بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين على سيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وسلم ومجد وكرم سبحان من بيده الضر والنفع والوصل والقطع والتفرقة والجمع والعطاء والمنع وفق من أحب لتنزيهه فحمى موضع نظره منه وكذا السمع وخذل من أبغض فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألفه من رديء الطبع فهب على الأول نسيم إسعاده وعلى الثاني ريح إبعاده لصدع قلبه بتمويه العدو فياله من صدع تقدس وتمجد بعز كبريائه وجلاله وتفرد بأوصاف عظمته وكماله كما عم بجوده وإفضاله ونواله تقدس وتبارك عن مشابهة العبيد وتنزه عن صفات الحدوث
فمن شبه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد ومن عطل ما ثبت له من صفاته بالأدلة القاطعة فهو عن الحق مائل ومحيد وكلا القسمين سفيه وشقي وغير رشيد ومن ورائهما عذاب شديد
ونال خلع الرضوان في دار الأمان من نزه مع تزايد الكرامات ولديه مزيد
فشتان بين من هو راتع في رياض السلامة ونزل الكرامة في دار المقامة وبين المطرود المعبود وقد حق عليه الوعيد
وبعد فإن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوام السريرة يظهرون الإنتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد والعجب أنهم يعظمونه في الملأ ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمة وهم أكفر ممن تمرد وجحد ويضلون عقول العوام وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني وإظهار التعبد والتقشف وقراءة الأحاديث ويعتنون بالمسند
كل ذلك خزعبلات منهم وتمويه وقد إنكشف (1/4)
أمرهم حتى لبعض العوام وبهذه الأحرف يظهر الأمر إن شاء الله تعالى لكل أحد إلا لمن أراد عزوجل إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد
ومن قال بنفي ذلك أي بنفي خلود العذاب وسرمديته وهو إبن تيمية وأتباعه فقد تجرأ على كلام الغفور قال تعالى والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم والآيات في ذلك كثيرة عموما وخصوصا ومنها قوله تعالى ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما والغرام المستمر الذي لا ينقطع فلو انقطع قدر نفس لا يسمى غراما ومن ذلك قوله تعالى وجاء ربك قال الإمام أحمد معناه جاء أمر ربك قال القاضي أبو يعلى قال الإمام أحمد المراد به قدرته وأمره وقد بينه في قوله تعالى أو يأتي أمر ربك يشير إلى حمل المطلق على المقيد وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لأنه لا يجوز عليه الإنتقال سبحانه وتعالى ومثله حديث النزول وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الإنتقال والحركة من صفات الحدث والله عزوجل قد نزه نفسه عن ذلك ومن ذلك قوله تعالى استوى على العرش فإذا سأل العامي عن ذلك فيقال له الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك وتبعه تلميذه مالك لأن الإستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث وهو سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى ليس كمثله شيء فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذرة جاء الكفر بالقرآن قال الأئمة وإنما قيل السؤال بدعة لأن كثيرا ممن ينسب إلى الفقه والعلم لا يدركون الغوامض في غير المتشابه فكيف بالمتشابه فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عزوجل ومن أسمائه القدوس وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفى خيال التشبيه وكذا في قوله تعالى قل هو الله أحد إلخ لما فيها من نفي الجنسية والبعضية وغير ذلك مما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي وكان من المحققين وكذلك (1/5)
أبو الحسن التميمي وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الإبتلاء فقال تحت السياط فكيف أقول ما لم يقل وقال في آية الإستواء هو كما أراد فمن قال عنه أنه قال في الإستواء أنه من صفات الذات أو صفات الفعل أو أنه قال إن ظاهره مراد فقد افترى عليه وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مما فيه الحاقة عزوجل بخلقه الذي هو كفر صراح لمخالفته كلامه فيما نزه نفسه به سبحانه وتعالى عما يقولون ومنهم إبن حامد والقاضي تلميذه وإبن الزاغوني وهؤلاء ممن ينتمي إلى الإمام ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده مما ذكرت بعضه وبالغوا في الإفتراء إما لجهلهم وإما لضغينة في قلوبهم كالمغيرة بن سعيد وأبي عبد الله محمد الكرامي لأنهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم وحرف المغيرة ومعه خمسة من أتباعه كما أذكره من بعد قال إبن حامد في قوله تعالى ويبقى وجه ربك وفي قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه نثبت لله وجها ولا نثبت له رأسا وقال غيره يموت إلا وجهه وذكروا أشياء يقشعر الجسد من ذكر بعضها
قال أبو الفرج بن الجوزي
رأيت من تكلم من أصحابنا في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف وهم ثلاثة إبن حامد وصاحبه القاضي وإبن الزاغوني صنفوا كتبا شانوا بها المذهب وقد رأيتهم نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته وقال بعضهم ويتنفس ثم أنهم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات فسموا الصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل اليد على النعمة أو القدرة ولا المجيء على معنى البر واللطف ولا الساق على الشدة ونحو ذلك بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو (1/6)
المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن فإن صرف صارف حمل على المجاز وهم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم وكفروا تقليدا وقد نصحت للتابع والمتبوع ثم أقول لهم على وجه التوبيخ يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل وإتباع وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول كيف أقول ما لم يقل هل بلغكم أنه قال إن الإستواء من صفة الذات المقدسة أو صفة الفعل فمن أين أقدمتم على هذه الأشياء وهذا كله إبتداع قبيح بمن ينكر البدعة ثم قلتم أن الأحاديث تحمل على ظاهرها
وظاهر القدم الجارحة وإنما يقال تمر كما جاءت ولا تقاس بشيء فمن قال إستوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات وذلك عين التشبيه فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم وأمروا الأحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر عليكم أحد ولا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي أعني الإمام أحمد ما ليس منه فلقد كسوتم هذا المذهب شيئا قبيحا حتى لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ثم زينتم مذهبكم بالعصبية ليزيد وقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة فالحاصل من كلام إبن حامد والقاضي وإبن الزاغوني من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحق سبحانه وتعالى هي نزعة سامرية في التجسيم ونزعة يهودية في التشبيه وكذا نزعة نصرانية فإنه لما قيل عن عيسى عليه السلام أنه روح الله سبحانه وتعالى إعتقدت النصارى أن الله صفة هي روح ولجت في مريم عليها السلام وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم وما ذاك إلا أنهم سموا الأخبار أخبار صفات وإنما هي إضافات وليس كل مضاف صفة فإنه سبحانه وتعالى قال ونفخت فيه من روحي وليس لله صفة تسمى روحا فقد إبتدع من سمى المضاف صفة ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم ثم أنهم في مواضع يؤولون بالتشهي وفي مواضع أغراضهم الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحس ويقولون ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته ثم يقولون لا كما يعقل يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيء الفهم وذلك عين التناقض ومكابرة في الحس والعقل لأنه كلام (1/7)
متهافت يدفع أخره أوله وأوله آخره وفي كلامهم ننزهه غير أننا لا ننفي عنه حقيقة النزول وهذا كلام من لا يعقل ما يقول ومثل قول بعضهم المفهوم من قوله هو الله الحي القيوم في حقه هو المفهوم في حقنا إلا أنه ليس كمثله شيء فأنظر أرشدك الله كيف حكم بالتشبيه المساوي ثم عقبه بهذا التناقض الصريح وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى روية ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى الرحمن على العرش إستوى أنه مستقر على العرش مع قولهم في قوله تعالى أأمنتم من في السماء إن من قال إنه ليس في السماء فهو كافر ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيزين في آن واحد وفي زمن واحد ومن المعلوم أن في للظرفية ويلزم أنه سبحانه وتعالى مظروف تعالى عن ذلك وفي البخاري من حديث أنس أنه رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكها بيده فقال إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة وفيه من حديث إبن عمر رضي الله عنه أنه رأى نخامة في جدار القبلة فحكها ثم أقبل على الناس فقال إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى نخامة في القبلة فقال ما بال أحدكم يستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم أنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم وفي رواية والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وفي الصحيح أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني وحديث المريض أما لوعدته لوجدتني عنده وقال تعالى وناديناه من جانب الطور الأيمن وقال تعالى نودي من شاطيء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجره أن يا موسى أني أنا الله رب العالمين وقال تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله وفي الترمذي في حديث العنان وفيه ذكر الأرضين السبع وأن بين كل أرض والأخرى كما بين السماء والأرض ثم قال والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم بحبل لوقع على الله سبحانه وتعالى ومثل هذه الأدلة كثير وكلها قاضية بالكون (1/8)
السفلي دون العلوي وأعلم أن الإستواء في اللغة على وجوه وأصله إفتعال من السواء ومعناه أي السواء العدل والوسط وله وجوه في الإستعمال منها الإعتدال قال بعض بني تميم إستوى ظالم العشيرة والمظلوم أي إعتدلا ومنها إتمام الشيء ومنه قوله تعالى ولما بلغ أشده واستوى ومنها القصد إلى الشيء ومنه قوله تعالى ثم استوى إلى السماء أي قصد خلقها ومنها الإستيلاء على الشيء ومنه قول الشاعر
ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق وقال آخر
إذا ما غزا قوما أباح حريمهم ... وأضحى على ما ملكوه قد إستوى
ومنها بمعنى إستقر ومنه قوله تعالى واستوت على الجودي وهذه صفة المخلوق الحادث كقوله تعالى وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره وهو نزه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع وقطع المادة في ذلك أن المسألة علمية وكفى الله المؤمنين القتال والجدال
قال أبو الفرج بن الجوزي وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل قال عبد الله بن وهب كنا عند مالك بن أنس ودخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش إستوى كيف استواؤه فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال الرحمن على العرش إستوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع
وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه
فأخرج
كان إبن حامد يقول المراد بالإستواء القعود وزاد بعضهم إستوى على العرش بذاته فزاد هذه الزيادة وهي جرأة على الله بما لم يقل
قال أبو الفرج وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الله عزوجل على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه العرش ثم قال والعجب من قول هذا ما نحن مجسمة وهو تشبيه محض تعالى الله عزوجل عن المحل والحيز لإستغنائه عنهما ولأن ذلك مستحيل في حقه عزوجل ولأن المحل والحيز من لوازم الأجرام ولا نزاع في ذلك وهو سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لأن الأجرام من صفات الحدث وهو عزوجل منزه عن ذلك شرعا وعقلا بل هو أزلي لم يسبق بعدم بخلاف الحادث ومن المعلوم أن الإستواء إذا كان بمعنى الإستقرار والقعود (1/9)
لا بد فيه من المماسة
والمماسة إنما تقع بين جسمين أو جرمين والقائل بهذا شبه وجسم وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقية كما أبطل دلالة ليس كمثله شيء ومن المعلوم في قوله تعالى لتستووا على ظهوره أنه الإستقرار على الأنعام والسفن وذلك من صفات الآدميين فمن جعل الإستواء على العرش بمعنى الإستقرار والتمكن فقد ساوى بينه عزوجل وبين خلقه وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصورها بليد فضلا عمن هو حسن التصور جيد الفهم والذوق وحينئذ فلا يقف في تكذيبه ليس كمثله شيء وذلك كفر محقق
ثم من المعلوم أن الإستواء من الألفاظ الموضوعة بالإشتراك وهو من قبيل المجمل فدعواه أنه بمعنى الإستقرار في غاية الجهل لجعله المشترك دليلا على أحد أقسامه خاصة فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضحكة لجعله القسم قسيما فمن تأمل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركب يحتجون بالأدلة المجملة التي لا دليل فيها قطعا عند أهل العلم ويتركون الأدلة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم بل بعضها نصوص كما قدمته في حديث النخامة وغيرها فتنبه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك
ومن المعلوم أنه عزوجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما أعني الزمان والمكان مخلوقان وبالضرورة أن من هو في مكان فهو مقهور محاط به ويكون مقدرا ومحدودا وهو سبحانه وتعالى منزه عن التقدير والتحديد وعن أن يحويه شيء أو يحدث له صفة تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علوا كبيرا
فإن قيل ففي الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه أنه ذكر المعراج وفيه فعلا بي الجبار تعالى فقال وهو في مكانه يا رب خفف عنا الحديث فالجواب أن الحافظ أبا سليمان الخطابي قال إن هذه لفظة تفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو مكان النبي ومقامه الأول الذي أقيم فيه وفي الحديث فاستأذن على ربي وهو في داره يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه المعتمد أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان فإن قيل يلزم من كلامكم نفي الجهات ونفيها يحيل وجوده فالجواب أن هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الأغبيا يجرون الجهات المتعلقة بالآدميين بالنسبة إلى الله عزوجل عن ذلك
وأيضا إن كان الموجود يقبل (1/10)
الإتصال والإنفصال فمسلم فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي سوى النقيض بمحال ويوضح هذا أنك لو قلت كل موجود لا يخلو أن يكون عالما أو جاهلا قلنا إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلا فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل ونحن ننزه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزه نفسه عن كل ما يدل على الحدث وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم ولا يتخيله خيال والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك ومن هنا وقع الغلط وإستدراج العدو فأهلك خلقا وقد تنبه خلق لهذه الغائلة فسلموا وصرفوا عنه عقولهم إلى تنزيهه سبحانه وتعالى فسلموا
ومن الأحاديث التي يحتجون بها حديث عبد الرحمن إبن عائش عن النبي أنه قال
رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم يا رب فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض وهذا الحديث قال الإمام أحمد فيه أن طرقه مضطربة وقال الدارقطني كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح وقال البيهقي روى من أوجه كلها ضعيفة وأحسن طرقه يدل على أن ذلك كان في النوم ويدل على ذلك أنه روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال أتاني أت في أحسن صورة فقال فيم يخيصم الملأ الأعلى قلت لا أدري فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه وروي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله بعد صلاة الصبح فقال إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أعلم يا رب فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلى لي ما بين السماء والأرض وروى من وجوه كثيرة فهي أحاديث مختلفة وليس فيها ما يثبت مع أن عبد الرحمن لم يسمعه من النبي وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله
فالمعنى رأيته على أحسن صفاته أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك
لأن الصورة يعبر بها ويراد الصفة كما في حديث خلق الله آدم على صورته تقول هذه صورة هذا الأمر أي صفته فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة مع أن هذا الحديث فيه علل منها أن الثوري (1/11)
والأعمش كان يدلس ولم يذكر أنه سمع الحديث من حبيب بن أبي ثابت ومنها أن حبيبا كان يدلس ولم يعلم أنه سمعه من عطاء وهذا كله يوجب وهنا في الحديث ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليه السلام فالمعنى أن الله عزوجل خلق آدم على صورته التى خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه قال الإمام أبو سليمان الخطابي وذكره تغلب في أماليه وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث فالمشبه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عزوجل من ذلك ومن ذلك حديث القدم لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه الحديث وهذا يرجع إلى المحكم قال الله تعالى وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم وقال الحسن البصري القدم في الحديث هم الذين قدمهم الله من شرار خلقه وأثبتهم لها وقال البيهقي عن النضر بن شميل القدم هنا الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار وقال الأزهري القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار وقال إبن الأعرابي القدم المتقدم وكل قادم عليها يسمى قدما والقدم جمع قادم كما يقال عيب وعايب وروى الدارقطني حتى يضع قدمه أو رجله وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظن مع أن الرجل في اللغة هي الجماعة ألا تراهم يقولون رجل من جراد فيكون المعنى يدخلها جماعة يشبهون الجراد في الكثرة قال إبن عقيل تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة وهذا عين التجسيم وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض فما أسخف هذا الإعتقاد وأبعده عن المكون تعالى الله عن تخايل الجسمية وذكر كلاما مطولا بالغا في التنزيه وتعظيم الله تعالى وقد تمسك بهذا الحديث إبن حامد المشبه فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات وزاد فروى من حديث إبن عباس رضي الله عنه أنه قال لما أسري بي رأيت الرحمن على صورة شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته فإذا كأنه عروس حين كشف عنه حجابه مستو على عرشه وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله عزوجل وعلى رسوله ومن أعظم فرية ممن شبه الله عزوجل بأمرد وعروس وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجع ويقول ليت إبن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا إلى أنهم من أتباع الإمام أحمد فقد (1/12)
أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشين على المذهب والتعرض إلى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم وحاشاه من ذلك بل هو من أعظم المنزهة لله عزوجل وقد خاب من افترى وقال بعض أئمة الحنابلة المنزهين من أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس فما عنده من الإسلام خبر تقدس الله عزوجل عما يقولون علوا كبيرا وخوضهم في ذلك كلام من لايعرف الله عزوجل وكذا خوضهم في الأحاديث خوض من لا يعرف كلام الله تعالى ولا كلام أهل اللغة فيجرونها على المتعارف عند الخلق فيقعون في الكفر ونوضح ذلك إيضاحا مبينا يدركه أبلد العوام فضلا عن أذكياء الطلبة والعلماء الأخيار الذين جعل الله عزوجل قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الضيف وفيه لقد عجب الله من صنيعكما الليلة وفي إفراد البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عجب ربك من قوم جيء بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة
قال إبن الأنباري معنى عجب ربك زادهم إنعاما وإحسانا فعبر بالعجب عن ذلك قال الأئمة لأن العجب إنما يكون من شئ يدهم الأنسان فيستعظمه ممالا يعلمه وذلك إنما يكون في المخلوق وأما الخالق فلا يليق به ذلك فمعناه عظم قدر ذلك الشيء عنده لأن المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده فالمعنى في حديث الضيف عظم قدره وقدر زوجته عنده حتى نوه بذكرهما في أعظم كتبه وعظم قدر المجيء بهم في السلاسل حتى أدخلهم الجنة وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه ومن ذلك حديث لله أفرح بتوبة عبده ومعناه أرضى بها ومنه قوله كل حزب بما لديهم فرحون أي راضون ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن وكذا الأحاديث ومنها حديث النزول وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له إلى آخره وهذا الحديث رواه عشرون نفسا من الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم أنه يستحيل على الله عزوجل الحركة والتنقل والتغير لأن ذلك من صفات الحدث فمن قال ذلك في حقه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى
ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى وأنزلنا الحديد مع أن معدنه في الأرض وقوله تعالى (1/13)
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج فيالله العجب من شخص لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيلها وقد قال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب وقال تعالى قد أنزل الله إليكم ذكرا فنسب الإنزال إلى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى وقد قال تعالى من يضلل الله أي ببدعته فلا هادي له ونذرهم في طغيانهم يعمهون والعمه في البصيرة كما أن العمى في البصر والعمه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا الله من ذلك وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينه وإبن المبارك أنهم قالوا أمروا هذه الأحاديث بلا كيف قال الأئمة فواجب على الخلق إعتقاد التنزيه وإمتناع تجويز النقلة والحركة فإن النزول الذي هو إنتقال من مكان إلى آخر يفتقر الى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة كما في قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم فإن الفوقية بإعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلا في الأجرام والأجسام مركبة كانت أو بسيطة والرب سبحانه وتعالى منزه عن ذلك إذ هو من صفات الحدث وقال إبن حامد الراسم نفسه بالحنبلي هو فوق العرش بذاته وينزل من مكانه الذي هو فيه فينزل وينتقل ولما سمع تلميذه القاضي منه هذا إستبشعه فقال النزول صفة ذاتية ولا نقول نزوله إنتقال أراد أن يغالط الأغبياء بذلك وقال غيره يتحرك إذا نزل وحكوا هذه المقالة عن الإمام أحمد فجورا منه بل هو كذب محض على هذا السيد الجليل السلفي المنزه فإن النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجددها كل ليلة وتعددها والإجماع منعقد على أن صفاته قديمة فلا تجدد ولا تعدد تعالى الله عما يصفون وقد بالغ في الكفر من الحق صفة الحق بالخلق وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا ومنها حديث الأصابع وهو في الصحيحين من حديث إبن مسعود رضي الله عنه قال جاء حبر إلى رسول الله فقال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع وفي لفظ والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن فضحك رسول الله وقال وما قدروا الله حق قدره وفي لفظ فضحك رسول الله تعجبا وتصديقا له قال الأئمة ومنهم أبو سليمان الخطابي لا نثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع بصحته مستند إلى أصل في الكتاب أو السنة المقطوع بصحتها وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك (1/14)
ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه وقال غيره قد نفى الله تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى دفعا لما يتبادر إليه الفهم بإعتبار المحسوسات قال الأئمة معناه ما عرفوه حق معرفته وقال المبرد ما عظموه حق عظمته وقبضة الله عزوجل عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته واليمين في كلام العرب بمعنى الملك والقدرة كما قال تعالى لأخذنا منه باليمين أي بالقوة والقدرة وأشعار العرب في ذلك أكثر جدا من أن تذكر وأشهر من أن تنشد وتبرز وتظهر وفي الحديث الحجر الأسود يمين الله تعالى وقال تعالى يد الله فوق أيديهم وقال أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب الإمام أحمد ما قدر الله حق قدره إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته وإنما ذكر الشرك في الآية ردا عليهم وفي معنى هذا الحديث قوله إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء وفي ذلك إشارة إلى أن القلوب مقهورة لمقلبها قال الخطابي واليهود مشبهة ونزول الآية دليل على إنكار الرسول عليهم ولهذا ضحك علي وجه الإنكار وليس معنى الأصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته بل يطلق الإسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه وقال غيره من حمل الأصابع على الجارحة فقد رد على الله سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وأدخل نفسه في أهل الشرك لقوله تعالى سبحانه وتعالى عما يشركون وهو عزوجل يذكر في كتابه المبين التحرس عما لا يليق دفعا وردا لأعداءه كقوله تعالى وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه وقال تعالى وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه ونحو ذلك وأكد من ذلك قوله وإنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا قدم تنزيهه عزوجل أولا في هذه الآية والقرآن طافح بذلك ومنها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي وفي لفظ سبقت قال القاضي المشبه تلميذ إبن حامد ظاهر قوله عنده القرب من الذات وما قاله يستدعي القرب والمساحة وذلك من صفات الأجسام وقد عمى عن قوله تعالى مسومة عند ربك ومن المعلوم أنك (1/15)
تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة ثم أن هذا القاضي روى عن الشعبي أنه قال أن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطا كأطيط الرحل وهو كذب على الشعبي وقال بعضهم ثم إستوى على العرش قعد عليه وقال إبن الزاغوني خرج عن الإستواء بأربع أصابع ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الإستواء وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث ثم أن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره مالم يمكن القول به من أجهل الناس ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها إلخ وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار بل ولا جماد تعالى الله وتقدس عن ذلك قال إبن الجوزي وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على الله وما يستحيل عليه ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن إبن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش أن الله قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش ثم قال ونبرأ من أقوام شأنوا مذهبنا فعابنا الناس بكلامهم ولو فهموا أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بما يوصف به الخلق لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه وفي ذلك تكذيبه في تنزيهه وتقديسه نفسه عزوجل وقال أبو الوفاء بن عقيل تحسب الجهلة أن الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزه نفسه عنه عزوجل والذي أوقعهم في ذلك القياس المظنون وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضى عليه دليل العقل بالرد قال أبو الفرج إبن الجوزي والناس في أخبار الصفات على الثلاث مراتب أحدها إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى وجاء ربك أي جاء أمره وهذا مذهب السلف المرتبة الثانية التأويل وهو مقام خطر
المرتبة الثالثة القول فيها بمقتضى الحس وقد عم جهله الناقلين إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على الله عزوجل وما يستحيل فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس ولوا فهموا أن الله عزوجل لا يوصف بحركة ولا (1/16)
إنتقال ولا جارحة ولا تغير لما بقوا على الحسيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا الله من ذلك ولا شك أن مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلمين على الخوض في ذلك قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره خليت أهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه والآن رجعت إلى قولهم عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز وإلا فالويل لإبن الجويني قال أبو الوفاء بن عقيل معني بدين العجائز أن المدققين بالغوا في البحث والنظر ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل فوقفوا مع المراسم واستطرحوا وقالوا لا ندري وسئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الإستواء فقال هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر فأنظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها وعلى أتباعه ما أشققها إعتقاد قويم ومنهاج سليم قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي وإسمه عبد الرحمن بن علي لما رأى الحساد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه لتشييده بالكتاب والسنة انتموا إلى مذهبه ليدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه حسدا من أنفسهم فصرحوا بالتشبيه والتجسيم ولم يستحيوا من الخبير العليم
ونسبوه إليه إفتراء عليه ومن نظمه في ذلك
ولما نظرت في المذاهب كلها ... طلبت الأسد في الصواب وما أغلو
فألفيت عند السير قول إبن حنبل ... يزيد على كل المذاهب بل يعلو
وكل الذي قد قاله فمشيد ... بنقل صحيح والحديث هو الأصل
وكان بنقل العلم أعرف من روى ... يقوم
ومذهبه أن لايشبه ربه ... ويتبع في التسليم من قد مضى قبل يشير إلى صاحبه الإمام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر
فقام له الحساد من كل جانب ... فقام على رجل الثبات وهم زلوا
وكان له اتباع صدق تتابعوا ... فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا (1/17)
وجاءك قوم يدعون تمذهبا ... بمذهبه ما كل زرع له أكل ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة الذي نقلوه في الصفات وهم غفل
وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد ... فمال إلى تصديقهم من به جهل
فصار الأعادي قائلين لكنا ... مشبهة قد ضرنا الصحب والخل
فقد فضحوا ذاك الإمام لجهلهم ... ومذهبه التنزيه لكن هم ختلفوا
لعمري لقد أدركت منهم مشايخا ... وأكثر ما أدركته ماله عقل
وحذفت أبياتا من هذه القصيدة لأني في هذه الورقات على سبيل الإقتصاد والرمز إلى منهج الحق والرشاد وسئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الإستواء فقال آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك وهذا شأن الأئمة يمسكون أعنة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به وسئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك فقال من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر لأن هذا القول يؤذن أن الله سبحانه وتعالى مكانا ومن توهم أن الله مكانا فهو مشبه وسئل الإمام مالك عن الإستواء فقال الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فنفى العلم بالكيف فمن إستدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه وقال الإمام مالك عند قوله فلا تضربوا لله الأمثال من وصف شيئا من ذاته سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم فأشار بيده إلى عنقه قطعت وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه وقال مالك رضي الله عنه الإستواء معلوم يعني عند أهل اللغة وقوله والكيف مجهول أي بالنسبة إلى الله عزوجل لأن الكيف من صفات الحدث وكل ما كان من صفات الحدث فالله عزوجل منزه عنه فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة وقوله والإيمان به واجب أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه وقوله والسؤال عنه بدعة لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه فلما ذهب العالمون به وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عزوجل وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس ولذلك (1/18)
تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان لقوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فهذه الأئمة التي مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة فمن زعم أن بينهم إختلافا في ذلك فقد إفترى على أئمة الإسلام والمسلمين والله حسبه وسيجزي الله المفترين وفي الصحيحين من حديث إبن عباس رضي الله عنهما أنه قال من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية وقال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والنافرة والشاذة إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد ورجاله ثقات وسئل الإمام أحمد عن الشافعي فقال ما الذي أقول فيه وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها وأطلع على معارفها أربابها وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها فالمحدثون صيادلة والشافعي طبيبهم والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم وما وضع أحد قلمه في محبرة إلا وللشافعي عليه منة وكان كثير الدعاء للشافعي قال له إبنه عبد الله أي شيء كان الشافعي فإني إسمعك تكثر الدعاء له قال يابني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فأنظر هل لهذين من خلف أو عوض وسئل بعض أئمة السلف عن قوله تعالى الرحمن على العرش إستوى فقال الرحمن جل وعلا لم يزل والعرش محدث بالرحمن إستوى ثم قال كل ما ميزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتم عقولكم فهو مصروف إليكم ومردود عليكم محدث ومصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة أو يدركه وهم أو يحيط به علم كلا كيف يحيط به علم وقد إتفق فيه الإضداد بقوله سبحانه وتعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن أي عبارة تخبر عنه حقيقة الألفاظ كلام قصرت عنه العبارات وخرست عنه الألسنة بقوله ليس كمثله شيء تعالى الله وتقدس عن المجاسنة والمماثلة قال إبن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية معناها ليس له نظير وقال أهل التحقيق ذكر العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته إذ الذات ممتنعة عن الإحاطة بها والوقوف عليها كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم فسبحانه هو المنزه عن الشبيه القدوس المبرأ عن الآفات والمسبح (1/19)
بجميع اللغات السلام السالم من نقائص المخلوقات الصمد السيد الذي لا يشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات الغني عن الأغيار تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات الفرد الذي لا نظير له المنفرد بصفات الكمال والقدرة ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسموات شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات فصفاته لا يوصف بها غيره ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات قال البغداديون في قوله تعالى بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون كل صنع صنعه ولا علة لصنعته ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان وأوجد الأكوان بقوله كن أزال العلل عن ذاته بالدرك وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو حي قيوم لا أول لحياته ولا أمد لبقائه احتجب عن العقول والأفهام كما إحتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك والدرك عن الإستنباط وانتهى المخلوق إلى مثله واسنده الطلب إلى شكله أهو قولهم كل صنع عبروا بالمصدر عن إسم المفعول كقوله تعالى هذا خلق الله ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك مالا يدرك كيف وقد تنزه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ويدركه من جهة الدليل فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان وهو الأول قبل سوابق العدم الأبدي بعد لواحق القدم ليس كذاته ذات ولا كصفاته صفات
جلت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة قال تعالى أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وسأل بعض المخبثين الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين (1/20)
العلوم السنية والمناهج العلية يحيى بن معاذ الرازي فقال له أخبرنا عن الله فقال إله واحد فقال له كيف هو قال إله قادر قال فأين هو قال بالمرصاد فقال السائل لم أسألك عن هذا فقال ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق فأما صفته فالذي أخبرتك عنه فالسائل سأل عن الذات والكيفية فأجابه هذا الحبر بالصفات الجلالية القدسية وهذا أخذه من قصة سيدنا موسى عليه الصلاة و السلام مع فرعون اللعين لما قال له موسى عليه السلام إني رسول رب العالمين فسأله فرعون وما رب العالمين فقال موسى رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين فضمن الجواب العدول عما سأل لأنه عدل فيه عن مطابقة السؤال لأن فرعون سأل عن ما هيتة سبحانه وتعالى وموسى أجابه عن قدرته وصفاته فجاز له حين خلط في السؤال وأخطأ وسأل عما لا يمكن إدراكه العدول عن سؤاله فقال فرعون ألا تستمعون أنا أسأله عن شيء فيجيب عن غيره فقال موسى عليه السلام ربكم ورب آبائكم الأولين فلما قال موسى عليه السلام ذلك استشعر فرعون أنه أخطأ في السؤال فخشي أن يدرك ذلك جلساؤه فقال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون رماه بذلك حتى يتخلص ويصير موسى عليه السلام في مقام لا يلتفت إلى قوله ولا يؤخذ به فتأمل أرشدك الله عزوجل وهداك إلى الحق كيف أن ذلك معلوم عند الإنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم عدم العلم بالذات والكيف فلا أجهل ولا أعمى بصيرة ممن فرعون أهدي منه في معرفته بالعجز عن درك ذاته قال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل وقال أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة من إعتقد في الله عزوجل ما يليق بطبعه كالعامي فهو مشبه فإنه عزوجل منزه عن كل ما يصفه الآدمي أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحدث تعالى وتقدس عن ذلك فإيمان العامي لضعف علمه وعقله يقبل التشكيك قال إبن عباس سبحانه وتعالى بخلقه يؤمنون به مجملا ويكفرون به مفصلا حملهم على ذلك زخرف العدو وإغواؤه رضي الله عنهما في قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون هم الذين شبهوا الله (1/21)
بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الأمارة بالسوء وعدم تأملهم قوله تعالى ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وفي ذلك إشارة إلى عجز الخليقة ان تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها أو تدري كيف كنهها في أنفسها بعدم شهودهم خلق السموات والأرض وخلق أنفسها فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها فكيف تدري أو تدرك شيئا من صفات موجدها من العدم وبارئها ومالكها وقال تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين سبحان الذي خلق الأزواج كلها وفي ذلك إشارة ظاهرة إلى عجزك عن إدراك كنه بعض المخلوقات على إختلاف ذواتها وصفاتها وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر فكيف بالخالق الذي نزه نفسه بقوله تعالى ليس كمثله شيء وهو سبحانه وتعالى مباين لخلقه من كل وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه تقدس أن يدركه حادث أو يتخيله وهم أو يتصوره خيال
كل ذلك محال
فهو الملك القدوس المنزه في ذاته وصفاته عن مشابهة مخلوقاته وأنت من مخلوقاته
ركبك علي منوال عجيب
وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب
مع تنقل تارات من ماء مهين فقال عزوجل ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين الإنسان هنا هو آدم عليه السلام وسلالته لآنه سلة من كل تربة وكان عليه السلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة وقوله تعالى ثم جعلناه أي الإنسان نطفة في قرار مكين أي حرز منيع وهو الرحم ثم خلقناه علقة أي دما فخلقنا العلقة مضغة أي قدر ما يمضغ فخلقنا المضغة عظاما وبين كل خلقتين أربعون يوما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر وهو نفخ الروح فيه قاله إبن عباس ومجاهد والشعبي وغيرهم وقيل نبات الأنسان والشعر قاله قتادة وقيل ذكرا أو أنثى قاله الحسن وقيل غير ذلك فتبارك الله أحسن الخالقين أي المصورين والمقدرين تنزه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الأطوار
المعنى أن من هذه من بعض مقدوراته يستحق التعظيم والتنزيه لأن هذه التارات والتنقلات إنشاء بعد إنشاء في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الألوهية ثم الإنشاء الآخر أن شق الشقوق وخرق الخروق وأخرج العصب وجعل العروق كالأنهار الجارية وركبها على منوال غريب مع كونه خلقا سويا فأظهر يد القدرة (1/22)
والآيات الظاهرة وكمال الصنع والحكمة الباهرة وأودع فيه الروح والحركة والسكون والإدراك والتمييز ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة وغير ذلك مما يليق بهذا النوع الإنساني الحيواني الى غير ذلك مما يطول عده ويعسر تقديره وحده فتبارك الله أحسن الخالقين
ولو قيل لك أخبرني عن قدر عروقك رقة وتخانة وطولا وقصرا أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان لعجزت عن بيان ذلك ولخرست وأنت وجميع هذا النوع الإنساني نتفة تراب جعله بشرا منتشرا فتعالى الله وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلا من عدم الرشاد
وسلك سبيل الفساد والعناد
وصير نفسه أخس العباد
فمن حقق نظره واستعمل فكره وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم فلا يقدره أحد قدره ولا يعرفه سواه وأن قربه وأدناه فسبحانه ما أثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والمرسلون عن ذلك قال أجهلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطى من جوامع الكلم لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
ومن تأمل كلام الله عزوجل وجده محشوا بتنزيهه تارة بالتصريح وتارة بالتلويح وتارة بالإشارات وتارة بما تقصر عنه العبارات وهؤلاء العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين قربوا من درجة النبوة لأنهم دلوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ويرجح مدادهم على دم الشهداء ويستغفر لهم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء وهم أمناء الله عزوجل في أرضه وأحدهم على الشيطان أشد من ألف عابد وقد قيل في قوله تعالى رب زدني علما أي زدني علما بالقرآن ومعانيه وهؤلاء لهم علم لدني يرد على قلوبهم من غيب الهدي لها جولان في الملكوت فترجع إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف والعمل بالإخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة وإلا هلك وأهلك غيره ومثل العالم كمثل السفينة إذا إنحرفت غرقت وغرق أهلها فواجب (1/23)
على العالم أن يحترز لئلا ويهلك غيره فيلقي الله بذنوبه وذنوب غيره فيضاعف عليه العذاب قال محمد بن المنكدر وهو من سادة التابعين وكانت عائشة رضي الله عنها تحبه وتكرمه وتبره الفقيه يدخل بين الله عزوجل وبين عباده فلينظر كيف يدخل وصدق ونصح قدس الله روحه وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للإسلام والمسلمين وكانوا شديدين على من خالف ولا سيما لما ظهر أهل الزيغ وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم وكانوا يقولون هم الذين عني الله عزوجل في قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة الآية وكذا قالت عائشة رضي الله عنها وكانوا يقولون إذا جلس أحد للوعظ والتذكير تفقدوا منه أمورا ولا تغتروا بكل واعظ فإن الواعظ إذا لم يكن صادقا ناصحا سليم السريرة من الطمع والهوى هلك وأهلك وذكروا أشياء ببعضها تنطفيء نار الشبه التي بها يموه أهل الزيغ ومن لا يقبلها فما ذاك إلا أن الله عزوجل يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة ومن يرد الله عزوجل إضلاله فلا هادي له والله يحكم لا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل قسم الخلق إلى شقي وسعيد
فهو الفعال لما يريد
فمن إتبع هداه فلا يضل ولا يشقى
ومن إتبع هوى نفسه الأمارة وأهل الزيغ والضلالة وحاد عن سبيل من بهم يقتدى هلك في المرقي
ولنرجع إلى قول السلف رضي الله عنهم إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أمورا إن كانت فيه وإلا فاهربوا منه وإياكم والجلوس إليه وإلا هلكتم من حيث طلبتم النجاة قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع وكثرت المقالات وذلك بعد وفاة عمر رضي الله عنه وحديث حذيفة رضي الله عنه يدل لذلك واللفظ لمسلم قال حذيفة كنا عند عمر رضي الله عنه فقال أيكم سمع رسول الله يذكر الفتن فقال قوم نحن سمعناه فقال لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره قالوا أجل قال تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ولكن أيكم سمع النبي يذكر التي تموج موج البحر قال حذيفة رضي الله عنه فأسكت القوم فقلت أنا قال أنت لله أبوك قال حذيفة رضي الله عنه سمعت رسول الله يقول تعرض الفتن على القلوب كالحصير فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفاة فلا تضره (1/24)
فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كلكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه قال حذيفة رضي الله عنه وحدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر قال قال عمر رضي الله عنه أكسر لا أبالك فلو أنه فتح لعله كان يعاد قال لا بل يكسر وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط قال أبو خالد فقلت لسعيد يا أبا مالك ما أسود مربادا قال شدة البياض في السواد قال قلت فما الكوزمجخيا قال منكوسا فقوله ليس بالأغاليط يعني أنه عن رسول الله والفتن كل أمر كشفه الإختبار عن أمر سوء وأصله في اللغة الإختبار وشبهت بموج البحر لإضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدة عظمها وشيوعها وقوله تعرض الفتن على القلوب أي تلصق بعرض القلوب أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم وتؤثر فيه لشدة إلتصاقها وهذا شأن المشبهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثر وتحسن لعقولهم ذلك حتى يعتقدوا ذلك دينا وقربانا من الله عزوجل وما يقنع أحدهم حتى يبقي داعية وحريصا على إفتان من يقدر على إفتانه كما هو مشاهد منهم وإلى مثل ذلك قوله أشربها أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل أي حبه فقوله أن بينك وبينها بابا مغلقا معناه أن تلك الفتن لا تفتح ولا يخرج منها شيء في حياتك وقوله يوشك هو بضم الياء وكسر الشين معناه أنه يكسر عن قرب والرجل هو عمر وقد جاء مبينا في الصحيح والحاصل أن الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر رضي الله عنه ما دام حيا فإذا مات دخلت ومبدأ الفتن هو الذين شرقوا بالنبي وبأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لعلمهم أن الدين لا يتم إلا بهما لأن عندهم علما بذلك وكانوا يظهرون الإسلام ويقرءون شيئا من القرآن وكانوا يرمزون إلى التعرض بالنقص حتى في النبي حتى أن منهم من كان يؤم الناس ولا يقرأ في الجهرية إلا بعبس لما فيها من العتاب مع النبي لأجل إبن مكتوم وهم رضي الله عنه على قتاله وتظاهر شخص (1/25)
بسؤال ما الذاريات ذروا فقال عمر رضي الله عنه اللهم أمكني منه فمر يوما فقيل له هو ذا وإسم الرجل صبيغ فشمر عمر رضي الله عنه عن ذراعيه وأوجعه جلدا ثم قال أرحلوه فأركبوه على راحلته فقال طيفوا به في حيه ليعلم الناس بذلك وكان رضي الله عنه شديدا في دين الله عزوجل لا تأخذه في الله لومة لائم وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب قمع النفوس ولما كان أواخر القرن الأول اتسع الأمر من القصاص وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد وكان ساحرا واشتهر بالوصاف وجمع بين الإلحاد والتنجيم ويقول أن ربه على صورة رجل على رأسه تاج وأن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به ويقول أن الأمانة في قول الله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال هي أن لا يمنع على الخلافة وقوله تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا هو أبو بكر رضي الله عنه وقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر أن يحملها ويمنع عليا منها وضمن عمر أنه يعين أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده فقبل أبو بكر منه وأقدما على المنع متظاهرين ثم وصفهما بالظلم والجهل فقال وحملها أبو بكر انه كان ظلوما جهولا وزعم أنه نزل في حق عمر رضي الله عنه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر الآية وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي الله عنهم إلا لمن ثبت مع علي رضي الله عنه وكان يقول أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يختلفوا في شيء من الشرائع وكان يقول بتحريم انكار المنكر قبل خروج الإمام وقال لمحمد الباقر اقر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق فانتهزه وطرده وكذا فعل بجعفر الصادق ولد محمد الباقر فقال أعوذ بالله وكان يقول انتظروا محمد بن عبد الله الإمام فإنه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام وكان له خبائث فلما كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبد الله القسري فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه فهذا شأن أهل الزيغ واستمر الأمر على ذلك إلا أنهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار الكب على سماع الحديث ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس العوام ثم كثرت المقالات (1/26)
في زمن الإمام أحمد وكثر القصاص وتوجع هو وإبن عيينة وغيرهما منهم وكان الإمام أحمد يقول كنت أود لو كان قصاصا صادقا نصوحا طيب السريرة ونبغ في زمنه محمد بن كرام السجستاني وترافق مع الإمام أحمد وأظهر حسن الطريقة حتى وثقه هو وإبن عيينة وسمع الحديث الكثير ووقف على التفاسير وأظهر التقشف مع العفة ولين الجانب وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط وعلى رأسه قلنسوة بيضاء ثم أخذ حانوتا يبيع فيه لبنا واتخذ قطعة فرو يجلس عليها ويعظ ويذكر ويحدث ويتخشع حتى أخذ بقلوب العوام والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده حتى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون ألفا وكان من غلاة المشبهة وصار يلقي على العوام الآيات المتشابهة والأخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوام وما ألفوه ففطن الحذاق من العلماء فأخذوه ووضعوه في السجن فلبث في سجن نيسابور ثمان سنين ثم لم يزل أتباعه يسعون فيه حتى خرج من السجن وارتحل إلى الشام ومات بها في زعر ولم يعلم به إلا خاصة من أصحابه فحملوه ودفنوه في القدس الشريف وكان أتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفا على التعبد والتقشف وقد زين لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون واستمر على ما هم عليه خلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا قال الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا قال سعيد بن جبير هذه الآية نزلت في أصحاب الأهواء والبدع المعنى أنه ركض في ميادين الباطل وهو يظنها حقا وكان إبن عباس رضي الله عنهما يقول عند هذه الآية إن الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها والبدعة هي إستحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظن بكونها حقا وهؤلاء ينزع من قلوبهم نور المعرفة وسراج التوحيد من اسرارهم ووكلوا إلى ما اختاروا فضلوا وأضلوا ويحسبون أنهم على شيء ألا انهم هم الكاذبون حتى ينكشف لهم الأمر كما قال الله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قيل عملوا أعمالا ظنوا أنها في كفة الحسنات فإذا هي في كفة السيئات وهذه الآية قيل أنها في أهل البدع يتصور ويعتقد مع تمام الورع والزهد وتمام الأعمال الصالحة وفعل الطاعات والقربات ما عاقبته خطرة
ومن ذلك أن يعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحق ويعتقده على خلاف ما هو (1/27)
به أما برأيه ومعقوله الذي يحاكي به الخصوم وعليه يعول وبه يغتر قد زين له العدو وحلاه له حتى اعتقده دينا ونعمة وأما أخذا بالتقليد ممن هذه حاله وهذا التقليد كثير في العوام لا سيما من يعضد بدعته وإعتقاده بظاهر آيه أو خبر وهو على وفق الطبع والعادة وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقا لا يحصون حتى أنهم يعتقدون أن الحق في مثال ما هم عليه وأن غيرهم على ضلالة ومثل هؤلاء ومن إتبعوهم إذا بدا لهم ناصية ملك الموت إنكشف لهم بطلان ما اعتقدوه حقا باطلا وجهلا وختم لهم بالسوء وخرجت أرواحهم على ذلك وتعذر عليهم التدارك وكذا كل إعتقاد باطل ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبد وشدة الزهد وكثرة الصوم والحج وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات لأنها تبع لأمر باطل ولا ينجو أحد إلا بالإعتقاد الحق وقد قال تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال وهذه الآية صريحة في أنه ليس بين الحق والباطل واسطة والباطل هو الذهاب عن الحق مأخوذ من ضل الطريق وهو العدول عن سمته والحق هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون وصف الله تعالى صراطه وهو دينه بالإستقامة وأمر بإتباعه والمستقيم هو الذي لا إعوجاج فيه فمن إتبعه أوصله إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر قال سهل الصراط المستقيم هو الإقتداء والإتباع وترك الهوى والإبتداع ثم أنه تعالى نهى عن إتباع السبل لما فيها من الحيدة عن طريق الإستقامة فقال ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله أي تميل بكم عن طريقه التي ارتضى وبه أوصي إلى سبل الضلالات من الأهواء فتهلكوا قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما الصراط المستقيم فقال ما تركنا محمد في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد إنتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط إنتهى به إلى الجنة ثم تلا وأن هذا صرطي مستقيما الآية فأشار رضي الله عنه بالرجال الذين على الجواد إلى علماء السوء وأهل (1/28)
البدع وأشار بقوله يدعون من مر بهم إلى الوعاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم ولهذا بالغ السلف رضي الله عنهم في التحذير من مجالسة كل أحد وقالوا إذا جلس للوعظ فتفقدوا منه أمورا فإن كانت فيه فاهربوا منه وإلا هلكتم من حيث ظننتم النجاة منها إن كان مبتدعا فاحذروه وإجتنبوه فإنه على لسان الشيطان ينطق ومن نطق على لسان الشيطان فلا شك ولا ريب في إغوائه فيهلك الإنسان من حيث يظن السلامة وأيضا ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوفير روى إبن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ورواه الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله إبن بشر وبهذا وغيره يجب التبري من أهل البدع والتباعد قال بعض السلف من بش في وجه مبتدع أوصافحه فقد حل عرى الإسلام عروة عروة وقال شخص من أهل الأهواء لأيوب السختياني رضي الله عنه أكلمك كلمة فقال لا والله ولا نصف كلمة وكان يقول ما إزداد صاحب بدعة إجتهادا إلا إزداد من الله بعدا قال رضي الله عنه كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديثا عن رسول الله يبكي حتى نرحمه وكان يقول إذا بلغني موت أحد من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي وكان يقول والله ما صدق عبد إلا سره ألا يراه أحد وكان يونس بن عبيد يقول احفظوا عني ثلاثا مت أوعشت لا يدخلن أحد على سلطان يعظه أو يعلمه ولا يخلون بإمراة شابة وان أقرأها القرآن ولا يمكن سمعه من ذي هوى وأشدها الثالثة لما فيها من الزيغ أعاذنا الله من ذلك وكان يقول ما يزال العبد بخير ما أبصر ما يفسد عمله ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري وكان أبو عبد الله الأصبهاني من عباد الله الصالحين ومن البكائين ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه قال وقفت على علي بن ما شاذة وهو يتكلم على الناس فلما جاء الليل رأيت رب العزة في النوم فقال لي وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لأحرمنك النظر في الدنيا فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئا وقال الحميدي سمعت الفضيل يقول من وقر صاحب بدعة أورثة الله عمى قبل موته قيل أراد أيضا عمى البصيرة (1/29)
وأعلم أن الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدا وقد ذكرت جملة منه في تنبيه السالك على مظان المهالك ومنها أن يكون الواعظ سيء الطعمة فإنه إنما ينطق بالهوى لأن مثل هذا يوقع الناس في الحرام أو ربما اعتقدوا حله لأنهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله ومنها أن يكون رديء العقل أحمق فإنه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح والأحمق هو الذي يضع الشيء في غير موضعه ويعتقد أنه يصيب قال عيسى عليه السلام أبرأت الأكمه والأبرص وأعياني الأحمق فالأحمق مقصودة صحيح ولكن سلوكه للطريق فاسد فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول إلى الغرض ويختار مالا ينبغي أن يختار وهذا واجب الإجتناب بخلاف صاحب العقل الصحيح فإنه يثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأدلة والأعمال وخفايا النفس الأمارة وغرور الشيطان ومنها أن يذكر الأدلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الأخبار والآثار لأنه بذلك يحل من القلوب الزواجر ويسهل إرتكاب المعاصي لا سيما إذا علم منه إرتكاب شيء ولو كان مكروها فإنه يوقع الناس في ورطة عظيمة قال إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوام بالحرام وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوام معناه أنهم يعتقدون حله لإرتكاب العلماء ذلك لأنهم القادة وعليهم المعول في التحليل والتحريم ومنها أن يتعرض لآيات المتشابه وكذلك الأخبار ويجمعها ويسردها ويكرر الآية والخبر مرارا لأنه يوقع العامي فيما إعتاده وألفه فيجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه ويزينه الشيطان له بغروره لا سيما إن كان الواعظ ممن يظهر زهدا وورعا وشفقة على الناس فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر والسلف رضي الله عنهم لهم إعتناء بشدة مجانبة هذا والتباعد عنه ومنها أن يكون متهما بالرفض وبسب الصحابة رضي الله عنهم وهؤلاء نبه مالك رضي الله عنه على أنهم من سلالة المنافقين وأوضح ذلك نور الله تعالى قلبه فقال أرادوا أن يقدحوا في النبي بشيء فلم يجدوا مساغا فقدحوا في الصحابة لأن القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه وهؤلاء كفار لإستحلالهم سب أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام ومنهم أقوام يلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره وهم لا يعتقدون البخاري ويسمونه فيما (1/30)
بينهم بالفشاري ولهم خبائث عديدة كل واحدة كفر محقق وبقي أمور لا أطول بذكرها فمن أراد الله به خيرا حماه من مجالسة هؤلاء لأن القلب سريع الإنقلاب وقبول الرخص والشبه فإذا علقت به الشبهة والريبه فبعيد أن يرتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه وأقل ما ينال القلب التردد والحيرة وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان فإن كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميا والمبتدع أدخلها عليه بقال الله عزوجل وقال رسول الله فبعيد أن يرجع ويتقشع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكم الشبهة بالدليل وهذا من الهالكين إلا أن يتداركه الله برحمته لأن عمدة الناس الكتاب والسنة والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضي فمن حق العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم وأن لا يغتر بتقشفهم وكثرة تعبدهم وزهدهم ووصفهم لأنفسهم فإن ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها وبها تتشرب القلوب لبدعتهم لا سيما من قلبه مشغوف بحب الدنيا إذا رأى زاهدا فيها مع أكبابه على الكتاب والسنة مع الورع والزهد والعفة والقناعة فلا شك ولا ريب أنه يرغب فيه غاية الرغبة ويميل إليه غاية الميل ولا يصده عنه صاد كما هو مشاهد من العوام ومحبتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة فتنبه لذلك فقد أوضحت طريق السلامة والتباعد عن مظان الهلكة فكم من شخص قصده صالح قد هلك بمثل هؤلاء اخوان الشياطين وهو لا يشعر وعليك بالإقتداء بالأطباء أعني أطباء القلوب وهم الأنبياء عليهم السلام لأنهم العالمون بأسباب الحياة الأخروية ثم أتباعهم الذين أخذوا عنهم وشاهدوا منهم ما لم يشاهده غيرهم شعر
من كان يرغب في النجاة فماله ... غير إتباع المصطفى فيما بدا
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
فالذين ما قال النبي وصحبه ... فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدي
فسبحان الحليم الودود
الممهل الكريم العميم الجود
العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود
ويري جريان الماء في العود
القادر فكل ما سواه بقدرته موجود
نزه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك
فتعالى عن الأشكال والأمثال والجهات (1/31)
والحدود
صفاته قديمه ثابتة بالنقل والعقل فمن عطل وقع في الجحود
وتنزيهه عن النقائص والأشباه محقق ومعلوم والتشبيه مذهب السامرة واليهود
وكف الكف مشلولة بل مقطوعة وباب التشبيه مردوم ومسدود
فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود
وأصحاب الأخدود وعاد وثمود
فنسأل الله العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود
ونتوسل إليك بسيد الأولين والآخرين محمد كما توسل به أبو البشر فقبلته فهو أحمد المحمود
صاحب الحوض المورود
والمقام المحمود
فهو أعظم الوسائل ولا يخيب من توسل به ولو كان من أهل الجحود
قال الله تعالى وكانوا أي اليهود من قبل بعث محمد يستفتحون أي يستنصرون على الذين كفروا وهم مشركوا العرب كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو اللهم انصرنا بجاه النبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة فكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلناه فنقتلكم معه قتل عاد وثمود
فأنظر أرشدك الله إلى قدره ودنو منزلته عند ربه كيف قبل عزوجل التوسل به من اليهود مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به ولا يوقرونه ولا يعظمونه بل يؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه فمن منع التوسل به فقد نادى على نفسه واعلم الناس بأنه أسوأ حالا من اليهود شعر
أنت الملاذ لنا وأنت المرتجى ... وبك اللياذ وأنت ملجأ من لجا
يا سيد الكونين يا من قد سما ... معراجه فوق السماء وعرجا
يا سيد الثقلين والحكم الهدي ... والمقصد الأسني لأبواب الرجا
يا سيدا من أم باب مقامه ... ألفاه خير مقام سؤل يرتجى
يا سيدا ما أمه من ضامه ... ريب الزمان بخطبه الأنجا
يا سيد جعل الآله وجوده ... للعالمين المرتجى والمتلجى
يا خاتم الرسل الكرام ومن به ... رب البرية كل هم فرجا غيره
وكن مستجيرا بالذي نال رفعة ... إلى عزها ذل الملوك الأكاسر (1/32)
نبي له جاه عريض ومنصب ... عظيم له تعزي العلى والمفاخر
جليل جميل راحم متعطف ... فصيح مليح كامل الحسن باهر
ألا يا رسول الله يا غاية المنى ... لقد نلت فخرا ما لادناه آخر
أيادرة الأنباء يا جوهر الورى ... هنيئا لنفس في هواك تتاجر
لقد ربحت في بيعها وتنعمت ... وقد سعدت يا درها والجواهر
حبيبي رسول الله كن لي شافعا ... أغثني أجرني يوم تبلى السرائر
بجاهك آمال الضعيف تعلقت ... إذا نصب الميزان والعقل طائر
فكن شافعي عند الآله فإنه ... حليم كريم غافر الذنب سائر
مضى العمر في لهو وزهو وغفلة ... وإني عن الفعل الحميد لقاصر
فيا رب داركنا بعفو ورحمة ... فأنت جميل العفو للكسر جابر
وخذ بنواصينا وطهر قلوبنا ... ومن بعفو منك فالعفو غامر
وصل على البدر الذي من جبينه ... بدا الشمس والإقمار والنجم زاهر
نجزت هذه الأحرف المباركات على قارئها ومستمعيها المتأسين بأهل الحق التابعين للصفوة من أولى المعجزات المنزهين لرب العالمين والمعظمين لسيد الأولين والآخرين وسائر الأنبياء والمرسلين وسرج هذه الأمة من بعدهم كالصديقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وكنت قد عزمت على أن أقتصر على ذلك لأن في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك ثم قيل لي وكرر على أن أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيد الأولين والآخرين تبعا لسلالة القردة والخنازير لهم وجود وفيهم كثرة وقد أخذوا بعقول كثير من الناس لما يزينون لهم من الإطراء على قدومتهم ويزخرفون لهم بالأقوال والأفعال ويموهون لهم بإظهار التنسك والإقبال على كثرة الصلاة والصوم والحج والتلاوة وغير ذلك مما يحسن في قلوب كثير من الرجال لا سيما العوام المائلين مع كل ريح إتباع الدجال فانقادوا لهم بسبب ذلك وأوقعوهم في أسر المهالك فرأيت بسبب هذلايه المكايد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم (1/33)
قمعا لهذا الزائغ عن طريق أهل الحق وهم الأئمة الأربعة المقتدى بهم والمعول عليهم في جميع الأعصار والأقطار لأنهم النجوم الذين بهم يهتدي وقد بالغ جمع من الأخبار من المتعبدين وغيرهم من العلماء كأهل مكة وغيرها أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمة ولو كان أحرفا يسيرة إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة فاستخرت الله عزوجل في ذلك مدة مديدة ثم قلت لا أبالك وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما علمت وإلا ألجمت بلجام من نار ومقت وها أنا أذكر الرجل وأشير بإسمه الذي شاع وذاع واتسع به الباع وسار بل طار في أهل القرى والأ مصار وأذكر بعض ما انطوى باطنه الخبيث عليه وما عول في الإفساد بالتصريح أو الإشارة إليه ولو ذكرت كثيرا مما ذكره ودونه في كتبه المختصرات
لطال جدا فضلا عن المبسوطات وله مصنفات أخر لا يمكن أن يطلع عليها إلا من تحقق أنه على عقيدته الخبيثة ولو عصر هو وأتباعه بالعاصرات لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه لأخرجه من قبره وأحرقه وأكد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه وما أفتى به مخالفا لجميع المذاهب وما خطيء فيه وما انتقد عليه وأذكر بعض ما اتفق له من المجالس والمناظرات وما جاءت به المراسيم العاليات وأتعرض لبعض ما سلكه من المكايد التي ظن بسببها أنه يخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات وهيهات فأول شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمي إلى مذهب الإمام أحمد وشرع بطلب العلم ويتعبد فمالت إليه قلوب المشايخ فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه فأظهر التعفف فزادوا في الرغبة فيه والوقوع عليه ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلق في مسوداته حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة وإخذ يدون ويذكر أنه جاءه إستفتاء من بلد كذا وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلا أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلا حاذق عالم متفنن فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلا ذلك المتفنن الفطن ثم مع ذلك شرع يتلقى الناس بالانس وبسط الوجه ولين الكلام ويذكر أشياء تحلو للنفس لا سيما الألفاظ العذبة مع (1/34)
إشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فطلبوا منه أن يذكر الناس ففعل فطار ذكره بالعلم والتعبد والتعفف ففزع الناس إليه بالأسئلة فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة قال له عاودني فيها فإذا جاءه قال هذه مسألة مشكلة ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلدها في عنقي فيقول أنا أوفي لك فيقول أن تكتم على فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك فيفتيه بما فيه فرجه حتى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض ثم أنه علم ان ذلك لا يخلصه إلا كان في بعض المجالس قال إنا لله وإنا إليه راجعون قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد إرتتاقها ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلانا وزيرا وفلانا محتسبا وفلانا دويدارا وفلانا أمير البلد فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب فكانوا يقومون في نصرته ثم أعلم أن مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصا منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس فيقول له عقيدة أمامك فإذا قال كذا وكذا قال أشهد أنها حق وأنا مخطيء وأشهدوا أني على عقيدة أمامك وهذا كان سبب عدم إراقة دمه فإذا أنفض المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه وأنه قطع الجميع ألا ترون كيف خرج سالما حتى حصل بسبب ذلك إفتتان خلق كثير لا سيما من العوام فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكرا فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عزوجل في سجن الزندقة والكفر ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن حقا كان أو باطلا ولو بالإيمان الفاجرة سواء كانت بالله عزوجل أو بغيره وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز وهذا مذهب فرقة الشيعة فإنهم لا يرونه شيئا وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خزعبلات ومكر وإلا فهو لا يوقع طلاقا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه سواء كان حثا أو منعا أو تحقيق خبر فاعرف ذلك وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة وقد وقفت على مصنف له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له يا هذا (1/35)
أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول إبن تيمية فقال اشهد على أني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية فنسأل الله العافية من المخادعة فإنها صفة أهل الدرك الأسفل ثم أعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الأعناق مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم حتى أنهم لا ينطقون بشيء من عقائدهم الخبيثة إلا في الأماكن الخفية بعد التحرز وغلق الأبواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة ويقولون أن للحيطان آذانا ومن جملة مكرهم وتحيلهم أن الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث له أتباع يظهرون له العلم والعظمة والتعبد والتعفف يخدعون بذلك أرباب الأموال لا سيما الغرباء فيدفع ذلك الغريب أو غيره إلى ذلك الشيخ شيئا فيأبي ويظهر التعفف فيزداد ذلك الرجل حرصا على الدفع فلا يأخذ منه إلا بعد جهد فيأخذها ذلك الخبيث ولا عليه من إطلاع الله تعالى على خبث طويته ويدفع بعضها إلى بعض أتباعه وإلى غيرهم ويتمتع هو وخواصه بالباقي ولهم يد وقدرة على ذلك ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصانا أو غيرها ثم يقولون انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه وهكذا كان السلف ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع وكثير من الناس في غفلة من هذا ولولا أن ذلك من جملة النصيحة لما ذكرته ولما تعرضت له وكان ما في نفسي شاغلا عن ذلك إلا أنه كما قال إبن عباس رضي الله عنهما بسبب نجدة الحروري المبتدع لو لا أن أكتم علما لما كتبت إليه يعني جواب ما كتب إليه بأن يعلمه مسائل والقصة مشهورة حتى في صحيح مسلم وقال (1/36)
من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار رواه غير واحد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه منهم أبوداود وكذا الترمذي وحسنه والحاكم وصححه
ثم ان كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمة بدفعة إليهم لأنهم ليسوا من أهلها فليتنبه لذلك فإنه قد يخفي مع ظهوره وقد تشكك في ذلك وتلاعب الشيطان به فلنأخذ بجانب الإحتياط منه فإنه طريق السلامة والله أعلم وأعلم أني أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر لكان لي في ذلك مزيد وكثرة وفيما ذكرته أنموذج ينبه بعضه على غيره لا سيما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره التي أشار إليها رسول الله وبعضها صرح به تصريحا ظاهرا لا يخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة وفي صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه قال سمعت النبي يقول يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء وليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وفي الصحيحين من حديث إبن عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي يقول وهو على المنبر ألا إن الفتنة هنا ويشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان وفي رواية إن الفتنة ههنا ثلاثا وفي رواية خرج رسول الله من بيت عائشة رضي الله عنها فقال رأس الكفر ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان وهذا المبتدع من حران الشرق بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع كجعد وغيره وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري وأنس رضي الله عنهما أنه قال سيكون في أمتي إختلاف وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية هم شر الخلق طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم قالوا يا رسول الله وما سيماهم قال التحليق (1/37)
والتسبيد فإذا رأيتموهم فأنيموهم أي اقتلوهم والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر وقيل ترك التدهن وغسل الرأس وغير ذلك والأحاديث في ذلك كثيرة وفي واحد كفاية لمن أراد الله عزوجل به الرشد والهداية فقد أوضحهم سيد الناصحين بإعتبار أوصافهم وأماكنهم إيضاحا جليا لا خفاء فيه ولا جهالة فلا يتوقف في معرفتهم بعد ذلك إلا من أراد الله تعالى إضلاله وإذا تمهد لك هذا أيها الراغب في فكاك نفسك من ربقة عقائد أهل الزيغ الضالين المضلين والإقتداء بأهل السلامة في الدين
فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ المتتبع ما تشابه في الكتاب والسنة إبتغاء الفتنة وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن أراد الله عزوجل إهلاكه فوجدت فيه مالا أقدر على النطق به ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره لما فيه من تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين وكذا الإزدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين فمنه ما دون في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم العليات وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات والقضايا المهمات وتضمنه الفتاوي الزكيات من دنس أهل الجهالات ولم يختلف عليه أحد كما إشتهر بالقراءة والمناداة على رءؤس الأشهاد في المجامع الجامعة حتى شاع وذاع وإتسع به الباع حتى في الفلوات فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون رحمه الله تعالى وقرئ على منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة صورته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير
وتعالى عن المثل فقال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
أحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنة والكتاب
ورفع في أيامنا أسباب الشك والإرتياب
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير
وينزه خالقه عن التحيز في جهة لقوله تعالى وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته وأمر بالتفكر في الآيات ونهى عن التفكر في ذاته وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان وإرتفع وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع وبعد فإن القواعد الشرعية وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العلمية ومذاهب الدين المرضية هي الأساس الذي يبنى عليه والموئل الذي يرجع كل أحد إليه والطريق التي من سلكها فاز فوزا عظيما ومن زاغ عنها فقد إستوجب عذابا أليما ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الأمة عن الإختلاف وتزان بالرحمة والعطف والإئتلاف وتخمد ثوائر البدع ويفرق من فرقها ما إجتمع وكان إبن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومد بجهله عنان كلمه وتحدث بمسائل الذات والصفات ونص في كلامه الفاسد على أمور منكرات وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون وفاه بما إجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وإنعقد على خلافة إجماع العلماء والحكام وشهر من فتاويه ما إستخف به عقول العوام وخالف في ذلك فقهاء عصره وأعلام علماء شامه ومصره وبث به رسائله إلى كل مكان وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان ولما إتصل بنا ذلك وما سلك به هو ومريدوه من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه وعلمنا أنه إستخف قومه فأطاعوه حتى إتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم فقمنا في نصرة الله مشفقين من هذا النبأ العظيم وأنكرنا هذه البدعة وعزنا أن يشيع عمن تضمنه ممالكه هذه السمعة وكرهنا ما فاه به المبطلون وتلونا قوله تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون فإنه سبحانه وتعالى تنزه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير فتقدمت مراسيمنا بإستدعاء إبن تيمية (1/38)
المذكور إلى أبوابنا حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا قوله تعالى لقد جئت شيئا نكرا ولما وصل إلينا الجمع اولوا العقد والحل وذوو التحقيق والنقل وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام وعلماء المسلمين وأئمة الدنيا والدين وعقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمة وجمع
ومن له دراية في مجال النظر ودفع
فثبت عندهم جميع ما نسب إليه
بقول من يعتمد ويعول عليه
وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون
وآخذوه بما شهد به قلمه تالين ستكتب شهادتهم ويسألون وبلغنا أنه قد استتيب مرارا فيما تقدم وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك
وأقدم
ثم عاد بعد منعه
ولم يدخل ذلك في سمعه
ولما ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور
ويمنع من التصرف والظهور
ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك
وينهى عن التشبيه في إعتقاد مثل ذلك
أو يعود له في هذا القول متبعا
أو لهذه الألفاظ مستمعا
أو يسري في التشبيه مسراه
أو يفوه بجهة العلو بما فاه
أو يتحدث أحد بحرف أو صوت
أو يفوه بذلك إلى الموت
أو ينطق بتجسيم
أو يحيد عن الطريق المستقيم
أو يخرج عن رأي الأئمة
أو ينفرد به عن علماء الأمة
أو يحيز الله سبحانه وتعالى في جهة أو يتعرض إلى حيث وكيف
فليس لمعتقد هذا إلا السيف
فليقف كل واحد عند هذا الحد
ولله الأمر من قبل ومن بعد
وليلزم كل واحد من الحنابلة بالرجوع عن كل ما أنكره الأئمة من هذه العقيدة
والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة
ولزوم ما أمر الله تعالى به والتمسك بمسالك أهل الإيمان الحميدة
فانه من خرج عن أمر الله فقد ضل سواء السبيل
ومثل هذا ليس له إلا التنكيل
والسجن الطويل مستقره ومقيله وبئس المقيل
وقد رسمنا بأن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية
وتلك الجهات الدنية والقصية بالنهي الشديد
والتخويف والتهديد
لمن إتبع إبن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه
ومن تابعه تركناه في مثل مكانه (1/40)
وأحللناه
ووضعنا من عيون الأمة كما وضعناه
ومن أصر على الإمتناع
وأبى إلا الدفاع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم
وإسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم
وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية
ولا شهادة ولا امامة
بل ولا مرتبة ولا إقامة
فإنا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد
وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضل بها كثيرا من العباد أو كاد
بل كم أضل بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد
ولنثبيت المحاضر الشرعية
على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاة المالكية
وقد أعذرنا وحذرنا
وأنصفنا حيث أنذرنا
وليقرأ مرسومنا الشريف على المنابر
ليكون أبلغ واعظ وزاجر
لكل باد وحاضر
والإعتماد على الخط الشريف أعلاه
وكتب ثامن عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة
وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب عيون التواريخ وهو إبن شاكر ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي وكان من أتباع إبن تيمية وضرب الضرب البليغ لكونه قال المؤذن في مأذنه العروس وقت السحر أشركت حين قال
ألا يا رسول الله أنت وسيلتي ... إلى الله في غفران ذنبي وزلتي
وأرادوا واضرب عنقه ثم جددوا إسلامه وإنما أذكر ما قاله لأنه أبلغ في حق إبن تيمية في إقامة الحجة عليه مع أنه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته والعجب أن إبن تيمية ذكرها وهو سكت عنها
كلام إبن تيمية في الإستواء ووثوب الناس عليه
فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن على الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه قال كنا جلوسا في مجلس إبن تيمية فذكر ووعظ وتعرض لآيات الإستواء ثم قال واستوى الله على عرشه كإستوائي هذا قال فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي وبادروا إليه ضربا للكم والنعال وغير ذلك حتى أوصلوه إلى بعض الحكام وإجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا ما الدليل على ما صدر منك فقال قوله تعالى الرحمن على العرش استوى (1/41)
فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل لا يجري على قواعد العلم ثم نقلوه ليتحققوا أمره فقالوا ما تقول في قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله فأجاب بأجوبة تحققوا أنه من الجهلة على التحقيق وأنه لا يدري ما يقول وكان قد غره بنفسه ثناء العوام عليه وكذا الجامدين من الفقهاء العارين عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدلة على الوجه المرضي وقد رأيت في فتاويه ما يتعلق بمسألة الإستواء وقد أطنب فيها وذكر أمورا كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن رؤية ظن أنها على منوال مرضي ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا هذه عبارته بحروفها فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت وهذه الجرأة بالكذب على الله تعالى أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه فوق العرش ومحتجا بلفظ الإستواء الذي هو موضوع بالإشتراك ومن قبيل المجمل وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقق به جهله وفساد تصوره وبلادته وكان بعضهم يسميه حاطب ليل وبعضهم يسميه الهدار المهدار وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن على بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة عن شيخه الذي تلقاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرف بالإسلام وهو من أعظم الناس عداوة للنبي وقتل على رضي الله عنه واحد منهم تكلم في مجلسه كلمة فيها إزدراء بالنبي وقد وقفت على المسألة أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ليزدروه بها وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الإشتقاق وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء فتصدى لهم الجهابذة من العلماء وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والإستعمال الشرعي والعرفي وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق ولم يبق منهم إلا الضعفاء في العلم ودامت فيهم مسألة (1/42)
التفرقة حتى تلقاها إبن تيمية عن شيخه وكنت أظن أنه ابتكرها واتفق الحذاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصورها
عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم
ولنرجع إلى ما ذكره إبن شاكر في تاريخه ذكره في الجزء العشرين وقال وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق فسئل إبن تيمية عن عقيدته فأملي شيئا منها ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس ثان ثم إجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا ثم اتفقوا على أن كمال الدين بن الزملكاني يحاقق إبن تيمية ورضوا كلهم بذلك فافحم كمال الدين إبن تيمية وخاف إبن تيمية على نفسه فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي فرضوا منه بذلك وانصرفوا ثم إن أصحاب إبن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم وأن الحق معه فأحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا إبن تيمية وصفع ورسم تعزيره فشفع فيه وكذلك فعل الحنفي بإثنين من إصحاب إبن تيمية ثم قال ولما كان سلخ رجب جمعوا القضاة والفقهاء وعقد مجلس بالميدان أيضا وحضر نائب السلطنة أيضا وتباحثوا في أمر العقيدة وسلك معهم المسلك الأول فلما كان بعد أيام ورد مرسوم السلطان صحبة بريدي من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبإبن تيمية وفي الكتاب تعرفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة إبن تيمية فطلبوا الناس وسألوهم عما جرى لابن تيمية في أيام نقل عنه فيها كلام قاله وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين وتحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر فأجب فلما كان ثاني يوم وصلى مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر وأخبر أن الطلب على إبن تيمية كثير وأن القاضي المالكي قائم في قضيته قياما عظيما وأخبروا بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية وأن بعضهم صفع فلما سمع ملك الأمراء بذلك انحلت عزائمه عن المكاتبة وسير شمس الدين بن محمد المهمندار إلى إبن تيمية وقال له قد رسم مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غدا وكذلك راح إلى قاضي القضاة فشرعوا في التجهيز وسافر صحبة إبن (1/43)
تيمية أخواه عبد الله وعبد الرحمن وسافر معهم جماعة من أصحاب إبن تيمية وفي سابع شوال وصل البريدي إلى دمشق واخبر بوصولهم إلى الديار المصرية وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء فتكلم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادعى على إبن تيمية في أمر العقيدة فذكر منها فصولا فشرع إبن تيمية فحمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلم بما يقتضي الوعظ فقيل له يا شيخ إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك وقد ادعى عليك بدعوى شرعية فأجب فأراد إبن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكنوه من ذلك بل قيل له أجب فتوقف وكرر عليه القول مرارا فلم يزدهم علىى ذلك شيئا وطال الأمر فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه فحبسوه في برج من أبراج القلعة فتردد إليه جماعة من الأمراء فسمع القاضي بذلك فاجتمع بالأمراء وقال يجب عليه التضييق إذا لم يقتل وإلا فقد وجب قتله وثبت كفره فنقلوه إلى الجب بقلعة الجبل ونقلوا اخويه معه بإهانة وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي وحضر القراء والمنشدون وأنشدت التهاني وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة فلما كان بعد أيام عرضها عليه فرسم ملك الأمراء بقراءتها والعمل بما فيها إمتثالا للمراسيم السلطانية وكانوا قد بيتوا على الحنابلة كلهم بان يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموى بعد الصلاة وحضر القضاة كلهم بالمقصورة وحضر معهم الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلائي وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري الذي حضر معه من مصر بإستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم وقريء عقيبه الكتاب الذي وصل على يديه وفيه ما يتعلق بمخالفة إبن تيمية في عقيدته وإلزام الناس بذلك خصوصا الحنابلة والوعيد الشديد عليهم والعزل من المناصب والحبس وأخذ المال والروح لخروجهم بهذه العقيدة عن الملة المحمدية ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدم وتولى قراءته شمس الدين محمد بن شهاب الدين الموقع وبلغ عنه الناس إبن صبح المؤذن وقرئ بعده تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابه واحضروا بعد القراءة الحنابلة مهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة واعترفوا أنهم (1/44)
يعتقدون ما يعتقده محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يفتي بها إبن تيمية وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء وحضر إبن تيمية وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قبل مرسوم السلطان ولا حكم الحكام بمنعه فأنكر فحضر خمسة نفرفذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك فأنكر وصمم على الإنكار فحضر إبن طليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحاما إسمه قمر مسلماني في بستان إبن منجا فقيل لإبن تيمية اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا يعيرها فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها فقال القاضي نجم الدين بن صصري حكمت بحبسك وإعتقالك فقال له حكمك باطل لأنك عدوي فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء أفرج عن ابن تيمية من حبسه بقلعة دمشق وكانت مدة إعتقاله خمسة أشهر ونصف وفي سنة إثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر من شعبان قدم بريدي من الديار المصرية ومعه مرسوم شريف بإعتقال إبن تيمية فاعتقل في قلعة دمشق وكان السبب في إعتقاله وحبسه أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وإن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي ثم إن الشاميين كتبوا فتيا أيضا في إبن تيمية لكونه أول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء وآخر القول أنه أفتى بتكفيره ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه كذلك المالكي وكذلك كتب غيرهم ووقع الإتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلسا ويجمع العلماء والقضاة فرأي أن الأمر يتسع فيه الكلام ولا بد من إعلام السلطان بما وقع فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعة وسيرها فجمع السلطان لها القضاة فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القاضي بدر الدين بن جماعة وكتب عليها القائل بهذه المقالة ضال مبتدع ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعا عليه ثم كتب كتاب إلى دمشق بما يعتمده (1/45)
نائب السلطنة في أمره وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان إلى نائب البلد وأمره أن يقرأ على السدة في يوم الجمعة فقريء وكان قارئ الكتاب بدر الدين بن الأعزازي الموقع والمبلغ إبن النجيبي المؤذن ومضمون الكتاب بعد البسملة أدام الله تعالى نعمه ونوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهزها بسبب إبن تيمية فوقفنا عليها وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء وعقدنا بهذا السبب مجلسا بين أيدينا الشريفة ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء فذكروا جميعا من غير خلف أن الذي أفتى به إبن تيمية في ذلك خطأ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوي مطلقا وكتبوا خطوطهم بين أيدينا على ظاهر الفتوى المجهزة بنسخة ما كتبه ابن تيمية وقد جهزنا إلى الجناب العالى طي هذه المكاتبة فيقف على حكم ما كتب به القضاة الأربعة ويتقدم إعتقال المذكور في قلعة دمشق ويمنع من الفتوى مطلقا ويمنع الناس من الإجتماع به والتردد إليه تضييقا عليه لجرأته على هذه الفتوى فيحيط به علمك الكريم ويكون إعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه فإنه في كل وقت يحدث للناس شيئا منكرا وزندقة يشغل خواطر الناس بها ويفسد على العوام عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم فيمنع ما ذلك وتسد الذريعة منه فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره به وإذا إعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الإعتماد الذي رسمنا به في أمر إبن تيمية فيتقدم منع من سلك مسالكه أو يفتي بهذه الفتاوي أو يعمل بها في أمر الطلاق أو هذه القضايا المستحدثة وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر حاله فإن كان من مشايخ العلماء فيعزر تعزير مثله وإن كان من الشبان الذين يقصدون الظهور كما يقصده إبن تيمية فيؤديهم ويردعهم ردعا بليغا ويعتمد في أمر ما يجسم به مواد أمثاله لتقسيم أحوال الناس وتمشي على السداد ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع ويبتدع في دين الله عزوجل من أنواع الإقتراح ما لم يسبقه أحد إليه فالجناب العالى يعتمد هذه الأمور التي عرفناه إياها الآن وسد الذرائع فيها وقد عجلنا بهذا الكتاب وبقية فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله
وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين (1/46)
سبعمائة صورة الفتوى من المنقول من خط القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى
الحمد لله هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي فضيلة وسنة مجمع عليها وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند الأئمة والعلماء ويمنع من الفتاوي الغريبة ويجلس إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الإقتداء به وكتبه محمد بن إبراهيم إبن سعد الله بن جماعة الشافعي وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي لكن يحبس الآن جزما مطلقا وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد وكذلك أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا لرسول غيره عظيمة وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه وأهانوه ووضعوه في السجن
وذكر الشيخ الإمام العلامة شمس الدين الذهبي بعض محنته وأن بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة وكان سؤالهم عن عقيدته وعما ذكر في الواسطة وطلب وصورت عليه دعوى المالكي فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهرا ثم أخرج ثم حبس في حبس الحاكم وكان مما ادعى عليه بمصر أن قال الرحمن على العرش استوى حقيقة وأنه تكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة إبن تيمية حل ماله ودمه وذكر أبو حيان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر في قوله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض ما صورته وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش إن الله يجلس على الكرسي وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه (1/47)
رسول الله تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق وكان من تحيله عليه أنه ظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه
ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين وفي كتابه المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه بعد أن قرر ما يتعلق بالصفات المتعلقة بالخالق والمخلوق ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قادر لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد لأن المفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه أنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك ذلك أن ظاهره غيره مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا هذه عبارته بحروفها وهي صريحة في التشبيه المساوي كما أنه جعل الإستواء على العرش مثل قوله تعالى لتستووا على ظهوره تعالى الله وتقدس عن ذلك وقال في الكلام على حديث النزول المشهور إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعلان من ذهب هذه عبارته الزائغة الركيكة وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه حريصا على ظاهرها وإعتقادها وإبطال ما نزه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه وأمر به عموما وخصوصا وذكره إخبارا عن الملأ الاعلى والكون العلوى والسفلي ومن تأمل القرآن وجده مشحونا بذلك وهذا الخبيث لا يعرج على ما فيه التنزيه وانما يتتبع المتشابه ويمعن الكلام فيه وذلك من أقوى الأدلة على أنه من أعظم الزائغين ومن له أدنى بصيرة لا يتوقف فيما قلته إذ القرائن لها إعتبار في الكتاب والسنة وتفيد القطع وتفيد ترتب الأحكام الشرعية لا سيما في محل الشبه قال بعض السلف رضي الله عنهم الأعراض عن الحق والتسخط له علامة الركون إلى الباطل وطريق الحق دقيق وبعيد والصبر معه شديد والعدو لا يزال عنه يحيد وأثقال الحق لا يحملها إلا مطايا الحق وقال بعض السلف داعي الحق داعي رشد ليس للشيطان فيه يد ولا للنفس فيه نصيب داعي الباطل من نزعات الشيطان وهوى النفس ومتبعها هالك لا محالة لأنه عاص في صورة طائع ومبعد في صورة مقرب وصدق ونصح رضي الله عنه فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يحصون عدا ولا يمكن ضبطهم حدا قال العلماء أن وسوسة التشبيه من إبليس فالرد عليه وإبطال وسوسته أن يقول في نفسه كل ما تصور في صدري فالرب بخلافة فإنه لا يتصور في صدري إلا مخلوق له كيفية ومثل والرب (1/48)
سبحانه وتعالى لا مثل له ولا كيفية فما مثل في صدري فهو غير ربي فهو سبحانه وتعالى موحد الذات والصفات وسئل علي رضي الله عنه عن التوحيد والعدل فقال التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه وقال يحيى بن معاذ التوحيد في كلمة واحدة ما تصور في الأوهام فهو بخلافه وقال علي رضي الله عنه ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود وقال رضي الله عنه أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات المحدثة عنه فمن وصفه بحادث فقد قرنه
ومن قرنه فقد فناه ومن قناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن أشار إليه فقد حده ومن حده فقد عده قال المحققون من أعتقد في الله سبحانه وتعالى ما يليق بطبعه فهو مشبه لأنه سبحانه وتعالى منزه عما يصفة به أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحدث وسئل أعني عليا رضي الله عنه بم عرفت ربك فقال عرفته بما عرف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شيء ولا يقال تحته شيء وامام كل شيء ولا يقال أمامه شيء وهو في كل شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره وقال أيضا رضي الله عنه عرفنا الله سبحانه وتعالى نفسه بلا كيف وبعث سيدنا محمد بتبليغ القرآن وبيان المفصلات للإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقته بما جاء به وقال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل قال جعفر في قوله تعالى قل هو الله أحد هو الذي لم يعط لأحد من معرفته غير الإسم والصفة وقيل هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته إلا هو وقوله تعالى الله الصمد قيل هو الذي أيست العقول من أن تطلع عليه أو تدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه وقيل هو السيد الذي لا نهاية لسؤدده وقيل هو المصمود إليه في الحوائج وقيل هو الذي لا يستغني عنه شيء من الأشياء وقال إبن عباس رضي الله عنه معناه الذي لا جوف له وقيل غير ذلك وقوله لم يلد ولم يولد نفي الجنسية والبعضه وقوله ولم يكن له كفوا أحد نفي (1/49)
الشريك والنظير فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فتعالى أن تدركه الأوهام والعقول والعلوم بل هو كما وصف نفسه والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة كيف يكون ذلك وهو قديم الذات والصفات والتخيل إنما يكون في المحدثات وسئل الإمام العلامة أبو الحسن الدينوري عن الإستدلال بالشاهد على الغائب فقال كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يشاهد ولا يعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور فجعلوا الآيات صفات ومعنى الآيات العلامات وهو كلام إمام محقق وقد زل خلق كثير بمثل ذلك فسبحان الأحدي الذات العلي الصفات المنزه عن الالآت المقدس عن الكيفيات المنزه عن مشابهة المخلوقات تعالى عما يقوله من الإلحاقات كيف يقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات وهي من آياته البينات الظاهرات رفع السموات وبسط الأرض وثبتها بالاوتاد الراسيات وأتحفها بالمزن الماطرات فزهت بأنواع النباتات المختلفات كذلك يحيى الموتى
إعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات قال أرباب البصائر وذوو التحقيقات ليس كذاته ذات ولا كإسمه إسم من جهة المعنى ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلا من جهة مواقفه اللفظ وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة وأن التكرار من حدوث الصفة جل ربنا أن يحدث له صفة أو إسم إذ لم يزل بجميع صفاته واحدا ولا يزال كذلك وكل أمور التوحيد والتفريد خرجت من هذه الكلمة ليس كمثله شيء لأنه ما عبر عن الحقيقة بشي إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة لأن الحق لا ينبعث اقداره إلا على إقراره لأن كل ناعت مشرف على المنعوت وجل ربنا أن يشرف عليه مخلوق
احتجب عن خلقه بخلقه ثم عرفهم صنعه بصنعه وساقهم إلى أمره بأمره فلا يمكن الأوهام أن تناله ولا العقول أن تختاله ولا الأبصار أن تمثله ولا الأسماع (1/50)
أن تستمله والاماني أن تمتحنه هو الذي لا قبل له ولا مقصر عنه ولا معدل ولا غاية وراءه ولا مثل ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا إنقضاء ولا يستره حجاب ولا يقله مكان ولا يحويه هواء ولا يحتاطه فضاء ولا يتضمنه خلاء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال إبن عباس رضي الله عنهما معنى الآية ليس له نظير وقيل الكاف صلة أعني زائدة فالمعنى ليس مثله شيء وقيل المثل صلة فالمعنى ليس كهو شيء فأدخل المثل للتأكيد فمن الجهل البين أن يطلب العبد درك مالا يدرك وأن يتصور مالا يتصور كيف وقد نزه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحواس
أو يتصور بالعقل الحادث والقياس فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل
ويدركه من جهة الدليل
فكل ما يتوهمه العقل فهو جسم ولا نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة ومن الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى الله عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدثين وهو الأول قبل سوابق العدم
الأبدي بعد لواحق القدم
ليس كذاته ذات
ولا كصفاته صفات جئت الذات القديمة الواجبة الوجود التي لم تسبق بقدم أن تكون كالصفة الحديثة قال تعالى أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فهو سبحانه وتعالى إحتجب عن العقول والإفهام كما إحتجب عن الإدراك والإبصار فعجز الخلق عن الدرك والدرك عن الإستنباط وانتهى المخلوق إلى مثله وأسنده الطلب إلى شكله قال الصديق رضي الله عنه العجز عن درك الإدراك إدراك وقال رضي الله عنه سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته وكذلك علوه وإستواءه إذ الصفة تتبع الموصوف فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات فكذلك حقيقة صفاته فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم (1/51)
للحق من يشبه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا لأنه سبحانه وتعالى وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة وقد قيل في قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره أي ما وصفوه حق وصفه وقيل ما عظموه حق عظمته وقيل ما عرفوه حق معرفته وقيل غير ذلك قال بعض أهل المعاني والقلوب لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدرة الوسائط والرسل والأولياء والصديقون ثم قال ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه إلى غيره ولا نغفل عن ذكره ولا تفتر عن طاعته إذا ذاك عرفت قدر ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو وصدق لأن الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقه من كمال صفاته وعظم ذاته ولهذا نزه سبحانه نفسه بقوله سبحان ربك رب العزة عما يصفون وفي هذا غاية الحث على كثرة التنزيه ودوامه مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى مع غير ذلك مما في أشرف الكتب مما أذكر بعضه
فقوله سبح إسم ربك أي قل سبحان ربي الأعلى والمعنى نزه إسم ربك وأذكره وأنت له معظم وقيل نزه عن المعاني المفضية إلى نقصه وقيل نزه إسمه عن الكذب إذا أقسمت به وقيل لفظ إسم زائد وفي الكلام حذف المعنى نزه مسمى ربك الذي خلق فسوى أي مخلوقه بأن خلقه مستويا بلا تفاوت فيه وفي أعضائه وغير ذلك من مخلوقاته فإن من هذا من بعض مصنوعاته يستحق التنزيه فكيف بمخلوقات أخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها وكلها على إختلاف أجناسها وأنواعها كل يسبحه بلغته وبما يليق بجلاله قال تعالى تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وان من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وقال والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه قال مجاهد تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقه من كمال صفات عظم ذاته قيل يفقه تسبيحهم العلماء الربانيون الذين إنفتحت أسماع بصائرهم والمنورون البصائر للذين يشاهدون كل شيء مرموقا عليه بقلم القدرة هو الملك القدوس وقال مجاهد كل الأشياء تسبح حيوانا وجمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده وروى إبن السني أنه قال ما تستقبل (1/52)
الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلا سبح الله تعالى وحمده إلا ما كان من الشيطان أغبياء بني آدم فقيل ما أغبياء بني آدم فقال شرار الخلق وقال شهيب بن حوشب حملة العرش ثمانية أربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وقال هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس فالملك إسم من أسمائه تعالى وكذا مليك وهو صفة مبالغة في الملك قال تعالى عند مليك مقتدر فالملك هو المستغني عن كل شيء ويفتقر إليه كل شيء ونافذ حكمه في مملكته طوعا أو كرها وقيل هو القادر على الإبداع والإنشاء والإعدام وهذا على الحقيقة لا يكون إلا الله عزوجل أبدع المكونات العلويات والسفليات الجليات والخفيات أبدعها بقدرته ورتبها على إختلاف أطوارها بحكمته فكل ما برز فهو مقهور الوجود بكن
وكل ما إنعدم فهو مقهور العدم بكن وبهذا يعلم أن إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازى إذا المملوك لا يكون مالكا لأن من هو تحت قهر الأغيار فهو كالعدم ولهذا لما تحقق أرباب القلوب أن الملك لله عزوجل تحققا قلبيا سكنت أنفسهم عن وصف الإضافات وتبرءوا من الحول والقوة حتى بالإشارات فلا يقول مني ولا لي حتى قيل لبعضهم ألك رب فقال أنا عبد وليس لي نملة ومن أنا حتى أقول لي فهذا وأمثاله صفى نفسه عن رعونة البشرية وهواها وفك ربقة رق خيالاتها الباطلة ومناها ومحض رق العبودية لمولاها فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذللون له ولهذا تتمات ليس هذا المقام مقامها إذ الغرض التنزيه والقدوس من أسمائه عزوجل سمى نفسه بذلك ليرشدك إلى تقديسه كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون وفيه الحث على دوام التقديس فالقدوس قيل هو المنزه عما لا يليق به من الأضداد والأنداد وقيل هو المنزه والمطهر من النقائص والعيوب وهاتان غير مرضيين عند المحققين قال حجة الإسلام الغواص الغزالي وهذا في حق الباري سبحانه وتعالى يقارب ترك الأدب كما أنه ليس من الأدب أن يقال لملك ليس بحائك ولا بحجام لأن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص بل القدوس المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره وهم أو يسبق إليه فكر (1/53)
أو يهجس به سر أو يختلج به ضميرا أو يسنح له خفي خيال وقد أجاد رضي الله عنه وههنا فائدة جليلة للمنزه والمشبه وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظا وافرا من تكرير هذا الإسم والإمعان في معناه فإن كان منزها عطف لك عليه وقدس نفسه وقلبه وبدنه أما نفسه فيطهرها من الأوهام المذمومة كالغضب والحقد والحسد والغش وسوء الظن والكبر وحب الشرف والعلو وحب الدنيا ولوازمها وغير ذلك ويبدلها بالأوصاف المحمودة فيطهرها أيضا عن العاهات والشهوات وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات إذ هي أزمة الشيطان يقود بها إلى إرتكاب الموبقات وأما القلب فيطهره بالعقد الصحيح المطابق الجازم وبالمبادرة إلى لإمتثال الأوامر وإجتناب النواهي والأهواء وتحقيق الإخلاص نية وقولا وعملا وبالرضى بما جرى فلا يأسف على فائت ولا يفرح بأت وذلك يرجع إللا ذوق حلاوة الإيمان القلبي لا العملي وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الأكوان ولا يرى الأغيار إلا على العدم الإصلي فلا يتحرك في ظاهره ولا باطنه حتى في أنفاسه إلا بالله عزوجل وأما البدن فيطهره بماء الجوع ويكفنه بدوام التقشف ويحنطه بالعزلة ويطيبه بدوام الذكر والفكر ويدفنه في لحد الخوف فإذا قدسه بذلك ذهب مغناه وبقي معناه فإذا إجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع ولاح له خزائن أسرار الآيات في معارج ترداد الآيات فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات فيثمر له ذلك الشوق إلى رؤية مطلوبه فلا شيئ أشهى إليه من الموت لأنه لا سبيل إلى الوصول إلى محبوبه إلا به فمن أراد أن يجلسه في حضرة القدس على منابر التقديس فليجر على هذا التأسيس ومر إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه بسكران مطروح على قارعة الطريق وقد تقيأ فنظر إليه وقال بأي لسان أصابته هذه الآفة وطهر فمه ومضى فلما أفاق السكران أخبر بما فعله إبراهيم فخجل وتاب وحسنت توبته فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأن قائلا يقول غسلت لأجلنا فمه فلا جرم أنا طهرنا لأجلك قلبه وأما المشبه والمجسم فلأنه بتكرار هذا الإسم يتعقل معناه فيضيء له نوره فينكشف له حجاب الضلال فإذا حقق المعنى المراد منه ظهر له نوره فأحرق حجاب الضلال فصفى قلبه للحق وزاح الباطل وقد وقع ذلك لبعض الغلاة في التشبيه والتجسيم مر يوما على هذه الآية هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس (1/54)
فكرر هذا الإسم وتعقل معناه فقال والله إنا لفي ضلال مبين بين فبادر في الحال وأتى بالشهادتين وقال والله لا يخلصني إلا إستئناف العمل
فأنظر أرشدك الله تعالى إلى بركة تكرير هذا الإسم العظيم في حق أهل التنزيه والتشبيه والله أعلم
ثم تمام التقديس لا يحصل إلا بالتمكن بعد كمال التوحيد وحقيقة التوحيد تكون بإعتبار الذات وبإعتبار الفعل فتوحيد الذات ينفي الحدوث وثبوت الأحدية ينفي الأضداد وثبوت الذات ينفي التشبيه ويحير العقل في بحر الإدراك وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور ثم الإستغراق في أنوار العظمة فيغيب بذلك عن الموجودات وتبقى القدرة بارزة بأسرار التوحيد ثم الإستغراق في أنوار المحو فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر ومن مقدوراته جل وعلا ما ذكره في قوله تعالى يوم يقوم الروح قال أبو الفرج بن الجوزي روى عن علي رضي الله عنه في تفسيرها أن الروح ملك عظيم له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله عزوجل من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة وقال إبن مسعود رضي الله عنه الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرضين والجبال والملائكة يسبح كل يوم ألف ألف تسبيحة يخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا والملائكة بأسرهم يجيئون صفا قال إبن عباس وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه في ظهر الكعبة ولو أذن الله عزوجل له أن يلتقم السموات والأرض لفعل وقيل الروح هنا جبريل عليه الصلاة و السلام وقيل هو ملك ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه وقيل غير ذلك روى أنه قال رأيت علي كل ورقة من السدرة ملكا قائما يسبح الله عزوجل ومراده سدرة المنتهى سميت بذلك لأنها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم ولا يعلم ما وراءها إلا الله عزوجل وهي شجرة نبق على يمين العرش عندها جنة المأوى يأوي إليها الملائكة عليهم السلام وقيل أرواح الشهداء وقيل أرواح المتقين وقال الله تعالى تبارك إسم ربك ذي الجلال والإكرام معنى تبارك جلا وعظم ومعنى ذي الجلال المستحق للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال جل أن يعرف جلاله غيره تنزه وعظم شأنه عما يقول (1/55)
فيه المبطلون لأن كل شيء يثنى عليه بقدرته وكل ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه والحق جل جلاله ذكره خارج عن أوهام الآدميين لأن الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء والمعارف دون الغايات الجلالية فسبحانه ما اثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطى من جوامع الكلم لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما الإكرام فمعناه ذو الانعام والمنن على العام والخاص والطائع والعاصي ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالكريم في قوله ما غرك بربك الكريم قال عمر رضي الله عنه لو قيل لي ما غرك بي لقلت جهلي بك غيري والكريم هو الذي إذا قدر عفا وإذا وعد وفى وقيل هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي لمن أعطى وكم أعطى ولا يضيع من لاذ به والتجا وقيل هو الذي يغني السائل عن الوسائل والشفعاء وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى وقيل هو الذي إذا أبصر خللا جبره وما أظهره وإذا أولى فضلا أجز له ثم ستره وقيل غير ذلك كما تأمل القرآن الكريم وجده مشحونا بالتقديس والإجلال والتعظيم وناطقا بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم والحيدة عن الصراط المستقيم وطريقة السلامة في ذلك أن من أشكل عليه شيء من المتشابه في الكتاب والسنة فليقل كما أخبره سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ويقول كما قال في الحديث وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه خرجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ويقول كما قاله الشافعي آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله والراسخ في العلم هو من طولع على محل المراد منه وسئل مالك عن الراسخين في العلم فقال العالم العامل بما علم المتبع له وقال عمر بن عبد العزيز انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وقال بعضهم للقرآن تأويل إستأثر الله تعالى بعلمه (1/56)
لا يطلع عليه أحد من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك والخلق متعبدون بالإيمان به ومتعبدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به وقيل غير ذلك ثم أعلم أنه حق على اللبيب المعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله والمتمسك بالعروة الوثقى أن يثبت الله عزوجل ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته فإن المشبهة أثبتوا لله ما لم يأذن فيه بل نهى عنه وهي زيغة سامرية ويهودية والمعطلة سلبوه ما اتصف به وسفهوه ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد حيث قال إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات
الله أكبر أن يكون لذاته ... كيفية كذوات مخلوقاته
أو أن تقاس صفاتنا في كل ما ... نأتيه من أفعالنا بصفاته
أبدا عقول ذوي العقول بأسرها ... متحيرات في دوام حياته
لبديع صنعته عليه شواهد ... تبدو على صفحات مصنوعاته
فكل ما ترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على العالم مخلوق بتقدير شامل وتدبير كامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ولو جمعت عقول العقلاء عقلا واحدا ثم تفكروا بذلك العقل في جناح بعوضة حتى يجدوا تركيبا أحسن منه وأكمل لفنيت تلك العقول وانقطعت تلك الأفكار ولم تصل إلى درك ذرة من ذرات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام فما الظن بذي الجلال تبا ثم تبا لأهل الضلال والجهل وما اعتقدوه من النقص مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال فسبحان من تسبحه البحار والطوافح والجبال الشم والسحب السوائح والأمطار الطومح والأفكار والقرائح تقدس عن مثل وشبيه وتنزه عن نقص يعتريه
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من سر أضمرته الجوانح تعالى عن الند المماثل والضد المكارح
يفعل ما يشاء
ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن هلك الجاهل والمكافح متكلم بكلام مسموع بالآذان بغير آلات ولا أدوات ولا جوارح أين لهوات الحصى وحلقوم الجذع وجارحتهما (1/57)
فما أجهلك بقوله تعالى فلما جاءتهم أياتنا مبصرة نسب الأبصار إلى الآيات فأين الحذق يا قامح ومن آياته إنزال القطر بقدرته
وصبغ ألوان النبات والثمار بحكمته
مع مخالفة الطعوم بمشيئته وإرسال الرياح لواقح موصوف بالسمع والبصر يرى في الدجنة كما يرى في القمر من شبهه أو كيفه طغى وكفر هذا مذهب أهل الحق والسنة وإن دليلهم لجلى واضح من شبهه او مثل أو جسم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم يوم تظهر المخبآت وتبلى السرائر وتبين الفضائح وإن قيل عنه في الدنيا أنه ولي صالح
هلك الهالكون بآرائهم لأنه عمل غير صالح
وفاز المنزهون فيا لها صفقة رابح
هو الواحد المتوحد في صفاته الأزلي الجبار
العظيم العزيز القهار
تبارك وتعالى وتنزه عن درك الخواطر والأفكار
وسم كل مخلوق بميسم الإفتقار
وأظهر آثار قدرته في مخلوقاته ومن أظهرها السموات والأرض والبراري والبحار والأعين والأنهار
وجريانها على المدرار وتصريف السحاب المسخربين السماء والأرض واختلاف الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار يعلم حركات الأسرار ودبيب النملة السوداء في الظلمة على سواد الصخور والأحجار نوع هذا العالم الإنساني فمنهم شقي ومنهم سعيد وربك يخلق ما يشاء ويختار وصفاته كذاته والمشبهة والمجسمة أهل زيغ وكفار
نزه نفسه بنفسه وقدسها فمن شبه أو عطل فمأواه النار ومن أناب ورجع قبله وإن ارتكب العظائم الكبار
لأنه سبحانه وتعالى عزيز غفار ستار ومن بديع صنعته أن خلق اليوم وليلته
وقمر السماء وشمسه
وآدم عليه السلام وما مسه
علم ذلك المنزه فنزه قدسه وجهله أعمى البصيرة المشبه فتصور فيه جنسه
لأنه بجهله قاس الخالق جل وعلا على ما ألفه واحسه فتراكم عليه غبار التشبيه فضاعت المحسه
وأما المعطل فجحد صفاته فما أغباه وما أخسه
وإذا كان الأمر كذلك فادفع المعطل بيديك النقية
وألحق بالمشبه دفعه ورفسه
مبحث الرد على إبن تيمية في قوله بفناء النار
واعلم أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى
وأن الله تعالى يفنيها وأنه جعل لها أمدا تنتهي إليه وتفنى
ويزول عذابها وهو مطالب أين قال الله عزوجل وأين قال رسول الله وصح عنه وقد سفه الله تعالى في ذكره في كتابه العزيز كما سفهه في تنزيهه لنفسه وأتى بأمور (1/58)
إقناعيه صادم بها النصوص الصريحة في دوام العذاب عليهم فمن ذلك قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب تبدل في كل ساعة مائة مرة وقال الحسن تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة إن الله كان عزيزا أي شديد النقمة على من عصاه وقيل العزيز الشديد القادر القوي وقيل الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر وقيل الذي لا نظير له وقيل معناه المعز فيكون فعيل بمعنى مفعل كالأليم بمعنى المؤلم ونحوه
وقال أهل المعاني وأرباب القلوب العزيز من ظلت العقول في كماله والقيام بشكر آلائه وقوله حكيما أي حكم على الأعداء بدوام العذاب كما حكم للأولياء بدوام النعيم فلا يعلم كنه حقيقة حكمته غيره فلا شيء من الأشياء إلا وفيه شيء من حكمته على وفقه لمناسبته صنع الله الذي أتقن كل شيء وقال تعالى فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءؤسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا ان يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق وقال فلن نزيدكم إلا عذابا وقال تعالى كلما خبت زدناهم سعيرا وقال تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم وقال تعالى إن عذابها كان غراما أي مقيما ملازما فكل عذاب يفارق صاحبه فليس بغرام والآيات في ذلك كثيرة جدا وأما السنة فطافحة بذلك وتدل على إخراج المؤمنين دون غيرهم حتى يخرج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وفي رواية مثقال ذرة من خير فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلد قال الله تعالى لهم فيها دار الخلود إلى غير ذلك ولأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم وكذلك المؤمن يستحق الخلود وهذا معنى قوله نية المؤمن خير من عمله وفي معناه أقوال أخر فادعاء فناء النار بعد أمد نزعة يهودية ألا ترى إلى قوله تعالى وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة الآية أي قدرا مقدورا ثم يذهب (1/59)
عنا العذاب وكانت اليهود تقول إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام وقيل أربعين يوما الذي عبد آباؤنا العجل فيها وكانت تقول أن ربنا عتب علينا في أمر فأقسم ليعذبننا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا تحلة القسم أربعين يوما
فالرجل ساع خلف سلفه كما تقدم وكما يأتي
مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم
ومما انتقد عليه وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من اقوى الألة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على أسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضا فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والإستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عزوجل في قوله هو الأول فجعل معه قديما وتكذيب النبي في قوله كان الله ولا شيء معه وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر فإن الدين ما قاله عزوجل وقاله رسوله وقد قال هو الأول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الأول قبل كل شيء بلا إبتداء كان ولم يكن شيء موجودا والاخر بعد فناء كل شيء بلا إنتهاء ويبقى هو
والظاهر هو الغالب على كل شيء والباطن هو العالم بكل شيء هذا معنى قول إبن عباس رضي الله عنهما والأقوال في ذلك كثيرة ومنها قول أبي القاسم الجنيد نفى القدم عن كل أول بأوليته ونفى البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته لظاهريته وحجب الإدراك عن إدراك كنهه وكيفيتة بباطنيته وقال أيضا هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب وقال السيد الجليل محمد بن الفضل
الأول ببره والآخر بعفوه والظاهر بإحسانه
والباطن بستره
ومن حق العبد أن يجعل له حظا من هذا الخطاب فيزين ظاهره بأنواع الخدمة ويزين باطنه بأنوار الهيبة ويحقق جميع أفعاله وحركاته وسكناته وسائر طاعاته وقرباته (1/60)
بالصدق والإخلاص لقوله عزوجل والله بكل شيء عليم وسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار عن معنى هذه الآية فقال إن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن ومما انتقد عليه تكذيبه النبي فيما أخبر به عن نبوته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة قال وآدم بين الروح والجسد وفي رواية وإن آدم لمنجدل في طينته وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سيئي الأفهام يقصد بذلك الإزدراء برسول الله والحط من قدره ورتبته
وما فيه رفعه يسكت عنه يفهم ذلك منه كل عالم إمتلأ قلبه بعظمته وتوقيره وبما خصه الله تعالى من مزايا المواهب الإلهية التي لم ينلها غيره
وهذا الخبيث حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك منه قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلا أهلها فمن ذلك وقد سئل على ما زعم أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب مكة أفضل بالإجماع وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي وعليها خطه وأنا أعرف خطه وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد فمن الفجور نسبته نفسه إلى الإمام أحمد والإمام أحمد وأتباعه براءء منه ومما هم عليه وهو لا يلتفت إليه إلا إذا كان له في ذكره غرض أما إذا لم يكن فلا يلوي على قوله ويسفهه حتى فيما ينقله ويكفره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه
ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق فإن الإمام أحمد قال الذي أخبرنا بان الطلاق واحدة أخبرنا بأن الطلاق ثلاث وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذهب فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق وقال أعنى إبن تيمية في الجواب عن المسألة المبسوطة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة وبالغ في الثناء عليه فيالله العجب من هذا الاعمى البصيرة الذي لا يحس بتناقض كلامه كيف يجعل الإمام أحمد فيماله فيه غرض أعلم الناس بالسنة ويسفهه فيما لا غرض له فيه وهذا ونحوه مما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث يعرفك ما في قلبه من الخبث وعمي بصيرته وأنه لا عليه فيما يقوله ومن فجوره إدعاء الإجماع على ما يقوله ويفتي به كهذه الفتوى مع شهرة الخلاف في المسألة حتى أنه مشهور في أشهر (1/61)
الكتب المتداولة بين الناس وهو الشفاء فإنه ذكر الخلاف بين مكة والمدينة وإن مالكا وأكثر أهل المدينة قائلون بان المدينة أفضل من مكة وقال أهل مكة والكوفة مكة أفضل ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضم سيد الأولين والآخرين واما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع وممن حكي الإجماع القاضي عياض في الشفاء بعد أن حكي الخلاف في التفضيل بين مكة والمدينة فقال ولا خلاف في أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وكذا ذكره الإمام هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في شرح مسلم ذلك فقال قال القاضي عياض أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وأقره على ذلك فسكوت الخبيث عن مثل ذلك دليل على خبث في باطنه في حق سيد الأولين والآخرين وفي هذه الفتوى رمز إلى عدم الإعتداد بقول عمر رضي الله عنه فإنه رضي الله عنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة ويدل على ما قلته من الرمز تخطئته في الطلاق وعدم الإعتداد بذلك كما رمز إلى تكفير الصديق رضي الله عنه في قوله في بعض تصانيفه من قال الله ورسوله في أمر يلحقه فانه يكون مشركا فان الصديق رضي الله عنه لما قال النبي ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله ويؤيد ما قلته ما هو مشهور في كتبه وعند أتباعه لا ينبغي أن ينسب إلى غير الله تعالى ضر ولا نفع ولا أنه يغني وهذا من الدسائس أيضا فإنه يلبس به على كثير من الناس لا سيما الضعفاء في العلم وأصحاب الأذهان الجامدة فهي كلمة حق أريد بها باطل وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وقال تعالى وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله وغير ذلك فهذا نص القرآن العظيم على مثل هذا القول في الذين يقولون أنه شرك ففي قولهم قدح في القرآن وفي رسول الله لإقراره الصديق رضي الله عنه على هذا القول الذي هو شرك وهذا منهم كفر بيقين لأنه واجب وحتم لازم على كل أحد أن يؤمن بالقرآن وبما جاء به سيد الأولين والآخرين عن رب العالمين من غير شك ولا إرتياب قال الله تعالى ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا وقال تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا (1/62)
الرسول وقال وآمنوا بالله ورسوله جمع بينهما بواو العطف للشركة ولا يجوز هذا في حق غيره ولما خطب أم سلمة رضي الله عنها فأعتذرت إليه بأعذار منها وأنا موتم مرملة في أربعة من الولد فقال لها من جملة قوله واما ولدك فهم ولد أخي أبي سلمة وهم على الله وعلى رسوله وقال إنما وليكم الله ورسوله وأعلم أن ما ذكرته من الرمز إلى الصديق والفاروق رضي الله عنهما وإن في إشعارا بأنه رافضي هو كذلك وفي الرد على الرافضي أنه رافضي وهذا نبه عليه الشيخ زين الدين القرشي والشيخ زين الدين إبن رجب الحنبلي
نعم وقفت على مصنف لطيف له ولم يتم وفيه ما يدل على ما قالاه وفي هذا الكتاب رمز إلى أنه من القائلين بتناسخ الأرواح وبعض أتباعه الذين هم رسل في التبعية يقع منه ما يدل على ذلك والله أعلم
ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه أن بعض المكلسين مثاب في وظيفة المكس بل أبلغ من ذلك
وأقبض عنان الكلام فيه لما أخشى مما يترتب على التصريح من أهل المكس وتجرئهم عليه وقرر ما قاله بتقرير مقبول في شق وأهمل الآخر فلما وقفت على ذلك قب بدني وهجت على الكلام في ذلك وكان شخص من الحنابلة يدعى بعلاء الدين بن اللحام البعلبكي وكان عندهم عظيما وصنف في مذهب الإمام فأتيته وهو في حلقة في جالجامع الأموي وهم يقرءون عليه في بعض مصنفاته فسألته عن شيء يتعلق بمسألة تقرأ عليه في كتابه فما أجب ثم أخرى فما أجاب ثم قلت ما هذه المسألة التي ذكرها الشيخ تقي الدين بن (1/63)
تيمية في المكس فقال شرع يقرر ما قرره إبن تيمية فأخذت الشق الآخر وقررته فسكت ولم يجد جوابا فقلت يلزم أحد شيئين إما بطلان ما قاله أو تكفيره فقال هذه المسألة ما هي في فتاويه وأنا أختصرتها فهذه قاعدة من قواعدهم يبحثون مع الخصم فإن ظفروا به فلا كلام وإن ظفر بهم قالوا هذه ما هي في كلامه فهم خلف إمامهم في المكر والخديعة والكذب وقد خاب من إفترى والله أعلم ومن الأمور المنتقدة عليه وهو من أقبح القبائح وشر الأقوال وأخبثها مسألة التفرقة التي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود وعصوا أمر النبي واستمر عليها أتباعهم الذين يظهرون الإسلام وقلوبهم منطوية على بغض النبي ولم يقدروا أن يتوصلوا إلى الغض منه إلا بذلك
وقد ذكر المسألة الأئمة الأعلام فأذكر بعض كلامهم فيها ثم أعود إلى تيميه مستدلا بأمور سمعية وغيرها تفيد جلالته وعظامته وحياته في قبره وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته ويقطع الواقف عليها أو على بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة وأن إبن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم والإشارة إلى الإزدراء بالنبي والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأنه من الملحدين وجعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ذكر ذلك في كتاب له سماه الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم وقد وقفت في كلامه على المواضع الذي كفر فيها الأئمة الأربعة وكان بعض أتباعه يقول أنه أخرج زيف الأئمة الأربعة يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهذه الأئمة في جميع الإقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة ولنرجع إلى قول بعض الأئمة فمنهم الإمام العلامة شيخ شيوخ وقته أبو الحسن علي القونوي قال بعد ذكره أشياء لا أطول بذكرها (1/64)
وفيها دلالة على أن التوسل بالنبي في الحاجات بعد وفاته كالتوسل به في حال حياته ثم قال وهذا وأمثاله يرد على هؤلاء المبتدعة الذين نبغوا في زماننا ومنعوا التوسل برسول الله وقد جمع بعضهم كلاما يتضمن نفي عمله بعد الوفاة ونقل طائفة منهم التفرقة بين حياته وحال وفاته فقال والتفريق بين الحياة والوفاة كان ثابتا عند الصحابة فلهذا إستسقى أمير المؤمنين عمر بالعباس ولولا هذا التفريق الواضح عندهم لما عدل عمر مع جلالته وكونه خليفة راشدا وكان يشاور أيضا عن قبر رسول الله إلى غيره ثم قال هذا لفظ المبتدع الجاهل التي قامت البينة عليه بأشياء من هذا القبيل وعزر على ذلك التعزير البالغ بالضرب المبرح والحبس وغير ذلك في شهور سنة خمس وعشرين وسبعماية بالقاهرة وهذا الكلام من التفرقة بين الحالتين ولإستناد فيه إلى إستسقاء عمر بالعباس ليس له وإنما هو لشيخه فإنه لما أظهر القول بنفي التوسل برسول الله أورد عليه حديث الإستسقاء ففزع إلى التفرقة المذكورة ولا متشبث في الحديث المذكور فإن عمر رضي الله عنه إنما قصد أن يقدم العباس ويباشر الدعاء بنفسه وهذا لا يتصور حصوله من غير الحي أي الحياة الدنيوية واما التوسب برسول الله فلا نسلم أن عمر رضي الله عنه تركه بعد موته وتقديم العباس ليدعو للناس لا ينفي جواز التوسل به مع ذلك ثم قال وهذه القول الشنيع والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من إلتحاقه بالعدم حاشاه من ذلك يلزمه أن يقال أنه ليس رسول الله اليوم وهو قول بعض الضلال قال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله إبن عبد المطلب بن هاشم ليس هو اليوم رسول الله لكن كان رسولا ثم قال وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله عزوجل ولرسوله ولما عليه أهل الإسلام منذ كان أهل الإسلام إلى يوم القيامة قال وإنما حملهم على هذا الرأي الخبيث قولهم الآخر الخبيث أن الروح عرض والعرض يفني أبدا ويحدث ولا يبقى وقتين قال فروح رسول الله عند هؤلاء بطل ولا روح له الآن عند الله واما جسده ففي قبره تراب فبطلت نبوته ورسالته بموته عندهم فنعوذ بالله من هذا (1/65)
القول فإنه كفر صراح لا تردد فيه ويكفي في بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله تعالى به ورسوله وإتفق عليه أهل الإسلام من الأذان في الجوامع والصوامع وأبواب المساجد جهارا في شرق الأراضي وغربها كل يوم خمس مرات بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إلا إلا الله أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله كان يجب أن يقال على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله وكذلك كان يجب أن يقال في ثاني الشهادتين في الإسلام وقد قال تعالى ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وقال تعالى يوم يجمع الله الرسل وقال تعالى وجيء بالنبيين والشهداء فسماهم الله عزوجل بعد موتهم رسلا ونبيين والأصل الحقيقة وكذلك أجمع المسلمون وجاء به النص أن كل مصل فرضا أو نفلا يقول في تشهده السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولو كان بعد موته في حكم العدم لما صحت هذه المخاطبة هذا معنى كلام إبن حزم ثم قال أن إبن حزم أورد على نفسه إيرادات واجاب عنها قلت وقد حذفتها انا لأجل الإطالة ولا تسع عقول العوام وكثير ممن أشير إليه بالعلم أن يدركها ويدرك الجواب ثم قال وإنما أطلت النفس في هذه المسألة وإن كانت في غاية الوضوح لقرب العهد بهذيان من أظهر الخلاف فيها وأفسد به عقائد خلق كثير من العوام فلذلك إستطرقت في هذا المقام بما يتعلق بهذه المسألة هذا المقدار اليسير من الكلام وللمقال فيها مجال واسع لكن إشباع القول في ذلك خارج عما نحن بصدده في هذا الكتاب والله تعالى أعلم وهذا الكتاب الذي أشار إليه ومنه نقلت يقال له شرح التعرف لمذهب أهل التصوف وأعلم أرشدنا الله وإياك أيها الموفق المنزه المعظم لسيد الأولين والآخرين ولذريته الذين بهم تم الدين ولسائر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين إن في هذا الذي ذكره الأئمة كفاية لمن له أدنى فهم ودراية إلا أني وعدت بذكر شيء وخلف الوعد صعب شديد فأنا اذكر نبذة يسيرة وأرجو من الله عزوجل حصول البركة فيها وقد ذكرت في كتاب تنبيه السالك على مظان المهالك جملة كثره تتعلق بذلك وبغيره وسقت فيها فتواه المطولة والجواب عما قاله ذكرته في فضل الحج والله أعلم ومن الأمور المهمة معرفة الإنسان حاله في التوفيق والخذلان فمن الخذلان عدم إيمان (1/66)
الإنسان بالآيات والنذر كما قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون قيل المعنى لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل النجاة وما يغني ضياء العقل مع الخذلان إنما ينفع نور العقل مؤيدا بنور التوفيق وعناية الأزل وإلا فإنه متخبط بإدراكه بعقله فإذا وعيت ما قلته ووقفت على بعض ما أذكره من الأدلة ولم تجد قلبك مؤمنا بها فاعلم انك من أهل الخذلان ومرقوم في حزب الشيطان وتابع لأهل البدع عصاة الرحمن قال كعب الأحبار تجد الرجل يستكثر من أنواع البر ويحتاط في صائع المعروف ويكابد سهر الليل وشدة ظمأ الهواجر وهو مع ذلك لا يساوي عند الله جيفة حمار يشير إلى أهل البدع والتبري منهم بحيث لا يمكن سمعه من ذي هوى لما صالح عمر رضي الله عنه أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح به عمر رضي الله عنه وبإسلامه قال له عمر رضي الله عنه هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتنتفع بزيارته قال نعم يا أمير المؤمنين أفعل ذلك فهذا صريح في الندب إلى زيارة قبره وشد الرحل وأعمال المطي إليه والكلام على هذا يأتي إن شاء الله تعالى
بيان زندقة من قال أن روحه فنيت وإن جسده صار ترابا وبيان زيغ إبن تيمية وحزبه في جواب الفتوى التي زعم أنه سئل عنها
فقال في جوابه الحمد لله رب العالمين من إستغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات ويطلب منه قضاء الحاجات فيقول يا سيدي الشيخ فلان أنا في حسبك أو في جوارك أو يقول عند هجوم العدو عليه يا سيدي فلان يسترعيه أو يستغيث به أو يقول نحو ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته فإن هذا ظالم ضال مشرك وفي بعض النسخ كافر عاص لله تعالى بإتفاق المسلمين فإنهم متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدعي ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو غير ذلك ثم أكد ما قاله بقصة عمر والعباس في الإستسقاء تبعا لشيخه الجاري خلف سلالة اليهود وانت أرشدك الله تعالى وبصرك إذا تأملت ما قاله في هذا الجواب إقشعر جلدك وقضيت العجب مما فيه من الخبائث والفجور وإدعاء إتفاق (1/67)
المسلمين وما فيه من الرمز إلى تكفير الأنبياء وتضليلهم والتلبيس على الأغبياء بقصة عمر رضي الله عنه وليت شعري من أي الدلالات أن من توجه إلى قبر سيد الأولين والآخرين وتوسل به في حاجة الإستسقاء أو غيرها يصير بذلك ظالما ضالا مشركا كافرا
هذا شيء تقشعر منه الأبدان ولم نسمع أحدا فاه بل ولا رمز إليه في زمن من الأزمان
ولا بلد من البلدان
قبل زنديق حران
قاتله الله عزوجل وقد فعل جعل الزنديق الجاهل الجامد قصة عمر رضي الله عنه دعامة للتوصل بها إلى خبث طويته في الإزدراء بسيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وحط رتبته في حياته وإن جاهه وحرمته ورسالته وغير ذلك زال بموته وذلك منه كفر بيقين وزندقة محققة فإنه حرمته وقدره ومنزلته عند ربه ما زالت ولم تزل وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على الله عزوجل على الدوام ومن تأمل القرآن العظيم وجده مشحونا بذلك وقد ذكرت جملة من ذلك في مولده وأشير هنا إلى نبذة يسيرة من ذلك ليتحقق السامع لها خبث هذا الزنديق وما انطوى عليه باطنه من الخبث بإبداله هذه الأنواع من التعظيم بالإزدراء وما فاه به من الفجور والإفتراء كما ترى
سل عن فضائله الزمان لتخبرا ... فنظير مجدك يا محمد لا يرى
ولقد جمعت منا قبا ما استجمعت ... ما إستعجمت يا سيدي فتفسرا
ما بين مجدك والمحاول نيله ... إلا كما بين الثريا والثرى
فمن ذلك أنه سبحانه وتعالى تولى عصمته بنفسه فقال تعالى والله يعصمك من الناس وحقا عصمه عزوجل في ظاهره وباطنه حفظه يفي ظاهره فمن أن ينالوا ما هموا به ورد كيدهم في نحورهم وحفظه في باطنه من الناس من أن يكون منه إليهم إلتفات أو يكون له بهم إشتغال صان سره عن مواردا السكون إليهم وعن نزعات الشيطان وفلتات النفس ومنها قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قيل معناه لا تدعوه بإسمه كما (1/68)
يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله ولكن فخموه وعظموه وشرفوه وقولوا يا نبي الله يا رسول الله مع لين وتواضع قاله مجاهد وقتادة وقيل معناه إحذروا دعاء الرسول عليكم فإن دعاءه مستجاب لإيراد وليس كدعاء غيره قاله إبن عباس رضي الله عنهما وقيل معناه من ضيع حرمة الرسول فقد ضيع حرمة الله عزوجل ومن ضيع حرمة الله فقد دخل في ديوان الأشقياء وحرمة الرسول من حرمة الله تعالى بل من ضيع حرمة الأولياء فقد عرض نفسه للهلكة ومنها قوله تعالى إنا أرسلناك شاهدا أي عليهم بالتوحيد ومبشرا أي لهم بالتأييد والمغفرة ونذيرا أي محذرا إياهم الزيغ والضلالات لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه أي تعظموه تعظيما يليق به وبمرتبته قال الأئمة لم يؤمن بالرسول من لم يعزه ويعز أوامره ويوقره ويوقر أصحابه رضي الله عنهم ومنها قوله تعالى فالذين آمنوا به أي بمحمد وعزروه أي وقروة ونصروه بذلوا أنفسهم في نصرته وأموالهم وأتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن أولئك هم المفلحون أي الفائزون حصر الفلاح فيهم فهذه الآيات موجبة لتوقيره وتعظيمه وتبجيله وتعريف قدره عند ربه ومنها قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله قال عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله أثناء كلام طويل بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل الله عزوجل طاعتك طاعته وقال جعفر الصادق معناه من عرفك بالنبوة والرسالة فقد عرفني بالربوبية والألوهية وقيل بطاعتك يصل العبد إلى الحق وبمخالفتك يقطع عنه وقيل غير ذلك ومن أحسنها من ألزم نفسه طاعته وصحح الإقتداء به أوصله إلى مقامات الأنبياء والصديقين والشهداء ألا ترى قوله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الآية ومنها وهو أبلغ مما تقدم قوله تعالى أن الذين يبايعون
أي يا محمد إنما يبايعونك الله نفى سبحانه وتعالى الواسطة في المبالغة وقد تنبه لذلك أرباب المعالي والقلوب العارفون بمراتبه وما وهبه الله تعالى من سنى الأوصاف التي لا تليق بغيره ولا يقدر على حملها إلا هو قالوا إن البشرية في نبيه (1/69)
عارية وأضافه دون الحقيقة وهو كلام حكيم منور القلب القلب وقال بعضهم لم يظهر الحق سبحانه وتعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمة وأشرفها وهو المصطفى فقال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ومنها قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك قال إبن عباس رضي الله عنهما المراد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة علىالمنابر فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمد رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافرا وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عنه وقيل غير ذلك سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية فقال قال لله عزوجل إذا ذكرت ذكر معي وقال قتادة رضي الله عنه رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة وقيل رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به الاقرار به وقيل ورفعنا لك ذكرك ليعرف المذنبون قدر رتبتك لدى ليتوسلوا بك إلى فلا أرد أحدا عن مسألته فأعطيه إياها إما عاجلا وإما آجلا ولا أخيب من توسل بك وإن كان كافرا ألا ترى قوله تعالى وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا وسيأتي الكلام على هذه الآية وقيل غير ذلك
ولما هاجر النبي إلى المدينة قيل بكت مكة لفقده بدموع الحرقة على الخد وقالت وآأسفاه على من أنزل عليه لا أقسم بهذا البلد وهو مكة لحلولك فيه ومن جعل لا أصلية فالمعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حال فيه بل أقسم بك وبحياتك وهذا يدل على علو قدره عند ربه ورفعته التي لم يفز بها غيره
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن جبريل عليه الصلاة و السلام قال قلبث مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد وقال إبن عباس رضي الله عنهما من رواية أبي الجوزاء رضي الله عنه
ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفسا أكرم على الله من محمد ولا رأيت الله عزوجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون والعمه في البصيرة (1/70)
والعمى في البصر وفي رواية عطاء عن إبن عباس رضي الله عنهما المعنى وعيشك يا محمد انهم لفي سكرتهم يعمهون وقال بعضهم أقسم بحياة محمد لأن حياته كانت به وهو في قبضة الحق وبساط القرب وشرف الإنبساط ومقام الإتفاق الذي لا يقوم به غيره فبحياتك يكون القسم فإن الكل زاغوا وما زغت ومالوا وما ملت حتى برأناك ونزلناك منزلة ما نالها غيرك ولا ينالها أحد سواك وقيل المعنى وحياتك التي خصصت بها بين الخلق فحيوا بالأرواح وحييت بنا ولهذا تتمة مهمة ذكرتها في المولد يتعين الوقوف عليها وقيل أقسم الله عزوجل في الأزل بحياته ليظهر شرفه وعلو قدره ودنو منزلته عنده ليتوسل المتوسلون به إليه قبل بروزه إلى الوجود وفي حياته وبعد موته وفي عرصات القيامة ولهذا وغيره لم يزل أهل الإيمان يتوسلون به في حياته وبعد وفاته من غير نكير وكان أهل الكتاب لهم علم من ذلك فكانوا يتوسلون به قبل وجوده فيستجاب لهم كما قال الله تعالى وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا وقال إبن عباس رضي الله عنهما كانت أهل خيبر تقاتل غطفان كلما إلتقوا هزمت غطفان يهود فعاذت يهود بهذا الدعاء اللهم إنا نسألك بحق النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم فكانوا إذا إلتقوا ودعوا بهذا الدعاء هزمت يهود غطفان ويهود غير منصرف للعلمية والتأنيث علم على قبيلة فلما بعث النبي كفروا به فانزل الله عز و جل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا أي يدعون بك يا محمد إلى قوله فلعنة الله على الكافرين وإذا كان عز و جل يستجيب لأعدائه بالتوسل به صلى الله عليه و سلم اليه سبحانه مع علمه عز و جل بأنهم يكفرون به ويؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه قبل وجوده وبروزه إلى الوجود وإرساله رحمة للعالمين فكيف لا يستجيب لأحبائه إذا توسلوا به بعد وجوده وبعثته رحمة للعالمين وإذا كان رحمة للعالمين فكيف لا يتوسل ولا يتشفع به
ومن أنكر التوسل به والتشفع به بعد موته وإن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادى على نفسه أنه أسوأ حالا من اليهود الذين يتوسلون به قبل بروزه إلى الوجود وإن في قلبه نزعة هي أخبث النزعات (1/71)
وهذا آدم عليه السلام توسل به كما هو مشهور ورواه غير واحد من الأئمة منهم الحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله لما إقترف آدم الخطيئة قال يا رب بحق محمد لما غفرت لي فقال الله يا آدم وكيف عرفت محمد ولم أخلقه قال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى إسمك إلا أحب الخلق إليك فقال يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذا سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد لما خلقتك قال الحاكم صحيح الإسناد ورواه الطبراني وزاد وهو آخر الأنبياء من ذريتك ورواه الحاكم أيضا من حديث إبن عباس رضي الله عنهما بزيادة بلفظ أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار
ولقد خلقت العرش على الماء فأضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن قال الحاكم في مستدركه هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه يعني البخاري ومسلم فهذا الإمام الحافظ قد كفانا المؤنة وصحح الحديث وقد رواه غير واحد من الحفاظ وأئمة الحديث بألفاظ منهم أبو محمد مكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما أن آدم عليه السلام عند إقترافه قال اللهم بحق محمد عليك إغفر لي خطيئتي ويروي نفيل فقال الله من أين عرفت محمدا قال رأيت في كل موضع (1/72)
من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله
ويروي محمد عبدي ورسولي فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وغفر له وفي رواية الحافظ الآجري فقال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت إسمه مع إسمك فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي أنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك قال وكان آدم عليه السلام يكنى أبا محمد
بدا مجده من قبل نشأة آدم ... وأسماؤه في العرش من قبل تكتب
وعن إبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وكان تحته كنز لهما قال لوح من ذهب فيه مكتوب عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبا لمن رأى الدنيا ونتقبلها بأهلها كيف يطمئن إليها أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي
وعن إبن عباس رضي الله عنهما أيضا قال على باب الجنة مكتوب أني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها
وذكر السميطاري انه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد وعلى جبينه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي بعض البوادي حيوان مكتوب على شقه الأيمن لا إله إلا الله وعلى شقه الأيسر محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وهو مرئي ظاهر لكل من له بصر وذكر غير ذلك فسيد الأولين والآخرين عظيم عند ربه نوه بذكره في الأزل وفي الكون العلوي والسفلي ليعلم أنه الفاضل الكامل وأنه أعظم الوسائل قال أبو حميد
ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله فقال له مالك لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله عزوجل أدب أقواما فقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ومدح قوما فقال إن الذين يفضون أصواتهم ند رسول الله الآية وذم قوما فقال إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فإستكان لها أبو جعفر فقال يا أبا عبد الله أستقبل القبله وأدعو أم (1/73)
استقبل رسول الله فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل إستقبله وإستشفع به فيشفعك الله عزوجل قال الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءك فأستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما القصة معروفة مشهورة ذكرها غير واحد من المتقدمين والمتأخرين بأسانيد جيدة ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان ومنهم الإمام العلامة هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان وقد إشتملت هذه القصة على تعظيمه بعد وفاته وأنه حي والوتسل به وحسن الأدب في حقه كما في حياته وان في الآية الحث على المجيء اليه ليستغفر له وليس في الآية تعرض لزمن حياته دون الوفاة وكذا فهم العلماء مالك وغيره كما يأتي إن شاء الله تعالى العموم واستحبوا لمن زار قبره المكرم أن يتلو هذه الآية ويستغفر ويتوسل به ويطلب الشفاعة منه ولم نعلم أن أحدا طعن في قصة مالك إلا هذا الفاجر إبن تيمية فإنه لما كان فيها هذه الفضائل طعن فيها وقال إنها مكذوبة فإن هذا شأنه إذا وجد شيئا لا مساس لما فيه إبتدعه قال به وقبله ولم يطعن
وإذا وجد شيئا على خلاف بدعته طعن فيه وإن إتفق على صحته ولا يذكر شيئا على خلاف هواه وإن إتفق على صحته لا سيما إذا كان آية أو خبرا عن رسول الله ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل إلا أنه تعرض لتخصيصها وهي دعوى مجردة وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه فمن إدعى التخصيص بغير دليل سمعى ظاهر الدلالة قطعنا بخطئه واتهمناه واستدللنا بذلك على استنقاصه سيد الأولين والآخرين الكامل المكمل
وهو كفر بإجماع أهل التوحيد
وذكر القرطبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه أنه قال قدم علينا أعرابي بعد ما دفن رسول (1/74)
الله بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله وحثا على رأسه من ترابه ثم قال قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله عزوجل فوعينا عنك وكان فيما أنزل عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر قد غفر لك وهذه القصة غير قصة العتبي وقصة العتيبي مشهورة في غاية الشهرة وقد ذكرها الأئمة في كتبهم قديما وحديثا وكنية العتبي أبو عبد الرحمن وإسمه محمد بن عبد الله بن عمرو وكان من أفصح الناس وصاحب أخبار وصاحب رواية للآثار
حدث عن أبيه وعن إبن عيينة وقد ذكر قصته خلائق منهم إبن عساكر في تاريخه وذكرها الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن وذكرها غيرهما بالأسانيد
وممن ذكرها الإمام العلامة المتفق على علمه ودينه وزهده أبو ذكريا يحيى بن شرف النووي قدس الله روحه ونور ضريحه قال في زيارة قبره إنها من أعظم القربات وأفضل المساعي والطلبات وإذا انتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه ويتشفع به إلى ربه ومن أحسن ما يقوله ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال العتبي كنت جالسا عند قبر رسول الله فجاء اعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
قال فرأيت النبي في النوم فقال يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له وفي رواية غيره إلحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي فخرجت فلم أجده فأفاد النووي قدس الله تعالى روحه أن أصحاب الشافعي إستحسنوا ذلك وحكوه عن غيرهم وأفاد شمول الآية للحياة والممات وأنه يستشفع به إلى ربه وساق ذلك مساق ما هو متفق عليه ولم يتعرض لذلك أحد بالإنكار في سائر الأعصار وزدت أنا هذين البيتين لعلي يلحقني نصيب من شفاعته وهما (1/75)
وفيه كل خصال الحمد قد جمعت ... فلذ به فهو من ترعي له الذمم
وهو الذي يرتجى في كل معضلة ... وفي المعاد إذا زلت بنا القدم
قصة الراهبين مع أبي عبد الله
وقال السيد الجليل قطاع المفاوز على قدم التوكل أبو عبد الله الفرحي قدس الله سره ونور ضريحه خرجت مرة أريد الزيارة من طريق المفاوز فوقعت في التيه فكنت فيه أياما حتى أشرفت على الموت فبينما أنا كذلك إذ رأيت راهبين يسيران كأنهما خرجا من مكان قريب يريدان ديرا لهما بالقرب فملت إليهما فقلت أين تريدان فقالا لا ندري فقلت من أين أتيتما قالا لا ندري قلت فتدريان أين أنتما قالا نعم نحن في ملكه وبين يديه قال فأقبلت على نفسي اقول لها راهبان يتحققان بالتوكل دونك ثم قلت لهما أتأذنان لي في الصحبة فقالا ذاك إليك قال فسرنا فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما وقمت إلى صلاة المغرب فتيممت وصليت فنظرا إلي وقد تيممت قال فضحكا مني فلما فرغا من صلاتهما بحث أحدهما بيده فإذا بالماء قد ظهر وإذا بطعام موضوع قال فبقيت أتعجب من ذلك فقالا لي إدن وكل وأشرب قال فأكلنا وتوضأت وقاما فلم يزالا في صلاتهما وأنا في صلاتي حتى أصبحنا فصليت الفجر ثم قاما يسيران فساروا إلى الليل فلما أمسينا تقدم الآخر فصلى بصاحبه ثم دعا بدعوات ثم بحث الأرض بيده فنبع الماء وظهر الطعام فقالا لي ادن وكل وأشرب قال فأكلنا وشربنا وتوضأت للصلاة ثم نضب الماء وغار حتى لم يبق له أثر فلما كانت الليلة الثالثة قالا لي يا مسلم الليلة نوبتك قال فاستحييت من قولهما وداخلني من ذلك هم شديد قال فقلت في نفسي اللهم إني أعلم أن ذنوبي لم تدع لي عندك جاها ولكني أسألك وأتوسل إليك بنبيك المكرم عندك إلا تفضحني (1/76)
عندهما ولا تشمت بنبيك محمد قال فإذا بعين خرارة وطعام كثير قال فأكلنا وشربنا ولم نزل على حالنا حتى بلغت النوبة الثانية إلى قال فدعوت بمثل ما دعوت أولا وتوسلت بالنبي فإذا بطعام إثنين وشراب إثنين دون ما كان قال فتقاصرت إلى نفسي وقصرت عن الأكل ورأيتهما أني آكل فسكتا عني قال وسرنا حتى بلغت النوبة الثالثة إلى قال فدعوت بمثل ما دعوت وتوسلت بالنبي وقوي حالي في أمر صدق توسلي به علمي بأنه وسيلة من قبلي فإذا بطعام إثنين والماء مثل ذلك فغمني ذلك قال فغلبتني عيناي من الهم خوف الشماته بديننا فإذا بقائل يقول لي أدركناك بالإيثار الذي خصصنا به محمد من دون الأنبياء وهي علامته وكرامة أمته من بعده إلى يوم القيامة قال فلما بلغت النوبة الرابعة إلى قالا بلي يا مسلم ما هذا إنا نرى في طعامك وشرابك نقصا فلم ذلك فقلت لهما أو لم تعلما أن هذا خص الله عزوجل به نبيه محمدا من بين الأنبياء وخص أمته به من بعده إن الله عزوجل يريد لي الإيثار وقد آثرتكما لإقتداء بنبي المكرم فقالا صدقت ثم قالا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق صدقت في قولك هذا خلق محمد في كتب الله المنزلة إن الله عزوجل خص محمدا وأمته بذلك قال وحسن اسلامهما قال ثم قلت لهما في الجمعة والجماعة فقالا ذلك واجب قلت نعم الله تعالى وادعوا أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن فدعوا فبينما نحن نسير إذا نحن ببيوت قد أشرفنا عليها فإذا هي بيت المقدس قال فدخلنا المسجد وأقمنا أياما ثم تجدد لي سفر ففارقتهما وقد مليء قلبي فرحا بإسلامهما وبصحبة توسلي بالنبي وأنه غياث الصادقين في محبة السالكين خلفه في صدقه مع ربه وصحة الإعتماد عليه فأنظر أرشدك الله كيف بصدق التوسل به جرى ما جرى من حصول (1/77)
الكرامات من نبع الماء وحصول الطعام والإهتداء لهما فله عزوجل المنة على ما أكرمنا به وعلى ما وهب الأولياء من آثار معجزاته وقال سفيان الثوري بينا أنا أطوف بالبيت وإذا أنا برجل لا يرفع قدما ولا يضع أخرى إلا وهو يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا هذا إنك تركت التسبيح والتهليل وأقبلت على الصلاة على النبي فهل عندك من هذا شيء فقال لي من أنت قلت سفيان الثوري فقال لولا أنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي ولما أطلعتك على سري ثم قال خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة سيد الأنام حتى إذا كنا ببعض المنازل مرض والدي فعالجته فمات فلما مات اسود وجهه فغلبتني عيناي من الهم فنمت فإذا أنا برجل لم أر أجل منه ولا أنظف ثوبا ولا أطيب رائحة منه فدنا من والدي وكشف عن وجهه وأمر يده عليه فعاد وجهه أبيض ثم ذهب فتعلقت بثوبه وقلت له يا عبد الله من أنت الذي من الله عزوجل علي وعلى والدي بك في دار الغربة لكشف هذه الكربة فقال أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله صاحب القرآن أما إن والدك كان مسرفا على نفسه ولكنه كان يكثر الصلاة علي فلما نزل به ما نزل إستغاث به وأنا غياث من أكثر الصلاة على قال فانتبهت فإذا وجه والدي قد ابيض . فأنظر أرشدك الله عزوجل إلى جلاله وتعظيمه في حياته وبعد وفاته كيف إغاث من إستغاث به حتى في البرزخ فهو عليه الصلاة و السلام كما قيل
غياث لملهوف وغيث لآمل ... وعين لظمآن وعون لذي جهد
له فوق إيوان الزمان مراتب ... يقصر عنها الأنبياء أولو المجد
فموسى وعيسى والخليل ونوحهم ... يقولون طه منتهى السؤل والقصد
حوى قصبات السبق من قبل آدم ... وكهلا وأيام الطفولة في المهد
به طيبة طابت ولا غرو قد حوت ... طبيب قلوب الخلق من مرض الجحد
فلولاه ما اشتاقت قلوب نفيسة ... إلى الشيخ من أرض الحجاز ولا الرند
ولا ذكرت سلع ونعمان والنقا ... ولا استعذبت من شدة الوجد للوجد (1/78)
فسبحان من قربه وبجله وعظمه ومنحه وتوجه خلع الفضائل وجعله أعظم ما يتوجه به إليه وأعظم الوسائل
روى الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر جاء إلى النبي فقال ادع لي أن يعافيني الله فقال ان شئت دعوت وان شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه فأمره رسول الله أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم شفعه في
قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه النسائي بنحوه ورواه البيهقي وزاد محمد بن يونس في روايته فقام وقد أبصر وفي رواية شعبة ففعل فبريء وفي رواية يا محمد أني توجهت بك إلى ربي فتجلى عن بصري اللهم شفعه في وشفعني في نفسي قال عثمان رضي الله عنه فوالله ما انصرفنا ولا طال الحديث حتى جاء الرجل كأنه لم يكن به ضر فهذا حديث صحيح صريح في التوسل والإستجابة وليس فيه أنه فعل ذلك في حضرة النبي وليس فيه التقييد بزمن حياته ولا أنه خاص بذلك الرجل بل إطلاقه يدل على أن هذا التوسل مستمر بعد وفاته شفقة عليهم لأنه بهم رءوف رحيم ولإحتياجتهم إلى ذلك في حاجاتهم ويدل على ذلك أن عثمان بن حنيف راوي الحديث هو وغيره فهمو التعميم ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته كما رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف رضي الله عنه ذكره في أول الجزء الخمسين من مسنده أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا ينظر في حاجته فلقي الرجل عثمان بن حنيف وشكي إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف رضي الله عنه أئت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي (1/79)
الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي حاجتك وتذكر حاجتك
ورح حتى أروح معك فذهب الرجل وفعل ما قاله عثمان بن حنيف له ثم أن الرجل أتى إلى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده حتى أدخله إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال حاجتك فأعلمه بها فقضا هاله وقال ما ذكرت حاجتك إلا الساعة ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه ما كان لك من حاجة فاذكرها ثم أن الرجل خرج من عند عثمان ابن عفان رضي الله عنه فلقي عثمان بن حنيف رضي الله عنه فقال له جزاك الله خيرا اما أنه ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في فقال عثمان بن حنيف رضي الله عنه ما كلمته ولكن شهدت رسول الله أتاه ضرير فشكي إليه ذهاب بصره فقال له أو تصبر فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي فقال ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات قال عثمان بن حنيف فوالله ما انصرفنا ولا طال الزمان حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرقط ورواه البيهقي بإسناده من طريقين فهذا من أوضح الأدلة على الإحتجاج بالتوسل بالنبي بعد وفاته كحياته كفعل عثمان راوي الحديث ولفعل غيره في حياته وبعد وفاته وهم أعلم بالله عزوجل وبرسوله من غيرهم وإليهم ترجع الأمور في القضايا التي شاهدوها في زمنه وأخذوها عنهم رضي الله عنه ومن عدل عن ذلك فقد أفهم عن نفسه أن عنده ضغينة لهم وهذا من الواضحات الجليات التي لا ينكرها إلا صاحب دسيسة أعاذنا الله تعالى من ذلك
وقال القاض عياض في أشهر كتبه المتداولة بين الناس وهو الشفاء الفصل الثاني في حرمته بعد وفاته وأما حرمته النبي بعد وفاته وتوقيره وتعظيمه فهو لازم كما كان (1/80)
في حياته وذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع إسمه وسيرته ومعاملة آله وتعظيم أهل بيته وصحابته واجب على كل مؤمن متى ذكره عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته فيأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ بعينه لو كان بين يديه ويتأدب بما أدبنا الله عزوجل به وقال إبن حبيب إذا دخلت مسجد رسول الله فصل ركعتين بين الروضة والمنبر ثم اقصد القبر من تجاه القبلة وادن منه ثم سلم على رسول الله وأثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه مسلم ويعلم وقوفك بين يديه وكذا قاله غيره من الأئمة قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي أما زيارة قبره فأحضر قلبك لتعظيمه ولهيبته وأحضر عظيم رتبته في قلبك وأعلم أنه عالم بحضورك وتسليمك وهذا الذي قالاه معروف مشهور لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يغضون أصواتهم في مسجده تعظيما له وتوقيرا وفي البخاري أن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت دق الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطنبة لمسجد رسول الله ترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله
وروى أن عليا رضي الله عنه لما عمل مصراعي داره ما عملهما إلا بالمناصع توقيا لذلك والآثار بمثل ذلك كثيرة جدا وكذا الأخبار بعرض وكذا برد روحه الشريفة العظيمة الكريمة على الله عزوجل وإذا ثبت ردها ثبتت حياته وإذا ثبتت حياته وجب القطع بصحة التوسل به في إبن ماجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه الصلاة عليه قال أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه (1/81)
مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي على إلا عرضت على صلاته حتى يفر منها قال قلت يا رسول الله وبعد الموت قال وبعد الموت فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق وققال إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام رواه النسائي وكذا الحاكم من حديث إبن مسعود رضي الله عنه وصحح وقال ليس أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد قال البيهقي معنى قوله إلا رد الله عليه روحه إلا وقد رد الله عليه روحه لأجل سلام من سلم عليه واستمرت في جسده لأنه لا يبلى ولا تفتر صلاة المصلين عليه السلام المسلمين عليه من الثقلين وغيرهم
وقال لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح والأحاديث في ذلك كثيرة
وقال كعب الأحبار ما من فجر يطلع إلا أنزل الله سبعين ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر الشريف يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم وصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج رسول الله في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني صاحب الترغيب عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله من صلى علي في يوم جمعة وليلة جمعة مائة من الصلاة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا وكل بذلك ملكا يدخله على قبري كما يدخل عليكم الهدايا إن علمي بذلك بعد موتي كعلمي به في حياتي
وقال السيد الجليل سلمان بن شحيم قدس الله تعالى روحه رأيت النبي في المنام فقلت يا رسول الله الذين يأتونك ويسلمون عليك تفقه سلامهم قال نعم وأرد عليهم وقال بعض المشايخ رأيت رسول الله في النوم فقلت استغفر لي فأعرض عني فقلت يا رسول الله استغفر لي فأعرض عني فقلت يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا عن محمد إبن المنكدر عن جابر أنك لم تسأل شيئا قط فقلت لا فأقبل علي وقال غفر الله لك وكان موهوب (1/82)
إبن الجزري الشافعي إماما عالما فاضلا مفيدا يشارك في سائر العلوم مشاركة جيدة مع العقل والدين والإيثار لأهل الضرورات وكان يتجر فكثر ماله فأردا الصاحب أن يتعرض له قال فخفت منه خوفا شديدا فلما كان في بعض الليالي رأيت النبي في المنام فقلت يا رسول الله إني خائف من الصاحب فقال لا تخف منه وقل له بعلامة كذا وكذا لا تؤذني فرسول الله يشفع في فلما انتبهت صليت الصبح وركبت دابتي ووقفت للصاحب في الطريق وهو طالع إلى القلعة قال فسلمت عليه وصحبته وقلت له معي رسالة فقال ممن قلت من رسول الله وقال قل له بعلامة كذا وكذا فقال صدقت أنت وصدق رسول الله وأنا اليوم أتشفع بك إلى رسول الله فالمولى يرسم والمملوك يمتثل ومهما كان لك من الحوائج تعرفني بها أو لأحد أصحابك
وطلب بعض أمراء الجور رجلا أراد منه شيئا وهدده تهديدا
وتواعده بالعقوبات فقال له الرجل أنا أتشفع إليك بسيد الأولين والآخرين أن لا تتعرض لي بما لا يحل لك فلم يلتفت إليه ولا إلى قوله فلما أصبح الصباح طلب الأمير الرجل وأكرمه بعد أن فك عنه الطلب فقيل للأمير في ذلك فقال رأيت البارحة رسول الله فنهزني وهم بي وقال يتشفع بي إليك ولا تقبل فوالله لا يتشفع به أحد إلي إلا قبلت شفاعته فإني خفت على نفسي الهلكة وعن منصور بن عبد الله قال سمعت إبن الجلاء يقول دخلت مدينة الرسول وبي شيء من الفاقة فتقدمت إلى القبر فسلمت على النبي وعلى ضجيعيه أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم قلت يا رسول الله بي فاقة وأنا ضيفك الليلة ثم تنحيت ونمت بين القبر والمنبر وإذا أنا بالنبي قد جاءني ودفع إلي رغيف خبز فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف الرغيف ومن تتمة القصة أن قال إبن الجلاء انه دام بعد ذلك أربعين سنة لم يحتج فيها إلى طعام الدنيا ولا إلى شرابها ببركة تلك الأكلة قال العلماء الظاهر أن ما أتاه به النبي من طعام الجنة لأن من أكل من طعام الجنة إستغنى عن طعام الدنيا قالوا وهذه رؤيا حق لما جاء في الحديث من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي
ومثل هذا وقع للسيد الجليل أبي الخير الأقطع صاحب المقامات الباهرة (1/83)
والكرامات الظاهرة قال دخلت مدينة النبي وانا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلمت على النبي وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت أنا ضيفك يا رسول الله وتنحيت ونمت خلف القبر فرأيت في المنام النبي وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلى بين يديه فحركني وقال قم قد جاء رسول الله قال فقمت إليه وقبلت بين عينيه فدفع إلى رغيفا فأكلت نصفه وانتبهت وإذا في يدي نصف رغيف قال العلماء وإنما يبقي نصف الرغيف ليتحقق الأمر وتظهر الكرامة لأولياء الله عزوجل الذين سلكوا سبيله بصدق ورضى عنهم وقال إبن أبي ذرعة الصوفي سافرت مع أبي ومع إبن حنيف إلى مكة وأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا مدينة رسول الله وبتنا طاوين وكنت دون البالغ فكنت أجيء إلى أبي غير دفعة وأقول أنا جائع فأتى والدي إلى الحضرة الشريفة وقال يا رسول الله أنا ضيفك الليلة وجلس على المراقبة فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة فقال رأيت رسول الله فوضع في يدي دراهم وفتح يده فإذا فيها دراهم وبارك الله تعالى لنا فيها إلى أن رجعنا شيراز فكنا ننفق منها وقال السيد الجليل أبو العباس أحمد الصوفي تهت في البادية ثلاثة أشهر ونسلخ جلدي فدخلت المدينة الشريفة وجئت إلى النبي فسلمت عليه وعلى صاحبيه ثم نمت فرأيت النبي في النوم فقال لي يا أحمد جئت قلت نعم وأنا جائع وأنا في ضيافتك فقال لي افتح كفيك ففتحتهما فملأهما دراهم فانتبهت وهما مملوءتان فقمت فاشتريت لي خبزا حوازي وفلوذجا وأكلت وقمت للوقت ودخلت البادية ومثل هذا كثير وهؤلاء رجال صدق يقطعون البوادي على قدم التوكل لا يعتمدون على غيره ولا يأنسون بسواه وتقع لهم ألطاف وأمور عجيبة وقد ذكرت جملة من ذلك في كتاب تنبيه السالك في فصل الكرامات فمن أراد أن يقف على الغرائب والعجائب فلينظر فيه وفيما وهب لهم من الكرامات على مقدار طبقاتهم وخرج بعض المشايخ يريد الزيارة في جماعة من الفقراء قال فلما وصلنا إلى شعب النعام أدركنا العطش (1/84)
وبيننا وبين المدينة مراحل قال فاستغيث بالنبي وصليت ونمت فرأيت النبي فقال مرحبا بك وبجماعتك وضمني إلى صدره وقبلني فقبلت يده الكريمة وقدمه وقلت له يا سيدي يا رسول الله أنا خائف على أصحابنا من العطش فقال لا تخف فانا نسير لكم الماء وها نحن نعدلكم الضيافة ورأيته مشمر الأ كمام فجاءنا السيل في تلك الليلة وملأنا ركابنا فلما قدمنا المدينة تلقانا أحد خدام النبي فقال لي سلم على النبي واشتهي أن أجتمع بك حتى أو في لك بما أوصاني به النبي فلما سلمت على النبي جئت إليه فقال لغلامه جيء بالمائدة فجاء بها وعليها كل خير يراد فالتفت إلي وقال كل هذا الذي أوصاني به النبي وقال لي هذه ضيافتك يا فلان وسماني بإسمي وما يبعد أن النبي سماه كما وقع لغيره من الخدام من تسمية أقوام قصدوا زيارته من أرض شاسعة كما أخبرني به الشيخ محمد فولاذ في المسجد الأقصى وكان من الأخيار وكثير التعبد والإيثار وحج ماشيا ما يزيد على ثلاثين حجة قال لي إذا جاء أو ان الحج هاج بي الشوق إلى تلك المعاهد الشريفة وإلى زيارة سيد الأولين والآخرين فآخذ زادي على ظهري وإناء الماء وأسير مع الناس إلى جنب وأنا مشغول بحالي قال فاتفق أني تحدثت أنا وخادم الضريح وتذاكرنا مواهب الله عزوجل لسيدنا رسول الله فقال لي يا شيخ محمد إني أخدم هذا الضريح ستين سنة فاتفق في يوم حار أني سمعت السرير يصرصر وسمعت صوته وهو يقول وعليك السلام يا فلان ويا فلان بن فلان وسمى ثمانية أنفس قال الخادم فقمت من ساعتي وجئت الضريح وإذا بشخص كاد أن يموت من الهزال جالس عند الضريح فسلمت عليه وقلت ما اسمك فقال فلان بن فلان لأحد الثمانية فقلت له وأين رفقتك فقال عند باب الحرم قد عجزوا عن الوصول إلى الضريح قال فعمدت إليهم فإذا ثلاثة من الذين سماهم رسول الله فقلت وأين بقيتكم فقالوا فارقناهم من وراء تلك الأكمة قال فأخذت ما أحملهم عليه وماء وشيئا ومن الأكل ومضيت فوجدت الأربعة قد قضوا فجهزتهم ثم رجعت إلى الأربعة فأخذتهم وأكرمتهم وسألتهم من أين ورودهم فقالوا من بلاد شاسعة تعاقدنا وتعاهدنا على زيارة سيدنا رسول الله وان لا نرجع عن ذلك ولو ذهبت أنفسنا فأما نحن فقد أعطانا الله عزوجل (1/85)
مرادنا وأما اخواننا الذين ماتوا عند الأكمة فنرجوا أن الله عزوجل لا يخيب مسعاهم
ووقع مثل ذلك كثيرا جدا وقد دونه الأئمة كإبن أبي الدنيا وغيره وعقدوا له باب الإستغاثة بالنبي وخرجوه بأسانيدهم على إختلاف الوقائع وفيها ما يتعلق بالصديق والفاروق رضي الله عنهما وها أنذا أتعرض لنبذة يسيرة جدا من غير الأسانيد لأنه اللائق بهذه الورقات فمن أراد الكثرة فعليه بالنظر في كتب الأئمة فإنها مجلدات والمهمل لذكرها قد نادى على نفسه بخبث طويته في حق أصفياء الله عزوجل وأوليائه
أعاذنا الله من الزيغ والفتن ما ظهر منها وما بطن فمن ذلك ما أخبر به أبو عبد الله الحسين وأبو علي بن سعيد بن نبهان وكان من فضلاء بغداد ورؤسائهم وغيرهما قالوا أراد رجل الحج فأحضره الأمير مقلد فقال يا فلان تريد الحج قال نعم قال إذا حججت وأتيت المدينة فاقرأ على النبي مني السلام وقل له لولا صاحباك لزرتك قال الرجل فحججت وأتيت المدينة ولم أقل الكلام عند القبر إجلالا لرسول الله فلما كان الليل نمت فرأيت رسول الله في منامي فقال لي فلان لم لم تؤد الرسالة من مقلد فقلت يا رسول الله أجللتك أن أقول في صاحبيك ذلك فرفع رأسه إلى رجل فقال له خذ هذا الموسى واذبحه قال ففعل قال فوافيت العراق فسمعت أن الأمير مقلد ذبح على فراشه فلما قدمت المدينة أي بغداد سألت عنه فقيل انه ذبح علي فراشه فذكرت للناس الرؤيا التي رأيتها فشاعت إلى أن بلغت الأمير قرواس إبن المسيب فأحضرني وقال اشرح لي الحال فشرحت له فقال أتعرف الموسى قلت نعم فأحضر طبقا مملوءا مواسى والموسى في الجملة فقال لي أخرج الموسى فضربت بيدي وأخذت الموسى الذي رأيته بيد المصطفى وقد ناوله الرجل فقال صدقت هذا الموسى وجدته عند رأسه وهو مذبوح
ومن ذلك ما أخبر به علي بن محمد قال سمعت رضوان اليماني وكان من الأخيار وأهل السنة قال كان لي جار في منزلي وفي سوقي وكان يشتم أبا بكر وعمر قال فكثر الكلام بيني وبينه فلما كان ذات يوم شتمهما وأنا حاضر فوقع بيني وبينه كلام حتى ناولته وناولني فانصرفت إلى منزلي وأنا مهموم حزين ألوم نفسي قال فنمت وتركت العشاء لشدة ما بي فرأيت النبي (1/86)
في منامي في ليلتي فقلت يا رسول الله فلان جاري في منزلي وفي سوقي يسب صاحبيك قال من من أصحابي قلت رأبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال لي خذ هذه المديه واذبحه بها قال فأخذتها وأضجعته فذبحته فرأيت كأن يدي أصحابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض أمسحها فانتبهت وأنا أمسح يدي فاسمع الصراخ من نحو داره فقلت انظروا ما هذا الصراخ قالوا فلان مات فجأة فلما أصبحنا جئت أنظر إليه لعلمي أن رؤياه حق فنظرت فإذا خط موضع الذبح
ومن ذلك ما أخبر به يحيى بن عطاف المعدل بالموصل قال حكي لي شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين قال جاورت بالمدينة الشريفة سنة مجدبة فخرجت إلى السوق لأشتري برباعي دقيقا فأخذ صاحب الدقيق مني الرباعي وقال العن الشيخين حتى أبيعك الدقيق فامتنعت من ذلك فراجعني مرات وهو يضحك فضجرت وقلت لعن الله من لعنهما فلطم عيني فرجعت إلى المسجد والدموع تسيل قال وكان لي صديق زاهد عابد جاور بالمدينة سنين فسألني عن حالي فذكرت القصة فقام معي إلى التربة الشريفة وقال السلام عليك يا رسول الله فلما جن علي الليل نمت فلما أصبحت صادفت عيني أحسن مما كانت وكانها لم يصبها ضر ثم لم يكن إلا ساعة وإذا رجل مبرقع قد دخل من باب المسجد يسأل عني فدل علي فجاء وسلم علي وقال ناشدتك الله ألا جعلتني في حل فأنا الرجل الذي لطمتك فقلت لا أو تذكر لي قصتك فقال نمت فرأيت رسول الله قد أقبل ومعه أبو بكر وعمر وعلي فتقدمت وقلت السلام عليكم فقال علي رضي الله عنه لا سلام الله عليك ولا رضي عنك أنا امرتك أن تلعن الشيخين وجعل باصبعيه كذا في عيني ففقأهما فانتبهت وأنا تائب إلى الله تعالى وأسألك التجاوز عن جرمي فحين سمعت قوله قلت اذهب فأنت في حل من قبلي قال أبو النصر فكان هذا الشيخ الدمشقي دينا صالحا ناسكا قدس الله تعالى روحه كان علي رضي الله عنه يقول أنا وأبو بكر وعمر كنفس واحدة من أحبنا جميعا انتفع بمحبتنا ومن فرق بيننا في المحبة لقي الله تعالى يوم القيامة ولا حجة له
وكان أيوب السختياني يقول من أحب أبا بكر فقد أحب امام الدين
ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل
ومن أحب عثمان فقد إستنار بنور الله تعالى
ومن أحب عليا فقد إستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومن (1/87)
أحسن الثناء على أصحاب محمد فقد بريء من النفاق ومن انتقص أحدا منهم فهو مبتدع مخالف السنة والسلف الصالح وأخاف أن لا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه سليما
علي هذا الإعتقاد درج السلف وبذلك اقتدى العلماء خلفا بعد خلف ومن ذلك ما أخبربه محمد بن عبد الله بن محمد الفقيه الحنبلي قال اجتمع جماعة في الطريق قاصدين مكة في عرض السنة وكان أحدهم كثير الصلاة والتعبد فمات فأهمهم دفنه فنظروا إلى بيت شعر في الصحراء فقصدوه فإذا في البيت عجوز وفيه قدوم فسألوها أن تدفعه إليهم فقالت تعهدوني بالله عزوجل أنكم تردونها إلي فأعطوها ما أرادت ثم أخذوا القدوم فحفروا به قبرا وواروا الرجل ونسوا القدوم في القبر فذكروا العهود فدعتهم الضرورة إلى أن ينبشوا فإذا القدوم قد صار غلا من يد الرجل إلى عنقه فردوا عليه التراب فأخبروا العجوز الخبر فقالت لا إله إلا الله رأيت رسول الله في منامي فقال احتفظي بهذا القدوم فإنه غل لرجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأخبر العباس السني قال قال لي أحد المشايخ المعمرين كنت بجامع عمرو بن العاص ونحن في صلاة أراها صلاة الصبح فسمعت ضجيجا بصحن الجامع فلما فرغنا من الصلاة اجتمع الناس فرأوا رجلا مذبوحا فقال رجل من الحاضرين أنا ذبحته فإني سمعته يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فحمل إلى السلطان فسأله عن القضية فقال أنا ذبحته فأمر السلطان بالرجل أن يحبس وبالمقتول أن يدفن فحفروا له موضعا فوجدوا ثعبانا ثم حفروا له موضعا آخر فوجدوا فيه ثعبانا فأخبروا السلطان بذلك فقال احفروا له قبرا ثالثا فحفروا فإذا فيه ثعبان فقال ادفنوه وسرح القاتل قلت وبلغني أنه لما دفن إبن تيمية قال شخص بعد ثلاثة أيام قد اضطرب القول في هذا الرجل والله لأنظرن ما صنع الله به قال فحفر قبره فوجد على صدره ثعبانا عظيما هاله منظره فكان الرجل يحذر الناس من اعتقاده ويعلمهم بما رأى والله أعلم وذكر إبن أبي الدنيا في كتابه مجابي الدعوة بسنده أن مؤذن عك قال جزت أنا وعمر إلى بكران وكان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينته فقلنا اعتزلنا فاعتزلنا فلما دنا خروجنا قلنا لو صحبناه حتى يرجع إلى الكوفة فلقينا (1/88)
غلام له فقلنا له قل لمولاك يعود إلينا فقال ان مولاي قد حدث له أمر عظيم قد مسخت يداه يدي خنزير قال فأتيناه فقلنا له ارجع إلينا قال إنه حدث في أمر عظيم وأخرج ذراعيه فإذهما ذراعا خنزيرا قال فصبحنا حتى أتينا قرية من قرى السواد كثيرة الخنازير فلما رآها صاح صيحة فمسخ خنزيرا وخفي علينا فجئنا بغلامه ومتاعه إلى الكوفة وشاع أمره إعاذنا الله تعالى من ذلك
وأعلم أن من الشيعة طائفة تقول أن خير الناس بعد رسول الله على رضي الله عنه وان أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ارتدا بعد الإسلام وقاتلا الناس
ثم أعلم أن مما يتعلق بأمور الشيعة من هذا النوع وغيره كثير والمراد أن الإستغاثة بالنبي واللواذ بقبره مع الإستغاثة به كثير على إختلاف الحاجات وقد عقد الأئمة لذلك بابا وقالوا إن إستغاثة من لاذ بقبره وشكى إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى
فمن ذلك ما أخبر به يوسف بن علي قال ركبتني ديون فقصدت الخروج من المدينة الشريفة ثم جئت إلى قبر رسول الله فاستغث به في وفاء ديني فنمت فرأيت النبي فأشار على بالجلوس فاستيقظت فقيض الله لي من وفي ديني
وقال بعضهم بلغنا أن أبا الليث يقرأ فوجدته يقرأ القرآن في المصحف من غير تعلم سبق منه للكتابة وكنت أنكر ذلك قال فدخلت مكة فوجدته يقرأ القرآن في المصحف قراءة محمودة فسألته عن سبب ذلك فقال كنت في مدينة النبي أبيت في المسجد وأخلو به فتشفعت إلى الله عزوجل بالنبي أن يسهل علي القرآن في المصحف قال وجلست فأخذتني سنه فرأيت النبي وهو يقول قد أجاب الله تعالى دعائك فافتح المصحف واقرأ القرآن قال فلما أصبح الصباح فتحت المصحف وشرعت أقرأ القرآن فكنت أقرأ في المصحف فربما تتصحف على الآية فأنام فأرى من يقول لي الآية التي تصحفت عليك كذا وكذا
وذكر إبن عساكر في تاريخه أن أبا القاسم إبن ثابت البغدادي رأى رجلا بمدينة النبي أذن الصبح عند قبر رسول الله فقال فيه الصلاة خير من النوم فجاءه خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك منه فبكى واستغاث بالنبي وقال يا رسول في حضرتك يفعل بي هذا الفعل قال فضربه الفالج في الحال وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ثم مات وقال أبو العباس أحمد (1/89)
المقري الضرير التونسي جعت بالمدينة ثلاثة أيام فجئت إلى القبر وقلت يا رسول الله جعت ثم نمت ضعيفا فلكزتني جارية برجلها فقمت إليها فقالت اعزم فقمت معها إلى دارها فقدمت لي خبز بر وتمرا وسمنا وقالت كل أبا العباس فقد أمرني بهذا جدي رسول الله قال أبو العباس فرجعت إلى بلادي فرأيت النبي بمصر بعد رجوعي فقال أوحشتنا يا أبا العباس قرائتك وكنت أكثر قراء القرآن عند ضريحي
قال الباجي كم قرأت من ختمه عند قبره قلت ألف ختمه قال وقال أبو العباس أحمد اللواتي كانت عندنا بمدينة فاس إمرأة وكانت إذا أصابها أمر او شيء يفزعها جعلت يدها على عينيها واستغاثت بالنبي فتغاث فلما توفيت قال لي قريب لها رأيتها في النوم فقلت لها يا عمة أرأيت الملكين الفتانين فقالت نعم جاءاني فعندما رأيتهما جعلت يدي على عيني وقلت يا محمد فلما نزعت يدي عن وجهي فلم أرهما
وهذه القصة ذكرها بعض الأئمة وعزاها وقال إن الإستغاثة من بعيد به كالإستغاثة به عند قبره
وساق عن أبي إسحاق الحسين قال كنت بين مدينة النبي والشام فظل لنا جمل قال وكان قد بلغني عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه قال من كانت له حاجة فليستقبل عبادان نحو قبري ويمشي سبع خطوات ويستغيث فإن حاجته تقضى قال فلما استقبلت عبادان وقصدت الإستغائة هتف بي هاتف أما تستحي من رسول الله وتستغيث بغيره قال فتحولت نحو المدينة فقلت يا سيدي يا رسول الله أنا مستغيث بك قال فوالله ما استكملت ذلك إلا والجمال يقول لي هذا الجمل قد وجدناه
وسافر بعض الفقراء لقصد ويارة قبر النبي فتاه في الطريق فاستغاث بالنبي فظهرت له قبة العباس رضي الله عنه وبينه وبين الموضع المذكور يومان أو نحوهما
وقال أبو الحجاج يوسف بن علي قدس الله روحه خرجت من مكة متوجها إلى المدينة على طريق المشاة فتهت في الطريق فاستغثت بالنبي فإذا بإمرأة آتية من نحو المدينة وهي تشير إلى أن أمشي على أثرها فلم أزل أمشي على أثرها إلى أن وصلت المدينة وقال سمعت أبا عبد الله بن سالم يقول رأيت في المنام كأني في بحر النيل وإذا بتمساح يريد أن يقفز علي فخفت منه وإذا بشخص وقع لي أنه النبي فقال لي (1/90)
إذا كنت في شدة فقل أنا مستغيث بك يا رسول الله فكنت أفعل فأغاث فأراد بعض الإخوان السفر لزيارته وكان ضريرا فحكيت له الرؤيا وقلت له إذا كنت في شدة فقل أنا مستغيث بك يا رسول الله فسافر في تلك الأيام فجاء إلى رابغ وهي غزيرة الماء وكان له خادم قد ذهب في طلب الماء قال فبقيت القربة في يدي وأنا في شدة من طلب الماء فذكرت ما قلت لي وفقلت أنا مستغيث بك يا رسول الله فبقيت انا كذلك واذ بصوت يقول زم قربتك وسمعت صرير الماء في القربة إلى أن امتلئت ولم أعلم من أين أتى القائل وقال سمعت محمد السلاوي يقول لما ودعت النبي قلت يا حبيب يا محمد يا سيد الكونين أنا أدخل الصحراء فإذا أخذتني شدة أدعوا الله وأتوسل بك وجئت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت لهما كذلك قال فبقيت في البرية سبعة أيام ووقعت في جب وفيه ماء فبقيت فيه من أول النهار إلى ما بعد الظهر فلم يبقى إلا الموت قال ففكرت ما كنت قلت عند النبي وقلت يا حبيبي يا محمد الذي كنت قلت لك وقلت كذلك لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال فكأني بمن حولني وطلعت ببركة النبي وصاحبيه رضي الله عنهما
وقال أخبرني رجل من مدينة طرابلس قال كنا جائيين من الإسكندرية في مركب فهاج البحر علينا وأشرفنا على التلف والهلاك فقمت إلى الناس فقلت بالنبي فإنه غياث فقلنا جميعا الغياث يا رسول العفو يا رسول الله العفو يا رسول الله جانين مذنبين إستجرنا بك أجرنا يا محمد الحبيب يا حبيبنا يا شفيعنا يا ولينا فنام رجل من أهل المركب مشهور بالخير والصلاة فرأى النبي وأخذ بيده فقال انج وأبشروا بالسلامة فلما أفاق الرجل بشرنا برؤياه فلما أصبح رجع البحر كالزيت وكأنه عقد بيضة وجئنا إلى طرابلس سالمين ببركته وقال سمعت أبا الحسن العسقلاني يقول ركبنا البحر في طلب جدة فهاج علينا ورمينا ما معنا فيه وأشرفنا على التلف فجعلنا نستغيث بالنبي ونحن نقول وامحمداه وكان معنا رجل مغربي صالح فقال لنا ارفقوا يا حجاج إنكم سالمون رأيت النبي في المنام فقلت يا رسول الله أمتك يستغيثون بك قال فالتفت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال يا أبا بكر أنجدهم قال فكأن عيني ترى (1/91)
أبا بكر رضي الله عنه وقد خاض البحر ودخل يده في مقدم الحق ولم يزل يجذبها حتى دخل بها البر فلم تستغيثون فأنتم سالمون
فسلمنا ولم نرى بعد هذا إلا خيرا ودخلنا البر سالمين والحمد لله رب العالمين ولما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء أول سنة إحدى وستين وهو يومئذ إبن أربع وخمسين سنة ونصف سنة ونصف شهر ووقع ما وقع من السبي وحمل النساء والصبيان فلما مروا بالقتلى صاحت زينب بنت علي رضي الله عنهما مستغيثة بالنبي وامحمداه يا محمداه هذا حسين بن عراء مزمل بالدماء مقطع الإعضاء يا محمداه فلما كان سنة ثلاث وأربعمائة أخذ أهل الكوفة جذري عظيم
ثم عمي منهم ألف وخمسمائة كلهم من نسل من حضر قتل الحسين رضي الله عنه
وهذا من أعجب ما سمع وأعلم أرشدك الله عزوجل أن مثل هذه القضايا كثيرة جد وعند ذكر جماعة من الائمة من ذلك أمورا عديدة عجيبة منهم البيقهي ومنهم أبو محمد عبد الحق ومنهم بعض الأئمة وذكر جملةى مستكثرة في ذلك وعقد أبوابا في الإستغاثات بالنبي ومنها باب في أصحاب العاهات وذكر منه جملة مستكثرة من ذلك على اختلاف أنواع العاهات كالعمى والصداع والزمانة ووجع البطن وغير ذلك وأنه يضع يده الشريفة على موضع العاهة قتزول ببركة يده الشريفة وتشفي وكأنه مابه وجع قلبه ثم انه مع ذلك قال لو تتبعت هذا الفن لحفيت الأقلام وجفت المحابر وفنيت الطروس في تتبعه والدفاتر ثم قال ولقد سألت بعض إخواننا المجتهدين وكان بمدينة النبي على التجريد فقلت هل استغثت بالنبي أو لجأت إليه في شيء قط مدة إقامتك في المدينة فقال كنت أستحي أن أسأله إذ كنت بحضرته ثم قال سمعت الفقيه الإمام برهان الدين بن الطيب المالكي يقول قال لي من أثق به وكان بمدينة النبي وأنه أصابه الجوع فأتى قبر النبي فقال يا رسول الله إني جائع وجلس بالقرب من حجرة النبي فأتاه رجل من الأشراف فقال له قم فقال إلى أين فقال تأكل عندي شيئا فقام معه إلى بيته فقدم إليه جفنة فيها ثريد ولحم ودهن فأكل حتى شبع وأراد الإنصراف فقال له كل وازدد فلما أراد الإنصراف (1/92)
قال له يا أخي الواحد منكم يأتي من البلاد البعيدة ويقطع المفاوز والقفار ويترك الأهل والأوطان ويقطع البحار ويأتي إلى زيارة النبي العظيم على ربه وتكون همته أن يطلب منه كسرة خبز يا اخي لو طلبت الجنة أو المغفرة أو الرضى مهما طلبته منه لنلته ببركة هذا النبي الكريم هذا وعدم السؤال يكون للأ كابر لما يشاهدون في الحضرة النبوية من الإجلالات والكرامات العلوية وأنت أرشدك الله عزوجل إلى الحق وأزاح عنك الباطل إذا استحضرت بعض ما تقدم وعطفت على قول هذا الزائغ أن المسلمين متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدعى ولا يطلب منه سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك قطعت بفجوره وببهتانه وأنه من أخبث الناس طوية وأنه لا إعتقاد له وهذه عادته بإدعاء الإتفاق وبالإجماع المقطوع به كما سيأتي عند ذكر شد الرحال وأعمال المطي وفي غير ذلك وقد تقدم توسل آدم عليه السلام بالنبي وأن الله قبله بسبب التوسل وجعل هذا الزنديق آدم عليه السلام بتوسله بالنبي ظالما ضالا مشركا وليس وراء ذلك زندقة وكفر وروى عن أبي الجوزاء قال قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكو إلى عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت امضوا إلى القبر واجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينها وبين السماء شيء ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام التفتق وروى البيهقي بسنده إلى الأعمش عن إبن صالح قال أصاب الناس قحط في زمن عمر (1/93)
رضي الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبي فقال يا رسول الله هلك الناس استسق لأمتك فأتاه رسول الله في المنام فقال ائت عمر فاقرأه مني السلام وأخبره أنهم مسقون وقل له عليك الكيس قال فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه وقال يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه
فهذا رجل مبارك قد أتى قبره وطلب الإستسقاء منه فلو كان ذلك جهلا وضلالا وشركا لمنعه عمر رضي الله عنه الذي احتج الزائغ بإستسقائه بالعباس وقد تقدمت قصة عثمان بن حنيف وهي من الأمور المشهورة
فسكوت هذا الزائغ القائل بمسألة الفرق تبعا لسلالة اليهود عن هذه الأمور الواضحة الجليلة المشهورة والعدول إلى الفجور فيها من أقوى الأدلة على خبث طويته
ومثل هذا لا يحل لأحد تقليده فيما يقوله ولا ينظر في كلامه الا من يكون أهلا لمعرفة دسائس أهل البدع الزيغ هلك وأهلك فتنبه لذلك وخذ حذرك وإلا هلكت من حيث ظننت السلامة وقوله ولا يطلب الجيدة منه شيء سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك قال الأئمة الأعلام النقاد أصحاب الأذهان الجيدة هذا منه كفر لما فيه من حط رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإجماع على أن من غمط من نبي في شيء من الأشياء كفر وأيضا ففيه ترفيع غير الأنبياء إلى رتبة الأنبياء وإلحاقهم بهم وفيه إشارة بعيدة ترجع إلى إعتقاد الشيعة
وهو أن النبوة عندهم تكتسب بالرياضيات وتهذيب النفس وكتبهم مشحونة بهذا وهذا من فجورهم فإن النبوة إنما هي من الله عزوجل فمن نبأة الله عزوجل فهو النبي ومن أرسله فهو الرسول الله أعلم حيث يجعل رسالته ومن الأمور المنتقدة عليه قوله زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذا ثابت عنه أنه قال
وثبت ذلك على يد القاضي جلال الدين القزويني
فانظر هذه العبارة ما أعظم الفجور من كون ذلك معصية
ومن ادعى الاجماع وأن ذلك مقطوع به فهذا الزائغ يطالب بما إدعاه من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وكذا التابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى حين إدعائه ذلك
وما أعتقد أن أحدا يتجاسر على مثل ذلك (1/94)
مع أن الكتب المشهورة بل والمهجورة وعمل الناس في سائر الأعصار على الحث على زيارته من جميع الأقطار فزيارته من أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سنة من سنن المرسلين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه مرض المنافقين ومن هو من أفراخ اليهود وأعداء الدين من المشركين الذين أسرفوا في ذم سيد الأولين والآخرين
ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شد الرحال إليه على ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سار في ذلك الزرافات والوحدان والعلماء والمشايخ والكهول والشبان حتى ظهر في آخر الزمان مبتدع من زنادقة حران لبس على أشباه الرجال ومن شابهم من سيء الأذهان وزخرف لهم من القول غرورا كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبيل أهل الإيمان وأغواهم عن الصراط المستقيم إلى ثنيات الطريق ومدرجه النيران فهم برزيته في ظلمة الخطأ يعمهون وعلى منوال بدعته يهرعون وسأذكر لك ما تحقق به فجوره وبدعته وتضليل من مشى خلفه وهلكته وأبين ما أظهره من القول الباطل وما رمز إليه وأوضحه لكل من سمعه ووقف عليه ثم أردف ذلك بما يدل على المنهج من ذلك فلا يزيغ عنه بعد ذلك إلا هالك قال القاضي عياض في أشهر كتبه الذي شاع ذكره في سائر البلاد وقريء في المجامع والجوامع على رءؤس الإشهاد فصل في حكم زيارة قبره وفضل من زاره وكيف يسلم عليه ويدعو وزيارة قبره سنة من سنن المرسلين مجمع عليها ومرغب فيها
وروى عن إبن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله
من زار قبري وجبت له شفاعتي
وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله
من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري وكنت له شفيعا يوم القيامة
وفي حديث آخر من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي
هذه ألفاظه بحروفها
وكذا ذكره الإمام العلامة هبة الله في كتاب توثيق عرى الإيمان فهذا نقل الإجماع على خلاف ما نقله هذا الزائغ الفاجر المبالغ في فجوره وعزوه إلى السلف واما غير هذين الإمامين ممن نقل الندب إلى زيارته فخلق لا يحصون وسأذكر بعضهم على أنه ذكر في فتوى مطولة ما يناقض ما ادعاه من الإجماع والقطع هنا وقد ذكرت المسألة في تنبيه السالك وذكرت صورة الفتوى وجوابه وهذا جواب مطول وتعرضت لما فيه من الخلل وسوء الفهم (1/95)
وفجوره في النقل والغزو وها أنذا أذكر هنا بعض الجواب وأبين ما فيه من الخطأ وعدم صحة الإحتجاج بما احتج به كحديث لا تشد الرحال ولا أدقق في الجواب لأن قصدي بيان جهله وأنه لا حجة له في الحديث جريا على القواعد التي عليها مدار الإستدلال صحة وبطلانا وأذكر ما ذكره في أحاديث الزيارة وما ادعاه فيها من الفجور وما رمز إليه في تكفير الأئمة الذين رووها وأنه قال قولا مفترى لم يسبقه إليه أحد ولا رمز ولا أشار إليه وبالله التوفيق فمن ما ذكره في الجواب بلفظ قوله وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي
كقوله من زار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي رواه الدارقطني وإبن ماجه
فانظر أرشدك الله تعالى كيف جعل هذين الإمامين ممن لا يعرف الحديث وهو من أقبح البهتان وقد احتج بهذا الحديث خلائق من أئمة الحديث غير هذين الإمامين منهم القاضي عياض وصاحب توثيق عرى الإيمان وأبو الفرج إبن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ذكره في الباب الذي عقده لزيارة قبر النبي
ومنهم إبن قدامة ذكره في كتابه المغنى في فصل يستحب زيارة قبر النبي واستدل بحديث إبن عمر من طريق الدارقطني ومن طريق سعيد بن منصور وذكر أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه
ما من أحد سلم علي عند قبري وقوله وأما ما يذكره بعض الناس من قوله من حج ولم يزرني فقد جفاني فلم يورده أحد من العلماء وهذا أيضا من البهتان البين والجهل فقد روى هذا الحديث غير واحد من الأئمة بألفاظ متقاربة منهم الحافظ أبو عبد الله بن النجار في كتابه الدرة الثمينة
من حديث علي رضي الله عنه ومنهم الإمام الحافظ المتفق على حفظه وعلو قدره في هذا الشأن أبو سعيد عبد الملك النيسابوري خرجه في كتابه شرف المصطفى من حديث علي رضي الله عنه قال قال رسول الله
من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني
رواه إبن عساكر من طرق وقوله وهو مثل من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة تنبه يا من أشير إليه بالعلم في قوله فإنه يشير به إلى أن (1/96)
الحديث الأول كذب على رسول الله لأنه سوى بينهما وذكر الحديث الثاني توطئه لقصده الفاسد في إرادة تجاسره به والتمويه على العوام والضعفاء من الطلبة وهو شديد الإعتناء بهذا القصد الخبيث في الكلام على آيات الصفات وأحاديثها فلحيذر الواقف على كلامه في آيات المتشابه وأحاديثه غاية الحذر فإن الخطأ فيها كفر بخلاف غيرها من مسائل الفروع وقوله وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي وقبور الأنبياء بأن النبي كان يزور قباء وأجاب عن حديث لا تشد الرحال بأن ذلك محمول على نفي الإستحباب وأما الأولون فإنهم محتجون بما في الصحيحين عن النبي أنه قال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به
انظر بصرك الله تعالى ما في هذا الكلام من الإيهام والتدليس فإنه قال قل وقد احتج الشيخ ابو محمد على جواز السفر لزيارة قبر النبي بأن النبي كان يزور قباء ولم يذكروا راكبا وماشيا لأن الراكب قد شد الرحل وهو لا غرض له في ذلك وأيضا فلم يذكر غير الشيخ أبي محمد وهو يوهم انفراه بذلك ولم ينفرد كما أذكره من بعد وقوله أجاب يعني أبا محمد عن حديث لا تشد الرحال بأن ذلك محمول على نفى الاستحباب وهو يوهم ان ذلك لم يقله الا الشيخ أبو محمد وهو من التدليس الذي هو كثير الإعتناء به
بالمكر السيء قوله أما الأولون يعني القائلين بتحريم السفر وعدم جواز القصر في سفر المعصية فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا وهذاا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به وهو يوهم أنهم احتجوا لتحريم قبور الأنبياء وقبر النبي وبه وهو من التدليس الفاحش وهو مطالب بأن الأولين صرحوا بأن شد الرحال وأعمال المطي إلى قبره إلى قبره وقبر الخليل إبراهيم عليهما الصلاة والسلام حرام ومعصية ولا نقصر فيه (1/97)
الصلاة وهذا لا يجده بل الموجود غيره والندب إلى ذلك كما يأتي إن شاء الله تعالى وقد خاب من افترى ثم ما ذكره من إنفراد الشيخ أبي محمد بأن الحديث محمول على نفي الإستحباب كذب وفجور وجهل فإنه لم ينفرد بذلك بل ولا الحديث مسوق لتحريم زيارة القبور وإنما هو لبيان فضيلة المساجد الثلاثة دون غيرها لأن المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والعمل فيها يضاعف ما لا يضاعف في غيرها وليس لزيارة القبور تعلق بالحديث ولما تكلم الأئمة على هذا الحديث ومنهم الإمام العلامة أبو زكريا يحيى النووي رضي الله عنه في شرح مسلم قال في الحديث فضيلة المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شدها إلى مسجد غيرها وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا يحرم شدها إلى غيرها وهو غلط ومر بيانه في باب سفر المرأة فصرح بأن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة وصرح بأنه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها ولم يتعرض للزيارة ألبتة قلت وجزم الشيخ محيي الدين رضي الله عنه بأن الشيخ أبا محمد جزم بالتحريم وهو ممنوع وإنما تردد في ذلك فقال ربما يحرم وربما يكره والله أعلم
وقال أعني النووي في شرح مسلم في باب سفر المرأة واختلف في شد الرحال وأعمال المطي إلى غيرها لا الذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم وهذا الذي أشار إليه عياض مختارا له والصحيح عند أصحابنا واختاره الإمام والمحققون لا يحرم ولا يكره والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة انتهى
فذكر أولا أن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة وذكر ثانيا أنه قول المحققين وأنه لا يحرم ولا يكره وأن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة خاصة ولم يصرح بقبور الأنبياء وقوله وأن الفضيلة النامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة يفيد أن شد الرحل إلى غير الثلاثة فيه فضيلة إلا أنها غير تامة وإذا علمت ذلك وما قرره هذا العبد الصالح وما نقله استفدت منه أنه لا يجوز تقليد هذا الزائغ في نقله لا يرجع إليه في تقريره لسوء فهمه وتدليسه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما تقطع به بصحة ما قلته بلا شك ولا تردد
وأزيدك على ما ذكره النووي ما يؤكد ما قلته قال إبن قدامة الحنبلي في كتابه المغني فصل فإن سافر (1/98)
لزيارة القبور والمشاهد قال إبن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي كان ياتي قباء ماشيا وراكبا وكان يزور القبور وقال زورها تذكركم الآخرة وأما قوله لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فيحمل على نفي الفضيلة لا على التحريم وليس الفضيلة شرطا في إباحة القصر ولا يضر إنتفاؤها انتهي وفيه من الفوائد أنه صرح بأن الصحيح أن ذلك في نفي الفضيلة وأن المنع إنما نسبه إلى إبن عقيل فقط فأين قول إبن تيمية وطوائف كثيرون من العلماء المتقدمين وإبن قدامة واسع الباع في الإطلاع فكيف يقتصر على إبن عقيل وحده ويترك طوائف كثيرة من العلماء المتقدمين وهذه كتب الحنابلة وغيرها مشهورة فإين النقل فيها عن المتقدمين وهذا مما يعرفك ان إبن تيمية يكذب في الإجماع ومن تتبع ذلك وجده صحيحا وينقل في بعض الأحيان شيئا وهو كذب محقق وإذا نقل كلام الغير لم ينقله على وجهه وإن نقله على وجهه دس فيه ما ليس من كلام ذلك المنقول فأعلم ذلك وتنبه له وأحذر تقليده تهلك كما هلك وقول غبن عقيل لا يباح الترخيص لزيارة القبور لأنه منهي عن السفر إليها لم يصرح بقبور الأنبياء ولا بقبر النبي ولم يعلم مراده وعلى تقدير إرادته ذلك فهو مخطيء وضعيف الإدراك في الإستدلال ألا تراه اعتمد على الحديث وما إبن عقيل وسيأتي إن شاء الله تعالى أن الحديث لا دليل فيه إلا عند عوام الفقهاء وأن من تمسك به فقد تمسك بما لا يفيد ولا بد من ذكر ألفاظ الحديث لتتم الفائدة وقد ورد بألفاظ مختلفة أشهرها لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى واللفظ الثاني تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد من غير (1/99)
لفظ الحصر اللفظ الثالث إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء وإيلياء بيت المقدس وهذه الروايات ذكرها مسلم في فضل المدينة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وذكر قبل ذلك في سفر المرأة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى وهذا بصيغة النهي والثلاثة الأول بصيغة الخبر
وبصيغة النهي رواه الطبراني من حديث إبن عمر رضي الله عنهما لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد ومسجد بيت المقدس وهذا اللفظ رواه إبن راهويه في مسنده من حديث أبي سعيد رضي الله عنه
هذا ما يتعلق بلفظ الحديث وأما ما يتعلق بمعناه وما يدل عليه فأعلم أن الإستثناء في الحديث مفرغ كما هو واضح ولا بد فيه من تقدير وهو شيئان
أحدهما لا تشدوا الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاث وعلى هذا فلا حجة للخصم فيه والتقدير
الثاني لا تشدوا الحرال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاث ولا بد من تقدير أحد هذين ليكون المستثنى مندرجا تحت المستثنى منه
والتقدير الأول وهو لا تشد الرحال إلى مسجد أولى من التقدير الثاني وهو لا تشد الرحال إلى مكان لأنه على التقدير الأول جنس قريب لما فيه من قلة التخصيص لأن التخصيص على تقدير إضمار الأمكنة أكثر فيكون مرجوحا ولو خطر بالبال تقدير العموم في الحديث لكان خيالا فاسد واحدا السياقه وللقرينة اللفظية فيه ولدخول التخصيص بالأدلة السمعية والعملية الكثيرة جدا أما سياقه فلأن الحديث إنما ورد لبيان شرف هذه المساجد الثلاثة وخيرتها على غيرها من المساجد كما مر من أنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولهذا تضاعف الأعمال فيها ما لا تضاعف في غيرها والمتكلمون على الحديث إنما يتكلمون في ذلك ونحوه من لزوم النذر المتعلق بها دون الزيارات ولهذا لما تكلم بعض المتأخرين عن الحديث وأدرج ذكر الزيارة إعترض عليه في ذكر الزيارة وقيل لم يرد الحديث لذلك وإنما ورد لبيان شرف هذه المساجد دون غيرها وهذا كاف في بطلان الإحتجاج بالحديث لمنع (1/100)
زيارة القبور 1والزيادة على ذلك إنما هو علي وجه التنزل فمن احتج بالحديث لمنع الزيارة ينبغي أن لا يرسم في حزب الفقهاء البته لما قررنا وإن قلنا بعموم اللفظ فكذلك لأن وقائع الأعيان إذا تطرق إليها الإحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الإستدلال وهذا في الإحتمال وإن كان فيه بعد
فما ظنك بهذا الحديث الذي لا إحتمال فيه من لفظه وهو قرينة ظاهرة قوية ولها شاهد ظاهر الدلالة كما إذكره إن شاء الله تعالى ولاسيما وقد دخله التخصيص بالأدلة السمعية والعملية مع كثرة المخصصات على إختلاف أنواعها فمنها ما هو فرض عين ومنها ما هو فرض كفاية ومنها ما هو مندوب ومنها ما هو قربة ومنها ما هو مباح وصور هذه الأنواع لا تكاد تنحصر عدا فأما القرينة اللفظية فذكر المساجد الثلاث في الإستثناء وهو بعض المستثنى منه وهذا قوي جدا وإلى تكون بمعنى اللام إذ حروف الصلة ينوب بعضها عن بعض كما هو كثير في الكلام فالمعنى لا تشد الرحال لمسجد إلا للمساجد الثلاث ويؤيد هذا أن رجلا من التابعين قال لإبن عمر رضي الله عنهما أريد أن آتي الطور قال إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد رسول الله ومسجد الأقصى ودع عنك الطور فلا تأته فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلم إلا في شد الرحال إلى المساجد دون غيرها وهو أعلم بالحديث وموارده ومصادره وعلى منواله تكلم العلماء في شد الرحال بالنسبة إلى المساجد وكذا ذكر القاضي عياض في كتابه الإكمال ولم يتعرض لزيارة الموتى أصلا وليس في الحديث تعرض لمنع الزيارة البتة وبهذا وغيره يعرف أن دعوى أن الحديث يدل على منع الزيارة من كلام الجهلة العارين عن العلوم التي بها يصح الإستدلال والإستنباط وعلى سوء الفهم وبلادة الذهن وجموده وأن مثل هذا لا يحل لأحد تقليده ولا الأخذ بقوله لتحقق جهله ببعض ما قررنا
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
ومثل هذا لا يزال يتخبط في ظلمة جهله هو وأتباعه وبالله التوفيق
وقوله في جواب الفتوى ولو نذر أن يأتي مسجد النبي أو المسجد الأقصى لصلاة أو إعتكاف وجب الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالسمع إلى آخره (1/101)
فقوله وجب الوفاء عند الشافعي يوهم أن الشافعي جازم بذلك وليس كذلك بل هو قول مرجوح عند الشافعي وعلل بأن مسجد النبي والمسجد الأقصى لا يقصدان بالنسك فأشبها سائر المساجد وقوله ولو نذر ان يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاث لم يجب ذلك بإتفاق الأئمة وهذا أيضا ليس بصحيح وما رأيت أجرأ منه على الفجور ولا أكذب في دعوى الإتفاق والإجماع وقصده بذلك الترويج على الإغمار ولا عليه من غضب الجبار وفي كلامه مسألتان الأولى إذ نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه من غير المساجد الثلاث
وقد حكى الإتفاق على أنه لا يجب الوفاء بذلك وهو البهتان البين ففي ذلك قولان آخران أحدهما يجب الوفاء مطلقاو الثاني أن نذرها في الجامع تعين وإلا فلا
المسألة الثانية إذا نذر أن يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاث فإنها لا تجب عليه بإتفاق الأئمة ثم أردف ذلك بقوله وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاث فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه وإذا أنذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من المساجد الثلاث فأنظر إلى هذه الجرأة والفجور بقوله حتى نص العلماء والمسألة فيها خلاف وقد قال الإمام محمد بن مسلمة المالكي إذا قصد مسجد قباء لزمه لأن النبي كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا بل قال الليث بن سعد إذا نذر المشي إلى أي مسجد كان لزمه سواء في ذلك المساجد الثلاث وغيرها وقال الإمام إبن كبح من كبار أصحابنا إذا نذر أن يزور قبر النبي فعندي أنه يلزمه وجها واحد ولو نذر المشي إلى مسجد النبي ففيه قولان أحدهما لا يلزمه والثاني يلزمه فعلى هذا لا بد من ضم عبادته قيل يلزمه صلاة وقيل إعتكاف ولو لحظة والصحيح أنه يتخير في مسجد النبي بين الصلاة وبين زيارة قبر النبي فجعل زيارة قبر النبي طاعة وهي أخص من القربة وجعلها تقوم مقام الصلاة التي هي أفضل عبادات البدن والمساجد موضوعه لها بالأصالة وقوله وقالوا لأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله ولا إستحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن إعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأمة
قلت (1/102)
لما وقف بعض الأئمة على هذا الكلام الباطل قال هذا من البهت الصريح وصدق رضي الله عنه لما أذكره وفيه أيضا تدليس من الفجور وبيان التدليس قوله قالوا فإنه يوهم أن هذا الذي قاله لم يقله من عند نفسه وإنما نقله عن أئمة المسلمين وأنه مجمع عليه وهذا شأنه يدلس في الإغراء ليحمل الناس على عقيدته الفاسدة المفسدة لأنه لو عزاه إلى نفسه لما انتظم له ذلك لعلم الحذاق النقاد بسوء فهمه وكثرة خلطه مما عرفوه منه في بحثه وتدوينه إذا انفرد فقوله لأن السفر إلى قبور الأنبياء يشمل قبر الخليل والكليم وقبر النبي وغيرهم وقوله والصالحين يشمل قبور الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم وهو مطالب بتصحيح ما عزاه إلى أئمة المسلمين وأنه مجمع عليه وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا بل المنقول خلاف ذلك كما تراه وقوله أن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين هذا من الفجور والإفك المبين
ولم تزل الناس على زيارة قبر الخليل والكليم وغيرهما في سائر الأعصار من جميع الأمصار
وهذا بلال مؤذن رسول الله سافر من الشام إلى المدينة الشريفة لزيارة قبر رسول الله وممن ذكر ذلك الحافظ إبن عساكر والحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الإكمال في ترجمة بلال وقال فيه ولم يؤذن لأحد بعد النبي فيما يروى إلا مرة واحدة في قدمه قدمها إلى المدينة لزيارة قبر رسول الله طلب إليه الصحابة رضي الله عنهم ذلك فأذن لهم ولم يتم الأذان وقيل أنه أذن لأبي بكر رضي الله عنه في خلافته أهو ممن ذكر ذلك أيضا أماهم الأئمة في الحديث أبو الحجاج الشهير بالمزي وسبب سفر بلال رضي الله عنه لزيارة قبره أنه رأى النبي في المنام فقال له ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزوري يا بلال فانتبه من نومه حزينا وجاء وجلا خائفا فقعد على راحلته من حينه وقصد المدينة فأتى قبره فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما إليه فجعل يضمهما ويقبلهما ثم قالا له يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن النبي في المسجد فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فلما أن قال الله أكبر ارتجت (1/103)
المدينة فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها فلما قال أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن وقالوا أبعث رسول الله فما رؤى يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله من ذلك اليوم
فهذا بلال من سادات الصحابة رضي الله عنهم قد شد رحله من الشام وسافر لزيارة قبره فقط وأعلم بذلك الحسن والحسين وطار بذلك الخبر في المدينة وكان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم ينكر عليه ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم
ولو كان السفر لزيارة قبره مخالفا للسنة ولإجماع الأمة لأنكروا عليه لأنهم ينكرون أدنى شيء من المخالفات ولا سيما عمر وهو أمير المؤمنين وأشد الناس في الإنكار وأبطشهم يدا وأحدهم لسانا ووقوفا مع الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم وأيضا فمن الشائع الذائع أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كا يبرد البريد من الشام لأجل السلام على رسول الله فقط ذكر هذا غير واحد منهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء وذكره الإمام هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان وذكره الإمام العلامة بن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن وذكره الإمام أبو بكر أحمد بن النبيل في مناسك له لطيفة جردها من الأسانيد والتزم فيها الثبوت ولفظه وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقريء النبي السلام ثم يرجع وهذا الإمام أبو بكر قديم توفي في سنة سبع وثمانين ومائتين فهذا السيد الجليل عمر بن عبد العزيز يبعث الرجل لأجل السلام فقط لا لقصد آخر وكان ذلك في زمن صدر التابعين وكان سفر بلال في زمن صدر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر ذلك أحد فدل على أن السفر لأجل زيارة قبره ولأجل السلام عليه مجمع عليه بين الصحابة والتابعين فأين دعوى إبن تيمية أن ذلك مخالف للسنة ولأجماع الأمة وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار ألا تسافر لتزور قبر رسول الله وتتمتع بزيارته فقال نعم يا أمير المؤمنين أفعل
وهذا أو بعضه كاف في إبطال دعوى إبن تيمية وإثبات فجوره وأتبرع بزيادة وأقتصر غاية الإقتصار قال بعض الأئمة واما زيارة قبر النبي فلم ينكرها أحد ولم يقع في السفر إليها نزاع ولم يزل سفر الحجيج إليه في السلف (1/104)
والخلف وصدق رضي الله عنه وهذه كتب العلماء من جميع المذاهب مصرحة بذلك وقد تقدم قول القاضي عياض زيارة قبره سنة من سنن المرسلين ومجمع عليها ومرغب فيها واحتج بحديث إبن عمر وأنس رضي الله عنهم وقد ذكر غير القاضي عياض ما ذكره وإذا تقرر ذلك ففي ذكرى ما أتبرع به مع غاية الإقتصار تتحقق أن إبن تيمية من أعظم الكذبة والفجار
وقد انكشف لك ذلك كما انكشف ضوء النهار
فمن ذلك ما ذكره القاضي أبو الطيب وهو من أئمة الشافعية قال ويستحب أن يزور قبر النبي بعد أن يحج ويعتمر أهو كيف يزور من غير سفر سواء كان راكبا أو ماشيا وقال المحاملي في كتابه التجريد ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي أهو وقال الحليمي في كتابه المنهاج عند ذكر تعظيم النبي وذكر جملة ثم قال وهذا كان من الذين رزقوا مشاهدته وصحبته وأما اليوم فمن التعظيم بيان تعظيمه وزيارته وقال الماوردي في كتابه الحاوي أما زيارة قبر النبي فمأمور بها ومندوب إليها وقال في كتابة الأحكام السلطانية في باب الولاية على الحجيج وذكر كلاما يتعلق بأمير الحاج ثم قال وإذا قضى الناس الحج أمهلهم الإمام الأيام التي جرت عادتهم بها فإذا رجعوا سار بهم على طريق المدينة للنبي ليجمع بين حج بيت الله عزوجل وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياما ببعض حقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحسنة
فتأمل هذه العبارة من هذا الإمام وما إشتملت عليه من الفوائد الجليلة وقال الإمام العلامة المتفق على دينه وكثرة علومه وعلو قدره الشيخ إبو إسحاق الشيرازي
ويستحب زيارة قبره وذكر القاضي حسين نحوه وكذا الروياني ولا حاجة إلى الإطالة بذكر من قال بزيارة قبره سواء في ذلك قبل الحج أو بعده وذكر السير إليه كثير من أصحاب الشافعي من جملتهم السيد الجليل أبو زكريا يحيى النووي قدس الله روحه قال في كتابه المناسك وغيرها فصل في زيارة قبر النبي سواء كان ذلك على طريقه أم لا فإن زيارته من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات أهو إذا عرفت هذا فأتبرع إليك بزيادة أخرى (1/105)
مع زيادة فائدة
قالت الحنفية إن زيارة قبر النبي من أفضل المندوبات والمستحبات بل تقرب من درجة الواجبات وممن صرح بذلك الإمام أبو منصور محمد الكرماني في مناسكه والإمام عبد الله بن محمود في شرح المختار
وقال الإمام أبو العباس السروجي وإذا انصرف الحاج من مكة شرفها الله تعالى فليتوجه إلى طيبة مدينة رسول الله لزيارة قبره فإنها من أنجح المساعي وكلامهم في ذلك يطول وأتبرع بزيادة هي أبلغ في تكذيب هذا الفاجر لأنها من كلام أئمة الحنابلة قال إبن الخطاب محفوظ الكاوذي الحنبلي في كتابه الهداية في آخر باب صفة الحج إستحب له زيارة قبره وصاحبيه وفيه فائدة وهي إستحباب شد الرحل إلى زيارة الصديقين رضي الله عنهما وقال الإمام بن أحمد بن حمدان في الرعاية الكبرى ويستحب لمن فرغ من نسكه زيارة قبر النبي وقبر صاحبيه رضي الله عنهما وذلك بعد فراغ الحج وإن شاء قبله وذكر نحو ذلك غيرهم ومنهم الامام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه مثير الغرام وعقد له بابا في زيارة قبره عليه الصلاة و السلام واستدل بحديث إبن عمر وأنس رضي الله عنهم
وذكر بن قدامة في المغني فصلا في ذلك فقال يستحب زيارة قبر النبي واستدل بحديث بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ولا أطول بذكري من ذكره من أئمة الحنابلة تبعا لإمامهم رضي الله عنهم وأتبرع بزيادة لفوائد جمة ومهمة
فمن ذلك ما في كتابي تهذيب الطالب لعبد الحق الصقلي عن أبي عمران المالكي أن زيارة قبر النبي واجبة وقال عبد الحق في هذا الكتاب رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها أبو محمد بن أبي زيد قيل له في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من ذلك فقال يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة وهي مسألة حسنة وفي كتاب النوادر لابن ابي زيد فائدة أخرى فانه بعد ان حكى في زيارة القبور من كلام إبن حبيب ومن المجموعة عن مالك ومن كلام القرطي بإسكان الراء وبالطاء المهملتين ثم قال عقبة ويأتي قبور الشهداء بأحد ويسلم عليهم كما يسلم على قبره وعلى (1/106)
صاحبيه وفي الكتاب المذكور ويدل على التسليم على أهل القبور ما جاء في السنة والتسليم على النبي وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مقبورين وقال العبدي المالكي في شرح الرسالة إن المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي أفضل من المشى إلى الكعبة وبيت المقدس وصدق وأجاد رضي الله عنه لأنه أفضل البقاع بالإجماع فهذه نبذة يسيرة والنقول في ذلك كثيرة جدا وفيها الإجماع على طلب الزيارة بعدت المسافة أو قصرت وعمل الناس في ذلك في جميع الإعصار من جميع الإقطار فكيف يحل لأحد أن يبدعهم بالقول الزور ويضلل أئمة أمة المختار بل من المصائب العظيمة أن يوقع وفد الله تعالى في جريمة عظيمة وهي عصيانهم بشد رحالهم لزيارة قبره عقب ما رجوه من المغفرة وبتركهم الصلاة التي هي أحد أركان الدين لأنهم إذا لم يجزلهم القصر وقصروا فقد تركوا الصلاة عامدين ومن تركها متعمدا قتل إما كفرا وإما حدا ولا يصدر هذا إلا ممن هو شديد العداوة لوفد الله تعالى ولحبيبهم الذين يرتجون بزيارتهم له إستحقاق الشفاعة التي بها نجاتهم وسأذكر عقب هذا الأدلة الخاصة بالحث على زيارته وأتعرض لما قدح فيها وفي الأئمة رواتها ومنه تعلم أن هذا الخبيث لا دين له يعتمد عليه فتراه واضحا جليا لا تشك فيه ولا ترتاب فنسأل الله تعالى العافية مما يرتكبه هذا الزائغ الفاجر الكذاب
وأن يذيقه أشد العذاب
على ما أفسد في هذه الأمة وسيلقي أشد الحساب وقوله إنما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي فكلها ضعيفة بإتفاق أهل العلم بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها أعوذ بالله من مكر الله عزوجل
أنظر أدام الله لك الهداية وحماك من الغواية إلى فجور هذا الخبيث كيف جعل الأحاديث المروية في زيارة قبر خير البرية كلها ضعيفة ثم أردف ذلك بقوله بإتفاق أهل العلم بالحديث ولم يجعل الأئمة الذين أذكرهم من أهل الحديث والعجب أنه روي عنهم في مواضع عديدة من كتبه وهذا من جهله وبلادة ذهنه وعمارة قلبه من أنه لا يعلم تناقض كلامه ونقضه بذلك ثم انه لم تخمد نار خبثه بما ذكره من الفجور حتى أردف ذلك بأن الأحاديث المروية في زيارة القبر المكرم موضوعة يعني أنها كذب وهذا شيء لم ير أحد من علماء المسلمين ولا (1/107)
من عوامهم فاه به ولا رمز إليه لا من عصره ولا من قبله قاتله الله تعالى ولقد أسفرت هذه القضية عن زندقته بتجرئه على الإفك على العلماء وعلى انه لا يعتقد حرمة الكذب والفجور ولا يبالي بما يقول
وإن كان فيه عظائم الأمور
وإذا عرفت هذا فينبغي أيها المؤمن الخالي من البدعة والهوى أن لا تقلده فيما يقوله ولا فيما يقولله بل تفحص عن ذلك وتسأل غير أتباعه ممن له رتبة في العلوم وإلا هلكت كما هلك هو وأتباعه ولنذكر بعض الأحاديث الوارده في زيارة قبره وأذكر من رواها وأحذف الأسانيد لأنها لاتليق بهذه الأوراق وقد رويت من طرق بلغت بها منزلة الصحيح أو قاربت أو منزلة الحسن وأذكر من صحح بعضها وأبين أنه من الأئمة الأعلام بالحديث وأنه يعتمد تصحيحه وبالله التوفيق فمن الأحاديث في زيارة قبره قوله من زار قبري وجبت له شفاعتي رواه غير واحد من أئمة الحديث منهم الدارقطني والبيهقي وغيرهما والحديث مروي بهذا اللفظ في عدة نسخ معتمدة وهو من حديث إبن عمر رضي الله عنهما وخرجه أبو اليمن في كتابه إيجاف الزائر
وأطراف المغنم للسائر
في زيارة سيدنا رسول الله وخرجه الحافظ بن عساكر في تاريخه في زيارة قبره بعد وفاته كان كمن زاره في حياته وخرجه العقيلي وغيره فلا نطول بذكر من رواه من أئمة الحديث المعتبرين وهو مروي من طرق تبلغ الحسن قال أئمة الحديث
والحديث أو الأحاديث وأن لانت أسانيد مفرداتها فمجموعها يقوي بعضها بعضا ويعتبر الحديث حديثا حسنا ويحتج به وممن ذكر ذلك أبو زكريا النووي ذكره في شرح المهذب في كتاب الحج وهي فائدة جليلة ينبغي معرفتها ليعلم بها جهل هذا الفاجر المبالغ في فجوره وقوله وجبت له شفاعتي معناه حقت ولا بد منها بوعده الصادق وفي ذلك بشاره عظيمة لزوار قبره الشريف وهي أن من زاره محتسبا مات على التوحيد وهذه البشارة العظيمة من ثمرة زيارة قبره المكرم وفي قوله وجبت له شفاعتي تحقيق لما قلته لأجل إضافة الشفاعة إليه ولأنه (1/108)
مشفع لا ترد شفاعته لا في حياته ولا بعد وفاته ولا في عرصات القيامة وقال من زار قبري حلت له شفاعتي رواه الحافظ البزار في مسنده وهو بهذا اللفظ في نسخة معتمدة وسمعها الحافظ أبو الحسين الصدفي على الإمام أبي عبد الله مورتش سنة ثمانين وأربعمائة ومعني حلت وجبت وقد عز عبد الحق هذا الحديث إلى البزار والداقطني وقال من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي رواه الدارقطني في سننه وغيرها وفي رواية ومن مات بأحد الحرمين بعث في الآمنيين يوم القيامة ورواه غير واحد وهو من حديث إبن عمر رضي الله عنهما وروي من طرق ورواه الحافظ بن عدي في كتابه الكامل بزيادة قال من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني وذكر البيهقي في سننه أنه ذكره بن عدي وخرجه هو بدون هذه الزيادة وخرجه الحافظ بن عساكر من حديث إبن عمر رضي الله عنهما قال قال
من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي زاد السهمي وصحبني ورواه الحافظ بن الجوزي بهذه الزيادة وقال من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني رواه بن عدي في كتابه الكامل وغيره وهو من حديث إبن عمر رضي الله عنهما وخرجه الدارقطني في أحاديث مالك التي ليست في الموطأ وهو كتاب ضخم وقال إبن الجوزي إن هذا الحديث موضوع وقد نسب إبن الجوزي في ذلك إلى السرف فأعرف ذلك وقال من زار قبري أو زارني كنت له شفيعا أو شهيدا رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وهو من حديث إبن عمر رضي الله عنهما ورواه إمام الأئمة إبن خزيمة ورواه البيهقي وإبن عساكر من جهة الطيالسي وروي بزيادة قال أبو داود الطيالسي حدثنا سوار إبن ميمون أبو الفرج العبدي قال حدثني رجل من آل عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنيين يوم القيامة وقال من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة رواه أبو جعفر العقيلي وغيره ومنهم الحافظ إبن عساكر وفي رواية (1/109)
السحاي قال حدثنا هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي قال من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ومن مات في أحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة
ومن هو في جواره فهو في الآمنين لا محالة وقال من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه ورواه الحافظ أبو الفتح الأزدي في فوائده وهذا أبو الفتح إسمه محمد بن الحسين وكان حافظا من أهل العلم والفضل وصنف كتبا في علوم الحديث ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وإبن السمعاني في الأنساب وأثنى عليه محمد بن جعفر بن غيلان وذكره بالحفظ وحسن المعرفة بالحديث وقال عليه الصلاة و السلام من زارني محتسبا كنت له شفيعا أو شهيدا وفي رواية من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة وهو من رواية أنس رضي الله عنه ورواه غير واحد وممن ذكره ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن وهو من طريق ابن أبي الدنيا وروي من طرق وقال عليه الصلاة و السلام من زارني ميتا فكأنما زارني حيا من زارني وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار في كتابه الدرة اليتيمة في فضائل المدينة وعن إبن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة و السلام قال من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زار قبري حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا خرجه العقيلي ورواه إبن عساكر من جهته إلا أنه قال من زارني في المنام كان كمن زارني في حياتي وهي فائدة جليلة وعن على كرم الله وجهه أنه عليه الصلاة و السلام قال من زار قبري بعد موتى فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني رواه الحسين بن يحيى بن جعفر في كتاب أخبار المدينة ورواه الحافظ أبو عبد الله بن النجار في كتابه الدرة اليتيمة من لم يزرني فقد جفاني ورواه الحافظ أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري في كتابه شرف المصطفى وهذا الكتاب في ثمان مجلدات
وأبو سعيد هذا له مصنفات في علوم الشريعة توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور (1/110)
وقبره بها مشهور ويتبرك به وكان ينتفع بكلامه وبوعظه وتنجلي بكلامه القلوب قدس الله روحه ونور ضريحه وقال عليه الصلاة و السلام من جائني زائرا لا تعمله حاجة الا زيارتي كان حقا على أن أكون له شفيعا يوم القيامة وفي رواية من جاءني زائرا لم تنزعه حاجة الا زيارتي إلا زيارتي رواه غير واحد من الأئمة الحفاظ المشهورين من حديث إبن عمر رضي الله عنهما ومنهم الطبراني في معجمه الكبير ومنهم الدارقطني في أماليه ومنهم أبو بكر إبن المقرى في معجمه ومنهم العلامة الحافظ أبو على سعيد بن عثمان بن السكن ذكره في كتابه المسمي بالصحاح المؤثرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يا هذا إنتبه لما أذكره قال في خطبة كتابه هذا أما بعد فإنك سألتني أن أجمع لك ما صح عندي من السنن المأثورة التى نقلها الأئمة من أهل البلدان اللذين لا يطعن فيهم طاعن مما نقلوه فتدبرت ما سألتني عنه فوجدت جماعة من الأئمة قد تكلفوا ما سألتني من ذلك وقد وعيت جميع ما ذكروه وحفظت عنهم أكثر ما نقلوه وإقتديت بهم وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك وجعلته أبوابا في جميع ما يحتاج إليه في أحكام المسلمين فأول من نصب نفسه لطلب الصحيح البخاري وتابعه مسلم وأبو داود والنسائي وقد تصفحت ما ذكروه وتدبرت ما نقلوه فوجدتهم مجتهدين فيما طلبته فما ذكرته في كتابي هذا مجملا فهو مما أجمعوا على صحته وما ذكرته بعد ذلك مما أختاره أحد الأئمة الذين سميتهم فقد ثبتت حجته في قبول ما ذكره ونسبته إلى اختياره دون غيره وما ذكرته فيما ينفرد به أحد أهل النقل للحديث فقد بينت علته ودللت على إنفراده دون غيره وبالله التوفيق فانظر اه أرشدك الله تعالى هذا الأتفاق من هذا الأمام والحرص علي تحقيق ما وضعه في كتابه لم يقنع بوضع البخاري ومسلم وغيرهما مع جلالتهم بل تتبع ما وضعوه حتى وضع في كتابه وهذا شأن الأئمة الخائفين من الله عزوجل من أن يقع منهم زلل في الأخبار عن رسول الله ثم أنه رضي الله تعالى عنه ذكر في هذا الكتاب في كتاب الحج في باب ثواب من زار قبر النبي عن إبن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله من جائني زائرا لم ينزعه إلا زيارتي كان حقا على الله أن أكون له شفيعا يوم القيامة ولم يذكر في هذا الباب غير هذا الحديث وهذا حكم منه بأن هذا الحديث مجمع على صحته بمقتضى الشرط (1/111)
الذي شرطه في الخطبة وهو رضي الله عنه إمام جليل حافظ متقن كثير الحديث واسع الرحلة سمع بالعراق وخراسان وما وراء النهر وسمع بالشام ومصر وسمع من خلائق من أئمة الحديث والأجلاء أهل الدين وهو من القدماء أصله بغدادي وسكن مصر ومات بها في نصف المحرم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة رحمة الله تعالى عليه وعلى أمثاله وإذا كان هذا حديث صحيح فكيف يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجعله ضعيفا فضلا عن أن يجعله كذبا وأقل درجات الثقة الخائف أن يقول صححه فلان وأما القول بوضعه وبتكذيب هذا الآمام وأمثاله فلا يصدر إلا من زنديق محقق الزندقة بهذه القرينة وغيرها عائذا بالله عزوجل من ذلك
وإذا تقرر لك ذلك فانظر أرشدك الله تعالى وعافاك هذا الخبيث الطوية كيف طعن في هذه الأئمة الأعلام في علوم الحديث الذين بهم يقتدي وعليهم يعول وعند ذكرهم تتنزل الرحمة ورماهم بالوضع على رسول الله وطعن في هذه الأخبار المروية عن هذه الأئمة
وهذا شأنه قاتله الله تعالى كلما جاء إلى شئ لاغرض له فيه طعن فيه وإن كان مشهورا ومعمولا به بين الأئمة ولا عليه لا من الله عز و جل ولا من رسوله ولا من الناس وتنبه لشئ عظيم رمى به هذه الأئمة وهو أن من قاعدته أن من كذب على النبي متعمدا كفر فعليه من الله عزوجل ما يستحقه وهذا وغيره يدل علي أن عنده ضغينة للنبي ولصاحبيه وكذا لأمته ليفوت عليهم هذا الخير الذي رتبه على زيارة قبره عليه أفضل الصلاة والسلام فاحذروه وإحذروا تزويق مقالته المطوي تحتها أخبث الخبائث فإنها لا تجوز إلا على عامي أو بليد الذهن كالحمار يحمل أسفارا أو خال من العلوم وأخبار الناس وبالله تعالى التوفيق والله أعلم
قال عليه الصلاة و السلام أن بين يدي الساعة دجاجلة فاحذروهم رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وقوله وفي الصحيحين عن النبي أنه قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصاري إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لابرزوا قبره ولكن (1/112)
كره أن يتخذ مسجدا فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما إعتادوه من الدفن في الصحاري لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذ مسجدا ويتخذ قبره وثنا الخ تأمل بصرك الله تعالى وفهمك كيف بعد تضليل هذه الآئمة وفجوره بادعاء أن هذه الآحاديث المتعلقة بالزيارة كذب كيف أردف ذلك بهذا الحديث محتجا به على منع زيارة القبر الشريف وفيه من أقوى الأدلة على تدليسه وسوء فهمه إذ الحديث ليس فيه تعرض للزيارة ألبته وإنما فيه منع إتخاذ القبور مساجد ونحن لم نتخذ قبره المكرم المعظم مسجدا ولا نصلي فيه ولا إليه بل نزوره وندعوا مع الأدب والخشوع والسكينة ورؤية العظمة لعلمنا بأنه يسمعنا ويجيبنا وعلى ذلك جرت عادة المؤمنين قال بعضهم رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله أتى قبر النبي فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه قد أفتتح الصلاة فسلم على النبي ثم إنصرف وقوله فهم دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها خلاف ما إعتادوه من الدفن في الصحاري لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذ مسجدا فيتخذ قبره وثننا هذا أيضا من التدليس منه وسوء الفهم على عادته وما قاله باطل يموه به على الضعفاء من الطلبة وغوغاء الناس وإنما دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها لما روي لهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدفنون حيث يقبضون وكان ذلك بعد إختلافهم أين يدفن فقال بعضهم يدفن في مسجده وقال بعضهم مع أخوانه فقال أبو بكر رضي الله عنه عندي من ذلك علم فذكر لهم أن النبي يدفن موضع يقبض فلما روى لهم الحديث دفنوه موضع قبضة وهذا من القضايا المشهورة في غاية الشهرة ولا نعلم أن أحدا قال أنهم دفنوه موضع قبضة للمعني الذي ذكره وهذا شأنه إن وجد شيئا يوافق هواه وخبث طويته ذكره ووسع الكلام فيه وزخرفه وإن وجد شيئا عليه أهمله أو حمله على محمل يعرف به أهل النقل جهله وتدليسه عند تأمله في بعض المواضع يعرف من غير تأمل وقوله وكانت الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد لا يدخل للصلاة هناك ولا يتمتع بالقبر ولادعاء هناك هذا أيضا من الجسارة التي يزخرف بها على العوام وأشباههم من سيئ الأفهام من الطلبة فإن هذا لايدل (1/113)
على مراده من منع الزيارة بل كلامه يدل على الزيارة بلا هذه الآفعال إلا الدعاء فليس كما قال وسيأتي إن شاء الله تعالى ومع ذلك ليس مجمعا عليه كما زعمه وأوهمه كلامه فإن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه زار والتزم القبر فأنكر عليه مروان بن الحكم فوبخه أبو أيوب وقال في كلامه ما معناه أبكوا على هذا الأمر إذا وليه غير أهله ذكر ذلك أبو الحسين في كتابه أخبار المدينة وروى عن إبن عمر رضي الله عنهما أنه وضع يده على موضع مقعد النبي من المنبر ثم وضعها على وجهه وكان رضي الله عنه يتردد إلى الأماكن التي كان يتردد اليها رسول الله وبراحلته لأجل التبرك وقد تقدمت قصة بلال رضي الله عنه لما شد رحله لزيارة قبره عليه الصلاة و السلام فلما وصل الضريح المكرم جعل يمرغ وجهه عليه ويبكي وقوله ولا دعاء هناك قضية سياقه أن الإجماع على أنه لا يدعو عند القبر وهي دعوى عريضة ثم أكد ذلك بقوله إنما يفعلونه في المسجد ثم أردف ذلك بقوله وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر ثم قال وأما وقت السلام فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر وقال أكثر الأئمة يستقبل القبر عند (1/114)
السلام خاصة ولم يقل أحد من الأئمة أنه لا يستقبل القبلة عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة عن مالك ومذهبه بخلافها ثم أردف هذا بأمور يجسر بها على الأغمار يتخيل الواقف عليها من العوام حسم باب الزيارة لقبره عليه الصلاة و السلام والحاصل من كلامه أنه لايدعي عند القبر بالأتفاق ولا يستقبل القبر عند الدعاء بالأجماع وأن الحكاية التى وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور كذب سبحانك هذا بهتان عظيم وهذا من الفجور الذي لا أعلم أحدا فاه به ولا رمز إليه لا من العلماء ولا من غيرهم
أما قضية مالك مع المنصور فقد ذكرتها في الكلام على التوسل فإنها صحيحة بلا نزاع وأما الدعاء عند القبر فقد ذكره خلق ومنهم الأمام مالك وقد نص على أنه يقف عند القبر ويقف كما يقف الحاج عند البيت للوداع ويدعو وفيه المبالغة في طول الوقوف والدعاء وقد ذكره إبن المواز في الموازية فأفاد ذلك أن إتيان قبر النبي والوقوف عنده والدعاء عنده من الأمور المعلومة عند مالك وأن عمل الناس على ذلك قبله وفي زمنه لو كان الأمر على خلاف ذلك لأنكره فضلا عن أن يفتي به أو يقره عليه وقال مالك في رواية إبن وهب إذا سلم على النبي ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم ولا يمس القبر بيده نعم في المبسوطة لا أرى أنه يقف عنده ويدعو ولكن يسلم ويمضي
وإنما ذكرت كلام المبسوطة لأن من حق العالم الذي يؤخذ بكلامه أن يذكر ماله وما عليه لأن ذلك من الدين وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله السمري في كتاب المستوعب في باب زيارة قبر النبي وإذا قدم مدينة رسول الله استحب له أن يغتسل لدخوله ثم يأتي مسجد رسوله الله ويقدم رجله اليمنى في الدخول ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره ثم ذكر كيفية السلام والدعاء وأطال ومنه اللهم أنك قلت في كتابك لنبيك عليه الصلاة و السلام ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية وأني قد أتيتك مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حال حياته اللهم إني أتوجه إليك بنبيك وذكر دعاء طويلا ثم قال وإذا أراد الخروج عاد إلى القبر فودع وهذا أبو عبد الله من أئمة الحنابلة وساق هذا الكلام سياق المتفق عليه ومن جملة ما أفاد أنه يتوسل بالنبي ويتوجه به (1/115)
بعد وفاته كما في حياته وأن الآية عامة وشاملة للحياة وبعد الوفاة فتنبه لذلك وكذلك ذكره أبو منصور الكرماني من الحنفية أنه يدعو ويطيل الدعاء عند القبر المكرم وقال الأمام أبو زكريا النووي في مناسكه وغيره فصل في زيارة قبر النبي وذكر كلاما مطولا ثم قال فإذا صلى تحية المسجد أتى القبر فاستقبله وإستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من جدار القبر وسلم مقتصدا لا يرفع صوته وذكر كيفية السلام ثم قال ويجتهد في إكثار الدعاء ويغتنم هذا الموقف الشريف إلخ فهذه نقول الأئمة بتطويل الدعاء عند القبر المكرم وقد خاب من افترى وكل أحد تلحقه الخيبة على قدره وقوله وهذا كله محافظة على التوحيد فإن من أصول الشرك بالله إتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا قالوا كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اعتكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها وقد ذكر ذلك المعنى البخاري في صحيحه عن إبن عباس رضي الله عنهما وذكره إبن جرير الطبري في تفسيره وغيره عن غير واحد من السلف إلخ وأنت أيها اللبيب أرشدك الله عزوجل وزادك بصيرة وفهما إذا تأملت هذا الإستدلال منه قطعت بجلهه وبخلطه في خبطه وعلمت بذلك سوء فهمه وخيالاته الفاسدة ومن نفس الدليل تعلم ذلك فإنه تخيل بذهنه الجامد وخياله الفاسد أن منع الزيارة والسفر إليها من المحافظة على التوحيد وأن الزيارة تؤدي إلى الشرك وعبادة الأوثان وهذا خيال فاسد لأن إتخاذ الصور مساجد وعيدا والعكوف وتصوير الموتى فيها هو المحذور والمؤدي إلى الشرك عند تطاول الزمان وهذا هو الممنوع منه كما هو مصرح به في الأحاديث الصحيحة في قوله لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا وفي قوله لما أخبر بكنيسة بأرض الحبشة قال أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل فهذا هو الذي حذر منه رسول الله وأما الزيارة والسلام على الميت والدعاء له وعنده فلم يؤد إلى ذلك ولا له تعلق بتلك الأمور ومن تخيل ذلك فهو من سوء فهمه في هذا الأمر الواضح ولو (1/116)
كان يؤدي إلى ذلك لما شرعه رسول الله وأبلغ من ذلك لما أمره الله عزوجل بالخروج إلى قبور الشهداء الذين أكرمهم بالشهادة حين نزل عليه جبريل عليه السلام وأمره بأمر الله تعالى بالخروج إلى بقيع الغرقد بل كان نهاه أن لو أراد الخروج وأيضا فانه عليه الصلاة و السلام قال زوروا القبور كما رواه مسلم وغيره بزيادة إلى غير ذلك مما علمهم كيفية الزيارة كما جاء في الأحاديث في زيارتها قولا وفعلا
وتواتر ذلك وأجمع عليه المسلمون حتى إن منهم من أوجب زيارتها الظاهر قوله عليه الصلاة و السلام زوروا القبور فلو كانت الزيارة من الأمور التي تؤدي إلى الشرك كإتخاذها مساجد وعيدا والتصوير ونحو ذلك لم يشرعه الله عزوجل لنبيه ولا شرعها بقوله وبفعله وقد أطلعه الله عزوجل على ما أراد من غيبه وبعثه بدينه القويم وهو الصراط المستقيم ولا فعلها الصحابة رضي الله عنهم الذين هم من أصفياء الله تعالى بل كانوا أحرص الناس على ذلك خوفا من إعادة ما جاء رسول الله بأماتته ودفنه واندراس أثره والله أعلم
وأنت أيها العاقل الفطن إذا تصورت ما نقلته لك وتعقلته بذهنك الصحيح علمت وتحققت أنه ليس لأحد أن يحرم إلا ما حرم الله تعالى وروسله وأنه لا يحل له التهجم على موارد الشرع ومصادره بخيالاته الفاسدة وأنه بذهنه الجامد أدرك ما لم يدركه الصحابة رضي الله عنهم ولو فتحنا هذا الباب وتتبعنا هذه الخيالات الفاسدة لهدمنا أمورا كثيرة من الدين ولا انحلت عراه عروة عروة وتبدلت بعد الجهالة ولمات الدين وذلك من الخسران المبين شعر
فالقول ما قال النبي وصحبه ... فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدي
وأعلم أن من جملة ما احتج به على منع زيارة قبره حديث اللهم لا تجعل قبري وثنا وعيدا
إشتد غضب الله على قوم إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وهذا من أظهر الأمور على عمى قلبه وطمس بصيرته كيف يتخيل متخيل فضلا عن أن يعتقد معتقد أن قبره المكرم المعظم يصير وثنا كلا والذي رفع ذكره وأعلى قدره وعظمه وملأ كتابه بذلك لا يمكن تصور ذلك وكيف يتصور وهو لا ترد له دعوة ولو في حق غيره فكيف بما هو في حقه وهذا من المعلوم الشائع الذائع عند المتسع الباع ولو عددت لك نقطة من ذلك مع (1/117)
الإقتصاد لضاقت القراطيس والألواح
ولما أدرك غبار مباديه ولما لاح
دعا لسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته فما دعا على أحد إلا استجيب له
وإذا كان هذا قد ناله ببركة دعوته فكيف بدعائه لنفسه لا سيما في هذا الأمر الفظيع
ومرض أبو طالب فعاده فقال ادع ربك أن يعافيني فقال اللهم اشف عمي فقام في الحال كأنما نشط من عقال فقال له يا ابن أخي أيطيعك ربك فقال يا عماه لئن أطعت الله عز و جل ليطعنك ودعا عليه الصلاة و السلام لعلى رضي الله عنه أن يكفيه الحر والبرد فكان يلبي في الشتاء ثياب الصيف وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حر ولا برد ودعا عليه الصلاة و السلام لابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وعلم التأويل فكان كذلك وكان بعد ذلك يسمى الحبر وترجمان القرآن
ودعا لعبد الرحمن بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما إشترى شيئا إلا ربح فيه
ودعا عليه الصلاة و السلام لعروة بن أبي الجعد فكان لو أشترى التراب لربح فيه
ودعا عليه الصلاة و السلام لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه بالبركة قال عبد الرحمن فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا وندت له عليه الصلاة و السلام ناقة فدعا بردها فجاءها إعصار ريح حتى ردها عليه فانظر كيف من كساه خلع القرب والمنزلة عنده أن جعلها سائسة بعيره
والأعصار أحد الاعاصير وهو الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود
وفي حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها أنه عليه الصلاة و السلام كان يوحي اليه ورأسه في حجر على رضي الله عنه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال عليه الصلاة و السلام اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء رضي الله عنها فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الجبال وذلك بالصبهاء بخير وقيل رجعت حتى بلغت نصف المسجد ومثل هذا كثير جدا وقد ذكرت جملة من ذلك في فصل الحج في كتاب تنبيه السالك على مظان المهالك
يا من أمد أبا هر بمزودة ... فأوقرت منه للغادين أحمال (1/118)
جئناك نطوي الفجاج المقفرات علي ... عبس لها في السرى وجد وارقال
قال أبو هريرة رضى الله عنه أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله هل من شئ فقلت نعم شيء من التمر في المزود قال فأتني به فأدخل يده فاخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة ثم قال ادع عشرة فأكلوا حتى شبعوا ثم عشرة كذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا ثم قال خذ ما جئت به وأدخل يدك وأقبض منه ولا تكفئه فقبضت على أكثر ما جئت به فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه فانتهب مني فذهب وفي رواية فقد حملت من ذلك التمر كذاوكذا أوسقا في سبيل الله تعالى فقد تحققت بهذا فضلا عن غيره وهو مثل الرمال كثرة يا صحيح الذهن وقوى الإيمان به أنه لا يكون قبره وثنا ألبته بل في الحديث الصحيح قد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب أو مثل هذا السيد المعظم المكرم لايتوسل به ولا تشد الرحال إليه قاتل الله العزيز من قاله وضاعف العذاب عليه
جدير بنا نسعى إليه وندلج ... فذاك الذي يسعى إليه ويدلج
جعلنا إليه في الحياة إحتياجنا ... ونحن إليه في القيامة أحوج
جميع الورى والرسل تحت لوائه ... ومن ذاله عن جاه أحمد مخرج
أو لهذا السيد الجليل المبجل لايشد إليه رحل ولا يتوسل به قائل الله قائله وجعله على رضف جهنم يتمايل
زكا قدره من ذا يجاريه في العلا ... وأعلامه في ذروة العز تركز
زحاما ترى للرسل تحت لوائه ... وكل نبي باللوا يتعزز
زعيم بتعجيل الشفاعة عندما ... أولو العزم عنها في القيامة تعجز
زفير لظي عنا يرد بجاهه ... إذا هي من غيظ علينا تميز
زكاة على الأبدان تسعى لقبره ... فسيروا وزورو فالغنائم تحرز
فمن زاره نال السعادة كلها ... ومن مات عجزا ذاك والله أميز
فمن توسل به إنما توسل به لعلو قدره ورتبته
وإرتفاع منزلته وكمالها (1/119)
عند ربه وعظيم إجلاله وفضله على جميع خلقة كما أخبرنا هو عن نفسه فإنه سيد الأولين وةالآخرين وحبيب رب العالمين وأحب الخلق إليه أجمعين ذلك شائع وذائع في الأقدمين والآخرين حتى في أعدائه المبطلين
قديما بدا قبل النبيين فضله ... وان قدموا بعثا ففي الفضل أسبق
قضى الله أن لا يلحق الرسل لاحق ... ولا أحد منهم بأحمد يلحق
قطعنا بأن لا يخلق الله شبهه ... قديما ولا في آخر الخلق يخلق
قل الحق هل تدري لأحمد مشبها ... فبادر وقل لا لا فانك تصدق
قرأنا أحاديثا صحاحا بأنه ... عليه لواء الحمد في الحشر يخفق
قياما له الأملاك والرسل تحته ... ومن حوله صفوا وحفوا وأحدقوا
قوي ولكن لين في أناسه ... رفيق ولكن بالمساكين أرفق
قريب لأرباب الحوائج ما ترى ... لأحمد حجابا ولا الباب يغلق
وكيف لا يكون كذلك وهو كما قيل فيه
أكرم العالمين أصلا وفصلا ... وجلالا وسيد البطحاء
خص بالحوض والشفاعة في الحشر ... لكل الورى ورفع اللواء
والمقام المحمود والسبق للناس ... دخولا في الجنة الفيحاء
ثم يعطي وسيلة هي أعلى ... درجات الجنان ذات البقاء
هو جاري وعدتي ونصيري ... وعمادي في شدتي ورخائي
وليس هذا خاصا بي وبفقري بل هو كما قيل فيه
له المقام الذي ما ناله أحد ... والفخر والمجد والإحسان والحسب
وهو الشفيع الذي تنجى شفاعته ... كل الأنام إذا ما مسها العطب
محمد خير خلق الله قاطبة ... وهو الذي لفخار المجد يكتسب
نوه به يا منادي الحي إن به ... تزول عن قلبي الآلام والكرب
عان له مقلة تشتاق تنظره ... ومهجة بلهيب الشوق تلتهب (1/120)
وكيف لا تلتهب وقد شاهدت ما شهدت مما لا يمكن النطق به ولا أفوه وكيف كيف أسلوه
رعي الله بالبطحاء أيامنا التي ... مضت موميض البرق ثم تولت
وحيا قبابا بين سلع إلى قبا ... لعزتها يحلو خضوعي وذلتي
نعمت بها لكن كالأحلام نائم ... كأن لم تزرها العيس حتى تولت
فهل لي إلى تلك العوالم عودة ... ولو دونها بيض الصوارم سلت
وألثم اجلالا ثراها وأجتلي ... شموسي في أرجائه وأهلتي
سقى الله ذات الظل من دارة الحمى ... حي نهلت منه رباها وعلت
وسحت على أعلام سلع مديمة ... غمائم بالنوء الروى استهلت
فتلك لعمر الله دار أحبتي ... وسكانها كل المراد وبغيتي
ألا ليت شعري هل أزور قبابها ... فتحمد فيها العيش شدي ورحلتي
وأنشد في أكنافها مترنما ... لمن نظم مدحي فيه بيت قصيدتي
ألا يا رسول الله أنت وسيلتي ... إلى الله إذ ضاقت بما رمت حيلتي
وان شئت قلت ... إلى الله في غفران ذنبي وزلتي
فالتوسل به لم يزل منذ آدم عليه السلام لا يتوقف فيه أحد ولا يطعن إلى أن ظهر بعض زنادقة اليهود وغلاتهم في بغضه قال وإنه بموته بطلت حرمته وجاهه فلا يتوسل به ولا يقال يا جاد محمد وتم ذلك بتوارث سلالتهم معتقدين مصرين عليه ثم زاد هذا الخبيث أن التوسل به شرك وقرره بتقرير ألحقه بقوله ما نعبدهم إلا لتقربوا إلى الله زلفى وذلك يدل على أنه من أجهل الجهلة فإن التوسل به معناه أسأل الله عزوجل برسوله وأتشفع إليه به فهو سائل لله عزوجل لالغيره ولا يلزم من التوسل به أو بشخص والتشفع إليه به أن يكون عبده ولا اتخذوا إلها وربا من دون الله ولا جعله شريكا في الألهية ومن جعل التوسل بشخص مثل هؤلاء فهو من جهله وسوء فهمه وعدم تعقله (1/121)
ما يقول ومثل هذا لا يحل لأحد أن يقلده ولا ينظر في كلامه إلا من له رتبة التمييز بين الحق والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر وقد قال حياتي خير لكم ومماتي خير لكم قالوا يا رسول الله قد عرفنا أن حياتك خير لنا فكيف وفاتك خير لنا قال أما حياتي فإنكم كلما أحدثتم حدثا أحدث الله لكم المخرج منه بي فإذا مت فلا أزال أنادي من قبري ربي أمتي حتى ينفخ في الصور ثم لا أزال أجاب أربعين سنة حتى ينفخ الأخري وتعرض علي أعمالكم فما كان من حسن شكرت الله عليه وما كان من سيء دعوت الله أن يغفره رواه الإمام العلامة هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان ورواه غيره فهو رحمة لنا في حياته وبعد وفاته فكيف لا يتوسل به إليه ولا نعمل البزل القناعيس نحوه وإليه وذلك مما أجمع أهل التوحيد عليه وأجمعوا على تكفير من قال بخلاف ذلك صرح به أئمة الأمة وأولهم مالك وكان إبن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقتصر فيه الصلاة ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي وجاء بريدي من مصر بإعتقاله على ذلك فاعتقل وكان على هذا الإعتقاد تلميذه إبن قيم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني فاتفق أن إبن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقى على منبر في الحرم ووعظ وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة وقال هأنا راجع ولا أزور الخليل ثم جاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى قال فلا يزور قبر النبي فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم وإلى نابلس وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل إبن تيمية
ولما كان يوم الجمعة رابع شعبان جلس القاضي جلال الدين بعد العصر بالمدرسة العادلية وأحضر جماعة من جماعة إبن تيمية كانوا معتقلين في سجن الشرع فادعى على إسماعيل بن كثير صاحب التاريخ أنه قال إن التوراة والإنجيل ما بدلا وأنهما بحالهما كما أنزلنا وشهدوا عليه بذلك وثبت في وجهه فعزر في المجلس بالدرة وأخرج وطيف به ونودي عليه بما قاله ثم أحضر إبن قيم الجوزية (1/122)
وادعى عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر فقامت عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ثم أعيدوا في السجن ولما كان يوم الأربعاء أحضر إبن قيم الجوزيه إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه فما كان جوابه إلا أن قال أن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي فأعيد إلبى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعذر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس ولم يزل هذا في أتباعه وحضر شخص إلى دمشق يقال له أحمد الظاهري وكان قد حفظ آيات المتشابه واحاديثه فكان يسردها على العوام وآحاد الناس من الفقهاء فعظمه أتباع إبن تيمية وأكرموه
ثم انه توجه إلى القاهرة فتشرع يسير الآيات والأحاديث تعلم بالامام العلامة الشيخ سراج الدين البلقيني فطلبه وأعلم به برقوق فأخذوه وقيدوه وكانوا يضربونه بالسياط أول النهار ثم يستعملونه في العمارة فإذا كان آخر النهار اعادوا عليه الضرب ثم بلغني أن آخر الأمر أن ضربوا عنقه وكان الشيخ زين الدين ابن رجب الحنبلي ممن يعتقد كفر ابن تيمية وله عليه الرد وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس معذور السبكي يعني في تكفيره والحاصل أنه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم والإزدراء بالنبي وبغيض الشيخين وبإنكار الأبدال الذين هم خلفوا الأنبياء ولهم دواهي أخر لو نطقوا بها لأحرقهم الناس في لحظة واحدة فنسأل الله تعالى العافية ودوامها إنه على ما يشاء قدير
وبالإجابة جدير وجرسوا ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق والله أعلم
وأعلم أني اقتصرت على الكلام على هذه الفتوى لإشاعتها بين العوام وفيها التعرض لمنع الوسيلة ومنع شد الرحال إلى قبر سيدنا رسول الله وإستدلاله لما قاله بالتجسير والتمويهات التي بينا بطلانها وفسادها وإن ذلك من أظهر الأمور علي فجوره في النقل والإغراء وأن لا يحل أن يقلده ولا يأخذ عنه ولا ينظر في كلامه ولا يسمعه إلا من يكون له رتبة التمييز بين الحق (1/123)
والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر ثم من الأمور المهمة المقربة إلى الله عزوجل وإلى رسوله وإلى وزيريه رضي الله عنهما بسط الألسن والأيدي فيهم جريا على ما درج عليه العلماء والسلاطين منذ أثار هذا الخبيث هذه الخبائث وأن يعلن بالتوسل بسيد الأولين والآخرين وأن يعتني بإظهار شد الرحال وإعمال المطي والأقدام إلى خير خلقه وحبيب القلوب
ومن بذكره تنجلي الكروب
ويهتز الطروب
تذهب الذنوب
التي بسببها حصل الإبعاد عن المزار وبعد الدار روى زيد بن أسلم أن عمر خرج ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكاء في الأسحار ... ياليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيب الدار ...
تعني رسول الله قال فجلس عمر رضي الله عنه يبكي شوقا إلى حبيبه رسول الله وتتصعد أنفاسه من نار الشوق لولا دموع المحبين تطفيء نار الشوق لأحترقت أكبادهم بأنفاسهم
يا خليلي قد بلغت القصدا ... وعرفت الغرام هزلا وجدا
خلياني من ذكر سلمى ونجد ... ودعاني من حب سلمى وسعدى
أنا لي في حشاشتي حب بدر ... أقسم الدهر أنه لا يبدي
نار وجدي بحبه في إزدياد ... وغرامي به تزايد جدا (1/124)
كلما رمت أن نفسي عنه ... نتسلى أبت ولا تتهدى
وتراها إذا ترنم حاد ... برباها تذوب شوقا ووجدا
لا تلمها إذا بدت بحنين ... وأنين يقد ذا القلب قدا
فلها معهد وأنس قديم ... ليس يفني وإن تطاول عهدا
كان الصديق رضي الله عنه من المشغوفين بمحبة رسول الله قال سيف بن عمر وكان سبب موت الصديق رضي الله عنه وفاة رسول الله كمدا عليه فما زال جسمه يتحرق حتى مات والكمد الحزن المكتوم
كنت السواد لناظري ... وعليك كنت أحاذر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك يبكي الناظر
والحمد لله أولا وآخرا
وباطنا وظاهرا
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وB الصديقين والصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين آمين (1/125)