبعاً له: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]. أي المشركين، حيث قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ - إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13-14].(1/12)
والنبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((الدعاء هو العبادة))(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم- : ((إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله))(2)، وقال - صلى الله عليه وسلم- : ((لا تُطْرُوني كما أطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبدالله ورسوله))(3).
مصادر التلقي عندهم
مصادر التلقي عندهم كما قال الشيخ لنا: حدثني قلبي عن ربي. فهي إلهامات على حد زعمهم من الله تعالى وفتوحات، فهذا معطى وهذا واصل، وهذا عارف، ومع ذلك فاسأله عن معنى لا إله إلا الله، أو اسأله عن مسألة في الدين، فهذا لا يهمهم تعلمه أو تعليمه، وإنما كانوا يهتمون أكثر ما يهتمون بالقصائد الشعرية ودراسة السيرة النبوية دون تمييز للصحيح من الضعيف من الأحاديث المروية.
فلا حاجة لهم بالشريعة الإسلامية المطهرة، وهم يتهمون علماء الشريعة بأخذهم العلم ميتاً عن ميت، وهم يأخذون العلم عن الحي الذي لا يموت.
فليسوا بحاجة إلى "تفسير الطبري" ولا "ابن كثير" ولا لـ"صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، والله سبحانه قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم-: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ} [محمد:19].
وحسبك أن أول ما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم- (اقرأ). والقراءة وسيلة للعلم. ونبينا - صلى الله عليه وسلم- قال : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))(4). وقال - صلى الله عليه وسلم- : ((إنما العلم بالتعلّم))(5).
فطرق التصوف متعددة وأهلها قلوبهم مختلفة، فكان شيخنا يطعن بشيخ آخر، وسمعت عن آخر يطعن بشيخنا، فمن على الحق منهم؟؟ وهل هذه الطرق جميعها نقلت عنه - صلى الله عليه وسلم- ؟ أم أنها كلها غير طريق النبي وصحبه؟ وهذا هو الحق الذي لا مِرْيَة فيه.
__________
(1) "صحيح الجامع" (3407).
(2) "صحيح الجامع" (7957).
(3) "صحيح الجامع" (7363).
(4) "صحيح الجامع" (3913)..
(5) "صحيح الجامع" (2328).(1/13)
فمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم- منهج واحد وسبيله سبيل واحد، وهو سبيل الحق، وهذه الطرق منحرفة عن الحق؛ لأنها لو كانت على الحق لكانت طريقة واحدة متفقة لا مختلفة، والنبي - صلى الله عليه وسلم- قد بين طريق الحق.
ففي الحديث الذي رواه ابن مسعود - رضي الله عنه – قال:
خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خطّاً وقال: ((هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن يساره وقال: هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله))(1).
فأهل الحق طريقهم واحد هو طريق محمد - صلى الله عليه وسلم-، وأهل الضلال طرقهم متعددة ومختلفة.
الخلوة المرحلة النهائية للوصول
وهذه المرحلة من السلوك عندهم تأتي رتبة عالية، حيث هي المرحلة الأخيرة لحصول الفتح والكشف عن الحقيقة التي هي ثمرة الرحلة الصوفية، ولا يستطيع تخطي هذه المرحلة بزعمهم إلا من أضيئت بصيرته وأزيحت عنه الأستار، وتوارت عنه الحُجُب، فيرى ما يرى مما يغيب عن الورى.
وخلاصة ذلك: أن يجلس المريد في عزلة عن الناس وحده أو مع بعض المريدين.
وكان من حظي أن دخلت هذه الخطوة مع بعض المريدين، وهي عبارة عن كهف "مغارة" صائماً للنهار قائماً لليل بذكر لفظ الجلالة - الله .
وخلال هذه الفترة التي كانت تقارب - أسبوعاً - لم أجد شيئاً مما يصفونه أو يتخيلونه، مما يخيله الشيطان أو تصوره الأوهام، فلم ينكشف لي الحجاب ولم أرَ شيئاً، لا نوراً يخطف الأبصار ولا أمراً تنكشف به الأسرار، بل خرجت من هذه الخلوة - بتوفيق الله - مجهد الجسم لقلة الطعام وموالاة الصيام، والسهر المضني، قلق البال، حائر الفؤاد، صفر اليدين، من الفتوحات الّلاتي يدَّعونها.
__________
(1) صحيح رواه الحاكم وغيره (تخريج السنة 17، قاله الألباني رحمه الله في شرح الطحاوية ص594).(1/14)
أما في اصطلاح الشيخ فلم يحن الوقت للفتوح بعد، ويتم إعلان النتيجة فيما بعد (مَحْجُوب)!!
وأما بعض من كان معي فخرج ليخبر الشيخ بما رأى وما حصل له من المشاهدات والكرامات والأنوار والأسرار، مما يجعل الشيخ يعطيه وصف الأبرار - فيصبح عارفاً بالله - واصلاً، فُتِحَ عليه، ويَعزي الشيخ هذه النتيجة إلى أن فلاناً يصلح للولاية، وفلاناً لا يصلح، مع أنَّ الكل يأخذ بنفس الأسباب ولا يصلون إلى النتيجة الواحدة، مما يشكك المريدين المحجوبين بالعدل الإلهي - حاشا لله وكلا -: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79]، {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10].
النتيجة السلبية لهذه الطرق
وهكذا تسبب هذا الشيخ للمريد المحجوب بالشرود والحيرة والقلق والاضطراب والتشكيك، مما يؤدي ببعض المريدين إلى الحقد والكراهية أو إلى مستشفيات الأمراض النفسية أو حتى إلى الجنون، ولقد وجدت بعض هؤلاء المريدين يشكو حاله، وانشغال باله مما أحدثوا فيه من تناقضات واختلافات وهكذا الباطل يحدث في أهله.
قال الله تعالى عن القرآن: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فالنتيجة الحتمية لمن لم يسلك طريق الأنبياء هي الزَّيغ والانحراف: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ففتحت عليهم أبواب الضلالة وحرموا من الهداية.(1/15)
والله سبحانه قال عن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم-: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]. وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31].
ولذلك حصل لي ما حصل مما يصعب وصفه بسبب سلوكي معهم وذلك بسبب جهلي لطريق الحق لقلة أهله وندرة السالكين فيه. وهكذا لم يفتح الله عليّ حسب اصطلاحهم، فالحمد لله على توفيقه لي حيث جنَّبني الغواية ووفقني للهداية.
تساؤل
وأسأل هنا بعد هذا: ما الذي حدا بي لأن أسلك هذا الطريق ولماذا يستهوي كثيراً من الناس؟ أقول بعد تجربتي وخبرتي: نوقن بأن الإيمان فطري في النفوس، كما قال - صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))(1).
فكل واحد من الناس يريد تلبية هذه الفطرة، ولا شك أن الذي يلائم هذه الفطرة هو دين الإسلام وحده الذي يقوم على توحيد الله، وأنه هو المعبود بحق، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته.
فأصبحتُ أبحث عما يلبي فطرتي وسط دعوات كثيرة كلها تدَّعي الحق لنفسها، فخضت غمارها فما وجدت فيها ما يشفي العليل ويروي الغليل حتى كانت هذه الطريق آخرها قبل أن أجد بُغيتي في آخر الأمر فيهدأ بالي ويستقر حالي. فكان التعدد والاختلاف في الجماعات من أسباب حيرة الشباب المسلم وغير المسلم، مع من يسير؟ وإلى أين يتجه؟
فينبغي لهذه الجماعات الإسلامية جميعاً أن تنصهر في بوتقة واحدة على كتاب الله وسنة نبيه بفهم الصحابة رضوان الله عليهم.
__________
(1) " البخاري في صحيحه " (1359), ومسلم (2658).(1/16)
قال - صلى الله عليه وسلم-: ((وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ))(1).
ومن أسباب ذلك أيضاً الجهل بحقيقة هذا الدين، حيث أنّ الجهلَ بحقيقة الإسلام يجعل الإنسان يتبع زخرف القول وشكليات الأمور دون النظر العميق بالمضمون والجوهر، فتسمع ما تطيب له النفس وترى ما تسرُّ له العين، ولكن عندما تختبر وتجرَّب يظهر لك أنك تجري خلف سراب ولا تجني غير الخراب.
ثم أن ترك مثل هؤلاء المخادعين يصولون ويجولون بغير حساب ولا عقاب يردعهم، يفتح الباب على مصراعيه للفتنة، وقلب الحقائق وإظهار الباطل بصورة الحق. فلا بد من التحذير منهم وإظهار عوارهم وكشف أسرارهم: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42].
فترة الضياع
نعم، لقد نال مني التعب وأرهقني الوصَب بسبب سلوكي طريق التَّصوف، فما أصعب حيرة الدين، وضيق الصدر، وانقباض القلب، وقلق الفكر، حتى لا يكاد يرى الإنسان إلا الموت له شافياً. فكنت أسهر الليالي الطوال أُفَكِّر لأصل إلى نتيجة فيدركني الصباح دون جدوى فأحرقت صورة الشيخ التي وزعها على المريدين وكذلك فعلت بديوان أشعارهم، وما رأيت أحداً قادراً على انتشالي من همومي وأحزاني، وأقنعت نفسي أن أعيش كما يعيش أكثر الناس بلا التزام بشرع أو تقيد بجماعة، وإنما الأكل والشرب والنوم والتمتع بما يحلو ويطيب للنفس من متع الحياة، لكي أنسى همومي ومنازعة أفكاري، وكان ذلك ردة فعل عندي لعدم وضوح صورة الإسلام الناصعة وأصوله السامية وحقائقه الثابتة، وللأسف استمر ذلك الحال حتى بعد حصولي على درجة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية!!
منة الله عليَّ بالهداية
__________
(1) "صحيح الترغيب والترهيب" (37).(1/17)
أمضيت السنين من عمري على تلك الحال من الهروب والشرود أعجب من حالي ويتعجَّب مني الناس، لماذا؟ وكيف حصل ما حصل ونتج عنه ما نتج؟ حتى هيَّأ الله لي بلطفه ومنِّه وكرمه وإحسانه رجلاً عالماً عابداً تقيَّاً زاهداً حكيماً خلوقاً وقوراً - أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً - سمعت عن أوصافه وتأثر الناس بمقاله فحضرت له خُطباً أثَّرت في قلبي وذرفت بسببها عيني. فصليت في المسجد الذي كان يَؤم فيه، فتعرَّف عليّ بابتسامةٍ لطيفة وأخبرته أني أعمل مدرِّساً للتربية الإسلامية في مدرسة سحاب الثانوية، فأخبرني أنَّ عليّ مسؤولية عظيمة في تبليغ هذا الدين العظيم وتعليمة ونشره.
فأخبرته خبري ورويت له قصتي، فمد يده لي كمن يريد إنقاذ غريق أو إطفاء حريق، وهو يَصْغُرني سناً ويكبرني قدراً، كان يحفظ كتاب الله، يقوم الليل ويكثر الصيام، فمن خالطه أحبَّه وأظنّ أن أكثر أهل بلدنا هذا الأردن قد عرفوه وسمعوا عنه، وقد عاد قافلاً إلى بلاده مصر ليواصل فيها نشر العلم، وما تزال المكتبات تحوي كتباً من كتبه وتتشرَّف بما يكتبه قلمه، وتخطّه يده.
فكنت أطرح عليه الشبهات العالقة بذهني فيعالجها ويزيلها واحدةً تلو الأخرى بدليل صحيح وكلام مُقنع، وحجَّة ظاهرة، وبيان واضح، فيرسخ قوله في قلبي وينجلي عنه ثِقله، فجزاك الله يا شيخنا الدكتور عبد العظيم بن بدوي (أبا أحمد) خيراً وحفظك من كل سوء.
وكان ينصحني حفظه الله بقراءة بعض الكتب التي تعالج تلك الشبهات. أذْكر منها: كتاب "العبودية" لابن تيمية، وكذلك كتاب: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي، وكتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيِّم.(1/18)
وكنت كلما قرأت منها شيئاً انجلى صدري وانفتح قلبي وزال الضيق من نفسي، فرقَّ فؤادي وانسكب دمعي، وهنا علمت ما كنت أصبو إليه من العلم النافع والعمل الصالح اللذين بهما يسعد الإنسان ويجني نعيم الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. وقال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى - وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123-124].
وهكذا تعلمت معنى لا إله إلا الله وأنها تعني: أن لا معبود بحق إلا الله، فتتوكل عليه وتخشاه وتُحبه وتنيب إليه، وترجوه وتخافه، وتخلص له، وتدعوه وحده، وتستعين به، وتنذر له، وتصرف جميع أنواع العبادة لله وحده.
وأن الله تعالى ابتلانا في هذه الدنيا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
أي أخلصه وأصوبه كما قال الفضيل بن عياض، ثم نُرَدّ إليه فيحاسبنا على ما قدمنا: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
وأن الوصول إلى الله تعالى لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه واتباع ما جاء به نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- من الشرع القويم والصِّراط المستقيم: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
قال علي - رضي الله عنه -:
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدْر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ففز بعلم تعش حيّاً به أبداً
الناس موتى وأهل العلم أحياءُ(1/19)
وقد لازمت الشيخ عبد العظيم حفظه الله حتى ذهبت إعارة لليمن للتدريس هناك، وكنت ألتقي به في عطلة الصيف حتى غادر إلى بلاده حفظه الله ورعاه وسدد على الخير خطاه.
وهكذا انتهت هذه الفترة الزمنية من حياتي بوضع قدمي على أوّل الطريق الصحيح، طريق العلم النافع، الذي يقود إلى العمل الصالح إن شاء الله، أسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة وأن يدّخر لي ثواب ذلك عنده: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
كتب تعرفك على التَّصوف
"الفكر الصوفي" – عبد الرحمن عبد الخالق.
"مصرع التصوف" "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" – البقاعي: تحقيق: عبد الرحمن الوكيل.
"الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ" - عبد الرؤوف القاسم.
"إلى التصوف يا عباد الله" - أبو بكر الجزائري.
"تلبيس إبليس" لابن الجوزي.
"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" - ابن تيمية.
"إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" - ابن قيم الجوزية.
"الإنصاف" - للأمير الصنعاني: تحقيق عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر.
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة الرسالة ... 3
بداية الطريق ... 8
السم في الدسم ... 8
تلقي الورد عن الشيخ ... 10
رؤية الله في اليقظة لم تحصل لأحد في الدنيا ... 11
الذكر بهذه الطريقة لا دليل عليه ... 13
تحريفهم لمعاني النصوص ... 14
الشيخ والحضرة ... 16
أقوال خطيرة وكلمات غريبة ... 18
من هم أوليا الله بحق؟ ... 19
من أحوالهم العجيبة ... 20
ادعاؤهم علم الغيب (الكشف) ... 21
الشيخ عندهم بواب الله ... 24
مشابهة الشيعة في دعاء المخلوقين ... 25
الدعاء عبادة ... 26
مصادر التلقي عندهم ... 28
الخلوة - المرحلة النهائية للوصول ... 31
النتيجة السلبية لهذه الطرق ... 33
تساؤل ... 34
فترة الضياع ... 37
منة الله عليّ بالهداية ... 38
كتب تعرفك على التصوف ... 42
الفهرس ... 43(1/20)