دعوة الحق
بين المسيحية و الإسلام
القاضي منصور حسين عبد العزيز
تمهيد
خلق الله آدم عليه السلام ، وأسكنه الجنة ، وحذره من أن يأكل من شجرة من أشجارها ثم خلق له حواء لتكون له زوجة وأنيساً وأغوي الشيطان حواء أن تأكل وزوجها من الشجرة التي حرم الله أن يأكلا منها ، فأكلت حواء وأعطت رجلها فأكل معها ، وكانت هذه أول خطيئة للإنسان ، يعصى بها الله خالقه ، وكان أن أخرج الله آدم وزوجه من الجنة ، وأنزلهما إلى الأرض ، جزاء لمعصيتهما .
وكان من آدم وحواء ، كل من قابيل وهابيل ، وقتل قابيل أخاه هابيل ، وكان هذا قتلاً لنفس بغير حق ؛ كان خطيئة أخرى للإنسان ، وكانت خطيئة بشعة فظيعة في جرمها .
وتوالى نسل آدم وبنيه بعد ذلك على الأرض ، وبتوالى هذا النسل ، توالت الخطيئة هي الأخرى ، وكثر الشر ، واستشرى الفساد في الأرض ، ولم يكن الله ليرضي عن ذلك .
ومن هنا بدأت رسالات السماء إلى بني آدم ، لتنهاهم عن الشر والفساد ، ولتدعوهم إلى كل خير ، وإلى عبادة الله خالقهم ، وخالق كل شيء ، وشاء الله أن يطهر الأرض من الفساد بتطهيرها من المفسدين ، فأوحى إلى نوح عليه السلام أن يصنع فلكاً ، يأخذ فيه بنيه وأهله الصالحين معه ، فكان من نوح ما أمره به ربه ، وأغرق الله الأرض بمن عليها ، يطهرها ممن عاثوا فيها فساداً .
وتوالى النسل بعد ذلك على الأرض ، وكان إبراهيم الخليل عليه السلام ، وكانت زوجته سارة عاقراً ، فأعطته جارية تدعى هاجر ، أنجبت له ابنه إسماعيل ثم كان له من زوجته سارة بعد ذلك ابناً أسماه إسحق وكان عهدا من الله لإبراهيم أن يبارك نسله ، وفرض الختان على كل ذكر من هذا النسل .(1/1)
ويوماً ما ، امتحن الله إيمان إبراهيم ، فأوحى إليه أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه ، وكم كان صعباً على أب أن يطلب منه ذلك ، ولكن إيمان إبراهيم وطاعته لربه جعلاه ينصاع لأمره ، حتى إذا ما هَمَ إبراهيم بذبح ابنه وحيده الذي يحبه منعه الله ، وفدا ابنه بذبح عظيم ، وكرر عهده له أن يباركه ونسله لأنه لم يمنع ابنه عنه .
وتوالى نسل بني آدم بعد ذلك على الأرض ، وتوالت معه الشرور والآثام ، وتوالت أيضاً رسالات السماء إلى بني آدم ، تنهاهم عن الشر ، وتدعوهم إلى الخير والمحبة وعبادة الله ، خالقهم وخالق كل شيء ، وتوالى بالرسالات الرسل الأنبياء ، إلى موسى عليه السلام ، الذي به عرفت التوراة كتاب الله المنزل عليه ، إلى المسيح عليه السلام ، الذي به عرف الإنجيل ، كتاب الله أيضاً .
وكان المسيح عليه السلام صريحاً واضحاً ، فإنه لا يقيم ديناً جديداً بين الناس ، بل يكمل الدين الذي بدأه الرسل من قبله ، فقد قال : ( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ) وبهذا عرف من اتبعوا المسيح أن دينهم ليس ما أتي به المسيح عليه السلام فحسب ، بل ومعه كل ما نزل على الرسل من قبله ، ولذا جعلوا من كل ما نزل قبل المسيح عليه السلام ، جزءاً من كتابهم المقدس الذي به يؤمنون .(1/2)
ثم كان بعد ذلك ، محمد عليه السلام ، وآمن المسلمون بأنه رسول الله ، وبأن القرآن قد أوحى به إليه من الله سبحانه وتعالى ، وكما دعا المسيح عليه السلام أتباعه إلى الإيمان بالأنبياء الذين سبقوه وبما نزل عليهم ، جاء القرآن صريحاً وقاطعاً في هذا المعني حيث يقول : (( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) وبذا كان الإيمان بالرسل السابقين وبرسالاتهم فرضاً على المسلمين حتى أنه لا يكون مسلماً من لا يؤمن برسالة أي منهم .
وهكذا كان الإسلام والمسيحية يلتقيان معاً على الإيمان بجميع الرسل والرسالات السابقة ويؤمن المسلمون والمسيحيون على السواء كذلك بالمسيح عليه السلام وبرسالته ، ويلتقيان معاً أيضاً على الدعوة إلى كل خير ، إلى الحق والعدل ، إلى كل القيم وأسمي المثل إلى البر ، إلى المحبة ، إلى الوفاء ، إلى الإخلاص ، إلى نبذ كل الشر ، إلى الإيمان بالحياة الأخرى ، إلى الإيمان بأن الحياة الدنيا هي دار الفناء وأما الحياة الأخرى فهي دار البقاء والخلود ، وفيها تجزي كل نفس عما أتته في دنياها ، فإن كل خيراً كانت لها الجنة ، وإن كان شراً كان لها العذاب جزاء لما جنت يداها.
وتلتقي المسيحية والإسلام قبل كل ذلك ، ويجتمعان على الدعوة إلى عبادة الله الواحد ، الذي لا إله إلا هو سبحانه خالق كل شيء ، رب العالمين ، سبحانه وتعالى رب الكون جميعاً ، بكل ما فيه من حياة أو جماد ، سبحانه وتعالى منه كل شيء ، وإليه كل شيء ، وإليه الأمر جميعاً .(1/3)
وعلى هذا اللقاء الرائع العظيم بين المسيحية والإسلام ، والذي كان حقيقاً بأن يجعل منهما ديناً واحداً يؤمن به الناس جميعاً ، مسيحيين كانوا أو مسلمين ، فاللقاء بينهما كما يتبين من القرآن ، لقاء وحدة ، إذ حتم على المسلمين أن يؤمنوا بجميع الرسل قبل محمد عليه السلام ، وبكل ما نزل عليهم من الله ربهم ورب العالمين ، بما في ذلك المسيح عليه السلام ورسالته ، فكيف إذن تختلف المسيحية والإسلام ، وهما يلتقيان على الإيمان بالمسيح وبرسالته وبكل الرسل قبله وبرسالتهم ولكن مع ذلك ، وبرغم هذا اللقاء الكامل ، فإن المسيحية والإسلام يبدوان بين الناس اليوم كأبعد ما يكونان عن أن يلتقيا.
والغريب في هذا الأمر ، أن أسباب التباعد لا تقوم على رفض المسيحيين الإيمان بمحمد عليه السلام وبرسالته ، وإنما تقوم في حقيقة الأمر على الخلاف حول معتقدات المسيحيين أنفسهم في المسيحية نفسها وليس في الإسلام ، فمن العجيب أن يكون هذا الخلاف ، مع اتفاق كل من المسلمين والمسيحيين على الإيمان بالمسيح وبرسالته ، ومع ما هو مفروض في المسلمين من إيمانهم بكل ما صدر عن المسيح ، وهو ما يعتقد المسيحيون أنهم قد استخلصوا منه معتقداتهم .
والنظر إلى الأسباب التي سببت هذا التباعد بني المسيحية والإسلام ، رغم اللقاء الرائع الذي نجده بينهما ، يكشف عن أن هذا التباعد يستحيل معه أي لقاء إلا أن يعدل أتباع أي من الدينين عن الإيمان بالمعتقدات التي سببت هذا الخلاف وأنتجت ذاك التباعد .
أما الأسباب الرئيسية التي سببت كل هذا التباعد فإنها تنحصر في أمرين أولهما هو الخلاف حول صلب المسيح عليه السلام ، وثانيهما ، هو الخلاف حول طبيعة المسيح عليه السلام .(1/4)
والخلاف حول صلب المسيح يبدو غاية في الغرابة ، فالتاريخ قد سجل أن المسيح عليه السلام قد قبض عليه وحوكم وصلب في عهد بيلاطس البنطي ، وكاتبوا الأناجيل قد سجلوا صلب المسيح على أنه حقيقة مسلمة وعلى أساس من التسليم بصلب المسيح كحقيقة مؤكدة لا ريب فيها بني المسيحيون معتقداتهم الدينية ، ولكن ، بعد حوالي ستة قرون ، جاء محمد عليه السلام بالقرآن ، يقول بأنه من الله ، وفي القرآن يقول الله أن المسيح عليه السلام لم يصلب ، ولكن توفاه الله ورفعه إليه ، وينظر المسيحيون في عجب ، بل ربما في رثاء وإشفاق ، إلى هذا الدين الجديد يقول على لسان الله أن المسيح لم يصلب ولكن توفاه الله إليه ، فالصلب كحقيقة ربما لم تعد تحتمل عندهم أي نقاش ، فأني لأحد أن ينفيها نفياً قاطعاً ، بعد التسليم بها ، ووضوحها للمسيحيين وغير المسيحيين على السواء ، وعلى مدى يقرب من ستة قرون ، ولعل هذا النفي وحده عندهم كاف لتكذيب هذه الرسالة التي دعا إليها محمد عليه السلام ، أما المسلمون فيؤمنون بأن القرآن من عند الله ، وهو وحده سبحانه وتعالى يعلم الجهر وما يخفي ، وإذا كان الذي استقر عند الناس طوال ما يقرب من ستة قرون أن المسيح قد صلب ، فإن الله إذا نفي بعد ذلك في قرآنه الكريم صلب المسيح ، فإنه يكون لم يصلب فعلاً وتكون هذه هي الحقيقة وحدها مهما بدا خلافاً لها ، لأن الله لا يخطئ أبداً ، ولكن الناس جميعاً يمكن أن يخطئوا ، ولذا ، فمهما كان هناك من إجماع على أن المسيح قد صلب ، فإنه لم يصلب فعلاً ولكن رفعه الله إليه ، ما دام الله قد قال ذلك (1) على الإطلاق ، وذلك بعكس المسيحيين الذين يؤمنون بالمسيح كآله فيقولون عنه فيما يسمي بقانون الإيمان :(1/5)
( ونؤمن برب واحد ، يسوع المسيح ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء ، هذا من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا ، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومريم العذراء ، وتأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي ، وتألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب ، وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين أبيه ، وأيضاً يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات ، الذي ليس لملكه انقضاء ).
فهذه الألوهية التي يؤمن بها المسيحيون للمسيح عليه السلام ليست صحيحة على الإطلاق عند المسلمين الذين ينفون هذه الألوهية نفياً تاماً .
واستمرار أسباب التباعد بين المسيحية والإسلام على هذا النحو ، هو استمرار لاستحالة اللقاء بينهما ، ومع ذلك فإن المسيحيين والمسلمين على السواء يبدون معذورين في تمسكهم بالأسباب التي تبقي على هذا التباعد ، فالمسيحية إنما تبدو وكأنها لم تقم إلا على أساس من صلب المسيح وألوهيته ، فهذا ما ذكر في الأناجيل والرسائل التي يتداولونها إلى اليوم ويؤمنون بأنها كتبت بوحي وإرشاد من الروح القدس ، أي من الله حسب اعتقادهم في الروح القدس ، وبالتالي فإن عدم الإيمان بألوهية المسيح أو صلبه يكون عندهم بمثابة الكفر بالمسيحية ، أما الإسلام ، فسنده الأول هو القرآن ، والذي يؤمن المسلمون بأنه منزل من عند الله ، ولقد نفي القرآن صلب المسيح أو ألوهيته ، ومن ثم ، فالإيمان بغير ذلك ، إنما هو تكذيب لما ورد في القرآن عنه وبالتالي نفي لكون القرآن من عند الله ، وبذلك يفقد الإسلام دعامته الأساسية والتي تقوم على كون القرآن منزلاً من لدن الله (1) ، الأمر الذي لن ينتهي إلا بهدم الإسلام نفسه كدين سماوي ، وهذا بالطبع مالا يتصوره المسلمون ، ولذلك يؤمنون بأن المسيح عليه السلام لم يصلب وينفون عنه الألوهية نفياً قاطعاً .(1/6)
ويقف الباحث عن الحقيقة حائراً ، فإن الحقيقة لا يمكن إلا أن تكون واحدة ، فأما أن المسيح عليه السلام يكون قد صلب وأما أنه لم يصلب ، وأما أن يكون قد صلب ولم يصلب معاً فهذا محال ، ثم أنه أما أن يكون هو الله وأما أنه ليس هو الله ، أما أن يكون هو الله وليس هو الله في آن واحد فهذا محال ، فما هي الحقيقة بين كل ذلك ، هل هو قد صلب حقاً أم لم يصلب ، وهل هو الله حقاً أم هو ليس إلهاً على الإطلاق .
ومما يزيد الأمر عجباً وتعقيداً ، أن المسيحيين حين يكتبون عن المسيح فيقولون أنه قد صلب وأنه هو الله ، فإنما يقولون بأنهم لا يذكرون غير الحقيقة ، بل أنهم ليؤمنون حقاً بأنهم لا يذكرون غير الحقيقة ، والمسلمون كذلك ، فإنهم حين يقولون بأن المسيح عليه السلام لم يصلب وبأنه ليس إلهاً ، فإنما يقولون أيضاً بأنهم لا يذكرون غير الحقيقة ، بل إنهم ليؤمنون حقاً بأنهم لا يذكرون غير الحقيقة ، ولكن ، المحال أن تكون الحقيقة في جانب كلا الطرفين على السواء ، فإلي أي الجانبين تقف الحقيقة ، أو ما هي الحقيقة ، فعلها لا تقف إلى جانب أي منهما.
والواقع ، أن الحقيقة هي ما يهدف إليه كل إنسان ، فلا نتصور إنساناً يسعي إلى غير الحقيقة ، أو يستهدف ما عداها ، وإيمان الإنسان ، إنما هو الإيمان بما يوقن أنه الحقيقة ، وما دام أن أساس الإيمان اتفاقه مع الحقيقة ، فلا يقبل من إنسان أبداً أن يخشى الحقيقة أو أن يرفضها ، فما دام موقناً بأن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة فأي عذر له لكي يرفضها أو يخشاها ، ما دام أن وصوله إليها لن يعني إلا تأكيد إيمانه إن صح ، أو تصحيحه إن لم يصح ، ولهذا كانت الحقيقة ، والحقيقة وحدها ، بين المسيحية والإسلام ، هي عنوان هذا البحث وموضوعه وهدفه وغايته .(1/7)
وإذا قلنا أن الحقيقة بين المسيحية والإسلام هي موضوع هذا البحث وهدفه وغايته ، فإن حقيقة المسيحية بالذات هي التي سأتناولها بالبحث ، لأن المسيحيين والمسلمين على السواء يتفقون على الإيمان بالمسيح وبرسالته وبكل ما دعا إليه ، فإذا كانت حقيقة المسيحية تناقض ما قال به الإسلام ، كأن تكون الحقيقة أن المسيح عليه السلام قد صلب أو أنه هو الله ، لكان في ذلك ما يهدم الإسلام كدين من عند الله ، وإن كان يبقي بعد ذلك لزوم إقناع المسلمين من جديد بالمسيحية ، لأن السند في إيمانهم بها إنما كان هو القرآن والإسلام نفسه ، أما لو كانت حقيقة المسيحية تطابق ما قال به الإسلام ، كأن تكون الحقيقة أن المسيح لم يصلب وأنه ليس إلهاً وإنما هو إنسان رسول بشر ، لكان في ذلك أقوى دعامة للإسلام يتحتم معها على المسيحي الحق أن يؤمن به ، ولن يكون في ذلك أي هدم للمسيحية حينئذ ، وإنما على العكس سيكون ذلك إحياء للمسيحية الحقة ، وإزالة لما عاق المسيحية والإسلام طوال قرون عديدة عن المضي معاً في وحدة كاملة متكاملة ، متساندة في الدعوة إلى الإله الواحد الذي لا إله إلا هو ، دافعين معاً تيار الآخذ في الانتشار ، حتى كاد أن يطوى تحت لوائه شعوباً بكاملها .(1/8)
على أن يثور التساؤل ، فكيف سنعرف أن ما نصل إليه هو الحقيقة ، هل بأن نقول أننا إنما نستهدف الحقيقة ، وأننا إنما نؤمن بأن ما نقوله هو ما يتفق مع الحقيقة ، بالطبع لا ، فلقد وجدنا أن هذا هو ما يقوله - صراحة أو ضمناً - كل كاتب مسيحي في تأييده لمعتقداته ومحاولته إثباتها ، وهو أيضاً ما يقوله - صراحة أو ضمناً - كل كاتب مسلم في تأييده لمعتقداته ومحاولته إثباتها ، ومع ذلك فإنهم دائماً ينتهون ، وبالرغم مما يصرحون به ، إلى طرفي نقيض ، بل أكثر من هذا ، فما أسهل أن يقال عن الكاتب الذي ينتهي إلى إثبات معتقداته وتأييدها من أنه إنما تحيز لدينه ، بل حتى هذا الذي ينتهي إلى تأييد معتقدات أتباع الدين الآخر الذي لا يعتنقه لا يسلم من أن يجرح فيقال عنه أنه إنما باع دينه بدراهم معدودات .
ولهذا ، فليس من سبيل للحكم على أي بحث إلا للبحث نفسه ، لمنهج البحث ، لسبيل الكاتب في البحث ، فالبحث إنما يتحدث بنفسه عن نفسه ، فيكشف عما إذا كان كاتبه يستهدف الحقيقة وحدها أم لا . ويكشف منهجه وسبيله للقارئ عما إذا كان الكاتب قد اتبع المنهج الصحيح والسبيل الحق إلى الحقيقة وحدها أم لا. وليكون بعد ذلك ، من ضمير القارئ ، كل قارئ ومن يقينه واطمئنانه بل ومن متابعته البحث بنفسه ، ومراجعته للكاتب قدر استطاعته في كل ما يقوله أو ينقله ، ومن إيمانه بكل ما هو حق ليكون من كل ذلك الحكم العدل فيما ينتهي إليه البحث وفيما يختم القارئ على نفسه بعده أن يؤمن به ما دام قد اطمأن إلى أنه إنما يطابق الحقيقة.(1/9)
بل أن هذا هو ما تحتمه حرية العقيدة ذلك المبدأ الذي لا يختلف اثنان على الإيمان والتمسك به فالإنسان في عقيدته إنما يجب أن يكون حراً مختاراً فلا يؤمن إلا بما يقتنع عن حرية واختيار بأنه يطابق الحقيقة فالعقيدة إذا ما فقدت الحرية أو الاختيار فقدت مفهومها كعقيدة ولذا فالطريق إليها يجب أن يكون أساسه الحرية والاختيار وقوامه الضمير الواعي واليقين والاطمئنان والإيمان بكل ما هو حق .
وعلى هذا الأساس ، وعلى أساس من كل ما تقدم ، على أساس من استهداف الحقيقة وحدها ، ومن ترك للبحث ، لمنهجه وسبيلي فيه ، ومن الاحتكام إلى ضمير كل قارئ ، مسيحياً كان أو مسلماً وإلى يقينه واطمئنانه ، وإيمانه بكل ما هو حق ومتابعته بنفسه لكل ما أكتب ومراجعته لكل ما أنقله أقيد هذا البحث سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يهديني والقارئ فيه إلى الحقيقة وحدها.
وعلى أساس من الحقيقة التي قد ننتهي إليها مع القارئ ، يمكننا أن نستكشف معاً دعوة الحق وأن نتبين معاً مضمونها .
الباب الأول
في
منهج البحث
رأينا في التمهيد ما لمنهج البحث من أهمية في الحكم على البحث نفسه ، ولذا كان من الأهمية بمكان أن نبدأ ببيان المنهج أو الأسس التي سيقوم عليها البحث ، ويقتضي هذا التعرف على باقي المناهج التي تتناول نفس الموضوعات ، لبيان المقبول منها وأسباب قبوله ، وغير المقبول منها وعلة رفضه ، ويتطلب هذا بدوره تناول كل منهج منها بشيء من الشرح والتفصيل والنقد ، وذلك كله يجعل من اختيار منهج البحث وأسس البحث موضوعاً متكاملاً في حد ذاته ، يلزم إفراد باب مستقل له.(1/10)
وطبيعي أن يكتب العديدون في شرح المسيحية ، وأيضاً في شرح الإسلام ، وطبيعي أن يكتب المسيحيون في تأييد معتقداتهم وإثباتها ، وأن يكتب المسلمون في تأييد معتقداتهم وإثباتها ، ولما كان هؤلاء وأولئك ينتهون إلى طرفي نقيض ، فمن الطبيعي أن تختلف المناهج والأسس التي يقيمون عليها أبحاثهم وكتاباتهم وهو ما سنعرض له بعد بشيء من التفصيل ولكن نسبقه ببيان موجز في التعريف بهذه المناهج ثم نفرد بعده فصلاً مستقلاً لكل منها وننتهي ونختم هذا الباب بفصل أخير عن المنهج أو الأسس الواجب اتباعها في البحث للوصول إلى الحقيقة والتي سنلتزم بها في هذا البحث .
وأما المناهج التي يقيم الكتاب أبحاثهم على أساسها فهي لا تخرج عن أربعة مناهج :
فهناك أولاً تلك الكتب التي يكتبها المسيحيون والمسلمون والتي يحاول كل فيها شرح دينه ومعتقداته بشأنه وإثباتها فما هو لمسيحيين من هذه الكتب إنما يحاول شرح المسيحية بمفهومها لدي المسيحيين وإثبات معتقداتهم بشأنها وهي تحاول شرح ذلك ، دون أن تتعرض للإسلام في شيء ثم هي في شرحها لصلب المسيح وألوهيته ومحاولتها إثبات ذلك لا تقصد بهذا أن تطعن في الإسلام وإنما تقصد مجرد شرح المسيحية وإثباتها بمفهومها المستقر لدي من يدينون بها أما ما هو لمسلمين من هذا النوع من الكتب فإنما يحاول شرح الإسلام ومعتقداته دون أن يتعرض للمسيحية في شيء ، فإذا ما نفت هذه الكتب صلب المسيح أو ألوهيته فليس ذلك منها محاولة للطعن في المسيحية ، أو في مفهوم المسيحية لدي من يدينون بها وإنما هو محاولة لشرح ما يقول به الإسلام في شأن هذين الأمرين وهذا النوع من الكتب هو الأعم الأغلب من كتابات المسيحيين والمسلمين سواء.(1/11)
وهناك ثانياً كتب لمسيحيين تتعرض للإسلام إما بنفي تنزيل القرآن نفسه من عند الله ، وإما بمحاولة إثبات مفهومات المسيحية بالتدرج من القرآن إلى الكتاب المقدس ، ثم نفي تنزيل القرآن من الله ، وهو ما ينفي بالتالي عن الإسلام حقيقته كدين من عند الله ، يقابل هذه الكتب كتب لمسلمين تحاول إثبات مفهومات الإسلام عن المسيحية بنفي صحة الأناجيل الأربعة التي يتداولها المسيحيون ويعتقدون بصحتها والتمسك بإنجيل آخر والقول بصحته ، رغم أن المسيحيين أنفسهم لا يؤمنون بصحته وفيه ما يؤيد مفهومات الإسلام عن المسيحية.
ثم هناك ثالثاً كتب أخرى يستشعر القارئ لها بمدي الألم الذي يحسه كاتبوها (مسيحيين كانوا أو مسلمين) لأن يروا أناساً اجتمعوا على الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ثم انتهوا رغم ذلك إلى فرقة هي أبعد ما تكون عن أي لقاء ولذلك يقومون بما يرونه واجبهم في محاولة لجمع الشمل وتوحيد الكلمة فيحاول مسيحيون أن يثبتوا صحة مفهومات المسيحيين ومعتقداتهم من القرآن نفسه محاولين إثبات أن القرآن وبالتالي الإسلام لا يتعارض مع مفهومات المسيحيين واعتقادهم في بعض الأمور التي يختلف المسلمون معهم فيها ، بينما نري من المسلمين من يحاول التقريب بين المسيحية والإسلام بالتسليم ابتداء بأن ثمة خلافات لابد من الاعتراف بها بينهما دون أن يجوز أن تقف هذه الخلافات عائقاً عن أن تتعاون كل من الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية فيما يتفقان عليه انتصاراً لقضية التدين جملة.
وهناك أخيراً طائفة أخرى من الكتب يبين من منهجها أنها لا تستحق التفكير في بحثها وهي تلك الكتب التي لا هم لها إلا التعرض للدين الآخر بالهزء والتجريح دون أن تتبع أي أسس سليمة أو مقبولة للبحث ولذا تكفي هذه الإشارة إليها مع إسقاطها بعد ذلك من التفصيل الذي سيلي في نقد المناهج السابقة .
الفصل الأول
الكتب التي تتعرض لدين واحد دون الآخر(1/12)
قلنا أن الكتب التي تتعرض لدين واحد دون الآخر هي الأعم الأغلب من الكتب الدينية للمسيحيين والمسلمين على السواء ، فمعظم الكتب التي هي لمسيحيين إنما تشرح مفاهيم المسيحية ومعتقدات المسيحيين بشأنها كما استقرت لديهم وتحاول إثبات صحة هذه المفاهيم ، دون أن تتعرض في ذلك للإسلام في شيء ولعل ذلك منها إنما هو اكتفاء بعدم الاعتراف بالإسلام كدين من عند الله وهو ما يفهم منها صراحة أو ضمناً .
ومعظم الكتب التي هي لمسلمين كذلك إنما تقوم على شرح مفاهيم الإسلام وتعاليمه وأحكامه التي يجب علي المسلمين إتباعها وعقائده التي عليهم أن يؤمنوا بها ومما تشرحه هذه الكتب ما ينفي صلب المسيح أو ألوهيته دون أن يكون ذلك منها محاولة للتعريض بالمسيحية كما هي مستقرة اليوم لدي من يدينون بها وإنما لمجرد شرح الإسلام وما جاء به القرآن الذي يؤمن المسلمون بتنزيله من عند الله .
وثمة أمر معين يلاحظ بوضوح في هذه الكتب ، بل في الكتب الدينية المسيحية والإسلامية على اختلاف مناهج البحث فيها ويجعل هناك دائماً ثمة فارقاً واضحاً بين الكتب المسيحية والكتب الإسلامية عموماً ويقوم هذا الفارق على كيفية النظر إلى الكتب السماوية السابقة ، فعلي أن المسيحية والإسلام يجتمعان معاً على الإيمان بجميع الرسل والكتب السماوية السابقة على المسيح فإن المسيحيين وحدهم هم الذين يعنون بالكتب السابقة حتى أنهم يجمعونها جميعاً معاً ويلحقون بها الأناجيل وما تلاها من أعمال ورسائل ويجعلون من هذا كله كتاباً واحد يؤمنون به جميعه ويسمون بالكتاب المقدس مؤكدين ومنفذين بذلك قول المسيح عليه السلام ( لا تظنوا أني جئت لأنقض القاموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل ) .(1/13)
وإذ يقيم المسيحيون إيمانهم على أساس من الإيمان بالكتاب المقدس جميعه على هذا النحو فإنهم لذلك لا تكاد كتاباتهم تخلو إطلاقاً من الإشارة إلى آيات في الكتب السابقة على الأناجيل ، محاولين دائماً الربط بين ما جاء في الكتب السابقة وبين رسالة المسيح عليه السلام ، ويخرجون من ذلك إلى ما يعتقدون أنه يكون وحدة كاملة يقوم عليها دينهم كله وكل معتقداتهم بشأنه .
وكان مفهوما أن يكون هذا هو عين ما يفعله المسلمون الذي يؤمنون إيماناً نابعاً من دينهم كما سبق بتنزيل الكتب السابقة من الله ، وبأنها مما يجب أن يؤمنوا به بما في ذلك رسالة المسيح نفسه عليه السلام ، إلا أننا نرى أن المسلمين رغم ذلك يكادون أن يغفلوا هذه الكتب إغفالاً تاماً حتى ليسقطونها تماماً من اعتبارهم وهم يبررون ذلك بأنه ما دام قد جاء في القرآن أن المسيح عليه السلام لم يصلب وأنه ليس إلهاً بأي حال من الأحوال وأنه قد بشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ولا يجدون في الأناجيل شيئاً من ذلك بل يجدونها توكد صلب المسيح وألوهيته ولا تشير إلى رسول يأتي من بعد المسيح فلابد إذن أن تكون هذه الأناجيل مزورة ولذا يجب إسقاطها من الاعتبار ونفس الأمر يسري على ما سبق الأناجيل من كتب ولذا يسقطونها من الاعتبار تقريباً ، ثم هم يجدون في القرآن وأحاديث الرسول عليه السلام الكفاية التي تغنيهم عن الكتاب المقدس نفسه لما ورد فيه من أخطاء وتزوير وهم لن يسلموا من الوقوع في أخطائه إذا أخذوا به كما هو واعتبروه كتاباً صحيحاً (1).(1/14)
ولعل هذا المنهج في البحث لا يعاب على أصحابه ولا محل لنقده فكل يقتصر على شرح دينه ومعتقداته بشأنه وكل يتوجه بكتاباته إلى من يدينون بنفس دينه دون أن يتعرض للدين الآخر إلا فيما يتعلق بشرح عقيدته هو ، وإنما البحث وفق هذا المنهج لا يجدي في البحث المقصود عن الحقيقة بين المسيحية والإسلام ، إذ هو يفترض ابتداء الإيمان بمفهومات المسيحية كما استقرت لدي المسيحيين والتسليم بها أو يفترض ابتداء الإيمان بما جاء به الإسلام والتسليم بصحة ما قال به القرآن والبحث على هذا الأساس إنما هو مصادرة للحقيقة لأنه إنما يقوم على أساس من افتراض ثبوتها على نحو معين ابتداء بينما نفس الافتراض هو ما نقصد الوصول إلى الحقيقة بشأنه .
ومع هذا فيمكن في هذا الصدد بل وفي جميع المناهج أن نأخذ على الكتاب من المسلمين عزوفهم الذي يكاد أن يكون كلياً عن الكتاب المقدس والذي يفترض فيهم أصلاً الإيمان به فإذا ما وجدوا فيه ثمة تناقض أو اختلاف مع معتقداتهم فلا يجيز لهم ذلك إهداره وإسقاطه من الاعتبار كلية وإنما يتحتم عليهم حينئذ البحث في الأسس التي يمكن على أساسها الأخذ بما ورد فيه أو استبعاد بعضه وعلى ألا يكون ذلك الاستبعاد كلياً كما هو الحاصل اليوم وإنما ينبغي أن يكون هناك معيار واضح مبني على الأسانيد اليقينية القاطعة لاستبعاد ما يتعين استبعاده منه والأخذ بما عدا ذلك فيه .
الفصل الثاني
الكتب التي تقوم على نفي تنزيل القرآن من عند الله
أو نفي صحة الأناجيل الأربعة المتداولة(1/15)
تقوم معظم كتب المسيحيين التي تحاول استبعاد الإسلام كدين منزل من الله وشرع للناس أجمعين ، على القول بأن القرآن ونبي الإسلام لم يرد ذكر لهما في الكتاب المقدس ، وبالتالي ليس هناك ثمة محل للإيمان بالإسلام كدين منزل من الله ، أو لنسبة تنزيل القرآن إلى الله ، وعلى أساس من ذلك يتجاهلون الإسلام تجاهلاً تاماً ، وخاصة أن المسيح قد حذر من الأنبياء الكذبة ، ويعتقدون ذلك في نبي الإسلام ، ويؤمنون بأن رسالة النبوة قد انتهت بالمسيح نفسه ، ولذا فأي نبي بعده كاذب .
على أن من هذه الكتب ما يقوم على نفس الأساس ولكن بطريقة أخرى ، ككتاب سمي الباكورة الشهية في الروايات الدينية (وهو لمؤلف مجهول لم يذكر اسمه على الكتاب وطبع بمطبعة النيل المسيحية بمصر سنة 1926) ، فهذا الكتاب يحاول إثبات مفاهيم المسيحية ومعتقدات المسيحيين بشأنها بالابتداء بالاستناد إلى القرآن نفسه ، وهو يورد بحثه في صورة قصة لمشايخ مسلمين يحاجهم قس مسيحي في دينهم ، ويبدأ بما يستلزمه القرآن من الإيمان بالكتاب المقدس ، وبعد ذلك يحاول إثبات صحة كتاب اليهود الذين لا يمكن أن يكونوا مغرضين لصالح المسيحيين ، ويشرح ما في كتاب اليهود من نبوات يري أنها تؤكد التنبؤ بصلب المسيح ومعتقدات المسيحيين بالنسبة لطبيعة المسيح عليه السلام ، وينتهي إلى أن الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بمعتقدات المسيحيين ومفهوماتهم بشأن المسيحية ، وهي ما دامت كذلك ، وما دامت تخالف ما قال به القرآن ، فيجب عدم الإيمان بالأخير ككتاب منزل من الله ، لأن الله لا يمكن أن يخطئ ، ويحاول الكتاب بعد ذلك أن يشرح ما وقع فيه المشايخ المسلمون من حيرة انتهت بأن استنصروا ، وأخذوا يحاجون الجميع في الدين ، وتمسكوا بدينهم الجديد.(1/16)
وتقوم معظم كتب المسلمين التي تحاول إثبات عدم صحة مفهومات المسيحيين ومعتقداتهم عن دينهم ، على محاولة إثبات عدم صحة الأناجيل الأربعة التي يتداولها المسيحيون اليوم ، والقول بتحريفها حتى انتهت إلى الصورة التي هي عليها ، وعلى أساس إثبات تنزيل القرآن من الله وبالتالي القطع بصحة ما جاء فيه ونفي كل ما يخالفه ، وهو ما ينتهي إلى عدم صحة مفهومات المسيحيين ، ومعتقداتهم بشأن دينهم وصحة ما يقول به الإسلام بشأن هذه المعتقدات .
على أن من هذه الكتب أيضاً ، ما يقوم على نفس الأساس ، ككتاب محاضرات في النصرانية (للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة) والذي يقوم على محاولة إثبات عدم صحة الأناجيل الأربعة المتداولة ونسبتها وسندها ، ثم يتحدث الكاتب بعد ذلك عن إنجيل آخر يسمي إنجيل برنابا ، الذي ينفي عن المسيح أية ألوهية ، ويبشر برسول الله محمد الذي يأتي بعد المسيح عليه السلام ، كما ينفي صلب المسيح ويقول بأن الذي صلب هو يهوذا الاسخريوطي الذي كان سيسلمه .(1/17)
ويؤخذ على هذا المنهج في البحث ، خطأ نقطة البدء فيه ، حتى إنه ليستحيل قبول كتاب منها لدى غير من يدينون بدين كاتبها ، الواقع أن كُتاب مثل هذه الكتب إنما يغمضون أعينهم عن الواقع ، فمهما قيل في عدم تنزيل القرآن من الله وبالتالي عدم صحة ما جاء به ، فإن هذا لن ينفي بأي حال من الأحوال أن القرآن حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها ، كذلك فمهما قيل عن عدم صحة الأناجيل المتداولة فإن هذا لن ينفي بأي حال من الأحوال كونها حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها ، وإذا حاول مسيحي للتدليل على صحة معتقداته ولإثباتها أن يبدأ بمحاولة نفي تنزيل القرآن من الله ، فلن يجد مسلماً واحداً يأبه لكلامه ، الذي لا يكون حقيقاً بالاعتبار إلا بأن يتناول معتقدات المسلمين نفسها وما جاء في القرآن نفسه بالبحث الأمين الذي لا يتوخى فيه غير الحقيقة نفسها ، كما أنه إذا حاول مسلم التدليل على صحة مفهومات الإسلام ومعتقداته بشأن المسيحية بأن يبدأ بمحاولة إثبات عدم صحة الأناجيل التي يتداولها المسيحيون ، فلن يجد مسيحياً واحداً يأبه لكلامه الذي لا يكون حقيقاً بالاعتبار إلا إذا تناول معتقدات المسيحيين نفسها وما جاء في الأناجيل المتداولة بالبحث الأمين الذي لا يتوخى فيه غير الحقيقة نفسها ، والسبب في ذلك بديهي للغاية ، فالبدء بهدم الكتاب المقدس نفسه وعدم الاعتراف به ، أو بمحاولة هدم القرآن نفسه وعدم الاعتراف به ، أمر يكاد أن يصل إلى حد السخرية بالملايين ، بل بمئات الملايين الذين استقر لديهم الكتاب المقدس ، أو القرآن ، كسند صحيح لما يؤمنون به ، وبذلك لن يقابل هذا الأمر ممن يؤمنون بأي من الكتابين إلا بالهزء والسخرية .(1)
الفصل الثالث
الكتب التي تحاول توحيد الكلمة بين المسيحية والإسلام(1/18)
ولقد سبق القول بأن القارئ لهذه الكتب يستشعر مدى الألم الذي يحسه كاتبوها ، (مسيحيون كانوا أو مسلمين) ، لأن يجدوا أناساً اجتمعوا على الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ثم انتهوا رغم ذلك إلى فرقة هي أبعد ما تكون عن أي لقاء ، ولذلك يقومون بما يرونه واجبهم ، في محاولة لجمع الشمل وتوحيد الكلمة .
ومن مثل هذه الكتب لمسيحيين ، كتاب المسيحية في الإسلام (للأب المرحوم الايغومانس ابراهيم لوقا) ونرى الأب الكاتب يقول في تمهيده لكتابه :
( يظن الكثيرون أن الإسلام يطعن في المسيحية ويحارب عقائدها ، وهذا الظن منشؤه - في الحقيقة - عدم الإلمام بما ذكره الإسلام عن المسيحية ، وإن الباحث المدقق في جميع الأقوال التي أوردها القرآن عن النصرانية والنصارى ليتضح له أمران :
أولهما : أن نبي الإسلام قد حفظ للديانة المسيحية مركزها ، وأيد جلالها وأثبت صحة الكثير من تعاليمها ، ونادي بوجوب تقديس أوامرها ، والعمل بها ، واحترام كتبها المنزلة ، فكان بذلك شاهداً لها ، ومؤيداً لصدقها ....(1/19)
ثانيهما : أن القرآن لم يهاجم المسيحية التي أسسها المسيح ونشرها رله القديسون ولكنه هاجم بدعاً خاصة ، كانت قد ظهرت عند ظهوره ، ونادت بتعاليم لا تقرها المسيحية ، فحاربها ، كما حاربتها المسيحية من قبل ومن بعد وكلنا يعلم أن الشرق - وقت ظهور الإسلام - كان مرتعا خصيباً للاضطرابات الدينية والخلافات المذهبية ، فقد كانت الحرب لا تزال مستعرة نارها بين اليهودية والمسيحية من جهة ، وكانت الفرق المبتدعة الخارجة عن النصرانية تتناولها مع بعضها من جهة ثانية ، كما كانت الوثنية تتنازع هاتين الديانتين - اليهودية والمسيحية - من جهة ثالثة . وكل من يطلع على تاريخ الهرطقات يقف متحيراً إزاء ما كان بين هذه الديانات والمذاهب من تطاحن وعداوة وبغضاء ، أشار إليها القرآن بقوله في سورة المائدة ( فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) فقد كانت كل فرقة تكذب الأخرى وتكفرها .
ومن ثم نشأ الإسلام يحارب الوثنية ويجاهد اليهودية ويؤاخذ المسيحية ، في مذاهبها المبتدعة التي كانت تتنافي تعاليمها مع العقيدة الصحيحة في الله تعالى ، منكراً عليها ما كان يثير الجدل والنقاش حولها .
هاتان هما الحقيقتان اللتان جعلنا هذا الكتاب موضوعا لبحثهما والكشف عنهما ، وغايتنا التي نتوخاها من هذا البحث هو التوفيق لا الجدل والتفريق .
وإنا لنرجو أن يتقبل إخوتنا المسلمين رسالتنا هذه كرسالة محبة وإخلاص ، وفقنا الله جميعاً إلى سواء السبيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ).(1/20)
ويمضي الكاتب بعد ذلك فيحاول أن يثبت أن القرآن قد شهد بأن الكتاب المقدس كما هو اليوم لم يحرف أو ينسخ ، ويقول بعد ذلك بأن القرآن حارب تثليثاً غير تثليث المسيحية ، وأن علماء الإسلام يشهدون بصحة تثليث المسيحية ، ويحاول أن يجد في القرآن ألقاباً للمسيح تدل على الاعتراف بألوهيته ويحاول إثبات هذه الألوهية ، وكذلك يحاول إثبات صلب المسيح وما فيه من تكفير ، وبذلك ينتهي إلى اتفاق الإسلام مع المسيحيين في مفهوماتهم ومعتقداتهم بشأن المسيحية.
ومن مثل هذه الكتب أيضاً لمسلمين كتاب مع المسيح في الأناجيل الأربعة ( للأستاذ فتحى عثمان) ، وفي التقديم لهذا الكتاب - في طبعته الأولى - يقول المؤلف :
(طالعت القرآن فوجدت (لأهل الكتاب) فيه نصيباً مذكوراً ودرست التاريخ الإسلامي فوجدت لأهل الذمة في المجتمع والدولة رصيداً مذخوراً .... وتأملت الفكر الإسلامي فوجدته يلتقي في بعض صوره مع الفكر المسيحي - لا منذ درس المسلمون الفلسفة واتجهوا للتصوف واتصلوا بالسريان والنساطرة فحسب بل منذ الينابيع الأولى .... نجد هذا اللقاء في قصص الأنبياء ، ومن ذلك قصص إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان ، وأخيراً زكريا ويحيى ومريم ثم المسيح عيسي بن مريم) .(1/21)
ويقول أيضاً : ( وإذا كان القرآن - ينبوع الفكر الإسلامي - قد أذن لمجري تفكير المسلمين أن يكونوا على هذه الصورة من الاتساع فهو لم يخرج عن قاعدته الثابتة الراسخة ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي ، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ( شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسي ، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) .
ويستطرد الكاتب بعد ذلك فيقول ( غير أن الناس لا تمحص الأمور هذا التمحيص ومن هنا غطت الخلافات على البحث المستنير ... وفضل الدعاة والمرشدون أن يلجأوا إلى تحقيق التوافق بين أهل الديانات عن طريقة تربية المجتمع عملياً على آداب السلوك الرفيع بعد أن عزت الدراسات الفكرية الهادئة الجادة التي لا أقول تحل عقدة الأذهان والنفوس ولكنها على الأقل تكشف كلا من الإسلام والمسيحية وصلة الإسلام بالمسيحية تحت أضواء العلم الصحيح وحينئذ تتجاوب العقول فيتحقق التوافق تلقائياً على مستوى أعمق وأدوم في علاقات الناس) .
ويمضي الكاتب فيقول ( أفليس في تعاليم المسيحية الشيء الكثير الذي تتفق عليه جميع الأديان والذي يستفيد منه الفكر الديني على وجه العموم ؟؟
وإن الإسلام يقدر أثر المسيحية - في واقعها القائم ، ولها وضعها باعتبارها الرسالة التي تقدمته مباشرة وباعتبار الدينين قد أقاما حضارتين عالميتين تنافستا بكل سبيل وقد وصف الإسلام أتباع المسيح خصوصاً بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا وأنهم لا يستكبرون . وميز أهل الكتاب عموماً في التشريع ...) .(1/22)
ثم يضيف الكاتب (لكني لا أريد أن أفتح باب الجدل العقائدي الذي قلت أنه حجب عن الأعين نور المسيحية وإنما أريد أن أقنع المسلمين بأن العهد الجديد المتداول لا يتعرض فقط لما ينكرون وحتى ما ينكرونه فيه مجال كبير للبحث والنظر ليرفضوا عن بينة كما اقتنعوا عن بينة ولا يعيش الواحد منهم ويموت غير عالم شيئاً عن هذه الديانة الكبري مع أن كتابهم ينعي على التقليد والمقلدين (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا ).
ولا يعني التجاوب العقلي على أساس الدراسة العلمية المقارنة للأديان أن يصطنع التوافق الباهت الممقوت وأن تعتسف الوحدة الفكرية على أساس الافتراء على اللغة والمنطق والتاريخ ، هذا عبث لا يزيد الناس إلا بعداً وتجافياً ).
ويصل الكاتب في تقديمه إلى أن يقول ( .... والمجدي أن ينظر إلى الأمور النظرة الواقعية الصحيحة فالإسلام إسلام والمسيحية مسيحية وهما يتفقان ويختلفان ومن الخير أن يسلم بالمختلف كما يتفق على المؤتلف دون أن يختل ميزان الحق والعدل) .
ويقول سيادته أخيراً ( والكتاب الذي بين يدي القارئ سيستند إلى الأناجيل المتداولة في الحديث عن المسيحية ... فأنا أريد أن أتحدث عن المسيحية من وجهة نظر أهلها وأريد أن أثبت للمسلمين والمسيحيين أن مجال الخلاف أضيق من أن يحجب كلا من الدينين العظيمين عن معتنقي الدين الآخر وأن بجانب المجادلات العقائدية الذائعة المحدودة آفاقاً رحبة في الأناجيل المتداولة تفيض بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).(1/23)
وكما يبين من تقديم الكاتب فإنه يسلم ابتداء بأن المسيحية مسيحية والإسلام إسلام ومن الخير أن يسلم بأنهما يختلفان وكما هو معروف فأساس الاختلاف بينهما هو حول صلب المسيح أو عدم صلبه وحول طبيعة المسيح عليه السلام ، والكاتب يمضى في كتابه بعد هذا التقديم شارحاً أوجه التقارب بين المسيحية والإسلام متجاهلاً ما يختلف فيه المسلمون والمسيحيون أو ماساً لها مساً هيناً على أساس من الاعتراف مقدماً بوجود هذا الاختلاف .
نقد المنهج والكتابين :
الذي لاشك فيه أن الكاتبين يحمد لهما قصدهما من محاولة التقريب بين المسيحية والإسلام حتى يمكنهما أن يمضيا معاً على طريق واحد مشترك من الإيمان بالله والطاعة له والدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ، إلا أنهما مع ذلك لا يسلمان من المآخذ حتى أنه لا يمكن قبول منهجيهما بأي حال .
فبالنسبة لكتاب المسيحية في الإسلام فلا خلاف في أن الإسلام قد حفظ للديانة المسيحية مركزها وأيد جلالها ونادي بوجوب تقديس أوامرها والعمل بها واحترام كتابها المنزل فكان بذلك شاهداً لها ومؤيداً لصدقها بل ولم يهاجم الإسلام على الإطلاق المسيحية التي أسسها المسيح عليه السلام ، حتى أننا لنزيد بحق أنه إنما حتم الإيمان بها وجعل من الكفر بها بمثابة كفر بالإسلام.
ولكن هذا كله لا يمكن أن يصل بأي حال من الأحوال إلى حد القول بأن الإسلام يعترف للمسيح بأية ألوهية أو بصلبه كفارة عن البشر أو بصلبه على الإطلاق فالقرآن ينفي ذلك كله في مواضع متعددة بوضوح وجلاء وفي القول بغير ذلك تحمل للقرآن وللإسلام بغير ما يمكن أن يحتملاه وإذا كان يحمد للكاتب نبل قصده وحسن نيته في محاولته للتوفيق دون التفريق فإن هذا لا يغفر له بأي حال أن يصل به الأمر إلى حد المغالطة في الإسلام على هذا النحو فيحمله ما ينفيه بكل جلاء ووضوح .(1/24)
ولعله كان من الأوفق أن يلجأ الكاتب في محاولته هذه إلى القول بمثل ما قال به السيد مؤلف كتاب مع المسيح في الأناجيل الأربعة من الاعتراف ابتداء بوجود اختلافات بين المسيحية والإسلام لا يمكن التغاضي عنها دون أن يمنع ذلك من أن يمضي المسيحيون والمسلمون معاً على طريق واحد فيما تتفق فيه المسيحية والإسلام ، وكان مثل ذلك منه لابد وأن يحمد له من المسلمين والمسيحيين على السواء ، فبالنسبة للمسلمين ليس أحب إليهم من أن تلتقي أيديهم مع المسيحيين أتباع الدين الذي يؤمنون به هم أيضاً ، وبالنسبة للمسيحيين فلن يضير ذلك عقيدتهم في شيء ، ذلك أن التسليم ابتداء بوجود اختلافات بين المسيحية والإسلام سيحفظ لهم عقديتهم كما هي ولن يكون في تسليمهم بوجوده هذه الاختلافات إلا تأكيداً منهم لما يظنونه من أن الإسلام ليس ديناً منزلاً من عند الله فلا مانع أذن على الإطلاق من أن يختلف عن معتقداتهم في المسيحية ، لأن هذا الاختلاف لن ينسب عندهم إلى الله وإنما - وحسب رأيهم - إلى من أقام الإسلام وهو محمد عليه السلام ، وعلى هذا النحو فلن يضيرهم التسليم بهذه الاختلافات شيئاً بالنسبة لعقيدتهم ، ويقينا سيكسبهم ذلك محبة وتعاوناً صادقين مع المسلمين ، ولم تدع المسيحية إلى شيء قدر ما دعت إلى المحبة والتعاون .
أما بالنسبة للكتاب الثاني مع المسيح في الأناجيل الأربعة فإن ما تقدم قد يبدو فيه تناقض مع رأيي بشأن هذا الكتاب ومنهجه ، فقد قلت أن الكتابين معاً لا يسلمان من المآخذ حتى أنه لا يمكن قبول منهجهما بأي حال ، ومع ذلك ففي نقد الكتاب الأول رأيت أنه كان من الأوفق لكاتبه أن ينهج ما انتهجه مؤلف الكتاب الثاني ، فكيف يتفق هذا مع ما تقدم من رفض منهج الكتاب الثاني نفسه .(1/25)
ولكن الواقع أنه ليس في الأمر أي تناقض لأن الأمر لابد وأن يختلف بين أن يكون الكاتب مسيحياً أو أن يكون مسلماً ، فالكاتب المسيحي يؤمن بالمسيحية ديناً منزلاً من عند الله ولا يؤمن بالإسلام ديناً منزلاً من عند الله ، ولذا فليس غريباً بالنسبة له أن تكون هناك اختلافات بين المسيحية والإسلام ، بل لعل أن هذا عنده يكون طبيعياً ، بل ومحتم ، أما الكاتب المسلم ، فهو يؤمن بالمسيحية ديناً منزلاً من عند الله ، وهذا هو نفس إيمانه بالإسلام لذلك وجب ألا يختلفا ، وإلا لدل ذلك على اختلاف أصلهما ، فلا يمكن أن يكون من الله دينان أحدهما يقول بصلب المسيح والآخر ينفيه ، أو أحدهما يقول بألوهية المسيح والآخر ينفي هذه الألوهية ، ولذا فلا يقبل من كاتب مسلم ومتمسك بإسلامه أن يسلم بأن المسيحية مسيحية وبأن الإسلام إسلام وبأنهما يختلفان.
وللحق فإن هذين الخلافين بين المسيحية والإسلام غاية في الصعوبة والتعقيد وإنهما لمن العمق والجسامة حتى ليتهيب المرء أن يقترب منهما خاصة مع حساسيتهما البالغة ، ولكن ذلك لا يغفر لكاتب مسلم أن يسلم بالاختلافات بين المسيحية والإسلام كحقيقة ، وإن قبل منه غض النظر عنهما صراحة اكتفاء بمده إلى أوجه الائتلاف والتوافق بين الدينين فذاك بغير تردد أقره ونحمده له جميعاً أما التسليم - من مسلم - بأن المسيحية مسيحية والإسلام إسلام وأنهما يختلفان فهذا ما لا يقبل منه .
الفصل الرابع
نقد المناهج السابقة وبيان منهج البحث(1/26)
إذا استعرضنا مناهج البحث السابقة ، نستطيع بسهولة ويسر أن نتبين أن ثمة أمر معيناً بينها جميعاً ، فإن كل كاتب ، مسيحياً كان أو مسلماً ، إنما يفترض ابتداء صحة ما يؤمن به ويعتقده ، فكتب النوع الأول ، التي تبحث في الدين الواحد دون أن تتعرض للآخر ، إنما تقوم على أساس التسليم بمعتقدات الدين الذي تبحثه وتحاول إثبات صحتها وشرحها ، وكتب النوع الثاني تقوم على نفس الأساس أيضاً ، وتحاول إثبات عدم صحة الكتب التي يؤمن بها أتباع الدين الآخر أو أن تصل منها أو من بعضها إلى إثبات صحة ما يعتقده كاتبوها ، وكتب النوع الثالث تقوم على نفس الأساس كذلك ، فتحاول إثبات صحة معتقدات كاتبيها من الدين الآخر أو تحاول التقريب بينهما مع التغاضي عما بينهما من اختلافات على أساس من التسليم بها ابتداء ، وهذا لا يعني إلا تمسك الكاتب بمعتقداته وافتراضه صحتها ، وهكذا نجد أن كل المناهج إنما تقوم على أساس افتراض كل كاتب ابتداء صحة ما يؤمن به ويعتقده ، وما ذلك منهم إلا مصادرة للحقيقة ، التي لا يمكن أن يكون ذلك سبيلاً صحيحاً للوصول إليها ، فافتراضها ابتداء على نحو معين إنما يعني أن ندور في حلقة مفرغة لا توصل إلى شيء ، كما أن مثل هذه المناهج لا يمكن أن تكون مقنعة إلا لمن يعتنقون دين الكاتب نفسه ، فهم وحدهم الذين يقبلون افتراض الحقيقة على النحو الذي يراه الكاتب ، أما اتباع الدين الآخر ، فلابد وأن يرفضوا ذلك ، لأنهم إنما يفترضون الحقيقة على نحو مخالف.(1/27)
ومن ذلك يبين ، أن أول ما يجب أن يراعى في البحث عن الحقيقة ، هو عدم افتراضها ابتداء على نحو معين على الإطلاق ، إنما يجب أن يجري البحث مجرداً عن أي فرض لها ، فإذا كان المسيحيون يقولون بأن المسيح عليه السلام قد صلب بينما يقول المسلمون بأنه لم يصلب ، فإن الوصول إلى الحقيقة في هذا الأمر لا يكون بافتراض أنه قد صلب أو أنه لم يصلب ، وإنما بأن نضع هذين الفرضين أمام أعيننا ، ثم نبحث في الحقيقة بينهما متبعين في ذلك أسساً صحيحة ومقبولة للبحث ، يقبلها المسيحيون والمسلمون على السواء ، أو على الأقل لا يقبل منهم رفضها ، بأن تكون واضحة الحيدة يستوجب العقل قبولها ، وكذلك الحال أيضاً بالنسبة للخلاف حول طبيعة المسيح عليه السلام ، فإن الوصول إلى الحقيقة بشأن طبيعته لا يكون بافتراضه إلهاً أو بافتراض نفي الألوهية عنه ابتداء . وإنما بأن نضع نصب أعيننا هذين الفرضين ، ثم نبحث عن الحقيقة بينهما ، متبعين نفس الأسس المذكورة في البحث.(1/28)
وهذا المنهج في البحث ، باستهداف الحقيقة وحدها ، دون التقيد بافتراضها على نحو معين ابتداء ، لا يمكن أن يرفضه مسيحي أو مسلم ، ولا يقبل من أي منهما رفضه ، فإن أيا منهما لا يؤمن بما يؤمن به إلا يقيناً منه بأن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة ، فإذا كان المسيحي يؤمن بأن المسيح قد صلب وبأنه هو الله فهو لاشك يؤمن بأن هذه هي الحقيقة ، ولا يتصور أن يعرف أن الحقيقة أن المسيح لم يصلب وأنه ليس إلهاً ثم يؤمن بعد ذلك بأنه قد صلب وأنه هو الله ، والمسلم أيضاً إذا كان يؤمن بأن المسيح لم يصلب وبأنه ليس إلهاً فهو لاشك يؤمن بأن هذه هي الحقيقة هو الآخر ، ولا يتصور أن يعرف أن الحقيقة عكس ذلك ويبقي على اعتقاده ومن ثم فإن استهداف الحقيقة وحدها ، وعدم افتراضها على أي نحو ابتداء ، والبحث طبقاً لأسس صحيحة مقبولة لكلا الطرفين للوصول إليها ، حتى نصل إليها بالفعل بعد ذلك ، أمر لا يمكن أن يرفضه أحد ، فما دام كل واثقاً أن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة ، فهو لاشك راغب في الوصول إليها ، لأنها لا يمكن إلا أن تؤكد ما يعتقده ويؤمن به ما دام أن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة ، ولكن إذا تبين له رغم ذلك ، أن الحقيقة تخالف ما يؤمن به ، فهل سيضيره ذلك ، هل يضير إنساناً أن يعرف الحقيقة ويتضح له أنها غير ما كان يعتقده ويؤمن به ، بالطبع لا ، فإنه لن يضار إلا لو ظل جاهلاً لهذه الحقيقة وظل يؤمن بما يغايرها ، أما وقد وصل إلى الحقيقة ، فعليه أن يحمد الله إذ هداه إليها ، وأن يسارع من فوره إلى اعتناق ما ثبت له أن يطابق الحقيقة ونبذ ما يخالفها .(1/29)
كما أننا قد رأينا فيما سبق ، خطأ المنهج الذي يقوم على إثبات عدم صحة الأناجيل المتداولة أو القرآن ككتاب منزل من الله جملة ، وهنا نرى ضرورة الاستناد إلى الأناجيل المتداولة ، بل ويجب أن نفترض أن الأصل فيها أنها صحيحة ، ويكون القول بخلاف ذلك أمر يلزمه الدليل والسند ، مع مراعاة أن الدليل لا يجوز أن ننتهي منه إلى نفي صحتها جملة لأن هذا إنما يرجع بنا إلى المنهج الذي رفضناه ، ثم إننا يجب أن نكون أكثر شجاعة ، ونحن نتوجه بالبحث إلى المسيحيين والمسلمين على السواء ، فإذا كان المسلمون يؤمنون بتنزيل القرآن من الله ، فالمسيحيون لا يؤمنون بذلك ، وإذا كان البحث سيقوم على أساس أن الأصل في الأناجيل المتداولة افتراض صحتها ، فإنما لأن المسيحيين يؤمنون بذلك ، كما أن الأصل في المسلمين إيمانهم بالمسيح والإنجيل ، وهذه هي ما يعتبر المسيحيون الإنجيل ، أما والمسيحيون لا يؤمنون بتنزيل القرآن ، فإنه لا يجوز أن نبدأ بافتراض أن الأصل فيه هو الصحة كما افترضنا بالنسبة للأناجيل ، وإنما يجب أن يكون الأصل أنه للقول بتنزيله ، يجب أن نثبت هذا التنزيل ولا نفترضه ابتداء.
وهذا الذي انتهينا إليه لا يقبل من مسيحي أو مسلم أن يرفضه ، فكيف لمسيحي أن يعترض وقد افترضنا أن الأصل في الأناجيل المتداولة صحتها (1) ، وما قد يقال خلافاً لذلك لابد وأن يكون مصحوباً بدليله وسنده ، مع عدم قبول رفض الأناجيل جملة بأي حال ، كما أن الأصل لزوم إثبات صحة القرآن ككتاب منزل من الله ومن ثم فلن يفرض عليه التسليم بافتراض صحة القرآن ونسبته إلى الله إلا أن يثبت له صحة ذلك ، ثم كيف لمسلم أيضاً أن يعترض ، فالأصل عند المسلم الإيمان بالإنجيل ككتاب منزل من الله ، فإذا اعترض على الأناجيل المتداولة فعليه أن يؤيد اعتراضه بالسند والدليل ، ثم هو مادام موقناً بأن القرآن منزل من الله ، فلابد وأن يكون لديه ما يثبت به ذلك.(1/30)
وهكذا يتضح لنا منهج البحث ، فهو إنما يقوم على استهداف الحقيقة وحدها ، دون التقيد ابتداء بأي فرض من الفروض ، ثم إن الأصل افتراض صحة الأناجيل المتداولة إلا فيما يقوم الدليل أو السند على عدم صحته منها ، بعكس القرآن الذي لا يفترض فيه ذلك ، بل يلزم إثبات تنزيله من الله قبل التسليم بذلك ، وقد وجدنا فيما سبق أن هذه الأسس للبحث لا يقبل من مسيحي أو مسلم أن يرفضها.
ولما كنا نعرف أن صُلب الخلاف بين المسيحية والإسلام ، إنما يقوم أساساً على الخلاف حول صلب المسيح عليه السلام أو عدم صلبه ، وحول ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، فطبيعي أن نبدأ بالبحث عن الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه ، ونتبع ذلك بباب آخر في البحث عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، وعلى أساس ما نصل إليه من حقيقة في هذين الموضوعين ، نقيم البحث فيما يليهما.
الباب الثاني
في
الحقيقة
بين صلب المسيح أو عدم صلبه
وجدنا في الباب السابق أنه يتعين علينا أن نبحث عن الحقيقة وحدها ، كما أنه للوصول إلى الحقيقة لا يجوز افتراضها ابتداء على نحو معين ، وإنما يتعين أن نبحث عنها بين الفروض محل البحث ، ونحن في هذا الباب نبحث عن الحقيقة بين فرضين محددين ، الأول ، وهو الذي يعتقده المسيحيون ، أن المسيح عليه السلام قد صُلب ، والثاني ، وهو الذي يعتقده المسلمون ، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد خلص المسيح عليه السلام من الصلب ورفعه إليه وصلب غيره على أنه المسيح نفسه ، وهذا الفرضان هما اللذان نبحث عن الحقيقة بينهما ، غير مقيدين إلا بالحقيقة وحدها ، وبكل ما يوصلنا إليها .(1/31)
وطبيعي أن نبدأ بحثنا بشرح مفصل لكيفية صلب المسيح عليه السلام وفقا لما يعتقده المسيحيون ، ولكيفية تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون ، وذلك في فصل أول لتوضيح الفرضين الذين نبحث عن الحقيقة بينهما ، ثم نتبع ذلك بفصل ثان لبيان المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين هذين الفرضين ، وهو معيار يتعين أن يكون مقبولاً لدي المسيحيين والمسلمين على السواء ، أو في القليل لا يقبل من أي منهم رفضه ، ثم نتبع هذا الفصل بفصل ثالث ، نطبق فيه المعيار الذي ننتهي إليه في الفصل الثاني ، وبديهي أن الحقيقة لن تتفق مع ما يقوله كل من المسيحيين والمسلمين ، إذ لا يمكن للحقيقة إلا أن تؤيد فرضاً واحداً من الفرضين موضوع البحث ، ولاشك أن لدي كل من المسيحيين والمسلمين اعتراضات على الفرض الآخر فللمسيحيين اعتراضات على ما يقول به المسلمون من تخليص المسيح وصلب غيره ، وللمسلمين اعتراضات على ما يقول به المسيحيون من صلب المسيح ، ولابد لكمال البحث من أن نتناول أيضاً ما قد يوجه إلي ما ننتهي إليه من نتيجة من اعتراضات حتى لا يكون هناك ثمة ما ينقض البحث نفسه أو النتيجة التي ننتهي إليها ، وهذا ما نفرد له فصلاً رابعاً ، ولاشك ، أنه لابد في النهاية ، أن تكون هناك تأملات فيما ننتهي إليه ، نخصص لها الفصل الخامس ، وأخيراً ، فإن هذا الموضوع لا يطرق ويبحث على هذا المدى الواسع ، دون أن يطرق معه ، موضوع آخر ، لصيق به ومتفرع عنه ، أثير في الأعوام الأخيرة ، وعرف بتبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام ، نخصص له فصلاً سادساً وأخيراً بعنوان " اليهود ودم المسيح " .
الفصل الأول
صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون
وتخليص الله له ورفعه إليه وصلب غير كما يعتقد المسلمون(1/32)
قلنا أنه من الطبيعي أن نبدأ بحثنا بشرح مفصل لكيفية صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون ، ولكيفية تخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون ، وذلك لتوضيح الفرضين الذين نبحث عن الحقيقة بينهما ، وهذا طبيعي كما قلنا ، لأنه مما لاشك فيه ، أن الوقوف على تفاصيل كل من الفرضين ، لابد وأن يعين إلى حد كبير في الكشف عن الحقيقة بينهما ، وعلى هذا فإن البحث في هذا الفصل ينقسم إلى مبحثين :
المبحث الأول : في صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون .
المبحث الثاني : في تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون .
المبحث الأول
في صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون
الذي لاشك فيه ، أن السند الأول لما يعتقده المسيحيون عن صلب المسيح عليه السلام ، هو ما ورد في الأناجيل الأربعة من تفاصيل عن ذلك ، وعلى هذا ، فإن الصورة الصحيحة والمقبولة عند المسيحيين في هذا الخصوص ، هي تلك التي نستخلصها مما ورد في الأناجيل الأربعة في هذا الشأن ، ويحتم ذلك أن نبدأ ببيان ما ورد في الأناجيل عن هذه التفاصيل ، لنستخلص منها ما يعتقده المسيحيون عن صلب المسيح وما سبقه من وقائع وتفاصيل وما انتهت إليه ، وسنورد فيما يلي ما ورد في هذا الشأن في أناجيل متى ثم مرقس ثم لوقا ثم يوحنا على التوالي لترتيب الأناجيل نفسها كما وردت في الكتاب المقدس .
أولاً : إنجيل متى :
( ولما أكل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه ، تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يسلم ليصلب .
حينئذ اجتمع رؤساء الكهناء والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذي يدعي قيافا. وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه . ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب ) (ص 26 : 1 - 5)(1/33)
( حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعي يهوذا الاسخريوطي إلى رؤساء الكهنة . وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم ، فجعلوا له ثلاثين من الفضة ، ومن ذلك الوقت لم يطلب فرصة ليسلمه .
وفي أول أيام الفطير تقدم التلاميذ إلى يسوع قائلين له أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح . فقال اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له . المعلم يقول إن وقتي قريب. عندك أصنع الفصح مع تلاميذي ، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع .
ولما كان المساء انكأ مع الاثني عشر ، وفيما هم يأكلون قال الحق أقول لكم إن واحداً منكم يسلمني ، فحزنوا جداً وابتدأ كل واحد منهم يقول هل أنا هو يا رب فأجاب وقال . الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني . إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن الإنسان . كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد . فأجاب يهوذا مسلمه وقال هل أنا هو يا سيدي ، قال له أنت قلت .
وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطي التلاميذ وقال خذوا كلوا . هذا هو جسدى . وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا وأقول لكم أني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم في ملكوت أبي . ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون .
حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أن أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية. ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل فأجاب بطرس وقال له وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً . قال له يسوع الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات . قال له بطرس ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك . هكذا قال أيضاً جميع التلاميذ.(1/34)
حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى أمضى وأصلي هناك. ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت. امكثوا ههنا واسهوا معي . ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلاً يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس . ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت. ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً . فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة. اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة . أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف. فمضي أيضاً ثانية وصلي قائلا يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك . ثم جاء فوجدهم أيضاً نياماً . إذ كانت أعينهم ثقيلة . فتركهم ومضي أيضاً وصلي ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه. ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم ناموا الآن واستريحوا هو ذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة ، قوموا ننطلق هو ذا الذي يسلمني قد اقترب .
وفيما هو يتكلم إذا يهوذا الاسخريوطي واحد من الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كبير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب . والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو هو . أمسكوه . فللوقت تقدم إلى يسوع وقال السلام يا سيدي. وقبله . فقال له يسوع يا صاحب لماذا جئت . حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه . وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه . فقال له يسوع رد سيفك إلى مكانه " لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون . أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة ، فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون .(1/35)
في تلك الساعة قال يسوع للجموع ، كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني ، كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني ، وأما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الأنبياء ، حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا .
والذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى قيافا رئيس الكهنة حيث اجتمع الكتبة والشيوخ ، وأما بطرس فتبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة فدخل إلى داخل وجلس بين الخدام لينظر النهاية ، وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة شهود زور على يسوع لكي يقتلوه فلم يجدوا ، ومع أنه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا ، ولكن أخيراً تقدم شاهدا زور . وقالا . هذا قال أني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه ، فقام رئيس الكهنة وقال له أما تجيب بشيء ، ماذا يشهد به هذان عليك ، وأما يسوع فكان ساكتاً ، فأجاب رئيس الكهنة وقال استحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله ، قال له يسوع أنت قلت ، وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء ، فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً قد جدف ، ما حاجتنا بعد إلى شهود ، ها قد سمعتم تجديفه ، ماذا ترون ، فأجابوا وقالوا أنه مستوجب الموت .
حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه ، وآخرون لطموه ، قائلين تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك.(1/36)
أما بطرس فكان جالساً خارجاً في الدار ، فجاءت إليه جارية قائلة وأنت كنت مع يسوع الجليلي ، فأنكر قدام الجميع قائلاً لست أدري ما تقولين ، ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك وهذا كان مع يسوع الناصري ، فأنكر أيضاً بقسم أني لست أعرف الرجل . وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس حقاً أنت أيضاً منهم فإن لغتك تظهرك ، فابتداء حينئذ يلعن ويحلف أني لا أعرف الرجل . وللوقت صاح الديك . فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له أنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات . فخرج إلى خارج وبكي بكاء مراً ) (ص 26 : 14-75) ( ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه ، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي ) (ص 27 : 1، 2) .
( فوقف يسوع أمام الوالي فسأله الوالي قائلاً أأنت ملك اليهود ، فقال له يسوع أنت تقول ، وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء ، فقال له بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك ، فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً.(1/37)
وكان الوالي معتاداً في العيد أن يطلق للجمع أسيراً واحداً من أرادوه ، وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمي باراباس ، ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس من تريدون أن أطلق لكم ، باراباس أم يسوع الذي يدعي المسيح ، لأنه علم أنهم أسلموه حسداً ، وإذ كان جالساً على كرسي الولاية أرسلت إليه أمرأته قائلة إياك وذلك البار ، لأني ، تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله ، ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع . فأجاب الوالي وقال لهم من من الاثنين تريدون أن أطلق لكم ، فقالوا باراباس ، قال لهم يبلاطس فماذا أفعل بيسوع الذي يدعي المسيح ، قال له الجميع ليصلب ، فقال الوالي وأي شر عمل ، فكانوا يزدادون صراخاً قائلين ليصلب ، فلما رأي بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً بل بالحري يحدث شغب أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلاً أني برئ من دم هذا البار ، أبصروا أنتم ، فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا ، حينئذ أطلق لهم باراباس ، وأما يسوع فجلده وأسلمه ليصلب .
فأخذ عسكر الوالي يسوع إلى دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتيبة ، فعروه وألبسوه رداء قرمزياً . وضفروا له إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وقصبة في يمينه وكانوا يجثون قدامه ويستهزئون به قائلين السلام عليك يا ملك اليهود ، وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه ، وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه ومضوا به للصلب .(1/38)
وفيما هم خارجون وجودا إنساناً قيروانياً اسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه ولما أتوا إلى موضع يقال له جلجثة وهو المسمي موضع الجمجمة . أعطوه خلا ممزوجاً بمرارة ليشرب . ولما ذاق لم يرد أن يشرب . ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ، لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة . ثم جلسوا يحرسونه هناك ، وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود ، حينئذ صلب معه لصان واحد عن اليمين وواحد عن اليسار.
وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين يا نافض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك ، إن كنت ابن الله فأنزل عن الصليب ، وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا : خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها ، إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به.
قد أتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده ، لأنه قال أنا ابن الله ، وبذلك أيضاً كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه .
ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة : ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني . فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا إنه ينادي إيليا ، وللوقت ركض واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه . وأما الباقون فقالوا اترك ، لنري هل يأتي إيليا يخلصه ، فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح) . (ص 27 : 11 - 50) .
ثانياً : إنجيل مرقس :
( وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين ، وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه ، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب ) (ص 14 : 1، 2).(1/39)
( وجاءوا إلى ضيعة اسمها جثسيماني فقال لتلاميذه أجلسوا ههنا حتى أصلي ، ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وابتدأ يدهش ويكتئب ، فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت ، أمكثوا ههنا واسهروا ، ثم تقدم قليلاً وخر على الأرض وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن ، وقال يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك .
فأجز عني هذه الكأس ، ولكن ليكن لا ما أريد بل ما تريد أنت ، ثم جاء ووجدهم نياماً فقال لبطرس يا سمعان أنت نائم ، أما قدرت تسهر ساعة واحدة ، اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة ، أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف ، ومضي أيضاً وصلي قائلاً ذلك الكلام بعينه ، ثم رجع ووجدهم أيضاً نياماً إذ كانت أعينهم ثقيلة فلم يعلموا بماذا يجيبونه ، ثم جاء ثالثة وقال لهم ناموا الآن واستريحوا يكفي ، قد أتت الساعة ، هو ذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة ، هو ذا الذي يسلمني قد اقترب .
وللوقت فيما هو يتكلم أقبل يهوذا واحداً من الاثني عشر ومعه جمع كبير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ ، وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو هو أمسكوه وامضوا به بحرص فجاء للوقت وتقدم إليه قائلاً يا سيدي يا سيدي وقبله ، فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه ، فاستل واحد من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه.
فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني ، كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني ، ولكن لكي تكمل الكتب ، فتركه الجميع وهربوا ، وتبعه شاب لابساً إزاراً على عريه فأمسكه الشبان ، فترك الإزار وهرب منهم عرياناً .
فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة فاجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة ، وكان بطرس قد تبعه من بعيد إلى داخل دار رئيس الكهنة وكان جالساً بين الخدام يستدفئ عند النار ، وكان رؤساء الكهنة والمجمع كله يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا ، لأن كثيرين شهدوا عليه زوراً ولم تتفق شهاداتهم .(1/40)
ثم قام قوم وشهدوا عليه زوراً قائلين ، نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد ، ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق فقام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع قائلاً أما تجيب بشيء . ماذا يشهد به هؤلاء عليك ، أما هو فكان ساكتاً ولم يجب بشيء ، فسأله رئيس الكهنة أيضاً وقال له أأنت المسيح ابن المبارك. فقال يسوع أنا هو ، وسوفت تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء ، فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود ، قد سمعتم التجاديف ، ما رأيكم ، فالجميع حكموا عليه أنه مستوجب الموت ، فابتدأ قوم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له تنبأ ، وكان الخدام يلطمونه ) ( ص 14 : 32 : 65) .
( وللوقت في الصباح تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله فأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه إلى بيلاطس .
فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود . فأجاب وقال له أنت تقوله ، وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً ، فسأله بيلاطس أيضاً قائلاً أما تجيب بشيء ، أنظركم يشهدون عليك ، فلم يجب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجب بيلاطس ، وكان يطلق لهم في كل عيد أسيراً واحداً من طلبوه ، وكان المسمي باراباس موثقاً مع رفقائه في الفتنة الذين في الفتنة فعلوا قتلاً . فصرخ الجمع وابتدأوا يطلبون أن يفعل كما كان دائماً يفعل لهم . فأجابهم بيلاطس قائلاً أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود ، لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً ، فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكي يطلق لهم بالحري باراباس ، فأجاب بيلاطس أيضاً وقال لهم فماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه ملك اليهود ، فصرخوا أيضاً اصلبه ، فقال لهم بيلاطس وأي شر عمل . فازدادوا جداً صراخاً أصلبه ، فبيلاطس إذ كان يريد أن يعمل للجمع ما يرضيهم أطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعدما جلده ليصلب .(1/41)
فمضي به العسكر إلى داخل الدار هي دار الولاية وجمعوا كل الكتيبة ، وألبسوه أرجوانا وصفروا أكليلاً من شوك ووضعوه عليه ، وابتدأوا يسلمون عليه قائلين السلام يا ملك اليهود . وكانوا يضربونه على رأسه بقصبة ويبصقون عليه ثم يسجدون له جاثين على ركبهم ، وبعد ما استهزأوا به نزعوا عن الأرجوان وألبسوه ثيابه ثم خرجوا به ليصلبوه فسخروا رجلاً مجتازاً كان آتياً من الحقل وهو سمعان القيراوني أبو الكسندرس وروفس ليحمل صليبه ، وجاءوا به إلى موضع جلجثة الذي تفسيره موضع جمجمة ، وأعطوه خمراً ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل . ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد ، وكانت الساعة الثالثة فصلبوه ، وكان عنوان علته مكتوباً ملك اليهود . وصلبوا معه لصين واحداً عن يمينه وآخر عن يساره ، فتم الكتاب القائل وأحصي معه أثمه . وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وانزل عن الصليب . وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة قالوا خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها ، لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنري ونؤمن ، واللذان صلبا معه كانا يعيرانه .
ولما كانت الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة ، وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً الوي الوي لما شبقتني . الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني ، فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا هوذا ينادي إيليا ، فركض واحد وملأ اسفنجة خلا وجعلها على قصبة وسقاه قائلاً اتركوا ، لنر هل يأتي إيليا لينزله فصرخ يسوع بصوت بصوت عظيم وأسلم الروح ) (ص 15 : 1 - 27) .
ثالثاً : إنجيل لوقا :(1/42)
( وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون ، وتبعه أيضاً تلاميذه ، ولما صار إلى المكان قال لهم صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة ، وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلي ، قائلاً يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ، وظهر له ملاك من السماء يقويه ، وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض . ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن ، فقال لهم لماذا أنتم نيام ، قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
وبينما هو يتكلم إذا جمع والذي يدعي يهوذا أحد الاثني عشر يتقدمهم فدنا من يسوع ليقبله ، فقال له يسوع يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان ، فلما رأي الذين حوله ما يكون قالوا يا رب أنضرب بالسيف ، وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمني ، فأجاب يسوع وقال دعوا إلى هذا . ولمس أذنه وأبرأها.
ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه . كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي ، إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا على الأيدي ، ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة ، فأخذوه وساقوه وأدخلوه إلى بيت رئيس الكهنة ) (ص 22 : 39 - 54)
( والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه ، وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين تنبأ ، من هو الذي ضربك ، وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولون عليه مجدفين .
ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة وأصعدوه إلى مجمعهم ، قائلين إن كنت أنت المسيح فقل لنا ، فقال لهم إن قلت لكم لا تصدقون وإن سألت لا تجيبوني ولا تطلقونني ، منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله ، فقال الجميع أفأنت ابن الله ، فقال لهم أنتم تقولون أني أنا هو ، فقالوا ما حاجتنا بعد إلى شهادة لأننا نحن سمعنا من فمه ) (22 : 63 - 71).(1/43)
( فقام كل جمهورهم وجاءوا إلى بيلاطس ، وابتدأوا يشتكون عليه قائلين إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطي جزية لقيصر قائلاً إنه هو مسيح ملك فسأله بيلاطس قائلاً أنت ملك اليهود . فأجابه وقال أنت تقول . فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع أني لا أجد علة في هذا الإنسان ، فكانوا يشددون قائلين أنه يهيج الشعب وهو يعلم في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل إلى هنا . فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل هل الرجل جليلي . وحين علم أنه من سلطنة هيرودس أرسله إلى هيرودس إذ كان هو أيضاً تلك الأيام في أورشليم .
وأما هيرودس فلما رأي يسوع فرح جسداً لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة وترجي أن يري آية تصنع منه . وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء ، ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد ، فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به وألبسه لباساً لامعاً ورده إلى بيلاطس ، فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما .
فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب ، وقال لهم ، قد قدمتم إلى هذا الإنسان كمن يفسد الشعب ، وها أنا قد فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه ، ولا هيرودس أيضاً لأني أرسلتكم إليه ، وها لا شيء يستحق الموت صنع منه ، فأنا أؤدبه وأطلقه ، وكان مضطراً أن يطلق لهم كل عيد واحداً ، فصرخوا بجملتهم قائلين خذ هذا وأطلق لنا باراباس . وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل ، فناداهم أيضاً بيلاطس وهو يريد أن يطلق يسوع ، فصرخوا قائلين أصلبه أصلبه ، فقال لهم ثالثة فأي شر عمل هذا . إني لم أجد فيه علة للموت ، فأنا أؤدبه وأطلقه ، فكانوا يلجون بأصوات عظيمة طالبين أن يصلب ، فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة ، فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم فأطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل الذي طلبوه وأسلم يسوع لمشيئتهم .(1/44)
ولما مضوا به أمسكوا سمعان رجلا قيراونياً كان آتياً من الحقل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع . وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتي كن يلطمن أيضاً وينحن عليه. فالتفت إليهن يسوع وقال . يا بنات أورشليم لا تبكين على بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن ، لأنه هو ذا أيام تأتي يقولون فيها طوبي للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع ، حينئذ يبتدئون يقولون للجبال اسقطي علينا وللأكام غطينا ، لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس ، وجاءوا أيضاً بائنين آخرين مذنبين ليقتلا معه .
ولما مضوا به إلى الموضع الذي يدعي جمجمة صلبوه هناك مع المذنبين واحداً عن يمينه والآخر عن يساره . فقال يسوع يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ، وإذ اقتسموا ثيابه اقترعوا عليها .
وكان الشعب واقفين ينظرون ، والرؤساء أيضاً معهم يسخرون به قائلين خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله ، والجند أيضاً استهزأوا به وهم يأتون ويقدمون له خلا قائلين إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك ، وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية هذا هو ملك اليهود . وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلاً إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا. فأجاب الآخر وانتهره قائلاً أو لا أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه ، أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلناه وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله ، ثم قال ليسوع اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك ، فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس .
وكان نحو الساعة السادسة ، فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة ، وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه ، ونادي يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي ، ولما قال هذا أسلم الروح ) (ص 23 : 1 - 46).
رابعاً : إنجيل يوحنا :(1/45)
( قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه ، وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع ، لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه ، فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح ، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون ، أجابوه يسوع الناصري ، قال لهم يسوع أنا هو ، وكان يهوذا مسلمه أيضاً واقفاً معهم ، فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا علي الأرض ، فسألهم أيضاً من تطلبون ، فقالوا يسوع الناصري ، أجاب يسوع قد قلت لكم إني أنا هو ، فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون ، ليتم القول الذي قاله أن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحداً .
ثم إن سمعان بطرس كان معه سيف فاستله وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمني ، وكان اسم العبد ملخس ، فقال يسوع لبطرس اجعل سيفك في الغمد ، الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها ، ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه ، ومضوا به إلى حنان أولاً لأنه كان حما قيافاً الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة ، وكان قيافاً هو الذي أشار على اليهود أنه خبر أن يموت إنسان واحداً عن الشعب ) (ص 18 : 1 - 14) .
( فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه ، أجاب يسوع أنا كلمت العالم علانية ، أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً ، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء ، لماذا تسألني أنا ، ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام ، كان واقفاً قائلاً أهكذا تجاوب رئيس الكهنة ، أجابه يسوع إن كنت قد تكلمت مرديا فاشهد على الردى وإن حسناً فلماذا تضربني ، وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافاً رئيس الكهنة ) (ص 18 : 19 - 24) .(1/46)
( ثم جاءوا بيسوع من عند قيافاً إلى دار الولاية ، وكان صبح ، ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا ينجسوا فيأكلون الفصح ، فخرج بيلاطس إليهم وقال أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان ، أجابوا وقالوا له لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك ، فقال لهم بيلاطس خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم ، فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحداً ، ليتم قول يسوع الذي قال مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت .
ثم دخل بيلاطس أيضاً إلى دار الولاية ودعا يسوع وقال له أنت ملك اليهود أجابه يسوع أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني . أجابه بيلاطس ألعلي أنا يهودي ، أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلى ، ماذا فعلت ، أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم ، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود ، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا ، فقال بيلاطس أفأنت ذا ملك ، أجاب يسوع أنت تقول أني ملك ، لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق ، كل من هو من الحق يسمع صوتي ، قال له بيلاطس ما هو الحق ، ولما قال هذا خرج أيضاً إلى اليهود وقال لهم أنا لست أجد فيه علة واحدة ، ولكم عادة أن أطلق لكم واحداً في الفصح ، أفتريدون لكم ملك اليهود ، فصرخوا أيضاً جميعهم قائلين ليس هذا بل باراباس ، وكان باراباس لصاً ) (ص 18 : 28 - 40) .(1/47)
( فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده ، وضفر العسكر أكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان ، وكانوا يقولون السلام يا ملك اليهود ، وكانوا يلطمونه ، فخرج بيلاطس أيضاً خارجاً وقال لهم ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا أني لست أجد فيه علة واحدة ، فخرج يسوع خارجاً وهو حامل أكليل الشوك وثوب الأرجوان ، فقال لهم بيلاطس هو ذا الإنسان ، فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين أصلبه أصلبه ، قال لهم بيلاطس خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة ، أجابه اليهود لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله ، فلما سمع بيلاطس هذا القول ازداد خوفاً ، فدخل أيضاً إلى دار الولاية وقال ليسوع من أين أنت ، وأما يسوع فلم يعطه جواباً ، فقال له بيلاطس أما تكلمني ، ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك ، أجاب يسوع لم يكن لك سلطان على البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق ، لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم ، من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يطلقه ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر ، كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر .
فلما سمع بيلاطس هذا القول اخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جباثاً . وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة ، فقال لليهود هو ذا ملككم ، فصرخوا خذه خذه اصلبه ، فقال لهم بيلاطس اصلب ملككم ، أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك إلا قيصر ، فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب .
فأخذوا يسوع ومضوا به ، فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة ، حيث صلبوه وصلبوا اثنين آخرين معه من هنا ومن هنا ويسوع في الوسط .
وكتب بيلاطس عنواناً ووضعه على الصليب ... وكان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود.(1/48)
فقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود لأن المكان الذي صلب فيه يسوع كان قريباً من المدينة ، وكان مكتوباً بالعبرانية واليونانية واللاتينية ، فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس لا تكتب ملك اليهود بل أن ذاك قال أنا ملك اليهود ، أجاب بيلاطس ما كتبت قد كتبت . ثم إن العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام لكل عسكري قسماً ، وأخذوا القميص أيضاً ، وكان القميص بغير خياطة منسوجاً كله من فوق ، فقال بعضهم لبعض لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون ، ليتم الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة . هذا فعله العسكر .
وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية . فلما رأي يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً قال لأمه يا امرأة هو ذا ابنك ، ثم قال للتلميذ هو ذا أمك ، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته .
بعد هذا رأي يسوع أن كل شيء قد كمل فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان ، وكان إناء موضوعاً مملوا خلاً ، فملأوا إسفنجه من الخل ووضعوها على زرفا وقدموها إلى فمه ، فلما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح .) (ص 19 : 1 - 30) .
صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون :
قلنا أن السند الأول لما يعتقد به المسيحيون عن صلب المسيح عليه السلام ، هو ما ورد في الأناجيل الأربعة من تفاصيل عن القبض عليه ومحاكمته وصلبه ، وقد فصلنا فيما سبق ما ورد في الأناجيل الأربعة عن ذلك ، ومن جماع ذلك نستطيع أن نستخلص الصورة التفصيلية لاعتقاد المسيحيين بالنسبة لهذا الأمر .(1/49)
وأول ما يمكن أن نستخلصه أن المسيح عليه السلام كان عالماً بأنه سيسلم ليصلب وبهذا اخبر تلاميذه ، بينما تآمر رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب وعلى رأسهم رئيس الكهنة الذي يدعي قيافاً لكي يمسكوا بالمسيح بمكر ويقتلوه ، وكان أن خان يهوذا الأسخريوطي المسيح عليه السلام وذهب إلى رؤساء الكهنة يعرض عليهم أن يسلمهم المسيح فوافقوا واتفقوا معه على أن يدفعوا له مبلغاً من المال مقابل ذلك ، ومنذ هذا الاتفاق أخذ يهوذا الأسخريوطي يتحين الفرصة ليسلمه إليهم .
واجتمع التلاميذ الاثني عشر ، ومن بينهم الخائن يهوذا الاسخريوطي ، اجتمعوا بعد ذلك في الفصح ، وبينما هم يأكلون مع المسيح عليه السلام أخبرهم أن واحداً منهم سيسلمه ، وجزعوا جميعاً ، وسأله كل واحد منهم عما إذا كان هو الذي سيسلمه فرد عليهم بما نفهم منه أنه يعرف أن يهوذا الاسخريوطي هو ذلك الذي سيسلمه .(1/50)
وبعد أن أكلوا خرج المسيح مع تلاميذه جميعاً عدا يهوذا الاسخريوطي ، حتى وصلوا إلى ضيعة يقال جثسيمناني ، وهناك جلس التلاميذ بينما ابتعد المسيح عنهم قليلاً ليصلي ، وابتدأ يحزن ويكتئب حتى أنه قال أن نفسه حزينة جداً حتى الموت وواضح أنه يحس في هذه اللحظات بقرب وصول يهوذا الاسخريوطي ومن معه من جند وغيرهم للقبض عليه وصلبه بعد ذلك ، وهنا يجثوا ويصلي ، يخر على وجهه ، يخر على الأرض ، ويسأل الله أو الآب أن يجيز عنه هذه الكأس ، أن يعبر عنه هذه الكأس المرة التي سيجرعها ، وما امر كأساً تكون الصلب ، ولذا يصلي لله أو للأب بحرارة ، بعمق ، ويدعوه في رجاء ، في أمل ، وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة ، وصار عرقه كقطرات الدم نازلة على الأرض ، يصلي كل هذه الصلاة ويدعو كل هذا الدعاء ليخلصه الله أو الآب من هذه الكأس ، وواضح هنا أن الله أو الآب هو الذي أراد له أن يشربها ، وهو وحده الذي يستطيع أن يجيزها عنه إذا شاء ، ويكرر المسيح هذه الصلاة ثلاث مرات ، ويبدو عليه اليأس من استجابة الله أو الآب لها في النهاية . ولذا ، ولإيمانه وتقواه ، يستسلم لإرادة الله أو الآب ويقول ( إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ) ، أو ( ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت ) أو ( لتكن لا إرادتي بل إرادتك ) وهذه الجمل التي وردت في الأناجيل تؤكد أن صلب المسيح إنما كان مشيئة الله أو الآب ، وأن المسيح ، بعد أن صلي لله أو الآب ودعاه في حرارة وعمق أن يخلصه من الصلب استسلم أخيراً لمشيئة الله أو الآب ، بعد أن لم يبد له أن الله أو الآب قد استجاب لصلاته وأجاز عنه هذه الكأس .
وهذا المعني السابق للآيات هو ما تقوله به آيات أخرى تالية لها في العهد الجديد وهي التي تقول ( الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه ) (عبرانيين ص 5 : 7).(1/51)
وبينما المسيح عليه السلام يؤدي هذه الصلاة العميقة ، ينام تلاميذه ، حتى أنه يتوجه إليهم بعد كل صلاة ويحاول إيقاظهم ، وفي المرة الأخيرة يصل يهوذا الأسخريوطي ومعه جمع كثير - جند وخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسيين - يحملون سيوفاً وعصياً ومشاعل ، وكان يهوذا قد أعطاهم علامة ليعرفوا بها المسيح فيقبضون عليه ، وكانت العلامة أن من يقبله يكون هو المسيح ، ويتقدم يهوذا من المسيح ليقبله ، والجمع من خلفه ليقبضوا علي من سيقبله ، وهنا يسألهم المسيح - كما ورد في أنجيل يوحنا - عمن يريدون ، فيقولون يسوع الناصري ، فيجيبهم بأنه هو ، وعندئذ رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض - كرواية إنجيل يوحنا - ، ويتهيج بطرس فيستل سيفه ويضرب أذن عبد رئيس الكهنة ، ولكن المسيح يمنعه ، فيقبضون على المسيح ويهرب جميع التلاميذ.
ويمضي الجند والخدام بالمسيح عليه السلام إلى قيافا رئيس الكهنة أولا وكما جاء في الأناجيل الثلاثة الأولي ، أو إلى حنان حما قيافا أولا كما ورد في أنجيل يوحنا الذي أرسله بدوره إلى قيافا ، أما بطرس فتبع المسيح ومن قبضوا عليه من بعيد ليري ماذا سيكون من أمره ، ولكن كاد أمر صلته بالمسيح أن ينكشف لولا أن أنكر ثلاث مرات صلته بالمسيح ، ثم انصرف بعد ذلك.
وطلبوا شهود زور يشهدون على المسيح ، فتقدم شاهدا زور قالا أنهما سمعاه يقول بأنه يقدر ينقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام يبنيه ، وكان المسيح ساكتاً لا يتكلم حتى استحلفه رئيس الكهنة بالله أن يقول إن كان هو المسيح ابن الله ، فأجابه المسيح قائلاً ( أنت قلت ، وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء .) فيمزق رئيس الكهنة ثيابه ويقول بأنه قد جدف ، ويسأل الحاضرين عما يرون فيقولون أنه مستوجب للموت .(1/52)
وفي الصباح دفعوا المسيح إلى بيلاطس البنطي الوالي ، الذي سأله عما إذا كان هو حقاً ملك اليهود ، فأجابه بقوله ( أنت تقول ) ، ولم يجبه بعد ذلك عن أية كلمة أخرى كما ورد في الأناجيل الثلاثة الأولي ، أو أخذ يجيبه عن كل أسئلته ويناقشه في كلامه كما ورد في أنجيل يوحنا.
ويفهم أن الوالي لم يجد في المسيح علة ليقتله ، وكان من عادته أن يطلق الأسير الذي يطلبونه في العيد ، وأراد أن يكون المسيح هو الأسير الذي يطلقه ولكن الجموع ترفض ، وتطلب أسيراً آخر اسمه باراباس ، فيسألهم بيلاطس عما يفعله بالمسيح ، فيطلبون إليه أن يصلبه ، ويتردد بيلاطس ، ولكن صياح الجماهير يعلو ويعلو أن اصلبه اصلبه ، ويأخذ بيلاطس ماء ويغسل يديه أمام الجميع قائلاً أنه برئ من دم هذا البار ، ويترك لهم أن يقرروا (أبصروا أنتم ) فأجاب جميع الشعب وقالوا (دمه علينا وعلى أولادنا ) ، فأطلق لهم باراباس ، وأما المسيح فجلده وأسلمه ليصلب.
وسخر الجنود من المسيح ، وأخذوا يستهزئون به ، ثم سخروا رجلاً قيرواناً اسمه سمعان ليحمل صليب المسيح ، ولما وصلوا إلى موضع الجمجمة صلبوه هناك ، وصلب لصان معه واحد عن يمينه وآخر عن يساره ، وكان المجتازون يسخرون من المسيح وهو على الصليب وكذلك رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ ، وكان مما عيروا به أنه أتكل على الله فلينقذه إن أراده ، كما كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه أيضاً كما ورد في أنجيل متى ومرقس ، أو عيره أحدهما بينما عاتب الآخر من عيره كما ورد في أنجيل لوقا.
وأخيراً ، صاح المسيح على الصليب قائلاً ( إلهي إلهي لماذا تركتني ) ، وهنا ركض واحداً واخذ اسنفجة وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه ، بينما طلب منه الباقون أن يتركه ، ليروا ما إذا كان إيليا سيخلصه ، ثم صرح المسيح على الصليب بصوت عظيم واسلم الروح ، وهكذا تم الصلب فداء للبشرية كما يعتقد المسيحيون .
المبحث الثاني(1/53)
في تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون
إذا كان السند الأل لما يعتقده المسيحيون عن صلب المسيح عليه السلام هو ما ورد في الأناجيل من تفاصيل عن التآمر عليه والقبض عليه ومحاكمته وصلبه ، فالذي لاشك فيه أن السند الأول لما يعتقده المسلمون من تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه وصلب غيره هو ما ورد في القرآن من ذلك ، إلا أننا إذا كنا قد وجدنا في الأناجيل صورة تفصيلية كاملة للتآمر على المسيح والقبض عليه ومحاكمته وصلبه ، فإننا لا نكاد أن نجد في القرآن شيئاً من هذه التفاصيل ، وإنما نجد الواقعة فيه جامدة مجردة عن أية تفاصيل ، فكل ما ورد في القرآن في هذا الصدد الآيات التي تقول : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله ، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ، ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا ، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ) (سورة النساء : 157 ، 158).
( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، إذ قال الله يا عيسي إن متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) (سورة آل عمران : 54 ، 55) .(1/54)
وفيما عد هذه الآيات القليلة ، وما يعتقده المسلمون من أن الذي صلب هو يهوذا الأسخريوطي بدلاً من المسيح عليه السلام ورفعه إليه وصلب يهوذا الأسخريوطي بدلاً منه ، وكل ما يمكن أن يفهم من القرآن أنه كانت هناك مؤامرة للقبض علي المسيح عليه السلام وصلبه ، ولكن الله كان فوق المتآمرين ، ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ، حتى إذا ما شرع المتآمرون ينفذون مؤامرتهم ، وهموا بالمسيح عليه السلام ، توفاه الله ورفعه إليه ، ( إذ قال الله يا عيسي إني متوفيك ورافعك إلي ....... ) ، وأمسك المتآمرون بآخر وصلبوه وقالوا إنهم صلبوا المسيح عليه السلام وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، (وقولهم إن قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) ، ثم إن الذين قاموا بالصلب اختلفوا فيه فكانوا في شك مما إذا كان من صلبوه هو المسيح نفسه ، وما قالوا بأنهم صلبوا المسيح إلا اتباعاً لما يظنون ، ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن ....... ) ( وما قتلوه يقين ، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ) ، ويضاف إلى هذا الذي يفهم من القرآن ما جري عليه اعتقاد المسلمين من أن صلب بدلاً من المسيح عليه السلام هو يهوذا الأسخريوطي ، الذي خانه وتآمر عليه ليسلمه إلى أعدائه .(1/55)
هذه هي الوقائع التي أوردها القرآن ، والتي يعتقد بها المسلمون عن تخليص الله للمسيح ممن أرادوا القبض عليه وصلبه ، وعن رفع الله للمسيح إليه ، وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه ، وهي كما تبدو ، وقائع مجردة لا تكاد تتضمن أية تفاصيل ، ولا يمكن بحال أن نستخلص منها تفصيلاً مثل هذا الذي استخلصناه من الأناجيل الأربعة عن التآمر على المسيح عليه السلام وصلاته ودعائه إلى الله لكي يخلصه من الصلب ثم القبض عليه بإرشاد من الخائن يهوذا الاسخريوطي ، ومحاكمته بعد ذلك ثم صلبه ، بكل ما يحيط هذه الوقائع من تفاصيل ، فما هو السبيل إذن ، للوقوف على صورة تفصيلية لتخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض علي يهوذا الاسخريوطي وصلبه بدلاً منه ظناً بأنه المسيح عليه السلام.(1/56)
وهنا لا نجد معيناً لنا في الوقوف على هذه التفاصيل غير اللجوء إلى الأناجيل ذاتها ، لنستخلص مما ورد فيها من تفاصيل ، الصورة التي يمكن أن يكون الله قد خلص عليها المسيح ورفعه إليه بينما قبض على يهوذا الاسخريوطي الذي صلب بدلاً منه وظناً بأنه المسيح عليه السلام ، ولقد يعجب القارئ إذ نلجأ إلى الأناجيل للوقوف على تفاصيل تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب يهوذا بدلاً منه ، ولكن الحقيقة أنه لا وجه للعجب من ذلك ، فالقرآن نفسه لم ينف أن هناك شخصاً قد صلب بالفعل ، بل وقد صلب على أنه المسيح عليه السلام ، إنما الخلاف هو حول حقيقة شخصية هذا الذي صلب ، فبينما يؤمن المسيحيون بأن الذي صلب هو المسيح نفسه ، يؤمن المسلمون بأن الله قد خلص المسيح عليه السلام من الصلب ، ويجري اعتقادهم بأن الذي صلب على أنه المسيح إنما كان يهوذا الاسخريوطي ، وفيما عدا ذلك ، فإنه لم يثر خلاف حول أي تفاصيل أخرى ، كما أننا قد انتهينا في الباب الأول إلى أنه يجب أن يكون الأصل في الأناجيل المتداولة افتراض صحتها ، ومن ثم فالصحيح في البحث اعتماد التفاصيل التي أوردتها ما دام أنه لم يثبت عدم صحة شيء منها ، كما أنه من الصحيح ، وفي استخلاصنا للصورة التفصيلية التي يعتقد بها المسلمون ، أن نأخذ بكل ما ورد في الأناجيل من تفاصيل ، فيما عدا ما يختص بتحديد شخصية هذا الذي صلب ، وبالطبع لا يقال هنا أننا نناقض ما قررناه في الباب الأول من أن الأصل في الأناجيل المتداولة افتراض صحتها ، لأننا هنا لا نقصد أن ننفي صحة ما ورد فيها ، وإنما نشرح اعتقاد المسلمين في الأمر ، وتأكيد الافتراض صحة الأناجيل ، ألزمنا هذه الصورة الإسلامية بأن تدخل في إطار ما ورد في الأناجيل من تفاصيل تتعلق بهذا الأمر ، فيما عدا ما تعلق منها بشخصية المصلوب ، إذ يؤمن المسلمون بأنه لم يكن المسيح عليه السلام ، وجري اعتقادهم بأنه كان يهوذا الاسخريوطي ، وليس ذلك نفياً منا لما(1/57)
ورد في الأناجيل عن شخصية المصلوب ، وإنما لتوضيح إيمان المسلمين وما جري عليه اعتقادهم بشأن شخص من صلب.
وترتيباً على ذلك ، نستطيع أن نقول أن المسلمين يتفقون مع المسيحيين على أن المسيح عليه السلام كان عالماً بأنه سيصلب ، وبهذا أخبر تلاميذه .... ، إلى آخر ما سبق أن ذكرناه عن صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون ، وذلك حتى لحظة وصول يهوذا الاسخريوطي ومن معه من جنود وخدام للقبض على المسيح عليه السلام وحتى هموا بالقبض عليه ، ذلك أنه من مطالعة التفاصيل التي وردت في الأناجيل نستطيع أن نقطع بأن هذا الذي كان مع التلاميذ وأخذ يصلي داعياً الله أن يخلصه ، وحتى قدوم يهوذا ومن معه ، هو واحد لم يتغير ، وهو المسيح نفسه بإتفاق المسيحيين والمسلمين على السواء ، كما أننا نستطيع أن نقطع أيضاً بأن الشخص الذي قبض عليه هو نفسه الذي حوكم وهو نفسه الذي صلب ، فإذا كان الله قد رفع المسيح حقاً وكان الذي صلب هو يهوذا الاسخريوطي حقاً وليس المسيح ، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا في اللحظة التي هم فيها من كانوا مع يهوذا بالقبض على المسيح ، ويتفق ذلك مع ما قرره القرآن ، إذ مفهوم آياته أن المؤامرة على المسيح لم تنجح في أي شق منها في الواقع ، وأول ما كانت تقتضيه المؤامرة ، هو القبض على المسيح أولاً ، ثم محاكمته فصلبه بعد ذلك ، ومن ثم فتخليص الله للمسيح ورفعه إليه إنما كان قبل أن يقبض عليه ، بمعني أن الله لم يمكن المتآمرين القبض عليه.(1/58)
وهكذا نستطيع أن نقول بإتفاق اعتقاد المسلمين مع إيمان المسيحيين حتى لحظة محاولة القبض على المسيح ، فهنا طبقاً لاعتقاد المسلمين ، توفاه الله ورفعه إليه وقبض على يهوذا الاسخريوطي على أنه المسيح ، وتتفق الصورة الإسلامية بعد ذلك مع ما يؤمن به المسيحيون من تفاصيل عن محاكمة هذا الذي قبض عليه وحوكم وصلب ، مع ملاحظة أنه بينما يؤمن المسيحيون أن هذا الذي قبض عليه وحوكم وصلب ، هو المسيح عليه السلام ، يجري اعتقاد المسلمين على أنه يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح سيده .
وبذلك ننتهي في هذا الفصل ، عن صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون ، وتخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون ، إلى أن تفاصيل الصورة العامة للواقعة واحدة عند المسيحيين والمسلمين على السواء ، فيما عدا في أمر واحد وهو أنه عند محاولة القبض على المسيح عليه السلام ، يعتقد المسلمون بأن الله توفاه ورفعه إليه ، وقبض على يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه ، وحوكم وصلب على أنه المسيح نفسه ، بينما يؤمن المسيحيون بأن الذي قبض عليه وحوكم وصلب هو المسيح نفسه .
وأخيراً فها قد أوضحنا الفرضين اللذين سنبحث عن الحقيقة بينهما في هذا الباب ، وأوضحنا كل الفرق بينهما ، وهو الفرق الذي يبدو ضئيلاً للغاية في ظاهره ولكنه كبير وبعيد الأثر وعميقه في حقيقته ، ولننتقل الآن إلى البحث عن المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين هذين الفرضين .
الفصل الثاني
المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين
صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون
وتخليص الله له ورفعه إليه كما يعتقد المسلمون(1/59)
يبدو للوهلة الأولى ، أن من الصعب الوصول إلى المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين صلب المسيح كما يعتقدون المسيحيون ، وتخليص الله له ورفعه إليه ، كما يعتقد المسلمون ، وليس وجه الصعوبة هو انعدام وجود معيار لذلك ، وإنما وجه الصعوبة أن أصول البحث السليم ، تقتضي أن يكون هذا المعيار مقبولاً لدي المسيحيين والمسلمين على السواء ، ولاشك أن لكل من المسيحيين والمسلمين معاييراً يعتبرونها في البحث ولكنها ، وكما بينا من قبل ، تنتهي بهم إلى طرفي نقيض ، ولو أخذنا بمعيار معين منها ، فيجب أن نتوقع رفضه ممن لا يأخذون به ، فكيف السبيل إذن للوصول إلى المعيار الذي لا يرفضه أحد الطرفين ، أو في القليل لا يقبل من أيهما - في أصول البحث - أن يرفضه .
وهنا نجد أننا إذا عدنا قليلاً إلى الفصل الأول من الباب الأول ، نجد أننا لاحظنا أن ثمة فارقاً واضحاً بين الكتب المسيحية والكتب الإسلامية عموماً ، فعل اتفاق المسيحية والإسلام على الإيمان بالكتب السماوية السابقة ، فإن المسيحيين وحدهم هم الذين عنوا كل العناية بتلك الكتب ، حتى أنهم جمعوها والعهد الجديد في كتاب واحد يؤمنون به كله ويسمونه بالكتاب المقدس ، ولا تكاد الكتب المسيحية أن تخلو من الإشارة إلى الكتب السابقة في محاولة للربط بين ما جاء فيها وبين رسالة المسيح عليه السلام ، حتى أنهم ليخرجون من ذلك إلى ما يعتقدون أنه يكون وحدة كاملة يقوم عليها الدين كله وكل معتقداتهم بشأنه ، وذلك كله بعكس المسلمين الذين يكادون أن يغفلوا الإشارة إلى ما ورد في الكتب السماوية السابقة عدا ما قد يكون ذكر عنها في القرآن ، مع أن الإسلام يحتم الإيمان بتلك الكتب إيماناً مساوياً للإيمان بالقرآن .(1/60)
وهذه المحاولة للربط بين الكتب السماوية السابقة وبين رسالة المسيح لم تظهر ابتداء في كتب المسيحيين ، وإنما ظهرت أولاً في أقوال المسيح التي وردت في الأناجيل ، كما زادت الأناجيل من تأكيد ارتباط رسالة المسيح بالكتب السماوية السابقة ، ولنزيد الأمر إيضاحاً ، فإننا إذا أنعمنا النظر في الآيات التي وردت عن القبض على المسيح عليه السلام ومحاكمته وصلبه في الأناجيل ، لوجدنا أنها تحاول الربط بين ما وقع وبين ما ورد في الكتب السماوية السابقة ، إشارة من الأناجيل إلى أن هذا الذي وقع وذكر فيها ، إنما سبق التنبؤ بوقوعه من قبل في الكتب السابقة ، وذلك كما هو في الآيات التي تقول :
( أتظن أني لا استطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون ) (متى ص 26 : 53 ، 54).
( ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ، لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة) (متى ص 27 : 35).
( وصلبوا معه لصين واحداً عن يمينه وآخر عن يساره ، فتم الكتاب القائل وأحصى مع أئمة ) (مرقس ص 15 : 28).
( أجاب يسوع قد قلت لكم أني أنا هو ، فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون ، ليتم القول الذي قاله إن الذين أعطيتني ، لم أهلك أحداً منهم ) (يوحنا ص 18 : 8 ، 9) .
( فقال بعضهم لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون ، ليتم الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة) (يوحنا ص 19 : 24).(1/61)
وهذه المحاولات التي وجدناها في الأناجيل ، للربط بين ما وقع وما سبق التنبؤ به في العهد القديم ، نجدها تشمل معظم ما ورد في الأناجيل من مواضيع وحوادث ولاشك أن هذا الربط بين نبوءات العهد القديم وما تحقق في العهد الجديد هو الأساس الذي قامت عليه معظم دراسات المسيحيين من محاولة للربط بين ما جاء في العهد القديم من نبوءات وما تحقق بالفعل في العهد الجديد ، حتى لقد أصبح هذا الربط أساساً هاماً من أسس البحث في المسيحية يكاد أن يحجب ما عداه من أسس ، ولا يكاد أي كتاب في المسيحية ، يغفل عن الربط بينها وبين ما جاء العهد القديم من نبوءات ، بل أن هناك العديد من الكتب التي لا تتناول غير هذه النبوءات والربط بينها وبين ما تحقق في العهد الجديد.
ومن مثل هذه الكتب كتاب المسيح في جميع الكتب (تأليف أ.م.هودجكن ونشره مركز المطبوعات المسيحية ببيروت) ، ولعل في عنوان الكتاب ما يكفي للإبانة عن مضمونه وهو أنه يقوم على إثبات أن جميع الكتب السماوية السابقة تنبأت عن المسيح نفسه ، مضيفاً ما ورد في الأناجيل وما تلاها عن المسيح عليه السلام ، ومن مثل هذه الكتب أيضاً كتاب رب المجد (وهو لجماعة من اللاهوتيين المسيحيين برئاسة عبد الفادي القاهراني ونشره مركز المطبوعات المسيحية ببيروت أيضاً ) وهذا الكتاب يكاد أن يطابق سابقه في منهج البحث ، ومن ذلك أيضاً كتاب المسيح في أشعياء (تأليف الدكتور ف.ب. ماير وتعريب القس مرقس داود وقد نشرته مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية في القاهرة ) ، وكذلك كتاب هل تنبأت التوراة عن المسيح (تأليف القمص سرجيوس ومطبوع بالمطبعة التجارية الحديثة بالسكاكيني - بالقاهرة) ، وعنوان هذين الكتابين الآخيرين يكفي لمعرفة مضمونها .(1/62)
هذا عن المسيحيين ، بعكس الحال عند المسلمين الذين لا يقيمون أية أبحاث على أساس الربط بين ما ورد في الكتب السابقة من نبوءات وبين ما تحقق من هذه النبوءات إلا فيما ندر ، ولم نعثر على شيء منه ونحن بصدد إعداد هذا البحث ، ولكن ، ونحن بصدد البحث عن المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين الفرضين اللذين فصلناهما في الفصل السابق ، لا نجد أمامنا أي معيار للكشف عن الحقيقة التي نبحث عنها ، غير ما جاء في الكتب السابقة من نبوءات ، ونقصد بالكتب السابقة هنا ، الكتب السماوية السابقة على المسيحية والإسلام على السواء.(1/63)
ولاشك أن المسيحيين يرتضون هذا المعيار أساساً للكشف عن الحقيقة ، لما هو واضح من أن دراساتهم وأبحاثهم إنما تقوم على أساس هذا المعيار نفسه كما وجدنا فيما سبق ، ولأن الأناجيل نفسها ، بل والعهد الجديد كله ، وحتى المسيح نفسه ، اعتمدوا هذا الأساس للبحث في الكتاب المقدس ، أما المسلمون ، فلا أحسبهم إلا مترددين أمام هذا المعيار ، بل لعل منهم من لا يتردد في رفضه أساساً للكشف عن الحقيقة ، ولعل السبب في ذلك يبدو بديهياً ، فإذا كان هذا المعيار هو أساس لدراسات المسيحيين وأبحاثهم التي ينتهون منها إلى تأييد معتقداتهم ، فكيف بهم يقبلونه وهم يعرفون النتائج التي ينتهي إليها هذا المعيار مقدماً ، ويعرفون أيضاً أنها عكس ما يعتقدونه ، ولابد وأنهم سيتجاهلون هذا الاعتبار في تعليلهم للرفض ، وسيتذرعون بأنهم لا يثقون في صحة الكتاب المقدس ، ولكننا نجد على ذلك الاعتراض لدي المسيحيين رداً مقبولاً ومقنعاً ، فهم يرون أنه إذا كان مقبولاً أن يتصور أحد أنهم قد يغيرون في الأناجيل لتتمشي مع معتقداتهم ، فليس من المقبول على الإطلاق أن يتصور أحد أن اليهود يغيرون في العهد القديم ليطابق معتقدات المسيحيين ويتمشى معها ، وهذا الرد كما قلنا مقبول ، ومقنع حقاً ، ومن ثم فإن اتخاذ نبوءات العهد القديم معياراً صحيحاً للكشف عن الحقيقة ، سبيل صحيح في البحث يقيم المسيحيون أبحاثهم على أساسه ، ولا يقب من المسلمين أن يرفضوه كأساس سليم للكشف عن الحقيقة .
بل إن هذا الذي انتهينا إليه ، هو ما يحتمه عدل الله ، والذي يقتضي أن يكون للناس جميعاً سبيل بين أيديهم للوصول إلى الحقيقة ، فكيف يكون سبيل المسيحيين للوصول إليها في القليل قبل رسالة محمد عليه السلام ، إلا أن تكون قد وردت في العهد القديم نفسه .
كيفية الاحتكام إلى الكتب السابقة :(1/64)
لما كان المسيحيون وحدهم دون المسلمين هم الذين يتناولون نبوءات العهد القديم في أبحاثهم ، ويربطون بينها وبين ما وقع بالفعل في العهد الجديد ، تأكيداً لصحة ما وقع ، وبياناً بأنه سبق التنبؤ به من قبل ، فإن الطبيعي أن يكون التعرف على هذا الأسلوب في البحث في كتب المسيحيين أنفسهم ، ولعل خير ما نبدأ به ذلك هو ما قيل على لسان المسيح عليه السلام في إنجيل يوحنا :
( فتشوا الكتب ........ وهي التي تشهد لي ) (ص 5 : 39).
فالمسيح هنا كما ورد في إنجيل يوحنا ، يطلب البحث في الكتب السابقة ، مؤكداً بأنها تشهد له ، أي تنبأ عنه ، ويبحث المسيحيون في الكتب ويفتشونها كما طلب المسيح ، وإذ قيل على لسان المسيح أنها تشهد له ، فهم لذلك ينظرون إلى هذه الكتب على نحو معين ، يوضحه ما يقوله القمص سرجيوس في كتابه هل تنبأت التوراة عن المسيح بقوله :
( هل تنبأت التوراة عن المسيح ؟
إذا سألنا هذا السؤال فلا نتجه إلى اليهود أصحاب التوراة لنلتمس منهم نصاً نؤوله أو نفسره أو نستدل منه على المسيح لأننا لو فعلنا هذا كان مثلنا مثل إنسان مفتوح العينيين يسأل المارة وقت الظهيرة قائلاً : دلوني أين هي الشمس .
فالمسيح ساطع في كل الكتاب المقدس في إشراق دائم وليس كالشمس التي تغيب عن نصف الأرض ليلاً إذ ليس في التوراة أو كتب الأنبياء جزء تغرب عنه شمس المسيح بل يتبع اسمه وشخصه وصفاته وأعماله وظروفه وأحواله في التوراة وكتب الأنبياء وفي ثنايا سطورها . نجد المسيح في كل جملة وفي كل أصحاح وفي كل سفر من أسفارها وما حروفها وكلماتها إلا خطوطاً وأظلالاً لصورة المسيح المجيدة.
فلقد رسم بعض الفنانين على قطع مربعة من الخشب وعلى كل سطح من سطوحها الأربعة جزءاً من صورة يضعها الوالدون أمام أطفالهم ويتركونهم يحاولون جمع القطع كلها إلى بعضها جمعاً محكماً بحيث تري صورة كاملة على كل من السطوح الأربعة.(1/65)
فكتاب التوراة والزبور وكتب الأنبياء يوجد في كل جزء منها صورة تمثل حياة السيد المسيح وظروفه وأحواله وصفاته وأعماله ، ومجموع هذه الصور يكون صورة كاملة لشخص المسيح بصفته إلهاً وإنساناً معاً تمتد من سفر التكوين إلى نبوة ملاحي النبي يجمعها أطفال المسيحيين وكبارهم بكل سهولة فتقابلها أيها الناظر إليها بالصورة التي في العهد الجديد - الإنجيل - فتري نفسك وقد أمسكت القلم وكتبت تحتها هذا هو يسوع الناصري الذي جاء إلى العالم فادياً ومخلصاً ، وعندئذ تدرك ما قاله بولس الرسول : إن يسوع الكل وفي الكل (كو 3 : 11) تدرك أن المسيح هو كل شيء في التوراة وكتب الأنبياء . حتى ما ورد في كتب النبوءات عن أشخاص غير المسيح وعن بلاد وممالك قد ذكر كعلامات ، ودلائل تدل على الوقت الذي كان المسيح مزمعاً أن يظهر فيه.
وإذا كانت التوراة وكتب الأنبياء هي وحي الله المتجسد في سورة من الكلمات والحروف فيسوع المسيح هو روح هذا الوحي المتجسد كما يقول صاحب سفر الرؤيا إن شهادة يسوع هي روح النبوءة (رؤ 19 : 10) وكما يقول بطرس الرسول : الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء ، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم ، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها ( 1 بط 1 : 10 و 11) .
فكل ما في التوراة وكتب الأنبياء من شعر ساحر ، يسوع المسيح هو المعني الذي في بطن الشاعر والشاعر ، وما فيها من تاريخ ، يسوع المسيح هو بطل هذا التاريخ الذي قال عنه سليمان في نشيده : " حبيبي أبيض واحمر معلم بين ربوة " وما أبطال التاريخ الذين ذكروا في كتب التوراة والأنبياء إلا ممثلين لبطل العصور ومشتهي الأمم الرب يسوع بل هم إطار أسود يحيط بصورته المتلألئة التي يشع منها نور القداسة والكمال.(1/66)
وإذا كانت التوراة وكتب الأنبياء هي أنوار مشعة في الفلك الروحي لإنارة العالم فيسوع المسيح هو شمس البر الذي تدور حوله الأفلاك بل هو الذي قال عنه صاحب سفر الرؤيا : الممسك الكواكب في يمينه .
ونحن المسيحيين لا نهتم أين نفتح التوراة وكتب الأنبياء لنجد الكلام عن المسيح ، ولسنا بحاجة أن نقف أمام علماء التوراة من اليهود ليدلونا على المسيح في كتبهم لأنه ساطع فيها كما تسطع الشمس على العالم ولا يمكن لليهود أن يخفوه عنا أو يخفوا دلائله والشمس ليس لها دليل ، بل هي دليل لذاتها على وجودها . بل واليهود يشيرون إليه ويعترفون أن المسيح هو الذي يدور عليه كتابهم وعباداتهم ورجاؤهم وقد فهم ذلك عنهم حتى أن هيرودس الملك عندما رأي المجوس يأتون إلى بلاده ليسجدوا للمسيح المولود لأنهم رأوا نجمه في المشرق أرسل فاستدعي رؤساء الكهنة وكتبه الشعب وسألهم أين يولد المسيح فقالوا له على الفور : في بيت لحم اليهودية لأنه مكتوب بالنبي : وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغري بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبر يرعى شعب إسرائيل (مت 2 : 1 - 6).
فمن هذا ترى أن اليهود يعترفون أن توراتهم تدور حول محور ومحورها هو المسيح فهم لا يختلفون عنا من هذه الناحية إنما وجه الخلاف بيننا وبينهم أنهم يقولون أن المسيح لم يأت بعد أما نحن النصارى كنا أم مسلمين نعترف أن المسيح جاء إلى العالم ). (ص 6 - 8).
والذي لاشك فيه ، أن هذا الكلام فيه مبالغة كبيرة ، ولكنه على أي حال يعطي فكرة عن وجهة نظر المسيحيين في العهد القديم كله بصفة عامة ، على أن ثمة سفراً معيناً من أسفار العهد القديم يجعل له المسيحيون اعتباراً خاصاً من هذا الوجه من وجوه البحث ، وهو النبواءت ، وفي هذا الكاتب نفسه في صفحة 28 من نفس الكتاب :(1/67)
( في سفر التكوين كان فجر النبوة وفي الأسفار التالية كان تدرجها في الارتفاع حتى تكبدت السماء في سفر المزامير وظهر المسيح فيه واضحاً جلياً في كمال مجده كأنه الإنجيل يتكلم عن يسوع من كل مناحي حياته عن أعماله وأقواله وتعاليمه وظروفه وأحواله ، تكلم الأنبياء عن المسيح فأشار كل واحد منهم إليه من ناحية إحساساته العميقة وآلامه المبرحة ناهيك عن صفاته وألقابه أكثر من أي نبي آخر .
ويمكننا القول أن سفر المزامير هو سفر مسيا الخاص ، بدليل أن الاقتباسات التي اقتبسها كتبة العهد الجديد من سفر المزامير هذا قد بلغت إلى نصف الاقتباسات المأخوذة من العهد القديم كله) .
وفي مثل ذلك أيضاً نقرأ في صفحة 84 من كتاب المجد الذي سلفت الإشارة إليه وتحت عنوان المسيح المتألم والمسيح الممجد - في سفر المزامير :
( المزامير كلمة معناها الترانيم أو التسابيح وقد ألفت في أوقات مختلفة في العصر الإسرائيلي من أيام موسي إلى ما بعد أيام السبي ، والمجموعة المقصودة بالذات هنا عددها مئة وخمسون مزموراً ، ولكنها نسبت إلى داود على وجه التغليب لأنه ألف منها ما يربوا على 73 مزموراً ... وكلها روحية نافعة لتسبيح الرب في أوقات العبادة فهي تقرأ بالترتيب على مدار الشهر في بعض الكنائس ويصلي بها العباد في مخادعهم ويرتلها المسيحيون في كنائسهم ومنازلهم منظومة في كتب خاصة بها . ولم يوجد كتاب ملئ بالإشارات والرموز والنبوات عن المسيح أكثر من كتاب المزامير هذا وعليه فأهميته في نظر اللاهوتيين تفوق الوصف .)(1/68)
فإذا كان ما تقدم ، فإنه يبدو جلياً أن نبوءات سفر المزامير بالذات يجب أن تكون هي عماد بحثنا ، أو في القليل أول ما نتخذه معياراً للكشف عن الحقيقة التي نحن بصدد البحث عنها ، بل أنه ليحتم علينا ذلك ، أننا ، ونحن بصدد البحث عن الحقيقة بين صلب المسيح أو تخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره ، فإننا نجد أن المسيحيين يشيرون إلى سفر المزامير بالذات باعتباره قد تحدث عن آلام المسيح وعذابه ، قاصدين من ذلك آلامه وعذابه على الصليب ، كما أن الأناجيل نفسها قد أشارت إلى سفر المزامير بالذات عندما تناولت واقعة صلب المسيح مشيرة إلى التنبؤ بهذه الواقعة وما أحاط بها من التفاصيل فيه ، ومن ذلك ما قاله متى البشير في أنجيله ( لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة ) ، فهذا الذي أشار إليه البشيران هو ما قيل على لسان داود في المزمور 22 (يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون ) ، ولذلك فإن المسيحيين يعتبرون هذا المزمور - باتفاقهم جميعاً على ذلك - نبوءة عن صلب المسيح وآلامه ، وفي هذا نقرأ في صفحة 85 من كتاب رب المجد عن المزمور 22 :
( فكل هذه الأقوال لم يتم منها في داود قائلها شيء ولكن كل قول فيها قد تم في ذات مخلصنا الرب يسوع المسيح لأن كل هذه نبوة صريحة عن آلامه التي احتملها لأجل خلاص البشر).(1/69)
ومما تقدم نخلص إلى أن الاحتكام إلى الكتب السماوية السابقة يكون بالاحتكام إلى ما فيها من نبوءات وبصفة خاصة ، ما في سفر المزامير من نبوءات ، ولقد يقال هنا ، وبمعني أوضح ، قد يقول المسلمون هنا ، أننا نقيد أنفسنا بذلك بكل ما استقر عليه المسيحيون أنفسهم في دراساتهم وأبحاثهم ، وكأننا بذلك نحكم المسيحيين أنفسهم في الأمر ، ولقد يبدو ذلك صحيحاً إلى حد ما ، إلا أنه يجب ألا نغفل أن العهد القديم من الضخامة بحيث ليكاد أن يتعذر على مجهود فردي أن يبحثه البحث الشامل الوافي الذي يستخلص به منه كل ما فيه من نبوءات ، وفي مجال البحث ، لا محل لأن يفرق المسلمون بين سفر المزامير وبين أي سفر آخر من أسفار العهد القديم ، وما دام المسيحيون يعطون هذا السفر بالذات كل هذه الأهمية حتى أنهم ليرون فيه سفر المسيح الخاص ، فليس ثمة ما يمنع أن نتخذ هذا السفر أساساً للبحث ، خاصة مع ما وجدناه في الأناجيل مما يعتبر أن في هذا السفر نبوءة عن صلب المسيح وهو الموضوع الذي نبحثه ، على أن هذا لا يمنعنا ، إذا ما لم نجد في هذا السفر ما يعنينا في الكشف عن الحقيقة ، من أن نمضي في أسفار العهد القديم كلها ، باحثين عن الحقيقة حيث يمكن أن نجدها ، دون أي اعتبار لضخامة هذا العهد ، إذ لا يجوز أن تقف هذه الضخامة بأي حال من الأحوال ، حائلاً دون البحث عن الحقيقة .
كيف نستخلص النبوءات من أسفار العهد القديم :(1/70)
قد يبدو غريباً التساؤل عن كيفية استخلاص النبؤات من أسفار العهد القديم ، ذلك أن النبوءة لغة هي الأخبار عن الغيب أو المستقبل بإلهام من الله ، ومفروض أن الكتب السماوية السابقة قد كتبت بوحي من الله ، ومن ثم كان طبيعياً أن تكون النبوءات فيها هي ما نجده فيها من أخبار عن الغيب أو المستقبل بالنسبة لقائليها ، على أن هذا التساؤل وإن بدا ذلك على شيء من الغرابة ، إلا أن الواقع أنه على جانب كبير من الأهمية ، ذلك لأننا لا نستطيع أن نتغاضي عما استقر لدي المسيحيين اليوم ومن قبل أيضاً من توسع في معني النبوءة ، فهناك أقوال وردت في العهد القديم ، تصف أموراً معينة وكأنها تحدث لقائليها أو تقع أمام أبصارهم ، بينما هي لم تقع لهم ولا أمام أبصارهم في الواقع ، ثم نري هذه الأمور تقع بعد ذلك تماماً كما وردت على لسان قائليها ، ومثل ذلك ما قرأناه عن المزمور 22 من أن كل الأقوال التي وردت فيه لم يتم منها في داود قائلها شيء ولكن كل قول فيها تم كما يعتقد المسيحيون في ذات مخلصهم الرب يسوع المسيح كما يقولون ، ومن ثم فهم يعتبرون هذا المزمور نبوءة صريحة عن آلام المسيح التي احتملها لأجل خلاص البشر فهنا أقوال وردت في العهد القديم ، ولم ترد في صورة أخبار عن الغيب أو المستقبل إلا أن المسيحيين يعتبرونها رغم ذلك نبوءة لظروف معينة ، تتمثل في أنها لم تقع لقائلها أو أمامه ، ثم وقعت بكل تفاصيلها بعد ذلك.(1/71)
ولكن المسيحيين لم يكتفوا في أبحاثهم بالتوسع في معني النبوءة على هذا النحو ، بل مضوا يتوسعون في هذا السبيل حتى أصبح من المستحيل إسباغ معني النبوءة على ما يستندون إليه من آيات ، وانتهوا في توسعهم هذا إلى ما يسمي بالرموز فاعتبروا بعض آيات ، بل العديد جداً من آيات العهد القديم ، رمزاً إلى ما وقع أو كان في العهد الجديد ، حتى أن الآيات من العهد القديم التي يستخلصون منها رموزاً إلى العهد الجديد ، أصبحت أضعاف أضعاف تلك التي يستخلصون منها نبوءات عن العهد الجديد ، بل أنه قد أصبح من طرق دراسة الكتاب المقدس عند المسيحيين طريقة تسمي طريقة دراسة الكتاب المقدس عن طريق الرموز ، ولاشك أنه من المفيد التعرف على هذه الطريقة في دراسة الكتاب المقدس عند المسيحيين ، لنتبين مدي ما يمكننا أن نأخذ به كمعيار في بحثنا منها .
وفي هذا الصدد فإنه يعيننا كتاب عنوانه كيف تدرس الكتاب المقدس (تأليف الدكتور ر.أ. تري وتعريب السيد /مرقس فهمي فرج طبع مطبعة الأمانة بشارع جزيرة بدران رقم 2 بشبرا - القاهرة) فهذا الكتاب يتحدث عن طريق دراسة الكتاب المقدس وشروطها ، ونقرأ فيه ابتداء من صفحة 72 منه :(1/72)
( رابع طريقة لدرس الكتاب المقدس نتناولها في هذا البحث هي درسه عن طريق الرموز ، ولنا أمثلة توضيحية لهذا في الكتاب المقدس نفسه . كما في الرسالة إلى العبرانيين ، وهذه الطريقة تجمع بين الجدة والتشويق ، من ناحية ، وبين التثقيف والتعليم من ناحية أخرى ، فهي تكشف لنا عن أثمن الحقائق ، وأعلاها بعد إذ كانت دفينة تحت ركام طائفة من العبارات الكتابية التي بدت جافة خالية من المعني ، وإذا أسئ استعمال هذه الطريقة في درس الكتاب المقدس ، أو إذا أبهظت من فرط استعمالها ومن التطرف فيه - نعم ، إذا أسئ أو إذا أبهظ استعمال هذه الطريقة إلى حد كبير في بعض الأماكن ، فلا يمكن اتخاذ ذلك سبباً نتذرع به لإهمالها إهمالاً تاماً ، خاصة عندما نذكر أن بولس لم ينفرد بإيثار هذه الطريقة بل أن يسوع نفسه قد أولع بها أيضاً .
وفيما يلي القواعد التي تجنبنا سوءات هذه الطريقة ، ما دمنا حريصين على توخيها واتباعها -
(1) الخطوة الأولى : أن تتأكد من وجود مستند كتابي للرمز الذي اتخذته لدراستك :
فإذا أطلق المرء لخياله العنان في هذا الأمر ، استطاع أن يتخيل رموزاً في كل مكان ، حتى حيث لم يخطر على بال " المؤلف الإلهي " ولا الكاتب البشري أي قصد لأي معني رمزي من هذه الناحية . فلا تقل قط أن هذا رمز إلا إذا استطعت أن تشير إلى عبارة صريحة معينة وردت في الكتاب المقدس تحدد الحق المرموز إليه تحديداً جلياً .
(2) الخطوة الثانية : تخير أبسط الرموز وأكثرها بياناً وصراحة :
ومن الأمثلة على ذلك الفصح . (قارن خروج ص 12 مع كسورنثوس الأولي 5 : 17 الخ) ، ورئيس الكهنة ، وخيمة الاجتماع.
(3) الخطوة الثالثة : أن تكون على حذر تام من التمادي وراء الوهم والتطرف في اعتصار المعني :(1/73)
فإذا لم يكبح المرء جماح مخيلته وأطلق لها العينان ، فإن من شأنها الجنوح بصاحبها إذا كان خصب الخيال سريعاً إلى تصور الرموز ورؤيتها ، ولابد أن ترهف حساسيتنا ويهذب ذوقنا بالتدريب في حرص وحذر وتدقيق .
(4) الخطوة الرابعة : في دراستك أي جزء من أجزاء الوحي الذي قد تجد فيه تلميحاً رمزياً ، عليك أن ترجع إلى جميع الأماكن في الكتاب المقدس التي ورد فيها ذكر هذا الرمز .
وأفضل مجموعة لهذه المراجع عن الكتاب المقدس من هذه الناحية تجدها في " خزانة المعرفة الكتابية " .
(5) الخطوة الخامسة : أن تدرس بعناية معني الأسماء الأعلام التي يطلقها الكتاب على الأشخاص والأماكن :
فإنك واجد - في أغلب الأحيان - أن لأسماء الأعلام الكتابية إيحاءات من المعاني غنية كل الغني ، عميقة شديدة العمق : فمثلاً كلمة " حبرون " تعني " الانضمام معاً " و " الاتحاد " و " الشركة " و " الصحبة " . ومن هنا تري عمق ومعني ما توحي به من المعاني ، إذا وضعنا ذلك نصب عيوننا ونحن ندرس ملابستها التاريخية .
وبصدق هذا عندما نتناول بالدرس أسماء مدن الملجأ ، وكذلك الكثير جداً من أسماء الأعلام التي وردت بالكتاب ، فهل من محض المصادفة أن يطلق اسم " بيت لحم " - ومعناه بيت الحبر - على المكان الذي ولد فيه " خبز الحياة " ؟).(1/74)
هذه هي طريقة دراسة الكتاب المقدس عن طريق الرموز ، وواضح أن هذه الطريقة هي نتيجة لما سبق أن قرأناه في كتاب هل تنبأت التوراة عن المسيح من قول المؤلف ( ونحن المسيحيين لا نهتم أين نفتح التوراة وكتب الأنبياء لنجد الكلام عن المسيح ....... إلى آخر ذلك) ، ولعل في قول شارح طريقة دراسة الكتاب المقدس عن طريق الرموز من أن هذه الطريقة أسئ استعمالها وأبهظ إلى حد كبير في بعض الأماكن ، لعل في ذلك ، ما يوضح تعليقنا على كلام مؤلف هل تنبأت التوراة عن المسيح بأن فيه مبالغة كبيرة ، ولاشك أن في ذكر بعض الأمثلة على كيفية استعمال هذه الطريقة ، ما يعين على تقييمها من حيث إمكان اتخاذها معياراً للكشف عن الحقيقة فيما احتكمنا فيه إلى العهد القديم .
ومن مثل ذلك ما نقرأه في صفحة 71 من كتاب رب المجد :
( النبؤة - " هذه فريضة الفصح ..... وعظما لا تكسروا منه ". (خر 13 : 43 - 46) الإتمام - " وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقية لأنهم رأوه قد مات .... لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه " " لأن فصحنا أيضاً قد ذبح لأجلنا " ... ( يوحنا 19 : 33 - 36) و ( 1 كو 5 : 7).
التعليق : هذه النبوة وإتمامها أوضحا لنا أن في ذكر فريضة الفصح نبوة عن الفادى ، وهذا ليس فكرنا بل فكر الروح المقدس الذي ذكر لنا أن في حوادث الصلب إتماماً لما جاء في فريضة الفصح ، وبما أن الفداء لم يأت من جانب بشري ولا ملائكي بل أتي من الله ، وعليه فالمسيح هو الفادى ، والفادى هو الله الذي تجسد لفدائنا)
ومن ذلك أيضاً ما نقرؤه في صفحتي 121 ، 122 من كتاب المسيح في جميع الكتب :(1/75)
( اسم صموئيل : أن صموئيل رمز إلى المسيح ، أشكل فهم هذا الاسم على علماء اليهود إلى عام 1899 حينما التأم مؤتمر علماء اللغات الشرقية في رومية ، فقال أحدهم - وهو الأستاذ جستر من فلادلفيا - أن لفظة صم في اللسان الأشورى المتقارب إلى اللغة العبرانية تدل على معني ولد ، وترجم كلمة صموئيل هكذا " ولد الله " أن حنة أمه من صميم قلبها قدمت ابنها البكر لله .
فصار صموئيل ولد الله من يوم ولدته أمه ، وعدا ذلك فإن الترنيمة التي سبحت الله بها عند ولادته كثيرة الشبه بترنيمة مريم أم يسوع ، فالوالدتان رأتا نفس الرؤيا ألا وهو خلاص مسيح الرب. قالت حنة " مخاصمو الرب ينكسرون ، من السماء يرعد عليهم ، الرب يدين أقاصي الأرض ويعطي غزا لملكه ويرفع قرن مسيحه " (1 صم 2 : 10) ، وقالت مريم : ( صنع قوة بذراعه ، شتت المستكبرين بفكر قلوبهم .... عضد إسرائيل فتاة ليذكر رحمة . كما كلم آباءنا ، لإبراهيم ونسله إلى الأبد ) (لوقا 1 : 51 ، 54 ، 55) ، وعليه فترنيمة حنة ، والاسم الذي سمت به ابنها يشيران كلاهما إلى المسيح ، وحنة هي الأم الأولي التي شبهت ابنها بالمسيح )
ومنه أيضاً ما نقرأه في صفحتي 227 ، 228 من الكتاب نفسه :
( الفداء : تظهر حقيقة الفداء في هذا السفر - سفر نشيد الأنشاد - مكني عنها بالجمال ولكنه ليس جمال العروس بل جمال العريس معكوساً عليها ببهائه الساطع ، فقالت " أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان " أي سوداء كخيام عرب البادية المصنوعة من شعر الماعز ، وجميلة كأستار الهيكل .
فمن أين أتاها هذا الجمال وهي سوداء ، فأجيب : ألقاه عليها عريسها ، وعلى ذلك قوله تعالى مخاطباً شعبه المختار " خرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك " . برنا الذاتي هو في الحقيقة كخرقة بالية لا تزين ولا تستر ، ولكنا لبسنا رداء بره الكامل .(1/76)
يقول الحبيب خطاباً لعروسه " يا حمامتي في محاجئ الصخر " أي مستترة في معقل " صخر الدهور " . " مع المسيح صلبت " فمت عن العالم ، فأكد لها مكرراً " أنت جميلة " ها أنت جميلة يا حبيبتي " لا دنس فيك " . " أحب المسيح أيضاً الكنيسة واسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غصن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب " (1 ف 5 : 25 - 27).
وإذا أمعنا النظر في هذه الأمثلة الثلاثة لدراسة الكتاب المقدس بطريقة دراسة الرموز لوجدنا أنها لا مكان لها في بحثنا هذا فمثلاً ، في المثال الأول اعتبرت الآيات " هذه فريضة الفصح .... وعظماً لا تكسروا منه " ، رمزاً لعد كسر ساقي المسيح على الصليب ، ولقد اعتبرها البشير يوحنا في إنجيله نبوءة بذلك ، فإذا ما رجعنا إلى الآيات التي وردت فيها هاتان الآيتان نجدها تقول :
( وقال الرب لموسى وهرون هذه فريضة الفصح ، كل ابن غريب لا يأكل منه .
ولكن كل عبد رجل مبتاع بفضة ثخنته ثم يأكل منه ، النزيل والأجير لا يأكلان منه وفي بيت واحد يؤكل ، لا تخرج من اللحم من البيت إلى خارج ، وعظماً لا تكسروا منه ) (خروج ص 12 : 42 - 46).(1/77)
ويبدو من الصعوبة بمكان فهم كون الآيتين (هذه فريضة الفصح .. وعظماً لا تكسروا منه ) ليس مجرد رمز ، بل نبوءة عن عدم كسر ساقي المسيح على الصليب ، ولكن المسيحيين معذورون أن يعتبروا هاتين الآيتين نبوءة عن ذلك لأن الإنجيل نفسه اعتبرهما كذلك ، إنما ، وبالرغم من ذلك ، فإنه من المستحيل اتخاذ مثل هذه الطريقة سبيلاً للكشف عن الحقيقة فيما يختلف فيه ، وإذا راجعنا المثالين الآخرين لتأكد لنا ذلك ، ولسنا نقصد هنا أن نتعرض لهذه الطريقة في دراسة الكتاب المقدس بالنقد في حد ذاتها ، لأنها معتبرة عند المسيحيين ، وإنما يمكن لكل شخص أن يستخرج على أساسها من الرموز ما يشاء ، بل إننا لا نغالي إذا قلنا أن أي قصة يمكن استخراج رموز لها من الكتاب المقدس على أساس هذه الطريقة ، مهما كان بعدها عن الكتاب المقدس نفسه ، أو حتى عن الدين عموماً ، ولذلك ، فالذي يتصور لهذه الطريقة أن تفيد فيه ، هو افتراض ثبوت الحقيقة ابتداء على نحو معين ، ثم البحث عن الرموز التي تؤكد هذه الحقيقة المفترضة ابتداء ، وبذلك فإن هذه الطريقة لا تفيد في الكشف عن الحقيقة ، وإنما قد تفيد بعد الكشف عنها ولذا كان ما قلناه من أنها لا مكان لها في بحثنا هذا ، لأننا قد انتهينا من قبل إلى أنه لا يجوز افتراض الحقيقة على نحو معين ابتداء ، وإنما ينبغي أن نبحث عنها بين الفرضين موضوع البحث في هذا الباب ، دون افتراض صحة أي منهما مقدماً.(1/78)
وهكذا ، فإنه لا يبقي صالحاً كمعيار للكشف عن الحقيقة ، من النبوءات التي يمكن استخلاصها من العهد القديم سوي نوعين ، أولهما هو النبوءة الصريحة التي ترد بمعني الأخبار عن الغيب أو المستقبل ، وهذه بلا جدال أقواها درجة وأجدرها بالاعتبار ، وثانيها تلك الأقوال التي تصف أموراً معينة كأنها تحدث لقائليها أو تقع أمام أبصارهم بينما لم تقع هذه الأمور لقائليها ولم تكن أمام أبصارهم في الواقع ثم تقع بعد ذلك تماماً كما وردت على ألسنتهم ، وهذه يمكن اعتبارها نبوءة بالقياس على النبوءة الصريحة ، مع اعتبارها وتقديرها كتالية في القوة والأهمية للنبوءة الصريحة ويلاحظ أن منها ما قد تكون فيه إشارة إلى المستقبل أيضاً ، ولكن تبدو وكأنها خاصة بنفس المتكلم ، بينما الواقع أنها ليست خاصة به ، ولعل هذه حقيقة بأن تعتبر أعلا درجة من النبوءة بالقياس في التفصيل السابق وأدني درجة من النبوءة الصريحة فيه .
على أنه قد يقال بالنسبة لهذه الآيات التي رأينا اعتبارها نبوءات بالقياس على النبوءات الصريحة ، أنها لا يصح أن تعتبر نبوءات لا صريحة ولا بالقياس ما دامت لا تتضمن ما يفيد كونها نبوءات ، إلا أنه ينبغي ألا يغيب عن اعتبارنا أن هذه الآيات موحي بها من الله ، ولا معني لأن يوحي الله بأمور وحوادث لم تكن في الواقع إلا أن يقصد بذلك أمراً معيناً ، وليس ثمة ما يمنع أن يكون التنبؤ هو هذا القصد وإن لم تشر إليه الآيات صراحة ، ويتأكد هذا القصد بوقوع تلك الحوادث في المستقبل بالفعل ، ولا يكون لذلك ثمة ما يمنع من اعتبارها نبوءة لهذا .
الذي وقع في المستقبل .(1/79)
وفي تطبيقنا لما تقدم ، قد نقول أن آية معينة ترمز إلى واقعة معينة ، وذلك في مجال مطابقتنا سواء لنبوءة صريحة أو لنبوءة بالقياس على نحو ما فصلنا فيما سبق ويجب ، عندئذ أن يكون حاضراً في الذهن ، أن القول بأن آية معينة ترمز إلى واقعة معينة ، لا يعني أخذنا بطريقة الدراسة بطريق الرموز ، وإنما المطابقة بين آيات النبوءات وبين الوقائع التي تحقق هذه النبوءات ، قد تقتضي الربط بين الآية والواقعة بالقول بأن الآية ترمز للواقعة ، وذلك في حدود اعتبار الآية نبوءة صريحة أو نبوءة بالقياس على النبوءة الصريحة وفقاً لما انتهينا إليه فيما سبق .(1/80)
وبذلك ننتهي في هذا الفصل ، إلى أن المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون ، وتخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره بدلاً منه كما يعتقد المسلمون ، يكون بالاحتكام إلى الكتب السماوية السابقة على المسيح عليه السلام ، بالاحتكام إلى ما فيها من نبوءات ، وبصفة خاصة بالاحتكام إلى ما ورد في سفر المزامير من نبوءات وهذه النبوءات أما أن تكون صريحة بحيث تَرِدُ بمعني الأخبار عن الغيب أو المستقبل ، وأما يمكن اعتبارها نبوءات قياساً على النبوءات الصريحة لأنها تصف أموراً معينة كأنها تحدث لقائليها أو تقع أمام أبصارهم ، بينما لا تقع هذه الأمور لقائليها أو أمام أبصارهم ، ثم تقع هذه الأمور بعد ذلك كما وردت على لسان قائليها ، فيعتبر قولهم عنها بمثابة تنبؤ بها ، ولا تفوت الإشارة هنا ، إلى أن هذه الأمور التي تعتبر هنا وقعت بالفعل في العهد الجديد ونبحث عن ذكرها بتفاصيلها كما وقعت في سفر المزامير ، هي الصورة التفصيلية التي استخلصناها من الأناجيل لصلب المسيح عليه السلام كما يعتقد المسيحيون ، ونفس الصورة التي استخلصناها من الأناجيل لتخليص الله للمسيح عليه السلام والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه كما يعتقد المسلمون ، وكما سبق فالصورتان متطابقتان فيما عد الخلاف حول شخص من قبض عليه وحوكم وصلب ، فيعتقد المسلمون أنه يهوذا بعد أن خلص الله المسيح وتوفاه ورفعه إليه عند محاولة القبض عليه ، بينما يؤمن المسيحيون أنه المسيح نفسه عليه السلام .
الفصل الثالث
الاحتكام إلى ما في المزامير من نبوءات للكشف عن الحقيقة بين
صلب المسيح وتخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره(1/81)
ويقتضي البحث في هذا الفصل تقسيمه إلى مبحثين ، الأول ، يكون عن النبوءات في المزامير ، ونتناول فيه المزامير وما فيها من نبوءات ونطابقها على كلا الفرضين موضوع البحث ، ومن جماع ما ننتهي إليه في هذا الشأن ، نقيم المبحث الثاني ونتناول فيه الحقيقة في المزامير.
المبحث الأول
النبوءات في المزامير
في بحثنا عن النبوءات في المزامير ، لاشك أننا سنقصر بحثنا على ما في المزامير من نبوءات عن صلب المسيح عليه السلام ، أو تخليص الله له وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه بعد القبض عليه ومحاكمته ، لأن هذه النبوءات هي التي تتعلق بموضوع البحث في هذا الباب ، أما غير ذلك من النبوءات التي قد تكون في المزامير ، فلا محل للتعرض لها ، وطبيعي أن ذلك سيقتضي منا أن نتناول بعض المزامير دون البعض الآخر ، ولذا يجب أن يكون مفهوماً أن ذلك ليس لشيء ، إلا لأن هذا البعض الآخر ليس فيه من النبوءات ما يتعلق بموضوع البحث ، ولعله يكون من المفيد للقارئ ، زيادة في تأكيد ثقته واطمئنانه ، أن يكون معه وهو يطالع هذا الفصل الكتاب المقدس أو سفر المزامير بالذات ، ليراجع ما نغفله من مزامير .
ولنتناول الآن المزامير التي تحوي نبوءات تتعلق بموضوع البحث ، باحثين في كل مزمور على حدة ، وذلك بحسب ترتيب المزامير في سفرها .
المزمور الثاني :
( لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل ، قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين : لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما ، الساكن في السماوات يضحك ، الرب يستهزئ بهم ، حينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه ) (1 - 5)
ونقرأ عن الآيات الثلاثة الأولي من هذا المزمور في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته ( للدكتور هاني رزق - الطبعة الثانية - ص 46) تحت عنوان ( تنبؤ داود النبي 1056 ق.م. بتآمر رؤساء الشعب على يسوع المسيح ليهلكوه)
وبعد أن أورد نص هذه الآيات قال :(1/82)
( وقد تحققت هذه النبوءة في أحداث العهد الجديد .
أن هذه النبوءة تشير إلى تآمر وقيام ملوك ورؤساء الشعب على يسوع المسيح لقتله وقطعه من الشعب ، وهذا ما تحقق في أحداث العهد الجديد في فترتين من زمان وجود يسوع المسيح له المجد في العالم :
(1) الفترة الأولى تآمر هيرودس لذلك لقتل يسوع المسيح وهو طفل ........
(2) الفترة الثانية تآمر رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب لصلب يسوع المسيح.)
وعن نفس المزمور أيضاً نقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير من سلسلة تأمل معي للسيد فخري عطية في صفحة 61 منه :
( التطبيق النبوي : هذا المزمور من أشهر المزامير الخاصة بالمسيا ، وفيه نجد مشورات الله من نحو مسيحه ، الذي وإن كانت الأرض ترفضه فإن السماء تعترف به وتقبله ، وإن كنا نقرأ في أ.ع 4 : 25 - 28 أن هيرودس وبيلاطس البنطي مع إسرائيل في اتحاد متآمر مؤلف من اليهود والأمم ضد سيدنا ، فسيأتي وقت تتم فيه نبوءة هذا المزمور في نطاق أوسع ، وذلك في آخر الأيام).
ونقرأ في صفحة 66 من نفس الكتاب تعليقاً على الآيات من 4 - 6 :
( زعموا أنهم يستطيعون إتمام مؤامرتهم ، ولكن الرب (الساكن في السماوات) و (سيد الأرض كلها) أعظم بما لا يقاس من جهودهم الباطلة ، فيضحك مستهزئاً من الحلم الباطل الذي يراودهم : حلم الاستقلال والتحدي . وفي الوقت المعين سوف يكلمهم بسخطه ويرجفهم ، يروعهم ويزعجهم بغيظه ، كما أزعج عسكر المصريين قديماً وأبطل تدابيرهم (خر 14 : 24) وهذا القول يشير إلى وقت النهاية .......... )
ونقرأ في ص 18 من كتاب من وحي القيثارة للسيد / حبيب سعيد عن هذا المزمور : ( وقد اعتبر المسيحيون هذا المزمور نبوة عن المسيح ورمزاً إليه ....... )
وفي كتاب مسيا - عمله الفدائي للدكتور ديفل ل. كوبر (ترجمة القس إبراهيم سعيد وصدر من مطبعة النيل المسيحية سنة 1940) نقرأ في ص 33 :(1/83)
( وفي المزمور الثاني بنوع خاص ، نبوة قوية صريحة : - في الثلاثة الأعداد الأولي من هذا المزمور (1 - 3) نري رؤساء الأرض وملوكها متآمرين معاً على الرب وعلى مسيحه ، وفي الثلاثة الأعداد التي تليها (4 - 6) نري الرب في السماء مراقباً حركاتهم ساخراً منهم ومن مؤامرتهم).
وفي كتاب الصليب في جميع الأديان للسيد / يسي منصور - الطبعة الثالثة - نقرأ في ص 13 :
( وإلى جانب هذا نجد مزمور 2 يتنبأ عن اضطهاد هيرودس وبيلاطس له .... " يقصد المسيح") .
هذا المزمور إذن ، وبإجماع المسيحيين ، يشير إلى المؤامرة على المسيح عليه السلام لقتله ، وفي هذا فلا خلاف بين المسلمين والمسيحيين ، ولكن ، ما قوله فيما اختلف فيه ، هل ينجحون في مؤامرتهم ، أم تحبط المؤامرة ، هل يتمكنون منه ويصلبوه ، أم يخلصه الله ويرفعه إليه ، إن ( الساكن في السماوات يضحك ، الرب يستهزئ بهم ، حينئذ يتكلم عليهم بغضب ويرجفهم بغيظه ) . لماذا أيها العلي القدير الساكن في السماوات تضحك ، لماذا جلت قدرتك أنت بهم مستهزئ ، أأنت ممكنهم من مؤامرتهم ، أأنت مسلمهم مسيحك ليصلبوه ، ففيم إذن ضحكك والهزء بهم ، وفيم يقول السيد/ فخري عطية (زعموا أنهم يستطيعون إتمام مؤامرتهم) ، أليس هذا التفسير منه نفياً لزعمهم ذلك ، هل يكون ضحك الساكن في السماوات وهزءه بالمتآمرين إلا أن يكون غير ممكنهم من إتمام مؤامرتهم كما يكاد أن ينطبق السيد / فخري عطية ، أي النتيجتين يمكن أن نستخلصها من الآيات الأخيرة ، أن الله سيمكن أعداء المسيح منه ، أم أنه سيخلصه ، بالقطع لن يمكنهم منه.(1/84)
وبالرغم من ذلك ، وأخذاً بما قيدنا به أنفسنا في الفصل السابق ، فأننا إذا استخلصنا من هذا المزمور نبوءة صريحة عن التآمر على المسيح عليه السلام لقتله ، فإننا لا نستطيع أن نقول أنه يحوي في نفس الوقت نبوءة صريحة عن تخليصه ، وإنما نقول فقط أن هذا هو ما قد يمكن استنتاجه من باقي المزمور ، وفي القليل ، فإن المستحيل القول بأن هذا المزمور ينبئ عن نجاح المتآمرين على المسيح ، فإن العكس وحده هو ما يمكن استخلاصه منه ، أي تخليصه وليس صلبه .
المزمور الثالث : ( مزمور لداود حينما هرب من وجه ابشالوم ابنه )
( يا رب ما أكثر مضايقي ، كثيرون قائمون علي ، كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه ، سلاه ، أما أنت يا رب فترس لي ، مجدي ورافع رأسي ، بصوتي إلى الرب أصرح فيجيبني من جبل قدسه . سلاه .
أنا اضطجعت ونمت ، استيقظ لأن الرب بعضدتي ، لا أخاف من ربوات الشعوب المصطفين على من حولي ، قم يا رب ، خلصني يا إلهي لأنك ضربت كل أعدائي على الفك ، هشمت أسنان الأشرار ، للرب الخلاص ، على شعبك بركتك ، سلاه ) .
وعن هذا المزمور نقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير ص 76 :
( التطبيق النبوي : إن جانباً من اختبارات داود يرمز - بدرجة ما - إلى اختبارات مسيا)(1/85)
وهذا المزمور كما يبين من نصه كاملاً ، يعطينا صورة مماثلة للحظة محاولة القبض على المسيح عليه السلام ، وذلك ما يتضح من عبارات ( كثيرون قائمون علي ..) و ( كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه ..) و ( .... ربوات الشعوب المصطفين على من حولي .) ، والعبارة الأخيرة تعطي صورة لنفس لحظة محاولة القبض على المسيح ، وقبل هذه اللحظة ، رأينا المسيح في الأناجيل يدعو الله أن يعبر عنه كأس الصلب ، أليس إلى هذا يشير المزمور بقوله ( بصوتي إلى الرب أصرخ ) ، فماذا يفعل الرب في صلاته ودعائه ، إن المزمور يستطرد مؤكداً ( فيجيبني من جبل قدسه ) ، ويوضح المزمور بعد ذلك هذا الدعاء الذي دعاه بقوله ( قم يا رب خلصني ) ، أليس هذا هو دعاء المسيح بتخليصه من الصلب ، فماذا الله فاعل بأعدائه ، نقرأ ( لأنك ضربت كل أعدائي على الفك ) ، وهكذا نجد أن المزمور يشير صراحة إلى صلاة المسيح ودعائه إلى الله أن يخلصه من الصلب ، ويؤكد أن الرب مستجيبه ، بل ويضرب أعداءه .
المزمور الرابع : ( لا هام بالمغنين على ذوات الأوتار ، مزمور لداود )
( عند دعائي استجيب لي يا إله بري ، في الضيق رحبت لي ، تراءف على ، واسمع صلاتي ، يا بني البشر حتى متى يكون مجدي عاراً ، حتى متى تحبون الباطل وتبغون الكذب سلاه ، فاعلموا أن الرب قد ميز تقيه ، الرب يسمع عندما أدعوه ) (1 - 3)
وعن هذا المزمور تقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير ص 85 :(1/86)
( وكم تصدق هذه الأقوال على مسيح الله الحقيقي ، ربنا يسوع المسيح ، فإن تصرف الكتبة والفريسيين وعامة الشعب من ورائهم برهن على أنهم أحبوا الباطل وابتغوا الكذب إذ ساروا وراء عناد قلوبهم في مقاومة مسيح الله ، ملكهم الحقيقي المعين من الله ، والأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا يكشف عن هذه الحقيقة ، وهي محاولة الحط من كرامته وإنكار مجده الشخصي كابن الله وملكهم ، وهو نداء أيضاً لجميع الناس أن يعتبروا مجد الابن المبارك ويقبلوه فادياً ومخلصاً لهم .
وكم يلزم أن نشكر الله لأجل النعمة الغنية التي عرفتنا بابن الله وكشفت لنا عن أمجاده ، وبينما الناس يرون في مجده عاراً ، نرى نحن في عاره مجداً لا يفوقه مجد ، حاسبين ( عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر ) (عب 11 : 26) .... )
والآن ، فلنتأمل المزمور ، إنه يبدأ ( عند دعائي استجب لي يا إله برى ) ، فنفهم منه أن داود يطلب من الله أن يستجيب له عندما سيدعوه ، وينصرف هذا القول إلى أن الدعاء سيكون في زمن مستقبل ، إلا أنه رغم ذلك يمضي فيقول ( فاعلموا ..... ) ، وهو هنا إذن يخبر بخبر ، ما هو ، ( أن الرب ميز تقيه ) ، ثم يزيد ما أراد إيضاحه فيستطرد قائلاً ( الرب يسمع عندما أدعوه ) ، وإذ نعلم من أول المزمور أنه إنما يتحدث عن زمن مستقبل ، ولكنه يصل إلى الإعلام بخبر بشأنه ، نفهم من هذا قصد التنبؤ صراحة بما تضمنه المزمور ، فيم تنبأ ، بأن ( الرب قد ميز تقيه ) ، والرب سيسمع عندما يدعوه ، وإذا كانت هذه الأقوال تصدق على المسيح كما يري السيد / فخرى عطية في دراساته في سفر المزامير فكيف هي تصدق ؟(1/87)
( عند دعائي استجب لي يا إله برى ) ، ونعلم بما دعا المسيح قبل محاولة القبض عليه لصلبه ، أن يعبر عنه هذه الكأس ، ( في الضيق ... ) ، أليس هو هذه الكأس ، ( رحبت لي ، تراءف على واسمع صلاتي ) تضرع إلى الله أن يسمع صلاته ، ليستجيب دعاءه بالطبع ، فماذا الرب فاعل في هذه الصلاة وذلك الدعاء ( فاعلموا أن الرب قد ميز تقيه ، الرب يسمع عندما أدعوه ) ، إذ الرب سيميزه بل يجب أن يعلم الجميع ذلك ، والرب يسمع عندما يدعوه ، فكيف ، بصلبه ، أم بتخليصه ، الدعاء ، بتخليصه ، إذن استجابته أيضاً بتخليصه ، وإذا كان الله قد خلصه ورفعه إليه ، فهل بعد هذا يكون مجد ، ومع ذلك يصرون أنه قد صلب ، ويرفضون القبول بتخليص الله له ، أليس تخليصه هو المجد الذي يرفضون له والذي يجعلون منه عاراً بالقول بصلبه أليس الصلب هنا دون تخليص المسيح هو الباطل والكذب الذي يحبونه هل لغير هذا يمكن أن نفهم صيحة داود عليه السلام ( يا بني البشر حتى متى يكون مجدي عاراً . حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب) ، أليس رداً على هذا يصرخ جازماً فيقول ( فاعلموا أن الرب قد ميز تقيه ، الرب يسمع عندما أدعوه ) ، هل يحتمل هذا الكلام إلا معنى واحداً ، أن الباطل والكذب الذي يحبونه ويبتغونه ، والمجد الذي جعلوه عاراً ، ظنهم أن الرب لم يميز تقيه ، وتمسكهم بأنه لم يسمع منه عدما دعاه ، حقاً ما أصدق ما قاله السيد / فخرى عطية ( كم تصدق هذه الأقوال على مسيح الله الحقيقي ) ، ومع أن المزمور يتحدث صراحة عن المجد الذي جعلوه عاراً ، يعكس السيد / فخرى عطية الوضع فيرى في هذا العار مجداً ويرى في هذا الكفاية ليستقيم المزمور ، إنما العار مرفوض أصلاً في المزمور ، والمجد متمثلاً في أن الرب قد ميز تقيه وسمع عندما دعاه هو ما يريد المزمور ، ويرفض عكسه ، أما التمسك رغم ذلك بأن الله لم يستجب للمسيح عندما دعاه ليخلصه من الصلب ، وصلبه رغم ذلك ، واعتبار هذا العار في حد ذاته(1/88)
مجداً فذاك عكس لكل ما يصرخ به داود وينبئ به في مزموره .
المزمور الخامس : ( لامام المغنين على ذوات النفخ . مزمور لداود )
( لكلماتي اصغ يا رب ، تأمل صراخي ، استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي لأني إليك أصلي ، يا رب الغداة تسمع صوتي ، بالغداة أوجه صلاتي نحوك وانتظر ، لأنك أنت لست إلها يسر بالشر ، لا يساكنك الشرير ، لا يقف المفتخرون قدام عينيك ، أبغضت كل فاعلي الإثم ، تهلك المتكلمين بالكذب ، رجل الدماء والغش يكرهه الرب ، أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك ، أسجد في هيكل قدسك بخوفك يا رب اهدني إلى برك بسبب أعدائي ، سهل قدامي طريقك ، لأنه ليس في أفواههم صدق ، جوفهم هوة ، حلقهم قبر مفتوح ، ألسنتهم صقلوها ، أدنهم يا الله ، ليسقطوا من مؤامرتهم بكثرة ذنوبهم ، طوح بهم لأنهم تمردوا عليك .
ويفرح جميع المتكلين عليك ، إلى الأبد يهتفون وتظللهم ، ويبتهج بك محبو اسمك ، لأنك أنت تبار الصديق يا رب ، كأنه بترس تحيطه بالرضا ) .
وعلى أن المزمور يبدأ بالدعاء إلى الله يصغي لكلماته ويتأمل صراخه ويستمع لصوت دعائه لأنه إليه يصلي ، فإنه يستطرد بعد ذلك موضحاً أن هذا سيكون في المستقبل ، حيث يقول بعد ذلك مباشرة أنه بالغداة يسمع الله صوته ويوجه إليه صلاته وينتظر ، فنفهم من ذلك قصد التنبؤ بالمستقبل من المزمور ، ولقد رأينا صلاة المسيح عليه السلام ودعاءه لله أن يخلصه من الصلب قبل أن يأتي يهوذا ومن معه للقبض عليه ، ثم يمضى المزمور بعد ذلك فيشرح كيف أن هذه الصلاة وهذا الدعاء حقيقان بأن يستجيب الله لهما ، مبرراً ذلك بأن الله ليس إلها يسر بالشر ، والشر هنا في القبض على المسيح وصلبه والتآمر عليه ، إذ لا يمكن أن يكون هذا إلا شراً ، ولا يقف المفتخرون أمام عينيه ، فهو قد أبغض كل فاعلي الإثم كما يهلك المتكلمين بالكذب ويكره رجل الدماء والغش ، أما هو ، أي المسيح ، فبكثرة مراحم الله يدخل بيته ، ويسجد في هيكل قدسه بخوفه.(1/89)
ثم يدعو الداعي في المزمور الله أن يهديه إلى بره ، وأن يسهل أمامه طريقه لأن أعداءه ليس في أفواههم صدق ، أليس لأنهم يظلمون المسيح إذ يتآمرون عليه وجوفهم هوة وقلبهم قبر مفتوح ، ألا يعني ذلك أن القصد من التآمر هو قتله ، وهنا يطلب من الله أن يسقطهم من مؤامرتهم ، أي أن يجعلها تبوء بالفشل ، وأن يطوح بهم لذنوبهم ، وفشل المؤامرة هنا لا يكون إلا بتخليص المسيح وليس بصلبه ، ويستطرد المزمور مؤكداً ذلك فيقول ( لأنك أنت تبارك الصديق يا رب ، كأنه بترس تحيطه بالرضا ) فهل الصديق غير المسيح ، وهل تكون مباركة الله له بتخليصه من الصلب أم بصلبه ، من غير شك أنها بتخليصه من الصلب .
المزمور السادس : ( لامام المغنين على ذوات الأوتار على القرار ، مزمور لداود)
( يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بغيظك ، ارحمني يا رب لأني ضعيف ، أشفني يا رب لأن عظامي قد رجفت ، ونفسي قد ارتاعت جداً ، وأنت يا رب فحتى متى ، عد يا رب ، نج نفسي ، خلصني من أجل رحمتك ، لأنه ليس في الموت ذكرك ) ( 1 - 5)
( أبعدوا عنى يا جميع فاعلي الإثم ، لأن الرب قد سمع صوتي بكائي ، سمع الرب تضرعي ، الرب يقبل صلاتي ، جميع أعدائي يخزون ويرتاعون جداً ، يعودون ويخزون بغته) (8 - 10)(1/90)
ومثل المزمور السابق ، إذ يبدأ هذا المزمور بالدعاء إلى الله على لسان الداعي أن يرحمه وينجي نفسه ويخلصه ، فإنه يؤكد أن هذا الدعاء حقيق باستجابته ، وبأن الداعي إنما يدعو بتخليصه من الموت بقوله ( لأنه ليس في الموت ذكرك ) ، وكالمزمور السابق أيضاً ، يستطرد هذا المزمور فيؤكد أن الله قد سمع صوت بكائه ، سمع تضرعه ويقبل صلاته ، فنفهم من ذلك أنه قصد التنبؤ بهذه الاستجابة ، وإذا عرفنا أن المسيح نفسه عليه السلام قد استعار آية من هذا المزمور حين ورد على لسانه في إنجيل متى ( اذهبوا عنى يا فاعلي الإثم ) . (ص 7 : 23) ، فإننا نستطيع إزاء ذلك أن نعتبر هذا المزمور نبوءة عن المسيح عليه السلام ، وعلى هذا نفهم ما بدأ به المزمور من دعاء إلى الله أن ينجيه ، ونفهم أيضاً ما يعنيه قوله لله أنه ليس في الموت ذكره ، فهو يدعو الله أن يخلصه من الصلب ويؤكد دعاءه بأنه ليس في صلبه ذكر الله ، وينتهي المزمور بعد ذلك مؤكداً استجابة الله لدعائه وبالتالي تخليصه من الصلب ، أما أعداءه فيخزون ويرتاعون جداً يعودون ويخزون بغتة ، فلماذا بغتة ، ولماذا يخزون ، إلا أن يخلص الله مسيحه بغتة من بين أيديهم .
المزمور السابع : ( شجوبة لداود غناها الرب بسبب كلام كوش البنياميني )
( يا رب إلهي عليك توكلت ، خلصني من كل الذين يطردونني ونجنى ، لئلا يفترس كاسد نفسي هاشماً إياها ولا منقذ .
يا رب إلهي إن كنت قد فعلت هذا إن وجد ظلم في يدي ، إن كافأت مسالمي شراً وسلبت مضايقي بلا سبب ، فليطارد عدو نفسي وليدركها وليدس إلى الأرض حياتي وليحط إلى التراب مجدي ، سلاه .
قم يا رب بغضبك ارتفع على سخط مضايقي وانتبه لي ، بالحق أوصيت ، ومجمع القبائل يحيط بك فعد قوتها إلى العلي ، الرب يدين الشعوب ، افض لي يا رب كحقي ومثل كمالي الذي في .... لينته شر الأشرار وثبت الصديق ، فإن فاحص القلوب والكلي الله البار ، ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب.(1/91)
الله قاض عادل وإله يسخط في كل يوم ، إن لم يرجع يحدد سيفه ، مد قوسها وهيأها ، وسدد نحوه آلة الموت ، يجعل سهامه ملتهبة .
هوذا يمخض بالإثم ، حمل تعباً وولد كذباً ، كراجيا ، حفره فسقط في الهوة التي صنع ، يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه ، أحمد الرب حسب بره ، وأرنم لاسم الرب العلي ) .
وفي التعليق على هذا المزمور نقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير في صفحة 118 منه :
( التطبيق النبوي واضح أنه من مزامير البقية ، إذ يشير إلى زمن ضد المسيح وفيه نسمع صوت البقية ، ومرة أخرى نجد روح المسيح ينطق على فم داود بالأقوال التي تعبر عن مشاعر تلك البقية المتألمة في أيام الضيقة العظيمة ) .
والمزمور يبدأ بالدعاء على لسان الداعي ، والدعاء لأمر مستقبل وينتهي ، بما يفهم منه استجابة الدعاء فنفهم من ذلك قصد التنبؤ بهذه الاستجابة ، وهذا المزمور حقيق بالكثير من التأمل والاعتبار ، ذلك أن الداعي إذ يتوكل على الرب ويسأله أن يخلصه من كل الذين يطردونه وينجيه ، يماثل دعاء المسيح عليه السلام إلى الله أن يخلصه وينجيه ، ثم هو يؤكد أن هذا الدعاء حقيق بأن يستجاب بسؤاله الله أن يمكن العدو منه فيدس إلى الأرض حياته ويحط إلى التراب مجده إن وجد ظلم في يده وحاشى لله أن يكون في يد المسيح ظلم .(1/92)
ولذا يمضي المزمور فيدعو الله أن يرتفع على سخط مضايقه وينتبه له ، وكأنه هنا في اللحظة التي أحاطوا فيها بالمسيح ليقبضوا عليه ، ولذا يسأل الله أن ينتبه له ، ويؤكد المزمور بعد ذلك أن الله سيخلصه ، بل ويصف كيفية تخليصه له فيقول ( ومجمع القبائل يحيط بك ) مشيراً بذلك إلى من أحاطوا بالمسيح للقبض عليه (وواضح هنا من كلمة " بك " أن المقصود بالمزمور غير المتكلم فيه ) ، ثم يضيف " فعد فوقها إلى العلى " ، تأكيداً وتقريراً بأن تخليصه سيكون برفعه إلى العلى ، والمزمور يستطرد بعد ذلك على لسان الداعي ، وهو هنا يرمز إلى المسيح كما قلنا فيطلب من الله أن يقضي له كحقه ومثل كماله الذي فيه ، وحقاً ، إن تخليص المسيح ورفعه إلى العلى لهو قضاء له كحقه ومثل كماله الذي فيه ، وممن ، من الله ، وهو كما يقول المزمور " الله قاض عادل " ويمضى المزمور طالباً أن ينتهي شر الأشرار وأن يثبت الصديق ، وهل يكون ذلك بصلب المسيح أم بتخليصه ، لاشك بتخليصه وهو ما يؤكده المزمور بقوله عن الله أنه مخلص مستقيمي القلوب ، وهل هناك أكثر استقامة من قلب المسيح عليه السلام .(1/93)
" الله قاض عادل " ، يقول المزمور ، ثم يشير إلى هذا الذي تآمر على المسيح فيقول أنه " مد قوسه وهيأها ، وسدد نحوه آلة الموت ، بجعل سهامه ملتهبة " ، وذاك يرمز إلى تمام الخيانة ووصول يهوذا ومن معه إلى المسيح حتى يهمون بالقبض عليه ، وهنا تلزم من المزمور وقفة ، أمر جلل سيكون ( هوذا يمخض بالإثم ، حمل تعباً وولد كذباً ، كراجيا ، حفرة سقط في الهوة التي صنع ، يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه ) ، ما هذا ، ما الذي تقوله الآيات ، ما تفسيرها ، إلا أن نفس الحفرة التي حفرها يهوذا الخائن للمسيح عليه السلام ، حين أتي إليه بالخدام والجند ليقبضوا عليه ويحاكم بعد ذلك ويصلب ، نفس هذه الحفرة وقع هو فيها ، من قبل عاد المسيح إلى العلى ، أما هو فبقي ليجرع الكأس التي أعدها لسيده فرجع تعبه على رأسه وعلى هامته هبط ظلمه ، أما المسيح الكريم ، وقد خلصه الله ومجمع القبائل يحيط به ، فعاد إلى العلى ، بينما سقط يهوذا في الهوة التي صنع ، المسيح حينئذ يحمد الرب حسب بره ويرنم لاسم الرب العلى ، وهكذا ينتهي المزمور .
نبوءة صريحة واضحة قاطعة ، تلك التي نجدها إذن في المزمور السابع ، أولها عن دعاء المسيح لله أن يخلصه ، ويؤكد أن هذا الدعاء حقيق باستجابته ، ثم هو يؤكد هذه الاستجابة وتخليص الله للمسيح بأنه يعود فوقها إلى العلى ، كما يعرفنا بأن من سيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً من المسيح عليه السلام هو يهوذا الاسخريوطى إذ بهذا يتحقق ما انتهي إليه المزمور من أن من حفر الحفرة للمسيح وقع فيها فرجع تعبه على رأسه وعلى هامته هبط ظلمه .
وهكذا ، فإن هذا المزمور والمزامير السابقة ، تطابق الفرض الذي يؤمن به المسلمون من تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب يهوذا الاسخريوطى بدلاً منه .
المزمور التاسع : ( لإمام المغنين ، على موت الابن ، مزمور لداود)(1/94)
( أحمد الرب بكل قلبي ، أحدث بجميع عجائبك ، أفرح وابتهج بك ، أرنم لاسمك أيها العلى ، عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون ويهلكون من قدام وجهك ، لأنك أقمت حقي ودعواي ، جلست على الكرسى قاضياً عادلاً ، انتهرت الأمم ، أهلكت الشرير ، محوت اسمهم إلى الدهر والأبد ، العدو تم خرابه إلى الأبد ، وهدمت مدناً ، باد ذكره نفسه ، أما الرب فإلي الدهر يجلس ، ثبت للقضاء كرسيه ، وهو يقضي للمسكونة بالعدل ، يدين الشعوب بالاستقامة ، ويكون الرب ملجأ للمنسحق ، ملجأ في أزمنة الضيق ، ويتكل عليك العارفون اسمك ، لأنك لم تترك طالبيك يا رب ) . (1 - 10)
والمزمور يبدأ بحمد الله وبالحديث بجميع عجائبه ، وإنها حقاً لتكون من عجائب الله أن يرفع المسيح إليه ، وبمضي المزمور فيبين الفرح بالله والترنم لاسمه وكأنما يريد أن يوضح السبب في هذا فيقول بعد ذلك أنه عند رجوع أعدائه إلى خلف يسقطون ، وقد قرأنا في إنجيل يوحنا أن من أتوا للقبض على المسيح رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض ، ويستطرد المزمور فيوضح ما كان بعد ذلك بقوله أن الله أهلك الشرير ، فمن هو الشرير الذي أهلكه ، هل يمكن أن يكون هو المسيح ، بالطبع مستحيل ، فهو ليس المسيح إذن ، ويكون المسيح لذلك قد خلص ، وهذا ما يؤكده المزمور بعد ذلك بقوله عن الله أن يقضى للمسكونة بالعدل والعدل حقاً في تخليص الله للمسيح وليس في صلبه ، ويؤكد المزمور هذا المعني بعد ذلك بقوله أن الرب يكون ملجأ للمنسحق في يوم الضيق ، وتكشف لنا صلاة المسيح ودعائه لله في الأناجيل أن يخلصه من الصلب كم هو منسحق عندئذ ، وهل زمن الضيق عنده إلا هذا الزمن .
ثم يمضي ليؤكد ثانية كل ذلك بقوله :
( ارحمني يا رب ، أنظر مذلنى من مبغضي يا رافعي من أبواب الموت ، لكي أحدث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون مبتهجاً بخلاصك .(1/95)
تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها ، في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم ، معروف هو الرب ، قضاء أمضى ، الشرير يعلق بعمل يديه ، ضرب الأوتار ، سلاه الأشرار يرجعون إلى الهاوية ، كل الأمم الناسين الله ، لأنه لا ينسي المسكين إلى الأبد ، رجاء البائسين لا يخيب إلى الدهر ، قم يا رب ، لا يعتز الإنسان ، لتحاكم الأمم قدامك ، يا رب اجعل عليهم رهباً ، ليعلم الأمم أنهم بشر ، سلاه . ) (13 - 20).
والمزمور في هذا الجزء منه يكاد أن يكون نبوءة صريحة كاملة عن تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب يهوذا الاسخريوطى بدلاً منه ، ذلك أن الدعاء لا يستقيم مع التقرير في نفس الوقت باستجابته ، إلا أن يكون قد قصد به التنبؤ ، وهذا الجزء من المزمور يبدأ بالدعاء إلى الله ، رمزاً إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه ، ثم يمضى وكأنه يرى كيفية استجابة الله لدعاء مسيحه فيصف ذلك بقوله ( يا رافعي من أبواب الموت ) ، وفي ذلك أكبر تصريح عن كيفية تخليص رفع المسيح من بين من جاءوا للقبض عليه ، بأنه رفع له من أبواب الموت ، ذلك أن الموت هو ما كان سينتهي إليه لو قبض عليه بالفعل ، ويستطرد المزمور بعد ذلك بما يفهم منه أن الوصف السابق وإن ورد في صورة يبدو عليها أنه يتحدث عن أمر قد حدث إلا أن الواقع أنه يتحدث عما يأمل أن يحدث ، فذلك مفهوم قوله ( لكي أحدث بكل تسابيحك ... ) .(1/96)
والمزمور بعد أن يرمز لدعاء المسيح ورفعه ، يمضى فيتنبأ عما سيحدث بعد ذلك فيقول أن الأمم تورطت في الحفرة التي عملوها ، وفي الشبكة التي أخفوها انتشب الرب أرجلهم ، ويطابق هذا ما سبق أن قرأناه في المزمور السابع من قوله ( كرا جبا ، حفره فسقط في الهوة التي صنع ) ، ومن ثم ، فمثل الآية الأخيرة ، نفهم منها أن يهذوا الاسخريوطى هو الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً من المسيح ، ثم يستطرد المزمور ليقطع بصحة هذا المعني فيقول ( معروف هو الرب ، قضاء أمضى ، الشرير يعلق بعمل يديه ) ولأي امرئ أن يرسم صليباً وقد علق عليه المصلوب ، ويكتب تحته هذه الآية ، فيتبين من فوره ، أن هذا المصلوب هو يهوذا الاسخريوطى وليس المسيح عليه السلام ، فالمسيح لم يكن في يوم من الأيام شريراً ، وإنما يهوذا هو الذى خان المسيح فأصبح لذلك شريراً ، ثم إنه هو وحده دون كل الأشرار الذي يمكن أن تنطبق عليه هذه الآية ، فهو الذي سعي ليرشد عن المسيح فيقبض عليه ويحاكم ويصلب ، فإذا خلص الله المسيح عند محاولة القبض عليه ورفعه إليه وقبض على يهوذا وحوكم وصلب بدلاً منه ، فإنه يكون بذلك قد علق بعمل يديه ، وتعليق الشرير على هذا النحو وكما جاء في المزمور هو قضاء من الرب ، وهو لذلك لا يمكن إلا أن يكون القضاء العادل الحق ، وما أحق وأعدل أن يصلب يهوذا الاسخريوطى بعمل يديه ، فيشرب بذلك نفس الكأس التي كان سيذيقها لسيده.
وهكذا نجد أن المزمور التاسع بدوره ، يكرر ما جاء في المزامير السابقة عن دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، وتخليصه له برفعه إياه من أبواب الموت ، ووقوع الشرير الذي هو يهوذا الاسخريوطى في الحفرة التي عملها ، ويصلب بعد ذلك فيكون قد علق بعمل يديه قضاء عادلاً من الله ، وفي هذا يتطابق هذا المزمور تمام التطابق مع الفرض الذي يعتقد به المسلمون .(1)
المزمور العاشر :
( يؤخذون بالمؤامرة التي فكروا بها . )(1/97)
وهذه الآية تؤدي في معناها وفي رمزها ما تؤديه الآيات ( كراجياً ، حفرة فسقط في الهوة التي صنع ) و ( في الشبكة التي اخفوها انتشبت أرجلهم ) وذلك على التفصيل السالف بيانه ، لأن أخذ شخص بالمؤامرة التي فكر بها هو تماماً كمن يسقط في حفرة حفرها لغيره ، أو يقع في شبكة أخفاها لهذا الغير .
المزمور السادس عشر : ( مذهبة لداود)
( احفظنى يا الله لأني عليك توكلت ، قلت للرب أنت سيدي ، خيري لا شيء غيرك ، القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم ، تكثر أوجاعهم للذين أسرعوا وراء الآخر ، لا أسكب سكائبهم من دم ، ولا أذكر أسماءهم بشفتي ، الرب نصيب قسمتي وكأسي ، أنت قابض قرعتي ، حبال وقعت لي في النعماء ، فالميراث حسن عندي .
أبارك الرب الذي نصحني ، وأيضاً بالليل تنذرني كليتاي ، جعلت الرب أمامي في كل حين ، لأنه عن يميني فلا أتزعزع ، لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي ، جسدي أيضاً يسكن مطمئناً ، لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ، لن تدع نقيك يري فساداً تعرفني سبيل الحياة ، أمامك شبع سرور ، في يمينك نعم إلى الأبد )
ونقرأ تعليقات على هذا المزمور في كتابي لكي لا ننكر المسيح (ص 7) والصليب في جميع الأديان (الطبقة الثالثة ص 13) وهما للسيد / يسي منصور ، كما نقرأ عنه في كتاب دراسات في سفر المزامير من صفة 204 ، وكذلك في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته ، وهي كلها متفقة على أن المزمور المذكور يتنبأ عن المسيح عليه السلام ، ونكتفي ببيان ما ورد في الكتاب الأخير في هذا الخصوص إذ تتفق التعليقات الأخرى معه وهو أكثرها تفصيلاً ، ونقرأ من صفحة 6 من ذلك الكتاب ما نصه :
( تنبؤ داود النبي 1051 ق.م بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات : مز 16 : 10 (لأنك لن تترك نفسي في الجحيم لا تدع قدوسك يرى فساداً ) .
وهذا النص يختلف عن النص الذي ذكرته ويبدو أنه من ترجمة أخرى - تحقق التنبؤ في أحداث العهد الجديد .(1/98)
يشير هذا القول إلى قيامه يسوع المسيح من بين الأموات (1) إذ القول القائل لا تدع قدوسك يرى فساداً يعني لا تدع قدوسك أنت يا الله ، وقدوس الله هو يسوع المسيح كما يشهد الكتاب بذلك .....
والقول - يرى فساداً - يعني يرى موتاً فالفساد هو فساد الموت كما يوضح ذلك بولس الرسول.
1 كو 15 : 42و 44 ( هكذا قيامة الأموات يزرع في فساد ويقام في عدم فساد ، يزرع جسماً حيوانياً ، ويقام جسماً روحانياً ) .
1 كو 15 : 52 - 53 ( في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير ، فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت .)
وبذلك يكون الموت هو الفساد ، الجسم الحيواني للإنسان بموته وفنائه ولكن متى لبس الإنسان عدم فساد أي عدم موت (جسماً روحانياً) ينتقل بذلك من الموت (الفساد) إلى قيامة الأموات - عدم فساد - (الحياة الأبدية).
بذلك يشير تنبؤ داود القائل - لا تدع قدوسك يرى فساداً - إلى قيامة يسوع المسيح قدوس الله من الأموات كاسراً شوكة الموت وفساده ليكون هو باكورة القائمين من بين الأموات ولتكون به قيامة الأموات إلى الحياة الأبدية لكل من آمن به (يو 5 : 25 - 29) ويشهد سفر أعمال الرسل بإشارة تنبؤ داود إلى قيامة المسيح .
أ ع 2 : 30 - 31 ( فإذا كان نبياً (داود) وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه سبق فرأي وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأي جسده فساداً).(1/99)
من 16 : 9 ( لذلك فرح قلبي وابتهجت روحى جسدى أيضاً يسكن مطمئناً ( ويقول داود النبي جسدى يسكن مطمئناً أي يرقد جسده على رجاء الخلاص والقيامة من بين الأموات إلى الحياة الأبدية بيسوع المسيح بكر القيامة من بين الأموات إذ هو القيامة والحياة الأبدية وهذا سيتم في اليوم الآخر يوم الدينونة عندما تتم الكلمة المكتوبة كما يقول بولس الرسول ( ابتلع الموت إلى غلبة أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية ( (1كو 15 : 51 - 55) .
المزمور إذن ، وبدليل من الكتاب المقدس نفسه ، يشير إلى المسيح ، وهذا ما يتفق عليه إجماع المسيحيين ، فماذا يقول المزمور .
إنه يبدأ بالدعاء إلى الرب أن يحفظه ، تماماً كما دعا المسيح الله أن يخلصه من الصلب ، أن يعبر عنه كأس الصلب ، ثم يقول المزمور أن القديسين الذين في الأرض والأفاضل كل مسرته - وهو المتحدث في المزمور - بهم ، نعم ، بهم ولا شك مسرة المسيح ، ثم يقول المزمور ( تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر ( ، فإذا كان المسيح هو القائل لهذا الكلام كما يتنبأ المزمور وكما يعتقد المسيحيون ، فمن هو هذا الآخر ، ومن هم هؤلاء الذين تكثر أوجاعهم إذا أسرعوا خلفه ، ألا تكثر أوجاع المسيحيين وقد جروا وراء من ظنوه المسيح مصلوباً ، أليس هو هنا وكما يقول المزمور آخر ، آخر غير المسيح عليه السلام ، هل يحتمل قول المزمور غير هذا المعنى ، وألا يؤكد ما يستطرد إليه المزمور بعد ذلك من قوله ( لا أسكب سكائبهم من دم ، ولا أذكر أسماءهم بشفتي ( ، ألا يعني هذا أن المسيح لن يسكب دمه ، ثم ما معني أن يقول المزمور بعد ذلك ( الرب نصيب قسمتي وكأسي ، أنت قابض قرعتي ، حبال وقعت لي في النعماء ، فالميراث حسن عندي ( هل يقول المتحدث ذلك في المزمور إن كان سيصلب ، أي ميراث حسن هو الصلب ، وكيف يكون الرب نصيبه وقسمته ورغم ذلك يصلب .(1/100)
ثم نأتي للآية ( لن تدع تقيك يرى فسداً ) أو ( لا تدع قدوسك يرى فساداً ) كما أوردها السيد / فخرى عطية في كتابه ، فما هو الفساد في رأيه ، أليس هو الموت كما يقول صراحة ، ألم يقل أن القول - يرى فساداً - يعني يرى موتاً فالفساد هو فساد الموت كما يوضح ذلك بولس الرسول ، ففيم إذن القول بموته على الصليب رغم ذلك ثم دفنه فقيامته من بين الأموات كما يقولون ، إن الموت موت ، وأن الصلب قتل وموت ، ولا يقال أبداً مات على الصليب ودفن ، ثم يقال أن ذلك يطابق ما يقوله المزمور من أنه لن يرى فساداً أي لن يرى موتاً ، أنه تحايل على النصوص لا تسعف به النصوص نفسها ، وهو في نفس الوقت يناقض ما يقوله المزمور قبله من دعاء للرب أن يحفظه ، ومن أنه تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر ، وأنه لا يسكب سكائبهم من دم ، وأيضاً مما يقوله المزمور ( جعلت الرب أمامى في كل حين ، لأنه عن يمينى فلا أتزعزع ) ، أليس في هذا يقين بتخليص الله له ، وألا يقطع بذلك ما يقوله المزمور ( جسدي أيضاً يسكن مطمئناً ، لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ) أليس تشبيهاً دقيقاً لرفع الله للمسيح وتخليصه ممن أتوا للقبض عليه أن يقول أنه لن يترك نفسه في الهاوية ، أليست الهاوية ، القتل ، هي ما كان سيحيق به لو تركه عندئذ ، فإذا قال المزمور بعد كل ذلك ( لن تدع تقيك يرى فساداً ) ، أي لن يرى موتاً كما يقول السيد / فخرى عطية ، فهل أقطع من ذلك دليل على أن المسيح لن يصلب وإنما سيخلصه الله ويرفعه إليه ويصلب بدلاً من آخر ، وهذا الآخر تكثر أوجاعهم وقد أسرعوا خلفه إذ ظنوه المسيح قد صلب .
المزمور الثامن عشر : ( لا هام المغنين ، لعبد الرب داود الذي كلم الرب بكلام هذا النشيد في اليوم الذي انقذه فيا الرب من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول . فقال )(1/101)
( أحبك يا رب يا قوتي ، الرب صخرتي وحصني ومنقذي ، إلهي صخرتي ، به أحتمي ، ترسي وقرني خلاصي وملجأي ، أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي ، اكتنفتني حبال الموت ، وسيول الهلاك أفزعتني ، حبال الهاوية حاقت بي ، أشراك الموت انتشبت بي ، في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت ، فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدامه داخل أذنيه ) (1 - 6) .
(أرسل من العلى فأخذني ، نشلني من مياه كثيرة ، أنقذني من عدوي القوى ومن مبغضي لأنهم أقوى مني ، أصابوني في يوم بليتي وكان الرب سندي ، أخرجني إلى الرحب ، خلصني لأنه سر بي ، يكافئني الرب حسب بري ، حسب طهارة يدي يرد لي ، لأني حفظت طرق الرب ولم أعص الهي ، لأن جميع أحكامه أمامى وفرائضه لم أبعدها عن نفسي ، وأكون كاملاً معه وأتحفظ من أثمى ، فيرد الرب لي كبري وكطهارة يدي أمام عينيه .
مع الرحيم تكون رحيماً ، مع الرجل الكامل تكون كاملاً ، مع الطاهر تكون طاهراً ومع الأعوج تكون ملتوياً ، لأنك أنت تخلص الشعب البائس والأعين المرتفعة تضعها ، لأنك أنت تضئ سراجي ، الرب إلهي ينير ظلمتي ، لأني بك أقتحمت جيشاً وبإلهي تسورت أسواراً : الله طريقة كامل ، قول الرب نقي ، ترس هو لجميع المحتمين به ، لأنه من هو إله غير الرب ، من هو صخرة سوى الهنا ، الإله الذي ينطقني بالقوة ويصير طريقي كاملاً ، الذي يجعل رجلي كالأيل وعلى مرتفعاتي يقيمني ، الذي يعلم يدي القتال فتحني بذراعي قوس من نحاس ، وتجعل لي ترس خلاصك ويمينك تعضدني ولطفك يعظمني ، توسع خطواتي تحتى فلم تتقلقل عقباي ، اتبع أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم ، أسحقهم فلا يستطيعون القيام ، يسقطون تحت رجلي .(1/102)
تمنطقني بقوة للقتال ، تصرع تحتى القائمين على ، وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم ، يصرخون ولا مخلص ، إلى الرب فلا يستجيب لهم ، فاسحقهم كالغبار قدام الريح ، مثل طين الأسواق أطرحهم ، تنقذني من مخاصمات الشعب تجعلني رأساً للأمم ، شعب لم أعرفه يتعبد لي ، من سماع الأذن يسمعون لي ، بنو الغرباء يتذللون لي ، بنو الغرباء يبلون ويزحفون من حصونهم ، حي هو الرب ومبارك صخرتي ومرتفع إله خلاصي ، الإله المنتقم لي والذي يخضع الشعوب تحتى ، منجي من أعدائي ، رافعي أيضاً فوق القائمين على ... من الرجل الظالم تنقذني ، لذلك أحمدك يا رب في الأمم وأرنم لاسمك ، برج خلاص لمسكه والصانع رحمة لمسيحه لداود ونسله إلى الأبد ) (16 - 50)
وعن هذا المزمور نقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير في صفحة 245 منه :
( التطبيق النبوي : هنا نري الله يعلن قوته لحساب مسيحه ، إذ يخلصه من الموت ويرفعه على جميع أعدائه ، و " ميسا " باعتباره ممثلا لشعبه ، يربطهم ويوحدهم بنفسه ، والمزمور مرتبط بوجه خاص بالآمال والمواعيد المستقبلة للبقية . والمسيح . كان الإنسان المرتفع ، لا يزال يحتفظ بمكان الاعتماد على الله وخدمة المحبة في إتمام كل مشيئته).
ولعله قبل التعليق على المزمور يحسن أن نعرف أمراً ما عن داود عليه السلام ، وفي كتابه بعنوان حياة داود (للدكتور ف.ب ملير ترجمة القس مرقس داود ونشر مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية بالقاهرة) نقرأ في الصفحات (25 و 254 وتحت عنوان (خطبة حياته ):(1/103)
(يخبرنا الكتاب المقدس صراحة أن داود بعد أن استقر كرسيه في أورشليم اتخذ لنفسه نساء وسرارى كثيرات متعدياً بذلك شريعة موسى الصريحة التي كانت تحذر ملوك العبرانيين من تعدد الزوجات لئلا (يحولن قلوبهم) . وبذلك حصد داود ما لابد أن يحصده من مرارة الغيرة والحسد والمنازعات والجرائم التي لابد أن يسببها النساء ، وفضلا عن ذلك فقد أدت كثرة النساء إلى أن تغرس فيه عادة الانغماس في الشهوات الجسدية التي هيأته لسقطته الشنيعة في مساء ذلك اليوم الأسود .... وفي مساء يوم مشئوم استيقظ الملك من قيلولته ، وكان مستلقياً على سطح قصره في تلك الساعة ، ساعة الراحة والكسل والخمول ، جاءه ضيف ، على حد تعبير ناثان ، جاءته فكرة عاطلة ، ولإشباع جوع ذلك الضيف نزل إلى بيت رجل مسكين وأخذ نعجته الوحيدة بينما كانت حظائره مكتظة بالغنم ، إنا لن نحاول التخفيف من خطية داود بالتأمل في اشتراك بتشبع في الجريمة بمطلق حريتها ، أو في حرصها على عدم الإضجاع معه إلا بعد أن تتطهر من طمثها ، أو في استهانتها بعهد الزوجية مع زوجها المتغيب ، ومما هو جدير بالملاحظة أن رواية الكتاب المقدس تلقي كل مسئولية هذه الخطية على الملك وحده ، لأن يتشبع ربما تكون قد اضطرت للخضوع أمام سلطانه المطلق .....
وفي أحد الأيام أتت إلى داود رسالة من شريكته في الخطية بأن النتائج لا يمكن اخفاؤها . وعندئذ سرت فيه رعشة كالمحموم ، كان ناموس موسى يقضي بموت الطرفين في خطية الزني ، إذا فكان لابد من اتخاذ إجراءات سريعة لإخفاء الجريمة يجب أن يعود أوربا إلى بيته ، وعاد فعلاً ، ولكن عودته لم يكن فيها علاج .
فإنه رفض دخول بيته .........
لم يكن هناك بديل من موته (موت أوريا) ، لأن الموتى لا يقصون الأخبار فإذا ولد طفل لا يبقي هنالك مجال بعد لأوربا ليتبرأ منه .(1/104)
حمل أوريا رسالة إلى يوآب تقضي بإعدامه وهو لا يدري ، ولابد أن يكون يوآب قد ضحك في داخل قلبه عندما فض هذه الرسالة وقرأها ، ولعله ناجي نفسه بهذه العبارة : ( أن سيدي إذا ما أراد أن ينشد مزاميره أطرب بها غيري أما إذا أراد أن يأتي عملاً قذراً لجأ إلى ، لست أدري لماذا يريد أن يتخلص من أوربا وعلى أي حال فإنني سأعينه على قضاء بنيته ، وبعد ذلك لن يستطيع أن يحدثني مرة أخرى عن أبنير ، ثم ستكون لي حرية التصرف كما أشاء ، لأنه سوف يكون في قبضة يدي من الآن فصاعداً ) .
وضع أوريا في مقدمة المعركة الحامية ليلقي حتفه ، ومن ساحة القتال أرسلت رسالة إلى الملك تحمل إليه البشرى بموت أوريا ........) .
بالطبع ليس هذا هو داود ، وإنما فحسب خطيئته ، وفيما عداها ، فهو باتفاق المسيحيين والمسلمين على السواء ، نبي عظيم كريم ، وإنما أشير فقط هنا إلى خطيئته لأن المزمور يتحدث عن شخص لم يعص إلهه وحفظ جميع أحكامه وفرائضه ، وكان كاملاً معه إذ يقول ( لأني حفظت طرق الرب ولم أعص إلهي ، لأن جميع أحكامه أمامي وفرائضه لم أبعدها عن نفسي ، فأكون كاملا معه ) ، وليس هذا أبداً بحال من أتى كل هذه المعصية التي أتاها داود عليه السلام ، وفوق هذا فإننا نقرأ في إنجيل متى (ص 17 : 5) أن صوتا انطلق من سحابة يقول عن المسيح عليه السلام ( هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت .) ، كما تقرأ في المزمور (خلصنى لأنه سر بي ) ، والربط بين آية المزمور هذه وآية إنجيل متى تلك لا يحتاج إلى إيضاح ، ونعلم من ذلك أن المسيح عليه السلام وليس داود ، هو الذي يتحدث داود في المزمور على لسانه ، متنبثاً بذلك عنه ، كما أنه من الواضح من تعليق السيد / فخرى عطيه في كتابه دراسات في سفر المزامير أنه يعتبر ذلك المزمور أيضاً نبوءة عن المسيح ، والآن ، إلى المزمور نفسه ، فنرى ماذا يقول.(1/105)
(اكتنفتني حبال الموت ، وسيول الهلاك أفزعتني ، حبال الهاوية حاقت بي ، أشراك الموت انتبشت بي ، في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت .) ، أليس هذا كله يرمز إلى المؤامرة على المسيح ودعائه إلى الله أن يخلصه ، أن يرفع عنه هذه الكأس ، فما الله فاعل بهذا الدعاء ، (أرسل من العلى فأخذني) ، أرسل من أين ، من العلي ، إذن فإلي العلى أيضاً أخذه ، أليس هذا هو رفعه إلى الله ، أيضاً يقول ( أخرجني إلى الرحب ) ، فمن أين أخرجه ، أليس من الأرض (الكرة الأرضية) ، وإلى أين أخرجه ، إلى الرحب ، أليس الرحب هو السماء بالنسبة للأرض ، نشله ، أليس رفعه من بين من أتوا للقبض عليه قريب جداً في معناه مما تعنيه كلمة نشلني ، أنقذه ، خلصه لأنه سر به ، يكافئه حسب بره وحسب طهارة يده يرد له ، فكيف كل ذلك ، هل يمكن أن يكون بصلبه ، أم كما يقول المزمور برفعه ، لا جدال برفعه .
( ..... مع الأعوج تكون ملتويا ) ، فمن هو الأعرج غير يهوذا ، أليس في القبض عليه بدلاً من المسيح ما يتحقق به هذا الالتواء ، أعداءه - أعداء المسيح - ( يسقطون تحت رجلي .) ، أليس هذا هو حال يهوذا عند رفع المسيح ، ( يصرخون ولا مخلص ، إلى الرب فلا يستجيب لهم.) ، هل يفسر لنا هذا صيحة يهوذا على الصليب - كما يعتقد المسلمون بالنسبة لشخص من صلب - ( إلهي إلهي لماذا تركتني) .
ولا ينتهي المزمور قبل أن يقطع لنا بأن من قصد به هو المسيح عليه السلام وليس داود ، إذ نراه يقول (شعب لم أعرفه يتعبد لي.) ، ونعرف جميعاً أن المسيح وليس داود هو من تعبد الناس له ، إذ يعتقد المسيحيون اليوم أن المسيح عليه السلام هو الله نفسه وعلى هذا الأساس يتعبدون له .(1/106)
وهكذا ننتهي من هذا المزمور إلى أن ينطوي - بحق - على نبوءة صريحة بتخليص الله للمسيح عليه السلام ، وأن هذا التخليص سيكون برفعه إلى العلى ، بنشله من بين أعدائه ورفعه ، كما أنه وإن وردت فيه إشارات يمكن أن تنطبق على المصلوب ، إلا أننا لا نستطيع اعتبارها نبوءة صريحة بصلب يهوذا .
المزمور العشرون : ( لإمام المغنين : مزمور لداود)
( ليستجب لك الرب في يوم الضيق . ليرفعك اسم إله يعقوب ، ليرسل لك عوناً من قدسه ومن صهيون ليعضدك ، ليذكر كل تقدماتك ويستسمن محرقاتك . سلاه . ليعطك حسب قلبك ويتمم كل رأيك ، نترنم بخلاصك وباسم إلهنا نرفع رايتنا ، ليكمل الرب كل سؤلك .
الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه ، هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر ، هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وانتصبنا ، يا رب خلص ، ليستجب لنا الملك في يوم دعائنا ).
وفي التعليق على هذا المزمور نقرأ في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته ص 89 ، 90 :
( 2- تنبؤ داود النبي 1056 وحبقوق النبي 726 ق.م بأن الرب هو المسيح المخلص .
نبوءة داود النبي : مز 20 : 6) الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه .
والقول بأن الرب مخلص مسيحه ، يعني بأن خلاص المسيح يكون بالرب .)
كما نقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير ص 302 :
( والمزموران 20 أو 21 يرتبطان ببعضهما من جهة التركيب والمحتويات ، فالأول توسل إلى الله لأجل النصرة ، والثاني شكر لاستجابة الله ، والملك ، ممثل الشعب أمام الله ، وممثل الله أمام الشعب ، هو موضوع المزمورين ، والفكرة العامة فيهما هي خلاص الملك ونصرته .(1/107)
التطبيق النبوي : أن الروح القدس يستخدم أقوال المزمورين 20 ، 21 لغرض نبوي ، ومن هنا فالتكميل والإتمام لا يوجدان إلا في المسيح ، ونرى البقية الأمينة توحد نفسها بمسيحها ، ولاحظ كيف أن طلبة مز 20 : 4 ( ليعطك حسب قلبك ويتمم كل رأيك ) تجد استجابتها في مز 21 : 2 ( شهوة قلبه أعطيته وملتمس شفتيه لم تمنعه (إشارة إلى القيامة) حياة سألك فأعطيته ، طول الأيام إلى الدهر والأبد) (مز 21 : 4) . إن يوم (ضيق) مسيا هو اليوم الذي فيه قدم نفسه . والآن هو (مرتفع) . ويشمل خلاصة خلاص شعبه ، ولو أن مز 20 : 2 (ليرسل لك عوناً من قدسه ومن صهيون ليعضدك) يمتد إلى الأيام الألفية يوم يكون المسيح كاهناً على كرسيه - على كرسى السلطة الملكية كما سنرى.)
ويستطرد الكاتب في تعليقه على نفس المزمور في ص 304 فيقول :
( إن الله كان في جانب مسيحه في يوم ضيقه يوم قدم نفسه ذبيحة على الصليب ومع التسليم أن بعض هذا المزمور قد تم تاريخياً ، ولكن لا يجب أن ننسى أن المسيح هو غرضه النهائي ، فلو أن داود قدم هذه الذبائح في يوم ضيقه فما أقل قيمتها إزاء تلك الذبيحة الواحدة التي قدمها الملك المجيد الذي هو على الدوام موضوع شهادة الروح القدس .)
وفي التعليق على الآية التي تبدأ بـ (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ......)
يقول الكاتب في ص 308 :
( في هذا العدد تعبير يشير في الكتب النبوية إلى ربنا يسوع المسيح نفسه ، تعبير يستخدمه الشعب الأرضى عن المخلص العتيد (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه). والمسيح (الممسوح) هو مسيا . ومسيا هو الذى كان ذلك الشعب ينتظرونه طوال القرون ، ولكن هذه النبوات سبقت وأوضحت أن مسيح الله لابد أن يتألم ويرفض ويموت ، ثم يقوم من الأموات في نصرة مجيدة ، وهكذا يتشوق المرنم إلى يوم النصرة ويقول : (يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه) .
ونفس القوة ، التي أقامت ربنا يسوع المسيح من الأموات ، هي المتكلفة بنا.)(1/108)
والآن لنر ، ماذا يقول هذا المزمور ، الذي يرى فيه الكاتبان نبوءة عن المسيح عليه السلام .
أن المزمور يبدأ بقوله " ليستجب لك الرب .... ) ، ففهم أن المتحدث في المزمور يخاطب آخر ، وهو يدعو الله هنا أن يستجيب له في يوم الضيق ، ويوم الضيق بحق في حياة المسيح عليه السلام هو ذلك اليوم الذي كان عالماً فيه أنه سيسلم ليصلب ، وقد رأينا كم كانت عميقة هي صلاته في هذا اليوم ، ويتفق معنا السيد / فخرى عطية ، أو بمعني أصح ، نتفق معه ، في أن المزمور قد قصد هذا اليوم بقوله (يوم الضيق) ، فما الذى طلبه المسيح في صلاته ودعا الله ليستجيبه له في هذا اليوم ، نعرف أنه طلب أن يعبر عنه كأس الصلب ، أن يخلصه من ذلك ، وها هو داود النبي يدعو الله أن يستجيب دعاء المسيح هذا ، فكيف يتصور داود أن تكون هذه الاستجابة ، أنه يقول (ليرفعك) ، أنه يطلب من الله أن يستجيب دعاء المسيح بأن يرفعه ، ( ليرفعك اسم إله يعقوب ، ليرسل لك عوناً من قدسه ومن صهيون ليعضدك ، ليذكر كل تقدماتك ويستسمن محرقاتك ، سلاه ليعطك حسب قلبك ويتمم كل رأيك ، نترنم بخلاصك وباسم إلهنا نرفع رايتنا ليكمل الرب كل سؤالك ) ، آيات كلها تحمل مضموناً واحداً ، أن تكون استجابة الله للمسيح برفعه فيكون بذلك قد وفاه ما هو مستحق له ، وأبداً لا تكون استجابة الدعاء بصلبه ودفنه ثم قيامته من الأموات كما يذهب السيد / فخرى عطية ، فإن ما طلبه المسيح في صلاته في ذلك اليوم هو ألا يصلب وليس أن يصلب ثم يدفن ويقوم ، والأناجيل كلها تشهد بذلك .(1/109)
أنهى داود عليه السلام دعاءه ، ووقف لحظة ، ليبدأ فقرة جديدة ، يعرفنا فيها أنه إنما ينبثنا عن المستقبل ، بكل صراحة هو يتنبأ فيقول بعد هذا الدعاء ( الآن عرفت ..... ) ، أنه الوحى ما يريد أن يحدثنا به ، أنه بعد أن دعا ، يتنبأ ، ( الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ......) ، بأصرح ما تكون العبارة ، وبأوضح ما تكون النبوءة ، وبأقطع ما يكون قصد الأنباء عن المستقبل ، إنه الآن ، والآن فقط عرف إذن أنه الوحى الذي هبط عليه للحظة نفسها ، إنه الآن ، والآن فقط قد عرف أن الرب مخلص مسيحه ، إذن فهو للمسيح كان يدعو ، وعن المسيح الآن يتنبأ ، أن الرب مخلص مسيحه ، فكيف أيها النبي الكريم أنبثنا ، أبصلبه ودفنه وقيامته من الأموات ، أم بتخليصه من الصلب ورفعه إليه ، إنه يستطرد فيقول ( يستجيبه ) ، أنه ها يربط بين هذا التخليص وبين دعاء المسيح في يوم الضيق والذي دعا داود الله في أول المزمور أن يستجيبه ، وهو هنا يتنبأ ، بأن الله سوف ( يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه .) ، وأن يدعو المسيح الله أن يرفع عنه كأس الصلب ، ويستجيبه الله ، إذن فهو عنه رافعها ، وأبدا ليس بصلبه يكون قد استجابة ويمضي داود النبي في نبوءته ، فيصف لنا كيفية هذه الاستجابة وصورتها فيقول ( هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل .) فإلي أي لحظة ترمز هذه الآية ، إلى لحظة هي في قبر حتى يقال أن تخليص الله لمسيحه المقصود في المزمور هو بقيامته من الأموات أم إلى لحظة محاولة القبض على المسيح عليه السلام ، بغير شك إلى هذه اللحظة الأخيرة ، فماذا يحدث فيها ، يقول المزمور ( هم جثوا وسقطوا .... ) ، ألا يشير ذلك إلى ما كان من أمر من أتوا للقبض على المسيح عندما سألهم عليه السلام من يطلبون فقالوا يسوع الناصري فقال لهم أنه هو وهنا يقول إنجيل يوحنا (فلما قال لهم أني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض ) . (ص 18 : 6) ، أما المسيح ، فيمضي المزمور ويقول على لسانه(1/110)
(أما نحن فقمنا وانتصبنا .) ، وبعدها ينتهي المزمور منبهاً إلى أنه إنما قصد به التنبؤ حيث نفهم ذلك من قوله (يا رب خلص ليستجيب لنا الملك في يوم دعائنا ) ، وهو ما معناه أن ذلك اليوم لم يأت بعد ...
يقين النبوة إذن وبجلال الوحي ، ينبئنا داود النبي عليه السلام في هذا المزمور بأنه في يوم ضيق المسيح الكريم ، يستجيب الله دعاءه الذي دعاه أن يخلصه من الصلب ، فيخلصه منه ويرفعه ، وليس لمنصف ألا أن يقرر أنه لا تكاد أن تكون في المزامير أو غيرها من أسفار العهد القديم نبوءة أصرح أو أقطع من تلك النبوءة التي حواها هذا المزمور ، مؤكداً في ثقة ويقين أن الله سيخلص المسيح عليه السلام .(1)
المزمور الحادي والعشرين : ( لإمام المغنين . مزمور داود)
( يا رب بقولك يفرح الملك وبخلاصك كيف لا يبتهج جداً ، شهوة قلبه أعطيته وملتمس شفتيه لم تمنعه . سلاه . لأنك تتقدمه ببركات خير ، وضعت على رأسه تاجاً من ابريز ، حياة سألك فأعطيته ، طول الأيام إلى الدهر والأبد ، عظيم مجده بخلاصك جلالا وبهاء تضع عليه ، لأنك جعلته بركات إلى الأبد ، تفرحه ابتهاجاً أمامك ، لأن الملك يتوكل على الرب ، وبنعمة العلي لا يتزعزع .
تصيب يدك جميع أعدائك ، يمينك تصيب كل مبغضيك ، تجعلهم مثل تنور نار في زمان حضورك ، الرب يسخطه يبتلعهم وتأكلهم النار ، تبيد ثمرهم من الأرض وذريتهم من بين بني آدم ، لأنهم نصبوا عليك شراً ، تفكروا بمكيدة ، لم يستطيعوها لأنك تجعلهم يتولون ، تفوق السهام على أوتارك تلقاء وجوهم ، ارتفع يا رب بقوتك ، نرنم وننغم بجبروتك) .(1/111)
وفي التعليق على هذا المزمور ، نقرأ في كتاب دراسات في سفر المزامير ص 311 ( التطبيق النبوي : مسيا الملك يرى في المجد بعد نصرة الصليب ، وإذ هو مرفوع (مز 20 : 1) كابن الإنسان ، فإنه بثقة يتوقع إتمام الوعد (اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك) (مز 110 : 1) الذي يشير إليه الرسول في قوله : (لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه ) ( 1 كو 14 : 25) ، والمزمور ينظر إلى الوراء حيث عمل المسيح الذي قد تم ، وينظر إلى الأمام ، إلى انتصاراته المستقبلة على جميع أعدائه وانتصارات شعبه .....).
ونقرأ في ص 312 تعليقاً على الآية الأولى :
( لقد استجيبت الصلوات التي قدمت بثقة في مز 20 لأجل الانتصار في المعركة)
ويقول في ص 315 ، 316 :
( أما فيما يختص بربنا يسوع المسيح فهذا - يقصد الآية (حياة سألك ..... ) - يشير إلى حياته بعد القيامة . لقد مضى - له المجد - إلى الموت متكلاً على الله الآب أن يقيمه ويعطيه (طول الأيام إلى الدهر والأبد) . لقد مات مرة واحدة وأقيم من الأموات ........)
ويقول أيضاً ص 318 و 319 تعليقاً على الآيتين (لأنهم نصبوا عليك ........) وما تليها :
( لاحظ أن المكر والمكايد ضد الله وضد مسيحه تتجلي في اضطهاد ومقاومة شعب الله ، ومن هنا كان كلام الرب لشاول (شاول شاول لماذا تضطهدني ؟) (أ ع 9 : 4) . إنه يصور الأعداء وقد نصبوا له الشر كما ينصب الصياد شباكه لاصطياد فريسته . أنهم دبروا له المكايد وأعدوا له الشر ، ولكنهم لم يستطيعوا إلحاق الأذى بمسيح الرب والذي اتكل على إلهه . بل العكس (يتبولون) ، أي يهربون من حضرته ......) .
وفي كتيب تأملات في المزامير لآباء الكنيسة القديسين الصادر عن كنيسة مارجرجس باسبورتنج نقرأ في التعليق على هذا المزمور في ص 10 :(1/112)
(نصبوا عليك شرا تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها : وهذا قول ينطبق على تفكرات الأشرار على الرب يسوع عند قولهم (خير لنا أن يموت واحد عن الكل) يو 11 : 50 وتفكروا بمكيدة ليقتلوه ، ولكنه قام من الأموات في اليوم الثالث ، لذلك يقول النبي مكيدة لم يستطيعوها).
ونحن إذا طالعنا نص هذا المزمور ونص المزمور السابق عليه ، نستطيع أن نقرر بسهولة أن هذا المزمور يكمل المزمور السابق ، وقد سبق أن رأينا مؤلف دراسات في سفر المزامير يقرر مثل هذا الربط ، ذلك أننا في المزمور 20 نجد دعاء داود النبي الله ليستجيب للمسيح حين يدعوه في يوم الضيق ، ثم تنبأ لنا داود بأن الله مستجيب مسيحه ومخلصه ، أما المزمور 21 فيبدأ بوصف فرحة هذا الذي خلصه الله ، فهو بهذا يبدأ من حيث انتهي المزمور السابق ، ثم إننا نجد في المزمور ما يقطع بأنه عن المسيح إذ يقول عن هذا الذي خلصه الله أنه سأل الرب حياة فأعطاه طول الأيام إلى الدهر والأبد ، وهذا القول عند المسيحيين لا يمكن أن ينطبق على غير المسيح عليه السلام ، ويؤكد المزمور بعد ذلك تخليص المسيح بقوله (عظيم مجده بخلاصك) ، وحقاً ما أعظم مجد المسيح بتخليص الله له .(1/113)
ولا يغفل المزمور أعداء المسيح الذين تآمروا عليه ، وخانوه وحاولوا القبض عليه ، فيقول عن هؤلاء أن يد الرب ستصيبهم والرب بسخطه يبتلعهم وتأكلهم النار ويبيد ثمرهم من الأرض وذريتهم من بين بني آدم ، أما لماذا يكون ذلك فلأنهم تآمروا على المسيح وحاولوا الإيقاع به وقتله بالقبض عليه وصلبه ، وهذا ما يوضحه المزمور بعد ذلك بقوله ( لأنهم نصبوا عليك شراً ، تفكروا بمكيدة ) ، وهنا نتساءل عما تم في أمر هذا الشر الذي نصبوه وتلك المكيدة التي تفكروا بها ، هل استطاعوها ، لا ، هذا ما يؤكده المزمور إذ يقول بعد ذلك مباشرة (لم يستطيعوها) مؤكداً بذلك فشلهم وعجزهم عن تنفيذ مكيدتهم وتحقيق شرهم ، تأكيداً لما ورد في المزمور السابق من أن الرب مخلص مسيحه ، وتأكيداً للتنبؤ بهذا التخليص .
ولا أحسب أن الأمر يحتاج لأكثر من قراءة المزمور لنخلص إلى هذه النتيجة بغير إجهاد ، وبغير أي تحميل للنصوص سوى بما تحتمله ، ولا أستطيع أن أفهم كيف يسلم المسيحيون بأن هذا المزمور يتحدث عن المسيح عليه السلام ، وأنه المقصود بالآية (نصبوا عليك شراً تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها) ، وبأن المقصود من ذلك أن الأعداء لم يستطيعوا إلحاق الأذى به ، ويفسرون ذلك بالرغم من كل هذا بأنهم صلبوه ، فأي أذي هذا إذن الذي لم يلحقوه به وقد صلبوه ، وكيف يكون الربط بين هذا المزمور وبين ما قرره المزمور السابق من أن (الرب مخلص مسيحه) ، ومع ذلك يكون هذا التخليص بالصلب ثم الدفن ثم ما يقال به من القيامة من الأموات ، أين في المزمورين ما يقول هذا ، أين فيهما ما يقول بغير رفع المسيح وتخليصه ممن تآمروا عليه ، أين فيهما ما يقول بغير رفع كأس الصلب عنه .
المزمور الثاني والعشرون :
(لإمام المغنين على أيلة الصبح . مزمور لداود) :(1/114)
( إلهي إلهي لماذا تركتني ، بعيدا عن خلاصي عن كلام زفيري ، إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب في الليل أدعو فلا هدو لي . وأنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل ، عليك إتكل آباؤنا ، إتكلوا فنجيتهم ، إليك صرخوا فنجوا ، عليك اتكلوا فلم يخزوا ، أما أنا فدودة لا إنسان ، عار عند البشر ومحتقر الشعب ، كل الذين يرونني يستهزئون بي ، يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين ، إتكل على الرب فلينجه ، لينقذه لأنه سر به ، لأنك جذبتني من البطن ، جعلتني مطمئناً على ثديي أمي ، عليك ألقيت من الرحم ، من بطن أمى أنت إلهي ، لا تتباعد عنى لأن الضيق قريب . لأنه لا معين .
أحاطت بي ثيران كثيرة ، أقوياء باشان اكتنفتني ، فغروا على أفواههم كأسد مفترس مزمجر ، كالماء انسكبت ، انفصلت كل عظامي ، صار قلبي كالشمع ، قد ذاب في وسط أمعائي ، يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني ، لأنه قد أحاطت بي كلاب ، جماعة من الأشرار اكتنفتني ، ثقبوا يدي ورجلي أحصي كل عظامي ، وهم ينظرون ويتفرسون في ، يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون ) (1-18).
ويجمع المسيحيون على أن هذا المزمور إنما تنبأ بواقعة الصلب ، وتبين الأهمية البالغة لهذا المزمور عندما نجد أن الأناجيل نفسها قد أوضحت أن ما كان في الصلب إنما سبق أن تنبأ به هذا المزمور ، فنحن مثلا نجد أن المزمور يبدأ بقوله ( إلهي إلهي لماذا تركتنى ) ، وقد جاء في إنجيل متى أن المسيح قال نفس العبارة وهو على الصليب ، إذ جاء فيه ( ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني ) . (ص 27 : 46) كما جاء في إنجيل مرقس في نفس الواقعة أيضاً ( وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً الوي الوي لما شبقتني . الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني ) (ص 15 : 34).(1/115)
ثم إن المزمور يمضي بعد بضع آيات فيقول ( ..... ومحتقر الشعب ، كل الذين يرونني يستهزئون بي ، يفغرون الشفاه ، وينغضون الرأس قائلين . اتكل على الرب فلينجه ، لينقذه لأنه سر به ) ، وقد جاء في إنجيل متى ( وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم ، قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك ، إن كنت ابن الله فأنزل عن الصليب ، وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ ، قالوا خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها ، إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به ، قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده ) (ص 27 : 39 - 43) ، كما جاء في إنجيل مرقس ( وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وانزل عن الصليب ، وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة قالوا خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها ، لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنري ونؤمن ) (ص 15 : 29 - 32) ، ونقرأ كذلك في إنجيل لوقا ( وكان الشعب واقفين ينظرون ، والرؤساء أيضاً معهم يسخرون به قائلين خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله ) . (ص 23 : 35) .(1/116)
ويضيف المزمور بعد ذلك قوله ( جماعة من الأشرار اكتنفتني ، ثقبوا يدي ورجلي ، أحصى كل عظامي ، وهم ينظرون ويتفرسون في ، يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون) ، ولاشك في أن ثقب اليدين والرجلين هو الصلب ، ونحن نقرأ في إنجيل متى ( ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة.) (ص 27 : 35) ، ونقرأ كذلك في إنجيل مرقس ( ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد) (ص 15 : 24) ، كما جاء في إنجيل لوقا كذلك ( وإذا اقتسموا ثيابه اقترعوا عليها) (ص 23 : 34) ، ونقرأ أخيراً في إنجيل يوحنا (ثم أن العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام لكل عسكرى قسماً ، وأخذوا القميص أيضاً وكان القميص بغير خياطة منسوجاً كله من فوق ، فقال بعضهم لبعض لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون ، ليتم الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا القرعة ، هذا فعله العسكر .) (ص 19 : 23 ، 24) ، وواضح تطابق ما كان في الواقع وذكرته الأناجيل من اقتسام ثياب المصلوب وإلقاء قرعة على لباسه مع ما جاء في المزمور حتى أن إنجيلي يوحنا ومتى أشارا صراحة إلى أن هذا هو ما سبق التنبؤ به في هذا المزمور .(1/117)
ولست في حاجة لأن أشير هنا إلى تعليقات المسيحيين على هذا المزمور ، فهم يجمعون كما قلت على أنه يتنبأ بواقعة الصلب ، ولذلك يرون فيه نبوءة بصلب المسيح عليه السلام ، وسبب الإجماع هنا ، فوق اتفاق التفاصيل الواردة فيه ، مع تفاصيل واقعة الصلب كما وردت في الأناجيل ، ما رأيناه في إنجيلي متى ويوحنا من اعتبار ما ورد في هذا المزمور من آية ( يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون) أنها تتنبأ عن هذا الذي حدث مع المصلوب في الأناجيل من اقتسام ثيابه وإلقاء قرعة عليها ، وإذ نعلم جميعاً - كما يقول المسيحيون أيضاً - أن داود عليه السلام لم يمت مصلوباً ، فهو إذن في هذا المزمور لا يتحدث عن نفسه ، وإذ تتفق الوقائع المشار إليها في هذا المزمور مع الوقائع التي حدثت مالمصلوب في الأناجيل ، فلا محل إزاء كل ذلك إلا للتسليم بأن هذا المزمور إنما كان يتنبأ بواقعة الصلب كما حدثت في الأناجيل ، ولكن كل هذه الوقائع لا خلاف عليها كما سبق أن رأينا بين أي من الصورتين المسيحية أو الإسلامية ، وإنما الخلاف بالنسبة لواقعة الصلب نفسها هو بالنسبة لشخصية المصلوب وحدها ، فهل هو المسيح عليه السلام ، كما يعتقد المسيحيون أم هو يهوذا الأسخريوطي طبقاً لما جري عليه اعتقاد المسلمين .(1/118)
وهنا يعيننا المزمور نفسه ، فالمصلوب فيه إذ يتحدث عن نفسه فيصفها ويقول ( أما أنا فدودة لا إنسان ... عار عند البشر ......... ) ، فهنا المصلوب يقول عن نفسه أنه دودة لا إنسان ، بكل ما في كلمة دودة من معني التصغير والتحقير والازدراء ، ولا يكتفي بهذا ، بل يضيف أنه عار عند البشر ، بكل ما تحمله كلمة عار من معني الدناءة والحطة ، وهنا لا يملك أبسط الناس إلا أن يتعرف بسهولة على هذا الذي يقول عن نفسه هذا الكلام ، وقبل أن يشير أي إنسان إليه ، لابد وأنه مستبعد ابتداء وكلية أن يكون هذا المتحدث عن نفسه هو المسيح عليه السلام ، فما كان المسيح بالذي يمكن أن يشبه يوماً دودة ، إن هو إلا من أسمى البشر وأكرمهم ، وحاشي ، حاشي للمسيح أبداً أن يكون عاراً عند البشر ، لم يكن عليه السلام ولن يكون عاراً عند البشر ، لم يكن عليه السلام ، ولن يكون أبداً في يوم من الأيام إلا مجداً وفخراً للبشر ، لكل البشر ، أما هذا الذي نستطيع أن نتبين فيه بسهولة هذه الأقوال ، فإنه يهوذا الأسخريوطي ، التلميذ الذي خان المسيح سيده ، الذي بقبلة أراد أن يسلمه ، فعرف بالخائن ، وعرفت قبلته بقبلة الخيانة ، وأصبح لخيانته عاراً عند البشر وإنه لعار عندهم حتى اليوم ، وهو لهذا يمكن أن يبلغ به شعوره بالخسة والدناءة والخيانة ، حتى ليرى في نفسه دودة لا إنسان ، وأن يعرف عن نفسه أنه أصبح بخيانته عاراً عند البشر ، وهكذا ، فإذا كان هذا المزمور قد تضمن نبوءة عن الصلب فلقد تضمنها بحق ، بل ولقد أنبأنا أيضاً بحق ، بشخصية من سيصلب ، وبأنه يهوذا الاسخريوطي وأبدا ليس المسيح عليه السلام .(1)(1/119)
ولقد يقال أن الأناجيل نفسها قالت نحو ذلك مما يترجمه المزمور بقوله ( ومحتقر الشعب ) ، والواقع أن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على المصلوب سواء أكان المسيح أو يهوذا ، ولكن الفارق واضح بين عبارة (عار عند البشر) وعبارة (محتقر الشعب) ، فكلمة الشعب محدودة في معناها اللغوي ، فهي تعني لغة قبيلة عظيمة أو الجيل من الناس ، وهي هنا ، سواء في المزمور أو في الأناجيل ، تشير إلى المجموعة من الناس التي حضرت واقعة الصلب ، وهم في الأناجيل كانوا يظنون المصلوب هو المسيح ومع ذلك فقد كان منهم معه ما رأيناه في الأناجيل ودل على تحقيرهم له ، وهذا طبيعي منهم إذ كانوا يكرهونه حتى أنهم فضلوا إطلاق سراح اللص القاتل المسمي باراباس على إطلاق سراحه هو طالبين صلبه ، هذا عن الشعب ، أما كلمة البشر ، فهي عامة ، لا تخص أشخاصاً معينين أو أفراداً معينين ، لا تخص جيلاً دون جيل ، وإنما هي تنصرف إلى الناس جميعاً ، الذكر منهم والأنثى ، الواحد منهم والجمع ، وعند هؤلاء ، ليس المسيح إلا مجداً وفخراً ، والعار عندهم ، حتى اليوم ، هو يهوذا الاسخريوطي .(1/120)
ثم ، ما الذي وجدناه في المزامير السابقة ، ألم نر المسيح فيها دائماً يدعو فيستجيب الله لدعائه ، ( بصوتي إلى الرب أصرخ فيجيبني من جبل قدسه) (مز 3 : 4) و (الرب يسمع عندما أدعوه) (مز 4 :3) و (ابعدوا عنى يا جميع فاعلي الإثم ، لأن الرب قد سمع صوت بكائي ، سمع الرب تضرعي ، الرب يقبل صلاتي) (مز 6 : 8 - 10) و (في ضيقي دعوت الرب وإلي إلهي صرخت ، فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدامه دخل أذنيه) (مز 18 : 6) و (ليستجب لك الرب في يوم الضيق ..... الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه ......) (مز 20) و (حياة سألك فأعطيته . طول الأيام إلى الدهر والأبد.) (مز 21 :4) في كل ذلك نجد المسيح إذ يدعو فإن الله يستجيب لدعائه ، أما المصلوب في مزمور 22 فيقول (إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب لدعائه ، أما المصلوب في مزمور 22 فيقول (إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب في الليل أدعو فلا هدو لي.) (2) ، ألا يعني هذا أن هذا الذي لا يستجيب الله له هو شخص آخر غير هذا الذي يستجيب له في المزامير السابقة.(1/121)
كان هذا المزمور 22 ، والذي اتفق إجماع المسيحيين على أنه تنبأ عن واقعة الصلب ، وذهبوا إلى أنه يتنبأ عن صلب المسيح عليه السلام ، وقد اتفقنا معهم على أن ذلك المزمور يتنبأ بالفعل عن واقعة الصلب ، ولكننا وجدنا أنه ينبئنا بجلاء عن شخصية المصلوب ، بما نعرف منه أنه يهوذا الأسخريوطى ، وليس المسيح عليه السلام (1) ، وإذا عدنا إلى المزمورين السابقين على هذا المزمور ، نجد أنهما مع هذا المزمور ، يكونون ثلاثتهم معاً نبوءة واحدة صريحة قاطعة ومتكاملة مع بعضها البعض ، وهي في تسلمها تتفق مع الفرض القائل بتخليص الله للمسيح عليه السلام من الصلب ورفعه إليه وصلب يهوذا الأسخريوطي بدلاً منه ، فالمزمور العشرون يبدأ بالدعاء لله أن يستجيب لآخر عندما يدعوه يوم الضيق ، ويدعو الداعي لهذا الآخر بأن يرفعه اسم إله يعقوب ، ويؤكد المزمور بعد ذلك أن المسيح عليه السلام هو المقصود بهذا المزمور وأن الله سيخلصه فيقول (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه)، ونعلم من كلمة الآن هذه أن الوحي بتلك النبوءة إنما أوحي لداود للتو واللحظة إثر تلاوته ما سبق من دعاء ، وهذا الذي عرفه داود أعلنه للناس في هذا المزمور ، وهذا المسيح الذي أشار إليه داود بأنه مسيح الرب هو يسوع المسيح كما يسميه المسيحيون وهو المسيحي عيسي بن مريم كما يسميه المسلمون …، لأنه إن قيل بأن هناك مسحاء عديدون ، فإن يسوع المسيح عند المسيحيين والمسيح عيسى ابن مريم عند المسلمين ، هو من يتعرف عليه المرء عند إطلاق كلمة المسيح ، والمزمور يصف تخليص الله له ، فيقول عمن يهجمون عليه أنهم يجثون ويسقطون ، ونعلم بيقين أن هذه الصورة لا تكون في قبر يقوم منه المسيح من الأموات ، كما يعتقد البعض ، وإنما هي صورة محاولة القبض على المسيح عليه السلام ، ونرى هذا الذي يحدث في المزمور لمن قاموا عليه يحدث تماماً لمن قاموا على المسيح ليقبضوا عليه إذ يذكر إنجيل يوحنا أنهم رجعوا إلى الوراء(1/122)
وسقطوا على الأرض ، وينتهي المزمور إلى أن المسيح يقوم وينتصب ، ومن هذه النقطة يستطرد المزمور الحادي والعشرون ، فيصف فرحة المسيح بخلاصه ، ثم يصف هذا الذي خلص بأوصاف لا تنطبق على غير المسيح عليه السلام ، إذ يقول عنه أنه منح حياة طول الأيام إلى الدهر والأبد ، ويمضي المزمور ، فيتحدث عن غضب الله على هؤلاء الذين نصبوا على المسيح شراً ، وتفكروا له بمكيدة ، ولا يفوته هنا أيضاً أن يؤكد تخليص الله له ، فيقول أنهم لم يستطيعوها ، ومن هذه النقطة ، نقطة غضب الله على هؤلاء المتآمرين ، يستطرد المزمور الثاني والعشرون ، فيتحدث عما يجري لأول هؤلاء المتآمرين وأحقهم بالعقاب ، يهوذا الأسخريوطي ، الذي كان من تلاميذ المسيح وخانه ، فيصف المزمور ما حدث له وكأنه يتحدث بلسانه ، فيصف تماماً كل ما كان مع هذا الذي صلب ، ويعرف المصلوب الناس بشخصيته في المزمور فيقول عن نفسه أنه دود لا إنسان ، عار عند البشر ، فنعرف جميعاً أن هذا الذي صلب هو يهوذا الأسخريوطي لا المسيح كما يظن المسيحيون ، فيهوذا هو الذي بخيانته أضحى حقيراً كدودة ، وعاراً عند البشر ، وهكذا ، يكون من هذه المزامير الثلاثة وبنفس ترتيبها ، نبوءة كاملة وصريحة ، عن دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، وتخليص الله له برفعه ، وفشل مؤامرة المتآمرين عليه بهذا الرفع ، وصلب يهوذا الأسخريوطي بدلا منه ، وهذا هو نفس ما يقول به القرآن وما يعتقده المسلمون.
المزمور السابع والعشرون : (لداود)(1/123)
( الرب نوري وخلاصي ممن أخاف ، الرب حصن حياتي ممن أرتعب ، عندما اقترب إلى الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا ، إن نزل على جيش لا يخاف قلبي ، إن قامت على حرب ففي ذلك أنا مطمئن ، واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله ، لأنه يختبئ في مظلته في يوم الشر ، يسترني بستر خيمته ، على صخرة يرفعني ، والآن يرتفع رأسي على أعدائي حولي فأذبح في خيمته ذبائح الهتاف . أغني وأرنم للرب.
استمع يا رب ، بصوتي أدعو فارحمني واستجب لي ، لك قال قلبي قلت اطلبوا وجهي ، وجهك يا رب أطلب ، لا تحجب وجهك عني ، لا تخيب بسخط عبدك ، قد كنت عوني ، فلا ترفضني ولا تتركني يا إله خلاصي ، إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني ، علمني يا رب طريقك ، واهدني في سبيل مستقيم بسبب أعدائي ، لا تسلمني إلى مرام مضايقي ، لأنه قد قام على شهود زور ونافث ظلم ، لولا أنني آمنت بأن أري جود الرب في أرض الأحياء - انتظر الرب ، ليتشدد وليتشجع قلبك وانتظر الرب) .(1/124)
وفي الشطر الأول من هذا المزمور نري الثقة واليقين بالله والإيمان بعظمته وجبروته ، وهو يصف اقتراب الأشرار من المتكلم ، مطابقاً في ذلك اقتراب الأعداء من المسيح ليقبضوا عليه ، فإذا به يقول أنهم عثروا وسقطوا ، مطابقاً في ذلك ما قرأناه في المزمور العشرين من قوله ( هم جثوا وسقطوا) ، ومطابقاً أيضاً لما جاء في إنجيل يوحنا عمن أتوا للقبض علي المسيح من أنهم (رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض) ، ومن ثم فهذا الجزء من المزمور يرمز لمحاولة القبض على المسيح عليه السلام ، ثم إن المزمور يورد بعد ذلك دعاء على لسان قائله ، لم يقل المسيحيون بأنه تحقق في غير المسيح نفسه ، وذلك عندما يقول أنه سأل الرب واحدة فقط وإياها يلتمس ، وهي أن يسكن في بيت الرب كل أيام حياته ، ويربط المزمور بعد ذلك بين هذا الدعاء وبين ما تم عند محاولة القبض عليه فيقول أن الرب مخبئه في مظلته يوم الشر ، فيستره بستر خيمته وعلى صخرة يرفعه ، وكل هذه الأوصاف تعني وتطابق تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه عند محاولة القبض عليه ، أليس رفعه عليه السلام في هذه اللحظة وعدم تنبه القادمين للقبض عليه لذلك ، وقبضهم على آخر ظناً منهم أنه المسيح ، يطابق أن الله يخبئه في مظلته يوم الشر ويستره بستر خيمته ، أليس رفعه هو ما يقوله المزمور تتمة لذلك (على صخرة يرفعني) أليس القادمون للقبض عليه هم الجيش الذي ينزل عليه فلا يخاف قلبه ، لأن الرب يستره عنهم وعلى صخرة يرفعه ، أليست التخبئة هنا تفيد أن أحداً لن يلاحظ ذلك عندما سيكون لأن الله سيخبئه .(1/125)
وبعد أن يتحدث المزمور في شقه الأول بهذا اليقين عن تخليص الله للمسيح وتخبئته عند محاولة القبض عليه ورفعه ، نري الشطر الثاني منه يتحدث عن أمر آخر ، ونلاحظ في هذا الشطر أنه يقول (لأنه قد قام على شهود زور ونافث ظلم.) وإذا رجعنا إلى الأناجيل نجد أن إنجيل متى يقول (وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه ، فلم يجدوا .... ومع أنه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا . ولكن أخيراً تقدم شاهداً زور . وقالا . هذا قال إني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه ) (ص 26 : 59 - 61) ، كما نقرأ في إنجيل مرقس (وكان رؤساء الكهنة والمجمع كله يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا ، لأن كثيرين شهدوا عليه زوراً ولم تتفق شهاداتهم ، ثم قام قوم وشهدوا عليه زوراً قائلين ، نحن سمعناه يقول إني أنقض الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد ، ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق) (ص 14 : 55 - 59) ، وهذا كله يطابق ما وجدناه في المزمور من قوله (لأنه قام على شهود زور ونافث ظلم) ، ومن ثم نعرف أن هذا الشطر من المزمور يرمز إلى الذي يحاكم ، وهو نفسه في الفرضين الذي قبض عليه وصلب ، فمن هو الذي يحاكم إذن كما يتضح من هذا الشق من المزمور ، المسيح أم يهوذا الأسخريوطي .(1/126)
ولنمض مع هذا الشطر من المزمور لنتعرف على شخصية المتحدث فيه ، إنه يبدأ بأن يطلب إلى الرب أن يستمع له ، أن يرحمه ويستجيب له ، وهو يذكر الله بأنه قال أن يطلبوا وجهه وها هو ذا يفعل فيطلب وجهه ، ويسأله ألا يحجب وجهه عنه وألا يخيب بسخط عبده المتكلم بطبيعة الحال ، ويسأل الله ألا يتركه ، وألا يرفضه وهنا نجد أن صيغة الدعاء تختلف تماماً عن كل ما سبق من دعاء رأينا أنه يرمز إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه ، ففي الأدعية الأخرى التي ترمز لدعاء المسيح نري الداعي فيها يطلب من الله أن يعامله مثل كماله ومثل حقه وألا يستجيب له إن وجد فيه ظلماً ، .. إلى آخر ذلك مما وجدناه من دعاء لاحظنا دائماً أنه إنما كان يتحدث بلهجة صاحب الحق الحقيق بأن يستجاب دعاؤه ، الواثق من أن الله سيستجيبه ، أما في هذا الشطر من المزمور ، فإن الداعي لا يستند في دعائه إلى أي حق إطلاقاً ، وإنما هو يطلب وجه الرب لأن الرب قال أن يطلب وجهه ، وهو غير واثق من استجابة الرب لدعائه ، بل إنه يخشى أن يخيبه الله بسخطه ، والمستحيل أن يسخط الله على مسيحه أو أن يتصور المسيح أن الله يسخط عليه ، وإنما الذي يتصور هذا حقاً هو يهوذا الأسخريوطي لخيانته للمسيح عليه السلام ، ولذلك أيضاً فهو غير واثق من استجابة الله لدعائه .
ثم إن المزمور يذكر على لسان المتحدث أن أباه وأمه قد تركاه ، والذي يعرفه الجميع أن المسيح كان من أم فقط وليس له أب ، بعكس يهوذا بطبيعة الحال ، والذي كان كغيره من البشر من أب وأم ، ومن ثم فإن هذا الشطر من المزمور ، لا يمكن أن يكون المقصود منه هو المسيح عليه السلام ، وإنما آخر غيره .(1/127)
ثم إن المتحدث في المزمور يمضي فيطلب من الله أن يعلمه طريقه ويهديه في سبيل مستقيم ، وليس هذا هو ما يقوله المسيح في ختام حياته على الأرض ، فهو قد كان على الهدي طوال حياته ، فما بالنا في آخر أيامه ، والذي كان في حاجة إلى الهدي بحق في ختام حياته هو يهوذا الأسخريوطي ، فقد اختتمها بالخيانة والغدر .
وإذ ينتهي المزمور نفهم منه أن الداعي في شطره الثاني لن يستجاب دعاؤه فهذا ما نفهمه من طلب المزمور منه أن يتشدد ويتشجع قلبه ، فما ذلك إلا ليتحمل ما هو مقبل عليه ، قاطعاً بذلك أنه سيصلب ولن يخلصه الله من الصلب.
وبذا فإن هذا المزمور في شطره الأول ، يشير إلى تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه له إليه ، في خفاء حتى أن الناس لن يلاحظوا ذلك ، ثم هم إذ يقبضون على آخر غير المسيح ، فإنه سيحاكم ويقوم عليه شهود زور كما رأينا في الشطر الثاني من المزمور ، والذي نفهم منه بجلاء أن هذا الذي يحاكم ويقوم عليه شهود زور لن يستجيب الله له بل يخيبه بسخطه ، وهو قول لا ينطبق على المسيح عليه السلام وإنما ينطبق تماماً على يهوذا الأسخريوطي الذي خانه ، وهكذا يكون من ذلك المزمور نبوءة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه .
المزمور الثامن والعشرون : (لداود) .
(إليك يا رب أصرخ ، يا صخرتي لا تتصامم من جهتي لئلا تسكت عنى فأشبه الهابطين في الجب ، استمع صوت تضرعي إذا استغيث بك وأرفع يدي إلى محراب قدسك ، لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الإثم المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم ، أعطهم حسب فعلهم وحسب شر أعمالهم ، حسب صنع أيديهم أعطهم . رد عليهم معاملتهم ، لأنهم لم ينتهوا إلى أفعال الرب ولا إلى أعمال يديه يهدمهم ولا يبنيهم .(1/128)
مبارك الرب لأنه سمع صوت تضرعي ، الرب عزي وترسي عليه اتكل قلبي فانتصرت ، ويبتهج قلبي وبأغنيتي أحمد ، الرب عز لهم وحصن خلاص مسيحه هو خلص شعبك وبارك ميراثك وارعهم واحملهم إلى الأبد).
والمزمور يبدأ مشير إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، فهو يصرخ إلى الرب ألا يسكت عنه فيشبه الهابطين في الجب ، أن يستمع صوت تضرعه إذ يستغيث به ويرفع يده إلى محراب قدسه ، وقد وجدنا أنه قبل قدوم من حضروا للقبض على المسيح تضرع إلى الله لكي يخلصه من الصلب ، والمزمور يدعو الداعي فيه الله ألا يجذبه مع الأشرار وحملة الإثم ، مشيراً بذلك إلى القادمين للقبض على المسيح ، فهم بغير شك أشرار وحملة إثم ، وهو يسأل الله ألا يجذبه معهم ، بالطبع بألا يسلمه لهم ولا يتركه في أيديهم ، وثمة واحد من هؤلاء نعرف من المزمور أنه يهوذا الأسخريوطي حيث يقول المزمور (المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم) ، وهذا هو يهوذا ، إذ هو من تلاميذ المسيح وأصحابه ، وقد تقدم منه عندئذ يقبله ، وكأنما هو بذلك بالسلام يخاطبه ، بينما كان الشر في قلبه ، إذ كانت هذه القبلة نفسها هي العلامة لمن معه ليعرفوا المسيح ويقبضوا عليه .
والمزمور يمضي بعد ذلك ، فيطلب على لسان الداعي ، والذي قلنا أنه هنا المسيح ، يطلب أن يعطيهم الله حسب فعلهم وصنع أيديهم ويرد عليهم معاملتهم ، ونفهم من هذا أن يهوذا هو المقصود من هذا الدعاء ، فهو الذي قبل المسيح مخاطباً إياه بالسلام والشر في قلبه على نحو ما تقدم ، وإعمال هذا الدعاء على يهوذا ، برد معاملته عليه ، لا يكون إلا بالقبض عليه ومحاكمته بعد ذلك وصلبه بدلاً من المسيح عليه السلام ، فبذلك وحده يعطي حسب فعله وحسب شر أعماله وحسب صنع يديه وتكون معاملته قد ردت عليه ، ومن ثم فاستجابة هذا الدعاء تكون بحق على هذا النحو .(1/129)
ويمضي المزمور فيؤكد ذلك على لسان الداعي إذ يقول أن الرب مبارك لأنه سمع صوت تضرعه ، مشيراً بذلك إلى تضرعه في أول المزمور ، ويقول بأن الرب ترسه وعزه عليه اتكل قلبه فانتصر ويبتهج قلبه لذلك ، ثم يؤكد المزمور تخليص المسيح بقوله ( الرب عز لهم وحصن خلاص مسيحه هو.)
ونخلص من هذا المزمور إلى أنه ، وقد تضمن دعاء ، ثم تضمن في نفس الوقت استجابته ، فإنه بذلك إنما قصد به التنبؤ ، وهو في أوله يشير إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب وصلب يهوذا بدلاً منه ، وإذ يقطع المزمور باستجابة هذا الدعاء إذن فقد خلص الله مسيحه وأوقع يهوذا في نفس الحفرة التي حرفها للمسيح سيده.
المزمور الثلاثون : ( مزمور . أغنية تدشين البيت . لداود)
(أعظمك يا رب لأنك نشلتني ولم تشمت بي أعدائي ، يا رب إلهي استغث بك فشفيتني ، يا رب أصعدت من الهاوية نفسي أحييتني من بين الهابطين في الجب ، رنموا للرب يا أتقياءه واحمدوا ذكر قدسه ، لأن للحظة غضبه ، حياة في رضاه ، عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح نرنم ، وأنا قلت في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد ، يا رب برضاك ثبت لجبلي عزاً ، حجبت وجهك فصرت مرتاعاً ، إليك يا رب أصرخ وإلى السيد أتضرع ، ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة ، هل يحمدك التراب ، هل يخبر بحقك ، استمع يا رب وارحمني يا رب كن معيناً لي ، حولت نوحي إلى رقص لي ، حللت مسحي ومنطقتني فرحاً ، لكي تترنم لك روحي ولا تسكت ، يا رب إلهي إلى الأبد احمدك.)(1/130)
والمزمور يبدأ بتعظيم الرب لأن نشله ، وليس أدق من وصف لرفع المسيح من بين من قدموا للقبض عليه من هذا الوصف ، نشلتني ، والمزمور يمضى مؤكداً ذلك بقوله أن الله لم يشمت به أعداءه ويعود المزمور بعد ذلك ليؤكد تخليص الله للمسيح برفعه إليه فيقول للرب أنه قد أصعد من الهاوية نفسه وأحياه من بين الهابطين في الجب ، وإنها لهاوية حقاً تلك التي كان سيسقط فيها المسيح وجب كان سيهبط فيه لو تمكن أعداؤه من القبض عليه ، وإنه لا حياة له حقاً من بين الهابطين في الجب رفعه إلى السماء من بين أعدائه .
على أنه قد يقال هنا أن اصعاد نفس المسيح من الهاوية وإحيائه من بين الهابطين في الجب إنما هو نبوءة عن قيامة المسيح بعد صلبه ودفنه لثلاثة أيام ، إلا أن الرد على ذلك بسيط ، يتولاه الجزء الثاني من المزمور بكل جلاء ووضوح ، ففيه يتساءل الداعي الذي يرمز للمسيح عليه السلام ، متوجهاً بذلك إلى الرب ، فيتساءل عن الفائدة من دمه إذا نزل إلى الحفرة ، هل التراب سيحمد الله أو يخبر بحقه ، ومفهوم التساؤل أنه ينفي ما يتساءل عنه ، والربط بين هذا التساؤل وبين تعظيمه للرب في أول المزمور لأنه أصعد من الهاوية نفسه وأحياه من بين الهابطين في الجب ، إنما يقطع بأنه لم يسفك دمه ولم ينزل إلى الحفرة ، أي لم يدفن ، وبذلك فإن أول المزمور يشير إلى لحظة محاولة القبض على المسيح وليس إلى أية لحظة أخرى غيرها ، والمزمور بعد هذا ينتهي مؤكداً كل ذلك بقوله ( حولت نوحي إلى رقص لي ، حللت مسحي ومنطقتني فرحاً) ، أفليس هذا هو حال المسيح عليه السلام إذ يخلصه الله ويرفعه إليه بعد أن كان قد ظن أنه سيصلب .
وثمة آية وردت في المزمور قد يتصور منها أن الرب قد حجب وجهه عن هذا نوحي إلى رقص لي ، حللت مسحي ومنطقتني فرحاً ، لكي تترنم لك روحي ولا تسكت ، يا رب إلهي إلى الأبد احمدك ).…(1/131)
والمزمور يبدأ بتعظيم الرب لأنه نشله ، وليس أدق من وصف لرفع المسيح من بين من قدموا للقبض عليه من هذا الوصف ، نشلتني ، والمزمور يمضي مؤكداً ذلك بقوله أن الله لم يشمت به أعداءه ويعود المزمور بعد ذلك ليؤكد تخليص الله للمسيح برفعه إليه فيقول الرب أنه قد أصعد من الهاوية نفسه وأحياه من بني الهابطين في الجب ، وإنها لهاوية حقاً تلك التي كان سيسقط فيها المسيح وجب كان سيهبط فيه لو تمكن أعداؤه من القبض عليه ، وإنه لا حياة له حقاً من بين الهابطين في الجب رفعه إلى السماء من بين أعدائه .
على أنه قد يقال هنا أن إصعاد نفس المسيح من الهاوية وإحيائه من بين الهابطين في الجب إنما هو نبوءة عن قيامة المسيح بعد صلبه ودفنه لثلاثة أيام ، إلا أن الرد على ذلك بسيط ، يتولاه الجزء الثاني من المزمور بكل جلاء ووضوح ، ففيه يتساءل الداعي الذي يرمز للمسيح عليه السلام ، متوجهاً بذلك إلى الرب ، فيتساءل عن الفائدة من دمه إذا نزل إلى الحفرة ، هل التراب سيحمد الله أو يخبر بحقه ، ومفهوم التساؤل أنه ينفي ما يتساءل عنه ، والربط بين هذا التساؤل وبين تعظيمه للرب في أول المزمور لأنه أصعد من الهاوية نفسه وأحياه من بين الهابطين في الجب ، إنما يقطع بأنه لم يسفك دمه ولم ينزل إلى الحفرة ، أي لم يدفن ، وبذلك فإن أول المزمور يشير على لحظة محاولة القبض على المسيح وليس إلى أية لحظة أخرى غيرها ، والمزمور بعد هذا ينتهي مؤكداً كل ذلك بقوله ( حولت نوحي إلى رقص لي ، حللت مسحي ومنطقتني فرحاً ) ، أفليس هذا هو حال المسيح عليه السلام إذ يخلصه الله ويرفعه إليه بعد أن كان قد ظن أنه سيصلب .(1/132)
وثمة آية وردت في المزمور قد يتصور منها أن الرب قد حجب وجهه عن هذا الداعي ، وهي تلك التي تقول (حجبت وجهك فصرت مرتاعاً ) ، والواقع أن هذه الجملة لهي أدق وصف لتلك اللحظة التي وجدنا المسيح في نهايتها يقول ( ... يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) (متى ص 26 ، 42). ، فهنا يبدو على المسيح اليأس من استجابة الله لدعائه فيسلم بمشيئته ، وكأنما في هذه اللحظة ، وحتى خلصه الله ، بدا له وكأن الله قد حجب وجهه عنه ، ولذا يقول المزمور (حجبت وجهك فصرت مرتاعاً ) ، إلا أن المزمور يمضي بعد ذلك فيؤكد أن ذلك لم يكن سوى إلى حين حيث ينتهي بقوله (حولت نوحي إلى رقص ...) والمزمور كما نري يتضمن دعاء الله ويتضمن في نفس الوقت استجابة هذا الدعاء ، فنفهم من ذلك قصد التنبؤ فيه ، وهو على نحو ما تقدم نبوءة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه .
المزمور الحادي والثلاثون : (لإمام المغنين ، مزمور لداود)
(عليك يا رب توكلت ، لا تدعني أخزى مدي الدهر ، بعد لك نجني ، أمل إلى إذنك ، سريعاً أنقذني ، كن لي صخرة حصن بيت ملجأ لتخليصي ، لأن صخرتي ومعقلي أنت ، من أجل اسمك تهديني وتقودني ، أخرجني من الشبكة التي خبأوها لي ، لأنك أنت حصني ، في يدك أستودع روحي ، فديتني يا رب إله الحق . بغضت الذين يراعون أباطيل كاذبة ، أما أنا فعلي الرب توكلت ، أبتهج وأفرح برحمتك لأنك نظرت إلى مذلتي وعرفت في الشدائد نفسي ، ولم تحبسني في يد العدو بل أقمت في الرحب رجلي .(1/133)
ارحمني يا رب لأني في ضيق ، خفت من الغم عيني ، نفسي وبطني ، لأن حياتي قد فنيت بالحزن وسنيني بالتنهد ، ضعفت بشقاوتي قوتي وبليت عظامي ، عند كل أعدائي صرت عاراً وعند جيراني بالكلية ورعباً لمعارفي ، الذين رأوني خارجاً هربوا عني ، نسيت من القلب مثل الميت ، صرت مثل إناء متلف ، لأني سمعت هذمة من كثيرين ، الخوف مستدير بي بمؤامرتهم معاً على ، تفكروا في أخذ نفسي .
أما أنا فعليك توكلت يا رب ، قلت إلهي أنت ، في يدك آجالي ، نجني من يد أعدائي ومن الذين يطردونني ، أضيء بوجهك على عبدك ، خلصني برحمتك . يا رب لا تدعني أخزى لأني دعوتك ، ليخز الأشرار ، ليسكنوا في الهاوية ، لتبكم شفاه الكذب المتكلمة على الصديق بوقاحة بكبرياء واستهانة ، ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك ، وفعلته للمتكلين عليك تجاه بني البشر ، تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس ، تخفيهم في مظلة من مخاصمة الألسن ، مبارك الرب لأنه جعل عجباً رحمته لي في مدينة محصنة ، وأنا قلت في حيرتي أني قد انقطعت من قدام عينيك . ولكنك سمعت صوت تضرعي إذ صرخت إليك ، أحبوا الرب يا جميع أتقيائه ، الرب حافظ الأمانة ومجاز بكثرة العامل بالكبرياء ، لتتشدد ولتتشجع قلوبكم يا جميع المنتظرين الرب .)(1/134)
والمزمور إذ يرمز للمسيح ، نراه فيه يبدأ بالتوكل على الرب وسؤاله له ألا يجعله يخزي مدي الدهر ، وأن ينجيه بعدله ، وإن العدل حقاً لأن يخلص الله مسيحه ، ويمضي فيسأله أن يكون صخرة له وحصناً وبيتاً يلجأ إليه ليخلصه ، لأنه صخرته ومعقله ، ويصف محاولة القبض عليه كأنما سيلقون عليه بشبكة فيسأل الرب أن يخرجه منها ، ثم نرى بعد ذلك تسلميه لمشيئة الله والتي عبر عنها في الأناجيل بقوله ( .... ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت ) وقوله ( ..... ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ) ، وذلك بعد أن دعا الله أن يخلصه من الصلب ، فهو هنا إنما لتقواه قد استسلم لمشيئة الله وهو ما نقرؤه في (عبرانيين ص 5 : 7) (الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه .) ونرى المزمور يعبر عن هذا التسليم بقوله (في يدك استودع روحي )، وإنه لحقاً في يد الله يستودع روحه إذ يسلم بمشيئته أن يصلب ، كأنه بذلك يقول ، وبعد أن دعا الله أن يخلصه من الصلب ، أن هذي روحي بين يديك ، إن شئت فأقبضها ، وإن شئت فنجني كما دعوتك .
إلا أن المزمور يؤكد بعد ذلك أن الله مخلصه إذ يقول ( فديتني يا رب إله الحق ) ثم يزيد تخليصه له تأكيدا فيقول (أبتهج وأفرح برحمتك لأنك نظرت إلي مذلتي وعرفت في الشدائد نفسي ، ولم تحبسني في يد العدو بل أقمت في الرحب رجلي.) فأي تعبير أوضح وأدق من هذا ، حتى يشير المزمور إلى لحظة محاولة القبض على المسيح وتخليص الله له عندئذ من قوله (ولم تحبسني في يد العدو ) ، وأي تعبير أوضح وأدق مما يقوله المزمور بعد ذلك مباشرة (بل أقمت في الرحب رجلي) مؤكداً بذلك أن عدم حبسه في يد العدو كان بإقامة رجله في الرحب ، وهل ذلك غير السماء كما سبق أن رأينا.(1/135)
ويعود المزمور فيكرر الدعاء إلى الله أن يرحمه لأنه في ضيق ، والضيق في حياة المسيح كما سبق أن رأينا هو يوم محاولة القبض عليه والذي كان يظن أنه سيؤدي إلى صلبه ، وقد بان أثر هذا الضيق في دعائه وصلاته وتضرعه لله أن يخلصه من الصلب ويقول المزمور بعد ذلك أنه قد صار عاراً عند كل أعدائه ، ولقد يختلط ذلك في الأذهان بما ورد في المزمور العشرين من قول المصلوب فيه (أما أنا فدودة لا إنسان عار عند البشر ) حيث انتهينا إلى أن المسيح لا يمكن أن يكون هو القائل لذلك ، والواقع أن الآيتين تختلفان تمام الاختلاف رغم اتفاقهما في كل عار ، فالقائل في المزمور 22 أنه عار عند البشر لا يمكن أن يكون هو المسيح عليه السلام لما وجدناه من أن كلمة البشر هذه لا تضم شخصاً دون آخر أو جيلاً دون غيره ولا حتى شعباً دون غيره ، وإنما تنصرف إلى الناس جميعاً ، أما هنا في المزمور الحادي والثلاثون فالمتكلم فيه يقول أنه قد صار عاراً بالتحديد عند كل أعدائه ، وعند الأعداء دون غيرهم ، وهو قول ليس فيه ثمة ما يمنع أن يكون عن المسيح نفسه عليه السلام ، فقد كان عاراً عند أعدائه بغير شك ، ولكن عند أعدائه فقط دون سواهم ، إذ هو عند غيرهم مجد وفخر ، ثم يمضي المزمور فيقول أنه قد صار ليس فقط عاراً عند أعدائه ، بل أيضا صار رعباً لمعارفه ، ونراه يشرح بعد ذلك بالتفصيل كيف كان رعباً لمعارفه فيقول (الذين رأوني خارجاً هربوا عني) ، وهو يشير هنا إلى هرب تلاميذ المسيح عند خروجه لمن أتوا للقبض عليه ، بل إن إنجيل متي يشير إلى الآية الأخيرة في هذا المزمور باعتبار أنها تتنبأ بالفعل عن هذه الواقعة فيقول عن لحظة محاولة القبض علي المسيح (وأما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الأنبياء حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا ) (26 : 56) ، ويمضي المزمور بعد ذلك مشيراً إلى التآمر على المسيح مؤكداً أنه يرمز إلى محاولة القبض عليه فيقول (الخوف مستدير يربي بمؤامرتهم معاً(1/136)
على ، تفكروا في أخذ نفسي) ، وما أخذ نفسه إلا القبض عليه.
وإذ يقف المزمور بنا هنا في اللحظة التي ألتف فيها الأعداء حول المسيح للقبض عليه ، ويهرب فيها تلاميذه ، نري المسيح يتوكل على الله فيقول له أنه إلهه وفي يده آجاله ، ويسأله أن ينجيه من أعدائه وأن يضئ بوجهه عبده ويخلصه برحمته ولا يدعه يخزي لأنه دعاه ، ويسأله أيضاً أن يخز الأشرار ، وهم بالطبع من أتوا للقبض عليه وعلى رأسهم يهوذا الاسخريوطى ومن معه ، وأن يسكنهم في الهاوية ، أليست هي الهاوية التي دعا في المزامير السابقة ليتخلص منها ، ورأينا الله في المزامير السابقة يصعد نفسه منها ، فكيف يسكن أعداءه فيها إلا برفعه وتخليصه وصلب يهوذا بدلاً منه ، وبعد هذا يستطرد المزمور بلسان الحمد والشكر لله شاكراً له عظيم جوده الذي ادخره لخائفيه ، والذي فعله للمتكلين عليه ، ثم يؤكد استجابة الرب له ورحمته به بقوله (مبارك الرب لأنه جعل عجباً رحمته لي في مدينة محصنة .) ، فأي رحمة هذه يرحمها الله لمسيحه ، أهي صلبه ، أم تخليصه من الصلب ، وأي عجب أعجب من هذه الرحمة التي رحمها الله لمسيحه من أن يرفعه إليه من بين القائمين عليه ليمسكوه ، فلا يحبسه في أيديهم ، وإنما يرسل من العلا فيأخذه ، أليست هذه هي الرحمة العجيبة التي رحمها له الله ونطق بها المزمور ، بل إن هذا الذي خانه وأتي ليرشد عنه يقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً منه ، فهل أعجب من كل هذا تكون رحمة الرب ، إنه بذلك ليرحمه مستجيباً لدعائه أن يخزى الأشرار ويسكنهم في الهاوية فيقعون بذلك في الحفرة التي حفروها .(1/137)
ويستطرد المزمور بعد هذا فيشير إلى أنه وحتى هذه اللحظة التي خلص الله فيها مسيحه برفعه إليه من بين من قدموا للقبض عليه ، حتى هذه اللحظة يحسب المسيح أن الله قد لا يستجيبه ، وقد فصلنا ذلك في شرحنا لأول المزمور من قول المسيح عليه السلام في الأناجيل ( .... ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك .) ، وهذه الحيرة نفسها يعبر عنها المزمور فيقول (وأنا قلت في حيرتي قد انقطعت من قدام عينيك .) ، ويقطع المزمور بعد هذا بأن ذلك الظن لم يكن صحيحاً وبأن الله إنما سيستجيب له فيقول (ولكنك سمعت صوت تضرعي إذ صرخت إليك .) .
وهكذا لا تجد في هذا المزمور إلا نبوءة صريحة بتخليص الله للمسيح عليه السلام من بين أعدائه عند قدومهم للقبض عليه ، فلا يحبسه بين أيديهم ، بل يرفعه عالياً إليه ، موضحاً أنه في هذه اللحظة سيهرب من كان مع المسيح من تلاميذه ، وإلى هذه اللحظة يحسب المسيح أن الله قد لا يستجيب دعاءه ، ولكن الواقع أنه قد استجاب له ، ولكن في آخر لحظة ، عندما وصلوا إليه ليقبضوا عليه .
المزمور الرابع والثلاثون : (لداود عندما غير عقله قدام ابيمالك فطرده فانطلق).
(أبارك الرب في كل حين ، دائماً تسبيحه في فمي ، بالرب تفتخر نفسي ، يسمع الودعاء فيفرحون ، عظموا الرب معي ولعل اسمه معا .
طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني ، نظروا إلى واستناروا ووجوههم لم تخجل ، هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلصه .
ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم ، ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب ، طوبي للرجل المتوكل عليه ، اتقوا الرب يا قديسيه لأنه ليس عوز لمتقيه ، الأشبال احتجت وجاعت وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير.(1/138)
هلم أيها البنون استمعوا إلى فأعلمكم مخافة الرب ، من هو الإنسان الذي يهوي الحياة ويحب كثرة الأيام ليري خيراً ، صن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلم بالغش ، حد عن الشر واصنع الخير ، أطلب السلامة واسع وراءها ، عينا الرب نحو الصديقين وأذناه إلى صراخهم ، وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم ، ألئك صرخوا والرب ومن كل شدائدهم أنقذهم .
قريب هو الرب من المنكسرى القلوب ويخلص المنسحقي الروح ، كثيرة بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب ، يحفظ جميع عظامه ، واحد منها لا ينكسر ، الشر يميت الشرير ومبغضو الصديق يعاقبون ، الرب فادي نفوس عبيده وكل من اتكل عليه لا يعاقب ).
ونقرأ في التعليق على هذا المزمور في ص 57 من كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته :
( 29 - تنبؤ داود النبي 1056 ق. م بعدم كسر عظام يسوع المسيح بعد صلبه :
مز 34 ... ( يحفظ جميع عظامه .... واحد منها لا ينكسر ..).
هذه النبوءة تشير إلى عدم كسر عظام يسوع المسيح بعد صلبه على الصليب . إذ جرت العادة عند اليهود أن المصلوبين لا يستمر وجودهم على الصليب حتى يوم السبت ، ولما كان الصلب في يوم الجمعة فقد أتي العسكر ليكسروا عظام رجليه لإنزاله من على الصليب ولكنهم وجدوه قد مات فلم تكسر عظام رجليه أي حفظت جميع عظامه وواحدة منها لم تنكسر تحقيقاً لما تقوله نبوءة الكتاب .
يو 19 : 32 - 33 ، 36 (فأتي العكسر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه ، وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه .)(1/139)
فهذا المزمور إذن ، وبدليل كتابي هو ما ورد في إنجيل يوحنا ، يرمز عند المسيحيين للمسيح عليه السلام ، ونحن نراه في المزمور يبدأ بتسبيح الرب لأنه طلب إليه فاستجاب له ومن كل مخاوفه أنقذه ، ونعرف من قوله مخاوفه أن الدعاء المقصود هنا هو ذلك الذي كان عند المخاوف ، ولم تكن هذه المخاوف كما نعلم إلا عند قدوم يهوذا ومن معه للقبض على المسيح ، والدعاء المقصود هنا إذن هو ذاك الذي دعاه في هذا الحين ، أي أن يخلصه الله من الصلب ، وهو ما يؤكد المزمور حدوثه - أي تخليصه من الصلب - بقوله أن الرب استجاب له ومن كل مخاوفه أنقذه ، وبأنه استمعه ومن كل ضيقاته خلصه ، ولا يكون ذلك إلا بتخليصه من الصلب وليس يصلبه ، ثم هو يؤكد ذلك ثانية فيقول (كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب ) ، فإذا استطرد بعد ذلك وقال (يحفظ جميع عظامه ، واحد منها لا ينكسر .) فإننا نتساءل كيف يكون ذلك ، كيف لا ينكسر واحد من عظامه ، هل بصلبه كما يقولون وعدم كسر الجند لساقيه ، أم بعدم صلبه على الإطلاق ، إن المستحيل أن يصلب شخص ولا ينكسر عظم منه ، ولينظر أي قارئ إلى يديه ورجليه وليقل أين يمكن أن تثقب يدان ورجلان ولا يمر الثقب في عظم ، إن ثقب اليدين والرجلين لابد يقيناً أن يكسر به عظم ، ولذا فعدم كسر الجند لساقي المصلوب لا يعني بحال أن عظما لم يكسر منه ، وإنما هو هذا الذي لم يصلب من يصدق عليه القول أن عظماً لم يكسر منه ، وإذا كان هو المسيح عليه السلام ، فإنه لم يصلب بل خلصه الله ، استجاب لدعائه ورفعه إليه فخلصه بذلك من الصلب وحفظ جميع عظامه وواحد منها لم ينكسر ، ثم يتحدث المزمور بعد ذلك عن هذا الشرير الذي خان سيده وأتي ليرشد عنه من يبيضون عينيه ليحاكموه ويصلبوه فيقول عنه (الشر يميت الشرير) ، تماماً كما قال المزامير من قبل (كراجيا ، حفرة فسقط في الهوة التي صنع.) و (الشرير يعلق بعمل يديه) ، وهنا أيضاً (الشر يميت الشرير) ، نعم ،(1/140)
فإنه بالقبض عليه بدلاً من المسيح بعد أن خانه ، ومحاكمته وصلبه بعد ذلك ، بهذا يكون شره فعلا قد أماته .
وهكذا ، وإذ يجد المسيحيون في هذا المزمور نبوءة عن المسيح ، فإننا نجد فيها بحق أنها نبوءة كاملة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه .
المزمور الخامس والثلاثون : (لداود)
(خاصم يا رب مخاصمي ، قاتل مقاتلي ، أمسك مجناً وترساً وانهض إلى معونتي واشرع رمحاً وصد تلقاء مطاردي ، قل لنفسي خلاصك أنا ، ليخز ويخجل الذين يطلبون نفسي ، ليرتد إلى الوراء ويخجل المتفكرون باساءتي ، ليكونوا مثل العصافة قدام الريح وملاك الرب داحرهم ، ليكن طريقهم ظلاماً وزلفاً وملاك الرب طاردهم ، لأنهم بلا سبب حفروا لنفسي ، لتأته التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع ، أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه ). (1 - 9)
وفي التعليق على هذا المزمور نقرأ في كتيب تأملات في المزامير - العدد 11 - وهو منسوب لآباء الكنيسة القديسين وأصدرته كنيسة مار جرجس بالإسكندرية باسبورتنج ، نقرا في ص 53 ، 54 :
(لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم ) (7)
أن رأسنا الرب يسوع أخفي له اليهود هوة شبكتهم وظنوه قد انخدع في حبالهم ، في حين أنهم هم الذين قد خدعوا أنفسهم ، فيهوذا كان أحد الاثني عشر ، وهو مثل لنا لأنه لابد أن نعيش في وسط الأشرار وأن نحتمل شرهم سواء عرفناهم أم لا - فقد أعطانا الرب مثالاً لئلا نفشل - كما أن مدرسة يسوع المكونة من التلاميذ الاثني عشر لم تفشل فكم بالجري يجب علينا أن نكون حكماء لأنه قد تمت النبوة عن ظهور الشر في مدرسة المسيح ، إنهم بلا سبب أخفوا لي فخاً - أي ظلماً وبهتاناً .
(لتأته التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب به الشبكة التي اخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع ). (8)
عقاب عادل ليهوذا الذي صنع الفخ فوقع فيه .(1/141)
عقاب عادل للشيطان الذي نصب فخاً لإماتة ربنا فوقع هو في الفخ وانكسرت قوته .
يتفق مع هذا قول الأمثال : من يحفر حفرة يسقط فيها ومن يدحرج حجراً تتدحرج عليه (أم 26 : 27) أن الشرير تأخذه خطيته وبحبال خطيته يمسك أم 5 : 23).
إنه المسيح إذن الداعي في هذا المزمور ، وإنه ليهوذا الاسخريوطي مقاتلة في هذا المزمور ، ذاك ما يقوله آباء الكنيسة في كتيبهم هذا ، وذاك ما أتفق معهم عليه ، فماذا يقول المسيح في هذا المزمور ، أننا نراه يسأل الرب أن يخاصم مخاصميه ويقاتل مقاتليه ويصد مطارديه ويكون خلاصه ليخز ويخجل الذين يطلبونه ، أي الذين يريدون القبض عليه ، وليرتدوا إلى الوراء ، وقد رأينا في إنجيل يوحنا أن من أرادوا القبض علي المسيح رجعوا وقتها إلى الوراء ، بل وسقطوا على الأرض ، ويمضي المزمور في هذا المعني فيطلب من الله أن يجعلهم عندئذ مثل العصافة قدام الريح ، وهذا ما يوضح سبب سقوطهم على الأرض كما ورد في إنجيل يوحنا ، ثم يوضح المزمور سبب الدعاء عليهم فيقول بأنهم قد أخفوا له هوة شبكتهم بلا سبب وحفروا له بلا سبب ، وفي هذا ما يشير إلى لحظة محاولة القبض علي المسيح عليه السلام ، فبدلاً من أن يجاهر يهوذا بسبب حضوره ، يخفيه ، ويتقدم من المسيح ليقبله ، ساتراً بذلك غرضه الأصلى ، والذي بنفس هذه القبلة ينفذه ، إذ أتي ليرشد الجند والخدام إلى المسيح ، وكانت هذه القبلة نفسها هي العلامة عليه ، وبهذا يكون أخفي هوة شبكته ، ألم يأت لصيده ، وأليست هذه القبلة ما يخفي به شبكة صيده ، فماذا تكون النتيجة ، ( لتأته التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع .) ، وهذا هو ما فسره بحق آباء الكنيسة القديسون في كتيبهم - تأملات في المزامير - بأنه عقاب عادل ليهوذا الذي صنع الفخ فوقع فيه ، وبأنه يتفق مع قول الأمثال من يحفر حفرة يسقط فيها ومن يدحرج حجراً تتدحرج عليه وأن الشرير تأخذه خطيته وبحبال خطيته(1/142)
يمسك ، وأضيف أيضاً أنه يتفق مع ما جاء في المزامير السابقة من ( كراجياً ، حفرة فسقط في الهوة التي صنع ) و (الشرير يعلق بعمل يديه ) ، ولكن بالله عليكم يا آباء الكنيسة القديسين ، يا من قلتم بهذا ، كيف يكون ، أبصلب المسيح عليه السلام ، أم بصلب يهوذا الاسخريوطي ، هل بغير صلب يهوذا يكون قد وقع في التهلكة نفسها ، أبغير صلب يهوذا تكون قد نشبت به الشبكة التي أخفاها ، أبغير صلب يهوذا يكون قد وقع في الحفرة التي حفرها ، وهل أوضح من هذا تكون النبوءة أن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب سيكون هو يهوذا الاسخريوطي لا المسيح عليه السلام والذي ينتهي المزمور بالقول على لسانه ( أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه ) .
وهكذا ، نجد في هذا المزمور ، نفس ما وجدناه في المزامير السابقة ، فهو يتضمن نبوءة واضحة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام ممن يحاولون القبض عليه ، وأيضاً عن القبض على يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه ، فيشرب بذلك نفس الكأس التي كان سيذيقها للمسيح سيده ، وفي التهلكة نفسها يقع .
المزمور السابع والثلاثون : (لداود)
(الشرير يتفكر ضد الصديق ويحرق عليه أسنانه ، الرب يضحك به لأنه رأي أن يومه آت ، الأشرار قد سلوا السيف ومدوا قوسهم لرمي المسكين والفقير لقتل المستقيم طريقهم ، سيفهم يدخل في قلبهم وقسيهم تنكسر ) (12 - 15)
(الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته ، الرب لا يتركه في يده ولا يحكم عليه عند محاكمته ، انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض ، إلى انقراض الأشرار تنظر ) (32 - 34)(1/143)
والجزء الأول الذي أوردناه في المزمور يرمز إلى تآمر يهوذا الاسخريوطي (الشرير) على المسيح (الصديق) ، ولكن المزمور يقول بأن الرب يضحك به ، وكان حرياً بالرب على الأقل ألا يضحك لو كانت المؤامرة ستنجح ، ولكن المزمور يمضي فيوضح سبب ضحك الرب بقوله أن ذلك لأنه رأي أن يوم الشرير آت ، ولا يعني ذلك إلا أن المؤامرة نفسها هي التي ستجعل يوم الشرير يأتي ، وهذا ما يستطرد المزمور فيوضحه بكل جلاء حين يقول عن الأشرار أنهم بعد أن سلوا السيف ومدوا قوسهم لرمي المسكين والفقير لقتل المستقيم طريقهم ، رمزاً للمؤامرة على المسيح بطبيعة الحال ، فإذا بسيفهم يدخل في قلبهم وقسيهم تنكسر ، ومن هنا نعرف لماذا يضحك الرب من مؤامرتهم ، وكيف أنه بذلك عرف أن يوم الشرير آت ، ذلك أن المؤامرة انقلبت على هذا الشرير ، ولا يكون ذلك ، والمزمور يقول إذا بسيفهم يدخل في قلبهم ، إلا بالقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً من المسيح ، إذ بذلك يكون سيفه قد دخل في قلبه ووقع في نفس الحفرة التي صنع كما وجدنا في المزامير السابقة .(1/144)
ويعود الجزء الآخر الذي أوردناه من المزمور فيؤكد كل ذلك ، فهو يقول أن الشرير ، وهو هنا يهوذا يراقب الصديق ، الذي يرمز إلى المسيح ، محاولاً أن يميته ، ويقطع المزمور بأن الرب لا يتركه في يده ، قاطعاً بذلك بأنه عند محاولة القبض على المسيح تنفيذاً للمؤامرة عليه ، فإنه لن يتركه في يد أعدائه ، ويمضي المزمور بعد ذلك فيقول قولاً يبدو عجباً ، فهو يقول ( ولا يحكم عليه عند محاكمته ) ، فإذا كان المسيح هو الذي يحاكم ، فكيف هنا لا يحكم عليه ، أبتبرئته ، بالطبع لا ، لأننا نعلم جميعاً أن هذا الذي حوكم قد أدين ، فكيف لو كان المسيح هو الذي يحاكم لا يحكم عليه ، مستحيل أن يتفق المزمور مع هذا الكلام ، إذن ، لو كان هذا الذي يحاكم هو يهوذا الاسخريوطي ، فهل يصح هذا الذي يقوله المزمور ، نعلم أن يهوذا في الفرض الذي يعتقده المسلمون ، رغم أنه هو الذي قبض عليه وحوكم وصلب بدلاً من المسيح ، إلا أنه لم يحاكم باعتباره يهوذا ، وإنما حوكم باعتباره المسيح ، والحكم صدر أيضاً بإدانته ولكن باعتباره صادراً على المسيح ، وليس على يهوذا ، إذن المحاكمة معقودة لمحاكمة المسيح ، ولكن الذي يحاكم في الواقع أمامهم هو يهوذا الاسخريوطي ، والحكم يصدر باعتباره صادراً على المسيح نفسه ، ولكن الذي يحكم عليه هو يهوذا الاسخريوطي ، أما المسيح فليس هو هذا الذي يحكم عليه في الواقع وإن انعقدت المحاكمة لمحاكمته أصلاً ، وبذلك يصدق ما قاله المزمور ( ولا يحكم عليه عند محاكمته ..) ، وهكذا لا يعود في هذا القول من المزمور أي عجب ، إذ ليس فيه إلا التطابق الكامل مع الفرض الذي يعتقده المسلمون ، وأخيراً فإن المزمور ينتهي بتأكيد تخليص الله للمسيح ، مشيراً إلى كيفية هذا التخليص بقوله " فيرفعك " ، كما أنه يشير إلى ما سيحيق بيهوذا بقوله (إلى انقراض الأشرار تنظر .)(1/145)
وهكذا نجد في هذا المزمور نبوءة كاملة لتخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته على أنه المسيح ، فيصدر الحكم في الواقع على يهوذا رغم أن المحاكمة انعقدت لمحاكمة المسيح وليس يهوذا ، وإذ يصدر الحكم على يهوذا فإنه ينفذ عليه ويصلب بدلاً من المسيح عليه السلام .
المزمور الأربعون : ( لإمام المغنين ، مزمور لداود)
(انتظار انتظرت الرب فمال إلى وسمع صراخي ، وأصعدني من جب الهلاك من طين الحمأة وأقام على صخرة رجلي ، ثبت خطواتي ، وجعل في فمي ترنيمة جديدة تسبيحة لإلهنا ) (1 - 3)
وترمز هذه الآيات إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، وتوضح أن الله قد سمع له ، وتصف كيفية تخليصه فتقول أنه أصعده من جب الهلاك من طين الحمأة ، مشبهاً بذلك الذين التفوا حول المسيح ليقبضوا عليه بجب الهلاك وطين الحمأة ، وإنهم حقاً لكذلك لأنهم إنما بغوا هلاكه ، ويضيف المتحدث أن الله قد جعل بذلك في فمه ترنيمة جديدة يسبحه بها ، ولاشك أنها ترنيمة خلاصه التي لا يكاد مزمور يخلو منها .
المزمور الحادي والأربعون : ( لإمام المغنين ، مزمور لداود)
(طوبي للذي ينظر إلى المسكين ، في يوم الشر ينجيه الرب ، الرب يحفظه ويحييه يغتبط في الأرض ولا يسلمه إلى مرام أعدائه ، الرب يعضده وهو على فراش الضعف مهدت مضجعه كله في مرضه .
أنا قلت يا رب ارحمني ، اشف نفسي لأني قد أخطأت إليك ، أعدائي يتقاولون على بشر ، متى يموت ويبيد اسمه ، وإن دخل ليراني يتكلم بالكذب . قلبه يجمع لنفسه إثماً . يخرج . في الخارج يتكلم كل مبغضي معاً . تفكروا بأذيتي ، يقولون أمر رديء قد انسكب عليه ، حيث اضطجع لا يعود يقوم . أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع علي عقبه .(1/146)
أما أنت يا رب فارحمني وأقمني فأجازيهم بهذا علمت أنك سررت بي أنه لم يهتف على عدوي ، أما أنا فبكمالي دعمتني وأقمتني قدامك إلى الأبد ، مبارك الرب إله إسرائيل من الأزل وإلى الأبد . آمين فآمين .)
ولهذا المزمور أهمية خاصة عند المسيحيين ، فقد جاء في إنجيل يوحنا على لسان المسيح عليه السلام ما يفيد أن هذا ا لمزمور يتنبأ عنه ، إذ جاء على لسانه في هذا الإنجيل (لكن لكي يتم الكتاب ، الذي يأكل معي الخبز رفع على عقبه . أقول فهذا الكتاب الذي يشير إليه المسيح في إنجيل يوحنا هو ما ورد في هذا المزمور من قوله ( .... آكل خبزي رفع علي عقبه ) ، وعلى هذا فإن هذا المزمور عند المسيحيين يتنبأ عن المسيح ، وفي هذا المعني نقرأ في كتيب تأملات في المزامير ص 7 :
( وإن دخل ليراني يتكلم بالكذب قلبه يجمع لنفسه إثماً يخرج في الخارج يتكلم )
( أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي ورفع علي عقبه )
هاتان الآيتان تنطبقان على يهوذا الأسخريوطي فهو تكلم بالكذب - تكلم مع الرب بكلام معسول وخرج خارجاً وتكلم بكلام آخر ، من أجل ذلك هو جمع لنفسه آثماً .
وهو أيضاً رجل سلامة الرب لأنه أحد الاثني عشر تلميذاً أحباء الرب ورجال سلامته الذين وثق بهم لذلك قال له الرب (أبقبلة تسلم ابن الإنسان ) .
وهو الذي أكل خبزه (الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه ) يو 13 : 6.
وهكذا يصل المزمور إلى درجة عالية في الدقة من النبوة عن الرب يسوع وتسليم يهوذا له .)
ونفس المعني نقرأه في كتاب قضية الصليب للقس لبيب ميخائيل ص 87 و كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته نقرأ فيه ص 49 و 50 :
( 20 - تنبؤ داود النبي 1056 ق. م. بخيانة يهوذا الأسخريوطي ليسوع المسيح وتسليمه لليهود وعلم الرب يسوع السابق بذلك :
من 41 :9 ( أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع علي عقبه )(1/147)
هذه النبوءة تشير إلى خيانة يهوذا الأسخريوطي أحد الاثني عشر تلميذاً معلمه يسوع المسيح الذي يثق به إذ هو من خاصته الذين اختارهم وائتمنهم على ذاته (رجل سلامتي الذي وثقت به ).
كذلك تحققت بقية النبوة في تحديدها للشخص الذي أسلم يسوع المسيح إذ يقول :
( آكل خبزي رفع علي عقبه ) وهو ما تحقق في أحداث العهد الجديد ، إذ تشهد الأناجيل بأن مسلم الرب يسوع هو الآكل الخبز معه ) .
ونحن نجد أن أول ما يبدأ به المزمور هو تأكيده تخليص الله للمسيح عليه السلام في يوم الشر وهو بطبيعة الحال يوم يحاول المتآمرون القبض عليه فيقول (في يوم الشر ينجيه الرب . الرب يحفظه ويجيبه . يغتبط في الأرض ولا يسلمه إلى مرام أعدائه ) والمزمور يؤكد أنه في يوم الشر هذا سينجيه الرب ، سيحفظه ويحييه ، لا يسلمه إلى مرام أعدائه ، وذلك كله لا يكون إلا بتخليصه منهم وليس بصلبه بطبيعة الحال فهذا ما راموا إليه ، وينتهي المزمور بتأكيد تخليص الله له بقوله أن الله قد دعمه بكماله وأقامه قدامه إلى الأبد .
وبهذا ، لا نجد في هذا المزمور الذي يؤمن المسيحيون بأنه يتنبأ عن المسيح عليه السلام ، وتآمر يهوذا الأسخريوطي عليه ، لا نجد فيه إلا نبوءة صريحة بأن سينجيه فيخلصه من أعدائه ولا يسلمه لمرامهم .
المزمور الرابع والخمسون : ( لإمام المغنين على ذوات الأوتار . قصيدة لداود عندما أتي الزيفيون وقالوا لشاول أليس داود مختبئاً عندنا )
(اللهم باسمك خلصني ، وبقوتك احكم لي ، اسمع يا الله صلاتي اصغ إلى كلام فمي ، لأن غرباء على وعتاة طلبوا نفسي . لم يجعلوا الله أمامهم . سلاه . هو ذا الله معين لي . الرب بين عاضدي نفسي . يرجع الشر على أعدائي . بحقك افنهم . أذبح لك منتدباً . أحمد اسمك يا رب لأنه صالح . لأنه من كل ضيق نجاني وبأعدائي رأت عيني .)(1/148)
والمزمور يرمز بوضوح إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، فهو يطلب من الله أن يخلصه وأن يسمع صلاته ويصغي إلى كلام فمه ، ويعلل الدعاء أن غرباء قاموا عليه وعتاة طلبوا نفسه ، رامزاً بذلك إلى من تقدموا من المسيح للقبض عليه فكلهم غرباء عنه عدا يهوذا لأنهم لم يكونوا يعرفونه ، وفيهم العتاة بطبيعة الحال ، ثم يمضي المزمور مؤكداً استجابة الله للدعاء حين يقول أن الله معينه وبين عاضدي نفسه ، بل ويشير إلى ما سيحيق بيهوذا فيقول أن الشر يرجع على أعدائه ، تماماً كما وجدنا في المزامير السابقة عبارات كراجياً حفرة فسقط في الهوة التي صنع والشرير يعلق بعمل يديه ويرجع سيفه إلى قلبه ، فنفس المعني يؤديه قوله أن الشر يرجع على أعدائه ، وينتهي المزمور بإعادة تأكيد تخليص الله للمسيح بقوله أن الله من كل ضيق نجاه ، بل ويعود ويشير إلى ما سيكون مع يهوذا بقوله : أنه بأعدائه رأت عينه ،
ويلاحظ أن المزمور يبدأ بالدعاء ، ثم يستطرد مقرراً استجابة هذا الدعاء وهو ما لا يكون إلا إذا قصد به التنبؤ ، وهكذا يكون هذا المزمور نبوءة صريحة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه.
المزمور الخامس والخمسون : ( لإمام المغنين على ذوات الأوتار : قصيدة لداود )
(اصغ يا الله إلى صلاتي ولا تتغاض عن تضرعي ، استمع لي واستجب لي ، اتحير في كربتي وأضطرب ، من صوت العدو من قبل ظلم الشرير ، لأنهم يحيلون على إثما وبغضب يضطهدونني . يمخض قلبي في داخلي وأهوال الموت سقطت علي ، خوف ورعدة آتيا علي وغشيني رعب . فقلت ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح .
هاأنذا كنت أبعد هارباً وابيت في البرية . سلاه . كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء .(1/149)
أهلك يا رب فرق ألسنتهم لأني قد رأيت ظلماً وخصاماً في المدينة . نهاراً وليلاً يحيطون بها على أسوارها وإثم ومشقة في وسطها . مفاسد في وسطها ولا يبرح من ساحتها ظلم وغش . لأنه ليس عدو يعيرني فأحتمل ، ليس مبغضي تعظم على فأختبئ منه ، بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي ، الذي معه كانت تحلو لنا العشرة . إلي بيت الله كنا نذهب في الجمهور . ليبغتهم الموت ، لينحدروا إلى الهاوية أحياء ، لأن في مساكنهم في وسطهم شروراً ) .
أما أنا فإلي الله أصرخ والرب يخلصني ) (1 - 16)
وعن هذا المزمور نقرأ في صفحة 87 من كتاب قضية الصليب :
(2- سلم المسيح لليهود صاحب من تلاميذه .
وقد تنبأ عن ذلك صاحب المزمور فقال ( لأنه ليس عدو يعيرني فأحتمل ليس مبغضي تعظم فأختبئ منه ، بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي ، الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور ) مز 55 : 12 - 14 كما جاءت هذه النبوءة في مزمور آخر ( أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع علي عقبه ) مز 41 : 9 ، وتمت هذه النبوءة وذكرها متى أيضاً قائلاً ( وفيما هو يتكلم إذا يهوذا واحد من الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة ... فللوقت تقدم إلى يسوع وقال السلام يا سيدي . وقبله . فقال له يسوع يا صاحب إذا جئت حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه ) متى 26 : 47 و 49 و 50) .(1/150)
فهذا المزمور إذن يرمز إلى المسيح ويتحدث بلسانه ، هو هنا يطلب إلى الله أن يصغي إلى صلاته وألا يتغاضي عن تضرعه ، ثم يصف محاولة القبض عليه بأن أهوال الموت سقطت عليه ويتمني لو كان له جناحاً كالحمامة فيطير ويستريح ، ولعل في ذلك رمز إلى أن تخليصه لا يكون إلا على نحو ذلك ، أي أن يطير أو يرفع ، ثم يمضي المزمور فيستمطر لعنة الله على أعدائه ، ونشعر بالمرارة التي يحسها ، وهو يعرف أن هذا الذي قدم على رأس الأعداء لم يكن عدوه من قبل ، ولذا فهو يتمني لو كان عدواً له فيحتمل غدره ، ولكن الذي يفعل هذا هو إنسان عديله ، إلفه ، وصديقه الذي كانت معه تحلو العشرة ، إنه يهوذا أحد تلاميذه ، إلى بيت الله كانا يذهبان في الجمهور ، لذلك فإن الألم لخيانته لا يحتمل ، ولذا يدعو الله أن يبغته والآخرين الموت ، وأن ينحدروا إلى الهاوية أحياء ، ترى ، أليس الصلب هاوية ، وألم يصلب المصلوب حياً ، والمزمور يشير بعد ذلك إلى ما سيكون من أمر المسيح فيقول أنه إلى الله يصرخ والله يخلصه ، وما ذلك إلا ليؤكد استجابة دعائه في أول المزمور .
وبذلك نتبين أن هذا المزمور الذي يري المسيحيون أنه يتنبأ عن المسيح عليه السلام ، أنه إنما يتنبأ بخيانة يهوذا للمسيح فيأتي إليه على رأس الأعداء ليرشد عنه ، وأن المسيح سيدعو الله أن يخلصه من الصلب ، ويستجيبه الله.
المزمور السادس والخمسون : ( لإمام المغنين على الحمامة البكما بين الغرباء مذهبة لداود عندما أخذه الفلسطينيون في جت )(1/151)
( ارحمني يا الله لأن الإنسان يتهمني واليوم كله محارباً يضايقني ، تهممني أعدائي اليوم كله لأن كثيرين يقاومونني بكبرياء . في يوم خوفي أنا عليك أتكل . الله أفتخر بكلامه على الله توكلت فلا أخاف . ماذا يصنعه بي البشر . اليوم كله يحرفون كلامي . على كل أفكارهم بالشر . يجتمعون يختفون يلاحظون خطواتي عندما ترصدوا نفسي . على إثمهم جازهم . بغضب أخضع الشعوب يا الله ، تيهاني راقبت اجعل أنت دموعي في زفك ، أما هي في سفرك .
حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء في يوم أدعوك فيه ، هذا قد علمته لأن الله لي ، الله أفتخر بكلامه . على الله توكلت فلا أخاف ، ماذا يصنعه بي الإنسان ، اللهم على نذورك ، أوفي ذبائح شكر لك ، لأنك نجيت نفسي من الموت . نعم ورجلي من الزلق لكي أسير قدام الله في نور الأحياء .)
والمزمور يبدأ فيرمز إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، ويصف تربص أعدائه به ويسأل الله أن يجازيهم على إنهم ، ثم يقول أنه يوم يدعو الرب يرتد أعدائه إلى الوراء ، وقد سبق أن رأينا أنه ورد في إنجيل يوحنا عمن أتوا للقبض على المسيح أنه لما قال لهم - يقصد يسوع الناصري - رجعوا إلى الوراء ، ويمضي المزمور فيؤكد قصة التنبؤ بقوله ( هذا قد علمته ) ، ثم يمضي المزمور بعد ذلك فيحمد الله لأنه نجي نفسه من الموت ، مشيراً بذلك إلى استجابة الدعاء الذي بدأ به المزمور ، والمزمور على هذا النحو ، إذ يبدأ بالدعاء وينتهي باستجابته إنما يكون مقصوداً به التنبؤ ، خاصة مع قوله أنه قد علم هذا الذي يقوله ، وبهذا يكون المزمور نبوءة صريحة عن تخليص الله للمسيح من الصلب .
المزمور السابع والخمسون : ( لإمام المغنين ، على لا تهلك ، لداود عندما هرب من قدام شاول في المغارة )(1/152)
(ارحمني يا الله ارحمني لأنه بك احتمت نفسي وبظل جناحيك أحتمي إلى أن تعبر المصائب . أصرخ إلى الله العلي المحامي عني . يرسل من السماء ويخلصني ، عبر الذي يتهمني . سلاه . يرسل الله رحمته وحقه . نفسي بين الأشبال . أضطجع بين المتقدمين بني آدم أسنانهم أسنة وسهام ولسانهم سيف ماض ، ارتفع اللهم على السماوات ، ليرتفع على كل الأرض مجدك . هيأوا شبكة لخطواتي ، انحنت نفسي ، حفروا قدامي حفرة . سقطوا في وسطها .سلاه .) (1 - 6)
والمزمور يبدأ فيرمز إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه ، فهو يصرخ إلى الله العلي إلى الله المحامي عنه ، وهنا يقطع المزمور باستجابة الله لهذا الدعاء ، بل ويصف كيف تكون هذه الاستجابة فيقول (يرسل من السماء ويخلصني ) ، فأي معني يتضمنه ذلك إلا أن الله رافعه ، فمن السماء أرسل إليه ، وإلى السماء يأخذه ، وقد وجدنا مثل هذا من قبل مثل قوله أنه أرسل من العلا فأخذه ، ولا ينتهي المزمور بعد حمد الله قبل أن يشير إلى هذا الذي سيناله الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي قدم على رأس أعداء المسيح فيقول المزمور ( حفروا قدامي حفرة ، سقطوا في وسطها ) ، وهو نفس ما وجدناه في المزامير السابقة وفهمنا أن معناه أن يهوذا سيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً من المسيح إذ بذلك وحده يكون قد سقط وسط الحفرة التي حفرها للمسيح ، وذلك بطبيعة الحال بعد تخليص الله للمسيح ورفعه إليه ، والمزمور إذ يبدأ بالدعاء ثم يقرر استجابته يبين لنا بذلك أنه قصد التنبؤ بهذا ، وهكذا يكون من هذا المزمور أيضاً نبوءة صريحة عن تخليص المسيح ورفعه والقبض على يهوذا وصلبه بدلاً منه .
المزمور الرابع والستون : (لإمام المغنين : مزمور لداود)(1/153)
(استمع يا الله صوتي في شكواي ، من خوف العدو احفظ حياتي ، استرني من مؤامرة الأشرار من جمهور فاعلي الإثم ، الذين صقلوا ألسنتهم كالسيف ، فوقوا سهمهم كلاماً مراً ليرموا الكامل في المختفي بغتة يرمونه ولا يخشون ، يشددون أنفسهم لأمر رديء ، يتحادثون بطمر فخاخ ، قالوا من يراهم ، يخترعون إثماً تمموا اختراعاً محكماً ، وداخل الإنسان وقلبه عميق .
فيرميهم الله بسهم بغتة كانت ضربتهم ، ويوقعون ألسنتهم على أنفسهم ، ينغض الرأس كل من ينظر إليهم ، ويخشي كل إنسان ويخبر بفعل الله وبعمله يفطنون بفرح الصديق بالرب ويحتمي به ويبتهج كل المستقيمي القلوب )
والمزمور إذ يبدأ بالدعاء وينتهي باستجابة هذا الدعاء نفهم منه لذلك قصد التنبؤ بما حواه ، وهو هنا يبدأ بالرمز إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب أن يستمع صوته في شكواه ، أن يحفظ حياته من خوف العدو ، وأن يستره من مؤامرة الأشرار ومن جمهور فاعلي الإثم ، رامزاً بكل ذلك إلى دعاء المسيح ، ثم يشير المزمور بعد ذلك إلى ما سيكون للخائن يهوذا الأسخريوطي الذي خان المسيح وجاء مع الأعداء ليرشدهم عنه فيقول ( ويوقعون ألسنتهم على أنفسهم ) ، ويطابق هذا القول في معناه ما سبق أن قرأناه من أنهم يؤخذون بالمؤامرة التي تفكروا بها ويسقطون في الحفرة التي حفروها ، وبذا فإن يهوذا يحيق به ما أعده للمسيح ، فيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً منه ، والمزمور بذلك نبوءة صريحة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام وصلب يهوذا بدلاً منه .
المزمور التاسع والستون : ( لإمام المغنين على السوسن . لداود)
(خلصني يا الله لأن المياه قد دخلت إلى نفسي ، غرقت في حمأة عميقة وليس مقر . دخلت إلى أعماق المياه والسيل غمرني . تعبت من صراخي . يبس حلقي . كلت عيناي من انتظار إلهي . أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب . اعتز مستهلكي أعدائي ظلماً . حينئذ رددت الذي لم أخطفه .(1/154)
يا الله أنت عرفت حماقتي وذنوبي عنك لم تخف . لا يخز بي منتظروك يا سيد رب الجنود . لا يخجل بي ملتمسوك يا إله إسرائيل . لأني من أجلك احتملت العار . غطي الخجل وجهي . صرت أجنبياً عند إخوتي وغريباً عند بني أمي . لأن غيرة بيتك اكلتني وتعييرات معيريك وقعت علي . وابكيت بصوم نفسي فصار ذلك عاراً على . جعلت لباسي مسحاً وصرت لهم مثلاً . يتكلم في الجالسون في الباب وأغاني شرابي المسكر .
أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضي يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك . نجني من الطين فلا أغرق نجني من مبغضي ومن أعماق المياه . لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية على فاها. استجب لي يا رب لأن رحمتك صالحة . ككثرة مراحمك التفت إلي . ولا تحجب وجهك عن عبدك . لأن لي ضيقاً . استجب لي سريعاً . اقترب إلي نفسي . فكها . بسبب أعدائي أفدني . أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي . قدامك جميع مضايقي . العار قد كسر قلبي فمرضت . انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد . ويجعلون في طعامي علقماً وفي عطشي يسقونني خلاً .) (1 - 21)
ونلاحظ بالنسبة لهذا المزمور أن فيه إشارة لأمر ما مما كان مع هذا الذي ذكرت الأناجيل أنه صلب ، فآخر آية ذكرناها تقول ( ويجعلون في طعامي علقماً وفي عطشي يسقونني خلاً .) ، وفي جميع الأناجيل نجد فيها أن المصلوب قد ملئت له اسفنجة خلاً وجعلت على قصبة وسقي منها ، بل إن إنجيل يوحنا يوضح أن ذلك الأمر هو ما سبق التنبؤ به إذ جاء فيه ( بعد هذا رأي يسوع أن كل شيء قد كمل فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان . وكان أناء موضوعاً مملوا خلاً . فملأوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه .) (ص 19 : 28 و 29) وفي هذا المعني نقرأ في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته ص 55 و 56 :
(27 - تنبؤ داود النبي 1056 ق.م بعطش يسوع المسيح وهو على الصليب وإذاقته خلا ممزوجا بمرارة :(1/155)
مز 9 : 21 (ويجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا ).
هذه النبوءة تشير إلى عطش الرب يسوع المسيح وهو مصلوب على الصليب واعطائه خلا ممزوجاً بمرارة (علقما) ليشرب .كما تشهد الأناجيل بذلك .)
كما نقرأ عن نفس المزمور في نفس الكتاب ص 53 :
(24 - تنبؤ داود النبي 1056 ق.م بتعبير واستهزاء شعب اليهود ورؤسائه ليسوع المسيح أثناء محاكمته وصلبه :
مز 69 : 9 ( وتعبيرات معيريك وقعت علي ) ...
هذه النبوءة تشير إلى واقعة تعبير واستهزاء الشعب اليهودي ورؤسائه من الكتبة ورؤساء الكهنة ليسوع المسيح له المجد أثناء محاكمته وصلبه كما تشهد الأناجيل بذلك .)
المزمور إذن يشير إلى المصلوب وهو على الصليب ، فمن هو هذا المصلوب الذي يتنبأ عنه المزمور ، هل هو المسيح كما يعتقد المسيحيون ، أم يهوذا الأسخريوطي على ما جري به اعتقاد المسلمين .(1/156)
أول ما نلاحظه في هذا المزمور أن صيغة الدعاء فيه تختلف اختلافاً واضحاً عن صيغة الدعاء في المزامير السابقة التي رأينا أنها تشير إلى المسيح عليه السلام ودعائه لله أن يخلصه من الصلب ، فمن ناحية نلاحظ أن الدعاء في المزامير السابقة كان يقترن بالقطع استجابته ، ومن ذلك (بصوتي إلى الرب أصرخ فيجيبني من جبل قدسه ) . (مز 3 : 4) و (أنظر مذلتي من بغضي يا رافعي من أبواب الموت ) .(مز 9 : 13) و (طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني ). (مز 34 : 4) ومن ناحية أخرى ، نلاحظ أن الداعي إذ كان يدعو الله أن يستجيب لدعائه كان يقطع بأن هذا الدعاء حقيق باستجابته بمجرد إعمال العدل ومعاملة الداعي حسب قلبه وحسب كماله الذي فيه كقوله ( أخرجني إلى الرحب . خلصني لأنه سر بي . يكافئني الرب حسب بري . حسب طهارة يدي يرد إلي . لأني حفظت طرق الرب ولم أعص إلهي . لأن جميع أحكامه أمامي وفرائضه لم أبعدها عن نفسي . وأكون كاملاً معه وأتحفظ من إثمي . فيرد الرب لي كبري وكطهارة يدي أمام عينيه ) . (مز 18 : 19 - 24) ، ومن هذا أيضاً (ليعطك حسب قلبك) . (مز 20 : 4) ، ففي المزامير السابقة يدعو الداعي الله ويطلب منه وهو يعلم أنه لمجرد الحق والعدل فإن دعاءه حقيق بأن يستجاب ، ثم إنه لمستجاب بالفعل ، وذلك كله بعكس الحال في هذا المزمور ، فهو إذ يسأل الله أن يستجيب لدعائه ، لا يقول بأن ذلك يتفق مع الحق والعدل ، أو مع كماله الذي فيه ، وإنما هو يسأله طمعاً في كثرة مراحمه ، فيقول (ككثرة مراحمك التفت إلي ) ، كما يقول (بكثرة رحمتك استجب لي) ، ومن هذا نفهم أن الداعي يعرف أن مجرد رحمة الله لا تكفي لاستجابته ، بل بكثرة مراحمه ، والطمع في كثرة مراحم الله فقط ، هو ما جعل الداعي يأمل أن يستجاب دعاؤه .(1/157)
فلماذا تختلف صيغة الدعاء في هذا المزمور عنه في المزامير السابقة ، ألا يدل ذلك على اختلاف شخص الداعي في هذا المزمور عن شخص ذاك الداعي في المزامير السابقة ، ألا يدل على أن الداعي هنا يعلم أن دعاءه غير حقيق باستجابته إلا طمعاً في كثرة مراحم الله ، ثم لماذا كان هذا الموقف من الداعي ، لابد أن إثماً عظيماً ارتكبه حتى جعل دعاءه على هذا النحو ، وهذا هو ما يؤكده لنا الداعي في هذا المزمور حين نراه يتحدث عن نفسه فيه فيقول لله أنه - أي الله - قد عرف حماقته وذنوبه عنه لم نخف ، ثم يعود مؤكداً نفس المعني بقوله لله أنه - أي الله - عرف عاره وخزيه وخجله ، وشخص مثل هذا حاله لا ينتظر بطبيعة الحال أن يستجيب الله دعاءه إلا طمعاً في كثرة مراحم الله التي تسع الناس جميعاً حتى هو بالرغم من عاره وخزيه وخجله ، فمن هو الذي يعرف عنه الله كل هذا ، أمسيحه الكريم ، هل عرف الله له حماقة وذنوباً ، هل عرف له عاراً وخزياً وخجلاً ، حاشي لله أن يكون هذا عن المسيح كله ، بل حاشي لله أن يكون أي شيء منه عن المسيح ، فلم نعرف عنه إلا كل ما يجعله يفخر ، ولم يعرف الله عنه غير هذا ، والناس جميعاً لم يعرفوا عنه إلا كل ما يفاخرون به ، أما هذا الذي ينطبق عليه كل هذا القول ، فهل هو غير يهوذا ، أليس هو الذي خان المسيح فكلل نفسه بذلك أمام الله والناس بالعار والخزي والخجل ، ولكنه مع كل هذا يطمع في كثرة مراحم الله ، يطمع في أن يستجيب له ، بل إنه ليحدوه الأمل في أن يستجيب الله له ، وألا يتركه ليصلب هو الآخر ، ولكن ذنبه كان أكبر من أن يغفر ، ذنبه كان أكبر من أن يترك بغير عقاب ، فيتركه ليصلب ، وهنا نتساءل ، أليس في ضوء كل ذلك ، نستطيع أن نعرف لماذا كانت صيحته على الصليب ( إلهي إلهي لماذا تركتني) .(1/158)
ونقرأ في المزمور أيضاً على لسان الداعي (صرت أجنبياً عند أخوتي وغريباً عند بني أمي .) ، ولو كان المصلوب هو المسيح عليه السلام ، فكيف صار على الصليب غريباً عند بني أمه وأجنبياً عند أخوته ، ألا ينبئنا هذا القول بأن الذي سيصلب وسيحسبه الناس المسيح عليه السلام ، لن يكون هو ، بل آخر ، وإذ يحسب الناس هذا الآخر المسيح نفسه ، فإنه - أي المصلوب - يصير بذلك أجنبياً عند إخوته وغريباً عند بني أمه ، أي أنهم لم يعرفوا أنه يهوذا إذ ظنوه المسيح ، وبهذا يستقيم معني الآية المذكورة ونفهمه ، أما القول بأن الذي صلب هو نفسه المسيح ، فقول لا تستقيم به على الإطلاق معاني الآية .
ثم إن المزمور يقول أيضاً على لسان المصلوب (حينئذ رددت الذي لم أخطفه ) وعلى ما يبدو في هذا المزمور من غرابة في هذه الآية ، فإن الغرابة لا تقوم إلا مع القول بأن المسيح هو الذي صلب ، لأننا لا نفهم حينئذ معني لقوله أنه رد الذي لم يخطفه ، ولكن الغرابة تزول حين نقول أن الذي صلب هو يهوذا الأسخريوطي ، فهو قد حاول بمؤامرته للقبض على المسيح ، بخطفه من بين تلاميذه ، ولكن الله خلصه منه وممن معه ورفعه إليه من بين أيديهم ، فهو إذن وإن أتي ليخطفه ، إلا أنه لم يخطفه ، فكيف هو رغم ذلك رده ، والإجابة على ذلك تتضح في سكوته بعد ذلك وإصراره الواضح في الأناجيل على عدم الكشف عن حقيقة شخصيته ، وكأنما هو بذلك في ظنه يحفظ المسيح منهم ، فيصلبونه ظناً منهم أنهم يصلبون المسيح بينما المسيح بعيد عن أيديهم كما يعتقد ، وهو بذلك كأنما يكفر عن خطيئته ويحفظ المسيح نفسه ، ومن ثم فكأنما هو يرد هذا الذي لم يخطفه بالتستر على حقيقة شخصيته هو - أي يهوذا - رغم أنه لم يخطفه بالفعل .
والمزمور من أوله يؤكد اليأس واقتراب النهاية ، وينتهي باليأس أيضاً ، وهو إنما يرمز بحق إلى يهوذا الأسخريوطي دون المسيح كما فصلنا ، ومن ثم فهو نبوءة بصلبه ، أي بصلب يهوذا .(1)(1/159)
المزمور السبعون : (لإمام المغنين . لداود للتذكير)
(اللهم لم تنجيني يا رب إلي معونتي أسرع . ليخز ويخجل طالبو نفسي . ليرتد إلي خلف ويخجل المشتهون لي شراً . ليرجع من أجل خزيهم القائلون هه هه . وليبتهج ويفرح بك كل طالبيك وليقل دائماً محبو خلاصك ليتعظم الرب . أما أنا فمسكين وفقير . اللهم أسرع إلي . معيني ومنقذي أنت . يا رب ل تبطؤ .)
وإذ يرمز هذا المزمور إلي دعاء المسيح لله أن يخلصه ، نراه لا يدعو بذلك فحسب ، بل يدعو أيضاً بأن يخز ويخجل طالبو نفسه ، ولقد وجدنا هذا الخزي وذلك الخجل واضحين في المزمور السابق مما يقطع بأن هذا الذي يخز ويخجل ليس المسيح ولكنه يهوذا طالبه ، الذي أراد به الشر فسعي ليرشد عنه ويقبض عليه ليقتل ، والمزمور يمضي فيطلب أن يرتد إلى خلف ويخجل المشتهون له شراً ، وهو هنا يعطينا سورة لما كان عند محاولة القبض على المسيح وقاله يوحنا في إنجيله من أنهم عندئذ رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض ، وينتهي المزمور مؤكداً تخليص المسيح بقوله أن الله معينه ومنقذه .
المزمور الحادي والسبعون :
( بك يا رب احتميت فلا أخزى إلى الدهر . بعد لك نجني وأنقذني . أمل إلى أذنك وخلصني . كن لي صخرة ملجأ أدخله دائماً . أمرت بخلاصي لأنك صخرتي وحصني . يا إلهي نجني من يد الشرير من كف فاعل الشر والظالم . لأنك أنت رجائي يا سيدي الرب متكلي منذ صباي . عليك استندت من البطن وأنت مخرجي من أحشاء أمي بك تسبيحي دائماً . صرت كآية لكثيرين . أما أنت فملجاي القوي . يمتلئ فمي من تسبيحك اليوم كله من مجدك.
لا ترفضني في زمن الشيخوخة . لا تتركني عند فناء قوتي . لأن أعدائي تقاولوا على والذين يرصدون نفسي تآمروا معاً . قائلين أن الله قد تركه . ألحقوه .(1/160)
وأمسكوه لأنه لا منقذ له ، يا الله لا تبعد عني يا إلهي إلي معونتي أسرع ، ليخزويفن مخاصموا نفسي . ليلبس العار والخجل الملتمسون لي شراً . أما أنا فأرجو دائماً وأزيد على كل تسبيحك . فمن يحدث بعد لك اليوم كله بخلاصك لأني لا أعرف لها أعداداً . آتي بجبروت السيد الرب . اذكر برك وحدك ) (1 - 16)
(تبتهج شفتاي إذ أرنم لك ونفسي التي فديتها . ولساني أيضاً اليوم كله يلهج ببرك . لأنه قد خزي قد خجل الملتمسون لي شراً ) (23 و 24) .
وإذ يبدأ المزمور بالرمز إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه ، نراه يسأله أن ينجيه وينقذه بعدله ، فالعدل إذن أن ينقذه ويخلصه ، ثم يقطع المزمور بعد ذلك باستجابة هذا الدعاء فيقول لله (أمرت بخلاصي لأنك صخرتي وحصني .) ، ويكرر المزمور الدعاء بعد ذلك ، ويسأل الله أن يلبس العار والخجل الملتمسين له شراً ، بل وينتهي مؤكداً أن من التمسوا له شراً قد خزوا وخجلوا ، مؤكداً بذلك أن هذا الذي خزي وخجل في المزمورين السابقين هو من التمس شراً للمسيح أي يهوذا الأسخريوطي ، ويعود المزمور فيؤكد تخليص الله للمسيح بقوله أن فمه يحدث بعدل الله اليوم كله وبخلاصه ، وينتهي المزمور بتأكيد تخليص الله للمسيح بقوله (تبتهج شفتاي إذ أرنم لك ونفسي التي فديتها ) ، والمزمور إذ يبدأ بالدعاء ، ثم يؤكد استجابة هذا الدعاء ، يكون قد قصد به التنبؤ بما حواه وفقاً لما أسلفنا ، وبذا فهو نبوءة صريحة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام .
المزمور السادس والثمانون : (صلاة لداود)
(أمل يا رب إذنك ، استجب لي . لأني مسكين وبائس أنا ، احفظ نفسي لأني تقي ، يا إلهي خلص أنت عبدك المتكل عليك ، ارحمني يا رب لأنني إليك أصرخ اليوم كله ، فرح نفسك عبدك لأنني إليك يا رب أرفع رأسي . لأنك أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليك .
اصغ يا رب إلي صلاتي وانصت إلى صوت تضرعاتي . في يوم ضيقي أدعوك لأنك تستجيب لي ) (1 - 7)(1/161)
(أحمدك يا رب إلهي من كل قلبي وأمجد اسمك إلي الدهر ، لأن رحمتك عظيمة نحوي وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلي . اللهم المتكبرون قد قاموا على وجماعة العتاة طلبوا نفسي ولم يجعلوك أمامهم . أما أنت يا رب فإله رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة والحق . التفت إلي وارحمني . أعط عبدك قوتك وخلص ابن أمتك . اصغ معي آية للخير فيري ذلك مبغضي فيخزوا لأنك أنت يا رب أعنتني وعزيتني ) ( 12 - 17)
والمزمور يبدأ فيرمز إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه ، مؤكداً ذلك بقوله بعد ذلك (في يوم ضيقي أدعوك) ، ويوم الضيق في حياة المسيح كما تعلم هو يوم يحاول أعداؤه القبض عليه لصلبه ، والدعاء الذي دعاه في ذلك اليوم هو أن يرفع الله عنه كأس الصلب ، والمزمور يستطرد مؤكداً أن الله سيستجيب هذا الدعاء بقوله (لأنك تستجيب لي .) ، وأخيراً يؤكد المزمور استجابة الله لهذا الدعاء بحمد الله لأنه نجاه من الهاوية السفلي ، وهي هنا صلبه بطبيعة الحال ، وإذ بدأ المزمور بالدعاء وانتهي إلى استجابته نفهم من ذلك قصده التنبؤ كما أسلفنا ، وهو بذلك نبوءة صريحة عن تخليص الله للمسيح عليه السلام .
المزمور الثامن والثمانون : ( تصبيحة مزمور لبني قورح . لإمام المغنين على العود للغناء : قصيدة لهممان الازراحي )
( يا رب إله خلاصي بالنهار والليل صرخت أمامك ، فلتأت قدامك صلاتي . أمل أذنك إلى صراخي . لأنه قد شيعت من المصائب نفسي وحياتي إلي الهاوية دنت . حسبت مثل المنحدرين إلى الجب . صرت كرجل لا قوة له .بين الأموات فراشي مثل القتلي المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد وهم من يدك انقطعوا . وضعتني في الجب الأسفل في ظلمات في أعماق . علي استقر غضبك وبكل تياراتك ذللتني . سلاه . أبعدت عن معارفي . جعلتني رجساً لهم . أغلق على فما أخرج عيني ذابت من الذل دعوتك يا رب كل يوم . بسطت إليك يدي ) ( 1 - 9)(1/162)
(لماذا يا رب ترفض نفسي . لماذا تحجب وجهك عني . أنا مسكين ومسلم الروح منذ صباي . احتملت أهوالك . تحيرت . على عبر سخطك . أهوالك أهلكتني أحاطت بي كالمياه اليوم كله . اكتنفتني معاً . أبعدت عني محباً وصاحباً . معارفي في الظلمة .) ( 14 - 18)
في هذا المزمور نرى الداعي يائساً كل اليأس ، بل إننا نراه قد انتهي إلى أن بين الأموات فراشة مثل القتلي المضطجعين في القبر الذين لا يذكرهم الله وهم من يده قد انقطعوا ، وبذلك نعرف أن المزمور يتنبأ ، إذ المفروض أن المتحدث لم يمت بعد ، وإذ تحدث عن موته ، فلابد أن موت آخر تنبأ عنه ، وهو هنا من صلب فمن هو ، أن المزمور يكمل بعد ذلك فيقول أن الله قد وضعه في الجب الأسفل في ظلمات في أعماق ، ولو أن المسيح هو الذي صلب لقال المزمور أن الأشرار وليس الله هم الذين فعلوا به ذلك ، أما أن يكون الله فاعل ذلك ، فليس المسيح إذن من صلب ، وتؤكد الآيات هذا المعني فيقول المتحدث أن عليه استقر كل غضب الله وبكل تياراته ذله . وأبعد عنه معارفه وجعله رجساً لهم ، فمن يمكن أن يكون هذا غير يهوذا الاسخريوطي ، ليس المسيح من يمكن أن يستقر عليه غضب الله أو أن يذله الله بكل تياراته ، فما استحق المسيح من الله إلا رحمته ورضاه ، ولكنه يهوذا الذي استحق ذلك لخيانته ، كما أن الله لم يبعد المسيح عن معارفه أو يجعله رجساً لهم ، ونعرف من المزمور أن على المتحدث فيه عبر سخط الله وأهوال الله أهلكته وأبعد الله عنه محباً وصاحباً ، ومعارفيه في الظلمة ، وذلك من الله أبداً لا يكون للمسيح الكريم وإنما ليهوذا الذي خانه ، وهكذا فالمزمور هنا يحدد لنا شخصية المصلوب يهوذا الاسخريوطي وليس المسيح عليه السلام .
المزمور الحادي والتسعون :(1/163)
(الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت ، أقول للرب ملجاي وحصني إلهي فأتكل عليه . لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوباء الخطر . بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي . ترس ومجن حقه . لا تخشي من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار . ولا من وباء يسلك في الدجي ولا من هلاك يفسد في الظهيرة .
يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك . إليك لا يقرب . إنما بعينيك تنظر وتري مجازاة الأشرار .
لأنك قلت أنت ربي وملجاي . جعلت العلي مسكنك ، لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك . لأنه يرضي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك . علي الأيدي يحملونك لئلا تضدم بحجر رجلك . على الأسد والصل تطأ . الشبل والثعبان تدوس . لأنه تغلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف اسمي . يدعوني فأستجب له . معه أنا في الضيق . أنقذه وأمجده . من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي .)(1/164)
وأول ما نلاحظه في هذا المزمور أن في الأناجيل إشارة إلى أن المقصود منه هو المسيح عليه السلام ، فقد جاء في إنجيل متى ( ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس ، فبعد ما صار أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً . فنقدم إليه المجرب ... وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل . لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك . فعلي أياديهم يحملونك لكي تصدم بحجر رجلك . قال له يسوع مكتوب أيضاً لا تجرب الرب إلهك .) (ص 4 : 1 - 7) ، كما جاء في إنجيل لوقا عن تجربة إبليس للمسيح (ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل ، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بلك لكي يحفظوك ، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك . فأجاب يسوع وقال له أنه قيل لا تجرب الرب إلهك .) (ص 4 : 6 - 12) وهذا الذي قال إبليس أنه مكتوب عن المسيح عليه السلام وجاءت إجابة المسيح له مؤيدة أنه مكتوب عنه ، هو ما نقرأه في هذا المزمور من قوله ( لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك في كل طرقك ، علي الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك ) وعلى هذا فإن هذا المزمور عند المسيحيين يتنبأ عن المسيح عليه السلام .
وفي هذا المعني نقرأ في كتاب تفسير المزامير للقديس أغسطينوس (الجزء الأول وهو من منشورات بيت التكريس بحلوان) في صفحة 155 :
( هذا هو المزمور الذي اقتبس منه الشيطان إذ تجاسر على أن يجرب ربنا يسوع المسيح )
كما نقرأ في نفس الكتاب ص 173 :
( على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رحلك ) (ع 12).
عندما أصعد المسيح إلى السماء كان محمولاً على أيدي الملائكة ، وليس هذا معناه أنه لو لم تحمله الملائكة لكان قد سقط ، بل المعني أنها حملت ملكها إذ كانت واقفة في خدمته وتحت أمره . فلا تقل أن الملائكة التي حملته أفضل ممن حمل ...)(1/165)
المزمور إذن عند المسيحيين يتنبأ عن المسيح ، بل ويبين كيفية رفعه إلى السماء ، فبم تنبأ ؟
أن المزمور يقول على لسان المسيح - باعتبار أنه يتنبأ عنه - أن الرب حصنه وملجأه ، ثم هو ينجيه من فخ الصياد ، فأي فخ وأي صياد هذا الذي ينجيه الله منه ، أليس هذا التعبير يتحدث عن محاولة القبض على المسيح ، أليس ذلك فخ نصب له ، أليست القبلة التي كانت علامة عليه هي الفخ الذي أراد يهوذا إيقاع المسيح به ليقبض عليه أعداؤه ، أليس تعبير الفخ هنا دقيق عن ذلك ، فكيف ينجيه الله منه ، إن هذا ما يستطرد المزمور موضحاً له بقوله أنه بخوافيه يظلله وتحت أجنحته يحتمي ويسقط عن جانبه ألف وإليه لا يقرب ، ما أوضح ما يعبر به هذا الكلام عن تخليص الله للمسيح من بين من قدموا للقبض عليه ، لقد أعماهم عنه ، بخوافيه ظلله وتحت أجنحته احتمي ، فلا يعرفون أنه قد ارتفع من بينهم ، وألف يسقطون عن جانبه وإليه لا يقرب ، فمن هم هؤلاء الألف الذين يسقطون ، أليسوا هم من يحاولون القبض على المسيح فنقرأ عنهم في إنجيل يوحنا أنهم في هذه اللحظة رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض ، والألف هذا العدد بالذات ، قريب منه جداً مما نقرأه في كتاب الحق للقمص باسيليوس إسحق (الذي يحاول به الرد على هذا الكتاب) فإنه يقول في ص 73 :
(القبض على المسيح .
كانت القوة التي نيط بها القبض على المسيح مكونة من :
1- كتيبة من الجنود الرومانيين والكتيبة كان في العادة عددها 600 جندياً مسلحاً بقيادة ضابط روماني .
2- الخدام : وهم الموظفون اليهود الملحقون بمحكمة السندرهيم (وهي المحكمة اليهودية العليا) وموظفو إدارة بوليس الهيكل يحملون سيوفاً وعصي .
في البستان حيث كان المسيح :
ذهبت القوتان المسلحتان ، ... )(1/166)
إذن فعدد من قدموا للقبض على المسيح يتكون من ستمائة جندي وهم أفراد الكتيبة الرومانية ، ومن الموظفين اليهود الملحقون بمحكمة السندرهيم وموظفي إدارة بوليس الهيكل ، وهؤلاء أيضاً لابد وأن عددهم كان كبيراً وقريباً من عدد الكتيبة حتى أن السيد الكاتب يعتبر المجموع مكوناً من قوتين لا من قوة واحدة ، فما مجموع هاتين القوتين ، ألا يكون بذلك قريباً من الألف ، أو قد يكون ألفاً تماماً .
فماذا يكون بعد إذ يسقط هؤلاء الألف ، هل يقبضون عليه ، لا ، بل إليه لا يقرب ، هكذا يقول المزمور ، والربط بين هذا القول وبين سقوطهم يعني أنهم بعد سقوطهم لا يستطيعون أن يقربوا منه ، فلماذا ذلك إلا أن يكون الله قد رفعه من بينهم ، بخوافيه أخفاه وتحته أجنحته حماه كما يقول المزمور ، ويتحدث المزمور أثر ذلك عما سيكون من أمر يهوذا الأسخريوطي إذ بعد قوله أن إليه - أي المسيح - لا يقرب ، نراه يقول له أن بعينيه ينظر ويري مجازاة الأشرار ، أليس ذلك يهوذا الأسخريوطي مقبوضاً عليه ومصلوباً بدلاً منه ، ويمضي المزمور بعد ذلك مؤكداً تخليص الله للمسيح عليه السلام في هذه اللحظة بالذات ورفعه إليه ، فهو يقول عن المسيح أنه لأنه قال لله يا رب أنت ملجأي جعل العلي مسكنه ، وما ذلك ليكون إلا برفعه إليه ، ثم هو يؤكد أنهم لن ينالوه بقوله أنه لا يلاقيه شر ولا تدنو ضربة من خيمته ، ثم نصل إلى هذا الكلام الذي جرب به إبليس المسيح ونعرف من رد المسيح أنه يؤيد أنه المقصود بهذا الكلام ولكن لا يطيع إبليس لأنه مكتوب أيضاً (لا تجرب الرب إلهك) ، وللمرء أن يتساءل ، فإذا كان المسيح هو المقصود بهذا الكلام فمتي تحقق ، إن المسيح على علمه أن هذا الكلام مكتوب عنه رفض أن يجربه لأنه مكتوب (لا تجرب الرب إلهك) ، فكيف إذن كان هذا الكلام مكتوباً عنه إلا أن يتحقق فيه بالفعل ، وإنما في الوقت الذي يختاره الله وليس المسيح حتى لا يجرب بذلك ربه ، ولكن ليس معني ألا يجرب(1/167)
المسيح ربه أن ما كتب عنه لن يتحقق ، بل لابد وأن يتحقق ، وإلا لما صح اعتباره مكتوباً عنه ، فهل تحقق ذلك ألا يرفع المسيح عليه السلام ، وهو ما يقول به في كتابه كما رأينا القديس أغسطينوس ، ولكن متى كان ذلك ، هل في المزمور ما يشير إلى لحظة أخرى غير محاولة القبض على المسيح ، أبداً ، فكل ما فيه يشير تماماً إلى تلك اللحظة ، والمزمور نفسه إذ يستطرد يقطع بأن المقصود منه هو رفع المسيح في هذه اللحظة إذ يقول (لأنه تعلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف اسمي) ، ويوضح المزمور أن ذلك كله إنما كان استجابة لدعاء المسيح فيقول (يدعوني فأستجب له) ، ويوضح المزمور أن الدعاء المقصود بالذات هو دعاء المسيح يوم يحاولون القبض عليه ليصلبوه ، أي لدعاء المسيح في يوم ضيقه فيقول (معه أنا في الضيق) ، ويؤكد ثانية أن الله سيخلصه عندئذ بقوله (أنقذه وأمجده) ، والربط بين الإنقاذ والتمجيد هنا إشارة إلى أن إنقاذه يكون بطريق يمجده ، وأي تمجيد للمسيح أكثر من أن يكون تخليصه وإنقاذه من بين أعدائه برفعه إلى الله وذلك ما ينتهي المزمور بتأكيده حين يقول (من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي .)
وهكذا ، فإذا المتفق عليه أن هذا المزمور يتنبأ عن المسيح عليه السلام ، لا نجده قد تنبأ إلا بتخليص الله له في يوم الضيق ، مستجيباً لدعائه في ذلك اليوم ، فينقذه ويرفعه عالياً إليه ، وبذا يكون هذا المزمور نبوءة قاطعة في صراحتها ، وفي تفاصيلها ، عن تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه ، بل وفيه أيضاً إشارة إلى ما سيحيق بيهوذا الأسخريوطي الذي خان السيد المسيح سيده .
المزمور المئة والتاسع : ( لإمام المغنين . لداود . مزمور)
( يا إله تسبيحي لا تسكت . لأنه قد انفتح على فم الشرير وفم الغش . تكلموا معي بلسان كذب . بكلام بغض أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب . بدل محبتي يخاصمونني . أما أنا فصلاة . وضعوا على شرا بدل خير وبغضا بدل حبي .(1/168)
فأقم أنت عليه شريراً وليقف شيطان عن يمينه . إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية . لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر . ليكن بنوه أيتاماً وامرأته أرملة . ليته بنوه تيهاناً ويستعطوا . ويلتمسوا خبزاً من خربهم . ليصطد المرابي كل ماله ولينهب الغرباء تعبه . لا يكن له باسط رحمة ولا يكن مترأف على يتاماه. لتنقرض ذريته . في الجيل القادم ليمح اسمهم ليذكر إثم آبائه لدي الرب ولا تمح خطية أمه . لتكن أمام الرب دائماً وليقرض من الأرض ذكرهم . من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً والمنسحق القلب ليميته . وأحب اللعنة فأتته ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه . وليس اللعنة مثل ثوبه فدخلت كمياه في حشاه وكزيت في عظامه . لتكن له كثوب يتعطف به وكمنطقة يتنطق بها دائماً . هذه أجرة مبغضي من عند الرب وأجرة المتكلمين شراً على نفسي . (1 - 20)
(أعني يا رب إلهي . خلصني حسب رحمتك . وليعلموا أن هذه هي يدك . أنت يا رب فعلت هذا . أما هم فيلعنون . وأما أنت فتبارك . قاموا وخزوا . أما عبدك فيفرح . ليلبس خصمائي خجلاً وليتعطفوا بخزيهم كالرداء . أحمد الرب جداً وفي وسط كثيرين أسبحه . لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه .) (26 - 31)
وهذا المزمور بالذات قد أشير إليه في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل (وهو السفر التالي للأناجيل مباشرة في كتاب العهد الجديد من الكتاب المقدس ) إلى أن يهوذا الاسخريوطي هو المقصود ببعض ما ورد فيه ، حيث جاء في هذا الإصحاح :(1/169)
( وفي تلك الأيام قام بطرس في وسط التلاميذ . وكان عدة أسماء معاً نحو مئة وعشرين . فقال . أيها الرجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع إذ كان معدوداً بيننا وصار له نصيب في هذه الخدمة . فإن هذا اقتني حقلاً من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها . وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دماً أي حقل دم لأنه مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر . فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج . منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا يصير واحد منهم شاهداً معنا بقيامته . فأقاموا اثنين يوسف الذي يدعي بارسابا الملقب يوستس ومتياس . وصلوا قائلين أيا الرب العارف قلوب الجميع عين أنت من هذين الاثنين آيا اخترته . ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة التي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه . ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحسب مع الأحد عشر رسولاً ) (15 - 26)(1/170)
والمزمور المائة والتاسع هذا هو الذي وردت فيه الآية التي أشار إليها بطرس في هذا الإصحاح من سفر أعمال الرسل والتي تقول (ووظيفته ليأخذها آخر .) وعلى هذا ، فإن هذا المزمور ، وفي الشق الذي تضمنته هذه الآية ، وبدليل كتابي عند المسيحيين ، يرمز إلى يهوذا الاسخريوطي ويتنبأ عنه ، فإذا ما طالعنا هذا الجزء من المزمور ، نجده يقول قبل هذه الآية مباشرة (إذا حوكم فليخرج مذنباً) ونحن نعرف أن هذا الذي حوكم في الأناجيل قد أدين أي خرج مذنباً ، فمن هو الذي حوكم وأدين ثم صلب ، أليس يهوذا الاسخريوطي والذي يقول بطرس الرسول أن هذا الجزء من المزمور يتنبأ عنه ، أن الأمر هنا لأوضح من أن يحتاج لشرح أو يقبل مكابرة ، فأي مستهدف للحقيقة يجب أن يقر بذلك ، ومن غير المعقول أن تقتطع من المزمور آية ويقال أنها ترمز ليهوذا وتستبعد الآية السابقة لها من هذا الرمز رغم أن المزمور يربط بينهما بما لا يقبلان معه انفصالاً ، وإلا فمتي حوكم يهوذا وخرج مذنباً إن لم يكن هو هذا الذي حوكم على أنه المسيح .
والشطر الأول من المزمور واضح ارتباطه بالشطر الأخير منه ، وأن المتحدث فيهما واحد ، فهو في الأول يتحدث عن الأشرار الذين تحدثوا عنه بغش وأحاطوا به وقاتلوه بلا سبب ، وهذا كله يرمز إلى من قدموا للقبض على المسيح ، وفي الشطر الثاني نجد المسيح يستمطر اللعنة على هذا الشرير والذي حدده بطرس بأنه يهوذا الاسخريوطي ، ونعرف من ذلك أن يهوذا هو الذي قبض عليه وحوكم وأدين ، وفي الشطر الأخير نري المسيح يسأل الله أن يخلصه حسب رحمته وليعلم الناس أن التي خلصته هي يد الله ، ويشير إلى الذين تآمروا عليه بأنهم يلعنون ويخزون ويخجلون ، أما هو ، أي المسيح ، فيفرح ، لتخليص الله له بالطبع ، ويحمد الرب جداً ويسبحه لأنه يخلصه ، وهذا التخليص هو الذي تؤكده نهاية المزمور والتي تقول (لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه .)(1/171)
وعلى هذا ، فلا يكون في هذا المزمور إلا نبوءة صريحة عن تخليص الله للمسيح مستجيباً لدعائه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وإدانته وبالتالي صلبه بدلاً من المسيح .(1)
المزمور المئة والثامن عشر :
(احمدوا الرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته ، ليقل إسرائيل أن إلى الأبد رحمته ، ليقل بيت هرون أن إلى الأبد رحمته ، ليقل متقو الرب أن إلى الأبد رحمته .
من الضيق دعوت الرب فأجابني من الرحب . الرب لي فلا أخاف ، ماذا يصنع بي الإنسان ، الرب لي بين معيني وأنا سأري بأعدائي ، الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان ، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء ، كل الأمم أحاطوا بي ، باسم الرب أبيدهم ، أحاطوا بي واكتفوني ، باسم الرب أبيدهم ، أحاطوا بي مثل النحل . انطفأوا كنار الشوك ، باسم الرب أبيدهم ، دحرتني دحوراً لأسقط ، أما الرب فعضدني ، قوتي وترنمي الرب صار لي خلاصاً ، صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين ، يمين الرب صانعه بباسٍ . يمين الرب مرتفعة ، يمين الرب صانعة بباس ، لا أموت بل أحيا وأحدث بأعمال الرب ، تأديباً أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني .
افتحوا لي أبواب البر ، أدخل فيها وأحمد الرب ، هذا الباب للرب ، الصديقون يدخلون فيه ، أحمد لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصاً ، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية ، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا ) (1 - 23)(1/172)
وأول ما نلاحظه بالنسبة لهذا المزمور ، أن المسيح عليه السلام قد أشار إلي الآية الأخيرة التي أوردناها منه ، فقد جاء في إنجيل متى (قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب ، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية ، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا) (ص 21 : 42) ، كما جاء في إنجيل مرقس قول المسيح (أما قرأتم هذا المكتوب ، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية ، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا ) (12 : 10 ، 11) ونقرأ أيضاً في إنجيل لوقا ( فنظر إليهم وقال إذا ما هو هذا المكتوب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية ) (ص 20 : 17) ، ويشير بطرس الرسول إلى أن هذا القول قصد به المسيح وذلك في سفر أعمال الرسل حيث يقول (فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات ، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً .
هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية ) (ص 4 : 10 و 11) ، كما نقرأ في رسالة بطرس الرسول الأولى (لذلك يتضمن أيضاً هأنذا أضع في صهيون حجر زاوية مختاراً كريماً والذي يؤمن به لن يخزي ، فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة وأما الذين لا يطيعون فالحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية ) (ص 2 : 6 و 7) ، ولهذا فإن المسيحيين يعتبرون هذا المزمور رمزاً للمسيح عليه السلام ونبوءة عنه ، فما الذي يتنبأ به المزمور عن المسيح .(1/173)
وإذ نطالع المزمور نراه يبدأ بأن يذكر أنه من الضيق دعا الرب فأجابه من الرحب ، والضيق كما عرفنا في حياة المسيح هو لحظة محاولة القبض عليه لصلبه بعد ذلك ، ويؤكد المزمور قصده هذه اللحظة بقوله بعد ذلك (أحاطوا بي واكتنفوني وأحاطوا بي مثل النحل ) ، ويؤكد المزمور أن الله مستجيب دعاءه فيقول (فأجابني من الرحب ) ، ولعل في كلمة الرحب إشارة إلى كيفية تخليص المسيح برفعه إلى أعلا ، وإن كنا لا نستطيع القول بأنها نبوءة صريحة عن ذلك ، ثم يقطع المزمور بأن المسيح لن يصلب بقوله (لا أموت بل أحيا) ، وقوله أيضاً (وإلي الموت لم يسلمني) ، ثم هو يشير إلى ما سيحيق بيهوذا الاسخريوطي بقوله (وأنا سأري بأعدائي ) ، وهكذا نري في هذا المزمور والذي يري فيه المسيحيون أنه يرمز للمسيح عليه السلام ما يقطع بأنه لن يصلب .
المزمور المئة والثاني والثلاثون : (ترنيمة المصاعد)
(من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك) (10)
ولعل هذه الآية ، خير ما نختم به النبوءات في المزامير ، وهي تقطع بأن المقصود منها هو المسيح عليه السلام ، والداعي فيها يتشفع عند الله بمحبته لداود عبده ألا يرد وجه مسيحه ، مشيراً بذلك إلى دعاء المسيح عليه السلام لله يوم قدم الأعداء ليقبضوا عليه ويقتلوه ، أن يخلصه من الصلب ، أفلا يستجيب الله هذا الدعاء ، إنه لحقيق باستجابته ، وإنه لحقاً قد فعل ، فذاك ما تصيح به كل المزامير السابقة .
المبحث الثاني
الحقيقة في المزامير(1/174)
كانت هذه هي المزامير التى وجدنا أن بحثنا عن الحقيقة بين صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون ، وتخليص الله له ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، بحثنا عن الحقيقة في ذلك ، يجب أن يكون فيها ، ولقد وجدنا الحقيقة ساطعة بكل جلاء في كل ما بحثنا فيه من المزامير ، فهي تتحدث عن المؤامرة على المسيح ، وتصف المتآمرين دائماً بالأشرار ، ثم هي تتحدث عن شخص يدعوا الله أن ينجيه ، أن ينقذه ، أن يخلصه ، أن يستجيب لدعائه ، ودائماً نجد هذا الداعي باراً كريماً حقيقاً بأن يستجاب دعاؤه ، لأنه ليس في فمه غش ، كامل مع الله ، لأن الحق والعدل والرحمة كلها تقتضي أن يستجاب دعاؤه ، صورة سامية لإنسان كامل هو الداعي الذي لا يمكن أن يكون غير المسيح عليه السلام ، ودائماً ، في كل المزامير التي تناولناها ، نجد أن الله سيستجيب لدعاء هذا الكامل ، سيخلصه ، سيرفعه ، سينقذه ، دائماً تتحدث المزامير عن إنقاذ الله له وتخليصه له ، وبعدئذ ، نجد أن كل المزامير التي تتحدث عمن سيصلب ، فنري فيه صورة أخرى مغايرة تماماً للصورة الأولى ، صورة لشخص يعرف الله حماقته وذنوبه التي عنه لم تخف ، يعرف الله عاره وخزيه وخجله ، نجد فيه صورة تتكرر للشرير الذي تآمر ، ودائماً نري هذا الشرير ونعرف أنه هو الذي سيصلب ، فالشرير يعلق بعمل يديه ، كراجياً حفره فسقط في الهوة التي صنع ، انتشبت برجله الشبكة التي أخفاها ، صورة شخص كريه ، تتكرر في المزامير ، وهي دائماً التي سيحيق بها شرها نفسه ، فنعرف فيها لذلك شخصية يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح سيده ، فنال جزاء خيانته ، بأن سقط في الحفرة نفسها التي حفرها له ، فيقبض عليه هو بدلاً من المسيح وحوكم وصلب عوضاً عنه ، فشرب بذلك نفس الكأس التي أعدها لمن خانه.(1/175)
صورة كاملة ، هي تلك التي رأيناها في المزامير ، تتنبأ عن مؤامرة يهوذا الاسخريوطي مع أعداء المسيح للقبض عليه ، ثم تحركهم ليمسكوه ، وأما هو ، أي المسيح ، فيصلي لله ، ويضرع إليه ، ويدعوه ، أن يخلصه من الصلب الذي هو آت إليه على يد أعدائه ، وصوت الأعداء يقترب ، والدعاء يزيد حرارة ، حتى إذا ما وصلوا حسب المسيح للحظة أن الله قد تخلي عنه ، ولإيمانه يرضخ لمشيئة الله ، وإذ يستسلم لمن قدموا للقبض عليه ، إذا بمعجزة الله تقع ، وبقدرته تتجلي ، فإذا هو مستجيب دعاء مسيحه ، وإليه من بينهم يرفعه ويرتد الأعداء إلى الخلف ويسقطون وهم لا يدرون تفسيراً لسقوطهم ، ولا يعرفون ما حدث ، ثم إنهم لا يجدون وسطهم غير الخائن يهوذا الاسخريوطي ، والذي له بغير شك تبدت قدرة الله وجلاله ، وله بان أن الله قد رفع مسيحه ، فيقف مبهوتاً أمام عظمة العلي وقدرته ، ويقبض عليه الجند والخدام وقد ظنوه المسيح ، وهو على هذه الحال ، فيستسلم لهم ، ويحاكم بعد ذلك ويصلب ، وبذا فإنه بعمل يديه يكون قد علق.(1/176)
هذه هي الصورة التي وجدنا المزامير تتنبأ بها ، وجدناها بكاملها في بعض المزامير ، ووجدناها بهذا التسلسل في مزامير متتالية ، ووجدنا جانباً منها على حدة أو أكثر من جانب معاً في مزامير أخرى ، ولكن ، وعلى أي حال وجدناها عليه فإنه يجمع بينها جميعاً ، أنها إنما صورة واحدة هي تلك التي تجري بها النبوءات ، تتكرر فيها جميعاً ، ولكن أبداً لا تتغير ، هذا الكامل الذي ليس في فمه غش ، ولا في قلبه إثم ، يدعو الله فيستجيب له ، يخلصه ويرفعه إليه ، أما هذا الشرير الذي تآمر عليه ، فإنه يقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً منه فيعلق بذلك بعمل يديه ويسقط بهذا في نفس الحفرة التي حفرها ، وبذلك تتجلي النبوءة في أجلي صورها وأصرح معانيها وأبهى صدقها وكمالها ، أن إنما اتفقت المزامير على التنبؤ بدعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب واستجابة الله لهذا الدعاء برفعه إليه عند محاولة القبض عليه ثم القبض على يهوذا بعد ذلك ومحاكمته وصلبه بدلاً من المسيح عليه السلام جزاء وفاقاً لما قدمت يداه بأن يشرب نفس الكأس التي كان سيذيقها للمسيح سيده بعد أن خانه.
وأنه لمن الأحسن ، توضيحاً لكمال النبوءة وصراحتها وقطعها ، أن نجمع على حدة ، النبوءات التي تشير إلى كل جانب من جوانب النبوءة ، فنجمع على حدة الآيات التي تشير إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، ثم تلك الآيات التي تشير إلى استجابة الله لدعاء مسيحه بتخليصه من الصلب ، ثم أخيراً ، الآيات التي تشير إلى القبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه وبدلاً من المسيح عليه السلام ، لنستخلص من كل ذلك ، الحقيقة كما تنبأت بها المزامير .
أولاً : الآيات التي تشير إلى دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب :
(قم يا رب . خلصني يا إلهي ) (مز 3 :7)
(عند دعائي استجب لي يا إله بري . في الضيق رحبت لي . تراءف علي واسمع صلاتي ) (مز 4 :1)(1/177)
(لكلماتي أصغ يا رب . تأمل صراخي . استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي لأني إليك أصلي . يا رب الغداة تسمع صوتي . بالغداة أوجه صلاتي نحوك وأنتظر .) (مز 5 : 1 - 3)
(عد يا رب . نج نفسي . خلصني من أجل رحمتك . لأنه ليس في الموت ذكرك .) (مز 6 : 4 و 5)
(يا رب إلهي عليك توكلت . خلصني من كل الذين يطردونني ونجني .) (مز 7 : 1)
(اقض لي يا رب كحقي ومثل كمالي الذي في . لينته شر الأشرار وثبت الصديق ) (مز 7 : 8 و9)
(ارحمني يا رب . أنظر مذلتي من مبغضي ) (مز 9 :13)
(احفظني يا الله لأني عليك توكلت ) (مز 16 : 1)
(ليستجب لك الرب في يوم الضيق ، ليرفعك اسم إله يعقوب ، ليرسل لك عوناً من قدسه ومن صهيون ليعضدك ، ليذكر كل تقدماتك ويستسمن محرقاتك ، سلاه . ليعطك حسب قلبك ويتمم كل رأيك ) (مز 20 : 1-4)
(إليك يا رب أصرخ . يا صخرتي لا تتصامم من جهتي لئلا تسكت عني فأشبه الهابطين في الجب ، استمع صوت تضرعي إذ أستغيث بك وأرفع يدي إلى محراب قدسك . لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الإثم المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم .) (مز 28 : 1-3)
(إليك يا رب أصرخ وإلى السيد أتضرع ، ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة ، هل يحمدك التراب ، هي يخبر بحقك ، استمع يا رب وارحمني يا رب كن معيناً لي .) (مز 30 : 8-10)
(عليك يا رب توكلت ، لا تدعني أخزي مدي الدهر ، بعد لك نجني ، أمل إلى أذنك ، سريعاً أنقذني ، كن لي صخرة حصن بيت ملجأ لتخليصي ، لأن صخرتي ومعقلي أنت ، من أجل اسمك تهديني وتقودني ، أخرجني من الشبكة التي خبأوها لي ، لأنك أنت حصني .) (مز 31 : 1-4)
(ارحمني يا رب لأني في ضيق ) (مز 31 : 9)
(أما أنا فعليك توكلت يا رب ، قلت إلهي أنت ، في يدك آجالي ، نجني من يد أعدائي ومن الذين يطردونني ، أضئ بوجهك على عبدك ، خلصني برحمتك ، يا رب لا تدعني أخزى لأني دعوتك .) (مز 31 : 14 - 17)(1/178)
(اللهم باسمك خلصني . وبقوتك احكم لي . اسمع يا الله صلاتي اصغ إلي كلام فمي . لأن غرباء قد قاموا على وعتاة طلبوا نفسي . لم يجعلوا الله أمامهم . سلاه .) (مز 54 : 1-3)
(اصغ يا الله إلى صلاتي ولا تتغاض عن تضرعي ، استمع لي واستجب لي .) (مز 55 : 1و2)
(ارحمني يا الله لأن الإنسان يتهمني واليوم كله محارباً يضايقني . تهممني أعدائي اليوم كله لأن كثيرين يقاومونني بكبرياء . في يوم خوفي أنا عليك أتكل .) (مز 56 : 1-3)
(ارحمني يا الله ارحمني لأنه بك احتمت نفسي وبظل جناحيك أحتمي إلي أن تعبر المصائب . أصرخ إلي الله العلى المحامي عني .) (مز 57 : 1و2)
(استمع يا الله صوتي في شكواي ، من خوف العدو احفظ حياتي . استرني من مؤامرة الأشرار من جمهور فاعلي الإثم .) (مز 64 : 1و2)
(اللهم لا تنجيني يا رب إلى معونتي أسرع .) (مز 70 : 1)
(بك يا رب احتميت فلا أخزى إلى الدهر ، بعد لك نجني وأنقذني ، أمل إلى أذنك وخلصني ، كن لي صخرة ملجأ أدخله دائماً .) (مز 71 : 1-3)
(أمل يا رب أذنك . استجب لي . لأني مسكين وبائس أنا ، احفظ نفسي لأني تقي ، يا إلهي خلص أنت عبدك المتكل عليك ، ارحمني يا رب لأنني إليك أصرخ اليوم كله ، فرح نفس عبدك لأنني إليك يا رب أرفع نفسي . لأنك أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليك .
اصغ يا رب إلى صلاتي وأنصت إلى صوت تضرعاتي ، في يوم ضيقي أدعوك .) (مز 86 : 1-7)
(اللهم المتكبرون قد قاموا على وجماعة العتاة طلبوا نفسي ولم يجعلوك أمامهم . أما أنت يا رب فإله رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة والحق ، التفت إلي وارحمني ، أعط عبدك قوتك وخلص ابن أمتك . اصنع معي آية للخير فيري ذلك مبغضي فيخزوا ) (مز 86 : 14 - 17)(1/179)
( يا إله تسبيحي لا تسكت لا تسكت . لأنه قد أفتح علي فم الشرير وفم الغش ، تكلموا معي بلسان كذب ، بكلام بغض أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب ، بدل محبتي يخاصمونني ، أما أنا فصلاة ، وضعوا على شراً بدل خير وبغضاً بدل حبي .) (مز 109 : 1-5)
(من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك .) (مز 102 : 10)
وعلى اختلاف الألفاظ في الآيات السابقة ، فإنها تجتمع جميعاً عند معان واحدة ومنها ما يشير صراحة إلى أن الدعاء فيها لا يقصد به زمن حاضر ، وإنما زمن في المستقبل ، كما في القول (عند دعائي استجب لي ) والقول (يا رب بالغداة تسمع صوتي ) ، كما أن صيغة الدعاء تكشف عن أن هذا الداعي يري أنه حقيق بأن يستجاب دعاؤه ، كما في قوله (اقض لي يا رب كحقي ومثل كمالي الذي في) ، ثم هو يقول عن الأعداء أنهم (لم يجعلوا الله أمامهم) وهو يشير بالذات إلى يوم يحاول أعداء المسيح القبض عليه ليصلبوه بقوله عن ذلك اليوم (يوم الضيق) و (يوم خوفي) ، وأخيراً فإن الواضح أن الداعي يدعو الله أن يخلصه من الموت كما في القول (خلصني من أجل رحمتك ، لأنه ليس في الموت ذكرك) ، والقول ( إليك يا رب أصرخ وإلى السيد أتضرع ، ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة .) ، بل وفوق هذا فإن فيها ما يشير صراحة إلى المسيح عليه السلام كما في القول (لا ترد وجه مسيحك.) ، كما يشير إلى الصورة المرتجاة لتخليص المسيح برفعه كما في القول (ليرفعك اسم إله يعقوب .).
واستخلاص النبوءة من هذه الآيات عن دعاء المسيح لله يوم أن علم بأن الأعداء قادمون ليقبضوا عليه ويصلبوه ، عن دعائه في ذلك اليوم لله أن يعبر عنه كأس الصلب فيرفعها عنه ويخلصه من الصلب ، استخلاص النبوءة من هذه الآيات على هذا النحو لا يبدو أمراً يثير أي خلاف ، ولا يتصور قيام خلاف بشأنه ، لأنه حتى هنا ، فإن الصورتين المسيحية والإسلامية تتفقان ، وبذلك فإن هذه الآيات تتنبأ بما هو متفق عليه ولا خلاف بشأنه .(1/180)
ثانياً : الآيات التي تشير إلى تخليص الله للمسيح عن الصلب ورفعه إليه :
(بصوتي إلى الرب أصرخ فيجيبني من جبل قدسه .) (مز 3 : 4) .
(يا بني البشر حتى متى يكون مجدي عاراً . حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب . سلاه . فاعلموا أن الرب قد ميز تقيه . الرب يسمع عندما أدعوه ..) (مز 4 : 2 و 3)
(ويفرح جميع المتكلين عليك . إلى الأبد يهتفون وتظللهم ، ويبتهج بك محبو اسمك . لأنك أنت تبارك الصديق يا رب . كأنه بترس تحيطه بالرضا .) (مز 5 : 11 و 12)
(ابعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم . لأن الرب قد سمع صوت بكائي . سمع الرب تضرعي . الرب يقبل صلاتي ) (مز 6 : 8 و 9)
(ومجمع القبائل يحيط بك فعد فوقها إلى العلي .) (مز 7 : 7)
(لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي . جسدي أيضاً يسكن مطمئناً . لأنك لن تترك نفسي في الهاوية . لن تدع نقيك يري فساداً ) (مز 16 : 9 و 10)
(الرب صخرتي وحصني ومنقذي . إلهي صخرتي به أحتمي . ترسي وقرن خلاصي وملجأي . أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي . اكتنفتني حبال الموت . وسيول الهلاك أفزعتني . حبال الهاوية حاقت بي . أشراك الموت انتشبت بي في ضيقي دعوت الرب وإلي إلهي صرخت . فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدامه دخل أذنيه فارتجت الأرض وارتعشت أسس الجبال ... أرسل من العلي فأخذني . نشلني من مياه كثيرة . أنقذني من عدوي القوي ومن مبغضي لأنهم أقوي مني . أصابوني في يوم بليتي وكان الرب سندي . أخرجني إلى الرحب . خلصني لأنه سر بي .) (مز 18 : 2 - 19)
(تنقذني من مخاصمات الشعب .) (مز 18 : 43)
(حي هو الرب ومبارك صخرتي ومرتفع إله خلاصي ، الإله المنتقم لي والذي يخضع الشعوب تحتي . منجي من أعدائي . رافعي أيضاً فوق القائمين علي من الرجل الظالم تنقذني لذلك أحمدك يا رب في الأمم وأرنم لأسمك . برج خلاص لملكه والصانع رحمة لمسيحه لداود ونسله إلى الأبد ). (مز 18 : 46 - 50)(1/181)
(الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه . هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر . هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وانتصبنا . يا رب خلص . ليستجب لنا الملك في يوم دعائنا ) (مز 20 : 6 - 9)
(يا رب بقوتك يفرح الملك وبخلاصك كيف لا يبتهج جداً . شهوة قلبه أعطيته وملتمس شفتيه لم تمنعه . سلاه . لأنك تتقدمه ببركات خير .. حياة سألك فأعطيته . طول الأيام إلى الدهر والأبد . عظيم مجده بخلاصك جلالا وبهاء تضع عليه . لأنك جعلته بركات إلى الأبد ) (مز 21 : 1 - 6)
(لأنهم نصبوا عليك شراً . تفكروا بمكيدة . لم يستطيعوها .) (مز 21 : 11)
(لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر . يسترني بستر خيمته ، على صخرة يرفعني ) (مز 27 : 5)
(مبارك الرب لأنه سمع صوت تضرعي . الرب عزي وترسي عليه اتكل قلبي فانتصرت . ويبتهج قلبي وبأغنيتي أحمده . الرب عزلهم وحصن خلاص مسيحه هو .) (مز 28 : 6 - 8)
(أعظمك يا رب لأنك نشلتني ولم تشمت بي أعدائي . يا رب إلهي استغثت بك فشفيتني . يا رب أصعدت من الهاوية نفسي أحييتني من بين الهابطين في الجب .) (مز 30 : 1 - 3)
(حولت نوحي إلى رقص لي . حللت مسحي ومنطقتي فرحاً .) (مز 30 : 11)
(فديتني يا رب إله الحق ... أبتهج وأفرح برحمتك لأنك نظرت إلي مذلتي . وعرفت في الشدائد نفسي . ولم تحبسني في يد العدو بل أقمت في الرحب رجلي .) (مز 31 : 5 - 8)
(مبارك الرب لأنه جعل عجباً رحمته لي في مدينة محصنة . وأنا قلت في حيرتي أني قد انقطعت من قدام عينيك . ولكنك سمعت صوت تضرعي إذ صرخت إليك ) (مز 31 : 21 و 22)
(طلبت إلي الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني . نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل . هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلصه ) (مز 34 : 4 - 6)(1/182)
(الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته . الرب لا يتركه في يده ولا يحكم عليه عند محاكمته . انتظر الرب واحفظ طريقة فيرفعك لترث الأرض ) (مز 37 : 32 - 34)
(انتظار انتظرت الرب فمال إلي وسمع صراخي . وأصعدني من جب الهلاك من طين الحمأة وأقام على صخرة رجلي .) (مز 40 : 1 و 2)
(طوبي للذي ينظر إلى المسكين . في يوم الشر ينجيه الرب . الرب يحفظه ويحييه . ويغتبط في الأرض ولا يسلمه إلى مرام أعدائه ) (مز 41 : 1 و 2)
(أما أنا فإلي الله أصرخ والله يخلصني ) (مز 55 : 16)
(حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء في يوم أدعوك فيه . هذا قد علمته لأن الله لي . الله أفتخر بكلامه الرب أفتخر بكلامه . على الله توكلت فلا أخاف . ماذا يصنعه بي الإنسان اللهم على نذورك . أو في ذبائح شكر لك . لأنك نجيت نفسي من الموت ) (مز 56 : 9 - 13)
(أصرخ إلى الله العلى الله المحامى عني . يرسل من السماء ويخلصني ) (مز 57 : 2 و 3)
(فمي يحدث بعدلك اليوم كله بخلاصك لأني لا أعرف لها أعداداً .) (مز 71 : 15)
(تبتهج شفتاي إذا أرنم لك ونفسي التي فديتها . ولساني أيضاً اليوم كله يلهج ببرك . لأنه قد خزي قد خجل الملتمسون لي شراً .) (مز 71 : 23 و 24)
(في يوم ضيقي أدعوك لأنك تستجيب لي .) (مز 86 : 7)
(أحمدك يا رب إلهي من كل قلبي وأمجد اسمك إلي الدهر . لأن رحمتك عظيمة نحوي وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلي .) (مز 86 : 12 و 13)(1/183)
(أقول للرب ملجأي وحصني إلهي فاتكل عليه . لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوباء الخطر بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي .... يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك . إليك لا يقرب . إنما بعينيك تنظر وتري مجازلة الأشرار . لأنك قلت أنت يا رب ملجأي . جعلت العلي مسكنك . لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك . لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك علي الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك .... لأنه تعلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف اسمي . يدعوني فأستجيب له . معه أنا في الضيق . أنقذه وأمجده . من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي .) (مز 91)
(أحمد الرب جداً بفمي وفي وسط كثيرين أسبحه . لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه .) (109 : 30 و 31)
(أحببت الرب لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي . لأنه أمال أذنه إلي .) (مز 116 : 1 و 2)
(الرب حنان وصديق وإلهنا رحيم . الرب حافظ البسطاء . تذللت فخلصني . ارجعي يا نفسي إلى راحتك لأن الرب قد أحسن إليك . لأنك أنقذت نفسي من الموت .....) (مز 116 : 5 - 8)
(من الضيق دعوت الرب فأجابني من الرحب .) (مز 118 : 5)
(أما الرب فعضدني . قوتي وترنمي الرب وقد صار لي خلاصاً . صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين . يمين الرب صانعة ببأس . يمين الرب مرتفعة . يمين الرب صانعة ببأس . لا أموت بل أحيا وأحدث بكل أعمال الرب . تأديباً أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني .) (مز 118 : 13 - 18)
(أحمدك لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصاً . الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية . من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا ) (مز 118 : 21 - 23)(1/184)
وهكذا يبين لنا بكل جلاء أن المزامير إنما تنبأت عن تخليص الله للمسيح عليه السلام من الصلب ، بكل جلاء ووضوح فها هو داود النبي عليه السلام في المزمور العشرين وقد أخذ يدعو الله أن يستجيب للمسيح في يوم الضيق ويرفعه ، إذا به يقف عن الدعاء فجأة ليقول لنا أنه الآن قد عرف أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه ، وأن يعرف ذلك بينما هو يدعو الله لا يفهم إلا أن وحي الله قد أعلمه ذلك أثناء دعائه ، وهكذا وجدنا في كل ما سبق من مزامير بلغت بها الدقة في وصف كيفية تخليص الله للمسيح بأن حددت الوقت بل واللحظة التي يكون فيها ذلك ، وهي لحظة أن يهم الأعداء بالقبض على المسيح ، وبينت بأجلي صراحة أن الله مخلص مسيحه في هذه اللحظة بالذات ورافعه إليه ، فلا يقبض عليه عدوه ، بل زيادة في الدقة تصف لنا المزامير ما يكون من أمر أعداء المسيح في هذه اللحظة من رجوعهم إلي الوراء وسقوطهم على الأرض .(1/185)
وعن كل ذلك فإننا نقرأ (ومجمع القبائل يحيط بك فعد فوقها إلي العلي .) فالآية تشير إلي الأعداء يحيطون بالمسيح للقبض عليه ، فهنا يعود فوقهم إلي العلي ، وهل هذا غير أن يرفعه الله إليه ، ونقرأ (يا رافعي من أبواب الموت) ، فهنا الله سيرفع مسيحه من أبواب الموت ، وما أبدي أعداءه التي تمتد للقبض عليه إلا كأبواب الموت إذ تريد صلبه ، ومن هنا الله يرفعه ، ونقرأ (أرسل من العلي فأخذني .) ، وليس أوضح من ذلك ليقول أن تخليص المسيح سيكون برفعه إلي السماء ، وفي مثل نفس المعني نقرأ (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ..... هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل . أما نحن فاسم الرب الهنا نذكر . هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وانتصبنا .) ، وتقطع هذه الآيات بأن لحظة تخليص الله لمسيحه إنما هي لحظة أن يحاول الأعداء القبض عليه ، ونقرأ أيضاً (علي صخرة يرفعني) ، و(نشلتني) ، وكل منهما تشير إلي أن تخليص المسيح سيكون برفعه ، ثم نقرأ (ولم تحبسني في يد العدو ) ، وهي تفيد أن تخليص الله للمسيح سيكون لحظة يهم أعداؤه بالقبض عليه ، فلا يحبسه حينئذ في أيديهم ، ونقرأ (الرب لا يتركه في يده ولا يحكم عليه عند محاكمته .) ، والشطر الأول من هذه الآية يؤدي …نفس المعني الذي تؤديه الآية السابقة ، أما الشطر الثاني فيشير إلي أنه رغم ظنهم أنهم قبضوا على المسيح وحاكموه وأدانوه ، فإن هذا الحكم لا يكون عليه في الواقع لأنه الله خلصه من أيديهم وقبضوا على آخر وكان الحكم في الواقع على هذا الآخر وليس على المسيح ، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلي المعني الذي تؤدي إليه الكلمات (هم جثوا وسقطوا) في المزمور العشرين والتي تطابق ما كان مع من أتوا للقبض على المسيح من رجوعهم إلى الوراء وسقوطهم على الأرض إذ دنوا منه كما نعلم من إنجيل يوحنا.(1/186)
وعلى هذا النحو وجدنا النبوءات في المزامير السابقة ، صورة واحدة تتكرر ولا تتغير ، وتشير دائماً إلي اللحظة التي يخلص الله مسيحه فيها ، وهي لحظة يحاول أعداؤه القبض عليه فيها ، وتشير دائماً إلى كيفية تخليص الله له عندئذ ، فتقول أن ذلك يكون برفعه إلي السماء ، إلي الله ، صراحة ، أو بألفاظ أخرى تؤدي نفس المعني ضمناً وتشير أيضاً إلي أن الذين سيحاولون القبض علي المسيح سيجثون ويسقطون لحظة أن يرفعه الله إليه ، صورة واحدة ، وتتكرر في العديد من المزامير ، ولكن أبداً ، في واحد منها لا تتغير ، وهي صورة لا تقوم بمفردها في المزامير ، وإنما مرتبطة ومتممة ومكملة لتلك الآيات التي تشير وتتنبأ عن دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، مؤكدة بذلك أن هذا الذي يتحقق فيها من تخليص الله لمسيحه ورفعه إليه ، إن هو إلا استجابة لذلك الدعاء البار الكريم ، من ذلك النبي البار العظيم ، وذلك كله على النحو الذي فصلناه في تناولنا لكل مزمور على حدة .
ثالثاً : الآيات التي تشير إلى القبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً من المسيح :
(هو ذا يمخض بالإثم . حمل تعباً وولد كذباً . كراجياً . حفره فسقط في الهوة التي صنع ، يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه .) (مز 7 : 14 - 16)
(لأنك أقمت حقي ودعواي . جلست علي الكرسي قاضياً عادلاً . انتهرت الأمم . أهلكت الشرير .) (مز 9 : 4 و 5)
(تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها . في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم . معروف هو الرب قضاء أمضي . الشرير يعلق بعمل يديه .) (مز 9 : 15 و 16)
(يؤخذون بالمؤامرة التي فكروا بها .) (مز 10 : 3)(1/187)
(إلهي إلهي لماذا تركتني .... إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب في الليل أدعو فلا هدولي .... عليك أتكل آباؤنا .. اتكلوا فنجيتهم . إليك صرخوا . فنجوا . عليك اتكلوا فلم يخزوا . أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر ومحتقر الشعب . كل الذين يرونني يستهزئون بي يفتغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين اتكل على الرب فلينجه . لينقذه لأنه سر به .
كالماء انسكبت . انفصلت كل عظامي . صار قلبي كالشمع . قد ذاب في وسط أمعائي . يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلي تراب الموت تضعني . لأنه قد أحاطت بي كلاب . جماعة من الأشرار اكتنفتني . ثقبوا يدي ورجلي . أحصي كل عظامي . وهم ينظرون ويتفرسون في . يقسمون ثيابي بينهم وعلي لباسي يقترعون .) (مز 22 : 1 - 18)
(عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا .) (مز 27 : 2)
(أعطهم حسب فعلهم وحسب شر أعمالهم . حسب صنع أيديهم أعطيهم رد عليهم معاملتهم ) (مز 28 : 4)
( ليخز الأشرار . ليسكنوا في الهاوية .) (مز 31 : 17)
(خاصم يا رب مخاصمي . قاتل مقاتلي . ليخز وليخجل الذين يطلبون نفسي . ليرتد إلي الوراء ويخجل المتفكرون باساءتي ... لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم . بلا سبب حفروا لنفسي . لتأته التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع .) (مز 35 : 1 - 8)
(الشرير يتفكر ضد الصديق ويحرق علي أسنانه . الرب يضحك به لأنه رأي أن يومه آت . الأشرار قد سلوا السيف ومدوا قوسهم لرمي المسكين والفقير لقتل المستقيم طريقهم . سيفهم يدخل في قلبهم وقسيهم تنكسر .) (مز 37 : 12 - 15)
(أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع علي عقبه .) (مز 41 : 9)
(يعرفنا بأن المتآمر هو يهوذا الاسخريوطي .)
(يرجع الشر علي أعدائي . بحقك أفنهم .) (مز 54 : 5)(1/188)
(لأنه ليس عدو يعيرني فأحتمل . ليس مبغضي تعظم علي فأختبئ منه ، بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي . الذي معه كانت تحلو لنا العشرة . إلي بيت الله كنا نذهب في الجمهور .) (مز 55 : 12 - 14) (يعرفنا بأن الخائن هو يهوذا الاسخريوطي )
(حينئذ ترتد أعدائي إلي الوراء في يوم أدعوك فيه .) (مز 56 : 9)
(هيأوا شبكة لخطواتي . انحنت نفسي . حفروا قدامي حفرة . سقطوا في وسطها . سلاه .) (مز 57 : 6)
(فيرميهم الله بسهم بغتة كانت ضربتهم . ويوقعون ألسنتهم علي أنفسهم .) (مز 64 : 7 و8)
(يا الله أنت عرفت حماقتي وذنوبي عنك لم تخف .... غطي الخجل وجهي صرت أجنبياً عند أخوتي وغريباً عند بني أمي ...
..... أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي ، قدامك جميع مضايقي العار قد كسر قلبي فمرضت . انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد . ويجعلون في طعامي علقماً وفي عطشي يسقونني خلاً .) (مز 69 : 5 - 21)
(ليخز ويخجل طالبو نفسي ، ليرتد إلي خلف ويخجل المشتهون لي شراً .) (مز 70 : 2)
(ليخز ويفن مخاصمو نفسي . ليلبس العار والخجل الملتمسون لي شراً .) (مز 71 : 13)
(لأنه قد خزي لأنه قد خجل الملتمسون لي شراً .) (مز 71 : 24)
(وضعتني في الجب الأسفل في ظلمات في أعماق . علي استقر غضبك وبكل تياراتك ذللتني . سلاه . أبعدت عني معارفي . جعلتني رجساً لهم .) (مز 88 : 6 - 8)
(لماذا يا رب ترفض نفسي . لماذا تحجب وجهك عني . أنا مسكين ومسلم الروح منذ صباي . احتملت أهوالك . تحيرت . علي عبر سخطك . أهوالك أهلكتني .) (مز 88 : 14 - 16)
(فأقم أنت عليه شريراً وليقف شيطان عن يمينه . إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية . لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر .) (مز 109 : 6 - 8)
(الرب لي بين معيني وأنا سأري بأعدائي .) (مز 118 : 7)(1/189)
وهكذا يبين بكل جلاء أيضاً ، أن المزامير إنما تتنبأ بصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً من المسيح عليه السلام ، فتعطينا أوصافاً للمصلوب نعلم منها أنه لا يمكن أن يكون المسيح وإنما يهوذا الذي خانه ، فهو في المزمور 22 عار عند البشر ، وبينما نري المسيح يطلب في بعض المزامير أن يخز ويخجل طالبو نفسه ، نري الذي سيصلب يتحدث عن خزيه وخجله وعاره في مزامير أخرى ، ومن ثم فهذا الذي خزي وخجل ولحق به العار لا يمكن أن يكون المسيح ، وإنما يهوذا طالب نفس المسيح والذي خزي وخجل ولحقه العار حتى يومنا هذا حتى أنه أضحى يضرب به المثل علي الخيانة والغدر .
ثم إنا الفرض الذي يقول بصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً من المسيح عليه السلام ، يقول بأنه قد قدم علي رأس الأعداء ليقبضوا علي المسيح ويحاكم ويصلب بعد ذلك ، وما أن وصلوا إلي المسيح وهموا به ، حتى خلصه الله من بين أيديهم ورفعه إليه وقبض علي يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه وحوكم هو بعد ذلك وصلب بدلاً من المسيح ، وهو ما يصدق عليه تماماً المثل القائل بأن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها ، وهذا الذي يقول به هذا الفرض ، هو ما وصفته المزامير متنبأة لنا به بكل دقة ووضوح ، مؤكدة هذه الصورة في تكرار لا يختل ، فنقرأ فيها (كراجياً حفرة . فسقط في الهوة التي صنع .) ، (يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه .) ، (في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم .) ، (يؤخذون بالمؤامرة التي فكروا بها .) ، (أعطهم حسب قلبهم وحسب شر أعمالهم .) ، (لتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع .) ، (سيفهم يدخل في قلوبهم ) ، (حفروا قدامي حفرة . سقطوا في وسطها ) ، (يوقعون ألسنتهم على أنفسهم .) ، ولعل من أوضح هذه الصور (الشرير يعلق بعمل يديه ).(1/190)
وتمضي المزامير في وصف شخصية هذا الذي سيصلب فتراه الشرير دائماً ، ومحال أن يكون هذا هو المسيح وإنما هو يهوذا الاسخريوطي الذي خانه ، وفي وصف المزامير لهذا الذي سيصلب نراها تقول (أهلكت الشرير .) ، (الشرير يعلق بعمل يديه .) .
وتمضي المزامير في وصف شخصية هذا الذي سيصلب فتراه الشرير دائماً ، ومحال أن يكون هذا هو المسيح وإنما هو يهوذا الاسخريوطي الذي خانه ، وفي وصف المزامير لهذا الذي سيصلب نراها تقول (أهلكت الشرير .) ، (الشرير يعلق بعمل يديه .) ، (أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر .) ، (ليخز الأشرار . ليسكنوا في الهاوية) ، (الشر يميت الشرير .) ، (فأقم أنت عليه شريراً وليقف شيطان عن يمينه . إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية .)
وهكذا نجد أن هذا الذي سيصلب لا يوصف بغير الشرير .
وعلى هذا فإن المزامير إنما تنبأت بصلب يهوذا الاسخريوطي وليس المسيح ، وقد وصفت كيفية القبض عليه ومحاكمته وصلبه بكل دقة تطابق وتتفق مع الفرض الذي يقول بتخليص الله للمسيح عليه السلام والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، والمزامير في تنبئها عن ذلك ، غير منفصلة عما سبق أن رأيناه من نبوءات عن دعاء المسيح لله أن يخلصه من الصلب ، وعن تخليص الله للمسيح عليه السلام برفعه لحظة يهم المتآمرون بالقبض عليه ، وإنما النبوءات كلها متصلة متماسكة تكمل بعضها بعضاً حتى لتعطينا في النهاية صورة كاملة متكاملة متطابقة مع الفرض القائل بتخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه .
الحقيقة في المزامير :(1/191)
وهكذا ، ومن جماع ما تقدم ، لا نخلص إلا بأن المزامير تنبأت بحق ، بأن الله مخلص مسيحه ، يستجيبه من سماء قدسه ، يرفعه من أبواب الموت ، يرفعه فوق القائمين عليه ، يرسل من العلا فيأخذه ، أما يهوذا الاسخريوطي ، الذي حفر له هذه الحفرة ، وأتي علي رأس الجمع من جنود وخدام ليقبضوا عليه ، علي المسيح سيده ، فإنه في الحفرة نفسها يقع ، وبعمل يديه يعلق ، رجع تعبه علي رأسه ، وعلي هامته هبط ظلمه ، صار عاراً عند البشر ، فقبض عليه هو بدلاً من المسيح وحوكم هو وصلب بدلاً منه ، وهكذا تستقيم النبوءة في المزامير ، وهكذا تتجلي النبوءة في المزامير في أسطع وأروع وأسمي ما تكون النبوءة ، ليست آية نحرفها ، أو كلمة نحور معناها ، بل صورة كاملة ، عشرات الآيات ، عشرات المزامير ، كلها تنطق بصورة واحدة ، كاملة متكاملة ، تتكرر كثيراً ، ولكن أبداً لا تتغير ، لا مجال فيها للبس أو خلاف ، ولا محل فيها لأدني ضلال أو تضليل ، أما هذه الحقيقة ، فإنما هي تلك التي نطق بها القرآن واعتقدها المسلمون ، أن الله مخلص مسيحه ورافعه إليه وأن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً منه ، هو يهوذا الاسخريوطي ، تلميذ المسيح الذي خانه ، ولمن يريد أن يزيد يقيناً ، فها هي المزامير كلها ، في الكتاب المقدس الذي يؤمن به المسيحيون ويتداولونه ، وإليها فليرجع ، ولن يزيده هذا إلا يقيناً لهذه الحقيقة التي انتهينا إليها ، وإذا كنت قد دعوت القارئ إلي هذا الأمر في أول هذا الفصل ، فإنه لا يفوتني أن أنبه إليه في نهايته ، ذلك أن الكثيرين ، ومن عجب منهم مسيحيين ناقشوني شخصياً ، لم يصدقوا أن تكون في المزامير مثل هذه الآيات .
الفصل الرابع
ما قد يثور من اعتراضات علي حقيقة تخليص الله للمسيح ورفعه إليه
والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه .(1/192)
وجدنا من قبل أنه لكي نعرف تفاصيل تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض علي يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، وهو الفرض الذي يقول به المسلمون ويجري عليه اعتقادهم ، وجدنا أنه لا مناص لنا لكي نعرف هذه التفاصيل من الالتجاء إلي الأناجيل نفسها ، نتلمس منها الصورة التي يمكن أن يكون عليها ذلك ، ثم بحثنا عن المعيار الذي يمكن أن نحتكم إليه للوصول إلي الحقيقة بين صلب المسيح وتخليص الله له ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، لم يكن ثمة مناص من الاحتكام إلي ما جاء في الكتب السماوية السابقة ، والتي يتداولها المسيحيون إلي اليوم ، من نبوءات ، وبصفة خاصة إلي تلك التي وردت في سفر المزامير ، آخذين في ذلك بما يقيم عليه المسيحيون أنفسهم دراساتهم وأبحاثهم دون المسلمين ، وكان يبدو لأول وهلة أننا كأنما نحكم المسيحيين أنفسهم في البحث - وكان هذا إلي حد كبير جداً صحيحاً - وبدا لذلك أيضاً أننا لا يمكن أن ننتهي إلي غير ما انتهوا إليه من قبل مما يؤيد معتقداتهم ، ولكن استهدافنا للحقيقة لم يكن ليجعلنا نحيد عما رأينا لزوم وصحة الاحتكام إليه ، فما دام معيار الاحتكام صحيحاً ومقبولاً في البحث ، لا ينبغي أن يكون هناك أي تردد في قبوله ، ولقد قبلناه . ومضينا في الطريق إلي نهايته ، فلم نجد إلا ما يؤيد بأجلي بيان وبأوضح صراحة ، وبما لا يحتمل أدني شك أو تردد ، ما يؤيد ، ما يقول به المسلمون ويجري عليه اعتقادهم من أن الله مخلص مسيحه ورافعه إليه ، وأن الذي قبض عليه وحوكم وصلب بدلاً منه إنما هو يهوذا الاسخريوطي .(1/193)
وإنه ليحق لنا بعد كل هذا ، أن نقف بالحقيقة التي وصلنا إليها ، إلي هذه النقطة من البحث ، فلا نمضي إلي أكثر منها ، ففي كل ما سبق ، الدليل الكافي على صحة ما انتهينا إليه ، فأي دليل علي ذلك أدل من هذا السبيل الذي سلكناه ، أي يقين بهذه الحقيقة أكبر من أن لا نجد سبيلاً يثبتها ويؤكد صحتها إلا أن ننتهج نفس منهج من ينفونها وينكرونها ، فمن كتابهم ، وبنفس منهجهم ، كان طريقنا في الوصول إليها ، مع اختلاف واحد فقط بيننا وبينهم ، هو أننا لم نفترض الحقيقة ابتداء علي نحو معين ، فإذا بها واضحة جلية ، تنطق بها النبوءات كلها ، بغير جهد ، وبدون مشقة ، يمكن لكل أن يصل إليها ، فقط يكون له عينان فيقرأ ، وعقل فيعي ، وبعدها يجد الحقيقة أمامه جلية واضحة سهلة ميسرة ، رغما عنه ، بإصبعه سيشير إليها ، وسيقرأ بنفسه أن الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ، يستجيبه من سماء قدسه ، يرفعه فوق القائمين عليه ، ويرسل من العلا فيأخذه ، ويوصي ملائكته به لكي يحفظوه وعلي الأيدي يحملونه ، أما الشرير الذي خانه وتآمر عليه ففي الحفرة التي حفرها للمسيح يقع ويعلق بعمل يديه ويصير عاراً عند البشر .
ولكن إثبات هذه الحقيقة لا ينبغي أن ينسينا بحال أننا بصدد عقيدة ، وإذا كان يكفي إثبات العقيدة للإيمان بها ، فإنه لكمال العقيدة ينبغي أن تكون مانعة لما عداها ، ولاشك أن هناك عقيدة مغايرة لما انتهينا إليه ، قد استقرت لدي الملايين ولمئات السنين ، قامت على الاعتقاد بعكس ما انتهينا إليه ، ولذلك ، ولكمال العقيدة ، فإنه لابد وأن هناك أموراً أخرى تبقي في حاجة إلى الرد أو التفسير .(1/194)
وأول الاعتراضات التي يمكن أن تثار في هذا الصدد ، هو ما يعتري الذهن ، وللوهلة الأولي ، من استبعاد احتمال أن يكون يهوذا الاسخريوطي هو نفسه مرشد الأعداء ليقبضوا على المسيح ، ورغم ذلك يقبضون عليه هو علي أنه المسيح نفسه ، بل ويحاكم أيضاً ويصلب على أنه المسيح ، فهل يمكن أن يكون هذا الذي انتهينا إليه صحيحاً .
أما ثاني الاعتراضات فهو التساؤل عن مصير جسد يهوذا إذا كان هو من صلب خاصة وقد رتب المسيحيون على عدم العثور على ذلك الجسد في القبر قيامة المسيح من الأموات كما يقولون ، فضلاً عن تناقض ما انتهينا إليه مع ما ورد في إنجيل متى عن يهوذا من أنه مضي وخنق نفسه .
أما ثالث ما قد يثار في هذا الصدد ، فهو أنه ما دامت المزامير قد تنبأت علي هذا النحو الواضح الصريح بتخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، فكيف إذن يستدل المسيحيون على صلب المسيح نفسه لا يهوذا (1)، خاصة أن هذه الحقيقة هي ما وصلنا إليه بنفس منهجهم في البحث وطريقة دراستهم للكتاب المقدس ، مع الخلاف الوحيد بالطبع وهو عدم افتراض الحقيقة على وجه معين مقدماً .
ورابع هذه الاعتراضات ، وهو متصل بالاعتراض السابق ومترتب عليه ، فهو أنه إذا كانت حقيقة تخليص الله للمسيح عليه السلام والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، واضحة كل هذا الوضوح في المزامير ، وإذا كان ما اتبعناه في الوصول إليها يتفق مع منهج المسيحيين في البحث وطريقتهم في دراسة الكتاب المقدس نفسه ، فكيف لا يصل المسيحيون بأنفسهم إلي هذه الحقيقة .(1/195)
أما خامس ما يتعين علينا بحثه في هذا الصدد ، فهو تفسير الأمر وفق الصورة التي انتهينا إليها ، وهو ما يقتضينا أن نبحث الصورة التي يري عليها المسيحيون صلب المسيح عليه السلام ، من حيث سببه ومبرراته ونتائجه ونحو ذلك ، ثم بيان حقيقة الأمر من حيث سببه ومبرراته ونتائجه وفق الصورة التي انتهينا إليها من تخليص الله للمسيح ورفعه له إليه وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه .
وأخيراً ، فقد انتهينا في شرح منهج بحثنا إلي أننا سنعتبر أن الأصل في الأناجيل المتداولة افتراض صحتها ، وأننا لا يجب أن نأخذ بما يخالف ذلك دون دليله وسنده ، ولنا فيما أوردناه في الفصل السابق الدليل والسند الصحيحين على عدم صحة ما جاء في الأناجيل وباقي أسفار العهد الجديد من أن المسيح عليه السلام هو الذي قبض عليه وحوكم وصلب ، ولقد كان يكفينا هذا دليلاً على عدم صحة ما جاء في الأناجيل وغيرها من أسفار العهد الجديد عن ذلك ، ولكننا قلنا في أول هذا الفصل أن العقيدة يجب أن تكون جامعة ، ومانعة ، لما عداها ، ويجب بنا أن نبلغ بها حد الكمال ، وهي هنا لا تبلغه إلا بأن نبحث في العهد الجديد نفسه ، لنتبين هل يمكن أن يرد فيه أمر غير صحيح كما انتهينا أم لا .
المبحث الأول
هل يمكن أن تكون الصورة التي انتهينا إليها من تخليص الله للمسيح
والقبض على يهوذا بعد ذلك رغم أنه كان المرشد إليه
ثم محاكمته وصلبه على أنه المسيح ، صحيحة(1/196)
نعرف فيما سبق ، أن يهوذا الاسخريوطي كان هو مرشد الأعداء عن المسيح عليه السلام ليقبضوا عليه ويقتلوه بعد ذلك ، وانتهينا فيما سبق أيضاً إلي أن الحقيقة أن الله قد خلص المسيح عليه السلام من بينهم ورفعه إليه ثم قبضوا علي يهوذا الاسخريوطي إثر ذلك على أنه المسيح عليه السلام ، وحوكم وصلب علي أنه المسيح أيضاً ، وأن الذهن ليعترض علي هذه الصورة للوهلة الأولي ، إذ كيف يكون يهوذا الاسخريوطي هو مرشد الأعداء عن المسيح عليه السلام ، ورغم ذلك يقبضون عليه هو ظناً منهم أنه هو نفسه المسيح الذي قدموا للقبض عليه .(1/197)
وأول ما يجب أن نلاحظه ونحن نبحث هذا الأمر ، أننا نعيش اليوم في القرن العشرين ، وسط حضارة لم يشهد العالم ونحن نبحث هذا الأمر ، أننا نعيش اليوم في القرن العشرين ، وسط حضارة لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل ، حضارة هي الخيال بل هي فوق خيال بالنسبة لمن عاصروا المسيح عليه السلام ، وصلت بالإنسان إلي القمر ، والعالم كله يري هذا الإنسان ويتابع أقدامه الأولي على القمر لحظة بلحظة ، حضارة جعلت من الليل في معظم المدن نهاراً ، وجعلت من الشخصيات ، حتى المتوسط الأهمية منها في هذا العالم ، معروفاً ، إن لم يكن في دول متعددة من دول العالم ، فعلي الأقل في حدود الدول التي تنتمي إليها، تعرف تماماً بشكلها وبملامحها ، وحتى بصوتها ، حتى أن من يراها ، وربما أيضاً يسمعها فقط ، يتعرف عليها للوهلة الأولي ولو لم يكن قد رآها من قبل ، ومن الشخصيات الهامة في هذا العصر ، من يعرفها معظم سكان العالم ، بشكلها وملامحها حتى ليتعرف عليهم أي إنسان في معظم بلاد العلم ولو رآهم لأول مرة ، ولو أن المسيح عليه السلام كان ظهوره في عصرنا الحالي لعرفه الصغير والكبير ، البعيد والقريب ، ولعرفوه جميعاً بشكله وملامحه حتى لا يختلف اثنان عليه ، ولكن المسيح عليه السلام لم يظهر في عصرنا هذا ، كما أننا لم نعش في عصر المسيح عليه السلام ، وإنما نعيش في عصرنا الحاضر ، ولذا فإننا حين نفكر في أمر نقرنه عادة بالصورة التي نعيشها اليوم ، لا لشيء إلا لأن هذه هي الدنيا كما اعتدناها ولذا ، فلعل أول ما يتبادر إلي أذهاننا بصدد ما نبحثه ، أن المسيح لابد وأنه كان معروفاً ، بشكله وملامحه ، لكل الناس في عصره ، أو في القليل لكل الناس في أرض دعوته ورسالته ، بل ولعلنا نتخيل أيضاً أن تلاميذه كانوا معروفين للجميع حتى ليستحيل أن يلتبس الأمر على أحد بشأن شخصياتهم .(1/198)
ولكن ذلك كله غير صحيح ، فشتان بين ما يعتمل في أذهاننا وبين الواقع ، ولذا فإننا يجب أن نعي تماماً أننا لا نحكم علي الواقعة لنتبين إن كان يمكن أن تحدث في عصرنا الحاضر أم لا ، بل إننا لنقطع بيقين أنها ما كان لها أن تحدث علي هذا النحو في عصرنا هذا ، وإنما نحن نحكم علي الواقعة لنتبين هل يمكن أن تحدث في عصر المسيح عليه السلام وفي الظروف التي أحاطت بها أم لا ، ولذا فإن أول ما ينبغي أن نفعله في هذا الصدد ، هو أن نخلص أذهاننا وتفكيرنا وتصورنا من مدنية القرن العشرين ، بل ومما سبقتها من حضارات ومدنيات ، وأن نعود بتصورنا القهقري ، إلي الوراء ، إلي القرن الأول للميلاد ، بعيداً عن التلفزيون ، بعيداً عن الكهرباء وما أنتجته من أنوار ساطعة ، بعيداً عن الصور الفوتوغرافية وأفلام السينما والتلفزيون ، بعيداً عن الطباعة وعن كل وسائل النشر والإعلام التي عرفها العصر الحديث ، بعيداً حتى عن الطرق المعبدة ، ثم لنري أنفسنا بعد ذلك ، مع يهوذا الأسخريوطي ، تلميذ المسيح ، وهو يخون المسيح سيده ، فيذهب إلي رؤساء الكهنة وقواد الجند عارضاً عليهم أن يسلم لهم المسيح عليه السلام ، ثم لنتتبعه بعد ذلك بيومين ، متوجهاً ومعه جمع كثير ، ليسلمهم المسيح عليه السلام ، ثم نمضي معهم حتى يصلوا إلي المسيح فعلاً ، ولنحاول أن نتخيل هذه اللحظات جميعها ، بكل ما يلابسها من ظروف ، بأكبر قدر من الدقة ، حتى لكأننا نعيشها معهم ، ولنري بعد ذلك إن كان مقبولاً في العقل والمنطق ، لو أن الله قد رفع المسيح عليه السلام إليه وقتها ، يمكن أن يقبض على يهوذا الاسخريوطي بعد ذلك ويحاكم ويصلب علي أنه المسيح أم لا .(1/199)
والذي لاشك فيه أن المسيح عليه السلام هو من يهم رؤساء الكهنة والجند والشيوخ ممن تآمروا للقبض عليه وقتله ، ولاشك أيضاً أن اهتمام هؤلاء بالمسيح يفوق اهتمامهم بتلاميذه إلي أكبر حد ، بل لعلهم لم يفكروا في هؤلاء التلاميذ ولم يهتموا بأمرهم علي الإطلاق ، ومع كل هذا ، مع هذا الاهتمام الطبيعي والمفروض بشخص المسيح ، فإن الذي نستطيع أن نستخلصه من الأناجيل أن من توجهوا للقبض علي المسيح لم يكونوا يعرفونه بحيث يستطيعون التعرف عليه لو رأوه ، فنحن نقرأ في إنجيل متى (وفيما هو يتكلم إذا يهوذا واحد من الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب ، والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو هو .أمسكوه .) (ص 26 : 47 و 48) ، كما نقرأ في إنجيل مرقس (وللوقت فيما هو يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ ، وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو هو . امسكوه وامضوا به بحرص .) (ص 14 : 43 و 44) ، ومن هنا نعرف أن الذين توجهوا للقبض عليه لم يكونوا يعرفونه ، وما كانوا ليتعرفوا عليه لو رأوه أمامهم ، وإلا لما كانوا بحاجة لعلامة من يهوذا حتى يعرفوه ، فيقبله ليكون من يقبله هو المسيح عندهم ، ولو كانوا يعرفونه لما كانوا بحاجة إلي هذه العلامة ، ولكفاهم أن يدلهم علي مكانه ليذهبوا إليه بأنفسهم فيقبضوا عليه ، وإذا كان هذا هو حالهم بالنسبة للمسيح ، فمن باب أولي يكون هذا هو حالهم بالنسبة لتلاميذه ، إذ هم أقل أهمية منه بالنسبة لهم ، فهم لهذا لا يعرفون أياً من تلاميذ المسيح ، بما فيهم يهوذا الاسخريوطي بطبيعة الحال الذي لم يعرفوه من قبل أن يلجأ هو إليهم.(1/200)
ومن هنا نستطيع أن نعرف أن أول فرصة لرؤساء الكهنة وقواد الجند ليتعرفوا فيها على يهوذا الاسخريوطي كانت لحظة أن توجه إليهم عارضا أن يسلمهم المسيح عليه السلام ، وعن هذه اللحظة نقرأ في إنجيل متى (حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعي يهوذا الاسخريوطي إلي رؤساء الكهنة . وقال لهم ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم . فجعلوا له ثلاثين من الفضة . ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه .) (ص 26 : 14 - 16) كما نقرأ في إنجيل مرقس (ثم إن يهوذا الاسخريوطي واحداً من الاثني عشر مضي إلي رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم . ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة . وكان يطلب كيف يسلمه في فرصة موافقة .) (ص 14 : 10 و 11) ونقرأ أخيراً في إنجيل لوقا (فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعي الاسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر . فمضي وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم . ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة . فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوا من جمع .) (ص 22 : 3 -6).(1/201)
فهنا أول لقاء بين يهوذا ورؤساء الكهنة كما يقول البشيران متى ومرقص ، أو بينه وبين رؤساء الكهنة وقواد الجند كما يقول البشير لوقا ، وهو يوم أن ذهب إليهم يعرض عليهم أن يسلمهم المسيح عليه السلام ، ونعرف من الأناجيل أن رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب كانوا في نفس الوقت قد تشاوروا لكي يمسكوا المسيح بمكر ويقتلوه ، ولذا فإنهم حين قدم إليهم يهوذا ليسلمه لهم لم يترددوا في قبول عرضه ، بل كان هذا العرض بمثابة فرصة لهم ، ووعدوه أن يعطوه فضة إن هو فعل ذلك ، ومن هنا نستطيع أن نقول بحق أن هذا اللقاء لم يستغرق وقتاً ، فيهوذا يعرض عليهم ما يسعون هم إليه ، وهم يفرحون ويعدونه بفضة إن فعل ، لا مجال لنقاش ولا لأخذ أو رد ، فليفعل وسيعطونه فضة عندئذ ، لا مجال لوقت طويل تستغرقه مثل هذه المقابلة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، أين تتم مثل هذه المقابلة ، إن الأناجيل لا تحدد لنا المكان بأكثر من أن يهوذا يذهب إلي رؤساء الكهنة ، وحتى يذهب إليهم لابد وأن يكونوا في مكان معتاد تواجدهم فيه ، وهو بالقطع ليس خلاء ، وإنما مبني ، أيا كان هذا المبني ، وفي أي وقت يذهب إليهم ، ليلاً كان أم نهاراً ، فالضوء بداخه ليس بحال كضوء النهار في الخلاء ، ضوء أقل علي أي حال ، وضوء خافت إلي حد كبير لو كان الوقت ليلاً ، وفي لقاء عابر كهذا اللقاء ، ومع شخص لن ينظر إليه أي واحد ممن ذهب إليهم بأي حال إلا نظر احتقار لخيانته ولو كانت لصالحهم ، ومع وضعنا في الاعتبار أن يهوذا وهو يفعل ذلك لا يشعر بطبيعة الحال أنه يقوم برسالة جليلة يريد أن يعلنها للناس ، وإنما هو أيا كانت شخصيته ، يعلم أنه يأتي أمراً سيئاً يسعى لإخفائه ، وحتى في القليل حتى لا تشتهر خيانته فتضيع لذلك فرصته في تسليم المسيح ، ولذا فهو علي أي الأحوال لابد وأن يحاول أن يتستر ، وفي ضوء كل هذه الظروف ، لا نحسب أن مثل هذا اللقاء يمكن أن يترك في أذهان رؤساء الكهنة أو رؤساء(1/202)
الكهنة والجند ، صورة لهذا الشخص تعلق بذاكرتهم فلا ينسوه .
ثم إننا نفهم من الأناجيل أنه قد مضي بين هذه المقابلة وبين قدوم يهوذا ومن معه للقبض علي المسيح نحو يومين ، فقد ورد في إنجيل متى (ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه . تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يسلم ليصلب .) (ص 26 : 1 و2) ، ثم يذكر الإصحاح بعد ذلك ذهاب يهوذا إلي رؤساء الكهنة عارضاً عليهم أن يسلمهم المسيح بما يفهم منه أن ذلك كان من يهوذا أول مرة يذهب فيها لرؤساء الكهنة ، وليس كثيراً أن نقول أن هذين اليومين بين ذهاب يهوذا إلي رؤساء الكهنة ومحاولته القبض على المسيح كافيان لتباعد صورته عن مخيلة هؤلاء إن لم تكن قد محيت تماماً حتى أنه ليمكن استبعاد هذه المقابلة كدليل علي معرفتهم ليهوذا.
وعلي أن الأناجيل لم تشر إلي مقابلة ثانية بين يهوذا ورؤساء الكهنة وقواد الجند ، إلا أننا نستطيع أن نقطع بأنه كانت هناك ثمة مقابلة أخرى ، وهي تلك التي سبقت ذهاب يهوذا ومن معه من جند وخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وشيوخ الشعب إذا من غير المتصور أن يكون هو قد حرك كل هؤلاء ليتوجهوا معه وإنما هو لابد وقد قابل أولاً من أمرهم بذلك ، فإذا حاولنا أن نعرف من قابلهم يهوذا عندئذ ، نستطيع أن نتصور أنهم بعض رؤساء الكهنة ، وأيضاً بعض قواد الجند ، ولقد سبق له الاتفاق مع رؤساء الكهنة ، ولذا فمقابلته لهم الآن ليست بذات بال اللهم إلا ليحركوا له من ذهبوا معه ، أما المقابلة ذات البال فهي مع قواد الجند عندئذ ، إذ هم الذين سيتوجهون معه للقبض علي المسيح ، وإذا كان تقابل يهوذا عندئذ مع رؤساء الكهنة هو مجرد احتمال ، فإن مقابلته مع قواد الجند لابد وأنها قد تمت بيقين ، ولذا فإن هذه المقابلة تستحق شيئاً من التفصيل هي ولقاء يهوذا مع غير هؤلاء القواد من الجنود والخدم الذين توجهوا معه .(1/203)
ولنتوقف قليلاً لنستعرض هذه اللحظة وما تلاها من تحرك يهوذا وقواد الجند والخدم متوجهين إلي المسيح عليه السلام ليقبضوا عليه ، وأول ما نقطع به أن الوقت عندئذ كان ليلاً ، وإلي ذلك أشار إنجيل يوحنا بقوله (فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت . وكان ليلاً ) (ص 13 : 30) ، مشيراً بذلك إلي الوقت الذي ترك فيه يهوذا الاسخريوطي المسيح ومن معه من التلاميذ متوجهاً إلي من اعتزم أن يسلمهم المسيح ، كما أن نفس الإنجيل وهو يصف قدوم يهوذا ومن معه ليقبضوا علي المسيح يقول (فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلي هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح .) (ص 18 : 3) ، ولاشك أن حمل مشاعل ومصابيح يفيد في حد ذاته أن الوقت كان ليلاً .(1/204)
ونحاول أن نستكمل الصورة في أذهاننا فنري إنجيل متى يصف هؤلاء الذين صحبهم يهوذا للقبض على المسيح بقوله (جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب .) (26 : 47) ، كما يصفهم البشير مرقس بقوله (ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والشيوخ .) (ص 14 : 43) ، ويقول إنجيل لوقا (جمع والذي يدعي يهوذا واحد من الاثني عشر يتقدمهم) (ص 22 : 47) ، وأخيراً نقرأ عنهم في إنجيل يوحنا (فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلي هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح.) (ص 18 :3) ، فهم إذن جمع كثير ، بين جند وخدام ، يحملون مصابيح ومشاعل وسيوف وعصياً ، وقد سبق أن قرأنا ونحن بصدد التعليق على المزمور الحادي والتسعون تحديد القمص باسيليوس إسحق عدد الجنود بأنهم كانوا كتيبة من الجنود الرومانيين التي يبلغ عددها ستمائة جندي مسلحين بقيادة ضابط والخدام وهم الموظفون اليهود الملحقون بمحكمة السندرهيم والذين رأي فيهم قوة ثانية بالإضافة إلي القوة الأولي الرومانية ، والمفهوم أن يهوذا لا يقابل هذا الجمع فرداً فرداً ، وإنما الطبيعي أو المفهوم أنه قابل قوادهم أو رؤساءهم ، أو ربما قائدهم أو رئيسهم إن كان واحداً ، وهؤلاء أو هذا ومن هم دونهم رتبة وأعلي درجة من الباقين ، هم الذين يتوجهون مع يهوذا على رأس الجمع .(1/205)
ولعلنا بذلك نستطيع أن نتخيل يهوذا وهو يسير مع الجمع ، مع هذا الجمع الكبير الذي يجاوز الستمائة وربما بلغ ألفاً ، وهو باعتباره مرشد الجمع لابد وأن يتقدمهم ، ولا أحسبه في هذا السبيل يحاول أن يعلن حقيقة شخصيته بل لابد أنه هنا أيضاً يحاول قدر جهده ألا يفضح نفسه ، وطبيعي وهو أمام هذا العدد الضخم فإنهم جميعاً لا يحاورونه ، وإنما يحاوره منهم عدد محدود لابد أنه قواد هذا الجمع أو الرؤساء فيه أو الأعلى درجة بينهم ، أما الباقون ، فيسيرون خلفهم ، وإذا كان الوقت ليلاً ، فإن منهم من يحمل مصابيح ومشاعل ، ومنهم من يتقدم الجمع ، ومنهم من يحيط بهم ، ومنهم من قد يتوسطهم ، ولعل هذه الصورة حقيقة بشيء من التأمل والإمعان .(1/206)
فرب قائل هنا يقول أنهم وقد حملوا معهم مصابيح ومشاعل فلا معني إذن للقول بأن الوقت كان ليلاً ، فها هو ذا ضوء يعوض ظلام الليل ، ولقد يبدو للوهلة الأولي أن هذا القول صحيح ، إلا أن إمعان النظر في الصورة يبين أن هذه المصابيح والمشاعل لم تكن إلا لتزيد من غموض وإبهام ما يحيط بالجمع ، ولقد يبدو ذلك غريباً ، ولكن ليس أسهل من التحقق منه ، فلو جلس شخص ليلاً إلي الداخل من حجرة ورنا ببصره إلي خارجها ، لرأي ما في الخارج علي درجة معينة من الوضوح حسب ضوء القمر عندئذ ، بفرض عدم وجود إضاءة صناعية بالخارج ، فإذا ما أضاء مصباحاً بالحجرة فإنه لا يعود يري شيئاً خارجها على الإطلاق خاصة إذا كان مصدر الضوء أمام عينيه ، وذلك بطبيعة الحال إلا إذا كان المصباح الذي أضاءه خافت الضوء إلي حد بعيد ، وعلى أي حال فكلما زادت قوة إضاءة المصباح كلما قل إمكان رؤية ما بخارج الحجرة ، وتفسير ذلك بسيط ، إذ المعروف أن حدقة العين تتسع كلما اشتد الظلام وتضيق كلما اشتد الضوء ، ولذلك فإن ما قد تراه في الظلام وعند انعدام أي إضاءة قد لا تستطيع أن تراه أو تتحقق منه بالمرة أو علي نفس الدرجة من الوضوح إذا ظهر أمام العين ضوء وسط هذا الظلام ، ولذلك فإن حمل المصابيح والمشاعل ، فإنه في نفس الوقت يحجب رؤية ما وراء ذلك ، كما أن هذه المصابيح والمشاعل وإذ هي تتحرك بحركة حامليها ، ومع ما ينبعث منها من ضوء ، إنما تصبح عاملاً يتلاعب بأعين الجمع ، فيزيد غموض ما حوله وإبهامه.(1/207)
وعلى هذا النحو فإن يهوذا الاسخريوطي يسير في المقدمة ، وبجواره القواد أو الرؤساء الذين يقودون الجمع ، ولكن ، بين حركة الجميع وحركة المصابيح والمشاعل في أيدي حامليها ، فإنه لا يمكن أن تترسب ليهوذا في مخيلة من يجاوره إلا صورة مهتزة لا تكاد أن تطبع شيئاً عنه في أذهانهم خاصة وأنهم لا يعنيهم أن يسير معهم ليرشدهم عمن يطلبونه ، وإذا كان هذا هو الأمر بالنسبة لمن جاوروا يهوذا فإن باقي الجمع ، وهم الغالبية بطبيعة الحال ، فلا يبدو حتى الآن أن هناك ثمة فرصة سنحت لهم للتعرف على يهوذا أو التحقق من شخصيته خاصة أن ذلك لا يعنيهم فهم لا يفهمون من مهمتهم سوى أنه سيطلب منهم القبض على شخص معين فيقبضون عليه ، ولاشك هنا أن أياً منهم لا يعرف ملامح هذا الذي قدموا للقبض عليه ولا هذا الذي سيرشدهم عنه ، كما أن من يتقدمهم من قواد أو رؤساء لا يعرفون ملامح المسيح الذي يتوجهون الآن للقبض عليه ، وإلا لما احتاجوا علامة ليعرفوه بها كما تقدم.(1/208)
هذه هي الصورة التي نستخلصها من الأناجيل نفسها عن الظروف التي أحاطت بيهوذا ومن معه حتى لحظة وصولهم إلي المسيح عليه السلام للقبض عليه ، فما هي الحالة التي كان عليها المسيح عليه السلام وتلاميذه في نفس الوقت ، وهنا نعرف من الأناجيل أن المسيح وتلاميذه كانوا قد وصلوا قبل ذلك إلي الضيعة التي تسمي جثسيماني ، وهناك صلي هو بينما غالب النوم تلاميذه وغلبهم ، ويذهب المسيح إليهم بعد أن يصلي فيجدهم نياماً ويوقظهم ، ثم يعود ليصلي ويرجع إليهم ثانية فإذا هم نيام أيضاً فيوقظهم للمرة الثالثة ، وهنا يستطرد إنجيل متى فيقول فتركهم ومضي أيضاً وصلي ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه . ثم جاء إلي تلاميذه وقال لهم ناموا الآن واستريحوا . هو ذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يسلم إلي أيدي الخطاة . قوموا ننطلق . هو ذا الذي يسلمني قد اقترب . وفيما هو يتكلم إذا يهوذا أحد الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي .....) (ص 26 : 44 - 47) ، ومن هنا نعلم أن تلاميذ المسيح كانوا نياماً عند وصول يهوذا الاسخريوطي ومن معه للقبض على المسيح ، بل وكانت أعينهم ثقيلة إلي حد أن المسيح أيقظهم بنفسه مرتان وطلب منهم ألا يناموا ، ومع ذلك كان يرجع في كل مرة فيجدهم وقد ناموا ثانية.
ونعرف من الأناجيل أن تلاميذ المسيح هربوا جميعاً بعد ذلك بلحظات ، ومع تقديرنا لحسن قصد كتبة الأناجيل ، إلا أننا سنحاول بالمنطق والعقل أن نتعرف علي اللحظة التي كان فيها هرب التلاميذ ، ذلك أن الأناجيل تشير إلي أنهم بعد القبض علي المسيح تصدي واحد منهم لمن قبضوا عليه واستل سيفه وقطع به أذن واحد منهم ثم دار نقاش بعد ذلك من المسيح لمن استل هذا السيف يمنعه فيه من الاستمرار في استعماله ، وهو ما يوحي بأن المسيح هو من قبض عليه فعلاً وبالتالي هو من حوكم وصلب ، ولكن لنبحث في حدود العقل والمنطق ما يمكن أن يكون قد حدث في هذه اللحظات .(1/209)
وهنا نجد أنفسنا بين أحد أمرين ، فأما أن تلاميذ المسيح قد استيقظوا فجأة علي الحركة الصياح وفوجئوا بالجنود والخدم وغيرهم ، فلم تترك المفاجأة لهم فرصة للتفكير فهربوا جميعاً على الفور ، وهذا معقول إذ ليس هناك ثمة ما يبرر أن يقفوا وهم يعلمون ما هو قادم عليهم ثم يهربون بعد ذلك ، إذ لو أنهم انتووا الوقوف ، فما الذي يجعلهم يهربون ، كما أنهم لو انتووا الهرب ، فما الذي يجعلهم يبقون ، وهذا ممكن ، ويمكن أيضاً أن يكونوا قد فوجئوا بالجند على هذا النحو وبمن معهم فلم يتمالك أحدهم ، وهو الذي حدده إنجيل يوحنا بأنه سمعان بطرس ، لم يتمالك هذا نفسه فاستل سيفه على الفور وضرب به عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه فنهاه المسيح ولذا لم يجد التلاميذ بدا من أن يهربوا ، وبعدئذ كان ما قيل من القبض على المسيح عليه السلام والذي واقعه الحقيقي كما انتهينا من قبل أن الله قد رفع المسيح إليه في هذه اللحظة وقبض على يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه ، وهذا الذي انتهينا إليه هو ما تؤيده رواية إنجيل لوقا الذي نعرف منه أن القبض على من قبض عليه ، كان بعد واقعة استعمال السيف هذه ، وكذلك إنجيل يوحنا الذي يذكر لنا صراحة أن واقعة القبض كانت تالية لواقعة استعمال السيف ، وما يؤيده العقل والمنطق هو أن هرب التلاميذ إنما كان إثر هذه الواقعة مباشرة إن كانت .(1/210)
ولنستعرض الآن مسرح الواقعة بعد كل ذلك ، فها هم تلاميذ المسيح جميعاً وقد هربوا ، سواء استل أحدهم سيفه قبل ذلك أو لم يفعل ، وها هو ذا المسيح عليه السلام يقف بمفرده وحيداً من تلاميذه إلا تلميذه الذي خانه يهوذا الاسخريوطي الذي قدم مع الأعداء ليرشدهم عنه ، وقد أعطاهم علامة أن من يقبله يكون هو المسيح فيقبضون عليه ، وها هو ذا يدنو منه ليقبله ، ومن خلفه الجمع الذي قدم معه ، والذي يزيد عدده عن ستمائة وقد يصل إلي ألف ، يتقدمهم قواد الجند أو رؤساء الجمع الذين يكادون بالكاد أن يتبينوا شيئاً من ملامح يهوذا دون انتباه منهم إليه لأن ملامحه لا تعنيهم ، وخلفهم باقي الجمع ، الذي لا يعرف أحد منهم ملامح يهوذا ، ثم هم جميعاً ، الجمع بأفراده وقواده أو رؤسائه ، لا يعرفون شيئاً عن شكل المسيح عليه السلام أو ملامحه ، وإذا كان أحد التلاميذ قد استل سيفه قبل هربهم ، فلابد أن يكون الجمع قد أصبح عندئذ في هرج ومرج ، وهم على الأقل لابد وأن يكونوا على هذا الحال وقد علموا بأنهم قد وصلوا إلي من أتوا للقبض عليه ، وفي هرجهم ومرجهم لابد وأن تزيد المصابيح والمشاعل حركة في أيديهم ، فتتراقص الصور في أعينهم ولا يكادون أن يحيطوا تماماً بكل ما حولهم.(1/211)
وعلى هذه الصورة وفي هذه اللحظة بالذات ، لحظة التاريخ ، لحظة مجد المسيح عليه السلام ، لحظة إعلان الله جل وعلا لقدرته ورضائه عن مسيحه البار الأمين ، لحظة استجبة الله لدعائه الذي دعاه متوجهاً إليه (إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس) حين خر على وجهه ، حين خر على الأرض ، حين جثا وصلي ، حين كان في جهاد فكان يصلي بأشد لجاجة حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض سائلاً الله أن يجيز عنه هذه الكأس ، فإذا الله عنه مجيزها ، اللحظة التي تنبأت عنها المزامير قبل أن تكون بمئات السنين فقالت (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه ...) و (أرسل من العلي فأخذني ) و (يا رافعي من أبواب الموت ) و (يخبئني في مظلته يوم الشر) و (لم تحبسني في يد العدو) و (لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك . علي الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك .) ، في هذه اللحظة المجيدة ، انطلقت قدرة الله عز وجل ، تخلص مسيحه الكريم من بين أعدائه ، لترفعه عالياً إليه ، تقديراً من العزيز الحكيم ، لإيمانه العظيم ، الذي وصل به إلي حد أن ارتضي إرادة الله بأن يصلب ، عندما أعلنه الله بأن هذه هي مشيئته فاستسلم لها قائلاً (إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) ، أو (كل شيء مستطاع لك . فأجز عني هذه الكأس . ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت .) ، أو (إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس . ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك) .(1/212)
ولنعد إلي مسرح الواقعة ، لنري أثر قدرة الله الفائقة وتكريمه لمسيحه علي هذا المسرح ، ولقد فصلت المزامير هذا الأثر بقولها (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه . هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ، أما نحن فاسم الرب الهنا نذكر . هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وانتصبنا .) فذاك ما قرأناه في المزمور العشرين ، وفي غيره نقرأ أنهم (يعودون ويخزون بغتة .) و(حينئذ ترتد أعدائي إلي الوراء) و(ليرتد إلي خلف ويخجل ...) ، ومن ذلك نعرف أن الأعداء حينئذ سيرجعون إلي الوراء ، يجثون ويسقطون على الأرض وهذا هو نفسه ما ذكره إنجيل يوحنا حين قال عمن قدموا للقبض علي المسيح أنه عندما سألهم المسيح عمن يطلبون فقالوا له يسوع الناصري فقال لهم أنه هو (فلما قال لهم أني أنا هو رجعوا إلي الوراء وسقطوا على الأرض) (ص 18 : 6) ، ومن هنا نعرف أن ما تنبأت به المزامير من أن أعداء المسيح في هذه اللحظة يرتدون إلي الوراء ويجثون ويسقطون قد تحقق بالفعل حين رجع أعداء المسيح إلي الوراء وسقطوا على الأرض ، ورجوع الأعداء وسقوطهم على الأرض في هذه اللحظة وعلى هذا النحو هو ما لم نجد للمسيحيين أي تعليل له سوي القول بأن جلال المسيح وبهاءه أو فداحة الجرم الذي كان الأعداء مقدمين عليه ، هو ما فعله بهم ذلك ونسوا أن لو كان هذا صحيحاً لكان لازماً أن يتكرر كلما حاول الأعداء القبض عليه مرة أخرى ، فجلاله وبهاؤه لا يتغير ، وكذلك فداحة الجرم لا تتغير ، وإنما ذلك لا يفسره إلا أمر واحد ، هو أن من سيقبضون عليه قد تغير ، أمر ما قد حدث في المرة الأولي ، أمر جلل ، جعلهم يرجعون إلي الوراء ويسقطون على الأرض ، وكان فقط في المرة الأولى ولم يتكرر في الثانية ، وما كان هذا الأمر الجلل إلا قدرة الله وقد انطلقت في هذه اللحظة بمسيحه من بين أعدائه رافعاً إياه إليه ، فرجعوا عندئذ إلي الوراء وسقطوا على الأرض ، وما كان ليتصور آنئذ إلا(1/213)
أن يحيق بهم ذلك ، أما في المرة الثانية ، فلم يكن المسيح هناك ، وكانت قدرة الله قد ارتفعت به إليه ، وبقي يهوذا وحده وسطهم ، ولم يرفعه الله حين حاولوا القبض عليه ووضعوا الأيادي فوقه ، ولذا لم يرجع واحد منهم إلي الوراء في المرة الثانية أو يسقط على الأرض ، بل وتمكنوا من القبض على يهوذا.
ولكن ، كيف يقبضون على يهوذا وهو مرشدهم ، ولم يهوذا بالذات ، وهنا ، نعود إلي مسرح الواقعة مرة أخرى ، فقد رأينا يهوذا يتقدم من المسيح وسط الظلام ، إذ لم نقرأ أن يهوذا كان يحمل مصباحاً أو مشعلاً ، وأمهما - المسيح ويهوذا- أمامهما الجمع الذين قدموا للقبض على المسيح ولا يعرف واحد منهم شكله أو ملامحه ، وتتجلي قدرة الله فيرفع المسيح إليه ولا يكاد أن يحس بذلك أي ممن قدموا للقبض عليه ، فهؤلاء ، وخاصة الذين في مقدمة الجمع ، يرجعون إلي الوراء ويسقطون من أثر هذه القدرة ، ولاشك أن يهوذا يسقط هو الآخر ، ولكنه وحده من يدري بما كان ، فهو الذي يعرف المسيح ، وهو الذي دنا منه ليقبله تحقيقاً لعلامته ، وهو وحده يراه يرتفع فجأة من أمامه ، والجمع في الخلف وقد هالهم هذا الرجوع للوراء والسقوط على الأرض ممن تقدموهم ، خاصة وقد علموا بوصولهم لمن أتوا للقبض عليه ، وهم كما نعلم مئات ، فهل يقفون ساكنين ، بالقطع لا ، وإنما إلي الأمام وبسرعة يتقدمون ، متخطين هؤلاء الذين سقطوا أمامهم ، والذين منهم بالكاد من قد يذكر شيئاً من ملامح يهوذا ، وعندئذ ، يجدون وسطهم ، وأمام الجمع ، يهوذا الاسخريوطي ، فيلقون عليه الأيادي ، وأحسبني أري يهوذا عندئذ ، واقفاً بينهم ، وقد انخلع قلبه ، وعقدت الدهشة لسانه ، وأخذ يتطلع في ذهول إلي السماء حيث رفع هذا الذي خانه وجاء مع الأعداء ليسلمه إليهم ، ولا يخفي على أحد ، ما يحسه في هذه اللحظات من فداحة جرمه وإثمه ، بل ومن ندمه ، حتى أنه يستسلم لهؤلاء الذين ألقوا عليه الأيادي ظناً منهم أنه هو المسيح عليه(1/214)
السلام ، تاركاً إياهم على ظنهم أنه هو المسيح نفسه الذي حضروا للقبض عليه ، لينال بذلك جزاء غدره وخيانته له ، ويشرب نفس الكأس التي كان سيذيقها له ، ولعلي أتخيله غير مصدق أن المسيح قد صعد إلي السماء إلي غير عودة ، فيظنه قد ارتفع من بينهم ليذهب إلي مكان آخر ، فيتركهم على ظنهم بأنه المسيح نفسه ، حتى لا يلاحقوا المسيح الحقيقي في مكان آخر ، وكأنه بذلك ، وقد أتي ليخطف المسيح فلم يخطفه ، وإنما تستر عليه بسكوته وكأنما هو يتخيل نفسه بذلك يرد هذا الذي لم يخطفه ، ولذا كان ما قرأناه في المزمور التاسع والستون علي لسان المصلوب من قوله (حينئذ رددت الذي لم أخطفه .).(1/215)
وإذا كان هذا هو حال يهوذا كما نتوقعه في مثل هذه اللحظات ، فإن الباقيين وهم يلقون الأيادي على يهوذا ظناً منهم أنه المسيح عليه السلام ، وهو مستسلم لهم ، غير معترض على ذلك ، لابد وأن يظنوه المسيح حقاً ، وإلا لاعترض عليهم ، فما الذي يدعوهم للشك في حقيقة شخصيته حينئذ وهو نفسه ورغم علمه بما هو مقبل عليه ، لا ينفي كونه المسيح الذي أتوا ليمسكوه ، بل إن الفرحة بالقبض عليه لابد وأن تصرفهم عن التفكير فيما عدا ذلك فيسارعون به فرحين إلي من أمروهم بالقبض عليه ، ويسارع معهم به الباقون ممن رجعوا إلي الوراء وسقطوا على الأرض لحظة رفع المسيح ، وهم في غمرة فرحتهم بالقبض علي المسيح لن يعنيهم التحقق من شخصه أو من شكله ، وحتى لو دققوا النظر إليه فهم لا يعرفون شكل المسيح أو ملامحه أصلاً ، وما بقي في أذهانهم عن يهوذا ليس إلا صورة مهتزة غير واضحة ، بل لعل أن أحداً منهم لو ظن للحظة أن هذا المقبوض عليه هو يهوذا مرشدهم نفسه لاستبعد هذا الشك من نفسه ما دام أن المقبوض عليه لا يدعي أنه يهوذا ولا ينفي كونه المسيح نفسه ، ثم حتى لو قوي الشك في نفسه ، فأي مصلحة له في أن يكشف حقيقة شخصية هذا المقبوض عليه ، هل يعلن خيبته وفشله هو ومن معه من الجمع ، بل إنه لو فعل لما وجد في الجمع من يؤيده ، ولوجد أعداء المسيح في ذلك ضلالة يريد بها مطلقها أن يرفع من شأن المسيح وهو ما يرفضونه .(1/216)
وما قلناه من استشعار يهوذا الندم وفداحة جرمه وإثمه حتى ليستسلم لمن ألقوا عليه الأيادي باعتباره المسيح ليشرب نفس الكأس التي كان سيذيقها للمسيح سيده ، ما قلناه من ذلك ليس كثيراً على يهوذا وطبقاً لرواية الأناجيل نفسها ، فنحن نعلم أولاً أنه كان من تلاميذ المسيح ، وهو بذلك كان من الأخيار المصطفين ، ثم إن إنجيل متى يقرر لنا صراحة عن يهوذا الاسخريوطي أنه ندم على ما فعله بالمسيح إذ نقرأ فيه (حينئذ لما رأي يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ..) (ص 27 : 3) ، بل إن هذا الإنجيل لا يكتفي بالقول بندم يهوذا بل إنه يضيف أيضاً أن ندمه هذا وصل به إلي حد أن خنق نفسه ، إذ نقرأ فيه عن يهوذا بعد ندمه (ثم مضي وخنق نفسه .) (ص 27 : 5) ، وإذا كان يهوذا يذكر بغير شك ما قاله المسيح عن هذا الذي سيسلمه من قوله (ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان .) (متى ص 26 : 24) ، إذا كان يهوذا يذكر ذلك ، وكان منطقياً ومعقولاً طبقاً لرواية إنجيل متى أن يبلغ به الندم على ما أتاه مع المسيح أن يمضي ويخنق نفسه ، فليس بكثير مع هذا أن يكون منه أن يستسلم لمن ألقوا عليه الأيادي ظناً منهم أنه المسيح عليه السلام وبعد رفع المسيح ، ويبلغ به ندمه أن يسكت على هذا ليجرع نفس الكأس التي كان سيذيقها له ، خاصة مع ما قلناه من أنه ربما ظنه ما ارتفع إلا ليظهر في مكان آخر ، وحسب أنه بذلك يدفع عنه شر أعدائه بعد ذلك ، ليس ذلك بكثير أن يكون منه ، بل إن هذا هو المنطقي والمعقول أن يكون منه حينئذ ، وبذلك أيضاً ، تكون قد تحققت تماماً وكاملة ، تلك النبوءات التي هتفت بها المزامير من قبل مئات السنين والتي تقول (كراجياً . حفرة فسقط في الهوة التي صنع.) و (يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه.) (ومعروف هو الرب قضاء أمضى . الشرير يعلق بعمل يديه .) و (حفروا قدامي حفرة . سقطوا في وسطها.) ، ويكون هو بذلك من قصدته المزامير بحديثها عن المصلوب وعلي(1/217)
لسانه فيقول (أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر) و( يا الله أنت عرفت حماقتي وذنوبي عنك لم تخف .... غطي الخجل وجهي ... أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي .) ، أليس هذا هو التحقيق الكامل الدقيق لكل ذلك.
يقبض الجمع إذن على يهوذا ، ويتوجهون به إلي قيافاً رئيس الكهنة ، أو إلي حنان الذي كان حما قيافاً أولاً كما ذكر إنجيل يوحنا ، وهنا تعود إلي أذهاننا تلك المقابلة الأولى بين يهوذا الاسخريوطي ورؤساء الكهنة وقواد الجند ، والتي رأينا أنها لم تكن لتسمح بأن ترسب في أذهانهم صورته ، وخاصة بعد مضي هذا الوقت منذ أن كانت ، بل إن هذه الصورة لا محل لأن تثار في أذهانهم لأن بين أيديهم شخص مقبوض عليه على أنه المسيح عليه السلام ، وهو لا ينفي ذلك ، ثم هو قد جاءهم ليلاً بين جمع كثير حتى أنه لو كان لصورة يهوذا بعض الأثر في أذهانهم ، فإن هذه الظروف لن تسمح لهذا الأثر بأن يبرز حينئذ ، وهنا يحضرنا شخص كان حقيقاً بأن يتعرف على شخصية هذا الذي قبض عليه ، ويعلن للناس جميعاً أنه يهوذا الاسخريوطي وليس المسيح عليه السلام ، ألا وهو بطرس ، الذي رغم هربه مع باقي التلاميذ ، إلا أنه اختبأ بعيداً يراقبهم وهم يقبضون علي يهوذا ، وإذا كنا قد رأينا أن عدد من أتوا للقبض علي المسيح لا يقل عن ستمائة كما يري القمص باسيليوس إسحق وقد يصل وفقاً لتقديره إلي ألف ، وكان بطرس قد اختبأ بعيداً ، فلابد أنه بعد عن كل هذا العدد ، وبعد عنهم جميعاً إلي الحد الذي يطمئن معه إلي أنهم لن يلاحظوه فيه ، ومن هناك ، من مخبئه على هذا البعد ، والمقبوض عليه بين كل هذا العدد ، والوقت كما نعلم ليلاً ، والمصابيح والمشاعل قد عرفنا أثرها ، فإننا لا نحسب أنه كانت هناك بذلك أدني فرصة لبطرس ليتعرف على حقيقة شخصية هذا الذي قبض عليه ، ولكنه بغير شك سيحسبهم قبضوا على المسيح إذ هو من أتوا ليقبضوا عليه ، ثم ها هو الجمع وقد ألقوا الأيادي على من ظنوه المسيح ،(1/218)
ويسيرون به ، وهم يحيطون به من كل جانب ، وفي ظروف الليل والمصابيح والمشاعل والعدد الكبير ، فإننا لا نستطيع أيضاً أن نتبين هنا أدني فرصة لبطرس ليتعرف على شخصية المقبوض عليه خاصة وأنه كان يتبعهم من بعد ، ظناً منه أنهم ألقوا الأيادي على المسيح ، وعلى تتبعه لهم حتى وصولهم إلي دار رئيس الكهنة ، فإننا لا نستطيع أن نتبين من الأناجيل أنه اقترب في أي لحظة من المسيح ، بل المتوقع أن يكون تتبعه لهم دائماً عن بعد حتى يصل إلي دار رئيس الكهنة خلفهم ، ولا نحسبه بقادر حينئذ أن يدخل بين كل هذه الأعداد ، ومع ما يعتمل في نفسه من خوف ، حتى يصل إلي مكان قريب من المقبوض عليه ، بل إننا نراه وقد اشتبه فيه البعض ، ينكر معرفته للمسيح ثلاث مرات ، بل ويحلف علي ذلك من خوفه حتى أنه يضطر إلى الابتعاد نهائياً عن دار رئيس الكهنة ، وبذلك ضاعت فرصته في الكشف عن حقيقة شخص هذا الذي قبض عليه .(1/219)
ونعود إلي يهوذا الاسخريوطي ، لقد وصلوا به إلي قيافا رئيس الكهنة ، وها هو ذا أمامه حيث اجتمع الكتبة والشيوخ وقد ظنه المسيح نفسه ، ولنتابع في إنجيل متى ما حدث هناك ، لقد طلبوا شهود زور عليه لكي يقتلوه فلم يجدوا ، وتقدم شاهدا زور وقالا أنه قال أنه يقدر أن ينقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام يبنيه ، وظل هو ساكتاً لا يتكلم ، كأنما كان مصراً أن يتحمل وزر خيانته ، حتى أن رئيس الكهنة تعجب وسأله أما يجيب بشيء ، وقد سمع ما يشهدان به عليه ، ولكنه مع هذا ظل ساكتاً ، إنه نفس الإصرار ، وهنا يعود رئيس الكهنة فيسأله سؤالاً غريباً ، إنه يستحلفه بالله الحي أن يقول هل هو المسيح ابن الله ، ولا يجيبه هذا بالإيجاب لأنه ليس المسيح فعلاً ، ولعله قد ندم وتاب ولم يشأ أن ينطق بغش فآثر ألا يجيب بالإيجاب فيكون قد غش ، كما أن رغبته في التستر على المسيح لم تزل باقية فلم يجب أيضاً حتى بالنفي ، وإنما قال له أنت قلت ، أي أنت الذي تقول هذا وليس أنا ، ولا يكتفي بذلك وإنما كأنما أراد أن يعرف أتباع المسيح أنه ليس المسيح فقال (وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء .) (ص 26 : 64) ، وابن الإنسان في إنجيل متى هو المسيح عليه السلام ، وإن المرء ليعجب ، كيف يذكر هذا في الإنجيل على لسان هذا الذي حوكم ، ورغم ذلك يجري الاعتقاد بأنه هو نفس المسيح عليه السلام ، إن جلوس ابن الإنسان عن يمين القوة ومجيئه على سحاب السماء هو ما يكون بعد صعود المسيح عليه السلام بلا خلاف ، ولكن هذا الذي يتكلم أمام قيافا رئيس الكهنة ، إنما يقطع فيقول بالتحديد أنه من الآن ، أي منذ هذه اللحظة التي هو واقف فيها أمامهم ويتحدث فيها إليهم ، منذ هذه اللحظة ، يرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء ، وهذا القول منه لا يمكن أن يكون قد قصد به نفسه ، فالكلام نفسه ومعناه يقطعان بأنه يتحدث عن آخر(1/220)
جالس في نفس اللحظة - في تقديره - عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء ، ذلك أنه هو الواقف أمامهم ، إنما بقي معهم حتى قدم للوالي وصلب في اليوم التالي ، وظل بضع ساعات على الصليب حتى مات فدفن ، وحسب اعتقاد المسيحيين قام من القبر في اليوم الثالث ، فكيف يكون معه كل هذا وعلى مدي تلك الأيام بينما يكون في نفس اللحظة التي يتحدث فيها إلي قيافا قائلاً هذا الكلام جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء ، لاشك أنه هنا يتحدث عن آخر ، وإنه ليهوذا الاسخريوطي وحده من يمكن أن يصدر منه هذا الكلام ، فهو الشاهد على معجزة رفع المسيح ، وهو من يستنتج من رفعه أنه قد أتي الوقت ليجلس عن يمين القوة ويأتي على سحاب السماء ، ولذا حق له أن يقطع لرئيس الكهنة بأنه منذ هذه اللحظة التي يتحدث إليه فيها يرون كل ذلك ، وهذه الأقوال في حد ذاتها ، وفي الإنجيل نفسه ، لهي دليل قاطع على أن هذا الذي قبض عليه واقتيد إلي قيافا وحوكم وصلب في اليوم التالي لم يكن المسيح بأي حال من الأحوال ، بل إن هذه الأقوال دليل قاطع على رفع المسيح من لسان هذا الذي حوكم والذي كان في الأصل شاهد مجد المسيح بمعجزة رفعه.
وتمضي الرواية في إنجيل متى فتقول أنه لما كان الصباح تشاوروا حتى يقتلوه فأوثقوه ومضوا به إلي بيلاطس البنطي الوالي الذي سأله عما إذا كان هو ملك اليهود ، فلم يجب إلا بأنه هو - أي بيلاطس - الذي يقول ، تماماً كما سئل في اليوم السابق عما إذا كان هو المسيح.(1/221)
ووقف رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه ، بينما هو هنا أيضاً لا يجيب بشيء حتى أن بيلاطس تعجب وسأله عما إذا كان لا يسمع ما يشهدون به عليه ، إلا أنه مع هذا لم يجب ولا عن كلمة واحدة ، حتى تعجب الوالي جداً ، وهنا نري سكوت هذا المقبوض عليه ، هذا السكوت الغريب ، يتكرر كلما سئل عن حقيقة شخصيته ، فلا يجيب بشيء ، ولنا أن نتساءل ، لو كان هو المسيح حقاً ففيم سكوته وهو الذي عندما حضر الجمع للقبض عليه لم يتردد في الإفصاح لهم عن شخصيته ، لماذا هناك يفصح بينما هنا يسكت ولا يجيب ، بينما الأجدر به أن يتكلم هنا لا هناك إن كان هو المسيح ، ولكن أبداً إنه لا يجيب ولا عن كلمة واحدة ، أبداً لن يكشف عن حقيقة شخصيته ، إنه نفس الإصرار ، أن يجرع نفس الكأس التي كان سيذيقها لسيده ، إنه يهوذا وليس المسيح ، إنه يهوذا وقد ندم فأبي أن ينطق بغش فيدعي أنه المسيح ، أو بحق ربما ظن أنه به سيكشف المسيح نفسه بينما قد عزم منذ تجلت له قدرة الله برفع مسيحه ، عزم عندئذ أن يحمي المسيح ولو بدمه .(1/222)
ويعجب الوالي ، حتى ليفكر في إطلاق سراحه ، خاصة وأنه قد تعود أن يطلق في كل عيد أسيراً ، فسأل الناس عمن يريدون أن يطلق لهم سراحه ، وكان يريد أن يطلبوا الذي يظنونه المسيح ، ومع هذا فلم يرتفع صوت واحد يطلبه ، وإنما هدرت الجموع تنادي بإطلاق سراح من يدعي باراباس ، ويتردد الوالي إذ كان يريد أن يطلق سراح هذا الذي يظنونه المسيح ، ولذا يسألهم عما يفعله بهذا ، وهنا يتجلي حقد الحاضرين جميعاً على من ظنوه المسيح ، فقالوا جميعاً ليصلب ، ومن جميعاً هذه التي وردت في إنجيل متى ، والذي نواصل سرد الرواية منه ، نقطع بأنه لم يكن وسط هذا الجمع أحد من أتباع المسيح ، وإلا لطلب إطلاق سراحه ، أو في القليل لو خاف لأحجم عن طلب صلبه ، ولكن الوالي يظل رغم ذلك علي تردده بشأنه ، وكأنما أراد أن يستدر عطف الحاضرين علي من يظنونه المسيح ، فيسألهم عن الشر الذي عمله حتى يصلب ، ولكن صراخهم يعلو ليصلب ، وحينئذ يعلن الوالي أنه برئ من دم هذا البار ويسلمه ليصلب ، وإلي هنا لا نري أحداً بين الحاضرين من أتباع المسيح أو ممن يمكنهم معرفة حقيقة شخصية هذا الذي قبض عليه.(1/223)
حوكم إذن وخرج مذنباً ، إنه هنا الذي طالعناه في سفر المزامير في المزمور المائة والتاسع (إذا حوكم فليخرج مذنباً ...... ووظيفته ليأخذها آخر .) ، والذي وجدنا في سفر أعمال الرسل ينسب هذا الشطر الأخير من الآيات (ووظيفته ليأخذها آخر .) ، إلي يهوذا ، ففهمنا منه أنه هو أيضاً الذي حوكم وأدين ، أما المسيح عليه السلام ، والذي انعقدت المحاكمة له ، ورغم أنه لا يحكم عليه عند محاكمته ، وإنما يحكم علي آخر ، تماماً كما رأينا في المزمور السابع والثلاثين من قوله (الرب لا يتركه في يده ولا يحكم عليه عند محاكمته .) ، أدين إذن يهوذا وسلم ليصلب ، فيخرجون به إلي حيث يقابلون رجلاً يسخرونه لحمل صليبه ، ويأتون به إلي موضع يقال له جلجثة ، وهناك صلبوه ، فتم ذلك ما تنبأت المزامير من أن الشر يميت الشرير ، وأن الشرير يعلق بعمل يديه ، كراجياً حفرة فسقط في الهوة التي صنع ، حفر حفرة أمام المسيح فسقط في وسطها ، وصار يهوذا إلي يومنا هذا عاراً عند البشر ، تماماً كما جاء على لسان المصلوب في المزمور الثاني والعشرين أنه دودة لا إنسان ، عار عند البشر ، وكما يستطرد نفس المزمور المجتازون كانوا يجدفون على هذا المصلوب وهم يهزون رؤوسهم ، وكذلك رؤساء الكهنة يستهزئون به مع الكتبة والشيوخ وهؤلاء هم من ذكر لنا إنجيل متى أنهم شاهدوا المصلوب ، بخلاف الجنود الذين اقتسموا ثيابه بينهم واقترعوا عليها تماماً كما جاء في ذلك المزمور ، وبين كل هؤلاء لا نستطيع أن نتبين أحداً من أتباع المسيح عليه السلام ممن يعرفونه ويستطيعون التحقق مما إذا كان المصلوب هو المسيح نفسه أم غيره .(1/224)
ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض إلي الساعة التاسعة ، حيث صرخ المصلوب قائلاً إلهي إلهي لماذا تركتني ، وهي نفس الصيحة التي صاحها المصلوب في المزمور الثاني والعشرين والذي وجدناه يتحدث أيضاً عن نفسه في هذا المزمور فيقول : ( أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر .....) ، وهو القول الذي وجدناه بحق أنه ينطبق على يهوذا الاسخريوطي دون المسيح كما بينا من قبل ، فما كان المسيح يوماً بعار عند البشر ، فما كان أبداً إلا مجداً وفخراً للبشر جميعاً .(1/225)
وإن لمعترض أن يقول أنه قد ذكر في إنجيل يوحنا أنه (وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية . فلما رأي يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً قال يا امرأة هو ذا ابنك . ثم قال للتلميذ هو ذا أمك . ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلي خاصته .) (ص 19 : 25 - 27) ، فها هم أقرب الناس إلي المسيح يقفون أمامه وهو على الصليب يتحدث إليهم ويشير عليهم بما يراه ، فكيف إذن لم يعرفه أحد وهو على الصليب ، والبحث في هذا الأمر إنما يدخل في نطاق البحث عما إذا كان يمكن أن يذكر شيء غير صحيح في الأناجيل ، وهو ما قلنا أننا سنفرد له المبحث السادس في هذا الفصل ، وإنما لعلنا نستطيع أن نقول شيئاً فيما يختص بهذه الواقعة الآن ، فوجود هؤلاء الأشخاص أمام المصلوب وتحدثهم إليه على هذا النحو لهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لمن يسرد واقعة الصلب وما حدث خلالها ، ومع ذلك فإننا نجد أن الأناجيل الثلاثة الأخرى خالية من أي إشارة إليها ، فإذا عرفنا أن تلك الأناجيل الثلاثة هي أقرب الأناجيل إلي حياة المسيح وإلي واقعة الصلب ، وأن إنجيل يوحنا لم يكتب إلا حوالي سنة 98 ميلادية ، لكان لزاماً علينا أن نقول بأن هذه الواقعة لو كانت بالفعل للزم أن تذكر في أي من هذه الأناجيل الثلاثة الأولي إن لم يكن فيها جميعاً ، بل إن هذه الأناجيل الثلاثة لم تغفل الإشارة إلي هؤلاء الذين أشار إليهم إنجيل يوحنا وقال أنهم كانوا واقفين أمام الصليب يتحدثون إلى المصلوب ، فقد جاء في إنجيل متى بعد أن وصف محاكمة من ظن أنه المسيح وصلبه (وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه ، وبينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي وسالومة . اللواتي أيضاً تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل . وأخر كثيرات اللواتي صعدن معه إلي أورشليم .) (ص 15 : 40 و 41) ، كما جاء في إنجيل لوقا في الموضع نفسه (وكان جميع معارفه(1/226)
ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك .) (ص 23 : 49) ، فإذا كانت الأناجيل تجمع على أن هؤلاء الذين ذكرهم إنجيل يوحنا من كان واقفاً من بعيد ولم يذكر أي من هذه الأناجيل أن أيا منهم قد اقترب منه ولم يشر أي منهم إلي أم المسيح عليها السلام على الإطلاق بينما أشاروا إلي غيرها ، فهل من المعقول أن يذكروا وقوفهم عن بعد ويغفلوا وقوفهم عن قرب من المصلوب لو كان ، وهل من المعقول أن يشيروا جميعاً إلي نساء غير أم المسيح ولا يشيرون إلي أمه لو كانت هناك وهي الأناجيل التي كانت أقرب كثيراً . إلي تلك الواقعة من إنجيل يوحنا ، بل ويغفلوا حديثاً بين المصلوب وأم المسيح وهو على الصليب ، لعمري أن العقل ليأبى قبول ذلك ، وإن ما جاء في الأناجيل الثلاثة الأولي بشأن هذه الواقعة لهو الحقيق بالاعتبار ، ولا يكون ما ورد في إنجيل يوحنا في هذا الخصوص دليلاً على وقوعه ما دام يتعارض مع باقي الأناجيل على هذا النحو الواضح.
وأخيراً فلعلنا بعد كل ذلك نستطيع أن نقول وبحق أن الصورة التي انتهينا إليها من قبل من تخليص الله للمسيح عليه السلام برفعه من بين أعدائه الذين قدموا للقبض عليه والقبض علي يهوذا الاسخريوطي رغم أنه كان مرشد الأعداء إلي المسيح والقبض عليه ، ومحاكمته وصلبه على أنه المسيح نفسه ، لعلنا بعد كل ذلك نستطيع أن نقول بأن هذه الصورة يمكن في العقل والمنطق أن تكون صحيحة ، بل لعلنا وبعد كل ما خضناه في الصورة التي أوردتها الأناجيل نفسها نستطيع أن نقول بأن هذه الصورة هي وحدها التي يمكن أن تكون صحيحة .(1)
المبحث الثاني
مصير الجسد الذي صلب وما قيل عن خنق يهوذا لنفسه
وعن ظهور المسيح بعد ذلك(1/227)
ولا نستطيع ، ونحن ننتهي إلي أن الذي قبض عليه وحوكم وصلب هو يهوذا الاسخريوطي ، أن نتغاضي عما جاء في إنجيل متى من أن يهوذا وقد ندم ( ..... مضي وخنق نفسه ) (ص 27 : 5) ، كما لا نستطيع أيضاً أن نتغاضي عن السؤال البديهي عن مصير جسد يهوذا إن كان هو الذي صلب ، حيث لم يوجد الجسد في القبر بعد دفنه ، وشاع ترتيباً على ذلك أنه المسيح وقد قام من الأموات بعد دفنه وقابله أيضاً كثيرون بعد ذلك ، ونتناول فيما يلي هذه النقاط الثلاث كلا على حدة .
أولاً : ما ذكره إنجيل متى عن أن يهوذا مضي وخنق نفسه :
والبحث في هذه النقطة يدخل في نطاق البحث عما إذا كان يمكن أن يذكر شيء غير صحيح في الأناجيل ، وهو ما سنفرد له المبحث السادس من هذا الفصل كما قدمنا ، ولكن ، وبصدد هذا الموضوع بالذات ، فإنه يتعين بحثه ، هنا ، ونحن نجد أن إنجيل متى وهو يصف لنا كيفية موت يهوذا الأسخريوطي يقول :
( ثم مضي وخنق نفسه ) . (ص 27 : 5) ، والذي نعرفه أن أياً من الأناجيل الثلاثة الأخرى لم تذكر لنا شيئاً بالمرة عن موت يهوذا ، والذي نستطيع أن نستخلصه من هذه الآية التي وردت في إنجيل متى أن يهوذا قد خنق نفسه فمات ، عبارة واضحة وصريحة لا لبس فيها ولا غموض ، ولكن لعلنا نذكر هنا ما جاء في أول إصحاح من سفر أعمال الرسل عن مصير يهوذا ، فقد رويت فيه رواية أخرى عن كيفية موته حيث جاء في ذلك الإصحاح :
( وفي تلك الأيام قام بطرس في وسط التلاميذ ، وكان عدة أسماء معاً نحو مائة وعشرين ، فقال أيها الرجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع .(1/228)
إذ كان معدوداً بيننا وصار له نصيب من هذه الخدمة ، فإن هذا اقتني حقلاً من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها . وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دماً أي حقل دم.) (15 - 19).
فهنا يذكر لنا بطرس عن كيفية موت يهوذا صورة أخرى مغايرة تماماً لما ذكره إنجيل متى في هذا الشأن ، فبينما يذكر متى في إنجيله أن يهوذا قد خنق نفسه ، يقول بطرس عن يهوذا أيضاً مبيناً لنا كيف مات أنه إذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ، بل إنه يؤكد لنا هذه الرواية بقوله أن ذلك صار معلوماً عند جيمع سكان أورشليم ، وشتان بين الروايتين ، ففي إنجيل متى يندم يهوذا حتى أنه يخنق نفسه ، أي ينتحر بيديه ، بينما ما نستطيع أن نفهمه من أقوال بطرس أن الصورة التي مات عليها يهوذا إنما كانت كلعنة الله ، فسقط على وجهه وانسكبت أحشاؤه كلها ، ولم يكن ذلك بحال كما يفهم من الصورة بيديه أو خنقاً لنفسه أو انتحاراً ، فأي الروايتين يمكن أن تكون صحيحة ، وكل منهما تناقض الأخرى تناقضاً ينفيها ، وليس في العهد الجديد ما يرجح إحداهما على الأخرى ، فإذا ما أقيم الدليل بعد ذلك على صورة أخرى لموت يهوذا ، وهي الصورة التي انتهينا إليها من تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، كانت هذه الصورة بغير شك حقيقة بالاعتبار ، ولا ينفيها أو يشكك في صحتها ما ورد في إنجيل متى من أن يهوذا مضي وخنق نفسه ، أو ما ورد في سفر الأعمال من أنه إذ سقط على وجهه انشق من الوسط وانسكبت أحشاؤه كلها ، لأن كلا من هاتين الصورتين تنفي الأخرى ، وليس هناك من دليل آخر يؤيد أيا منهما بخلاف الصورة التي انتهينا إليها على نحو ما تقدم .(1)(1/229)
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلي تناقض آخر انطوت عليه الروايتان ، ففي إنجيل متى نقرأ عن يهوذا (حينئذ لما رأي يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة إلي رؤساء الكهنة والشيوخ . قائلاً . قد أخطأت إذا سلمت دماً بريئاً . فقالوا ماذا علينا . أنت أبصره . فطرح الفضة في الهيكل وانصرف . ثم مضي وخنق نفسه . فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم .
فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء . لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم . حينئذ تم ما قيل بارميا النبي القائل وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل . وأعطوها عن حقل الفخاري كما أمرني الرب .) (ص 27 : 3 - 10) ، فنعلم من هذا أن يهوذا حسب رواية إنجيل متى بعد أن ندم رد الثلاثين من الفضة ، أجرة الظلم إلي رؤساء الكهنة والشيوخ الذين رفضوا قبولها فطرحها في الهيكل وانصرف ومضي وخنق نفسه ، وتشاور رؤساء الكهنة وانتهوا إلي أن يشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء والذي سمي حقل الدم ، بل ويؤكد لنا متي البشير ذلك بقوله أنه بذلك تم ما قيل بأرميا النبي القائل ما تقدم ، ومن الغريب أننا إذ نطالع سفر ارميا كله لا نجد فيه أدني أثر لهذه النبوءة ، وإن كان تجد شبيهاً بها في سفر آخر هو سفر زكريا الذي نقرأ فيه (فقلت لهم إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا . فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة . فقال لي الرب ألقها إلي الفخاري الثمن الكريم الذي ثمنوني به . فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلي الفخاري في بيت الرب .) (ص 11 : 12 و 13) ، هذا عن النبوءة أما ما ذكره متى البشير من رد يهوذا للثلاثين من الفضة وطرحها في الهيكل وخنقه لنفسه إثر ذلك ، فإنه يناقض ما ورد في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل وسبق ذكره من قول بطرس عن يهوذا (فإن هذا اقتني حقلاً من أجرة الظلم ... دعي ذلك الحقل في لغتهم(1/230)
حقل دما أي حقل دم .) ، إذ نفهم من هذا أن يهوذا هو الذي اشتري الحقل وبأجرة الظلم وهي أجره عن تسليمه المسيح ، بعكس ما ورد في إنجيل متى من أنه رد أجرة الظلم هذه وطرحها في الهيكل واشتري رؤساء الكهنة الحقل بها.
ثانياً : مصير جسد يهوذا بعد دفنه :
يعتقد المسيحيون ، وطبقاً لما جاء في الأناجيل ، بأن المسيح عليه السلام هو الذي صلب ودفن ، وأنه في اليوم الثالث قام من بين الأموات ، ولذا لم يوجد الجسد في القبر في اليوم الثالث ولاشك أن من البديهي التساؤل عن مصير جسد يهوذا إذا كان هو الذي صلب ، ذلك أن عدم وجود جسد المصلوب في قبره قد برره المسيحيون بأنه المسيح وقد قام من بين الأموات ، وهو ما لا يمكن القول به إذا كان يهوذا الاسخريوطي هو الذي صلب ودفن ، فما مصير جسده إذن .
ولن نحاول هنا أن نقول جديداً ، بل نقرأ ما قاله متي البشير في إنجيله من أنه :
(وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلي المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان . فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين ، قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام . وإذا سمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين ، فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم . فشاع هذا القول عند اليهود إلي اليوم .) (ص 28 : 11 - 15) .(1/231)
فمن هذه الآيات نعرف أنه قد أشيع بعد عدم العثور على جسد المصلوب في قبره أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ، وقد شاع هذا القول إلي يوم كتابة إنجيل متى عند اليهود ، ولسنا نعرف ، كيف تحقق كاتب هذا الإنجيل من أن ما أشاعه العسكر كان بناء على اتفاقهم على ذلك مع رؤساء الكهنة والشيوخ ، فلسنا نعتقد أن هؤلاء العسكر على صلة بتلاميذ المسيح ، ولذا فليس ببعيد أن يكون بعض الناس ، أيا كان قصدهم ، قد سرقوا الجسد بالفعل ، سواء أكانوا من أتباع المسيح وقد ظنوا أنهم بذلك يؤدون واجباً أو ينالون بركة أو نحو ذلك ، أو من أعدائه وقد أرادوا أن يتخلصوا من هذا الجسد الذي علق عليه أتباع المسيح آمالاً كبيرة ، وخاصة أننا نجدهم يقولون في إنجيل متى لبيلاطس بعد دفن المصلوب بيوم ( يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي أني بعد ثلاثة أيام أقوم . فأمر بضبط القبر إلي اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات . فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولي .) (ص 27 : 63 و 64) ، بل إننا نعرف من إنجيل يوحنا أن مريم المجدلية كان أول ما تبادر إلي ذهنها عندما لم تجد الجسد في اليوم الثالث في القبر أن الأعداء سرقوه حتى أنها أبلغت سمعان بطرس وتلميذ آخر بذلك فركضا إلي القبر ، وذلك بالطبع ليعرفا إن كان الجسد قد سرق حقاً ، وفي هذا نقرأ في إنجيل يوحنا (وفي أول أيام الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلي القبر باكراً والظلام باق فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر . فركضت وجاءت إلي سمعان بطرس وإلي التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه .(1/232)
فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلي القبر . وكان الاثنان يركضان معاً . فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولاً إلي القبر . وانحني فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل . ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة . والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان بل ملفوفاً في موضع وحده .
فحينئذ دخل أيضاً التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلي القبر ورأي فآمن . لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات . فمضي التلميذان أيضاً إلي موضعهما .) (ص 20 : 3 - 10) ، بل إننا نقرأ في هذا الإنجيل كذلك كما رأينا أنه وحتى هذه اللحظة ، لم يكن تلاميذ المسيح يعرفون أنه ينبغي أن يقوم من الأموات ، والمهم على أي حال ، أننا نخلص من كل ذلك ، إلي أن القول بسرقة جسد المصلوب ليس جديداً تقوله اليوم بل هو أمر أشيع في زمن الصلب نفسه وأيد الإنجيل الذي كتبه متى البشير وجود هذه الإشاعة ودوامها حتى كتابته لإنجيله ، كما أن سرقة هذا الجسد هو أول ما تبادر إلى ذهن مريم المجدلية عندما اكتشفت عدم وجود جسد المصلوب في قبره وهو ما لم يعترض عليه تلميذان من تلاميذ المسيح عندما ابلغتهما به مريم المجدلية بل جريا من فورهما إلي القبر ليتحققا مما قالته لهما ، وإذا كانت هذه الإشاعة وذاك التفكير قد ماتا في أذهان المسيحيين بعد ذلك فإن هذا لم يكن إلا لما قيل عن ظهور المسيح بعد ذلك للبعض واعتبار المسيحيين هذا الظهور المقال به فيه التبرير الكافي لعدم وجود الجسد في القبر والدليل الكافي علي كذب تلك الإشاعة ولهذا فإن بحث ما قيل عن قيام المسيح من الأموات وظهوره للبعض هو ما يتعين أن ننتقل إليه .(1)
ثالثاً : ما قيل عن قيام المسيح من الأموات وظهوره لبعض الأشخاص :(1/233)
وفي ذلك نجد أن الأناجيل المتداولة قد أجمعت على أن المسيح عليه السلام قد قام بين الأموات وظهر لأشخاص معينين ، رابطين بين ذلك وبين عدم العثور على جسد المصلوب في القبر والذي كانوا يعتقدون أنه المسيح نفسه ، بل إن الأناجيل مضت إلي أكثر من هذا حيث نجد منها ما قال بأن المسيح عرض على تلاميذه أثر المسامير في يديه ورجليه وأثر الطعنة في جنبه تأكيداً لأنه قد صلب بالفعل ثم قام من بين الأموات بعد دفنه ، فما تفسير كل ذلك خاصة وأنه لا يتفق مع كل ما انتهينا إليه فيما تقدم ، بل ويناقضه .
ولعله يكفينا في هذا الصدد أن نراجع ما جاء في الأناجيل نفسها لنتبين وجه الحقيقة في هذا الأمر فنتناول ما قيل عن قيام المسيح من الأموات وظهوره للبعض كما ورد في الأناجيل علي التوالي.(1/234)
وهنا نجد أن إنجيل متى يبدأ فيقول (وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر .) (ص 28 : 1) ومن ذلك نعرف أن اللتين ذهبتا لتنظرا القبر هما مريم المجدلية ومريم الأخرى ، وبينما يبدأ إنجيل مرقس فيقول (وبعد ما مضي السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه . وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلي القبر إذ طلعت الشمس .) (ص 16 : 1 و 2) فنعرف من ذلك أن اللاتي ذهبن إلي القبر بينهن سالومة والتي لم يشر إليها إنجيل متى ، أما إنجيل لوقا فهو يبدأ بقوله (ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلي القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس .) (ص 24 : 1) ويقصد بمن أتين إلي القبر هنا نساءكن قد أتين مع جسد المصلوب إلي الجليل حيث ورد في نهاية الإصحاح السابق مباشرة (وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح . وتبعه نساء كن قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده . فرجعن واعددن حنوطاً وأطياباً . وفي السبت استرحن حسب الوصية .) (ص 23 : 54 - 56) ، ومن هذا نعرف أن اللاتي ذهبن إلي القبر كثيرات ، بل ومعهن أناس آخرون أيضاً ، أما إنجيل يوحنا فيبدأ بقوله (وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلي القبر باكراً والظلام باق ...) (ص 20 : 1) ، ومن هنا نعرف أن التي ذهبت هي مريم المجدلية وحدها ، بل والظلام باق ، بخلاف ما قرأناه في إنجيل مرقس من أن الشمس طلعت ، وهكذا فمنذ أول رواية عما قيل عن قيام المسيح من بين الأموات وظهوره للبعض نجد تناقضاً لا مزيد عليه حتى بالنسبة لمن قيل أنهم ذهبوا إلي قبره أول مرة وكانوا أول من اكتشف عدم وجود الجسد في القبر .(1)(1/235)
ويستطرد إنجيل متي فيقول ( وإذا زلزلة عظيمة حدثت . لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه .) (ص 28 : 2) ، ومن ذلك نعرف أن الزلزلة ودحرجة الحجر كانت في حضور مريم المجدلية ومريم الأخرى ، أما إنجيل مرقس فيستطرد ليقول (وكن يقلن فيما بينهن من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر ، فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج ، لأنه كان عظيماً جداً ) (ص 16 : 3 و4) ، ونفهم من ذلك أن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة وصلن بعد أن كان الحجر قد دحرج ، أما إنجيل لوقا فنقرأ فيه (فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر .) (ص 24 : 2) ، ونعرف من ذلك أن النساء اللاتي تبعنه ومعهن أناس وصلن فوجدن الحجر مدحرجاً ، بل ويضيف هذا الإنجيل (فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع .) (ص 24 : 3) ، أما إنجيل يوحنا فيقول مستطرداً (فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر .) (ص 20 :1) ، ويكاد التناقض هنا أن يكون مجرد استطراد للتناقض السابق بالنسبة لمن وصلوا إلي القبر ، فيما عدا أنه يفهم من إنجيل متى أن الزلزلة ودحرجة الحجر كانت في حضور من ذهبتا إلي القبر ، بعكس باقي الأناجيل التي تعرف منها أن من وصلوا إلي القبر وجدوا الحجر مدحرجاً .(1)(1/236)
وبعد ذلك يمضي إنجيل متى فيقول (وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات . فأجاب الملاك وقال للمرأتين لا تخافا أنتما .فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب . ليس هو ههنا لأنه قام كما قال . هلم انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعاً فيه . واذهبا سريعاً قولا لتلاميذه أنه قد قام من الأموات . وها هو يسبقكم إلي الجليل . هناك ترونه . ها أنا قد قلت لكما . فخرجتا سريعاً من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه .) (ص 28 : 3 - 8) ، أما إنجيل مرقس فيستطرد قائلاً (ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن . فقال لهن لا تندهشن . أنتن تطلبن يسوع الناصري . قد قام . ليس هو ههنا . هو ذا الموضع الذي وضعوه فيه . ولكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس أنه يسبقكم إلي الجليل . هناك ترونه كما قال لكم . فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات ) (ص 16 : 5 - 8) ، أما إنجيل لوقا فيستطرد قائلاً (وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة . وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلي الأرض قالا لهن . لماذا تطلبن الحي بين الأموات . ليس هو ههنا لكنه قام . أذكرن كيف كلمكم وهو بعد في الجليل . قائلاً أنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم . فتذكرن كلامه ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله ، وكانت مريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن اللواتي قلن هذا للرسل فتراءي كلامهن لهم كالهذيان ولم يصدقوهن . فقام بطرس وركض إلي القبر فانحني ونظر الأكفان موضوعة وحدها فمضي متعجباً في نفسه مما كان .) (ص 24 : 4 - 12) ، أما إنجيل يوحنا فيستطرد قائلاً (فركضت وجاءت إلي سمعان بطرس وإلي التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم(1/237)
أين وضعوه . فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلي القبر . وانحني فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل ، ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة . والمنديل الذي علي رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان بل ملفوفاً في موضع وحده . فحينئذ دخل أيضاً التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلي القبر ورأي فآمن . لأنهم لم يكونوا يعرفون بعد الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات . فمضي التلميذان أيضاً إلي موضعهما .
أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكي . وفيما هي تبكي انحنت إلي القبر فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحد عن الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً . فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين . قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه .) (ص 20 : 2 - 13) ، وهكذا نجد تناقضاً بيناً آخر بين الأناجيل في هذه الرواية ، فبينما نجد أن الذي يوجد في إنجيل متي ملاك وفي إنجيل مرقس شاب ، وذلك عند القبر ، نجد إنجيل لوقا يقول رجلان ، وإنجيل يوحنا يقول ملاكان ، أما كيف يمكن أن يكونوا واحداً واثنين في نفس الوقت فهذا ما لا يمكن فهمه (1)، وبينما يذكر إنجيل مرقس أن من ذهبن لم يقلن لأحد شيئاً معللاً ذلك بأنهن كن خائفات ، يؤكد إنجيل لوقا أنهن أخبرن الأحد عشر ، بل وجميع الباقين بهذا كله ولا يمكن أن نعرف من ذلك ما إذا كن لم يخبرن أحداً حقاً أم أنهن أخبرن الجميع بهذا كله (1)، أما إنجيل يوحنا فقد بعد عن ذلك كله إذ جاءت روايته بعيدة كل البعد عما جاء في الأناجيل السابقة إذ يقول أن مريم المجدلية بمجرد أن رأت الحجر مرفوعاً عن القبر ركضت إلي بطرس وتلميذ آخر جاء معها ثانية إلي القبر ثم وقفت خارج القبر تبكي ولما انحنت إلي القبر رأت الملاكين ، وعلي أي حال فإنه إلي هنا لم يشاهد أحد بعد أو يتحدث إلي من قيل أنه المسيح وقد قام من الأموات ، ولنتتبع فيما يلي ما جاء بعد ذلك لنعرف ما الذي قيل عن ظهوره .(1/238)
وهنا نجد أن إنجيل متى يستطرد فيقول (وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما وقال سلام لكما . فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له . فقال لهما يسوع لا تخافا . اذهبا قولا لأخوتي أن يذهبوا إلي الجليل وهناك يرونني ) (ص 28 : 9 و 10) ، ومن ذلك نعرف أن أول ظهور المسيح كان لمريم المجدلية ومريم الأخرى بعد وصولهما إلي القبر ومقابلتهما لملاك الرب بينما كانتا منطلقتين لتخبرا تلاميذ المسيح بما رأيتاه ، كما أنهما عرفتاه على الفور إذ سجدتا له كما أنه لم يكن بحاجة ليعرفهما من هو ، أما إنجيل مرقس فيستطرد قائلاً (وبعد ما قام باكراً أول الأسبوع ظهر أولاً لمريم المجدلية التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين .) (ص 16 : 9) ، فنعرف من ذلك أن أول ظهوره كان لمريم المجدلية وحدها ، أما إنجيل لوقا فأمسك عن الإشارة إلي ظهور المسيح لأي من السيدات ، بينما يستطرد إنجيل يوحنا فيقول (ولما قالت هذا التفتت إلي الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع .قال لها يسوع يا امرأة لماذا تبكين . من تطلبين . فظنت تلك أنه البستاني فقالت له يا سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه ، قال لها يسوع يا مريم . فالتفتت وقالت له ربوني الذي تفسيره يا معلم . قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلي أبي . ولكن اذهبي إلي أخوتي وقولي لهم إني أصعد إلي أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ، فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وأنه قال لها هذا .) (ص 20 : 14 - 18) ، وللمرء أن يعجب ، إذ يقرأ أن مريم المجدلية وهي من أعرف العارفين بالمسيح ، تلقاه ، وقد علمت بعد وجوده في القبر ، ثم لا تعرفه ، أفيكون هذا هو المسيح حقاً ، ثم هل صحيح أن هذا كان لقاءها به عند القبر وقد حسبته أنه البستاني وكانت بمفردها ، أم الصحيح ذلك الذي ذكره عنها إنجيل متى من أنها لقتيه وكانت معها مريم الأخرى أثناء انطلاقهما لتخبرا تلاميذه بما قاله(1/239)
لهما الملاك ، وهل هو صحيح أنها لم تلمسه لأنه لم يصعد بعد إلي أبيه كما طلب منها ، أم الصحيح أنها ومريم الأخرى قد أمسكتا بقدميه ، إن المستحيل أن يكون كل من هذا وذاك صحيحاً ، وليس ببعيد عن التصديق إزاء كل هذه التناقضات ، أن يكن كل ذلك شائعات انطلقت من البلبلة التي نتجت عن صلب من ظنوا أنه المسيح ، وعن سرقة جسد المصلوب ، فانطلق كل بتفسير للأمر ، وأخذ كل واحد يؤلف في الأمر رواية تتفق مع التفسير الذي يراه ، وكان في القول بقيام المسيح من بين الأموات وظهوره للبعض تأييداً لذلك من أكثر الروايات التي لقيت قبولاً وترحيباً لدي الكثيرين .(1)(1/240)
وإذا يسكت إنجيل متى عن أي ظهور للمسيح بعد ذلك ، عدا القول بظهوره أخيراً للأحد عشر تلميذاً حين يقول (وأما الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلي الجليل حيث أمرهم يسوع . ولما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا . فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً . دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض . فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس . وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام إلي انقضاء الدهر . آمين ) (ص 28 : 16 - 20) وبهذا انتهي إنجيل متي ، أما إنجيل مرقس فنراه يشير إلي ظهور آخر سبق ذلك فيقول (وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم وهما يمشيان منطلقين إلي البرية . وذهبا هذا وأخبرا الباقين فلم يصدقوا ولا هذين .) (ص 16 : 12 و 13) ثم يستطرد إنجيل مرقس قائلاً : (أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام . وقال لهم اذهبوا إلي العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها . من آمن واعتمد خلص . ومن لم يؤمن يدن . وهذه الآيات تتبع المؤمنين . يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة . يحملون حيات وإن شربوا شيئاً ميتاً لا يضرهم ويضعون أيديهم علي المرضي فيبرأون . ثم إن الرب بعد ما كلمهم ارتفع إلي السماء وجلس عن يمين الله . وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة . آمين ) . (ص 165 : 14 - 20) وبذلك انتهي أيضاً إنجيل مرقس ، أما إنجيل لوقا فقد فصل ما قيل عن مقابلة لاثنين التي أشار إليها إنجيل مرقس فقال : ( وإذا اثنان منهم كانا منطلقين في ذلك اليوم إلي قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة إسمها عمواس . وكانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحواديت . وفيما هما يتكلمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته . فقال لهما ما هذا الكلام الذي تتطارحان به(1/241)
وأنتما تمشيان عابسين . فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام . فقال لهما وما هي . فقالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب . كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه . ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل . ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك . بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكراً عند القبر . ولما لم يجدن جسده أتين قائلات أنهن رأين ملائكة وقالوا أنه حي . ومضي قوم من الذين معنا إلي القبر فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء . وأما هو فلم يروه . فقال لهما أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء . أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلي مجده . ثم ابتدأ من موسي ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب . ثم اقتربوا إلي القرية التي كان منطلقين إليها وهو تظاهر كأنه منطلق إلي مكان أبعد . فألزماه قائلين أمكث معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار . فدخل ليمكث معهما . فلما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما ، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفي عنهما . فقال بعضهما لبعض ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب . فقاما في تلك الساعة ورجعا إلي أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم . وهم يقولون أن الر قام بالحقيقة وظهر لسمعان . وأما هما فكانا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز ) (ص 24 : 13 - 35) ويستطرد إنجيل لوقا مشيراً إلي ما قيل عن الظهور الأخير للمسيح قائلاً (وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم . فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً . فقال لهم ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم . انظروا يدي(1/242)
ورجلي إني أنا هو . جسوني فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي . وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه . وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم ههنا طعام . فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل . فأخذ وأكل قدامهم . وقال لهم هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسي والأنبياء والمزامير . حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب . وقال لهم هكذا هو مكتوب . وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث . وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم وأنتم شهود لذلك . وها أنا أرسل إليكم موعد أبي . فأقيموا في مدينة أورشليم إلي أن تلبسوا قوة من الأعالي . وأخرجهم خارجاً إلي بيت عنيا . ورفع يديه يباركهم . وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلي السماء . فسجدوا له ورجعوا إلي أورشليم بفرح عظيم . وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله . آمين) (ص 24 : 36 - 53) وبهذا انتهي إنجيل لوقا ، وأما إنجيل يوحنا فإنه يستطرد قائلاً : ( ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم . ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه . ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب . فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم . كما أرسلني الآب أرسلكم أنا . ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس . من غفرتم خطاياه تغفر له . ومن أمسكتم خطاياه أمسكت . أما توما أحد الاثني عشر الذي يقال له التوأم فلم يكن معهم حين جاء يسوع . فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب . فقال لهم إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أومن . وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضاً داخلاً وتوما معهم . فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال(1/243)
سلام لكم ثم قال لتوما هات إصبعك إلي هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً . أجاب توما وقال له ربي وإلهي . قال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت . طوبي للذين آمنوا ولم يروا . وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب . وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه .) (ص 20 : 19 - 31) ثم يشير نفس الإنجيل في الإصحاح التالي وهو الأخير إلي ظهور آخر للمسيح علي بحر طبرية ، فنفهم منه أن التلاميذ كانوا في سفينة ولم يصيدوا شيئاً ، ووقف المسيح علي الشاطئ ، ولم يكن التلاميذ يعرفون أنه المسيح ، وسألهم عما إذا كان لديهم أكل فأجابوا بالنفي ، وعندئذ طلب إليهم أن يلقوا شبكتهم ففعلوا ، وامتلأت سمكاً حتى لم يقدروا أن يجذبوها ، وعندئذ عرفه أحد التلاميذ وصاح في الجميع أنه الرب ، فأسرعوا إليه وطلب منهم أن يتناولوا الغذاء ، ويقول إنجيل يوحنا مؤكداً أن هذه ثالث مرة يظهر فيها المسيح لتلاميذه ، ويشير ذلك الإنجيل بعد هذا إلي حيث دار بين المسيح وتلاميذه ولا يذكر لنا أين ذهب المسيح بعده ، وينتهي الإنجيل بقوله : ( وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة . آمين ) (ص 21 : 25) .(1/244)
وإذ نقف قليلاً هنا ، فلنسترجع ما رأيناه في الأناجيل عن ظهور المسيح للاثنين المنطلقين ولتلاميذه ، وليس أغرب من رواية الاثنين المنطلقين ، فهما إذا يقابلان شخصاً يسيران معه ويتحدثان في كل الأمور التي كانت ، ويستمران طويلاً في سيرهما وهو يحدثهما عن كل شيء من موسي وجميع الأنبياء ، حتى إذا ما وصلا إلي قريتهما حاول أن ينصرف فأبيا إلا أن يستضيفاه فدخل معهما ، وطوال هذا الوقت لم يعرفا من هو إلي أن أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما فقالا بأنه المسيح وذهبا يخبران تلاميذه بذلك ، فأي عقل يصدق ويقطع بأن هذا الذي كان معهما هو المسيح حقاً وخاصة أننا بصدد شخص يقال أنه صلب وقبر ، ويقال أيضاً أنه رفع إلي السماء ، وهل يكفي هذا الذي قال به المنطلقان للقول والإيمان بأن هذا الذي كان معهما هو المسيح حقاً ، بالقطع لا ، ثم ما معني ما ذكره إنجيل مرقس عمن قال أنه قابل هذين المنطلقين باعتباره المسيح ولكنه ظهر لهما بهيئة أخرى ، فأي هيئة أخرى هذه التي قصدها لا أن يكون بشكل رجل آخر ليس له شكل المسيح ، ولمجرد أنه أخذ منهما خبزاً وكسر وناولهما ظناً أنه المسيح ، ويختفي الرجل ، وله العذر أن يفعل ، فقد أشيع أن المسيح صلب ، ولو أشيع أنه هو نفسه المسيح فهل ينتظر غير الصلب ، فيختفي ، ويقولون بعد هذا أنه المسيح ، فأي عقل يصدق هذا ، ثم لم يستبعد البشيران متى ويوحنا هذه الرواية ، ألا يوحي ذلك بأنه حتى هما لم يطمئنا إليها .(1)(1/245)
وأما عن ظهور المسيح عليه السلام للتلاميذ ، فإننا نجد أن أول إنجيل كتب بعد المسيح عليه السلام وهو إنجيل متي يذكر أن المسيح ظهر لتلاميذه مرة واحدة ولم يقل غير أربع جمل ، ولم يذكر لنا أين ذهب بعد ذلك ، ولم يشر إلي أي مقابلات أخرى له مع تلاميذه أو أي أقوال أخري قالها لهم غير هذه ، أما الإنجيل الذي كتب بعد إنجيل متي وهو إنجيل مرقس ، فيشير إلي ظهور المسيح مرة واحدة أيضاً لتلاميذه ولكنه يقول كلاماً غير هذا الذي ورد علي لسانه في إنجيل متى ويزيد عليه ، ويشير إلي أن المسيح ارتفع إلي السماء بعد ذلك ، ثم يأتي إنجيل لوقا الذي كتب بعد الإنجيلين السابقين ، فيزيد في رواية اللقاء الأخير الذي ظهر فيه المسيح لتلاميذه ، ونراه يقول فيه كلاماً غير الذي ورد في الإنجيلين السابقين ، ويتحدث عن وقائع جديدة ، فيقول أن التلاميذ ظنوه روحاً فيطلب منهم أن يجسوه وأراهم يديه ورجليه ، ويشير إلي أنه بعد ذلك انفرد عنهم إلي السماء ، أما إنجيل يوحنا ، والذي كتب بعد هذه الأناجيل الثلاثة بسنين عديدة ، فيذكر لنا أن المسيح ظهر لتلاميذه ثلاث مرات وليس مرة واحدة ، ويزيد في تفصيلات هذه اللقاءات عما ورد عن لقاء المسيح مع تلاميذه في الأناجيل الأخرى ، بل إنه يورد على لسان المسيح ما يفيد أنه هو الذي صلب ويري أثر الصلب والطعن لتوما ويقول بعد ذلك أنه طوبي للذين آمنوا ولم يروا ، وهو يؤكد أنه ظهر في وسطهم في أول مرة وقد كانوا مجتمعين وقد أغلقوا الأبواب ولم يكن بينهم توما ، ولا نعرف أين ذهب المسيح في المرة الأخيرة .(1/246)
هذا هو ما ذكرته الأناجيل عن ظهور المسيح لتلاميذه ، ولعلنا لاحظنا أنه كلما مر الزمن ، كلما برزت وقائع جديدة لم يشر إليها من قبل ، ولعلنا لا نجد تعليلاً مقبولاً لذلك سوى أن الشائعات لا يمكن إلا أن تكون كذلك ، فهي تبدأ صغيرة ، ثم تمضي تكبر فتكبر ، يضيف إليها هذا ويزيد عليها ذاك ، وذلك بعكس الحقائق ، فالحقيقة إذا عرفت فور وقوعها ، فإن تفاصيلها تعرف فوراً ، ثم تغيب عن الذهن شيئاً فشيئاً ، وعلي هذا ، فما ذلك التناقض في الأناجيل ، وذلك التوسع في الإشارة إلي ظهور المسيح بعد ما قيل عن صلبه كلما مر زمن ، إلا دليل علي أن شيئاً من ذلك لم يكن في أصله صحيحاً ، لأنه لو كان كذلك ، للزم أن يضيق تباعد الزمن وليس أن يتسع .
وهكذا نستطيع أن نقول ، أن كل ما قيل عن ظهور المسيح في الأناجيل بعد ما قيل عن صلبه ودفنه ، لا يعدو أن يكون بعض أقوال متناقضة ، هي في حد ذاتها ، لفرط تناقضها ، دليل عدم صحة بعضها البعض ، وهي في مجموعها ، لا تعدو أن تكون إشاعات لا يمكن في تقديرها وتقويمها اعتبارها دليلاً مقبولاً علي ظهور المسيح حقاً ، حيث أنه في معظم الأحيان كان يظهر كما يقال لأناس لا يعرفون أنه المسيح إلا بعد فترة ، بل وكان يظهر كما رأينا مرة في إنجيل مرقس ، في هيئة أخرى ، وكان حقيقاً لو كان هو المسيح حقاً أن يظهر بهيئته هو ، وأن يعرفه من يراه خاصة من تلاميذه وخاصة للوهلة الأولي ، وبصفة خاصة هؤلاء التلاميذ الذين يقال أنه ظهر لهم علي بحر طبرية والذين خافوا أن يسألوا من رأوه من هو ، كما أن في اتساع الرواية كما قدمنا بمرور الزمن ، دليل في حد ذاته علي عدم صحتها ، وأنها لا تعدو في الأصل أن تكون إشاعة ، يتناقلها الناس فيضيف بعضهم جديداً إليها ، ولذا تتسع كلما مر بها الزمن .(1/247)
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلي أن كل ذلك يدخل في نطاق البحث في امكان أن يذكر شيء غير صحيح في الأناجيل ، وهو ما سنفرد له المبحث السادس من هذا الفصل كما قلنا من قبل .
المبحث الثالث
كيف يستدل المسيحيون من العهد القديم علي أن
الذي صلب هو المسيح نفسه لا يهوذا الاسخريوطي
رأينا فيما سبق ، أن المسيحيين يربطون بين ما جاء في العهد القديم من نبوءات ، وبين ما يحدث في العهد الجديد ، مؤكدين أن ما يحدث في العهد الجديد هو نفس ما سبق التنبؤ به في العهد القديم ، ووجدنا أن هذه الطريقة للدراسة والبحث يكاد أن يكون لها أهم اعتبار بين دراساتهم وأبحاثهم ، وبطبيعة الحال فإن من أهم الأحداث في العهد الجديد بل لعله أهمها جميعاً عند المسيحيين ، هو صلب المسيح كما يعتقدون ، ولاشك أنهم لابد وقد قالوا بأن العهد القديم قد تنبأ به ، ولكننا وجدنا بحق أن المزامير إنما تنبأت بتخليص الله للمسيح ورفعه إليه وبأن الذي سيصلب إنما هو يهوذا الاسخريوطي ، ولذا فمن الطبيعي أن يثور التساؤل ، كيف إذن يستدل المسيحيون من العهد القديم علي أن الذي سيصلب هو المسيح عليه السلام .(1/248)
وأول ما يحضرنا في هذا الصدد هو ما أشارت إليه الأناجيل نفسها من نبوءة وردت في العهد القديم فقالت أن نفس ما كان مع الذي صلب هو الذي أشارت إليه هذه النبوءة ، ومن ذلك (ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها . لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلي لباسي ألقوا قرعة .) (متى ص 27 : 35) ، ومنه أيضاً (فقال بعضهم لبعض لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون ، ليتم الكتاب القائل أقتسموا ثيابي وعلى لباسي ألقوا قرعة . هذا فعله العسكر .) (يوحنا ص 19 : 24) ولقد وجدنا أن العبارة المقصودة هنا هي تلك التي وردت في المزمور الثاني والعشرين والتي تقول (يقسمون ثيابي بينهم وعلي لباسي يقترعون .) وقد وجدنا من قبل أن هذا المزمور يصف بكل دقة عملية الصلب ، وما كان أثناءها حتى ليعد بحق نبوءة عن الصلب ، ولكن الخلاف لم يكن حول واقعة الصلب نفسها ، إذ هي أمر متفق عليه ، وإنما الخلاف هو حول حقيقة شخصية المصلوب ، وقد وجدناه في المزمور يعرفنا بنفسه فيقول (أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر ....) ووجدنا بحق أن هذا الوصف لا يمكن أن يكون مقصوداً به المسيح عليه السلام الذي لم يكن ليكون إلا فخراً للبشر ومجداً لهم ، ولا يكون المصلوب هنا عاراً عند البشر إلا أن يكون هم يهوذا الاسخريوطي كما يجري اعتقاد المسلمين وليس المسيح عليه السلام كما يعتقد المسيحيون ، فيهوذا هو الذي لحق به العار إلي يومنا هذا لخيانته المسيح سيده .
هذا هو الفهم الصحيح والمقبول لعبارة عند البشر والمقصود منها في ذلك المزمور ، وطبيعي أن يشعر المسيحيون بما تتضمنه من معني ، ولكنهم لا يملكون إلا تأييد ما ورد في الأناجيل والقول بأن المسيح نفسه هو المقصود منها ، ولذا كان لزاماً أن يجدوا لها تفسيراً آخر بحيث تنطبق على المسيح ، فكيف فسروها وهنا نجد كتاباً في تفسير المزامير للقديس أغسطينوس (ترجمة القس مرقس داود) يقول في صفحة 42 منه :(1/249)
( " أما أنا فدودة لا إنسان " .
" أما أنا " والآن يتكلم لا في شخص آدم ، بل أنا ذاتي ، يسوع المسيح ، ولدت بدون تناسل بشري في الجسد لكي أكون فوق البشر كإنسان لكي بهذا على الأقل يتنازل الكبرياء البشري فيقتدي بتواضعي .
" عار عند البشر ومحتقر الشعب " .
في اتضاعي صرت عاراً عند البشر ، حتى يقال كعلامة تهزئ وشتيمة "أنت تلميذ ذاك " ، ويحتقرني الشعب .)
كما تقرأ في كتاب رب المجد الذي سلفت الإشارة إليه في صفحة 88 منه :
( ولو شئنا لأثبتنا أن كل كلمة وكل حرف من كل ما ذكر في هذا المزمور تدل على آلام رب المجد وأسبابها ونتائجها ، ولكنا نكتفي باليسير عن الكثير عالمين أن داود مات موتاً طبيعياً ، وأما الذي ثقبت يداه ورجلاه فهو المسيح وعالمين أن داود مات على فراشه وبين ذويه وبنيه بعد أن أجلس ابنه على سرير الملك ، وأما الذي اقتسمت ثيابه حين صلبه وألقيت القرعة على قميصه المنسوج بغير خياطة فهو المسيح ، وعالمين أن داود نشأ قائداً وصار ملكاً في فلسطين ، وكانت الملوك تصاهره وتخطب وده ، وأما المسيح فكان عاراً عند البشر ومحتقر الشعب لأنه أخلي نفسه من مركزه المجيد الأزلي آخذاً صورة عبد فقير ومات على الصليب لفدائنا . فتأملوا .)(1/250)
وإن الأمر لحقيق فعلاً بأن نتأمل ، فهل إذا كان المسيح هو الله فعلاً كما يعتقد المسيحيون ، وقد أخلي نفسه من مركزه الأزلي آخذاً صورة عبد فقير ومات علي الصليب لفدائهم كما يقولون ، هل لهذا يصير عاراً عند البشر ، وإن كان كذلك فعلاً ففيم إذن يقول شاول الذي عرف ببولس الرسول في رسالته الأولي إلي أهل كورنثوس (لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً ) (ص 2 : 2) وفيم يقول أيضاً في صلب رسالته إلي أهل غلاطية (وأما من جهتي فحاشا أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم .) (ص 6 : 14) ، ففيم إذن هذا الكلام الذي يؤمن به المسيحيون جميعاً عن الفخر بالمسيح مصلوباً إذا كان بصلبه قد أصبح عاراً عند البشر .
حقاً إن الأمر لحقيق فعلاً بأن نتأمل ، فهل يضير المسيح أن يصلب لفداء البشر كما يقولون حتى ليصير بذلك عاراً عند البشر ، إن كلمة عار إنما هي تلصق بالشخص نفسه ، وهو في المزمور لم يقل لنا بأنه صار عاراً لصلبه ، وإنما هو من الأصل عار عند البشر ، وبغض النظر عن الصلب ، وليس ذلك سوى لخيانته المسيح سيده ، أي أن الذي يقول ذلك لا يمكن أن يكون إلا يهوذا الاسخريوطي ، ولعل الحقيق بالتأمل أيضاً ، القول بأنه إذ يقول عن نفسه دودة لا إنسان ، إنما لكي نعرف أنه فوق البشر ، وما عهدنا الدودة فوق الإنسان ، بل إننا لم نعهد ما هو أحط منها ، وها نحن نقرأ في كتيب تأملات في سفر المزامير الصادر عن كنيسة مارجرجس باسبورتنج - بالإسكندرية - وهو منسوب لآباء الكنيسة القديسيين ، تعليقاً على هذه الآية :(1/251)
( " أما أنا فدودة لا إنسان " ، وبالمثل يقول أشعياء ( لاتخف يا دودة يعقوب ويا شرذمة إسرائيل . أنا أعينك يقول الرب ...... ) أ ش 41 : 14 ، فالدودة هي أحقر المخلوقات ، وتولد أحياناً من الطين لا تزاوج ، وتفني الأشياء التي تمسها ويحس أمامها الإنسان أنه قوي جداً وقادر على سحقها ، أولا كان ربنا على الصليب محتقر الشعب كاحتقار الدودة . وكل الذين رأوه كانوا يستهزئون به لأنه لم يقدر أن ينجي نفسه . ثانياً : كما أن الدودة أحياناً تولد من الطين بلا تزاوج كذلك فربنا يسوع أخذ جسداً من جسم العذراء ابنة آدم الذي خلق من الطين ، وأيضاً لم يولد المسيح من زرع بشر . ثالثاً : كما أن الدودة تفني الأشياء التي تمسها كذلك فربنا يسوع أفني كل القوات المضادة للإنسان التي كان سبباً في هلاكه . رابعاً : أن الآب سر أن يسحقه بالحزن على الصليب ، لذلك أحس الجند ورؤساء اليهود (أي أحس الإنسان) أن لهم سلطاناً علي تعذيب المسيح وسحقه كسلطانهم علي الدودة الحقيرة . ربي يسوع : من أجلي تصير أنت دودة لا إنسان ، أما أنا الإنسان الترابي فأتعالي أمام تواضعك العجيب . إن اتضاعك يا ربي وصل إلي درجة اتضاع الدودة مع أنك القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل . اتضعت لتخلصني من كبريائي الذي طالما وقف في طريق خلاصي . ربي يسوع : أكشف لي أعماق حبك لي . ربي يسوع : علمني أنا الشقي المتكبر أن أتعلم منك الاتضاع فأقول أمام الأخرين " أنا دودة لا إنسان " .)(1/252)
ولا أحسبني بحاجة لأن أفسر للقارئ هنا خطأ القول بأن وصف الدودة يدل على عدم التناسل البشري ، أو أن الدودة تولد أحياناً من الطين بلا تزاوج ، ولكني أتفق مع القول بأن الدودة هي أحقر المخلوقات ، وهو وصف حقيق بأن يطلق على يهوذا لخيانته للمسيح ، وأنه لحقيق بأن يري في نفسه لذلك دودة لا إنسان ، أما المسيح ، فحاشي أن يري بنفسه ذلك ، ولسنا هنا بحاجة إلي غير قراءة المزمور نفسه ، لنفهم أن قصد قائله هو تحقير نفسه بقوله أنه دودة لا إنسان ، وليس أن يرفعها فوق البشر كإنسان كما قرأنا ، وليس أدل على ذلك من أن المزامير كانت تصف دائماً هذا المصلوب بالعار والخزي وبالشرير وتربط بين هذه المعاني في وحدة كاملة نفهم منها أن المقصود بها جميعاً واحد ، وأيا ما كان ما يحاول به المسيحيون تبرير انطباق كلمة العار على المسيح ، فلا أخال أن أحداً منهم بقادر على أن ينسب له كلمة الشرير وهي التي ارتبطت دائماً بهذا الذي قال عن نفسه في المزامير أنه عار .
ومن كل ذلك نستطيع أن نقول أن هذا التفسير غير المقبول على الإطلاق والذي يقول به المسيحيون لما جاء في المزمور الثاني والعشرين من قوله (أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر) ... والذي يحاولون به إثبات أن المسيح نفسه هو المقصود بهذه الكلمات ، إنما قد دفعهم إليه أنهم لا يستطيعون أن يقولوا أن غيره هو المقصود بها ، لأن المزمور إنما تنبأ عن الصلب ، ولأن الأناجيل نفسها ربطت بينه وبين ما ذكرته عن صلب المسيح ولذا فالقول بأن آخر هو المقصود به إنما يكون بمثابة اعتراف منهم بأن الذي صلب هو غير المسيح ، وهذا ما لا يريدون أن يفعلوه ، ولذا لم يكن من سبيل أمامهم إلا أن يقولوا بأن المسيح نفسه هو المقصود بها ، مهما بعد تفسيرهم لذلك عن العقل والمنطق ، لا لشيء إلا لأن المسيح هو الذي يجب أن ينتهوا إلى أنه المقصود منها.(1/253)
ومما ذكرته الأناجيل أيضاً من نبوءات العهد القديم (فتم الكتاب القائل وأحصي مع أثمه ) ، ونرى المسيحيين يجمعون على أن هذا الإصحاح إنما انطوى على نبوءة كاملة عن محاكمة المسيح وصلبه بل والحكمة منه ، ولذا فإنه من اللازم بحث ما في هذا الإصحاح من نبوءات لنرى مدى اتفاقها مع أي من الفرضين ، ويلاحظ أن النسخة العربية من الكتاب المقدس قد اقتطعت جزءاً من الإصحاح 52 من نفس السفر وأضافته إلى أول الإصحاح 53 على النحو التالي :
(ص 52 من ع 13 وص 53)
(هو ذا عبدي يعقل يتعالي ويرتقي ويتسامي جداً ، كما أندهش منك كثيرون ، كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم . هكذا ينضح أمما كثيرين . من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به وما لم يسمعوه فهموه.
ص 53 من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب . نبت قدامه كفرخ وكعرق من أرض يابسة لا صورة له ولا جمال فنظر إليه ولا منظر فنشتهيه محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به .
ولكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروبا من الله ومذلولا . وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل أثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا . كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا . ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أخذ . وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء أنه ضرب من أجل ذنب شعبي ، وجعل مع الأشرار قبر ومع غني عند موته ، على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش.(1/254)
أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن ، إن جعل نفسه ذبيحة إثم يري نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح ، من تعب نفسه يري ويشبع ، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرون وآثامهم هو يحملها ، لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه وأحصي مع أثمه وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين )
وإذ نقرأ هنا في نهاية الإصحاح 52 (من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به وما لم يسمعوه فهموه .) ، نجد أن النص الإنجليزي للكتاب المقدس يسرد نفس الآية بصيغة المستقبل بما ترجمته أن الملوك سيقفلون أفواههم عليه لأن ما لم يخبروا به سيرونه وما لم يسمعوا به سيعتبروه ، وبذلك فالفارق بين النصين العربي والإنجليزي أن الأول يتحدث بصيغة الحاضر بينما يتحدث الثاني بصيغة المستقبل ، وأن كلمة فهموه في النص العربي وردت في النص الإنجليزي بما معناه اعتبروه ، ولا يكاد يكون هناك ثمة فارق بين النصين ما دمنا نعتبرهما في الحالتين يتنبآن عن المستقبل وإن كان النص الإنجليزي أوضح في بيان قصد التنبؤ عن المستقبل لوروده بصيغة المستقبل بخلاف النص العربي الذي يتحدث بصيغة الحاضر ، إلا أن الفارق بين النصين يظهر واضحاً بين كلمتي فهموه واعتبروه ، ذلك أن فهم الأمر لغة يعني علمه أو عرفه أو أدركه ، أما اعتبر الشيء لغة فيعني اختبره أو عده ، والفارق بينهما كما هو واضح أن الفهم يعني إدراك حقيقة الأمر ، أما الاعتبار لوروده بصيغة المستقبل بخلاف النص العربي الذي يتحدث بصيغة الحاضر ، إلا أن الفارق بين النصين يظهر واضحاً بين كلمتي فهموه واعتبروه ، ذلك أن فهم الأمر لغة يعني علمه أو عرفه أو أدركه ، أما اعتبر الشيء لغة فيعني اختبره أو عده ، والفارق بينهما كما هو واضح أن الفهم يعني إدراك حقيقة الأمر ، أما الاعتبار فلا يزيد عن التقرير بما هو ظاهر دون الوصول إلى الحقيقة بشأن ما هو ظاهر ، والاعتبار هنا وبهذا المعني(1/255)
هو الأقرب إلى سياق الكلام نفسه والذي يتفق معه ، فما لم يخبروا به سيبصرونه ، وكذلك ما لم يسمعوا به سيعتبرونه ، ولعل في تطبيق ذلك على ما قيل عن صلب المسيح ما يوضح المعني المقصود من النبوءة والفارق بين فهموه واعتبروه في النصين .
فلقد وجدنا من قبل أن المزامير ، وهي قد سبقت سفر أشعياء بنحو ثلاثمائة عام ، قد تنبأت بتخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه وهذا ما تقول عنه الآية أنهم أخبروا به وسمعوا به من قبل ، أو بمعني أصح هذا ما يفهم من الآية أنهم أخبروا به وسمعوا به من قبل ، ولكنهم وقت الصلب يسمعون ويرون ويحسبون أن الذي يصلب بالفعل هو المسيح عليه السلام ، ولكن هذا هو ما لم يخبروا به لأنهم إنما أخبروا بعكسه كما بينا ، فهم بذلك إنما يبصرون ما لم يخبروا به ، ثم هم بعد ذلك لا يعتبرون إلا أن المسيح هو الذي صلب ، فكأنما هم بذلك قد اعتبروا ما لم يسمعوا به من قبل ، وهكذا تتضح النبوءة التي تقصدها الآية ، فهي إنما تتنبأ بحق بأنهم سيعتبرون أن المسيح هو الذي صلب رغم أنهم أخبروا في النبوءات بعكس ذلك ، ولا يبدو أن هناك ثمة فهم آخر يمكن أن يكون لهذه النبوءة غير هذا الذي أوردناه ، خاصة مع الدقة البالغة فيما جاء به مع ما انتهينا إليه من حقائق .(1/256)
وإثر ذلك يبدأ الإصحاح 53 بالتساؤل (من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب .) ، وفي صيغة السؤال ما يفهم منه أن الخبر المقصود لم يصدقه أحد ، وهل الخبر المقصود (لا ما تنبأت به المزامير من تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه له إليه والذي لم يصدقه أحد ، وما المقصود هنا بذراع الرب التي يتساءل الإصحاح عمن استعلنت له ، أليست قدرة الرب ومعجزته التي رفع بها المسيح إليه وهو نفس الخبر الذي لم يصدقه أحد ، ولكن الإصحاح يمضي فنعرف أن ثمة شخصاًَ قد صدق الخبر واستعلنت له بالفعل ذراع الرب ، ويصفه الإصحاح بقوله أنه محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن محتقر فلم يعتد به ، فمن يكون هذا الشخص ومن تنطبق عليه هذا الأوصاف جميعاً غير المخذول المحتقر لخيانته وإثمه وعاره ، الذي غدر بالمسيح سيده وخانه ، يهوذا الاسخريوطي ، الذي صدق الخبر وحده لأنه رآه بعينيه ، والذي استعلنت له وحده ذراع الرب فرأي المسيح يرتفع إليه ، أليس هذا كله ، وبكل دقة ووضوح هو ما انتهينا بحق إلي أنه الحقيقة عينها.(1/257)
ولكي نتفهم ما سيلي في الإصحاح ، نعود قليلاً إلى ما سبق محاولة القبض على المسيح عليه السلام ، فقد تآمر رؤساء الكهنة والكتبة ليمسكوا بالمسيح ويقتلوه وحضر إليهم يهوذا عارضاً عليهم أن يسلمهم المسيح ، ولما واتته الفرصة لذلك ذهب مع الجند وجمع كبير ليقبضوا عليه ، فهنا المؤامرة هي مؤامرة اليهود ، والذنب فيها ذنب شعب اليهود ومعهم يهوذا ، واليهود أنفسهم هم شعب أشعياء النبي ، وبصلب يهوذا يكون قد حمل وحده في الدنيا وزر الذنب الذي ارتكبه شعب اليهود ، ولذا يصف الإصحاح صلبه وأسبابه فيقول بأن أحزانهم حملها وأوجاعهم تحملها وهو مجروح لأجل معاصيهم ومسحوق لأجل آثامهم فكلهم كغنم ضلوا والرب وضع عليه إثمهم جميعاً (1) ، ولعل في اختيار يهوذا بالذات لأن يصلب حكمة ، لأن إثمه هو أكبر الآثام لأنه إنما كان من تلاميذ المسيح ثم خانه وكان أول المتآمرين عليه ، ثم يشير الإصحاح بعد ذلك إلى ما كان من سكوت يهوذا أثناء محاكمته فيقول بأنه لم يفتح فاه .(1/258)
ويتساءل الإصحاح بعد ذلك قائلاً ( وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء أنه ضرب من أجل ذنب شعبي .) ونجد نفس النص في النسخة الإنجليزية يتساءل بصورة أخرى ، ومن سيعلن لجيله ، وهنا نجد كلمة يظن في النص العربي قد وردت بمعني سيعلن في النص الإنجليزي ، ومفهوم النصين على أي حال أنه في الجيل الذي سيتم فيه الصلب سيخفي أمر معين خاص بهذا الذي سيقطع من أرض الأحياء ويضرب من أجل ذنب الشعب ، أي خاص بهذا الذي سيصلب ، ولم تشر الآية إلى غير هذه الكلمات ، فما هو هذا الذي سيخفي بشأنه ، هل القطع من أرض الأحياء ، أو الضرب ، وهو ما يرمز به إلى الصلب ، بالطبع لا فقد كان الصلب هو ما عرفه كل جيله ، إذن فما الذي يمكن أن يكون مجهولاً بشأنه ، وهنا لا نجد غير شخصيته ذاتها هي التي يمكن أن تكون محلا للتجهيل ، وهذا ما وجدناه تماماً ، فإن أهل جيل الصلب قد ظنوا أنه المسيح عليه السلام من صلب ، فمن منهم كان يظن أو سيعلن أنه يهوذا الأسخريوطي لا المسيح ، أليس هذا هو بالضبط ما يطابق التساؤل الذي ورد في الإصحاح ، ومنه يفهم أيضاً أن شخصيته لن تعرف في جيله وإنما في جيل آخر ، وهذا ما كان بالقرآن الذي نفي صلب المسيح وقال بأن آخر غيره هو الذي صلب ، وتفسير المسلمين الذين أعلنوا أن الذي صلب هو يهوذا الأسخريوطي .(1/259)
ولا خلاف بعد ذلك بالنسبة لما ورد في الإصحاح من أنه جعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته ، إذ لا يختلف الأمر هنا باختلاف شخصية المصلوب ، إلا أننا نجد الإصحاح يمضي فيقول (على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش .) مما قد يقال معه أن هذا الوصف لا ينطبق على يهوذا ، إلا أننا إذا أمعنا النظر في الإصحاح نراه يتحدث بالذات عن وقت المحاكمة والصلب ، وقد وجدنا أن يهوذا لم يقل أنه المسيح عندما سئل في المحاكمة عما إذا كان هو المسيح ، وذلك وفق ما طالعناه في إنجيل متى ن بل كان رده على من سألوه أنتم تقولون ، كما وجدناه في المحاكمة يشير إلى صعود المسيح عليه السلام بقوله أنه (من الآن) ، أي منذ اللحظة التي كان هو واقفاً يتحدث فيها ، فإنهم يرون ابن الإنسان الذي هو المسيح جالساً عن يمين القوة ، وآتياً على سحاب السماء ، وبذا فهو لم يكن في فمه غش ، أما كونه لم يعمل ظلماً فهذا هو بالضبط ما كان سيعتبره محاكموه لو عرفوا أنه يهوذا وليس المسيح ، فهم لم يعاقبوه على ظلم أتاه ، وإنما على ظلم نسبوه لغيره وظنوه هذا الغير فأوقعوا عقابهم عليه لهذا الظن.
ويقطع الإصحاح بعد ذلك بأن المقصود به هو يهوذا الأسخريوطي لا المسيح إذ يقول (أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن .) ، ولا يتصور أن الرب يسر بأن يسحق المسيح بالحزن ، وإنما هو يسر فعلاً بأن يسحق يهوذا بالحزن جزاءاً وفاقاً لخيانته المسيح سيده ، ويمضي الإصحاح مؤكداً ذلك المعني بقوله (من تعب نفسه يري) ، وهو ما يقارب في المعني ما قرأناه في المزامير من (كراجياً حفرة فسقط في الهوة التي صنع .) ، (يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه .) ، وقد سبق أن رأينا معاني هذه الآيات وانتهينا إلى أنها إنما تشير إلى صلب يهوذا الأسخريوطي بدلاً من المسيح عليه السلام .(1/260)
وبذا ننتهي بحق ، إلى أن هذا الإصحاح إنما يتنبأ عن صلب يهوذا الأسخريوطي بدلاً من المسيح عليه السلام (1) ، مؤكداً أن ما جاء في المزامير عن تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه سيتحقق ، ولكن أبناء الجيل الذي يقع فيه الصلب سيرون خطأ ما لم يسبق التنبؤ به ، وسيعتبرون بغير أصل من الواقع ما لم يسمعوا به من قبل ، فسيرون ويعتبرون أن هذا الذي يصلب هو المسيح عليه السلام لا يهوذا الأسخريوطي كما سبق أن أخبروا وسمعوا ، ولن تعلن شخصية هذا المصلوب الحقيقية إلا في جيل آخر ، أما هذا الذي يصلب حقيقة فسيسحقه الله بالحزن ويسر لأن يفعل به ذلك ، لأنه إنما يتحمل وزر خيانته وتآمره وشعب اليهود على المسيح عليه السلام ، بأن يصلب بدلاً منه ، وكل هذا ما يتفق تماماً والتفسير السليم والمقبول لكل ما جاء في الإصحاح كما رأينا بالتفصيل ، وهذا هو نفس ما يصل إليه من يبحث الإصحاح بروح هدفها البحث عن الحقيقة ، وحدها ، ولكنهم يتغاضون عن كل ما ورد في الإصحاح ، ويكتفون منه بأن يشير إلى المصلوب ، ويصرون على أنه المسيح عليه السلام ، لا لشيء سوى ظنهم بأن الذي صلب هو المسيح نفسه ، بل ويستخرجون معني جديداً لما ورد فيه من قوله (وضع عليه إثم جميعنا) ، فيرون أنه المسيح إنما وهو الله وقد تجسد ونزل إلي الأرض ليصلب ويحمل عن الناس جميعاً وزر خطيئة آدم ، ولذا قالت عنه الآية تلك العبارة ، مع أن الواضح أن الإثم المقصود في الإصحاح هو إثم خاص بشعب اليهود وحده ، إذ يقول الإصحاح بعد ذلك (ضرب من أجل ذنبي شعبي .) ، كما أن كلمة جميعنا هذا التي يستندون إليها يقصد بها جميع هذا الشعب وليس جميع الناس ، وليس ذنبهم حقاً إلا تآمرهم على المسيح ومحاولتهم القبض عليه ليقتلوه .(1/261)
ثم يحضرنا بعد ذلك ما قرأناه في سفر أعمال الرسل من أن يهوذا كتب عنه داود في سفر المزامير (وليأخذ وظيفته آخر .) ، فقد وجدنا أن هذه الآية التي وردت في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل إنما تشير إلى الآية التي وردت في المزمور 109 والتي تقول (ووظيفته ليأخذها آخر .) ، ولو أن بطرس قائل هذا الكلام في سفر الأعمال تلي ما سبقه في المزمور لوجده يقول (فأقم أنت عليه شريراً وليقف شيطان عن يمينه إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية . لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر .) ، وما دام أنه يقول عن يهوذا أنه المقصود بقول المزمور (ووظيفته ليأخذها آخر .) ، فإنه لزام عليه أن يقر بأن الذي قال عنه المزمور قبل ذلك (إذا حوكم فليخرج مذنباً) هو أيضاً يهوذا الاسخريوطي ، لأن المزمور يقول كلا القولين عن شخص واحد ، وما دام أحدهما عن يهوذا ، فلابد وأن يكون الآخر عنه ، وبذا فقد كان واجباً على بطرس أن يقول أيضاً أن هذا الذي حوكم وخرج مذنباً وصلب بعد ذلك هو يهوذا الاسخريوطي نفسه ، ولكن من أين له أن يتخيل أن الذي حوكم وأدين ثم صلب هو يهوذا ، وهو الذي كان يمكنه بالفعل أن يتحقق من ذلك فتبع المقبوض عليه من بعيد ولكنه خاف وأنكر صلته بالمسيح أو معرفته له وانصرف حتى لا ينكشف أمره ، فضاعت بذلك فرصته في أن يتعرف على شخص المقبوض عليه الذي حوكم بعد ذلك وصلب ، ولذلك فرغم استدلاله استدلالا صحيحاً بنبوءة صحيحة على يهوذا ، ورغم اقترابه بذلك أدني ما يمكن من الحقيقة ، فإنه يتغاضي رغم ذلك عنها ، إذ ما كان مستطيعاً أن يقر بها.(1/262)
على أن هناك ثمة مثال في العهد القديم ، يري فيه المسيحيون رمزاً كاملاً لصلب المسيح عليه السلام ، وللحق فإن هذا الرمز الذي يشيرون إليه إنما هو الحقيقة عينها ، وفيه التفسير الواضح والرمز الكامل لكل ما يتعلق بواقعة الصلب ، ومع ذلك فهم يتجاهلون هذه الحقيقة تجاهلاً تاماً دون أن يبرروا هذا التجاهل بأي سبب مقبول ، مع أن استنادهم إلى هذا المثال يحتم عليهم الإقرار بها ، أما هذا المثال فهو ما ورد في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين عن امتحان الله لإيمان إبراهيم عليه السلام بأن طلب منه أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه ، فامتثل إبراهيم لإرادة ربه حتى إذا ما هم بذبحه ناداه ملاك الرب ألا يمد يده إلى الغلام وقدم له كبشاً يذبحه عوضاً عن ابنه وباركه الله تعالى لأنه لم يمسك عنه ابنه وحيده ، وفي ذلك يقول الإصحاح سالف الذكر :
( وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم ، فقال له إبراهيم ، فقال هأنذا ، فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق إلى ارض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال التي أقول لك . فبكر إبراهيم صباحاً وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحق ابنه وشقق حطباً لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله ، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد . فقال إبراهيم لغلاميه اجلسا أنتما ههنا مع الحمار ، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما ، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحق ابنه وأخذ بيده النار والسكين ، فذهبا كلاهما معا ، وكلم إسحق إبراهيم أباه وقال يا أبي . فقال هأنذا يا ابني . فقال هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة . فقال إبراهيم الله يري له الخروف للمحرقة يا ابني . فذهبا كلاهما معاً .(1/263)
فلما آتيا إلى الموضع الذي قال له الله بني هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب ، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه . فناداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم إبراهيم . فقال هأنذا . فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً . لأني الآن علمت أنك خائف الله ، فلم تمسك ابنك وحيدك عني . فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه ، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده المحرقة عوضاً عن ابنه . فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يراه . حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب يري .
ونادي ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء ، وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك ، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل على شاطئ البحر ، ويرث نسلك باب أعدائه ، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض . من أجل أنك سمعت لقولي .) (1 - 18)
وهذه هي القصة كما وردت في العهد القديم ، وهي من الوضوح بما لا تحتاج معه إلى شرح ، ويري فيها المسيحيون رمزاً لما يعتقدونه عن صلب المسيح عليه السلام ، ومما يقولونه في ذلك ما نقرأه في كتاب المسيح في جميع الكتب (الذي سلفت الإشارة إليه) في صفحات من 32 - 34 :
( إسحق : تقدمة إسحق هي أحد أكمل الرموز الكتابية المشيرة إلى الذبيحة العظيمة التي قدمت في الجلجثة . ولنتأمل ذلك بتورع ودقة ونسر خطوة بعد أخرى بخشوع لأننا نسير في أرض مقدسة .
جبل المريا
(تكوين 22)
جبل الجلجثة
عدد 2 خذ ابنك
الله ...... كلمنا في ابنه (عب 1 : 2)
وحيدك
الله ..... بذل ابنه الوحيد (يوحنا 3 : 16)
الذي تحبه
الابن الوحيد الذي في حضن الآب (يوحنا 1 : 18)
واذهب إلى ارض المريا
وشرع سليمان في بناء بيت الرب .... في جبل المريا (2 أيام 3 : 1)
على أحد الجبال الذي أقول لك
ولما مضوا به إلى الموضع الذي يدعي جمجمة صلبوه هناك (لوقا 23 : 33)(1/264)
وأصعده هناك محرقة
مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (عب 10 : 10)
رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد (عدد 4)
الله ... سبق وأنبأ بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح (أنظر أعمال 3 : 18)
فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحق ابنه
فخرج وهو حامل صليبه (يوحنا 19 : 17)
فذهب كلاهما معا (عدد 6)
لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي ... هذه الوصية قبلتها من أبي (يوحنا 10 : 17 و18)
أين الخروف للمحرقة (عدد 7)
هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يوحنا 1 : 29)
الله يري له الخروف (عدد 8)
الخروف الذي ذبح منذ تأسيس العالم (رؤيا 13 : 8)
فذهبا كلاهما معاً (عدد 8)
بني هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب (عدد 9)
إن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت (مزمور 40 : 8) مسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أعمال 2 : 23)
الر وضع عليه إثم جميعنا (أشعياء 53 : 6)
ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه (عدد 10)
أما الرب فسر بأن يسحقه (أشعياء 53 : 10) إلهي إلهي لماذا تركتني (متى 27 : 46)
ناداه ملاك الرب من السماء (عدد 11)
(لا صوت من السماء) (متى 26 : 53 ، 54 ، 27 ، 42) خلص آخرين وأما نفسه فيما يقدر أن يخلصها
فلم تمسك ابنك وحيدك عني (عدد 12)
الحزن الشديد يعبر عنه بالنوح على مفقود وحيد (انظر ارميا 6 : 26)
فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه (عدد 13)
كشاة تساق إلى الذبح ... وآثامهم هو يحملها (أشعياء 53 : 7 و 1)(1/265)
وأول ما نلاحظه هنا ، أن الكاتب قد جعل الآيات إلى اليمين تحت عنوان جبل المريا ، أي أنها ما حدث في جبل المريا ، وجعل الآيات إلى اليسار تحت عنوان الجلجثة ، أي أنها ما حدث في الجلجثة ، ومفهوم ذلك أن يورد إلى اليمين الآيات التي وردت في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين فحسب ، وهذا ما فعله بالضبط ، وأن يورد إلى اليسار الآيات التي وردت في الأناجيل عما حدث في الجلجثة ، ولكن هذا هو ما لم يحدث ، إذ أورد إلى اليسار آيات من أسفار الأيام الثاني وأشعياء وأرمياء وكلها من أسفار العهد القديم ، وإذا كان له أن يعتقد أن ما ذكره من آيات هذه الأسفار هو نبوءات تحققت بالفعل في العهد الجديد ، فإن هذا لا يجيز له بأي حال أن يعتبرها هي وما تحقق بالفعل سواء بسواء ، وكان حقيقاً به ما دام يعتبرها نبوءات تحققت بالفعل في العهد الجديد ، أن يورد مكانها من العهد الجديد ، ما يراه من آيات تدل على تحقيقها ، وأما إيراده لها على هذا النحو ، فلا يدل على غير عجزه عن إيراد آيات من العهد الجديد تفيد تحقيقها ، وهي على أي الأحوال يتعين إسقاطها من الاعتبار في مجال المقارنة بين ما حدث في جبل المريا وبين ما حدث في الجلجثة .
ونحن نري الكاتب يبدأ فيقول أن تقدمة إسحق هي أحد أكمل الرموز الكتابية المشيرة إلى المسيح وإلى ما حدث في الجلجثة بالذات ، ويعتبر هذا الرأي كما نري في كتابات المسيحيين من الأمور المستقر عليها ويعتبرونه أمراً مسلماً به ، وإن اختلفوا في تفسير الرمز ، وسنشير إلى هذا الخلاف فيما بعد .(1/266)
ونحن هنا نرى الكاتب يبدأ بجعل إسحق ، الذي طلب الرب من إبراهيم عليه السلام ، وهو والده ، أن يصعده محرقة على أحد الجبال ، رمزاً للمسيح عليه السلام ، وعلى أن الواقعة إنما ترمز بكل دقة إلى تخليص الله للمسيح عليه السلام وصلب غيره بدلاً منه ، فإن الكاتب يتجاهل هذه الحقيقة تماماً ، ذلك أننا نري في الإصحاح أن الله يطلب من إبراهيم أن يصعد ابنه وحيده الذي يحبه محرقة ، وليس من شك أن ذلك الأمر كان عزيزاً على إبراهيم عليه السلام وقاسياً عليه إلى أبعد حد ، إلا أنه لإيمانه لا يملك إلا أن يمتثل لإرادة الله فيرتضي أن يفعل بابنه ما أمره الله أن يفعله ، تماماً كما استسلم المسيح عليه السلام لإرادة الله أن يصلب ، رغم أنه لم يكن يريد الصلب بأي حال ، وهذا هو نفس ما صرح به المسيح حين قال في صلاته لله ( إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت .) (متى ص 26 : 39) ، ثم ها هو إبراهيم عليه السلام يمد يده ويأخذ السكين ليذبح ابنه ، تماماً كما أحاط يهوذا ومن معه بالمسيح عليه السلام ليقبضوا عليه ويقتلوه بعد ذلك ، وهنا نادي ملاك الرب إبراهيم من السماء ألا يمد يده إلى الغلام وألا يفعل به شيئاً ، فقد علم أنه خائف الله ولم يمسك ابنه وحيده عنه ، وهنا نرى الكاتب يقول أنه بالنسبة للمسيح فلم يسمع صوت من السماء ، ولا ندري ، لماذا يظن الكاتب أن الرمز هنا يتعطل ، وخاصة أن هذه اللحظة بالذات هي قلب الرمز وروحه ، بل هي المقصودة منه والمعنية به ، أنها لأهم اللحظات فيه ، وإن للمرء أن يتساءل هنا ، كيف يمكن أن يكمل الرمز بالنسبة للمسيح لو أن الله أراد أن يفعل به مثل ما فعله مع إبراهيم وابنه بعد أن علم أنه خائف الله ، وهذا لم يمسك ابنه وحيده عن ربه ، وذاك لم يمسك نفسه عن ربه ، هل يكون ذلك بصوت من السماء كما كان مع إبراهيم وابنه ، هل بصوت من السماء يصيح في المهاجمين ألا يقربوا المسيح ، بالطبع لا ،(1/267)
فإذا كان هذا الصوت منطقياً مع إبراهيم ، لأنه إنما كان سيذبح ابنه رغماً عنه وليس بمحض إرادته ، تسليماً منه بمشيئة الله ، ولذا فبديهي أن أي صوت سيوقفه ، بل لعله يرهف سمعه عسى أن يسمع مثل هذا الصوت في اللحظة الأخيرة فينقذ ابنه وحيده الذي يحبه ، أما الذين حضروا ليقبضوا على المسيح فإنهم أعداؤه ، وما أتوا إلا ليقتلوه ، وأي صوت هنا لن يوقفهم ، بل وقد يضيع بين زحامهم ، ولقد يقال هنا أن الصوت يكون للمسيح ليهرب ، ولكن كيف ، وإلى أين ، وقد وصل إليه يهوذا ومن معه ، وهرب جميع تلاميذه ، الصوت إذن لا محل له هنا ، وإنما معجزة أخرى لله هي ما يخلص به مسيحه الكريم ، أن يرفعه إليه ، متمماً بذلك النبوءات التي قالت في المزامير (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه .... ) و (أرسل من العلي فأخذني) و (يا رافعي من أبواب الموت) و (يخبئني في مظلته يوم الشر) و (لم يحسبني في يد العدو) ، إلى آخر ذلك مما وجدناه في نبوءات عن رفع الله للمسيح في هذه اللحظة بالذات ، متمماً بذلك رمز تقدمة إسحق ، حيث عرفنا أن الله لم يدع إبراهيم عليه السلام يذبحه ، وما الكبش بعد ذلك ، إلا رمز ليهوذا الذي قبض عليه وحوكم وصلب بدلاً من المسيح عليه السلام.(1/268)
ولكن على وضوح الإصحاح وما يرمز إليه على هذا النحو ، فإن الكاتب تمسكاً منه بأن المسيح هو من يجب أن ينتهي إلى أنه قد صلب ، ينتقل بعد أن كان يري في إسحق رمزاً للمسيح ، فيري أن الكبش أصبح رمزاً له بدلاً من إسحق ، جامعاً بذلك بين ضدين في واحد ، فإسحق - كما يعتقد المسيحيون - خلصه الله من الذبح ، أما الكبش فهو الذي ذبح عوضاً عن إسحق ، فكيف يرمز للمسيح بإسحق الذي يخلصه الله ، وفي نفس الوقت بالكبش الذي يذبحه إبراهيم بدلاً من إسحق ، إن هذا هو ما لم يفسره لنا الكاتب على الإطلاق ، وهو في الواقع ليس إلا مغالطة لا مزيد عليها ، وارتجاج في البحث وأصوله لا حدود له ، وما أوجبه على الكاتب إلا تقيده . بالنتيجة التي يريد حتماً أن يصل إليها ، وهي أن المسيح يجب أن يكون هو من يرمز إلي صلبه.(1/269)
وقبل أن أستطرد في هذا الموضوع أحب أن أوضح أمراً ، فقد سبق من قبل أن رفضت الأخذ بطريقة دراسة الكتاب المقدس بطريق الرمز ، وكان ذلك كما سبق للكيفية التي أبهظ بها استعمال تلك الطريقة بحيث لا يمكن أن تكون أساساً يصلح لاستخلاص الحقيقة من طريقها ، ومع أني أري الرمز في تقدمة إسحق لا يدخل في نطاق ذلك إلا بهاظ الذي أشرت إليه ، إلا أن الواقع أني إذ أعتبر هذه التقدمة رمزاً لما كان مع المسيح عليه السلام من تخليصه ورفعه وصلب يهوذا بدلاً منه ، إلا أن الرمز هنا والذي أقصده أنا بالذات ، ليس هو هذه الطريقة التي رأيناها في دراسة الكتاب المقدس بطريق الرمز ، وإنما أنا أنظر للأمر من وجهة أخرى ، ذلك أنه إذا كانت وحدة الإله يمكن أن نستدل عليها من وحدة صنائعه ، فإننا أيضاً نستطيع أن نستدل عليها من وحدة أفعاله ، كما أنه من وحدة الإله ، يجب أن نستدل على وحدة أفعاله ، وتفسير ذلك ، أننا نستطيع أن نستدل على وحدة الإله مثلاً من وحدة الكون ، من الوحدة المتمثلة في دوران الأرض حول نفسها ، ودوران النجوم والكواكب هنا وهناك في كل مكان في هذا الكون الفسيح ، وكذلك أيضاً نستدل على وحدة الإله من وحدة أفعاله ، فالله الذي امتحن إيمان إبراهيم وابنه الوحيد حتى لم يحجب إبراهيم ابنه عن الله ولم يحجب الابن نفسه عنه ، وإذ وثق من إيمانها خلص الابن وفداه بالكبش ، فإن وحدة الإله تحتم ، وإذ امتحن الله المسيح فلم يحجب هذا نفسه عنه ، تحتم أن يخلصه الله أيضاً ويفديه ، أما أن يخلص هذا ولا يخلص ذلك ، فهذا تناقض لا يقع فيه الإله الواحد ، فإنه لابد مكرراً أعماله ، وأبداً لا يناقضها ، وعلى هذا ، ووفق هذا المعني الذي أفهمه وأقصده يجب أن يفهم ، ما قلته من أن إسحق رمز للمسيح في هذه التقدمة.(1/270)
وإذا كان مؤلف كتاب المسيح في جميع الكتب ، يري رغم هذا التناقض ، أن الرمز قد كمل ، فإن غيره لا يري ذلك ، وهذا هو الخلاف الذي قلنا أننا سنشير إليه فيما بعد ، ومن ذلك ما نقرأه في كتاب خليل الله في اليهودية والمسيحية والإسلام للسيد / حبيب إسماعيل (وهو صادر عن دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة) في صفحتي 93 و 94 منه ، بعد أن ذكر تقدمة إسحق هذه من قوله :
( على أن للقصة وجهاً آخر ، إذ هي تومئ من بعيد إلى ذبيحه أعظم في الأجيال اللاحقة ، ومرة واحدة جاء في الكتاب المقدس أن الله أقسم بنفسه ، هي في هذا المقام ، مما يدل على أهمية هذه الحادثة العظمي ، وكلم الله إبراهيم مرتين من السماء بواسطة ملاكه ، أولاً ليوقفه عن ذبح الغلام ، وثانياً ليجدد له الوعود بالبركة الأبدية لذريته ، وقد كان إسحق والكبش رمزاً إلى هذه البركة الموعود بها . إلا أن هذا القسم لم يتم إلا عند صلب يسوع المسيح .
كان إسحق الذبيح (ابن الموعد) ، إذ ولد بطريقة خارقة للطبيعة ، وكان يسوع أيضاً النسل الموعود به ، وكإسحق أعطي اسماً قبل أن يحبل به في بطن العذراء ، وهو الذي عينه الله (الذبيحة العظمي) عن البشرية قاطبة . حمل إسحق الحطب الذي وضع عليه ، واستسلم عندما ربط ، ولم يفتح فاه ، واثقاً أن أباه يعرف ما هو خير ، وكذلك حمل المسيح صليبه الذي علق عليه ورضي تقديم نفسه عن اختيار (قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة).
على أن الرمز لم يتم من وجه واحد ، هو أن إسحق عوض عنه بكبش ممسك في الغابة بقرنيه ، أما المسيح فلم يكن له من عوض ، لأنه حمل خطايانا في جسده على الخشبة . وأن يكن إسحق من نسل إبراهيم ، فإن الوقت لم يكن قد حان بعد التفكير عن خطايا العالم أجمع ، وشاء الله في الفترة الطويلة التي أعقبت حادثة إسحق أن يعلم نسل إبراهيم - بالتقدمات المختلفة التي نظمها - مغزى الكفارة وقصد الفداء .)(1/271)
ومن ذلك أيضاً ما نقرأه في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته في الصفحات من 126 - 130 :
(حادثة تقديم إبراهيم إسحق ابنه ذبيحة محرقة (نحو 2020 ق.م) :
ورد في سفر التكوين عن واقعة تقديم إبراهيم ابنه إسحق كما أمره الرب .
وفداء الرب لإسحق بخروف ، وهذه الحادثة ما هي إلا صورة رمزية تشير إلى تقديم الله الآب ابنه يسوع المسيح ذبيحة فداء عن خطايا العالم .
أوجه دلالة الرمز :
أولاً : محبة الآب للابن الوحيد .........
ثانياً : طاعة الابن للآب ...........
ويتضح من هذا أن إسحق الابن أطاع أباه حتى الموت ليرمز إلى طاعة يسوع المسيح له المجد الذي أطاع حتى موت الصليب .......
كذلك لم يعترض إسحق الابن على حكم الموت ، وذلك بأن أطاع أباه أثناء ربطه على الحطب ولم يتكلم عندما مد إبراهيم أباه يده على السكين ليذبحه ، وفي هذا رمز لطاعة يسوع المسيح له المجد وصمته أثناء المحاكمة والصلب . إذ يقول الكتاب المقدس في ذلك (مت 27 : 13 - 14) (فقال له بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً).
بذلك تحققت الحادثة الرمزية التي صورت طاعة إسحق الابن لأبيه إبراهيم حتى الموت ، حاملاً حطب المحرقة على كتفه ومتقدماً للذبح كشاة صامتة لم يعترض لتكون صورة مسبقة في الأذهان عن تقديم الأب ابنه ذبيحة محرقة وطاعة الابن لإرادة أبيه ، لتتحقق هذه الصورة الرمزية في الموعد الإلهي ، بمجيء المخلص يسوع المسيح الابن مقدماً جسده ذبيحة فداء مكرراً نفس الأحداث أي حاملاً صليبه على كتفيه مطيعاً حتى موت الصليب ، ولم يجب على ظالميه مطيعاً لإرادة الله أبيه ...
ثالثاً : تقديم الابن ذبيحة :
أمر الله إبراهيم بتقديم ابنه إسحق ذبيحة محرقة ، ليرمز بذلك إلى تقديم الله الآب ابنه يسوع المسيح ذبيحة فداء لخلاص العالم ، حتى تكون هذه الواقعة صورة مسبقة ، تتكرر في عهد الخلاص الجديد ، في نفس الشكل مع اختلاف المضمون .(1/272)
وقد ورد في سفر التكوين ، أنه عندما مد إبراهيم يده على السكين ليذبح إسحق ، أن زاده ملاك الرب ومنعه من ذلك .....
وبذلك نجد أن واقعة تقديم إبراهيم ابنه إسحق ذبيحة والتي كانت رمزاً لتقديم الله الآب ابنه يسوع المسيح ذبيحة فداء ، لم تكتمل إذ لم يمت إسحق على المذبح ، وذلك لأن الله فداه . بخروف . وكان ضرورياً أن لا تكتمل هذه الواقعة بذبح إسحق ، إذ لا ضرورة لهلاك إسحق الابن ، لأن الواقعة في مجموعها هي حدث رمزي فقط ، وفي طاعة إسحق الابن حتى لحظة الذبح ، في هذه الطاعة الكاملة ، اكتملت الصورة الرمزية الشكلية لتقديم الأب ابنه ذبيحه ، لذلك فدي الرب الإله ، إسحق بخروف ، ليقدمه إبراهيم ذبيحة محرقة بدلاً من ابنه إسحق ، أما في عهد الخلاص ، العهد الجديد ، فقد قدم الله الآب ابنه الوحيد يسوع المسيح بالجسد ذبيحة فداء لمغفرة خطايا العالم على الصليب ......
رابعاً : خروف الغداء :
لقد فدي الله إسحق بخروف ، ليقدمه إبراهيم ذبيحة محرقة عوضاً عن ابنه إسحق (تك 22 : 13) . وهذا الخروف يرمز إلى يسوع المسيح حمل الله ذبيحة الفداء ....)(1/273)
ولا أحسب أن أحداً يستطيع أن يقبل ، بعد أن يكون إسحق هو الرمز للمسيح ، ينقلب الحال إلى عكسه ، فيصبح الخروف بعد ذلك هو الرمز للمسيح ، فيجمعون الضدين في واحد ، وإذا كانت تقدمه إسحق هي رمز لما كان مع المسيح ، فأين في الرمز ما يدل على هذا الذي ذهب إليه السيد / حبيب سعيد على أنه لن يتم من وجه واحد ، وأي وجه هذا ، أنه أهم وجوه الرمز جميعاً ، أنه قبول الله لإيمان إبراهيم ومكافأته عليه ، فمن أين لسيادته أن يعطل الرمز في أهم ما يرمز إليه ، ثم السيد الدكتور هاني رزق ، أنه يعكس الوضع ، فلا يقول بأن الرمز لم يتم في وجه منه مع المسيح ، بل إنه يقول أن الرمز لم يكتمل نفسه ، لأن إسحاقاً لم يمت ، كأن الرمز هو الناقص ، وفقط لم يكتمل لأنه لا حاجة لاكتماله ، وأعجب كيف يجترئ على الرمز إلى هذا الحد ، وتخليص الله للذبيح وفداؤه له بالخروف ، أليس هذا اكتمالاً ، وفي أي منطق بعد أن نري المسيح في إسحق الذي خلصه الله ، نعود فنراه في الخروف وقد ذبح ، أبداً ، ذاك يأباه كل عقل ، ولا يقبله إلا من يريد أن يعتسف صورة معينة ، مهما خالفت المنطق والعقل ، ليقول بأن المسيح قد صلب ، وما صلب ، بل رفعه الله إليه ، وهذا ما يرمز إليه بحق ، وتماماً ، وبالجلاء كله ، ما كان مع إبراهيم وابنه عليهما السلام على جبل المريا ، وبذا فقط يستقيم الرمز ويتكامل مع ما كان ، وبغيره تعوج الأمور كلها وترتج بما لا يقبله عقل ولا منطق .(1/274)
ويصرخ السيد / يسي منصور في الجزء الأول من كتابه بيان الحق (وهو من أربعة أجزاء في الرد على هذا الكتاب في طبعته الأولى) في الصفحات من 61 إلى 74 بأن قصة تقديم إبراهيم لإسحق ابنه على المذبح وافتدائه إياه بكبش مشهورة في العالم كله سجلها موسى في التوراة وأشار إليها الرسل بطرس وبولس ويعقوب كما وردت في القرآن ، وهي قصة جامعة أخاذة يثير الإعجاب فيها إيمان إبراهيم بقدرة الله وطاعة إسحق طاعة تامة ورجوع إسحق حياً من على المذبح مثالاً لطاعة المسيح حتى الموت وقيامته من الأموات ، فهذا ما أشار إليه بولس الرسول وتقول به الكنيسة القبطية عشرين قرناً من قيام المسيحية يتجاهل الأستاذ منصور حسين صلب المسيح فلا يري في قصة إسحق ما رآه الرسل أنفسهم .... ) ويتساءل سيادته عن السر في هذه الإرادة الفولاذية التي جعلت إبراهيم يذهب بابنه ليذبحه ويجيب قائلاً (الإيمان . (نسجد ثم نرجع إليكما) كيف يرجع ثانية من ستذبحه ؟ يقول إبراهم (الله قادر على الإقامة من الأموات) عب 11 : 19 لقد قال الله لي (بإسحق يدعي لك نسل) تك 21 : 12 (وليس الله إنساناً فيكذب ولا ابن آدم فيندم) عد 23 : 19 فلابد أن يقوم إسحق وتتحقق المواعيد . ولو ذبح إسحق وصار رماداً (هل يستحيل على الرب شيء ) ؟ تك 18 : 14) إلى أن يصل بنا سيادته إلى تخليص إسحق فيقول (وقد علق بولس الرسول على ذلك بقوله (بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب . قدم الذي قبل المواعيد وحيده . الذي قيل له إنه بإسحق يدعي لك نسل . إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات الذين منهم أخذه أيضاً في مثال) عب 11 : 17 - 19) ، ثم يوضح في تسع نقاط كيف أن إسحق مثل المسيح فيقول في المثالين الثامن والتاسع (ثامناً - وكما مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه ، كذلك الآب لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين) رو 8 : 32 تاسعاً - كما نادي ملاك الرب من السماء وقال لا تمد يدك إلى الغلام ، وأخذ(1/275)
إبراهيم ابنه إسحق من على المذبح حياً ، هكذا المسيح أقامه الله من الأموات حياً . ولا سبيل للاعتراض على ذلك بحجة عدم موت إسحق على المذبح ، لأن المسيح نفسه جعل يونان النبي بخروجه من بطن الحوت (مع أنه لم يمت في بطن الحوت) - وهذه العبارة لسيادته - مثالاً لقيامته المجيدة فقال (كما كان يونان النبي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ) مت 12 : 49 فليس من الضروري أن يكون المثال كالحقيقة في كل شيء وإلا فلا يكون المثال مثالاً .) ويستطرد بعد ذلك قائلاً (فإذا لا يلزمنا أن نخرج بمثال إسحق للمسيح عن حدوده لأن مثل هذا الخروج لا يتفق مع المنطق في شيء وينافي الكتاب المقدس .) ويستطرد مباشرة تحت عنوان الكبش مثل الفداء قائلاً (وليس في مجمل القصة أن إسحق فقط رمز للمسيح بل الكبش أيضاً . فقد سمي كبش الفداء ولهذا نعته القرآن بالعظمة قائلاً (وفديناه بذبح عظيم ) سورة الصافات : 107) ثم أخذ سيادته في بيان أوجه الرمز بين الخروف والمسيح .(1/276)
وإنها لجرأة على الحق بالغة ، وعلى العقول أكبر ، فسيادته يقول أنه لا يلزمنا أن نخرج بمثال إسحق للمسيح عن حدوده لأن مثل هذا الخروج لا يتفق مع المنطق في شيء ، ثم هو في السطر التالي مباشرة يخرج عن هذه الحدود ، إذ بعد أن كان يري إسحاقاً رمزاً للمسيح جعل الخروف رمزاً له ، وكلنا نعرف أن الكبش ذبح عوضاً عن ابن إبراهيم بعد أن اطمأن الله لإيمانه ففدا ابنه به ، وهما ضدان هنا لا يجتمعان في واحد بأي حال ، كما أننا نعمل تماماً أن ابن إبراهيم لم يذبح ، وإنه لمحال في العقل قبول القول بأن تخليص ابن إبراهيم على هذا النحو رمز لصلب المسيح ثم قيامته من بين الأموات كما يرون ، أما أنه ليس من الضرورى أن يكون المثال كالحقيقة في كل شيء ، فهذا طبيعي ، ولكن الغير المقبول أن يكون المثال عكس ما أريد التمثيل له ، وإلا فكيف يكون مثالاً إذن ، فقصة إبراهيم وابنه ، تختلف تفاصيلها كما رأينا عن قصة تخليص المسيح ، ولكنها تتفق معها في خطوطها العامة ، فهنا امتحان للإيمان ، وهناك امتحان للإيمان ، وهنا نجاح في ذلك الامتحان ، وهناك أيضاً نجاح فيه ، وهنا خلص الله ابن إبراهيم ، وهناك خلص الله المسيح ، وهنا ذبح خروف عوضاً عن ابن إبراهيم ، وهناك صلب يهوذا عوضاً عن المسيح ، وعدم التطابق في واحدة من هذه المعاني لا يكون معها الرمز رمزاً ولا المثال مثالاً ، وأن يخلص الله ابن إبراهيم بينما يصلب المسيح يعكس الرمز والمثال ، ولكنه لم يعكس ، بل هو صحيح وكامل ، وقد تم من جميع وجوهه واكتمل ، وما عدا ذلك فقول واضح البهتان .(1/277)
هذا عن السيد / يسي منصور في رده ، أما القمص باسيليوس إسحق في كتابه الذي سماه الحق فيأتينا في الصفحات من 127 - 129 من كتابه هذا من القول بأعجبه ، إذ يبدأ باعطائنا درساً يوضح به لنا معني الرمز في الكتاب المقدس ، فهو يتساءل أولاً قائلاً . (هل كان إسحق رمزاً للمسيح كما قال بعضهم !) وللإجابة على هذا السؤال يقول لنا تحت عنوان توضيح الرمز في الكتاب المقدس :
(يجب ألا يعتبر رمزاً إلا ما ذكر عنه الكتاب أنه رمز ، وإن كان بعض المفسرين يحلو لهم ذكر بعض من ذكروا في الكتاب المقدس أنهم رمز للمسيح ولكن ما دام الكتاب لم يؤيد هذا فلا يجب اعتباره رمزاً ، مثال ذلك أنه صرح بأن ملكي صادق والحية النحاسية والمن كانوا رمزا للمسيح (ب 7 و يو 3) وإذن فلا يسوغ لنا أن نعتبر إسحق رمزاً إلى المسيح كما ظن بعض المفسرين هذا خطأ منهم .
وإذن ما قاله بعضهم عن إسحق أنه كان رمزاً إلى المسيح ، واستنتج من تخليص إسحق ، وتقديم الكبش عوضاً عنه ، تخليص الله للمسيح من الصلب إنما هو خطأ بحت لأن الكاتب اعتمد على نظرية خاطئة . إن الكتاب المقدس لم يذكر عن إبراهيم إلا أنه كان من أبطال الإيمان ...) ثم سرد سيادته ما كان مع إبراهيم عليه السلام وابنه وانتهي إلى القول : ( وإن دل هذا على شيء إنما يدل على إيمان إبراهيم العظيم بأن الله قادر أن يقيم إسحق الذي قبل فيه المواعيد : ( بالإيمان قدم إبراهيم .... وحيده الذي قبل له بإسحق يدعي لك نسل إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً ) عب 11)(1/278)
بالله ، يتفق المسيحيون جميعاً على أن ابن إبراهيم في هذا المثال رمز ، بل أحد أكمل الرموز الكتابية للمسيح عليه السلام ، وإذ أوضح ما في هذا الرمز من دلالة ، وكيف أنه كرمز لا يعني إلا أن الرب مخلص مسيحه ، بأن يستجيبه ويرفعه ، فيسقط في يد السيد القمص باسيليوس ، فلاشك أنه رأي معي أنه لحق أننا لو اعتبرنا أن ابن إبراهيم هنا يرمز للمسيح ، لوجب القول بأنه إنما يرمز إلى تخليص الله له ورفعه إليه وليس صلبه كما قال غيره ، ولذا لا يجد سبيلاً للخروج من هذا المأزق ، إلا بأن يتنكر لكل ما أجمع عليه المسيحيون من أن ابن إبراهيم هنا يرمز للمسيح مقرراً أنني . قد اعتمدت في ذلك على نظرية خاطئة ، ولقد زدت نظريتي في هذه الطبعة تفصيلاً ، فأوضحت أنني لا آخذ بالرمز كما يقولون ، وإنما أري أن الله لكونه واحداً ، فإن أعماله أيضاً لابد وأن تكون واحدة ، فتتفق ولا تتناقض ، وكما خلص الله ابن إبراهيم ، فإنه لزام أن يخلص المسيح ، وأعتقد أن في هذا الرد كفاية ، ولكن العجيب ، أن سيادته لم يسكت عند هذا الحد ، ولو سكت ، لكان واجباً أن نقول أن هذا رأيه الذي يعتقد به على أي حال ، وهو وشأنه فيه ، فهو لا يقبل أن يعتبر أمر ما رمزاً ، إلا بدليل كتابي يقول بأنه رمز ، وهذا مفهوم ، وهو حر في رأيه ، ولكن غير المفهوم على الإطلاق ، أن يقول لنا بأن هذا هو رأيه ، ومع هذا فلا يطبقه بل يطبق عكسه آبياً إلا أن يناقض نفسه وأن يهدم رأيه بنفسه ، إذ هو بعد العبارة السابقة لها مباشرة استطرد قائلاً :(1/279)
( وهنا يستقيم الكلام إذا اعتبرنا أن إسحق يمثل الجنس البشري ، لأن الله أمر بأن يقدم إسحق محرقة ، وما دام قد صدر الأمر الإلهي بذلك فيتعين موته ، كما صدر أمر بموت آدم وزوجته ، وتداركتهما مراحم الله الغنية فذبح الله كباشاً فدية عنهما كي لا يموتا ، وهكذا كان الحال في إسحق فإن الأمر الإلهي صدر بذبحه ، وكفر عن ذبحه بالكبش ، فلا يكون الكبش هنا إلا رمزاً للمسيح ....... )
فإذا كان سيادته يرفض ما استقر عليه المسيحيون من أن إبراهيم هنا يرمز للمسيح قولاً منه بأن ليس هناك من دليل كتابي يقول ذلك ، فكيف استباح لنفسه رغم ذلك أن يجعل من إسحق رمزاً للجنس البشري والخروف رمز المسيح كما يدعي ، وأين هو الدليل الكتابي الذي يؤيده في ذلك ، وأن هذا التناقض لا يعنى إلا أمراً واحداً ، وهو أن السيد القمص وإن كان في الأصل يرفض أي رمز لا سند له من الكتاب المقدس يعتبر رمزاً ، إلا أنه لا مانع لديه من قبول أي رمز خلافاً لذلك ، بشرط واحد ، هو أن يدلل على صلب المسيح وليس تخليصه .
وهكذا ، وعلى نحو ما تقدم ، فإننا نجد أن كل ما يعتبره المسيحيون نبوءات عن صلب المسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض على يهوذا الأسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، إلا أنهم رغم وضوحها وصراحتها يتحايلون عليها بشتي الطرق ، ليصلوا منها إلى أن الذي تنبأ العهد القديم بصلبه هو نفسه المسيح عليه السلام ، ولما كان الواقع هو العكس ، فإنهم لا يجدون سبيلاً إلى ذلك إلا بأن يخالفوا كل منطق وكل صواب كما رأينا في النبوءات التي يقولون بها والتي بحثناها فيما سبق ، ولكن ، علي كل هذا فإن النبوءات باقية أبداً ، وستظل كما هي ، صريحة قاطعة واضحة لا مجال لأي لبس بشأنها.
المبحث الرابع
كيف لا يستدل المسيحيون من نبوءات العهد القديم
على تخليص الله للمسيح وصلب يهوذا بدلاً منه(1/280)
والسؤال هنا يبدو بديهياً حقاً ، فإذا كنا بنفس منهج المسيحيين في البحث ، وبنفس طريقتهم في دراسة الكتاب المقدس وما جاء في العهد القديم من نبوءات ، قد انتهينا بحق إلي أن الله مخلص مسيحه ورافعه إليه وأن الذي يقبض عليه ويحاكم ويصلب إنما هو يهوذا الاسخريوطي لا المسيح عليه السلام ، وقد انتهينا إلي كل ذلك بسهولة ويسر ووضوح ، فكيف إذن لا يصل المسيحيون إلي كل ذلك ، وخاصة أن هذا هو نفس منهجهم وهذه هي طريقتهم في البحث نفسها ، ألا يبدو وكأن في الأمر ثمة خدعة ، بل إننا قد انتهينا أيضاً ، إلي أن في العهد الجديد نفسه ما يؤيد ذلك كله ، فهل هذا معقول ، وأين إذن هذه الملايين التي لا حصر لها من المسيحيين طوال هذه السنين ، كيف يعمون عن كل ذلك ، إنه لحقاً أمر يبدو بعيداً عن التصديق .
ولعلنا نجد في كيفية استدلال المسيحيين على تنبؤ العهد القديم بصلب المسيح كما بينا في المبحث السابق ما يغنينا عن الإجابة على هذا التساؤل ، ولكننا وإذ نقدر أهمية السؤال عنوان هذا المبحث ، نرى لزاماً علينا أن نبحث عن الحقيقة بشأنه ، ليكون فيها بالإضافة إلي كل ما سبق الجواب الذي لا يرد .
ونحن نذكر بطبيعة الحال ما قلناه في الفصل الثاني من هذا الباب عن طريقة درس الكتاب المقدس عن طريق الرموز ، والتي فصلها كتاب كيف تدرس الكتاب المقدس الذي سلفت الإشارة إليه ، ونعرف أن المؤلف قد وضع قواعد أو شروطاً لكيفية دراسة الكتاب المقدس بهذه الطريقة ، إلا أننا لم نذكر عندئذ أمراً أخر ورد في نفس الكتاب ، وقد آن الأوان لأن نذكره في هذا المبحث هنا ، فالكتاب المشار إليه إذ بين طرق دراسة الكتاب المقدس وفصل الشروط والقواعد التي يجب إتباعها بالنسبة لكل طريقة منها ، عاد في الجزء الثاني من الكتاب ليحدد الشروط الأساسية التي يجب إتباعها بالنسبة لكل الطرق التي أشار إليها . وفي هذا نقرأ ابتداء من صفحة 87 من الكتاب :(1/281)
(سبق أن أنعمنا النظر في سبع طرق مفيدة لدراسة الكتاب المقدس ، لكن بقي هنالك ما هو أهم بكثير من أفضل هذه الطرق جميعاً ، وأعني بذلك الشروط الأساسية للدراسة المفيدة . فمن يستوف هذه الشروط يكن للفائز من دراسة الكتاب المقدس - ولو كانت طريقته أردأ الطرق - بنفع أجزل وفائدة أكثر من الفائدة التي تعود على الذي يتبع أفضل الطرق دون أن يستوفي تلك الشروط .
1- وأول الشروط الأساسية التي لابد منها لدراسة الكتاب المقدس دراسة تعود بأجزل الفائدة : أنه يجب على الدارس ، أي (الطالب) أن يكون مولوداً ولادة ثانية .
فالكتاب المقدس كتاب روحي إذ هو يقارن الروحيات بالروحيات ..... والرجل الروحي هو وحده الذي يستطيع أن يفهم من تعاليم الكتاب أكثرها عمقاً .... ولا يمكن الحصول على التميز الروحي إلا بطريقة واحدة أي بالولادة الجديدة ...... ومن الحقائق البديهية التي لا تحتاج إلى تبيان : أن كثيرين من السذج البسطاء .... على قدر كبير وقسط وافر من الدراية بالمحتويات الحقيقية وبالتعاليم العملية التي يضمها الكتاب المقدس بين دفتيه .... بحيث أن هذه الدراية أو المعرفة تفوق ما لدي كبار الأساتذة الأعلام في الكليات والمعاهد اللاهوتية ...... فيجب أن يكون مفهوماً فهماً جيداً أنه حين توجد في الكتاب المقدس تعاليم يستطيع الإنسان الطبيعي ، أن يفهمها ، وجمال يستطيع أن يراه ، فإن أكثر التعاليم التي يمتاز بها الكتاب والتي يختص بها ، هي أبعد من أن تكون في متناول هذا الإنسان الطبيعي ...
2- وثاني الشروط .... أنه يجب على الدارس (أي الطالب) ، أن يحب الكتاب المقدس .
3- ثالث الشروط .... الاستعداد للجد والكد ، في هذه الدراسة .
4- رابع الشروط ..... إرادة مسلمة تسليماً كاملاً .
قال يسوع : ( إن شاء أحد أن يعمل مشيئة يعرف التعليم ) (يوحنا 7 : 17)(1/282)
فالمشيئة المستسلمة المذعنة إذعاناً تاماً هي سر الرؤيا الواضحة الصافية الجلية ، التي لابد منها لتفهم كتاب الله ، إذ أن الكثير من صعوبات الكتاب وغوامضه تنجم أولاً وأخيراً عن أن مشيئة دارس الكلمة ليست مذعنة إذعاناً كاملاً ولا مسلمة تسليماً شاملاً إلى مشيئة مؤلف الكتاب ... وما أكثر الآيات التي يكتنفها الغموض المعقد والصعوبات المتناهية من كل جانب - تلك الآيات التي سببت لنا ، في وقت من الأوقات الحيرة والارتباك . لكن ...... ما أبهي الجمال الذي يكسو هذه الآيات وما أصفي وضوحها وما أبسطها لنا ، عندما تأتي المكان الذي تخاطب فيه الله بالقول (إني أسلم مشيئتي لك بلا قيد ولا شرط ) . (لتكن لا إرادتي ، بل إرادتك . علمني مشيئتك ) . فالمشيئة المستسلمة وحدها تصنع عجباً في جعل الكتاب المقدس (كتاباً مفتوحاً) تقصر دونه الدراسات الجامعية ، ومن الجلي الواضح أن حصولك على أجزل فائدة من دراسة الكتاب أمر مستحيل إلى أن تسلم إرادتك لله ، فهذا أمر ينبغي أن تكون متأكداً منه تمام التأكد قبل كل شيء ..........
5- أما خامس الشروط .....: ... دارس الكتاب المقدس ...... يجب أن يطيع تعاليم الكتاب بمجرد اتضاحها له .
6- سادس الشروط ... : أن تفحص الأمر بذهن الأطفال ، فإن الله يعلن لهم عمق حقه .(1/283)
..... فلا تتقدم إلى الكتاب المقدس وأنت ممتلئ من آرائك وأفكارك أنت ، ولا تتقدم إلى الكتاب المقدس باحثاً عما قد يؤيد هذه الآراء والأفكار ، بل الأحرى بك أن تتقدم إلى الكتاب لتكشف آراء الله كما يعلنها هو في كتابه ، نعم ، لا تتقدم إلى الكتاب لعلك تعثر هنا أو هناك ، على ما قد يؤيد رأيك ، بل تعال لتعرف مرة مشيئة الله . فإذا تقدم إنسان إلى الكتاب المقدس ليجد فيه آراءه وأفكاره ، فسيجدها ، لكنه إذا أتي كالطفل الذي يدرك جهالته ، فمما لاشك فيه أنه واجد شيئاً ما أفضل بما لا يقاس من أفكاره وآرائه ، إذ أنه لابد واجد فكر الله نفسه ، من هذا يتضح لنا السبب الذي من أجله لا يري الكثيرون حقائق الكتاب المقدس رغم وضوحها فيه بجلاء . إنما السبب هو أن العقيدة التي امتلاؤا بها قد ملكت عليهم كل تفكيرهم ، بحيث لم تترك سبيلاً إلى حقيقة أخرى ينص عليها الكتاب فعلاً . ولنا على هذا مثال في الرسل أنفسهم ، في إحدى مراحل تدريبهم . ففي مرقس 9 : 31 نقرأ ...( لأنه كان يعلم تلاميذه ويقول لهم أن ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه ، وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث .) . إن هذه الكلمات تحدد المعني المراد ، وتجعله ظاهراً جلياً بحيث لا يمكن أن تجد في اللغة كلمات أكثر توضيحاً وتحديداً . ولكن ذلك كان مخالفاً تماماً لما جال في أذهان الرسل من أفكار عن الأحداث التي تزمع أن تقع للمسيح . لذلك نقرأ في العدد التالي مباشرة (وأما هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه) ، أليس هذا أمراً عجباً ؟
لكن أليس الأكثر عجباً أن نعجز عن إدراك التعاليم الصريحة الواضحة الواردة في الكتاب المقدس بأبسط عبارة ، خالية من كل تعقيد - وذلك إذا جاءت علي النقيض مما سبق أن فكرناه وأرتأيناه ؟ ...(1/284)
7- سابع الشروط ..... : أن ندرسه (الكتاب المقدس) ، باعتباره كلمة الله . ... ونحن ..... نحسن صنعاً عندما نشكر الله على الحالة التي فيها يكون قبولنا لكلمة الله (ككلمة الله) . وهذا لا يعني أن نثبط همة الشخص الذي لا يؤمن أن الكتاب المقدس هو كلمة الله ، وذلك بأن نحول دون دراسته . فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن درس الكتاب هو أفضل ما يمكن أن يعمله إنسان لا يؤمن أن الكتاب المقدس هو كلمة الله .
ودراسة الكتاب المقدس تتضمن أربعة أمور :
(1) الأمر الأول : أنها تتضمن قبول تعاليمه قبولاً تاماً عندما يؤكدها الوحي تأكيداً قاطعاً نهائياً ، حتى لو بدت غير منطقية أو مستحيلة التحقيق ، فالمنطق الحقيقي هو الذي يتطلب منا أن نخضع حكمنا وتعليلاتنا لما تقرره الحكمة اللانهائية فإذا اقتنعنا بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله لا تعود تعاليمه موضوعا للجذب والمشادة ....
(2) الأمر الثاني : أن دراسة الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله تتضمن الاعتماد المطلق على جميع مواعيده في كل ما تحمله هذه المواعيد من معني ومبني . فالذي يدرس الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله لن يمس - من قرب أو من بعد - ولو واحداً من هذه المواعيد ، بل يقول (إن الله لا يستطيع أن يكذبه ، فقد وعد ....) ، ولن يحاول دارس الكتاب أن يجعل الله كاذباً بأن يتخذ من أحد هذه المواعيد معني أقل مما يحتمله النص . بل إن دارس الكتاب المقدس يكون متحفزاً دائماً ، وبالمرصاد دائماً ، بحثاً وتنقيباً عن المواعيد . وبمجرد عثوره على وعد منها يحاول جهده أن يؤكد صحة المعني الذي يعنيه ....
(3) الأمر الثالث : أن دراسة الكتاب المقدس ... تتضمن الطاعة في كل ما يفرضه ويأمر به ....
(4) الأمر الرابع : دراسته ... كما في حضرة الله .......
8- ثامن الشروط : أن يكون ذلك في روح الصلاة .
............ )(1/285)
وهذه الشروط لدراسة الكتاب المقدس ، كما يبين منها ومن غيرها مما نقرأه في كتب أو مقالات في نفس الموضوع ، هي مما يأتمر به المسيحيون عموماً في أبحاثهم ، ولا نري داعياً لتكرار ما كتب في هذا الخصوص ، اكتفاء بالشروط المفصلة التي سلف بيانها ، ونعود الآن إلى التساؤل ، لماذا لا يصل المسيحيون إلي الحقيقة رغم وضوحها في الكتاب المقدس ، ورغم أن الوصول إليها هو بنفس الطريق الذي يتخذون منه منهجاً لدراستهم وأبحاثهم .
والتساؤل هنا خاص بالمسيحيين أنفسهم ، وهم يعتبرون أنفسهم مولودين ولادة ثانية ، وهم بالطبع يحبون الكتاب المقدس ، ومن يبحث منهم فيه قد يكون مستعداً للجد والكد في دراسته ، ولأن يطيع تعاليمه بمجرد اتضاحها له ، وأن يدرسه في روح الصلاة ، ولذا فلا محل هنا لبحث الشروط 1 و2 و3 و5 و8 ، وتبقي الشروط 4 و6 و7 ، ولذا سنبحث في هذه الشروط وما تنتهي بهم إليه في دراستهم للكتاب المقدس ، ومدي كونها حقيقة بأن تتبع من عدمه .
ورغم أن الكاتب هنا لم يوضح الارتباط بين الشرطين الرابع والسابع ، إلا أن الواقع أن الارتباط بينهما وثيق للغاية ، فالشرط الرابع يستلزم من دراس الكتاب المقدس أن يسلم تسليماً كاملاً لمشيئة مؤلف الكتاب ، ولاشك أن السبب في هذا التسليم هو الاعتقاد بأن الله هو مؤلف هذا الكتاب أو الموحي به ، وهذا نفسه هو مضمون الشرط السابع ، وعلي أي حال فالمهم هنا هو ما يؤدي إليه التمسك بهذين الشرطين في دراسة الكتاب المقدس.(1/286)
وطبيعي أن هذه الشروط وهي موجهة للمسيحيين ليلتزموها في دراستهم للكتاب المقدس بصفة عامة ، فإنها تنصرف بداهة للعهد الجديد باعتباره جزءاً من الكتاب المقدس ، وذلك إن لم تنصرف إلي العهد الجديد بصفة خاصة ، والشرطان المذكوران إذ يتطلبان من الدارس التسليم لمشيئة مؤلف الكتاب المقدس ، وأن يدرسه باعتباره كلمة الله ، فإنهما يتطلبان بداهة أيضاً ، وبالتالي ، التسليم لمشيئة مؤلفي العهد الجديد باعتباره كلمة الله ، بما يؤدي إليه ذلك من ضرورة تقبل تعاليمه قبولاً تاماً حتى لو بدت كأنها غير منطقية أو مستحيلة التحقيق ، ومن ضرورة الاعتماد المطلق على مواعيد الكتاب في كل ما تحتمله من معني ومبني ، وعلي دارس الكتاب ألا يمس من قريب أو بعيد ولو واحداً من هذه المواعيد ، بل يجب على دارس الكتاب أن يكون متحفزاً وبالمرصاد دائماً بحثاً وتنقيباً عن هذه المواعيد ، حتى إذا عثر على وعد منها يحاول جهده أن يؤكد صحة المعني الذي يعنيه .(1/287)
ولنطبق هذه الشروط علي أي من النبوءات التي بحثناها ، ولنأخذ على سبيل المثال المزمور 22 ، فهذا المزمور يتنبأ بحق عن الصلب وكل ما يجري فيه ويحدد أيضاً شخصية المصلوب ، والدارس في الكتاب المقدس يجد في هذا المزمور نبوءة صريحة واضحة عن الصلب ، ولكنه يجد المصلوب يحدد شخصيته فيه بقوله (أما أنا فدودة لا إنسان عار عند البشر) ، وطبيعي أن يجد الباحث أنه من غير المنطقي ، بل ومن المستحيل أن يكون المسيح هو المقصود بهذا الكلام ، بل أنه واضح الانطباق علي يهوذا الاسخريوطي طبقاً لما سبق أن شرحناه ، فهل يسلم الباحث إزاء ذلك بأن المزمور إنما تنبأ عن صلب يهوذا الاسخريوطي ، هنا يبرز أثر الشرطين في توجيه الدارس ، فالعهد الجديد يجمع على أن الذي صلب هو المسيح عليه السلام ، وعلى الدارس أن يسلم بمشيئة مؤلفي العهد الجديد في ذلك ، ومن ثم فعليه أن يقول بأن المسيح هو الذي صلب ، وذلك أيضاً ما يحتمه عليه اعتباره للعهد الجديد ككلام الله ، وما دام العهد القديم هو كلام الله أيضاً ، فإنه بدوره لا يجوز أن يكون قد تنبأ إلا بصلب المسيح أيضاً ، وعلى هذا فيجب القول بأن المزمور 22 إنما يتنبأ عن صلب المسيح وليس يهوذا الاسخريوطي ، وصحيح أنه من غير المنطقي ، بل من المستحيل أن يقال عن المسيح أنه دودة لا إنسان وعار عند البشر ، إلا أن ذلك كله لا يهم ، وإنما يجب فحسب التسليم به ، بل ويجب أيضاً على الدارس أن يحاول تأكيد صحة انطباق هذا الكلام على المسيح ، ولذا كان ما وجدناه من تفسيرات وتبريرات للقول عن المسيح بأنه دودة لا إنسان وعار عند البشر ، لا يمكن قبولها كتفسيرات أو تبريرات معقولة أو حقيقة بأي اعتبار.(1/288)
ولنأخذ مثلاً آخر ، المزمور 20 ، فهو أصرح وأوضح نبوءات العهد القديم كلها ، وهو يتنبأ بكل جلاء وقطع ، ويتضمن معني التنبؤ كاملاً قاطعاً ، يتنبأ كما سبق أن رأينا بأن (..... الرب مخلص مسيحه ....) ، كما أن المزمور يقطع بأن ذلك التخليص سيكون لحظة محاولة القبض على المسيح بوصفه الأعداء بأنهم قادمون بمركبات وبخيول ، ومع هذا نجد أن كاتباً مسيحياً هو السيد فخري عطية ، وهو يري - وكما سلف القول في التعليق على ذلك المزمور - أن هذا المزمور قصد به ما كان مع المسيح تماماً ، ولكن العهد الجديد لا يشير إلى تخليص المسيح ، وإنما إلي صلبه ودفنه ثم قيامته من الأموات ، وهو ، ومع تسليمه ، بانطباق المزمور على المسيح ، لا يستطيع أن يقر بتخليصه ، إذن يجب أن يأتي بتفسير يتفق مع المزمور ، وهنا يري ضالته فيما قيل عن قيامة المسيح من الأموات ، ولكن هيهات أن يكون صلب المسيح ودفنه ثم ما قيل عن قيامته من الأموات هو تخليصه ، خاصة والتخليص الذي يشير إليه المزمور هو عن لحظة فيها مركبات وخيول ، وليس في القبر ذلك بحال ، هذا عن السيد / فخري عطية ، ولكن كاتباً آخر هو القمص باسيليوس إسحق ، شعوراً منه بقوة النبوءة في هذا المزمور ، وبأنه لو سلم بأنها عن المسيح لوجب عليه أن يسلم بتخليصه من الصلب ، لا يري سبيلاً ليرد به على إلا بالادعاء بأن المسيح المشار إليه في هذا المزمور ليس هو يسوع المسيح الذي صلب ، ثم يحاول أن يشرح لي معني كلمة مسيح بما يخرج منه نفس السيد / فخري عطية بأن المقصود بها يسوع المسيح نفسه ، وفوق هذا يرميني السيد القمص بالجهل بكتب النصارى أو محاولة التضليل إن كنت على علم بها ، ويقيناً فإن سيادته لا يعترض على ما انتهي إليه السيد / فخري عطية من تطبيق المزمور على المسيح ما دام لا ينتهي إلى تخليصه من الصلب ، وفقط يعترض علي لأنني استخلص بحق أن هذا المزمور إنما يتنبأ بتخليص المسيح بنفيه أصلاً انطباق هذا المزمور(1/289)
على المسيح .
ومثل ثالث ، تقدمة إسحق الواردة في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين ، فقد وجدنا بحق أنها ترمز إلى تخليص الله للمسيح عليه السلام وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه ، فنري الكُتاب المسيحيين يرون في إسحق في هذا الإصحاح رمزاً للمسيح عليه السلام ، حتى إذا ما وصلوا إلى أهم ما في هذا الرمز ، وهو تخليص الله لإسحق حين هم والده بذبحه ، فافتداه بذبح آخر ، يتجاهلون هذه الحقيقة ، فمنهم من يغض النظر عنها ، وبعد أن كان يري في إسحق رمزاً للمسيح يعود فيري في الكبش رمزاً له ، ومنهم من يري نفس الرأي ولكن لا يغض النظر عنها فيري أن الرمز نفسه لم يكتمل لعدم ذبح إسحق ، أو أن الرمز لم يتم من وجه واحد هو هذا الوجه ، أو أنه تم من هذا الوجه ولكن تخليص المسيح كان بقيامته من الأموات ، ومنهم من ينفي ما أجمع عليه المسيحيون من أن إسحق يرمز للمسيح تماماً كما نفي أن الآية (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ..) في المزمور 22 قصد بها المسيح ، وهو القمص باسيليوس إسحق ، وهكذا وجدنا في شأن هذه التقدمة كل المتناقضات ، ولا يجمعها إلا أمر واحد ، وهو أنها على أي الأحوال لا يجوز أن تنتهي إلا لما يؤيد ما ورد في العهد الجديد من صلب المسيح ودفنه وقيامه من الأموات ، ولا يهم على أي صورة يصلون إلى ذلك ، مهما تناقضت واختلفت كل الصور والسبل ، ولكن الذي لاشك فيه أنها كلها خاطئة ، وكلها تحمل الرمز عكس ما يحتمله ، والصحيح الذي نصل إليه بكل يسر وسهولة في هذا الشأن ، هو أن رمز هذه التقدمة ، إنما يرمز بحق إلى تخليص الله للمسيح وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه .(1/290)
وبذلك يتضح لنا بجلاء ، السبب في أن المسيحيين لا يصلون إلي حقيقة ما تنبأ به العهد القديم من تخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، وهو ما انتهينا إليه بحق ، وهو أنهم إنما يتقيدون في أبحاثهم ودراساتهم بالنتيجة التي يتحتم عليهم أن يصلوا إليها مقدماً ، بينما لو أن أحداً لم يتقيد في بحثه بضرورة الوصول إلي نتيجة معينة ابتداء ، أي لم يتقيد بغير استهداف الوصول إلي الحقيقة نفسها أيا كانت ، فهو لابد واصل إليها حتماً ، فهي ساطعة في العهد القديم ، وفي المزامير بالذات كما بينا ، سطوع النور ذاته ، وما علي من يستهدفه الحقيقة إلا أن يطالع الآيات وحدها ، ليجد نفسه ينطق بالحقيقة التي ينكرونها ، سيري بحق أن الرب مخلص مسيحه فيرسل من العلا ويأخذه ويرفعه فوق القائمين عليه ولا يحبسه في يد العدو وإليه لا يقرب ، كما سيري بكل جلاء أن يهوذا الاسخريوطي هو الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب فيسقط بذلك في الحفرة نفسها التي حفرها للمسيح سيده ويعلق على الصليب بعمل يديه ويرجع بذلك تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه ..... الخ .(1/291)
وإن المتأمل للشرطين الرابع والسابع المشار إليهما فيما سبق ، ليكاد أن يقطع بأن واضعهما يعرف بيقين ، أنه لو أطلقت للباحث حرية البحث عن الحقيقة وحدها فإنه سينتهي من العهد القديم إلى ما يخالف ما جاء به العهد الجديد ، فيصل إلي أن الله مخلص مسيحه ورافعه إليه وأن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب هو يهوذا الاسخريوطي لا المسيح ، ولكن هذه النتيجة لا يقبلونها ، لأنها على هذا النحو تهدم المسيحية كما يتصورونها ، ولذا يقيدون الباحثين منهم بالنتيجة التي يتحتم عليهم أن يصلوا إليها قبل أن يبدأوا أي بحث ، ولو أنهم قبل أن يضعوا مثل هذه الشروط كانوا موقنين بأن العهد القديم يتفق تماماً مع العهد الجديد ، لما كان هناك لزوم لمثل هذين الشرطين ، ولكان كافياً أن يطلبوا من الباحث أن يبحث عن الحقيقة بنفسه ، بغير قيد ولا شرط ، فيجدها.
ونعود إلى الشرط الذي لم نتناوله بعد ، وهو الشرط السادس ، وهو في الواقع ما نسأل كل مسيحي وكل إنسان يريد أن يبحث في الكتاب المقدس - بل وفي أي موضوع آخر - أن يتقيد به ، فهو يقول بأن الدارس يجب ألا يتقدم إلى الكتاب المقدس وهو ممتلئ من آرائه وأفكاره ، وألا يتقدم إليه باحثاً عما قد يؤيد هذه الآراء والأفكار ، بل الأحرى به أن يتقدم إلى الكتاب ليكشف آراء الله كما يعلنها هو في كتابه ، ولكن الغريب أن الكاتب على استلزامه هذا الشرط ، يحتم علي الدارس بالشرطين الرابع والسابع أن يتقيد قبل البحث بآراء وأفكار معينة ، نتيجة معينة لا يجوز له أن يتجاوزها بأي حال ، ولكننا نسأل كل دارس أن يبحث بنفسه بغير أن يتقيد مقدماً بأي نتيجة ، وإنا لواثقون أنه واصل بذلك إلي الحقيقة عينها ، فهي تنطق بنفسها في غير حاجة إلي جهد أو تعب.(1/292)
هذا كله بالنسبة للمسيحيين في قراءتهم ودراستهم للكتاب المقدس ، ووفقاً للشروط التي طالعناها ، فما هو الحال يا تري بالنسبة لغيرهم ، ممن لا يعتبرون طبقاً لهذه الشروط مولودين ولادة ثانية ، فهل يقف شرط الولادة الثانية الذي وضعه الكاتب في شروطه لدراسة الكتاب المقدس ، حائلاً بين غير المسيحيين وبين الكتاب المقدس فينغلق عليهم فهمه ، ولسنا هنا نريد أن نخوض في أمر ما يسمي بالولادة الثانية ، فهي تخرج عن نطاق هذا الكتاب ، وإنما الذي يعنينا هنا الآن هو ما إذا كان اشتراطها على هذا النحو لدراسة الكتاب المقدس أمر يتفق مع المسيحية نفسها أو يقره المسيح عليه السلام أم لا .(1/293)
وهنا نقرأ ما ورد على لسان المسيح عليه السلام في إنجيل متى في الآيات التي تقول (وبينما هو متكئ في البيت إذا عشارون وخطاة كثيرون قد جاءوا واتكأوا مع يسوع وتلاميذه . فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة . فلما سمع يسوع قال لهم لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضي . فأذهبوا وتعلموا ما هو . إني أريد رحمة لا ذبيحة . لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلي التوبة .) (ص 9 : 10 - 13) ، فها هو المسيح عليه السلام يرد على هؤلاء الذين عابوا عليه أن يجلس مع عشارين وخطاة موضحاً الهدف من رسالته وغايتها ، مؤكداً أنه ما جاء يدعو أبراراً ، بل خطاة إلى التوبة ، ومهما قال المسيحيون في غير المولودين ولادة ثانية فلن يستطيعوا أن يزيدوا عن وصفهم بالخطاة أو عن تشبيههم بهؤلاء الخطاة الذين جاء المسيح يدعوهم ، ومع ذلك ، فالخطاة هم عماد رسالة المسيح وروحها ، ومنه عليه السلام نعرف أنه جاء ليدعو الخطاة ، والخطاة أولاً وقبل غيرهم ، فإذا كان المسيح يتوجه بخطابه ودعوته أصلاً إلي الخطاة ، ألا يعني ذلك أنهم لابد وعلي الأقل قادرون أن يفهموا ما يقوله لهم ، وأن يعرفوا تماماً ما يقصده ، وإلا فإنه ليكون عبثاً أن يوجه الخطاب إليهم ، ومثل ما صدر عن المسيح أيضاً وبطبيعة الحال كل ما ورد في العهد القديم ، ففيم إذن اشتراط أن يكون الإنسان مولوداً ولادة ثانية كما يقولون حتى يستطيع دراسة الكتاب المقدس وأن يفهمه .(1/294)
وللحق ، فإن هذه الشروط الموضوعة لدراسة الكتاب المقدس كلها ، لا أساس ولا سند لها من الدين على الإطلاق ، وهي إنما وضعت ، وكما تبينا فيما تقدم لأن الباحث لو لم يتقيد بها لوصل بحق إلى النتيجة التي انتهينا إليها من قبل ، وهي أن العهد القديم إنما تنبأ بتخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، ولكن هذه النتيجة لا تتفق مع ما جاء في العهد الجديد ، ولذا كان لابد من وضع شروط تقيد الباحث بألا يصل في بحثه إلي أية نتيجة لا تتفق وما جاء في العهد الجديد ، وطبيعي أن يبدو في ذلك تناقض واستحالة ، ولذا كان شرطاً ألا يهتم الباحث بما قد يعترضه من تناقض أو استحالة ، تسليماً منه بنتيجة محددة ابتداء ، ويرتضي المسيحيون هذه الشروط ، إذ لا يريدون إلا ما يثبت معتقداتهم ويؤيدها ، ولكن غير المسيحيين من المستحيل تقييدهم بهذه الشروط ، وهم إذ لا يتقيدون بها سيصلون إلي عكس ما ينتهي إليه المسيحيون في أبحاثهم ، لا لشيء ، إلا لأن هو العكس هو ما يطابق الحقيقة ، ولابد إذن من وجود تبرير لهذا ، فلا يجد المسيحيون سوي شرطاً جديداً يضيفونه إلي شروط دراسة الكتاب المقدس ، وهو أن يكون الدارس مولوداً ولادة ثانية ، أي مسيحياً ، ليستطيع أن يفهمه ، ويرون في ذلك تبريراً لوصول غير المسيحيين لعكس النتائج التي يصل المسيحيون إليها ، وهو أنهم غير مولودين ولادة ثانية ، ولذا تعذر عليهم فهمه فوصلوا إلي عكس ما وصل المسيحيون إليه ، ولكن أين هو السند لكل هذه الشروط ، لا شيء ، لا سند على الإطلاق ، سوي الهدف الوحيد الذي يبغونه ، وهو ضرورة الوصول إلي تطابق العهد القديم مع كتب العهد الجديد المتداولة ، ولكن هيهات ، فلا الشروط بالصحيحة ، ولا الحقيقة بالتي يمكن أن تغيرها مثل هذه الشروط ، وهي ستبقي أبداً ، ساطعة جلية ، تنطق بها أسفار العهد القديم ، وينطقها حتى هؤلاء الذين ينكرونها ، وليظلوا على(1/295)
إنكارهم ما شاءوا ، فأبداً ذاك لن يغير منها.
ويلاحظ هنا أننا قد اصطدمنا ثانية بالعهد الجديد ، فرفضنا التسليم ابتداء لمشيئة مؤلفيه ، وفي كل ما انتهينا إليه بحق ، وصلنا إلي ما يناقض ما جاء في العهد الجديد عن صلب المسيح ، وكل هذا يلقي كثيراً من الأهمية ، علي البحث في إمكان ورود وقائع غير صحيحة في العهد الجديد ، وهو ما سنفرد له المبحث السادس من هذا الفصل كما قلنا من قبل .
المبحث الخامس
تفسير تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه
وبحث عقيدة المسيحيين في الصلب
سبق أن قلنا أن العقيدة يجب أن تكون شاملة مانعة ، لهذا فإنه لا يكفينا أن نثبت أن الله قد خلص المسيح عليه السلام ورفعه إليه ، وأن الذي قبض عليه وحوكم وصلب هو يهوذا الاسخريوطي ، وإنما يجب أيضاً أن نفهم هذا كله ، وأن نعرف لماذا كان ، ولسنا هنا نريد أن نوجد تبريراً أو تعليلاً يوافق الحقيقة التي انتهينا إليها ، وإنما نريد أن نتلمس حقيقة الأمر فنعرفه كما هو في الواقع ، ولذا فلسنا في حل أن نأتي بتفسير من عندنا ، وإنما يجب أن يكون التفسير من الواقعة نفسها ، ومن حكمة الله فيها ، ومن الكتاب المقدس نفسه الذي أوردها.(1/296)
على أنه ينبغي هنا ألا نغفل ، أن عقيدة الصلب قد استقرت لدي المسيحيين ، وفي استقرارها هذا استقرت معه تفسيرات ومفهومات معينة ، لا يجوز التغاضي عنها ، بل يتعين علينا أن نبحثها أيضاً لنري مدي مطابقتها للحقيقة والواقع واتفاقها معهما ، بل إنه استكمالاً لكمال العقيدة ، فإنه ينبغي أن نتناول ما عسي أن يكون قد بقي من اعتراضات على القول بتخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه مما لم يرد في المباحث السابقة ، خاصة ما يثيره المسيحيون أنفسهم ، وعلي هذا نبحث فيما يلي علي التوالي عقيدة الصلب عند المسيحيين ، ثم تفسير تخليص الله للمسيح ورفعه إليه ، ثم ما بقي من اعتراضات علي ما انتهينا إليه مضافاً إليها ما يثيره المسيحيون أنفسهم من اعتراضات في هذا الخصوص .
أولاً : عقيدة المسيحيين في الصلب :
يحيط المسيحيون اعتقادهم بصلب المسيح عليه السلام بأكبر جانب من الأهمية والاعتبار ، حتى أصبح الإيمان بصلب المسيح هو قوام الإيمان بالمسيحية ، وحتى أصبح من لا يؤمن بصلب المسيح محال أن يعد مسيحياً ، وأقاموا حول واقعة الصلب نظرية في الغفران أدمجوها فيما سموه بقانون الإيمان ، وفيه موجز لهذه النظرية يقول : ( .... هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا . نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومريم العذراء . وتأنس وصلب عنا علي عهد بيلاطس البنطي . وتألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب .)
فالمسيح في الاعتقاد المسيحي إذن ، وهو الله نفسه ، قد نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومريم العذراء ، من أجل البشر ومن أجل خلاصهم ، وتأنس وصلب عنهم (أي عن المسيحيين كما يفهم من سياق القانون) ، في عهد بيلاطس البنطي ، وتألم وقبر .... إلي آخر ذلك .(1/297)
أما هذا الخلاص الذي يشير إليه القانون ، فيربط المسيحيون بينه وبين خطيئة آدم التي أشار إليها سفر التكوين ، فلنتعرف إذن علي هذه الخطيئة لتفهم فكرة الغفران هذه عند المسيحيين ، وفي نقرأ في الإصحاح الثاني من سفر التكوين :
(وأوصي الرب الإله آدم قائلاً من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً . وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها . لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت .) (16 و 17) ويضيف الإصحاح الثالث من نفس السفر :
(وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله . فقالت للمرأة أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة . فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل . وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر . فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر . فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل . فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان . فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر .(1/298)
وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار . فاختبأ آدم وإمرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة . فنادي الرب الإله آدم وقال له أين أنت . فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت . فقال من اعلمك أنك عريان هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها . فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت . فقال الرب الإله للمرأة ما هذا الذي فعلت . فقال المرأة الحية غرتني فأكلت . فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية . علي بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك . وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها . هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه . وقال للمرأة تكثيراً أكثر أتعاب حبلك . بالوجع تلدين أولاداً ، وإلي رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك . وقال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك . بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك . وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل . بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلي الأرض التي أخذت منها . لأنك تراب وإلي تراب تعود .
ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي . وصنع الرب لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما.
وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر . والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلي الأبد . فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها . فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة .)(1/299)
هذه هي خطيئة آدم وحواء امرأته كما وردت في الكتاب المقدس ، وكان هذا هو جزاء الله لهما وللحية من قبلهما ، ويعتقد المسيحيون أنه بما أن آدم الذي ولد منه البشر قد فقد بهذه الخطيئة حياة الاستقامة التي خلق بها وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً ، وبذلك يكون طبيعياً أن يولد منه البشر جميعاً خطاة نظيره ، وهكذا فإن كل إنسان إنما يولد والخطيئة فيه ، ولكن الله كامل ، ولا يمكن أن يساكنه إلا الكامل نظيره ، وعلي هذا الأساس فلا يمكن أن يدخل ملكوته أي من الناس لأنهم جميعاً يحملون الخطيئة ومن ثم فهم غير كاملين ، ولكن الله يريد أن يتصالح مع الناس على خطيئتهم ، أو بمعني أصح علي خطيئة آدم ، ويري المسيحيون أن هذا التصالح لا يمكن أن يكون إلا بالفداء ، بل وبالدم أيضاً ، ثم يسردون بعد ذلك الشروط الواجب توافرها في الفادي حتى ينتهوا إلي أنه يجب أن يكون إنساناً وألا يكون خاطئاً وألا يولد من الخطيئة ويجب أن يكون مساوياً لقيمة الناس جميعاً ويجب أن يكون شخصاً غير مخلوق وأن يكون ذا قدرة غير محدودة حتى يستطيع احتمال كل شناعة الخطيئة وآلامها عوضاً عن البشر ، وينتهون بعد غير ذلك من الشروط إلي أنها لا يمكن أن تتوافر في غير الله الذي يتجسد من الروح القدس ومريم العذراء ، فيكون الله الابن ، أو المسيح الذي بعد أن تأنس صلب من أجل البشر ومن أجل خلاصهم من خطيئة آدم السالف ذكرها.(1/300)
ومن هنا كانت فكرة الغفران في المسيحية ، فآدم عليه السلام قد عصي ربه وأكل من الشجرة التي حرم عليه أن يأكل منها ، وبذا وقع في الخطيئة ، ولهذا ولد الناس كلهم بالخطيئة ، واقتضت عدالة الله تخليص البشر من هذه الخطيئة ، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بأن يتجسد هو نفسه من الروح القدس ومريم العذراء ليكون المسيح الذي صلب من أجل البشر ومن أجل خلاصهم من خطيئة آدم ، وهكذا تكون رسالة المسيح ، أنه وهو الله ، نزل ليتأنس ويصلب وليخلص البشر بذلك من خطيئة آدم ، ونحن إذا لم نكن هنا قد أحطنا بفكرة الغفران بكل تفاصيلها ودقائقها عند المسيحيين ، فلأن البحث فيها يطول بما يخرج عن النطاق الذي حددناه لهذا الكتاب ، وإنما علي أي حال فقد أشرنا هنا إلي موجز لهذه الفكرة فيه الكفاية للتعبير عنها وتلمس جوانبها ، ثم إننا بعد ذلك لن نناقشها إلا في حدود الإطار العام لها والحقائق المسلم بها بشأنها.(1/301)
وأول الحقائق المسلم بها أن هذه الفكرة وبهذه التفاصيل لم يكن لها وجود قبل المسيح عليه السلام ولا حتى في حياته علي الأرض ، بل إن أحداً من تلاميذ المسيح أو أتباعه ، وهم يعلمون بيقين أنه المسيح الذي تنبأ به العهد القديم ، لم يخطر ببالهم قط أن المسيح سيصلب في يوم من الأيام ، ومن باب أولي ، لم يخطر ببالهم ما يقال اليوم من أنه وهو الله قد تجسد ونزل ليصلب ويخلص البشر من خطيئة آدم ، بل إننا نقرأ في إنجيل مرقس ( ..... واجتازوا الجليل ولم يرد أن يعلم أحد . لأنه كان يعلم تلاميذه ويقول لهم أن ابن الإنسان يسلم إلي أيدي الناس فيقتلونه . وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث . وأما هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه .) (ص 9 : 30 - 32) ، فهنا نجد أنه حتى عندما بدأ المسيح يخبر تلاميذه كما يقول مرقس البشير في إنجيله بأنه سيسلم إلي أيدي الناس فيقتلونه ، فإنهم لم يفهموا هذا القول منه وخافوا أن يسألوه ، ثم كان بعد ذلك ما كان من القبض علي يهوذا بعد تخليص الله للمسيح عليه السلام ، ومحاكمة يهوذا وصلبه علي أنه المسيح نفسه وفق ما انتهينا إليه ، وقد ظن المسيحيون أنه المسيح الذي حوكم وصلب ، وبعد هذا لا قبله ، ظهرت فكرة الغفران في المسيحية وأخذت تنتشر بين أتباع المسيح حتى استقرت تقريباً على النحو الذي ذكرناه .
ومن هنا فلا محل للربط بين فكرة الغفران هذه وبين العهد القديم . فلا يقال مثلاً أن العهد القديم قد تنبأ بأن الله سينزل ويتجسد من مريم العذراء ومن الروح القدس فيكون المسيح الذي يصلب لتخليص البشر من خطيئة آدم ، لأنه لو كان هذا صحيحاً للزم أن يعرف عن المسيح قبل مجيئه ، وللزم أن يعرفه أتباع المسيح أنفسهم ، وللزم أن يكون صلب دعوة المسيح ورسالته ، ولكن هذا هو ما لم يكن بأي حال.(1/302)
وتترتب علي ذلك حقيقة أخرى ، فما دام أن فكرة الغفران هذه لم تعرف عن المسيح قبل قدومه ولا أثناء حياته ، وإنما قيل بها بعد رفعه ، فهي في حقيقتها لم تكن تقريراً لواقع ، وإنما تبريراً لما ظن أنه الواقع ، فأتباع المسيح إذ ظنوا أنه هو الذي صلب ، واختلط عليهم الأمر عندما أخذوا يفكرون في ميلاده من عذراء وفي معجزاته ونحو ذلك ، حتى أصبحوا يرون فيه الله وإن لم يعرفوا عنه ذلك من قبل ، وأخذوا يربطون بين ذلك وبين بعض الآيات في العهد القديم وبين بعض ما قيل منسوباً للمسيح ، حتى خرجوا بفكرة الغفران هذه ، وتأكيداً لها أخذوا يضعون شروطاً لمن يجب أن يكون الفادي وفق هذه الفكرة بحيث لا يمكن أن تنطبق إلا على المسيح وحده وعليه كإله تجسد ليصلب ويخلص البشر ، تماماً كما وجدنا من قبل أن هناك من يضع شروطاً لدراسة الكتاب المقدس لا سند لها من الواقع وإنما كل هدفها هو الوصول إلي نتائج محدودة هي التي يؤمنون بها ، فهنا أيضاً لا هدف من كل هذه الشروط والافتراضات سوي الوصول إلي نتيجة محددة تؤكد فكرة الغفران دون أن يكون لهذه الشروط والافتراضات أي سند من الواقع .(1/303)
ويقيناً إن من يقرأ هذه الشروط ، ويعرف الحكمة والغاية من صلب المسيح كما يعتقدون ، وبمعني أصح من تجسد الله وصلبه كما يعتقدون ، فلن يجد لها أي معني أو سند ، ولن يكون من العقل أو المنطق ما يمكن أن يبررها علي الإطلاق ، فليس معقولاً أن الله إذ يريد أن يغفر خطيئة لا يجد سبيلاً إلي ذلك إلا بأن يتجسد ويتأنس ويصلب ، وإلا فكيف هو غفور كما يسمي ، وهل يقتضيه غفران كل إثم يريد أن يغفره أن يتجسد ويتأنس ويصلب ، ثم إذا كان الناس يولدون وقد ورثوا خطيئة آدم ، ألا يعني ذلك أن الخطيئة تتوارث ، وهنا لن أن نتساؤل ، أي آثام وأي خطايا يحملها الناس جميعاً اليوم إذا كانت الخطيئة تتوارث ، إنها آثام مستحيلة أن تغفر على هذا القياس ، وإذا لم يكن ذلك صحيحاً ، أي إذا لم تكن الخطيئة تتوارث ، فلماذا يتوارث الناس خطيئة آدم بالذات ، ثم إذا كان لزاماً أن يتجسد الله ويتأنس ويصلب ليخلص البشر من خطيئة آدم ، فما ذنب هؤلاء الذين ولدوا وماتوا قبل صعوده ، ألا يشملهم هم أيضاً الغفران الذي تحقق بصلب المسيح كما يعتقدون وهم لم يخطر ببالهم في يوم من الأيام أنه قد يصلب ، ما ذنبهم هؤلاء الذين ولدوا وماتوا قبل صعوده ، ألا يشملهم هم أيضاً الغفران الذي تحقق بصلب المسيح كما يعتقدون وهم لم يخطر ببالهم في يوم من الأيام أنه قد يصلب ، ما ذنبهم أن يموتوا بالخطيئة ثم إذا كان الله قد تجسد وتأنس ليصلب ويخلص البشر من خطيئة آدم ، ألا يعني هذا أن الناس بعد ذلك يولدون دون هذه الخطيئة ، فما لزوم اشتراط الإيمان بصلب المسيح حتى يتخلصوا منها ، هل كان تخليص الناس من خطيئة آدم بصلب المسيح معلقاً على هذا الشرط .(1/304)
أسئلة عديدة ، وانتقادات لا حصر لها . لا يملك العقل إلا أن يوجهها لفكرة موت المسيح الكفاري التي يقول بها المسيحيون ، أسئلة يستحيل الرد عليها ، وانتقادات محال تبريرها ، وما مرجع ذلك كله إلا لمناقضة الفكرة ذاتها للحقيقة والواقع ولو كانت مطابقة له لاتفقت مع العقل والمنطق والمعقول ، إذ هذا هو حال الحقيقة دائماً ، ولكن الواقع أن هذه الفكرة التي وضعها المسيحيون باعتبارها رسالة المسيح حتى تلاشت إلي جوارها رسالة المسيح الحقيقية ، كرسول جاء يدعو الناس إلي عبادة الله ، وإلي سلوك سبيل الخير والصلاح ، وتجنب سبل الغواية والفساد ، إلي غير ذلك مما جاء الأنبياء جميعاً يدعون إليه ، والواقع أن هذه الفكرة ما كانت من المسيحيين إلا محاولة لتبرير واقع (شبه لهم) ، وهو أن الذي صلب هو المسيح عليه السلام ، ولكن الواقع الحقيقي كما انتهينا من قبل هو غير هذا الذي شبه لهم ، ولذا فلم يعد ثمة محل للقول بهذه الفكرة التي تحاول أن تبرر شيئاً لم يكن ، وإنما الواجب الآن أن يفهموا وأن يعرفوا حقيقة هذا الذي كان .(1)
ثانياً : تفسير تخليص الله للمسيح ورفعه إليه :(1/305)
وجدنا من قبل أن المسيحيين بقولهم بفكرة الغفران أنما كان ذلك محاولة منهم لتفسير الواقع الذي شبه لهم ، وقد انتهينا بحق إلي أن الواقع هو خلاف ما شبه لهم فقد خلص الله المسيح عليه السلام ، ورفعه إليه وقبض على يهوذا الاسخريوطي وحوكم وصلب بدلاً منه ، بينما ظنوا هم أن الذي قبض عليه وحوكم وصلب هو المسيح نفسه ، ونحن هنا لا نريد أن نفعل نفس ما فعله المسيحيون ، بأن نحاول أن نورد فكرة جديدة نستطيع أن نقابل بها فكرة الغفران في المسيحية وأن نفسر بها تخليص الله للمسيح ..... إلي آخر ذلك ، وإلا لكنا حقيقين بالانتقاد كما انتقدنا المسيحيين تماماً ، ولذا فإن ما سنحاوله هو أن نفهم حقيقة الأمر والحكمة منه والغاية الحقيقية التي قصد منها ، ولسنا هنا يحق لنا أن نأتي بجديد من عندنا ، وإنما يجب أن يكون سندنا فيما تنتهي إليه الواقعة نفسها ، والكتاب المقدس نفسه ، وخطة الله نفسها في الأمر .
وهنا نعود إلى الكتاب المقدس ، إلى العهد القديم فيه ، إلى سفر التكوين ، وبالذات إلى الإصحاح الثاني والعشرين منه ، إلى رواية إبراهيم وابنه عليهما السلام ، وقد رأينا من قبل أن المسيحيين - عد واحد - يرون في هذه الواقعة رمزاً للمسيح وبالذات بالنسبة لواقعة صلبه ، ولقد قلنا نحن أيضاً أنه للحق فإن هذا الرمز الذي يشيرون إليه هو الحقيقة عينها ، وفيه تفسير لكل شيء ، ولذا فلنعد قليلاً إلى هذه الرواية لنري التفسير الحقيقي الذي تعطيه لنا ، وخاصة أن المسيحيين أنفسهم ، كما قلنا يعتبرون أن هذه الرواية ترمز للمسيح عليه السلام ولواقعة صلبه بالذات .(1/306)
فها نحن نرى أن الله سبحانه وتعالى ، وهو العليم بمدي إيمان إبراهيم عليه السلام ، يمتحن إيمانه رغم ذلك ، فيوحي إليه أنه يريده أن يأخذ ابنه وحيده الذي يحبه إلى أحد الجبال حيث يصعده محرقة ويذبحه ، ولا نرى في الإصحاح ما يفصل لنا مدي وقع هذا الطلب على إبراهيم عليه السلام ، وإنما ليس بالعسير على أي إنسان أن يتصور مدي الألم الذي ألم به حينئذ ، ومدي تمنيه على الله أن يعفيه من هذا الأمر ، وكيف لا وقد طلب إليه أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه ، ولكنها إرادة الله الصريحة الواضحة ، وبها كان الله يمتحن إيمان إبراهيم ، وكان على إبراهيم أن يجتاز هذا الامتحان مختاراً بين إيمانه بربه ، وبين حبه لابنه وتعلقه به وإشفاقه عليه من الذبح ، وإنها لتجربة مريرة ، وإنه لامتحان عظيم ، وإنه لأهون علي أب هو نبي أن يذبح نفسه دون أن يذبح ابنه ، ولكن إبراهيم المؤمن عميق الإيمان لا يختار غير الإيمان بالله والرضي بما أوحي به إليه ، على ما فيه من قسوة على نفسه لا تفوقها قسوة أخرى ، فيأخذ ابنه وحيده الذي يحبه ، ويذهب إلى حيث أمره الله أن يذهب ، وهناك يرتب الحطب ويربط ابنه ويضعه على المذبح ، ثم يمد يده بالسكين ويهم بأن يذبح ابنه .(1/307)
وقبل أن نمضي في سرد ما كان بعد ذلك ، فلنقف قليلاً لنحاول أن نعرف ما كان من موقف الابن في هذه اللحظة ، وهنا نجد أن الإصحاح لم يشر إلى ما كان منه ، ولكن من الطريقة التي سرد بها الإصحاح تقييده ووضعه فوق المذبح ، يمكن أن نقول أنه لم يقاوم أو يعترض ، بل وبأن أباه أخبره بما سيفعله به فرضى ، وإلا لما تم تقييده ووضعه فوق المذبح بسهولة وهو عارف أن ما يوضع فوق المذبح إنما ليذبح ، ولو أنه قاوم أباه لكان مفروضاً أن يشير الإصحاح إلى ذلك لأن هذه المقاومة إنما كانت تضاعف من عذاب الأب وتجعل الامتحان أكثر صعوبة ومشقة ، ونحن نرى القرآن يفصل ما كان من موقف الابن فيقول ( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا تري ، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) (الصافات : 102) ، وهذا الذي جاء في القرآن عن موقف الابن لا يتعارض على الإطلاق مع ما جاء في الإصحاح المشار إليه ، بل إن مفهوم الإصحاح ومضمونه يؤيده ، وهو ما نراه في السهولة التي كان عليها تقييده الابن ووضعه فوق المذبح دون الإشارة إلى أية مقاومة تبدو منه ، وليس بكثير على الابن هنا أن يكون على قدر إيمان أبيه ، فكلاهما نبي ، وكلاهما رسول الله.
وهنا ، في هذه اللحظة التي وقفنا عندها ، وقد نجح إبراهيم وابنه في هذا الامتحان القاسي لإيمانهما ، أوقف الله إبراهيم وأمره أن يكف يده عن ابنه فلا يذبحه ، وأنزل إليه كبشاً ذبحه بدلاً منه ، ويكمل الإصحاح بعد ذلك أنه من أجل هذا فقد بارك الله إبراهيم مباركة عظيمة ووعده بأن يكثر من نسله وأن يتبارك أيضاً في هذا النسل .(1/308)
هذه هي قصة إبراهيم وابنه عليهما السلام ، وهي التي يري فيها المسيحيون رمزاً للمسيح ولواقعة الصلب بالذات ، والتي نري نحن أيضاً فيها كل ذلك ، على التفصيل السالف شرحه ، ونجد فيها كل التفسير الحقيقي والصحيح لكل شيء مما انتهينا إليه ولنتابع القصة من بدايتها ، فنبدأ بالتساؤل عن دورها في حياة إبراهيم وابنه ورسالتهما ، وهنا نجد أن القصة لم يكن لها أي دور في دعوتهما أو في رسالتهما اللهم إلا تأكيد إيمانهما ونبوتهما ، كانت بذلك حادثاً عرضياً مر بهما ، وكانت على هذا النحو خاصة بهما بالذات وبصفة خاصة باعتبارها امتحاناً لهما ، وإنما تعلقت فحسب بغيرهما باعتبارها مثالاً عظيماً لما يجب أن يكون عليه الإيمان بالله والتسليم لمشيئته ، ثم مثالاً أعظم لتأكيد أن الله إنما يكافئ عباده المؤمنين ، وهكذا أيضاً كانت واقعة الصلب في حياة المسيح ، فهو قد ظل قبلها يبشر بدعوته ورسالته ، دون أن يقول أن رسالته أو دعوته أن يصلب ، وأبداً لم يقل أنه ما جاء إلا ليصلب كما ذهب المسيحيون بشأنه ، وما كانت واقعة الصلب إلا حادثاً عرضياً يتعلق بشخصه ، ولكننا هنا نلاحظ أن ثمة فارقاً بين إبراهيم والمسيح عليهما السلام ، فإذ نري إبراهيم يخفي الأمر عن الجميع ولا يقول لأحد أن الله طلب إليه أن يذبح ابنه ، فإننا نري المسيح يخبر تلاميذه بأنه سيسلم إلي أيدي الناس فيقتلونه ، وحقاً قرأنا في إنجيل مرقس أنهم لم يفهموا ذلك وخافوا أن يسألوه ، ولكنه على أي حال قد أخبرهم ، فلماذا إذن لم يخبر إبراهيم أحداً ، بينما أخبر المسيح تلاميذه ، وهنا نجد أن سبب هذا الاختلاف إنما ينشأ عن اختلاف كيفية القتل في الحالتين ، ففي الأولي كان إبراهيم نفسه هو الذي سيذبح ابنه ، وإنه لجرم كبير ما سيراه في ذلك أي واحد يخبره بما انتواه ، وأي واحد يسمع به لابد وأن يحاول أن يثنيه عن عزمه ، وقد يؤثر فيه هذا بالفعل ، بعكس الحال بالنسبة للمسيح ، فلم يكن فعل القتل(1/309)
سيقع منه وإنما عليه ، ومن ثم فإن محاولة تلاميذه إثناءه لن تجدي ، بل إنهم خافوا فقط عندما سمعوا ذلك منه حتى أنهم لم يستطيعوا أن يسألوه ، والذي كان متوقعاً منهم مثلاً أن يحاولوا حمايته ، ولعله كان يعرف أن ذلك لن يحدث ، فقد هربوا جميعاً وقت وصول الجمع إليه ، أو في القليل كان يعرف أن مقاومتهم لن تجدي ، ولذا فليس غريباً أن يكتم إبراهيم اعتزامه ذبح ابنه ، وأن يذيع المسيح بين تلاميذه أنه سيسلم ليقتل ، بل هذا هو الطبيعي نظراً لاختلاف كيفية القتل في الحالتين كما بينا.
ثم هذا هو إبراهيم ، وعلى أنه لم يكن بأي حال من الأحوال يتصور أو يريد أن يذبح ابنه ، إلا أنه لعظيم إيمانه ، يستسلم لمشيئة الله ، ويرتضي إرادته التي أعلنها له ، أي يرتضي أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه ، وها هو أيضاً المسيح عليه السلام ، فعلي أنه لم يكن يريد بأي حال أن يصلب ، ولا ليرضي بالصلب ، إلا أنه لإيمانه العظيم هو الآخر ، يستسلم لمشيئة الله ، ويرتضي إرادته التي أعلنها له ، وعلى أن هذه لم تكن إرادته أبداً ، فإنه ارتضاها لأنها كانت إرادة الله ، وهذا المعني هو ما توضحه الأناجيل بكل دقة حين تقول على لسان المسيح موجهاً كلامه إلى الله بعد أن دعاه أن يجيز عنه هذه الكأس ، أي أن يجيز عنه الصلب ( يا أبتاه إن أمكن فلعتبر عني هذه الكأس ، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت ) (متى ص 26 : 39) و (.... يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيتئك ...) (متى أيضاً ص 26 : 42).(1/310)
وبعد ذلك ، فكما رفع إبراهيم يده بالسكين ليذبح ابنه ، واستسلم له ابنه أيضاً ، فكذلك أحاط الأعداء بالمسيح يهمون بالقبض عليه ليقتلوه بعد ذلك ، بينما المسيح يستسلم لهم تسليماً لمشيئة الله ، وهنا ، وكما بارك الله إبراهيم وابنه عليهما السلام فأمر إبراهيم بألا يذبح ابنه معلناً إياه أنه قد نجح في الامتحان الذي امتحنه الله إياه ، وباركه لهذا هو ونسله من بعده ، فهكذا تماماً أعلن الله مسيحه أنه قد نجح في الامتحان الذي امتحنه الله إياه ، فخلصه من بين من تآمروا عليه ، ورفعه إليه ، مباركاً إياه بذلك مباركة لم يباركها لأحد من الأولين ، وقد وجدنا من قبل - وبحق - استحالة تكامل الرمز بالنسبة للمسيح إلا على هذا النحو .
وهكذا نرى الرمز يتكامل ، ونرى الله يكرر أفعاله ولا يناقضها ، وهو كان سيكون مناقضاً لها لو أنه أسلم المسيح فعلا للصلب ، إذ ليس مقبولاً أن يمتحن الله إبراهيم وابنه بأن يطلب من أولهما أن يذبح الثاني ابنه الوحيد الذي يحبه ، حتى إذا ما وثق من إيمانهما خلص الابن وفداه بذبح عظيم ، ثم إذ يمتحن إيمان المسيح فيطلب منه أن يسلم نفسه ليصلب ، وإذ يستسلم المسيح لمن جاءوا يقبضون عليه لا يخلصه وإنما يتركه ليصلب بالفعل ، ولكن الله لم يناقض نفسه ولم يناقض أفعاله ، هو قد كرر فعله ، وبذا تكامل الرمز بحق ، بل وتكامل الله تعالى ودل على وحدانيته ، وزاد الرمز تكاملاً أن كان هناك أيضاً من صلب بدلا من المسيح ، كما ذبح الكبش بدلاً من ابن إبراهيم ، وبذلك أحق الله كلمته التي انطلق بها الأنبياء من قبل والمزامير بصفة خاصة ، يتنبأون بها عبر السنين ، وكان الواقع بحق ، وكما ذكر المزمور الحادي عشر لا يعدو أن يكون أن (الرب يمتحن الصديق .) (5) ، فالمسيح بحق ، تماماً كإبراهيم وابنه ، هو الصديق ، وما كانت مسألة الصلب إلا امتحاناً عظيماً لإيمانه ، ولقد كان عظيماً حقاً في اجتيازه له .(1/311)
وإذا كان الكبش هو الذي ذبح في رواية إبراهيم وابنه ، بينما صلب يهوذا بدلاً من المسيح ، فإن اختلاف الذبيحة في الحالتين اقتضاها اختلاف ظروف الحال في كل منهما ، فإبراهيم هو الذي كان مزمعاً أن يذبح ابنه ، وهو لم يكن يريد ذلك كما سبق أن بينا ، وليس ثمة محل لأن يكون الذي يفدي به الابن عندئذ إنساناً ، وما دام أن المقصود هو تقديم الابن قرباناً لله على المذبح ، فلاشك أن إبراهيم سيبادر إلى الامتناع عن ذبح ابنه عند أول إشارة له من الله بذلك ، وهو لاشك قابل وبفرح عظيم أن يذبح الخروف قرباناً لله عوضاً عن ابنه ، وذلك بعكس الحال بالنسبة للمسيح ، فلم يقصد أعداؤه أن يقدموه قرباناً لله وإنما قصدوا أن يقتلوه ، وما كانوا بذابحي كبش بدلاً منه لو أن الله أنزل لهما كبشاً مكانه ، ولذا فما كانوا ليرضون بغير قتل من يعتقدون أنه المسيح ، ولذا كان المصلوب بدلاً من المسيح رجلاً ، ولكنه لم يكن أي رجل ، بل كان هذا الذي كرا للمسيح جباً ، حفره ، فسقط في الهوة التي صنع ، وذلك كما تنبأت المزامير بحق ، ولم يكن هذا غير يهوذا الاسخريوطي الذي كان من تلاميذ المسيح ثم خانه وتآمر عليه ، فأخذه الله بمؤامرته .
وهكذا نرى أن الرمز بقصة إبراهيم وابنه ، إلى تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً منه ، هو الرمز الصحيح وهو التطبيق الصحيح للرمز ، التطبيق المتفق مع العقل ومع المنطق ومع طبيعة الأمور ، ولسنا في حاجة لنقول به إلى ما رأيناه من مغالطة في البدء بالقول بأن إسحق يرمز إلى المسيح ثم الانتهاء رغم ذلك إلى أن الكبش يرمز إليه ، أو بأن الرمز لم يكتمل ، أو لم يتحقق من وجه واحد ، أو ننفي رمز ابن إبراهيم للمسيح - كما ذهب وحيد بين المسيحيين - ، فنجافي بذلك كل عقل وكل منطق ، بينما الحقيقة جلية واضحة ، بين أيدي الجميع ، تكاد أن تصرخ فيهم ، ومع هذا يصرون على تجاهلها .(1/312)
ورب من يعن له هنا أن يتساءل ، لماذا يمتحن الله المسيح عليه السلام ، أليس واثقاً من إيمانه ، وهنا ، وسواء أكان السائل مسيحياً أو مسلماً ، فهو يؤمن بما ذكرناه عن امتحان الله لإبراهيم وابنه من قبل ، وما دام يؤمن بذلك ، فليس له أن يعترض على أن يمتحن الله مسيحه عليه السلام ، فالحكمة والغاية في الحالين واحدة ولا محل للاعتراض على رواية مع الإيمان بالأخرى في نفس الوقت .(1)
ثالثاً : الاعتراضات الأخرى عن تخليص الله للمسيح عليه السلام :(1/313)
خصصنا الفصل الرابع الذي منه هذا المبحث ، لما قد يثور من اعتراضات على حقيقة تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، وخصصنا فيما سبق مبحثاً مستقلاً لكل من الاعتراضات الرئيسية التي أثرناها ، إلا أن هناك ثمة اعتراضات أخرى ، منها ما قد أثير بالفعل ، ومنها ما اعتقد أنه يلح على القارئ حتى ليكاد أن يستشعر أننا نحاول تجاهله ، والواقع عكس ذلك تماماً ، ويقتضي كمال البحث بالتعرض لكل هذه الاعتراضات ، وأما ما أعتقد أنه يلح على القارئ فهو يتمثل في اعتراضين : الأول أن هناك تفسيراً لمسلمين للآية التي تقول ( ولكن شبه لهم ) يري أن معناها أنه قد ألقي شبه المسيح على آخر ، وهذا التفسير يتعارض مع الصورة التي انتهينا إليها ، وإذا جعلت عنواناً لبحث هذا الاعتراض في الطبعة الأولى من هذا الكتاب (هل تتفق الصورة التي انتهينا إليها مع الإسلام) فإنني لابد وأن ألحق تحت هذا العنوان اعتراضان آخران أشار إليهما القس الأمريكي الأب كنيث نولن (بمستشفي الإرسالية الأمريكية بأسيوط وذلك في تعليق له على الكتاب نشره في مجلة العالم الإسلامي التي تصدر باللغة الإنجليزية عن مؤسسة هارتفورد في عددها رقم 3 لسنة 1965) فقد اعترض سيادته على الصورة الإسلامية التي قلت بها وحصر اعتراضه في هذا الخصوص في أمرين ، الأول ما رآه من أنه من غير المنطقي أن أدخل على الصورة الإسلامية القول بأن يهوذا الاسخريوطي هو الذي صلب عوضاً عن المسيح خاصة وأن الآيات لم تذكر اسم يهوذا ، وإن كان سيادته يقر بأني لم استند إلى الآيات في ذلك ، كما يري أن فكرة استبدال المسيح غير واضحة في الآيات القرآنية وأنه لا يوجد مسلم مثقف يقتنع بهذه الفكرة هذه الأيام ، وأما اعتراضه الثاني في هذا الخصوص فهو أن القرآن قد استعمل في الآيات فعل توفي وهو يدل - حسب رأيه - على موت يسوع بإرادة الرب ، وخيراً فعل سيادة الأب كنيث(1/314)
نولن ، فقد فتح لي بابين كنت في شوق لطرقهما ، وأما الاعتراض الثاني الذي أحسبه يلح القارئ فهو أننا نعلم من الإنجيل والقرآن أن المسيح عليه السلام تعلم أول ما تعلم العهد القديم ، ومع ذلك لم نر أنه عرف منه أن الله مخلصه ورافعه إليه أو في القليل لم يقل لتلاميذه شيئاً من ذلك وإنما كان يحدثهم عن صلبه باعتباره أنه سيصلب فعلاً ، فكيف كان ذلك .
وأما غير ذلك من اعتراضات فيحضرنا منها ما طالعناه للسيد القمص سرجيوس اسحق في نهاية كتابه الذي أعطاه عنواناً (رد القمص سرجيوس على المنتصر المهدي حول حقيقة صلب المسيح وموته) ، ولعله من الأوفق أن نشير إلى هذه الاعتراضات عند التعليق عليها فيما سيلي ونتناول الآن الاعتراضات السابقة على التوالي .
1- هل تتفق الصورة التي انتهينا إليها مع الإسلام :
وأبدأ هنا باعتراض السيد الأب كينث نولن بأن الصورة الإسلامية لا تقول بأن يهوذا الاسخريوطي هو الذي صلب بدلاً من المسيح عليه السلام ، وهنا أقرر ، أنني حين بدأت هذا الموضوع وجدت وبحق ، أن الآيات القرآنية لم تحدد شخص المصلوب عوضاً عن المسيح بل كان كل ما وجدته في هذا الخصوص أن الكتب الإسلامية التي تعرضت لهذا الموضوع وتناولت بالتحديد شخصية هذا الذي صلب بدلاً من المسيح ، حددته بأنه يهوذا الاسخريوطي ، ولكن وأمانة للبحث ، وأمانة للكلمة نفسها ، وكمسلم ، بل وكدارس للشريعة الإسلامية إلى حد ما في دراستي الجامعية بكلية الحقوق ، لا أستطيع أن أقرر أن في القرآن الكريم أو السنة النبوية المتمثلة في أقوال النبي - وهما مصدر الشريعة الإسلامية الأساسيان - ما يقول بأن الذي صلب عوضاً عن المسيح هو يهوذا الاسخريوطي بالذات .(1/315)
وترتيباً على ذلك فإن أصول البحث كانت تقتضي عند إشارتي إلى الفرض الإسلامي ألا أحدد شخصية المصلوب ، ولكن ما هي النتيجة التي كنا سنصل إليها من ذلك ، كان البحث سيسير تماماً وفق نفس التفاصيل التي سرنا عليها مع فارق واحد وهو أن نضع مكان اسم يهوذا في الصورة الإسلامية علامة استفهام نتساءل بها دائماً عن شخصية المصلوب ، وإذ قبلنا نبوءات العهد القديم كمعيار سليم ومقبول للبحث عن الحقيقة بين صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون وتخليص الله له ورفعه إليه كما يعتقد المسلمون ، فإننا - وكما وجدنا بحق - كنا سنجد أن العهد القديم وخاصة سفر المزامير لا يشير فحسب إلى دعاء المسيح عليه السلام لله أن يخلصه من الصلب واستجابة الله لهذا الدعاء ورفعه له إليه عند محاولة القبض عليه ، بل وفي المقابل من ذلك يكمل لنا تفاصيل الصورة ليس فحسب بما يحدد لنا أن آخر غير المسيح عليه السلام هو الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً منه ، بل ويحدد لنا شخص هذا المصلوب بأوصاف لا تنطبق على غير شخص واحد فقط هو يهوذا الاسخريوطي ، فهو الذي بالقبض عليه ومحاكمته وصلبه عوضاً عن المسيح يكون قد كرا للمسيح جبا حفرة فسقط في الهوة التي صنع ، وحفر له حفرة فسقط في وسطها ، وعلق بعمل يديه ، وفي الشبكة التي أخفاها انتشبت رجله ، إلى آخر ذلك مما رأيناه في دراستنا المفصلة ، ولعله يغيب عن ذهن السيد الأب كنيث نولن أن الأصل في الإسلام وفي الشريعة الإسلامية النظر إلى الكتب السماوية المقدسة السابقة على القرآن نفس النظرة التي ينظر بها المسلم إلى القرآن نفسه واعتبارها ملزمة له نفس الاعتبار الذي يعطيه للقرآن نفسه ولعل لسيادته عذره في هذا ما يراه من رفض المسلمين بصفة عامة للكتاب المقدس المتداول ظنا منهم بتزويره ، ولكني لا أري ، وبحق كمسلم ، أن ما ثار عند المسلمين من مظنة وشبهات حول الكتاب المقدس يقتضيهم رفضه جملة ، فهو ، وعلى أي الأحوال ، السند الأول ،(1/316)
والرئيسي لديهم عما ورد في هذه الكتب من تفاصيل ، وليس لهم أن يرفضوا منه على الأقل ما لا يخالف الإسلام ، وليس مما يخالف الإسلام في شيء أن يكون الذي صلب عوضاً عن المسيح هو يهوذا الاسخريوطي بالذات ، ولهذا ، والتزاماً بما أوجبه الإسلام نفسه من الإيمان بالكتب السماوية السابقة ، وإذ لم يكن فيما تنبأ به العهد القديم من أن يهوذا الاسخريوطي بالذات ، هو الشخص الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب عوضاً عن المسيح عليه السلام ، ما يخالف الإسلام ، فقد كان لزاماً ، ووفق أصول البحث ، ووفقاً لما يوجبه الإسلام نفسه ، كان لزاماً إزاء كل ذلك ، أن انتهي من البحث ، بأن أضع بدلاً من علامة الاستفهام هذه التي وضعتها في أول البحث مكان شخص المصلوب في الصورة الإسلامية ، اسم يهوذا الاسخريوطي ، باعتباره وبحق ، الشخص الذي يجب أن يجري إيمان المسلمين بأنه هو الذي صلب عوضاً عن المسيح .(1/317)
وهكذا ، فإن نتيجة البحث كانت ستكون في الحالين واحدة ، بل لعله كان سيكون من الأكمل للبحث ، لو بدأت بوضع علامة الاستفهام مكان شخص الذي صلب في الصورة الإسلامية ، وانتهي من البحث إلى وضع اسم يهوذا الاسخريوطي مكان هذه العلامة ، ولكني ، وكمسلم ، وكباحث والكتاب المقدس ، قدرت أنني لو أوردت الصورة الإسلامية على هذا النحو الذي توجبه أصول البحث ، لكان في ذلك مشقة ، القارئ في غني عنها ، خاصة وأنني لم أكتب للمتخصصين فحسب ، بل وكتبت وبصفة خاصة للقارئ العادي ، ورأيت أنه يكون من الأيسر على هذا القارئ ، أن أورد الصورة الإسلامية ، محدداً فيها شخص المصلوب بأن يهوذا الاسخريوطي ومقدراً أنه يبيح لي ذلك ، أولاً وقبل كل شيء ، أنه على أي الحالين فإن صورة البحث وأسسه وترتيبه ونتائجه لن تختلف على الإطلاق ، وأنه من ناحية أخرى ، فإن كتباً إسلامية جرت في تحديدها لشخص المصلوب عوضاً عن المسيح بأنه يهوذا الاسخريوطي بالذات ، وأنني في تحديدي لشخص هذا المصلوب عوضاً عن المسيح في الصورة الإسلامية ، لم أقل بأن ذلك التحديد من القرآن أو من أحاديث رسول الإسلام ، وإنما قلت أنه ما جري به اعتقاد المسلمين ، أو قالت به بعض التفسيرات الإسلامية ، بل إنني كنت قد اعتزمت في طبعة الكتاب الثانية هذه ، أن أعيد صياغته ، على أساس وضع علامة الاستفهام مكان شخص المصلوب في الصورة الإسلامية أيضاً ، ثم انتهي إلى تحديده في الصورة الإسلامية بأنه يهوذا الاسخريوطي على نحو ما تقدم ، ولكن بالرغم من ذلك ، فقد رأيت إعادة طبع الكتاب في طبعته الثانية هذه بنفس الصورة التي كان عليها في طبعته الأولي ، تقديراً لمشقة القارئين من المسلمين بالذات ، في متابعة مثل هذا البحث ، كما أشار إلي البعض فعلا ً بعد نشر الطبعة الأولي ، مكتفياً بهذا الإيضاح هنا ، وأعتقد أن فيه الكفاية .(1/318)
ولا يفوتني هنا أن أشير ، إلي أنه رغم وضوح هذا الكلام فإنني أتوقع ، وكما حدث بالنسبة للطبعة الأولي في مواضع أخرى من البحث ، أن من قد يحاولون الرد علي ، سيتناولون ما قلته في صدر الكتاب من تحديد شخص المصلوب في الصورة الإسلامية بأنه يهوذا الاسخريوطي ، وما قلته في هذا الموضع من أن أمانة البحث تقتضيني أن أقول بأن هذا التحديد ليس له سند من القرآن أو السنة ، ودون أن يشيروا إلى إيضاحي في هذا الشأن ، متشدقين بالتناقض البين بين أقوالي ، وآمل أن يكون في هذه السطور الأخيرة ، ما يردعهم عن هذه المغالطة ، وإلا ففي طبعة ثالثة بإذن الله ، أن مد الله في عمري ، سأكشفهم في هذه النقطة بالذات .
علي أن يبدو لي ، أن السيد الأب كنيث نولن في رده يحاول الاعتراض على أخذي بالتفاصيل التي وردت في الأناجيل ، باعتبارها من تفاصيل الصورة الإسلامية ، والواقع أنه ليس في الإسلام ثمة ما يمنعني من ذلك ، فالإسلام نفي فقط صلب المسيح ، ولكنه لم ينف صلاته ودعاءه لله أن يخلصه من الصلب ، ولا أن هناك من صلب بالفعل وباعتباره المسيح عليه السلام ، فما فعلته من ذلك لا يتعارض مع الإسلام ، وإذا كان القرآن لم يحدد لنا تفاصيل تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب غيره بدلاً منه ، فإنه بذلك يكون قد حتم علينا إذا أردنا التعرف على هذه التفاصيل أن نلجأ إلى مصادر أخرى ، والأناجيل المتداولة هي في القليل مصادر تاريخية هامة لتلك التفاصيل ، وهي في تقديري الشخصي أفضل المصادر التاريخية الموجودة حالياً في هذا الشأن .(1/319)
ويأتي الاعتراض الثاني للسيد الأب كنيث نولن ، والمتمثل في استعمال الفعل يتوفي عن المسيح قبل رفعه ، فقد قرأنا في سورة آل عمران (إذ قال الله يا عيسي إني متوفيك ورافعك إلي ....) ، والواقع أن استعمال الفعل متوفيك في هذه الآية ، أو توفيتني في آية أخرى على لسان المسيح عليه السلام ، هذا الاستعمال جعل الكثيرين من الكتاب المسيحيين يقولون بأن القرآن لا يقول بموت المسيح فحسب ، بل ويدعون أن القرآن يقر بصلبه ، ما دام لم يبين أين ومتي كانت هذه الوفاة ، وطبيعي أن الادعاء الأخير بعيد عن الصواب فالقرآن قد نفي بما لا يحتمل أدني لبس صلب المسيح ، أما استعمال الفعل يتوفى بمعني الموت ، فذاك أمر لا يمكن لمن هو على معرفة بأبسط قواعد اللغة العربية أن ينفيه ، فكلمة يتوفى يقصد بها الموت عادة ، وقد جرى القرآن على استعمالها في هذا المعني كذلك ، إلا أنه مما قد يغيب عن غير الدارس للقرآن أو الدارس غير المدقق فيه أن القرآن نفسه قد استعمل الفعل يتوفى بمعني آخر ، فنحن نقرأ في سورة الأنعام (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعمل ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) (آية 60)، فهنا استعمل الفعل يتوفى بمعني النوم ، بل واستعمل الفعل يبعث وهو الذي يشير عادة إلى البعث في الحياة الأخرى ، بمعني الإيقاظ من النوم ، وعلى هذا فإن الفعل يتوفي في الآية التي تشير إلى المسيح وإن كان يمكن أن يقصد به الوفاة بمعني الموت ، فإنه يمكن أن يكون قد قصد به معني النوم.(1/320)
وطبيعي فإن هذه ليست هي الإجابة المطلوبة ، ولكن لعلها نصف الإجابة ، وقبل أن ننتقل إلى النصف الآخر ، فلنتدبر إعجازاً قرآنياً ورد في آية أخرى من سورة الأنعام تصف من يصعد إلى السماء بأن صدره يكون ضيقاً حرجاً فتقول (.. يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ...) ففي التعليق على هذه الآية نقرأ في كتاب عنوانه (من الآيات الكونية للقرآن) وهو العدد الأول من سلسلة دراسات في الإسلام للأستاذ الدكتور محمد جمال الدين الفندي - وهو أستاذ للطبيعة الجوية بكلية العلوم بجامعة القاهرة وحاصل على درجة الدكتوراه في الأرصاد في إنجلترا - نقرأ في هذه الكتاب في صفحتي 27 و 28 منه تعليقاً على هذه الآية :
( وهنا يجدر بنا أن نقف قليلاً لنتساءل من الذي أخبر الرسول عن تلك الظاهرة الطبيعية التي لم يكشف البشر سرها إلا بعد مضي أكثر من ألف سنة من تاريخ نزول تلك الآية ، عندما صعد العلماء إلى أعالي الجو في البالونات والمناطيد والطائرات ونحوها ودرسوا طبيعة الهواء بآلات الجو المختلفة ثم صنفوا له القوانين والنظريات؟.(1/321)
فالصعود في السماء (أي إلى أعلي) معناه حتماً نقص الضغط الجوي وبالتالي نقص غاز الأكسجين الذي نستنشقه بحيث لا تكفي مقاديره لمستلزمات الحياة من حيث الكمية والضغط ، ولهذا يشعر الفرد بضيق الصدر في مراحل الصعود الأولي ، ثم يتعرض للموت المحقق بعد ذلك ، وعلى علو 19 كيلو متراً مثلا ينبثق دم الإنسان من مسام الجسم كأنما هو يغلي ، ويصاب المرء بالإغماء في برهة لا تزيد على 15 - 30 ثانية فبالله أين عذاب الصلب من هذا العذاب ، وهل الله يخلص مسيحه من الصلب ليوقعه في عذاب وآلام أشد وأقسى ، أبداً ، ولذا لزم أن يتوفاه الله قبل رفعه ، وذلك من الله لا يحتاج وقت نفكر فيه أو نقيسه ، ثم هو هنا بأي معني هو متوفيه ، أبمعني الموت ، ذلك تحتمله الآية ، أبمعني النون ، أي فقدان الحس والشعور ، ذلك أيضاً تحتمله الآية كما قدمنا ، ولست هنا في مجال القطع برأي في أي المعنيين أرجح ، إنما كلاهما معاً ، سواء استعملت الكلمة وقصد بها النوم أو قصد بها الموت ، فكلاهما معا دليل إعجاز للقرآن نعرف منه أن الله إذ رفع مسيحه إليه ، فإنه لم يرفعه بحالته الحية العادية ، عذاب يهون إلى جواره عذاب الصلب نفسه ، وما لهذا رفعه الله ، وإنما مكافأة من الله لمسيحه بعد أن مر بالتجربة الشاقة والامتحان القاسي ، حين رأي أن الله يريد له الصلب فاستسلم لمشيئة الله ، قال له لتكن لا إرادتي بل إرادتك ، فلزم وقد خلصه من الصلب ، أن يجنبه من باب أولى عذاب الصعود بجسده إلى السماء ، فيتوفاه قبل رفعه ، ولحظة بدء رفعه بالذات ، فمجده بذلك بتخليصه من الصلب ورفعه إليه ، وجنبه بتوفيه إياه أقسي العذاب الذي يتعرض له الجسد الإنساني الحي لو صعد بحالته الحية العادية إلى السماء .(1/322)
ويبقي في إتفاق الصورة التي انتهينا إليها من تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، ما يعطيه البعض من تفسير لقول الآية (ولكن شبه لهم) من أن الله ألقي شبه المسيح على آخر فقبض عليه وحوكم وصلب بدلاً منه لهذا السبب ، وحتى تتبين وجه الحق في هذه النقطة ، نعود فنذكر بإيجاز الصورة الإسلامية كما انتهينا إليها ، وطبقاً لهذه الصورة فإن المسيح عليه السلام وقد علم أنه سيصلب ، وقد دعا الله مصلياً بكل حرارة وعمق أن يخلصه من الصلب ، ثم استسلم لمشيئة الله ، وإذا قدم يهوذا على رأس الأعداء ليقبضوا عليه وقد أعطاهم علامة أن من يقبله هو المسيح وتقدم منه ، بينما هرب تلاميذ المسيح ، وفي هذه اللحظة رجع الأعداء إلى الوراء وسقطوا على الأرض ، وقد رأينا أن سبب هذا الرجوع إلى الوراء والسقوط على الأرض هو رفع المسيح في هذه اللحظة نفسها ، بعد أن توفاه الله فيها أيضاً ، ورأينا يهوذا يقف ذاهلاً من هول جلال الله وقدرته بينما الأعداء في هرجهم ومرجهم نتيجة ما كان في رجوعهم إلى الوراء وسقوطهم على الأرض ، وكان الوقت ليلاً كما عرفنا ، فيندفع الجميع إلى الوسط ، ويهوذا واقف هناك ذاهلاً ، ويقبضون عليه على أنه المسيح ، فيستسلم لهم تاركاً إياهم على هذا الظن ، وحتى عند محاكمته ، لا ينفي كونه المسيح وإن لم يؤيد أيضاً كونه المسيح ، فجعل الأمر بذلك يلتبس على أعداء المسيح ويحسبونه المسيح فعلاً ويصلبونه على هذا الأساس .(1/323)
وهنا نجد أن واقع ما انتهينا إليه ، أن الأمر بشأن المصلوب لبِّس على من قبضوا عليه ومن حاكموه ومن صلبوه ، والذي جعل الأمر يلتبس عليهم أن الله قد خلص المسيح عليه السلام ، ورفعه إليه في خفاء عمن حضروا للقبض عليه ، إذ كان ذلك ليلاً وقد رجع إلى الوراء من جاءوا للقبض على المسيح وسقطوا على الأرض عندما رفع الله المسيح إليه - بعد أن توفاه - مما جعل واقعة رفعه تخفي عليهم ، ومن ناحية أخرى فإن يهوذا الأسخريوطي للأسباب السالف شرحها لم يكشف عن حقيقة شخصيته عندما قبض عليه وحوكم وصلب ، وبهذا يكون الواقع أن الأمر قد لبِّس عليهم أو جعل يلتبس أو يختلط عليهم أو نحو ذلك .
ولكننا نجد من المسلمين من يفسر القول (ولكن شبه لهم) بقوله أن شبه المسيح ألقي علي آخر ، ومن ذلك ما نقرؤه في المصحف المفسر للأستاذ محمد فريد وجدي تفسيراً للآية (ولكن شبه لهم) (أي وقع لهم التشبيه بين عيسي والمقتول الذي صلبوه) ثم يمضي سيادته مفسراً المعني المقصود بالآية فيقول : (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبهه على أحد القتلة المحكوم عليهم بالقتل) ، إلا أن هذا التفسير ليس هو المستقر عليه تماماً ، إذ نجد تفسيراً آخر في تيسير التفسير للشيخ عبد الجليل عيسي يقول فيه : ( " شبه لهم " أي وقعت الشبهة لهم وظنوا أنهم قتلوه مع أنهم قتلوا غيره ظانين أنه هو) ثم يضيف مفسراً المعني : (وكذبهم سبحانه يقوله " وما قتلوه وما صلبوه " بعد قتله كما يزعمون ، ولكن وقعت لهم شبهة فقتلوا غيره) .(1/324)
ونحن إذا طالعنا هذين التفسيرين لوجدنا أن الثاني يكاد أن يطابق ما انتهينا إليه ، أما الأول فهو يحاول أن يزيد في التفصيل فيأتي بما لا تحتمله الآية نفسها ، ذلك أننا إذا رجعنا إلى المعني اللغوي للكلمة (شبِّه) لوجدنا أن القول (شبه عليه الأمر) يعني لغة (لبِّس عليه الأمر) وعلى هذا فإن (شبه لهم) التي وردت في الآية معناها لغة ، (لبس لهم) وهو ما يطابق تمام المطابقة التفصيل الذي انتهينا إلى أنه يطابق الحقيقة نفسها ، وبذلك فإن تفسير الآية بأن معناها أن شبه المسيح ألقي على آخر تفسير غير صحيح لا تحتمله الآية نفسها ولا المعني اللغوي لما ورد فيها من كلمات ، وإنما الذي يطابق الآية ولا يتعارض معها بأي حال من الأحوال ، هو الصورة التي انتهينا إليها ، وما كانت لتكون إلا كذلك ، لأننا إنما استخلصناها مما ورد في القرآن نفسه ، ومما ورد في الأناجيل المتداولة نفسها ، ومما ورد في العهد القديم نفسه ، وقد أوجب القرآن الإيمان بالإنجيل المنزل على المسيح عليه السلام وبالكتب السماوية السابقة عليه ، هذا فضلاً عن أننا لم نستهدف في استخلاص هذه الصورة غير الحقيقية وحدها كما بينا من قبل .
2- كيف لم يعرف المسيح نفسه من العهد القديم أن الله مخلصه :
والسؤال هنا منطقي وبديهي ، فالمسيح عليه السلام ، وكما نعلم من الأناجيل وكما يعلم المسلمون من القرآن ، إنما قد تعلم أول ما تعلم العهد القديم ، وإنه للحق أنه ليس في الناس من يحق له أن يدعي علماً وفهماً بالعهد القديم ، وإنه للحق أنه ليس في الناس من يحق له أن يدعي علماً وفهماً بالعهد القديم فوق علم المسيح به وفهمه له ، ومع ذلك ، فإن المسيح نفسه قد قال أنه سيصلب ، فكيف يعتقد ذلك وقد بان لنا بحق أنه من السهولة بمكان أن نعرف من سفر المزامير أن الله مخلص مسيحه ورافعه إليه وأن الذي قبض عليه وحوكم وصلب لن يكون المسيح وإنما يهوذا الاسخريوطي .(1/325)
وهنا نعود إلى ما ذكرناه عن حقيقة الأمر ، وهو أن الله وقد أراد أن يمتحن إيمان مسيحه أوحي إليه بأنه يريد له أن يصلب ، فإذا كان الأمر كذلك ، فليس طبيعياً أن يعرف المسيح عليه السلام مقدماً أن الله مخلصه من الصلب ورافعه إليه عندما يحاول الأعداء القبض عليه ، وإلا لفقد الامتحان قيمته كامتحان ، ولذلك فإذا كان المسيح عليه السلام قد خفي عليه ما تنبأت به المزامير من أن الله مخلصه ورافعه إليه ، وأن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب بدلاً منه هو يهوذا الاسخريوطي ، فليس ذلك بحال قصوراً في فهم المسيح أو ادراكه ، وإنما لأن هذه هي إرادة الله لكي يكون للامتحان قيمته ومعناه ، فأي معني يكون لامتحانه إذن لو عرف مقدماً ذلك ، تماماً كما لو عرف إبراهيم عليه السلام مقدماً أن الله لن يدعه يذبح ابنه وحيده الذي يحبه ، فأي معني كان سيكون لامتحانه بعد ذلك .(1/326)
ولكن هل يمكن القطع بأن المسيح عليه السلام ، يعرف المعني الصحيح الذي تؤدي إليه النبوءات ، أو فهم بالقطع أنه سيصلب ، حقاً أن المسيح عليه السلام قال أنه سيسلم ليصلب ، ولكن قوله هذا لم يكن استناداً إلى ما جاء في العهد القديم بأي حال ، ذلك أنه مهما قيل في نبوءات العهد القديم ، فإن أحداً لا يستطيع الادعاء بأنها قد حددت اليوم والساعة التي سيسعى فيها أعداء المسيح للقبض عليه ، وبذلك فلم يعرف المسيح هذا اليوم ولا تلك الساعة إلا عندما أوحى الله له بذلك ، وهنا نري المسيح عليه السلام عند اقتراب هذه الساعة ، وعلى تسليمه لمشيئة الله في أن يصلب ، يضرع إليه أن يخلصه من هذه الكأس ، واحساساً منه بمدي هذه الآلام التي سيتحملها برضائه بمشيئة الله هذه ، نراه يصلي لله أعمق الصلاة ليخلصه من الصلب ، إلا أن الله لا يعلن له إلا إصراره على أن يصلب ، استمرار لامتحانه له ، فيرتضي ذلك بعد أن يعلن أن هذه ليست مشيئته هو ، ولكن لتكن ما دامت هي مشيئة الله ، ضارباً بذلك أروع المثل في الإيمان.
فإذا كان المسيح يعلم من أسفار العهد القديم أنها تنبأت حقاً بصلبه ، فإن صلاته هذه ما كانت لتكون ذات معني ، وإنما هي تكون ذات معني واضح ومفهوم لو لم تكن أسفار العهد القديم تؤيد صلبه ، بل هي تكون ذات أكبر معني حينما تكون أسفار العهد القديم تؤيد أن تخليص الله للمسيح سيكون استجابة لدعائه له بذلك ، وفي القليل فإن صلاة المسيح هذه وتضرعه إلى الله أن يخلصه ، لا تعني إلا أن احتمال قبولها أمر قائم ، وهنا نتساءل ، أي الناس أحق بأن يستجاب له دعاء أكثر من المسيح عليه السلام ، وإذا كان ما يقول به الإسلام لا يزيد عن أن الله قد استجاب هذا الدعاء ، أفلا يكون ذلك هو المتفق مع كل منطق وكل عقل .(1)
3- الاعتراضات الأخرى :(1/327)
وهي تلك التي قلنا أنه يحضرنا منها ما طالعناه للسيد القمص سرجيوس اسحق في نهاية كتابه السالف الإشارة إليه ، فقد أنهي كتابه هذا موجهاً اعتراضاته في صورة أسئلة قال فيها :
( س : من المسئول عن خداع الناس وغشهم عندما شبه لهم أن المسيح صلب وقتل وهو لم يصلب وإذا كانت عقيدة الصلب كفراً فمن الذي كفرهم وأليسوا معذورين في كفرهم لأن الله أراد لهم هذا الكفر حينما خدعهم بإلقاء شبه عيسي على إنسان آخر فصلبوه عوضاً عنه .
س : وماذا يقصد الله بهذه المعجزة (الفطيس) التي بها رفع عيسي حياً إلى السماء وألقي شبهه على غيره ؟
س : وما ذنب الناس الذين ظلوا ستة قرون يعتقدون أن المسيح مات حتى جاء محمد بعد ستة قرون يقول وما قتلوه يقيناً .
س : وأين كان الله تعالى طوال هذه السنين حتى أنه تعالى بعد 600 سنة ينبه الناس إلى خطأ الاعتقاد بموت المسيح ؟)
وإذا توجهت بالرد على هذه الأسئلة في الطبعة من هذا الكتاب إلى السيد القمص سرجيوس باعتباره هو الذي وجهها ، إلا أنه ، رحمه الله ، وقد توفي بعد ظهور الطبعة الأولى بنحو عام ونصف ، فإنه لم يعد ثمة محل لتوجيه الرد إليه في هذه الطبعة .
وأول ما يلاحظ على هذه الاعتراضات أنها تقوم على أساس أن الفكرة الإسلامية عن تخليص الله للمسيح هي أنه قد ألقي شبه المسيح على آخر ، وقد انتهينا إلى أن هذا التفسير لا يتفق مع القرآن نفسه ، وأن الواقع إنما كان بخلاف ذلك ، إذ أن يهوذا استسلم لمن قبضوا عليه على أنه المسيح عليه السلام ، ولم يكشف عن حقيقة شخصيته حتى صلب وبذلك لبس الأمر لهم ، ونعود الآن إلى الاعتراضات .(1/328)
ونبدأ بالرد على السؤال الثاني ، ولعل من يسأل مثل هذا السؤال وأجد الجواب عليه في شرحنا لحقيقة الصلب ، ومقارنتنا له بامتحان إبراهيم وابنه ، فإذا ظل من قد يسأل هذا السؤال رغم ذلك على تساؤله ، فليجب هو أولاً لماذا كان امتحان الله لإبراهيم وابنه حتى أن إبراهيم هم بذبح ابنه استجابة لإرادة ربه فمنعه الله وخلص ابنه بذلك من الذبح ، فإذا أجاب عن ذلك ، فإنه يكون أيضاً وتماماً قد أجاب عما يتساءل عنه من قصد الله بمعجزة تخليص المسيح ورفعه إليه .
أما السؤال الأول ففيه مغالطة لا تخفي ، وعلى أساس ، من هذه المغالطة بني السؤالان الثالث والرابع ، فلم يعب الإسلام على المسيحيين أنهم اعتقدوا بأن الذي صلب هو المسيح ، بل إن في القرآن نفسه ما يبرر اعتقادهم بذلك ، فالقول (ولكن شبه لهم) ، معناه أن الذي صلب إنما صلب على أنه المسيح عليه السلام ، ومن ثم فلا ذنب على من اعتقد حينئذ أن المسيح عليه السلام هو الذي صلب ، ولا يمكن أن يعد هذا الاعتقاد كفراً ، والقول بأن الإسلام يجعل من الاعتقاد بصلب المسيح كفراً ، هو قول مدسوس على الإسلام ، وليس من الإسلام في شيء ، بل إن عدم صلب المسيح ليس من قبيل العقيدة التي يؤمن بها المسلم ، وإنما هو فقط من مضمون إيمانه بالقرآن ككلام الله الموحي به إلى محمد عليه السلام ، ولو سئل أي مسلم عما يؤمن به لما خرجت إجابته عن أنه يؤمن بالله الذي لا إله إلا هو وبأن محمداً عبده ورسوله وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله ، وبملائكته وكتبه ورسله أجمعين ، ولا يخطر ببال مسلم عندئذ أن يقول بأن يؤمن بأن المسيح لم يصلب وإنما رفعه إليه مخلصاً إياه من الصلب ، وصحيح أن المسلم يؤمن بأن هذه هي الحقيقة ، ولكن هذه الحقيقة ليست أساس الإيمان عنده ، بل والواقع أن المسلمين لا يكادون أن يعيروا هذه المسألة أي اهتمام ، اكتفاء منهم بالتسليم بما جاء في القرآن عن تخليص الله للمسيح ورفعه له إليه.(1/329)
ولعل الأمر قد اختلط على السيد السائل ، لأنه إذا كان الاعتقاد بصلب المسيح عند المسيحيين لا يعد في نظر الإسلام كفراً ، فإن الكفر في حكم الإسلام هو ما رتبه المسيحيون واستخلصوه من الاعتقاد بصلب المسيح ، ألا وهو قولهم أن المسيح هو الله ، فقالوا بأن الله تجسد من مريم العذراء ومن الروح القدس بعد أن نزل ليصلب تخليصاً للبشر من خطيئة آدم ، فتأليه المسيح الذي استخلصه المسيحيون من اعتقادهم بصلب المسيح ، هو ما يعده الإسلام كفراً ، وليس الاعتقاد بصلب المسيح في حد ذاته يعد في الإسلام كفراً .
فإذا ما وصلنا بعد ذلك إلى السؤال الثالث ، فلعلنا قد أجبنا عليه فيما تقدم ، فلا ذنب على أحد أن اعتقد أن المسيح صلب حتى جاء محمد بالقرآن يقول أنه ما قتل يقيناً ، فلا ذنب لأحد في أن يعتقد بذلك حتى مجيء محمد ، ولكن الذنب هو فيما رتب على هذا الاعتقاد من تأليه المسيح ، ذلك أنه لو كان حتى قد صلب فعلاً وفقاً لهذا الاعتقاد ، فإن ذلك ما كان ليجيز لأحد أن يعتبره إلهاً ، وأما السؤال الأخير ، فجوابه أن الله كان موجوداً بطبيعة الحال ، ونعود فنكرر أن الخطأ لم يكن هو الاعتقاد بأن الذي صلب هو المسيح ، إنما فيما رتب على هذا الاعتقاد من اعتباره الله نفسه ، ولكن المسيح لم يصلب ، وإذا أراد الله بعد ما كان أن يتم دينه ، بعث بمحمد وأوحي إليه القرآن وفيه عرف الناس بالحقيقة التي كانت خافية عنهم فلم ينكرونها بعد ذلك ، وفيها كما وجدنا بحق ، ما يصحح كل شيء مما اختلط على المسيحيين ، ويؤكد تمام النبوءات التي وردت في العهد القديم .
المبحث السادس
هل يمكن أن يذكر العهد الجديد وقائع غير صحيحه(1/330)
انتهينا من كل ما سبق إلى أن الله قد خلص المسيح عليه السلام ورفعه إليه ، وإلي أن الذي قبض عليه في الحقيقة والواقع وحوكم وصلب ، هو يهوذا الاسخريوطي لا المسيح عليه السلام ، وليس معني هذا إلا أن ما أورده العهد الجديد من تحديد لشخص المقبوض عليه والذي حوكم وصلب غير صحيح ، وأن الصحيح هو أن هذا الذي أشار إليه العهد الجديد على أنه حوكم وصلب هو يهوذا الاسخريوطي ، وطبيعي أن هذا افتراض الصحة في الأناجيل على الأقل بالنسبة لهذه الواقعة بالذات ، ويؤكد لنا إمكان ذكر العهد الجديد لوقائع غير صحيحة ، فهل هذا ممكن حقاً .
ومبعث التساؤل هنا هو أن الاعتقاد السائد عند المسيحيين هو أن العهد الجديد إنما كتب بإرشاد الروح القدس أو وحيه ، والروح القدس عندهم هو الله أيضاً ، وطبيعي أن الله لا يخطئ ، فكأن نفي صحة واقعة معينة وردت في الأناجيل أو غيرها من أسفار العهد الجديد ، هو نفي لكون هذه الأناجيل أو غيرها من أسفار العهد الجديد موحي بها من الله أو مكتوبة بإرشاد منه ، وذلك يقتضينا أيضاً أن نبحث في حقيقة الوحي المقال به في كتابه أسفار العهد الجديد ، ولهذا نقسم البحث في هذا المبحث إلى قسمين ، أولهما نبحث فيه ما إذا كانت هناك وقائع غير صحيحة ذكرت في العهد الجديد ، وثانيهما نبحث فيه حقيقة الوحي المقال به في كتابة العهد الجديد .
أولاً : هل هناك وقائع غير صحيحة ذكرت في العهد الجديد :
ولا نقصد هنا التعرض لكل ما ورد في العهد الجديد من وقائع فنبحث ما إذا كانت صحيحة أم غير صحيحة ، أو نبحث في مدي مطابقتها للتاريخ أو نحو ذلك ، وإنما نقصد هنا الوقائع التي لا يمكن الاختلاف على القول بعدم صحتها ، لا لشيء إلا لأن العهد الجديد نفسه الذي وردت فيه هو الشاهد بعدم صحتها .(1/331)
وليس هنا محل لذكر كل الوقائع التي ذكرت في أجزاء من العهد الجديد تنفيها أجزاء أخرى ، لأن الباحث إنما يجد ما لا حصر له من ذلك ، ولذلك نكتفي هنا بذكر البعض منها على سبيل المثال ، خاصة ما مر بنا منها من قبل .
ومن ذلك ما سبق أن طالعناه في إنجيل متى عن يهوذا الاسخريوطي من قوله (ثم مضي وخنق نفسه) (ص 27 : 5) ، وهو ما نفهم منه بوضوح أن يهوذا مات بأن خنق نفسه ، ولكننا طالعنا كذلك على لسان بطرس في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل قوله عن يهوذا ( .... وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم ...) (18 و 19) ، وهنا نعرف عن موت يهوذا كأنما حلت عليه لعنة من الله جزاء لخيانته فسقط على وجهه وانشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ، بل وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم ، وهذه الرواية في حد ذاتها تنفي ما قيل في إنجيل متى من أنه خنق نفسه ، كما أن هذا الذي قيل في إنجيل متي ينفي رواية بطرس ، وهو ما ننتهي منه إلى استحالة أن تكون كل من الروايتين صحيحة ، بل إننا قد انتهينا في كل ما سبق إلى إثبات عدم صحة أي منهما.(1/332)
ومن ذلك أيضا ما طالعناه في إنجيل مرقس عن النساء اللاتي لم يجدن جسد من ظنوه المسيح في القبر ، حيث جاء في ذلك الإنجيل أن شابا رأينه أخبرهن بأن المسيح قد قام وطلب منهن أن يخبرن تلاميذه أنه يسبقهم إلى الجليل ، فهنا يستطرد إنجيل مرقس قائلاً (فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات ) (ص 16 : 8) ، أما إنجيل لوقا ، فإذ يشير إلي نفس الواقعة ، وعلى أنه لم يذكر أن من تحدث إلى النساء ، وهو هنا رجلان لا شاب كما ورد في إنجيل مرقس ، لم يذكر أنهما طلبا إلى النساء أن يخبرن التلاميذ بما قيل لهن ، فإنه يستطرد قائلاً (فتذكرن كلامه ، ورجعن من القبر ، وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله) (ص 24 : 8 و 9) ، وليس للعقل أن يقبل أن النسوة لم يخبرن أحداً وفي نفس الوقت أخبرن التلاميذ والجميع ، وما كل هذا التناقض إلا دليل قاطع على الأقل على عدم صحة واحدة من الروايتين ، أما أن تكون كل منهما صحيحة فهذا هو المستحيل ، فما الحال ونحن لا نجد في هذا الصدد روايتين فحسب ، بل نجد في كل من الأناجيل الأربعة رواية مختلفة عما ورد في الأناجيل الثلاثة الأخرى . (1)
ومن هذا أيضاً ما قرأناه في الأناجيل من قبل عن محاكمة المسيح وخاصة ما قيل عن مثوله أمام الوالي حيث نقرأ في إنجيل متى عن ذلك :
( فوقف يسوع أمام الوالي فسأله الوالي قائلاً أأنت ملك اليهود ، فقال له يسوع أنت تقول ، وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء .... فقال لا بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك ، فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً .) (ص 27 : 11 - 14) .
وفي إنجيل مرقس نقرأ عن نفس الواقعة :(1/333)
( فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود ، فأجاب وقال أنت تقول ، وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً ، فسأله بيلاطس أيضاً قائلاً أما تجيب بشيء ، أنظركم يشهدون عليك فلم يجب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجب بيلاطس ) (ص 15 : 2- 5) .
أما إنجيل يوحنا فيشير إلى نفس الواقعة بقوله :
( ثم دخل بيلاطس أيضاً إلى دار الولاية ودعا يسوع وقال له أنت ملك اليهود أجابه يسوع أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني . أجاب بيلاطس ألعلي أنا يهودي ، أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي . ماذا فعلت . أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم . لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود ، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا ، فقال بيلاطس أفأنت إذا ملك . أجاب يسوع أنت تقول أني ملك ، لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق ، كل من هو من الحق يسمع صوتي ، قال له بيلاطس ما هو الحق ....) (ص 18 : 33 - 38) .
والمرء إذ يطالع كل ذلك في الأناجيل الثلاثة يأخذه العجب ، فها هما ذا إنجيلان يؤكدان أن كل ما قاله هذا الذي يحاكم على أنه المسيح لبيلاطس (أنت تقول)، ويحاول بيلاطس بعد ذلك أن يتحدث معه فلا يجبه ولا عن كلمة واحدة ، ويؤكد الإنجيلان سكوته على هذا النحو بأن يضيفا أن الوالي تعجب لذلك جداً ، ولكن الإنجيل الأخير لا يقول بذلك ، بل يقول أنه أخذ يرد على بيلاطس ويناقشه في كل ما يقول ، ويدور بينهما حديث لا ينتهي إلا بأن يخرج بيلاطس بعد ذلك لليهود تاركاً المسيح ، فهل يمكن أن يكون كل ذلك صحيحاً ، هل يمكن أن يكون هذا الذي يحاكم ويحسبونه المسيح قد سكت ولم يجب الوالي عن كلمة واحدة حتى أثار ذلك السكوت منه عجب الوالي جداً ، وأن يكون في نفس الوقت لم يسكت على الإطلاق بل أخذ يناقش الوالي في كل ما يقوله ، إن هذا هو المستحيل عينه للعقل ، وإن هذا ليقطع أن في القليل فإن إحدي الروايتين غير صحيحة على الإطلاق .(1/334)
ثم إننا نقرأ عن الذي حوكم وسلم للصلب في إنجيل متى (وفيما هم خارجون وجدوا إنساناً قيروانياً إسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه .) (ص 27 : 32) وخارجون هنا قصد بها من دار الولاية ، ومن باقي رواية ذلك الإنجيل نعرف أن سمعان هذا حمل الصليب إلى مكان الصلب ، ونقرأ عن نفس الواقعة في إنجيل مرقس ( ثم خرجوا ليصلبوه ، فسخروا رجلاً مجتازاً كان آتيا من الحقل وهو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه ، وجاءوا به إلى موضع جلجثة .... ) (ص 15 : 20 - 22) ، وهو ما يعطينا نفس المعني السابق ، ونقرأ كذلك عن الواقعة نفسها في إنجيل لوقا ( ولما مضوا به أمسكوا سمعان رجلا قيروانيا كان آتيا من الحفل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع ) . (ص 23 : 26)
وهو يعطينا نفس المعني أيضاً ويزيد الأمر إيضاحاً بأنا الصليب هنا يحمله سمعان ويسير به خلف من يحسبونه المسيح عليه السلام ، أما إنجيل يوحنا فيقول عن هذه الواقعة نفسها (فأخذوا يسوع ومضوا به ، فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة . حيث صلبوه ... ) (ص 19 : 16 - 18) ، وهذه الرواية هي عكس ما اتفق عليه البشيرون الثلاثة حيث نفهم من روايتهم أن من ظنوا أنه المسيح منذ أن خرج من دار الولاية إلى حيث صلب ، لم يحمل صليبه بل سخر لحمله رجل قيرواني يدعي سمعان حمل الصليب وسار به خلفه حتى مكان صلبه ، أما يوحنا البشير فيذكر لنا أن من ظنوا أنه المسيح هو الذي حمل الصليب هو الذي حمل الصليب منذ خروجه وحتى مكان صلبه ، ومحال أن تكون كلا الروايتين صحيحة ، وفي القليل فإن إحداهما على الأقل ليست صحيحة .(1/335)
ومن ذلك أيضاً ما نقرأه عن اللصين اللذين صلبا مع من ظنوه المسيح عليه السلام ، ففي إنجيل متى نقرأ عنهما (وبذلك أيضاً كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه ) ( ص 27 : 44) ، كما نقرأ في إنجيل مرقس (واللذان صلبا معه كانا يعيرانه ) (ص 15 : 22) ، كما نقرأ في إنجيل لوقا ( وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلاً إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا ، فأجاب الآخر وانتهره قائلاً أولا أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه ، أما نحن فبعدل لأننا نتسأل استحقاق ما فعلنا ، وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله ، ثم قال ليسوع أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك ، فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس) (ص 23 : 39 - 43) ، فها هنا إنجيلان يتفقان على أن من صلبا مع من ظنوه المسيح كانا يعيرانه ، هما معاً ، الاثنان ، كان يعيرانه ، وأما الإنجيل الثالث فينفي نفياً قاطعاً أن ثانيهما قد عيره ، ويؤكد أن واحداً فقط قد عيره ، وأما الثاني فقد انتهر هذا الذي عيره ، والمستحيل أن يكون هذا الثاني قد عيره ، وفي نفس الوقت لم يعيره وإنما انتهر هذا الذي عيره ، والمقطوع به أن في القليل إحدي الروايتين غير صحيحة بالنسبة لهذا الثاني فأما أنه هو الآخر غيره ، وإما أنه لم يعيره وانتهر هذا الذي عيره ، أما أن تكون كلا الروايتين صحيحة ، فهذا محال .(1/336)
ومن مثل ذلك أيضاً ما نطالعه في سفر أعمال الرسل ، فقد أشير في هذا السفر مرتين إلى واقعة واحدة قيل فيها أن المسيح عليه السلام ظهر لشاول الذي لقب بعد ذلك ببولس الرسول ، وفي المرتين أشير أيضاً إلى من كانوا مع شاول هذا من حيث شعورهم بهذه الواقعة ، وفي ذلك نقرأ في الإصحاح التاسع من ذلك السفر (وأما الرجال المسافرين معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً ) (7) ، كانوا معى نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني ) (ص 22 : 9) ، وهنا نري التناقض بينا ، فبينما الرواية الأولى تقول عن الذين كانوا مع شاول سمعوا الصوت ، تقول الثانية أنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمه ، وبينما تقول الأولي أنهم لم ينظروا أحداً تقول الثانية أنهم نظروا النور ، فما هي الحقيقة من كل ذلك أن كانت أي الروايتين حقيقية ، ومهما قيل فلن يمكن القول إلا بأن إحداهما على الأقل غير صحيحة .(1)
والأمثلة من هذا القبيل عديدة حتى أنها لا تقع تحت حصر ، وليس هنا على أي حال مكان حصرها ، حتى لا نخرج بالكتاب عن نطاقه ، إنما الذي يعنينا من هذه الأمثلة ، أن أسفار العهد الجديد نفسها ، هي الشاهدة على عدم صحة الكثير مما جاء فيها ، لذكر واقعة في أحدها ، وإيرادها على صورة أخرى مناقضة تماماً في سفر أو أسفار أخرى ، ولعل ذلك وحده يكفينا دليلاً على عدم صحة ما يقال بالوحي أو الإرشاد من الروح القدس التي يقصدون بها الله في كتابه هذه الأسفار ، لأنه لم يمكن أن يكون من الله هذا التناقض ، إلا أننا إذ نستهدف الحقيقة وحدها بهذا البحث ، نجد لزاماً علينا أن نعرف حقيقة هذا الوحي المقال به ، وأن نتعرف على حقيقة الكيفية التي كتبت بها أسفار العهد الجديد ، لتكون العقيدة بحق جامعة مانعة كما قدمنا.
ثانياً : حقيقة الوحي أو الإرشاد من الروح القدس - أي الله - المقال به في كتابه أسفار العهد الجديد :(1/337)
ولعل الوصول إلى حقيقة الوحى أو الإرشاد من الروح القدس المقال به في كتابة أسفار العهد الجديد عند المسيحيين يقتضينا ابتداء أن نتعرف على أسفار العهد الجديد المقال بالوحي في كتابتها ، ثم على كيفية كتابة هذه الأسفار ، ثم على هذا الوحي المقال به لتنتهي من كل ذلك إلى الحقيقة بشأن هذا الوحي.
1- أسفار العهد الجديد :
كتاب العهد الجديد هو القسم الثاني من الكتاب المقدس الذي يتضمن في القسم الأول منه العهد القديم والذي يشمل بدوره جميع رسالات الأنبياء قبل المسيح عليه السلام ، أما العهد الجديد فهو ما بدأ بالمسيح عليه السلام وانتهي بعده ، ويتكون العهد الجديد من سبعة وعشرين سفراً ، الأربعة الأول منها هي المعروفة بالأناجيل وهي على التوالي إنجيل متي ثم إنجيل مرقس ثم إنجيل لوقا ثم إنجيل يوحنا ، وواضح من أسمائها أنها سميت بأسماء كاتبيها ، ويلي الأناجيل سفر يسمي سفر أعمال الرسل ، ونعرف منه أن كاتبه هو لوقا كاتب إنجيل لوقا ، ويليه ثلاثة عشر سفراً ، كلها رسائل من الملقب ببولس الرسول والذي كان اسمه شاول ، الأولي هي رسالته إلى أهل رومية ، والثانية هي رسالته الأولي إلى أهل كورنثوس ، والثالثة هي رسالته الثانية إلى أهل كرونثوس ، والرابعة هي رسالتة إلى أهل غلاطية ، والخامسة هي رسالته إلى أهل أفس ، والسادسة هي رسالته إلى أهل فيلبي ، والسابعة هي رسالته إلى أهل كولوسي ، والثامنة هي رسالته إلى أهل تسالونيكي ، والتاسعة هي رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي ، والعاشرة هي رسالته الأولي إلى تيموثاوس ، والحادية عشرة هي رسالته الثانية إلى تيموثاوس ، والثانية عشرة هي رسالته إلى تيطس ، والثالثة عشرة هي رسالته إلى فليمون ، ويلي هذه الرسائل رسائل أخرى يمثل كل منها سفراً آخر من أسفار العهد الجديد ، وهي الرسالة إلى العبرانيين ، ورسالة يعقوب ، ورسالتان لبطرس الرسول ، وثلاث رسائل ليوحنا الرسول ، ورسالة ليهوذا ، وأخيراً سفر(1/338)
يسمي برؤيا يوحنا اللاهوتي .
2- كيفية كتابة أسفار العهد الجديد :
ويدخل تحت هذا العنوان بطبيعة الحال بيان الأشخاص الذين قاموا بكتابة أسفار العهد الجديد ، وهذا الموضوع عموماً يحتاج إلى بحث مستفيض قائم بذاته لدراسته دراسة شاملة ، ذلك أنه ليس من المحقق تماماً لدي المسيحيين معرفة أشخاص جميع كاتبي أسفار العهد الجديد ، أو تاريخ كتابة كل سفر من أسفاره ، أو اللغة الأصلية التي كتب بها كل سفر منها ، كما لا توجد نسخة أصلية لأي سفر منها إلا ما ندر ، إلى آخر ذلك مما يتطلع إليه الباحث في هذا الموضوع ، وهو ما يقصر نطاق هذا الكتاب عن بحثه بحثاً شاملاً ، ولذلك فلن نحاول هنا غير الإحاطة بصفة عامة ، ووفقاً لأغلب ما هو مستقر لدي المسيحيين أنفسهم ، ومستعرضين بقدر الإمكان ما يمكن بحثه في هذا الموضوع .
وفي ذلك نقرأ عن الأناجيل الأربعة في كتاب أقوال المسيح غير المدونة في بشائر الإنجيل (للأستاذ الألماني يواكيم أرميا والذي نقله إلى العربية الدكتور عزت زكى وصادر عن دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة بالاشتراك مع المجمع المسيحي للشرق الأدني ) من ص 10 - 12 منه قوله :
( .... ينبغي أن نضع نصب أعيننا حقيقتين أساسيتين ، عن بشائر الإنجيل وكتابتها ، أنه لمدة طويلة ، كانت كل التقاليد المعروفة عن المسيح - أقواله ، ومعجزاته ، والقصص الثابتة عن موته ، وقيامته - كلها أقوال شفاهية ، متناقلة .(1/339)
ففي الوقت عينه الذي كانت فيه المسيحية تنتشر في سورية ، وآسيا الصغرى ، واليونان ، كانت قصص البشائر ، على قدر ما نستطيع أن نعرف ، كلها شفاهية واستمرت على هذه الصورة ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً ، ولم يتغير الوضع إلا في عهد اضطهاد نيرون للمسيحيين ، حينما اجتمع شيوخ الكنيسة قد فقدوا ، واستشهدوا . ومنهم بطرس الرسول ، الذي صلب في حدائق الفاتيكان ، وابتدأوا يتذاكرون فيما بينهم ، الذكريات التي كان يقصها بطرس الرسول ، عن حياته مع المسيح وعن أحاديث المسيح معه ، وعن معجزات السيد التي رآها ، وعن إنكاره للسيد في ليلة الخميس الذي حوكم فيه أمام مجلس أحبار اليهود ، ولم يجد المجتمعون أمامهم إلا يوحنا المقلب مرقص ، زميل الرسول بطرس في الخدمة ، والذي كان قد هرب من الاضطهاد ، ليسجل كل ما يستطيع أن يتذكره من أحاديث المسيح ، وتعاليمه ، وكتب مرقص بشارته (1) المختصرة التي تحمل اسمه ، وهي أقدم قصة كتبت عن حياة المسيح .(1/340)
والحقيقة الثانية ، أن قصة مرقص عن المسيح ، وأقواله ، قد دفعت غيره ، ليحذوا حذوه ، وينسجوا على منواله ؛ وليس غريباً أن تفصح البشارة ، ويشاهد أنها لم تستوف القصة بأكملها ، فيبدأ آخرون في تتبع كل شيء بالتدقيق ، وتنشأ بشائر أخرى ، يحذو بعضها حذو بشارة مرقص ، مثل إنجيلي متى ولوقا ، ويختلف غيرها عنه ، وفي وقت قصير أصبح لكل منطقة من مناطق المسيحية ، إنجيلها الذي تستخدمه في كنائسها حتى أنه لم يهل منتصف القرن الثاني الميلادي ، حتى كان هناك عدد لا يستهان به من البشائر ، مما سبب الارتباط والبلبلة وزاد الطين بلة ، ظهور مذهب الغنوسيين أو المستنيرين ، كما كانوا يلقبون أنفسهم ، الذي حاول أن يدمج المسيحية في الديانات المحيطة بها ، وأنتج لنفسه سلسلة كاملة من الأناجيل ، ومن هذه السلسلة ، إنجيل بطرس ، وإنجيل المصريين ، وإنجيل بازيليدس ، وإنجيل توما ، وإنجيل فيلبس ، وإنجيل جواء ، ولما رأت الكنيسة أن الأمر جد خطير ، بدأت في تقصي أسس هذه البشائر ، ونبذت ما لم يكن له سند تاريخي ، واقتصرت على البشارئر الأربع المعروفة ، واعتبر ما سواها بشائر أبو كريفية ، طوردت ، وجمعت ، وأحرقت ، حتى اختفت ، ولم يصل منها إلينا إلا النذر اليسير) .
ونحن نجده عادة في مقدمات تفسيرات الأناجيل ، نبذة عامة عن الأناجيل عموماً ، وعن الإنجيل موضوع التفسير بصفة خاصة ، ومن مثل ذلك ما نقرؤه في مقدمة تفسير إنجيل متى للقس مرقس داود (وهو من تأليف متى هنري وتعريب القس المذكور) من قول المؤلف :
( .... وأمامنا ( الأناجيل الأربعة) . معني (الإنجيل) أو (البشارة) الأخبار الطيبة أو السارة .....(1/341)
هذه الأناجيل الأربعة قبلتها وأقرتها الكنيسة الأولى وكانت تقرأ في اجتماعات المسيحيين كما يتضح من كتابات الشهيد يوستينوس وايريناوس اللذين عاشا في القرن الثاني للميلاد ، واللذين صرحا بأن الكنيسة لم تقبل أكثر ولا أقل من هذه الأناجيل الأربعة ، وحوالي ذلك الوقت الذي عاش فيه هذان البطلان قام تاتيان بوضع ملخص لهذه الأناجيل وسماه (ياطسرون) (إنجيل الأناجيل الأربعة) .
وفي الجيلين الثالث والرابع زورت أناجيل متعددة واحدة باسم بطرس وآخر باسم توما وثالث باسم فيلبس ... الخ ........ ولكن الكنيسة لم تقبلها ولم تصادق عليها .
وأمامنا (إنجيل متى) ، كان (متى) بحسب المولد يهودياً وبحسب العمل (عشاراً) حتى دعاه المسيح لاتباعه ، وعندئذ (ترك مكان الجباية) وتبعه وصار واحداً من اتباعه الذين رافقوه (كل الزمان الذي فيه دخل الرب يسوع وخرج ، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه ) أ ع أ : 21 و 22 . إذا فقد كان شاهداً جديراً بأن تقبل شهادته عن كل ما دونه هنا ، ويقال أنه كتب إنجيله بعد صعود المسيح بثمان سنوات ، ويقرر الكثيرون أنه كتب باللغة العبرانية أو السريانية ولكن الأرجح أنه كتب باللغة اليونانية كسائر أسفار العهد الجديد ، لأنه لم يشأ كتابته بتلك اللغة التي كانت محصورة في اليهود الذين كانت كل من كنيستهم ومملكتهم على وشك الزوال ، بل بتلك التي كانت منتشرة في كل أرجاء العالم والتي كانت أكثر لياقة لانتشار معرفة المسيح في كل أمم الأرض ، ولكن لعله وجدت نسخ باللغة العبرانية التي كتبها متى نفسه في ذات الوقت الذي كتب فيه النسخة اليونانية لكي يرسل العبرانية إلى اليهود واليونانية إلى الأمم عندما ترك اليهودية للكرازة بين الأمم ، وعلى أي حال فنحن نشكر الله لأن هذا الإنجيل قد وصل إلينا باللغة التي نفهمها ).
ونقرأ في كتاب رب المجد الذي سلفت الإشارة إليه عن إنجيل متى في الصفحتين 201 و 203 :(1/342)
( إن كاتب هذه البشارة هو متى العشار ابن حلفا الملقب لاوى أيضاً ، وهو يهودي الجنس ، كان قبل دعوته إلى الرسولية جابياً لخراج الدولة الرومانية في كفر ناحوم وضواحيها (مت 9 : 9 و مر 2 : 14 ولو 5 : 27) . الاعتقاد الشائع أنه كتب بشارته بعد صعود المسيح بسنوات قليلة (أي قبل خراب أورشليم) ، وقصد بها إفادة المؤمنين من اليهود خصوصاً عن حياة المخلص وتعاليمه لأجل تثبيتهم في الدين الحقيقي وليبرهن لليهود عامة أن يسوع الناصري الذي رفضه أئمة اليهود وصلبوه هو ذات المسيح الملك المنتظر .
بما أن غاية البشير متى بهذه الصورة فهو لذلك برهن في بشارته أن يسوع الناصري هو المسيح الذي ينتظره الشعب المختار ، ولذلك تجدون بشارته ممتازة في أسلوبها عن مرقس ولوقا الذين كتبا للمتنصرين من الأمم . وكذلك تجدون بشارته مشحونة بذكر عوائد اليهود ومدنهم وأماكنهم المشهورة ومشحونة بنصوص من الأنبياء وكثرة الإشارات إلى أقوالهم التي تمت بها لأن ذلك كان من أقطع البراهين عند اليهود) .
ونقرأ في نفس الكتاب عن إنجيل مرقس في الصفحات من 210 إلى 213 قوله :
( إن مرقس كاتب هذه البشارة هو المذكور في سفر الأعمال 12 : 12 (يوحنا الملقب مرقس) ، وهو ابن امرأة تقية من أورشليم اسمها مريم أخت برنابا ... وقيل إن مرقس هذا آمن بواسطة بطرس الرسول لأنه كان يدعوه ابناً له (ا بط 5 : 3) ؛ وكان مرافقاً لبولس وبرنابا خاله في سفرهما الأول للتبشير ....
أما بشارته فقيل أنه كتبها في أثناء سنة 61 تحت مناظرة بطرس رفيقه الخاص ومما يؤيد هذا الرأي كونه يترك أخباراً كثيرة عن هذا الرسول تؤول إلى كرامته مما يذكره غيره من الإنجيلين ..
إن مرقس كتب بشارته لنفع المؤمنين من الأمم الذين كان أصل رجوعهم للمسيح بواسطة خدمته ، ولذلك تراه يتجنب بقدر ما يمكن ذكر العادات اليهودية والاقتباس من أسفار العهد القديم لعدم خبرة الأمم بها .....(1/343)
أما الحوادث التي يذكرها مرقس فهي أقل من التي يذكرها متى ولوقا ، إلا أنه بالإجمال يدقق فيها أكثر منهما ، كما في ذكر أحد المرات التي عبر فيها المسيح بحر الجليل (ص 4) .
... وهذا يبرهن لنا أن مرقس إما أنه شاهد هذه الأمور عياناً أو حصل على معرفتها من الذين شاهدوها بأعينهم ............
وتحسب هذه البشارة أنها أخصر وأوضح وأعجب وأقنع تاريخ في العالم من أجل بساطة كلامها وما تحويه من الحوادث السامية ...)
ونقرأ في نفس الكتاب أيضاً عن إنجيل لوقا من الصفحات 216 إلى 218 قوله :
( قيل أن لوقا البشير كان يهودياً دخيلاً من إنطاكية (أي أنه تهود من الأمم) وقال بعضهم أنه كان أحد التلميذين الذاهبين إلى عمواس وذلك غير محقق لنا ، فقط نعلم أنه كان رفيقاً أميناً لبولس الرسول في أسفاره الكثيرة وأتعابه وآلامه كما يتضح من سفر أعمال الرسل (ص 16 : 11 و 20 : 5 و 6 2 تي 4 : 11) . وكانت مهنته الطب كو 4 : 14 . كتب بشارته نحو سنة 63م وسفر الأعمال نحو سنة 64م وكان عنوان هذين الكتابين إلى رجل مسيحي شهير يقال له (ثاوفيلس) . وقيل أن لوقا استشهد في حكم نيرون الملك الروماني ، وذلك لا يبعد عن الصواب لأنه كان غالباً مصاحباً لبوس الذي قضي نحبه حينئذ .
نعلم من سفر أعمال الرسل أن لوقا الطبيب الحبيب كان رفيقاً لبولس في أسفاره والمرجح أن سفر الأعمال كتب في آخر المدة التي يعطينا تاريخها ، ولا ريب في أن بولس الرسول كان حينئذ حياً ، وبالنتيجة أن بشارة لوقا هذه التي كتبت قبل الأعمال - كما يري من مقابلة لو 1 : 3 مع 1 ع 1 : 1 - قد كتب في حياة بولس وغيره من الرسل ، ولا يوجد سبب للريب في أنها تألفت إما بمناظرة بولس شخصياً وإما بإطلاعه واستحسانه ، وبأن هذه البشارة صارت مقبولة عند عموم الكنائس المسيحية منذ كتابتها كتاريخ صحيح عن حياة مخلصنا وتعاليمه موحي به من الروح القدس .(1/344)
أن لوقا لم يكن من الرسل الاثني عشر ؛ وهو لا يدعي بأنه شاهد بعينه الأمور التي كتبها ؛ بل يصرح بأنه جمعها باجتهاد وتدقيق من الذين كانوا معاينين وخداماً للكلمة (ص 1 : 1 - 4) ، وهذا لا ينقض كونه أوحى بها إليه بالروح القدس ولذا وجب اعتبارها كل الاعتبار ....
ومع أن لوقا عنون بشارته باسم هذا الشخص الشهير فلا ريب أنه قصد بها إفادة الكنائس عموماً . وإن صح القول أن ثاوفيلس كان من الأمم البعيدين عن فلسطين يمكننا الاعتقاد بأن لوقا كان يفتكر بنوع خصوصي في احتياجات المسيحيين في الأمم نظير رفيقه بولس ؛ وهذا يوافق روح بشارته ...
أما إنجيل يوحنا فنقرأ عنه فيك تاب شهادة إنجيل يوحنا (تأليف جورج أيلتون ونقله للعربية الأستاذ إبراهيم مطر وصادر عن مكتبة الشعل الإنجيلية ببيروت) في الصفحات من 1 إلى 5 منه قوله : (من كتب الإنجيل الرابع ؟
لشد ما يبرز هذا السؤال . من هو كاتب الإنجيل الرابع ؟ وقد كان الجواب العام على هذا السؤال كما شاع في تاريخ الكنيسة وعلى مدي الأجيال أن الكاتب هو يوحنا بن زيدي - أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر . ولكن علينا أن نذكر أن اسم كاتب الإنجيل لم يرد في أي مكان ....
نجد بعض العلماء لا يميلون إلى الاعتقاد بأن كاتب الإنجيل الرابع هو يوحنا الرسول مع أن فريقاً آخر منهم ما برح يتمسك بالفكرة القائلة بأن كاتبه هو يوحنا الرسول هذا ... وتفرض احتمالات ثلاثة :
أولاً : أن يكون هذا الإنجيل قد كتبه تلميذ يوحنا الرسول فكتب عما سمعه وتعلمه عن الرسول.
ثانياً : أن يكون يوحنا الشيخ هو الذي كتب هذا الإنجيل ، وكان هذا تلميذاً للمسيح في فلسطين وليس أحد الرسل .
ثالثاً : أن يكون معلم كبير من كنيس أفسس مجهول الهوية هو الذي كتب هذا الإنجيل . وكانت رغبته أن يفسر إنجيل المسيح للذين يتكلمون اللغة اليونانية حوله .(1/345)
ويكاد يوجد إجماع عام بأن الإنجيل إنما كتب في آسيا الصغرى في مدينة أفسس وحوالي نهاية القرن الثاني . وكانت الغاية من كتابته مساعدة الناس الذين كانت لهم معرفة قليلة في الإيمان المسيحي والذين كانوا بحاجة لأن يقادوا للتعلق في جواب الله النهائي لكل مشكلات الإنسان المتعلقة بالله وبالعالم وبالأبدية .
ومهما كانت النظريات حول كاتب هذا الإنجيل فإن ما يتضح لنا جلياً بأن كاتبه كان لديه فكرة الرسول ، فإذا كتبه أحد تلاميذه فإنه بلا مراء كان مشبعاً بروحه ولذلك في وسعنا أن نقول بأن الشهادة التي نقرأها في هذا الإنجيل هي صادرة عن الرسول يوحنا ، وأن الصوت الذي نسمعه هو صوت التلميذ الحبيب الذي عرف المسيح معرفة صادقة وحميمة ، وفهم فكرة فهمها روحياً كاملاً ودقيقاً )
ويتحدث نفس الكتاب عن المقارنة بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى فنقرأ بين ما يقوله في ذلك في الصفحتين 12 و 13 منه :
( وإنا لنجد اختلافاً في اليوم الذي جري فيه الصلب ، فالأناجيل الثلاثة تشير إلى أن يسوع مارس الفصح مع تلاميذه في الليل ، وأنه صلب في اليوم الثاني الذي ما برح من أيام الفصح ، لأن اليهود يعتبرون أيامهم من شروق الشمس إلى مغربها .
أما يوحنا فيشير بأن يسوع صلب في مساء الفصح ؛ في الوقت الذي كانت فيه الخراف في الهيكل استعداداً للعيد (يوحنا 19 : 14 و 31) وإذا كان هذا هو الواقع فلابد أن يكون اليوم الذي تلا صلب المسيح هو السبت الذي كان يوم الفصح .(1/346)
ورب فارق أوضح بين الأناجيل الثلاثة وهذا الإنجيل يظهر حول عودة المسيح بالمجد وفيما كانت الأناجيل الثلاثة الأولى تتوقع عودته بمجد وبتاريخ مبكر وغير معلوم ، في حين أننا لا نجد في الإنجيل الرابع شيئاً يشبه ما ورد في مرقس 13 أو متى 24 أو لوقا 21 ، وتدون الأناجيل الثلاثة كلمات المسيح وتفسيرها التي أعطته أياها الكنيسة الأولى . ولكن عندما مرت السنون ولم يجئ المسيح ، نشط يوحنا إلى تفحص كلمات المسيح مرة ثانية محاولاً أن يعطيها تفسيراً خاصاً من عنده وقد إتضح له بأن الفترة التي سوف تمر حتى النهاية هي فترة طويلة وأطول بكثير مما ظنه التلاميذ الأوائل ، والمسيح حاضر مع تلاميذه بحسب وعده لهم . وهذا الحضور حقيقي بالروح القدس الذي ينتهي بإعلان مجيئه النهائي بالمحبة والدينونة ، وكان في نظر يوحنا أن آلام المسيح هي ساعة مجده ، وأن موته هو سفرته إلى أبيه السماوي وقيامته بعد فترة وجيزة هي عودته (يوحنا 16 : 16) ولكن هناك المجيء النهائي في المجد والدينونة (يوحنا 2 : 28 و 3 : 2) وحتى ذلك الوقت فعلي التلاميذ أن يمكثوا معه حتى يأتي (يوحنا 21 : 12 - 23)
وكتب يوحنا إنجيله عند نهاية القرن الأول وربما حول 25 سنة بعد سقوط أورشليم عام 70 ب.م.)
وعن سفر أعمال الرسل نقرأ من صفحة 225 إلى صفحة 227 من كتاب رب المجد المشار إليه فيما سبق قوله :
( يليق بنا أن نضع سفر أعمال الرسل في بحثنا الآن بعد بشارة لوقا لأن كاتبهما واحد وهو لوقا الإنجيلي ، والشخص المكتوب إليه في كليهما هو واحد أي ثاوفيلس ، ويظهر من فاتحة هذا السفر أن المكتوب فيه هو تتمة لما كتب في بشارة لوقا (راجع ص 1 : 1) .(1/347)
وبما أن بشارة لوقا تنتهي بقيامة المسيح وظهوره بعض المرات لتلاميذه وصعوده وذلك كله بهيئة مختصرة ، قد ابتدأ هذا السفر بذكر المدة التي صرفها المسيح بعد قيامته على هذه الأرض ، وبما أنه ذكر في بشارته وعده لهم بأن يلبسوا قوة من الأعالي فابتدأ في هذا السفر أن يفسر معني تلك القوة وأخذ في أن يري تفصيلاً كيفية إتمام الوعد بإرسال الروح القدس .
وهذا السفر يتضمن تاريخاً عن خدمة الرسل وأعمالهم وما احتملوه ...
وهذا السفر يبتدئ بذكر صعود المسيح ، ويمتد في أخباره إلى نهاية السنة الثانية من سجن بولس في رومية (ا ع 28 : 30) وذلك يحيط بنحو ثلاثين سنة.
والسبب الأكثر احتمالاً لانقطاع الكلام هناك هو أنه قد كتب ونشر في تلك السنة عينها .
أن لوقا يخبرنا فيه عن أول غرس الديانة المسيحية في العالم ، وتأليف كنائس المسيحيين بين اليهود والأمم ، وانتشار الإنجيل في جهات عديدة من العالم ، وصبر بعض الرسل وجرأتهم في البلايا التي أصابتهم بسبب الإنجيل ، ونجاحهم الغريب ونحو ذلك من الأمور التي هي برهان على صحة الديانة المسيحية وصدورها من الله .
ومع أن هذا السفر معنون باسم أعمال الرسل فهو لا يتضمن تاريخاً تاماً عن أتعاب واحد منهم ، فكم بالحرى عن جمعيهم ؟ وكما أن البشائر الأربع لا تتضمن تاريخاً كاملاً عن أعمال ربنا المجيد وتعاليمه بل ذكر شخصه ووظيفته وتأسيس النظام المسيحي الذي هو موضوعه الأعظم على أسلوب مختصر ....
وفي الغاية المقصودة من هذا السفر أربعة أمور مهمة :
الأمر الأول : إصلاح الفكر اليهودي عن المسيح المنتظر :(1/348)
أنهم جميعاً كانوا يفتكرون أن المسيح هو لليهود فقط ، ولا يأتي إلا لليهود ، وليس لأحد من غير اليهود نصيب في المسيح ، وحتى رسله الذين عاش معهم المسيح أكثر من ثلاث سنوات وسمعوا كل تعاليمه وإرشاداته نهاراً وليلاً - لم يفهموا إلى ما بعد صعوده بل إلى ما بعد حلول الروح القدس بسنين - لم يفهم الرسل أن المسيح لكل العالم على السواء .... )
وكما رأينا من قبل ، فإن سفر أعمال الرسل يليه ثلاث عشر سفراً ، كلها من شاول الذي لقب ببولس الرسول ، وإذا علمنا أن كاتب هذه الرسائل كلها واحد وأنها في مجموعها تزيد على مجموع ما دون في إنجيلين كاملين بما تتضمنه من إصحاحات ، وأن الأناجيل تضمنت بصفة أساسية ترجمة حياة المسيح إلى جانب تعاليمه التي كان ينادي بها بحيث وردت هذه التعاليم كجزء من هذه الترجمة لحياته ، بينما تضمنت هذه الرسائل التعاليم بصفة أساسية حتى لتبدو تعالمي المسيح المدونة في البشائر قليلة للغاية بالنسبة للتعاليم التي تضمنتها هذه الرسائل ، إذا علمنا كل ذلك علمنا بالتالي مدي أهمية هذه الرسائل ، وخاصة أن المسيحيين يأتمرون بها تماماً كل ما يأتمرون بما ورد في الأناجيل منسوباً للمسيح نفسه ، ومن هنا فإن من اللازم أن نولي هذه الرسائل وكاتبها قسطاً كبيراً من الأهمية ، فتتبع شخصيته وظروف كتابته لها ، ولعل خير ما يعيننا في ذلك كتاب سيرة رسول الجهاد (بقلم حبيب سعيد - الطبعة الثانية - وهو صادر عن دار (الشرق والغرب) والذي قصد بعنوانه هذا شاول الذي لقب ببولس الرسول ، على أننا لا نغفل في هذا الصدد أن أهم ما ورد عن هذا الرسول هو ما ذكر عنه ففي سفر أعمال الرسل .
وأول إشارة في سفر أعمال الرسل إلى شاول الذي لقب ببولس الرسول كانت عند سرد السفر تفاصيل رجم استفانوس المسيحي ، حيث قال بعد ذلك :(1/349)
( فصاحوا بصوت عظيم وسدوا آذانهم وهجموا عليه بنفس واحدة ، واخرجوه خارج المدينة ورجموه ، والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له شاول ، فكانوا يرجمون استفانوس ..) (ص 7 : 57 - 59) .
ويكمل الإصحاح الثامن فيقول :
( وكان شاول راضياً بقتله ، وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم في الكنيسة التي في أورشليم فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ما عدا الرسل . وحمل رجال أتقياء استفانوس وعملوا عليه مناحة عظيمة ، وأما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساء ويسلمهم إلى السجن ) (1-3) ويبدأ الإصحاح التاسع بالإشارة إلى شاول أيضاً فيقول :
( أما شاول فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب ، فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى الجماعات حتى إذا وجد أناساً من الطريق رجالاً أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم ) (1 و 2) .
وهكذا نرى شاول في أول الإشارة إليه ، فنعرف أنه إلى ما بعد رفع المسيح كان من غلاة اليهود الذين يضطهدون المسيحيين ، حتى أنه يحضر رجمهم راضياً به ، وحتى أنه يسافر طالباً المسيحيين ليضطهدهم ، بل ويسير معه الإصحاح في رحلة إلى دمشق قام بها لتتاح له أكبر الفرص لاضطهاد جماعات المسيحيين ، ولكن الإصحاح يستطرد بعد ذلك فيقول بأن هذه الرحلة كان لها أثر عكس الذي قصد منها ، إذ يكمل الإصحاح قائلاً :(1/350)
( وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء ، فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له شاول لماذا تضطهدني ، فقال من أنت يا سيد ، فقال الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده ، صعب عليك أن ترفس مناخس . فقال وهو مرتعد ومتحير يا رب ماذا تريد أن أفعل ، فقال له الرب قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل ، وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً ، فنهض شاول عن الأرض وكان مفتوح العينين لا يبصر أحداً ، فاقتادوه بيده وأدخلوه إلى دمشق ، وكان ثلاثة أيام لا يبصر فلم يأكل ولم يشرب .) (3 - 9).
ولسنا هنا في مجال بحث الحقيقة بالنسبة لهذه الرؤيا ، وإنما نحن بصدد بيان ما يعرفه المسيحيون عن شاول الذي لقب ببولس الرسول ، نظرا لما كان له من أكبر الأثر في المسيحية ، ونرى الإصحاح يكمل بعد ذلك فيقول بأن الرب ظهر في رؤيا لتلميذاً اسمه حنانيا ، وقد طلب منه أن يذهب لشاول فيضع يده على عينه لكي يبصر ، ونعرف أن شاول نفسه قد رأي رؤيا مماثلة ، ويذهب حنانيا إليه فيضع يده على شاول الذي يبصر عندئذ ، وبقي شاول في دمشق أياماً يكرز بالمسيح ، ثم جاء إلى التلاميذ في أورشليم ، ولكنهم خافوا منه غير مصدقين ، لكن برنابا روي لهم ما عرفه عنه فقبلوه .
وأخذ شاول بعد ذلك يدعو للمسيحية ، وأثناء دعوته كتب عدة رسائل ، منها الثلاثة عشر رسالة التي أشرنا إليها في العهد الجديد ، ولنتتبع في كتاب سيرة رسول الجهاد ظروف كتابه هذه الرسائل الثلاثة عشر وغيرها من الرسائل التي لم ترد في العهد الجديد ، وأول رسالة يشير إليها هذا الكتاب هي تلك التي كتبت إلى أهل غلاطية ، ويقول الكتاب عنها في صفحة 74 منه.(1/351)
(والظاهر أن أنباء ترامت إلى بولس أثناء مقامه في أنطاكية سورية بأن نفراً من اليهود المتعنتين راحوا يدخلون الريبة في قلوب التلاميذ المسيحيين في أنطاكية بسيدية وأيقونية ولسترة ودرية ، وتقع هذه المدائن كلها في القسم الجنوبي من ولاية غلاطية الرومانية في آسيا الصغرى . والظاهر أن رسل السوء من اليهود المنتشرين الذين حاولوا من قبل في أنطاكية سورية ، قبل انعقاد المؤتمر في أورشليم ؛ تحويل قلوب الأمم عن الإيمان الجديد ، رحلوا شمالاً إلى المدن الأخرى وأخذوا يدسون بين الوثنيين فكرة التهود أولاً قبل اعتناق النصرانية ، ولم يكن مستطاعاً لبولس أن يسارع إلى غلاطية ، فاستحضر رقوقاً من ورق البردي ، وأملي رسالة إلى كنائسها وحشر فيها ألفاظاً عريضة كتبها بخط يده .
كان ذلك حوالي سنة 50 ب. م. وقد اختلف الشراح والعلماء في تاريخ كتابة الرسالة .... ولكل فريق من هؤلاء أدلة تاريخية يستندون إليها وشواهد مستقاة من نصوص الرسالة ذاتها ...).
يستطرد الكتاب بعد ذلك في صفحة 75 فيقول :
( ومن ثم نري أن أولي أسفار العهد الجديد هي رسائل بولس ، وأن أولي تلك الرسائل هي غلاطية كتبها الرسول لمقتضيات الساعة ، وكنا نتوقع طبعاً أن يبدأ الإنجيل الكريم بأسفار خشوعية ، رسمية ، منطقية ، يراعي فيها صياغة اللفظ ويراعي الأسلوب ، وحسن الديباجية ، ولكن طريق الله غير طرق البشر .
ونحن نؤمن أن الروح القدس أهدي بولس لأن يكتب تلك الرسائل الطبيعية البسيطة الخالية من التكلف المصطنع والتزويق اللفظي ...).
وعندما نصل إلى صفحة 112 يشير الكتاب إلى الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي فيقول :(1/352)
(قلنا في الفصل السابق أن تيموثاوس وسيلا قدما إلى كورنثوس لمرافقة بولس ، الأول من تسالونيكي والثاني من بيرية على أرجح الأقوال ، وقد حمل إليه تيموثاوس الأنباء عن الجماعة المسيحية في تسالونيكي ومراحل التقدم التي بلغوها في حياتهم المسيحية ، والعقبات التي تعثروا بها في طريقهم ، ولم يكن في طوق بولس الرحيل لرؤيتهم ، إنما كان في وسعه أن يكتب إليهم ، ولذلك أتصوره يتوقف قليلاً عن عمله في صناعة الخيام ويستحضر رقوقاً من ورق البردي ليملي ما يختلج في نفسه من وحي وإلهام إلى أصدقائه في تلك المدينة على ضوء البيانات التي تلقاها من زميله تيموثاوس.
ولم تك رسائل بولس بحوثاً أو عظات ، بل رسائل بكل معني الكلمة ، كتبت على نسق الرسالة اليونانية المألوف في ذلك العصر ، في ديباجتها ووضعها وختامها . ولم يدر بخلده عند كتابتها - أو على الأصح املائها - أنه يسطر ألفاظاً ستبقي ذخراً ثميناً تعتز به الأجيال القادمة ، وتتخذه مستقي عميقاً تستخرج منه أسمي ما عرف البشر من أخلاق وعظات وبينات وقد كتب رسائله بموحيات الساعة الناشئة عن حاجات عاجلة حاتمة .
يشرع الرسول في إملاء رسالته ...
ثم يأخذ في تفنيد أقوال ذوي النميمة الذين اتهموه ظلماً بأنه يسعي إلى مغانم مادية من وراء دعايته ... )
أما في صفحة 127 فنري الكاتب يشير إلى رسالة لم يبق عليها التاريخ فيقول :
( وأثناء مقامه في أفسس انتهت إليه أنباء مقلقة عن أتباع المسيحية في كورنثوس فبادر إلى كتابة رسالة إلى زعمائهم (ا كور 5 : 9-12) ، لكن التاريخ لم يبق على هذه الرسالة بين المخلفات التي تسلمناها من السلف ، وعبثت بها أيدي الحدثان فلم يعثر لها على أثر .)
والرسالة المقصودة كما أوضح الكاتب في الهامش هي المشار إليها في (1 كور 5 : 9-12) ، ونري الآيات المذكورة تبدأ بالإشارة إلى هذه الرسالة فتقول ( كتبت إليكم في الرسالة أن ... )(1/353)
ويعود الكاتب فيحدثنا عن الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس دون أن تفوته الإشارة إلى الرسالة الضائعة التي سبقتها فيقول في صفحة 129 من الكتاب :
( عرف بولس أن في المدينة أخطار ثلاثة شنيعة : التحزب والفساد والفوضى . ولم يكن بولس ممن يستقون الأنباء عن طريق الإشاعة والتقول ، أتصوره يتلقي الخبر ، ثم يعمد إلى دراسته والتأمل فيه في هدوء وصلاة ، ويبحث الأمر مع زملائه أمثال اكيلا وبريسكلا وسوستانيس ، وأخيراً يستقر رأيهم على أن يكتب إليهم رسالة أخرى ، وهذه ، وإن تكن الثانية ، إلا أنها أولى الرسالتين المدخرتين لنا في السفر المقدس ، لأن تلك قد فقدت ، ولم نقف لها على أثر كما أسلفنا القول.)
ويوضح الكتاب في صفحة 142 منه أسباب كتابة الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس فيتصور الكاتب تيطس يلتقي ببولس الذي يسأله عن أهل كورنثوس فيجيبه قائلاً :
( " إن الأكثر باقون على ولائهم للمسيح ومبادئه ، وقد أخذوا بنصحك وأفرزوا الاباحي المستهتر من وسطهم ، ولم يتوانوا في جمع الإعانات لإغاثة فقراء أورشليم ..... ولكن ما تزال بينهم أقلية يضلها اليهود المتعصبون المتعنتون ، وقد أطلقوا لأنفسهم عنان التقول عليك والنيل من شخصك ، فقالوا لهم إنك متلون في الرأي لأنك عدلت عن زيارتهم ، وينكرون عليك الرسالة لأنك لم تتلق الدعوة من المسيح (2 كور 3 : 1 و 5 : 20) ، وأنك مختال فخور بنفسك ( كور 11 : 10 - 30) ، بل قد أمعنوا في التجني والوقيعة فقالوا أنك أسأت التصرف في الأموال التي جمعتها لفقراء أورشليم ، وإنه ليخجلني أن أقرر لك كل هذه الوقائع ، ولكنه خير لك أن تقف على بواطن الأمور ...
وحين يسمع هذه الأنباء من تيطس ...(1/354)
يبدأ في إملاء رسالته ، فيفكر قبل كل شيء في الأمناء الموالين ، ولا يبدي شعور الرجل المساء إليه إلا بعدئذ ، ومن الفصل العاشر يندفع في العتب واللوم ، وإنما بأسلوب الرجل النبيل ، وفي كرامة هادئة ، ودعة رزينة ، شأن المسيحي الصادق .)
ويشير الكتاب في صفحة 150 منه إلى الرسالة إلى أهل رومية فيقول :
( ولم يكن بولس في رسائله مؤلفاً ، يجلس إلى مكتبه ليتفنن في صياغة الألفاظ وإبداع التراكيب يؤلف بها روائع الصور الشعرية ، بل كانت رسائل طبيعية في استهلالها وختامها ، يرسلها على سجيتها ، فيمليها على أصدقاء له ، ويعالج فيها مسائل خاصة بهم وبه . وكان يتحدث فيها بأسلوب بين ، بألفاظ يونانية مألوفة مفهومة في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية .
وأما رسالته إلى رومية فتكاد تكون كتاباً أكثر منها رسالة ، وذلك لأنه لم يعرف إلا القليل من التلاميذ في رومية ، فلم يستطع أن يحدثهم بذلك الأسلوب الشخصي ، كما فعل في كورثنوس مثلاً.
ومع ذلك فهي في وضعها وصياغتها رسالة ، وليست بحثاً لاهوتياً ، ولا سفراً توخي فيه كاتبه المحسنات البديعية أو اللفظية ... رسالة تستفيض بأفكار بولس وخلجات نفسه العميقة عن مشيئة الله ، والخلاص الذي جاء به المسيح للبشرية ....).
أما الرسالة إلى فليمون فيفهم من الكتاب أنها عن عبد فر من خدمة مولاه ، فنصحه بولس بالعودة إليه ثم كتب له الرسالة إلى مولاه سائلاً إياه أن يعفو عنه .
ويشير الكتاب بعد ذلك إلى رسالة أخرى فقدت فيقول في صفحة 230 منه :
( ويقول بعض الشراح أن تيخيكس حمل معه أربع رسائل - فليمون ، وكولوسي وأفسس ، وأخرى إلى لاودكية (انظر كولوسي 4 : 16) ، وأن هذه الرسالة الأخيرة قد فقدت ولم يحتفظ أحد بنسخة منها .)(1/355)
ويمكننا القول ، على ضوء ما تقدم وما جاء في باقي الرسائل ، أن ظروف كتابتها هي الأخرى ، لا تخرج عن ظروف كتابة مثلها من الرسائل السالف الإشارة إليها ، بل إننا نستطيع أن نقول نفس الكلام عن باقي الرسائل الأخرى التي وردت في العهد الجديد خلاف تلك التي كتبها شاول الذي لقب ببولس الرسول .
ولا يبقي بعد ذلك من العهد الجديد غير رؤيا يوحنا اللاهوتي ، ولعل خير ما يفيد في التعرف إلى ظروف كتابتها ، ما قاله فيها كاتبها نفسه ، حيث نراه يقول فيها :
( أنا يوحنا أخوكم وشريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره كنت في الجزيرة التي تدعي بطمس من أجل كلمة الله ومن أجل شهادة يسوع المسيح . كنت في الروح في يوم الرب وسمعت ورائي صوتاً عظيماً كصوت بوق .
قائلاً أنا هو الألف والياء . الأول والآخر ، والذي تراه أكتب في كتاب وأرسل إلى السبع كنائس التي في آسيا إلى أفسس وإلى سميرتا وإلى برغامس وإلى ثيانيرا وإلى ساردس وإلى فيلادلفيا وإلا لاودكية ) (ص 1 : 9-11).
ومفهوم ذلك أن يوحنا اللاهوتي يقول بأنه كان في الروح في يوم الرب وسمع وراءه صوتاً عظيماً كصوت بوق قائلاً أنه هو الألف والياء ، الأول والآخر ، ويطلب منه أن يكتب ما يراه في كتاب يرسل به إلى الكنائس السبع ، ومفهوم بالطبع أن يوحنا كاتب هذا السفر يقول بأن الذي يكتبه بعد ذلك هو ما رآه بالفعل في هذه الرؤيا .
وبعد ... فهذه هي كيفية كتابة أسفار العهد الجديد ، ووفقاً لما يقول به المسيحيون أنفسهم ، وفي حدود ما قدمنا ، نستخلص ما يسلم به المسيحيون في هذا الشأن .(1/356)
فمن المسلم به أن الأناجيل لم تكن دائماً هي الأربعة المتداولة اليوم وحدها ، وإنما كانت هناك أناجيل متعددة غيرها ، ولاشك أن الآراء والتعاليم والقصص قد تضاربت فيما بينها ، حتى أن الأمر استدعي تدخل الكنيسة التي اختارت من بين العديد من الأناجيل ، الأربعة المتداولة إلى اليوم والمعروفة بأناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، أما ما عداها من الأناجيل والتي لم تعتمدها الكنيسة ، فقد طاردته وأحرقته .
ومن كتبة الأناجيل من هو محقق معرفته مثل متى ومرقس ولوقا ، ومنهم من هو غير محقق معرفته مثل كاتب إنجيل يوحنا .
ولا يكاد يقطع بأي لغة كتبت هذه الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم في الأصل ، كما لا توجد اليوم نسخة أصلية لأي منها .
كما أن أموراً معينة قد أملت على كاتبي هذه الأناجيل أن يكتبوها ، وأهدافاً معينة قصدت منها ، ولابد وأن ذلك أيضاً ينطبق على غيرها من الأناجيل التي طوردت وأحرقت ، بل إننا نجد منها ، ونقصد إنجيل لوقا ، ما هو عبارة عن خطاب بعث به كاتبه إلى شخص يعرفه هو العزيز ثاوفيلس ، ونراه يوضح في بداية إنجيله ما دعاه إلى كتابته فيقول بأن كثيرين قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عنده ، وقد رأي هو أيضاً إذ قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق أن يكتب له على التوالي ، ليعرف صحة الكلام الذي علم به ، ومن هذا نعرف أنه كان هناك العديد من القصص مثل هذه التي كتبها لوقا في خطابه ، ولكن لعل كل ما يمتاز به عنها كما ذكر أنه قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق ، وهذا الكلام عينه ، ينطبق على سفر أعمال الرسل الذي كتبه لوقا نفسه كخطاب إلى العزيز ثاوفيلس أيضاً ، تماماً كما فعل بالنسبة لبشارته ، واستكمالاً لما جاء فيها .(1/357)
والذي يبدو عجيباً حقاً هو ذلك المدعو شاول الذي لقب ببولس الرسول ، والذي هو بحق مؤسس المسيحية كما نعرفها اليوم ، فقد كان هذا الرجل من غلاة مضطهدي المسيحيين ، ومن أكبر أعداء المسيحية ، وكان مسافراً لينكل بهم ، فإذا به يعود وهو من أكبر دعاة المسيحية ، بل أكبر دعاتها على الإطلاق ، حتى أنه أرسي بنفسه في رسائله من القواعد ، ما يجعل بحق ، مؤسس المسيحية كما نعرفها اليوم كما قلنا ، ولا نريد أن نتعرض هنا لشخص هذا الرجل ، ولا لإيمانه ، ولا لحقيقة الرؤيا التي قال بها ، رغم أن من المسيحيين أنفسهم من لا يعتد بقوله بشأنها ، وإنما نكتفي هنا بذكر الحقائق الثابتة بشأنه ، وهي أنه لم يشاهد المسيح قط قبل رفعه ، ولم يكن من حوارييه أو تلاميذه ، وعندما أعلن عن إيمانه ، قوبل بالشك والريبة ، بل إن من المسيحيين من نعته بأمور شائنة كثيرة حتى بعد إعلان إيمانه بفترة طويلة ، حتى أنه اضطر في إحدى رسائله إلى أن يدافع عن نفسه بنفي ما قيل عنه ، وبالطبع لا نقصد هنا أن نؤكد شيئاً مما نسب إليه ، وإنما نقول بذلك باعتبار أن هذه الأمور حقائق ثابتة على نحو ما رأيناه تفصيلاً فيما سبق .
ولا يفوتنا بالنسبة إليه أن نشير إلى أن أول رسالة كتبها في الواقع إلى أهل كورنثوس لم يبق التاريخ عليها ، كما وجدنا أن هناك رسالة أخرى غيرها لم يبق لها اليوم أي أثر .
وقد أملت على بولس كما رأينا من قبل ، ظروف معينة ، كتابة هذه الرسائل ، والتي لم يدر بخلده وقت إملائها كما رأينا ، أنه يسطر ألفاظاً ستبقي عند المسيحيين ذخراً ثميناً تعتز به الأجيال القادمة ، وتتخذه مستقي عميقاً تستخرج منه أسمي ما عرف البشر من أخلاق ... على نحو ما قرأناه ، ولاشك أن هذا الكلام نفسه ، ينطبق على باقي الرسائل والتي كانت لغير بولس .
وتبقي رؤيا يوحنا اللاهوتي ، وهي كما نعرف من اسمها ، ومن مضمونها ، لا تخرج بأي حال عن كونها رؤيا قيل بها .(1/358)
3- الوحي المقال به في كتابة أسفار العهد الجديد :
رأينا فيما سبق ، كيفية كتابة أسفار العهد الجديد ، وفي كل ما رأينا ، لم نجد ما نستطيع أن نتبين منه أن ثمة وحياً ألهم أو أوحي إلى كتبة هذه الأسفار ما يكتبون ، بل على العكس ، فكما كتب كاتبو الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم أناجيلهم ، فكذلك كتب آخرون العديد من الأناجيل الأخرى ، كما كتبت الرسائل لظروف معينة ولم يدر بخلد من كتبوها أنها ستكون في يوم من الأيام أسفاراً مقدسة ، وهكذا فإن المسيحيين في تعرضهم لكيفية كتابة أسفار العهد الجديد ، لا يشيرون إلى ما للوحي الذي يقولون به من دور في كتابتها ، أو حتى يحاولون التدليل على وجود مثل هذا الوحي ، حتى أننا رأينا أن كتاب رب المجد حين حاول أن يشرح كيفية كتابة إنجيل لوقا ، لم يجد سبيلاً غير أن يشير إلى ما جاء في أول هذا الإنجيل ، من أن كاتبه جمع الأمور التي يكتبها باجتهاد وتدقيق من الذين كانوا معاينين وخداماً للكلمة ، وكأنما شعر الكاتب بأن هذا وحده ينفي الوحي عن كاتب الإنجيل المذكور ، الذي لم يشر بنفسه إلى أن ثمة وحياً كان في كتابته له ، ولذا عاد الكتاب فاستدرك قائلاً بأن هذا لا ينقض كونه قد أوحي به إليه من الروح القدس ، أما كيف كان ذلك ، فهو ما لم يحاول الكاتب أن يدلل عليه بشيء ما .
وإذا لم نجد فيما تقدم ما يدلنا على فكرة هذا الوحي المقال به في كتابة أسفار العهد الجديد عند المسيحيين ، فإنه من اللازم البحث عما يحدد لنا هذه الفكرة بالذات ويحاول التدليل على صحتها ، وفي هذا نجد كتاب المسيحية في الإسلام الذي سلفت الإشارة إليه ، بعد أن يتحدث عن فكرة الإسلام في الوحي كما فهمها أنه تنزيل للآيات بألفاظها وكلماتها من عند الله ، يستطرد فيقول ابتداء من صفحة 40 منه :(1/359)
( وبناء على هذه المعتقدات نرى عامة المسلمين يسلمون - بسهولة فائقة - بأن هذه الوساطة البشرية لم تترك أثراً بالمرة لشخصيات الرسل الموحي إليهم . بل نراهم يقولون أن كل كلمة ، وكل حرف ، إنما أوحي إليهم من السماء ، وبلغ بوساطتهم إلى العالم بطريقة آلية (ميكانيكية).
فالنظر إلى الوحي الإلهي من الناحية الإسلامية العامة ، يخالف النظر إليه من الناحية المسيحية ، فنحن معشر المسيحيين نؤمن ، كما يؤمن معنا أعلام فلاسفة المسلمين وحكمائهم كابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم ، أن ليس عند الله لغات ولا حروف ، فليس عنده إذا انزال (آلي) . فالاعتقاد المسيحي عن الوحي هو ما قاله الرسول بطرس في رسالته الثانية (2 بط 1 : 21) ( تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ).
فمعني الوحي عندنا هو إظهار حقائق غير ممكنة معرفتها بقوانا الطبيعية : كسر الثالوث الأقدس والتجسد . وأما ما يمكن للعقل أن يصل إليه ، ولكن تحت خطر الضلال فيسمي إلهاماً والوحي والإلهام أمر واحد بالنسبة لله تعالى ، وأمران بالنسبة للعقل البشري . وهما لا يعنيان أن الله لقن الكتبة الذين كتبوا الأسفار المقدسة ما سطروه حرفاً حرفاً ، من تعاليم وتواريخ ، بل أنه حركهم للكتابة ، وأنار عقولهم بالمعرفة ، وحفظهم من الزلل ، وليس في هذه الدرجات الثلاث ما يستحيل على الله تعالي ، أو ينافي شيئاً من صفاته ، كما أنه ليس فيها ما ينزع عن الإنسان حريته ونبوغه الذاتي .(1/360)
فإذا ما قلنا أن الأسفار المقدسة - في العهدين : العتيق والجديد - هي كلام الله ، أو أسفار إلهية موحي بها من الله ، أو منزلة من عند الله ، لا نريد بذلك أن الله تعالى أنزلها آية آية ، وكلمة كلمة ، وحرفاً حرفاً ، فرقمها الكاتب كما سمعها من فم الله أو ملائكته ، وقيدها بحروفها الأصلية ، لكنا نريد أن الله عز وجل - إذا ما قصد بسمو لطفه وحكمته أن يبلغ البشر شيئاً من أسراره - حرك باطناً كاتباً يختاره ، فيبعثه على كتابة السفر المقصود ، ثم يمده بأيده الخاص ونعمته الممتازة ، ويلهمه اختيار الحوادث والظروف والأعمال والأقوال التي شاء سبحانه وتعالي رقمها لفائدة عباده ، وكان له رقيباً ومرشداً ، وعصمه من الخطأ في نقلها وتسطيرها ، إفراداً وإجمالاً ، بحيث أنه لا ينقل إلا ما ألهمه الله إياه ، فيكون الرسول إذ ذاك ككاتب مطيع ، في حوزة الكاتب الأسمي ، وطوع إراداته .
وربما كانت بعض الحوادث والظروف مجهولة من الكاتب ، فلا يصل إليها إلا إذا أوحاها الله إليه مباشرة ، أو تكون معلومة لديه ، أو مما لا يستطيع معرفته :
باستطلاع الأخبار ، واستفتاء الشهود ، والتنقيب والاستقراء ، فلا حاجة عندئذ لتنزيلها عليه لعدم الفائدة ، وإنما يلهمه الله كتابتها ويصونه في إيرادها عن الضلال ، وهذا كاف لأن يعزي الكتاب إلى الله ، فيقال : كتاب الله والكتاب الموحي به من الله ، لأن الله هو المؤلف السامي له باختياره مواضيعه ومعانيه ، وإلهام ناقليها ، وتحريكهم على كتابتها بالنوع الذي أراده ، وعصمته إياهم عن الخطأ في غضون تسطيرها من أولها إلى ختامها .(1/361)
وعمل الله هذا لا يبطل صفات الكاتب الطبيعية : من ذكاء ، وأهلية ، ومعارف لغوية . وفصاحة بديهية ، ولا يخلقها فيه إذا كان ممن لم يحظ بها ، لأن الله يختار من يشاء ، وليس هو بحاجة إلى النحاة البلغاء ليلقي إليهم وحيه ومن ثم لا يستلزم وحي الكتب المقدسة تنزيل الألفاظ ، وتنسيق التراكيب ، لكن يقتصر فيه عادة على الحكم والمعاني ، فينقلها هذا في قالب فصيح ، وعبارة صحيحة سيالة وذاك في تركيب لا يقصد به إلا إيصال المعاني تامة إلى الأذهان ...
ولا عجب في ذلك ، فإن الله تعالى إذا ما أوحي لنا كلامه إنما أراد جوهر الدين ولب الآداب ، وقصد خلاص النفوس ، لا قشور الحقائق وأعراضها .
فنظرة عامة المسلمين إلى الوحي الإلهي تدفعهم إلى أن يظنوا بالكتاب المقدس الظنون ، وتجعلهم يعتقدون في تنزيله اعتقادهم في تنزيل القرآن ، من أنه رسالة أوحيت من السماء إلى السيد المسيح ، ولهذا فهم يقولون أنه لا موجب لوجود أربعة أناجيل تنسب إلى المسيح ....
فليس الإنجيل - كما يعتقد المسلمون - كتاباً أوحى إلي المسيح من السماء وإنما هو رسالة أعدها المسيح للعالم ووعظ بها بفمه الطاهر ، فالمسيح لم يأخذ هذه الرسالة مكتوبة ، كما أنه لم يكتبها ، وإنما علمها شفوياً لتلاميذ مختارين ، ثم أرسلهم إلى جهات مختلفة ليبشروا بها هم أيضاً ، وليعلموا آخرين غيرهم ، ولذلك عدوا رسلاً . وقد وعدهم المسيح ، قبل أن يبرحهم ، أنه لن يتركهم أيضاً ، كاليتامي ، وإنما سيرسل لهم الروح القدس ليعلمهم كل شيء ، ويذكرهم بما قاله لهم ، وقد تم هذا الوعد بحلول الروح القدس يوم الخمسين ، فأخذوا منذ ذلك اليوم يبشرون الجميع بالإنجيل .(1/362)
وكان من الضرورى على التلاميذ الحواريين في تبشيرهم أن يعلموا عن المسيح حسبما يلائم عادات ولغات العالم ، ومن ثم كانت الرسالة في مادتها - من حيث أنها بشارة المسيح ، بشارة الخلاص - واحدة ، وإن تنوعت مظاهرها . ومن ثم كتب البشيرون الأربعة البشائر الأربع في أزمان قريبة ، وقد نحا كل منهم في كتابته مني خاصاً . فليس إذا وجود أربع بشائر يعني وجود أربعة أناجيل ، كما ظن المسلمون بل هو إنجيل واحد ذو مناظر أربعة ، كتبه البشيرون متى ومرقس ولوقا ويوحنا بوحي الروح القدس لتكون الشهادة قوية متينة ....
فجميع ما كتبه البشيرون الأربعة : متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، رسالة واحدة هي الإنجيل الذي قدمه المسيح وبشر به ، وأعاده الروح القدس إلى أذهان هؤلاء البشيرين تمثيلاً صادقاً ، وكل بشارة نمها تؤدى رسالة خاصة مكملة للأخرى .)
4- حقيقة الوحى المقال به في كتابة أسفار العهد الجديد :(1/363)
رأينا أن السيد مؤلف كتابة المسيحية في الإسلام ، يقول بأن المسلمين يسلمون بسهولة فائقة بأن الوساطة البشرية لم تترك أثراً بالمرة لشخصيات الرسل الموحي إليهم ، ونحب بادئ ذي بدء أن نوضح أن هذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه ، فهو صحيح فقط بالنسبة للقرآن ، الذي يؤمن المسلمون بأنه كلام الله سبحانه وتعالى ، وأنه قد أوحي به إلى محمد عليه السلام بمعناه ولفظه ، دون أن يكون له بالفعل أثر فيه ، ولكن هذا الكلام غير صحيح بالنسبة لما يصدر عن الرسول من أحاديث غير القرآن ، فهي وحي الله ، ولكنها لفظ الرسول عليه السلام ، الذي فيه يقول القرآن في سورة النجم ( وما ينطق عن الهوي ، إن هو إلا وحي يوحي ) (3 و 4) ، ومن هنا ففي الإسلام الوحي في القرآن وحده ، هو الذي لا يترك للرسول الموحي إليه ، أثر للتدخل فيه ، أما الأحاديث ، فهي وإن كانت وحي الله ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحي ، كما تقول الآية ، إلا أن هذا الوحي الأخير هو بالمعني فقط ، وأما اللفظ فللرسول الموحي إليه ، ولا نفهم سر تعجب المؤلف أن يسلم المسلمون بأن الوساطة البشرية لم يكن لها أثر بالمرة فيما أوحي به ، فهل كان - رحمه الله - يعتقد أن هذه الوساطة ستزيد الكلام جلالاً وتبجيلاً أم أن الجلال والتبجيل الكاملين لا يكون بأن يكون الكلام وحي الله لفظاً ومعني معاً ، إنه للحق الذي لا يقبل الجدل أن الكلام الموحي به من الله ليكون أكثر جلالاً وتبجيلاً حين يكون المعني واللفظ موحي بهما من الله .(1/364)
هذا هو الوحي في الإسلام ، وهو إذ يسلم بأن القرآن موحي به من الله معني ولفظاً ، فإنه لا ينفي أثر الرسول فيما أوحي إليه من أحاديث ، ونفس ما يعتقده المسلمون بالنسبة لكتابهم ورسولهم ، هو نفس ما يعتقدونه بالنسبة للكتب السماوية الأخرى والرسل الآخرين ، فعن القرآن والإنجيل والتوراة نقرأ في سورة آل عمران ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل ) (2 و3) ، وواضح من الآية أنه قصد بها أن الله قد نزل القرآن كما نزل التوراة والإنجيل من قبل ، وتوضح آية أخرى في سورة المائدة أن الذي نزل عليه الإنجيل هو المسيح عليه السلام فتقول : ( وقفينا على آثارهم بعيسي ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة واتيناه الإنجيل فيه هدي ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدي وموعظة للمتقين ) (46) ، وعلى هذا فإيمان المسلمين عن الإنجيل أنه وحي الله المنزل علي المسيح عليه السلام لفظاً ومعني ، وقد يبدو هذا غريباً للمسيحيين ، إذ ليس بين أيديهم ذلك الإنجيل الذي هو وحي الله لفظاً ومعنى للمسيح عليه السلام ، ولكن هذا هو إيمان المسلمين على أي حال وهذا الإيمان لا ينفي الوحي عن كلام المسيح الذي لا يكون من الإنجيل في اعتبار المسلمين ، ويكون مثل هذا الكلام وحي الله للمسيح ولكن ينقله لنا المسيح بلفظه هو ويكون المعني وحده من عند الله ، تماماً كما هو الحال بالنسبة لإيمان المسلمين بمحمد عليه السلام .
ولكن ، هل هو غريب حقاً عن المسيحية هذا الإنجيل الذي يؤمن به المسلمون هل من الخطأ أن يقال أنه كان هناك إنجيل للمسيح عليه السلام موحي به لفظاً ومعني من الله ، وهل يقوم عدم وجود هذا الإنجيل متداولاً بين المسيحيين اليوم دليلاً على أنه لم يكن موجوداً في يوم من الأيام.(1/365)
للحق لست أري هذا الإنجيل غريباً عن المسيحية على الإطلاق ، بل إن الغريب حقاً هو القول بعكس ذلك ، فها نحن نقرأ في إنجيل مرقس على لسان المسيح عليه السلام حين بدأ يعلن دعوته ( .... جاء يسوع على الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ، ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله ، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل ) (ص 1 : 14و15) ، كما نطالع في إنجيل متى قوله علي لسان المسيح أيضاً . (الحق أقول لكم حينما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها ) (ص 26 : 13) ونقرأ نفس الكلام في إنجيل مرقس (ص 14 : 9) ، فأي إنجيل هذا الذي بدأ المسيح دعوته طالباً الإيمان به ، وأي إنجيل هذا الذي أشار إليه المسيح بقوله ( ... بهذا الإنجيل ... ) ، ألا يفهم من ذلك بالضرورة أنه كان يقصد إنجيلاً معيناً يعرفه الجميع ويشير هو إليه ، وهل يعقل أنه كان يقصد بهذا الكلام هذه الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم ، سواء جميعها معاً أو أي واحد منها على حدة أو كل منها على حدة ، بالقطع لا ، للسبب البديهي البسيط الواضح ، أنها كلها لم تكن موجودة أو معروفة حين قال هذا الكلام ، فهو إذن إنما قصد إنجيلاً آخر ، فما هو ، ليدلونا عليه إن استطاعوا .(1/366)
وليست هذه هي كل الإشارة للإنجيل في العهد الجديد ، فها نحن نقرأ على لسان بطرس في سفر أعمال الرسل إشارة أخرى إلى الإنجيل ، حيث جاء في السفر المذكور (فاجتمع الرسل والمشايخ لينظروا في هذا الأمر ، فبعد ما حصلت مباحثة كثيرة قام بها بطرس وقال ليت لرجال الإخوة أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار الله بيننا أنه بفمي يسمع غير كلمة الإنجيل ويؤمنون ) (ص 15 : 6و7) ، فأي إنجيل هذا الذي أشار إليه بطرس ، وعلى ما نستطيع أن نقطع به ، لم تكن على الأقل كل الأناجيل المتداولة قد كتبت عندما قال بطرس هذا الكلام ، ثم ما معني أن الله قد اختار أنه ...- وبطرس بالذات - يسمع الأمم كلمة الإنجيل ، ويؤمنون به ، ثم لا نجد بين الأناجيل المتداولة إنجيلاً منسوباً لبطرس رغم أنه بفمه كما قال ، اختار الله أن يسمع الأمم كلمة الإنجيل ، أليس هذا وحده بكاف على الأقل لينفي عن الأناجيل المتداولة اليوم شرعيتها ، ويؤكد أن هناك إنجيلاً آخر اختار الله أن تسمعه الأمم بفم بطرس غير هذه الأناجيل الأربعة المعروفة ، وهل هي محض مصادفة أن يقول بطرس هذا الكلام ومع هذا فإننا نقرأ اسمه في أول سلسلة الأناجيل التي طاردتها الكنيسة وأحرقتها والتي سلفت الإشارة إليها حيث قرأنا أن مذهب الغنوسيين أنتج لنفسه سلسلة كاملة من الأناجيل منها إنجيل بطرس وقد طوردت وجمعت وأحرقت حتى اختفت ولم يصل منها إلينا إلا النذر اليسير ، فمن ذا الذي أحرقه يا تري ، ومن أعطاه حق حرق ذلك الإنجيل الذي قال لنا بطرس عنه أنه بفمه قد اختار الله بينهم أن يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون .
ثم كلام كثير آخر عن الإنجيل منه ما يلي :
( بولس عبد ليسوع المدعو رسولا المفرز لإنجيل الله ) (رو 1 : 1)
( فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم) (رو 1 :9)
(في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح .) (رو 2 : 16)(1/367)
(وأنا أعلم أني إذا جئت إليكم سأجئ في ملئ ، بركة إنجيل المسيح .) (رو 15 : 29)
(لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل ) (1 كو 4: 15)
(لكننا لم نستعمل هذا السلطان بل نتحمل كل شيء لئلا نجعل عاتقاً لإنجيل المسيح .) (1 كو 9 :12) .
( وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وتقدمون فيه .) (1 كو 15 :1)
( ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح وانفتح لي باب في الرب .) (2 كو 2 : 12)
(ولكن إن كان إنجيلنا مكتوما فهو مكتوم في الهالكين ، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله ) (2 كو 4 : 3و4)
(إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر . ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح .) (غلا 1 : 6و7)
(وأعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به أنه ليس بحسب إنسان ، لأني لم أقبل من عند إنسان ولا علمته ، بل بإعلان يسوع المسيح ) (غلا 1 : 11 و 12)
(وإنما صعدت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي أكرز به بين الأمم ولكن بالانفراد على المعتبرين لئلا أكون أسعي أو قد سعيت باطلاً .) (غلا 2 : 2)(1/368)
فما هذا الكلام وغيره عن الإنجيل ، وأي إنجيل هذا الذي تشير إليه هذه الرسائل ، أهو إنجيل متى ، أم إنجيل مرقس ، أم إنجيل لوقا ، أم إنجيل يوحنا ، أم هذه الأناجيل الأربعة جميعاً ، إن المقطوع به أن هذه الأناجيل الأربعة لم تكن قد كتبت كلها عند تحرير هذه الرسائل ، ثم إن كاتب هذه الرسائل لم يشر إلى أي من كتاب هذه الأناجيل ، وأخيراً ، فالمسلم به أنه كانت هناك في ذلك الوقت أناجيل عديدة أخرى غير هذه الأناجيل الأربعة ، فهل قصد بالإنجيل في هذه الرسائل أي من هذه الأناجيل الأخرى ، بل إنه يشير إلى إنجيل معين بشر به وقبل ، ويشير أيضاً إلى إنجيل آخر تحولوا إليه وإن لم يره إنجيلاً آخر ، ثم يقول عن الإنجيل الذي بشر به أنه ليس بحسب إنسان لأنه لم يقبله من عند إنسان ولا علمه ، فنفهم من ذلك أنه بالقطع ليس أحد الأناجيل الأربعة المتداولة لأن كلا منها بحسب إنسان ، ثم هو يشير لنا إلى إنجيل المسيح ، أليس في كل ذلك ما يؤيد ما يعتقده المسلمون بشأن الإنجيل ، وإلا فأين هذا الإنجيل الذي كرز به المسيح ، وكرز به بولس مقرراً أنه إنجيل المسيح وأنه ليس بحسب إنسان ولم يقبله أو يعلمه من إنسان وبشر به وقبل .(1)(1/369)
هذا هو اعتقاد المسلمين في الوحي وفي الإنجيل ، وهم على أي حال لا ينفون الوحي عن أي قول يصدر عن المسيح ، سواء اعتبر وحياً باللفظ والمعني معاً ، أم وحياً بالمعني وحده واللفظ من عند المسيح عليه السلام ، والمسلمون قبل كل ذلك لا يشترطون لغة معينة لهذا الوحي ، وإنما يؤمنون بالوحي بأي لغة كان بها ، فهل يا تري عرفنا الآن حقيقة الخلاف ، أعتقد أن الأمر قد أصبح الآن واضحاً ، فليس ثمة ما يخالف فيه المسلمون المسيحيين بالنسبة لكيفية الوحي ، فهم يؤمنون بالوحي على أية صورة كان ، سواء باللفظ والمعني معاً ، أو بالمعني وحده على أن يكون اللفظ للموحي إليه ، وإنما حقيقة الخلاف هو حول الأشخاص الموحي إليهم ، فالمسلمون يسلمون كل التسليم بالوحي بالنسبة لكل ما قاله المسيح عليه السلام ، ولكنهم من جهة أخرى ، ينفون كل النفي أنه كان هناك ثمة وحي بالنسبة لما كتبه أي من أتباع المسيح ، سواء أكان هذا الوحي المقال به وحياً باللفظ والمعني معاً ، أو وحياً بالمعني وحده ؛ أي أن حقيقة الخلاف ليست على كيفية الوحي لكتبة أسفار العهد الجديد ، وإنما حقيقة الخلاف هي حول ثبوت هذا الوحي لهم بالفعل .
وثبوت هذا الوحي لكتبة أسفار العهد الجديد ، هو ما تجاهل مؤلف المسيحية في الإسلام إقامة الدليل عليه ؛ إلا في إشارته إلى قول بطرس الرسول في رسالته الثانية (تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ) ، وهذه الآية التي يشير إليها المؤلف تقول كلها (لأنه لم تأت نبوءة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ) (ص 1 : 21) ، وبغض النظر عن الحقيقة بشأن هذا الكلام ، فليس في الآية ما يبين منه أنها قصد بها أن أسفار العهد الجديد بالذات مكتوبة بوحي الروح القدس ، كما لا تحتمل على الإطلاق أن يكون مقصوداً بها أن الرسالة التي وردت فيها قد كتبت بهذا الوحي ، وكان حقيقاً بالكاتب أن يشير إلى ذلك لو كان فعلاً .(1/370)
المهم إذن هو هل أوحيت أسفار العهد الجديد إلى كتبتها حقاً كما يعتقد المسيحيون أم لا ، وهنا نقول أنه من المتفق عليه أن الوحي أيا كانت صورته أو كيفيته لا يجوز على الإطلاق أن يكون فيه خطأ ، لأنه ينسب إلى الله على أي الأحوال ، والله محال أن يخطئ ، وهذا هو نفسه ما يسلم به مؤلف المسيحية في الإسلام حين يقول أن الله حفظ كتبة العهد الجديد من الزلل وعصمهم من الخطأ ، وهو بذلك إنما يريد أن يؤكد ثبوت شرط عدم الخطأ كشرط من شروط اعتبار الكلام موحي به من الله بالنسبة لأسفار العهد الجديد نفسها ، وما سبق أن أشرنا إلي بعض منه ، من أن ما جاء في بعض الأسفار يناقض ما جاء في البعض الآخر إلى حد أنه ينفيه ، وإلى حد أنه يستحيل القول بصحة ما جاء في كل الأسفار معا فالعصمة من الزلل أو الخطأ ليست قائمة بالنسبة لكتبة أسفار العهد الجديد على الإطلاق .
ثم إنه من غير المفهوم أبداً ، القول بأن الأناجيل المتداولة هي التي أوحي بها وحدها ، دون غيرها من الأناجيل ، والتي عرفنا أن الكنيسة طاردتها وأحرقتها لأنه لو كان ذلك صحيحاً ، لوجب أن يكون هناك معيار محدد يفرق بين الأناجيل الموحي بها والأناجيل غير الموحي بها ، أما مجرد اختيار أربعة أناجيل من بين العديد من الأناجيل ، ثم القول بأنها دون غيرها موحي بها ، فهذا غير مفهوم على الإطلاق ولا يمكن قبوله بأي حال.(1/371)
ثم ها هو لوقا البشير ، وإذ يبدأ الرجل إنجيله ، فقد كان أميناً حين قال أن كثيرين قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عنده ، وقد رأي هو الآخر أيضاً إذ قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق ، أن يكتب ، فهو هنا لم يعط اعتباراً لما سيكتبه سوى أنه قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق ، ولم يقل الرجل بأنه كان يوحي إليه بما يكتب ، ومن العجيب أن نري كتاب رب المجد يحاول أن يضفي علي هذا الإنجيل الذي كتبه لوقا مزيداً من الاعتبار فيقول بأنه لا يوجد سبب للريب في أنه قد كتب أما بمناظرة بولس شخصياً ، وإما بإطلاعه واستحسانه ، وكلنا نعرف أن الأناجيل جميعاً أنما تروي قصة المسيح عليه السلام ، وأن شاول هذا الذي لقب ببولس الرسول لم يشاهد المسيح يوماً في حياته ، فأي جدوي وأي اعتبار إذن في أن يكتب إنجيل بمناظرته أو بإطلاعه أو باستحسانه ، وهو لم يشاهد شيئاً مما ورد في الإنجيل (1).
ثم يوحنا كاتب إنجيل يوحنا ، من هو ، إنه أحد ثلاثة كما يقولون ، فهل هؤلاء الثلاثة المشار إليهم ثابت الوحي لثلاثتهم أم لأحدهم فحسب ، وإذا كان لأحدهم فحسب ، وإذا كان لأحدهم فقط أليس هناك احتمال أن يكون أحد الآخرين هو كاتب هذا الإنجيل ، وإذا كان الوحي ثابت لثلاثتهم ، فما الذي أوحى إلى الآخرين .
على أنه لا يفوتنا هنا أمر خطير ، أشار إليه كتاب شهادة إنجيل يوحنا باعتباره يوضح فارقاً بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى ، وهي قوله بوجود فارق واضح يظهر حول عودة المسيح بالمجد ، إذ بينما كانت الأناجيل الثلاثة الأولى تتوقع عودته بمجد وبتاريخ مبكر وغير معلوم ، فإن السنين قد مرت ولم يجئ المسيح فنشط يوحنا إلى تفحص كلمات المسيح مرة ثانية محاولاً أن يعطيها تفسيراً خاصاً من عنده ....... الخ ، ويعنينا هنا أن نوضح هذا الفارق بالتفصيل ، لنخلص منه إلى الحقيقة بشأن كيف أنه كان .(1/372)
ويشير الكتاب إلى ما جاء في الإصحاح الرابع والعشرين بإنجيل متى ، ونقرأ في هذا الإصحاح :
( وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم إليه التلاميذ على إنفراد قائلين قل لنا متى يكون هذا وما علامة مجيئك وانقضاء الدهر .) (3)
وواضح أن التلاميذ يسألونه عن وقت انقضاء الدهر أي الأيام ، وبعد أن يشير المسيح في إجابته إلى أمور كثيرة يستطرد فيقول :
( وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع ، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء ، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير .) (29 - 30)
ثم يقول بعد ذلك :
( الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله .) (34)
وواضح أن المسيح يقول بكل جلاء ووضوح أن كل هذا الذي أشار إليه ، خاصا بانقضاء الدهر ومجيئه على سحاب السماء سيكون قبل أن ينتهي الجيل الذي يتحدث فيه .
ويشير الكتاب أيضاً إلى ما جاء في الإصحاح الثالث عشر بإنجيل مرقس ، ونجد هذا الإصحاح يبدأ بسؤال مماثل للسؤال الذي بدأ به الإصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى ، ونرى فيه المسيح أيضاً يشير إلى أمور كثيرة ستحدث ومنها إظلام الشمس وعدم إعطاء القمر ضوءاً وسقوط النجوم وقدومه آتياً على سحاب السماء ، ثم يقول أيضاً :
( الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله .) (30)
وهو ما يطابق المعني الوارد في الإصحاح الرابع والعشرين بإنجيل متى .
ويشير الكتاب أيضاً إلى الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل لوقا ، وهو مشابه للإصحاح السالف ذكرهما في إنجيلي متى ومرقس ، وفيه أيضاً يقول المسيح :
( الحق أقول لكم أنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل ) (32)(1/373)
والذي يعلمه كل إنسان ، أن هذا الذي ذكر على لسان المسيح في هذه الأناجيل الثلاثة ، لم يكن ، لا في جيل المسيح ، ولا بعده بمئات السنين التي قاربت الألفين ، ونحن هنا بين أحد أمرين ، فإما أن يكون المسيح قد قال هذا الكلام فعلاً ، ثم ثبت للناس جميعاً عدم صحته ، إذ لم يتحقق بالفعل إلى اليوم ، وقد كان مفروضاً حسب قوله أن يتحقق هذا في الجيل الذي كان يعيش فيه ، وهذا القول سيطعن المسيح نفسه ويصمه بالزيف وما هو كذلك ، ولذا فليس من سبيل إلا بالإقرار بأن المسيح لم يقل هذا الكلام ، ثم إنه لا يمكن القول بأن هذا الكلام موحي به إلى كاتبيه ، لأن الأصل في الوحي أنه يعصمهم من الخطأ ، وهذا الكلام خاطئ ، ولذا فلا يمكن أن نعد إلا محض تأليف من قائليه ، على الأقل بالنسبة لقولهم على لسان المسيح أنه قال أنه لا ينقضي هذا الجيل حتى يكون هذا الذي قاله كله ، وهو على هذا النحو ليس سوى افتراء وتزوير على المسيح عليه السلام ، ولا يخفف من ذلك ما فسر به الكاتب هذا الكلام في الأناجيل الثلاثة بأنها كانت تتوقع عودة المسيح بمجد وتاريخ مبكر ، بل إنه ليزيد من فداحة التزوير ويتضمن اعترافاً به ، لأن هذا القول منه لا يعني إلا أن كاتبي هذه الأناجيل الثلاثة ، إذ كانوا يتوقعون عودة المسيح بمجد وتاريخ مبكر ، استباحوا لهذا السبب لأنفسهم أن ينسبوا زوراً للمسيح أنه قال ذلك ، وهذا بالطبع يشكك في كل ما قالوا به غير ذلك في أناجيلهم ، ما دام أنهم قد أباحوا لأنفسهم أن ينسبوا للمسيح ما لم يقله لمجرد أنهم اعتقدوا اعتقاداً ما في شأن هذا الذي نسبوه إليه .(1)(1/374)
ثم شاول هذا الذي لقب ببولس الرسول ، أين هو من الوحي ، ولماذا يتجاوز الوحي جميع أتباع المسيح وتلاميذه ليختار من كان أعدي أعداء المسيحية ، الذي لم يشاهد المسيح يوماً واحداً في حياته (2)، وكيف يسمح لشخص لم ير المسيح في حياته ولم يكن من حوارييه ولم يتتلمذ يوماً علي يديه ، كيف يسمح له أن يقيم المسيحية كلها ، إن المسيحية كما نعرفها اليوم إنما قامت على أكتاف هذا الرجل وتعاليمه التي اعتبرت صادرة عن الوحي وهي بذلك كأنها من الله مباشرة ، ثم ، لماذا نذهب بعيداً عنه وها قد قرأنا عنه أنه لم يدر بخلده أن كتاباته هذه ستكون ضمن الكتاب المقدس ، بل وأكثر من هذا ، إن المسيحيين لا يفرقون في العهد الجديد بين أي جزء وآخر ، ولا بين آية وأخرى ، بحيث أن ما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء ، وما ينطبق على الجزء ينطبق أيضاً على الكل ، فإذا كانت هناك في العهد الجديد أجزاء ينفي كاتبها بالنسبة لها أي وحي على الإطلاق ، فبأي حق يعتبرونها رغم ذلك موحي بها ، وإذا انتفي الوحي عنها ، أفلا ينفي ذلك بالتبعية الوحي عن العهد الجديد جميعه كما قدمنا.
وهنا فإننا نقرأ في الإصحاح السابع من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس قوله :
( وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تكون معه فلا يتركها ، والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضي أن يسكن معها فلا تتركه ) (12 و 13) ، إلى آخر ذلك مما يكمله الإصحاح الذي يعود فيكرر نفس المعني بالنسبة لكلام آخر فيقول ( وأما العذاري فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكني أعطي رأيا كمن رحمه الرب أن يكون أميناً . فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا . أنت مرتبط بامرأة .......) (25 - 27).(1/375)
فأي عقل وأي منطق يمكن أن يقبل بعد ذلك القول بأن هذا الكلام موحي به من الله ، إذا كان قائله نفسه ينفي عنه هذا الوحي ، فهو في الآيات الأولى يقول أنه هو الذي يقول ما سيقوله لا الرب ، وفي الثانية يقطع بأنه لا يعرف حكم الرب في الأمر ولكنه يجتهد ويقول ما يظنه ، فهل يصح القول بعد ذلك ، بأن هذه الآيات موحي بها ، إن المستحيل أن يكون الجواب بالإيجاب ، وإذا كان الروح القدس يرشده في هذا الذي يكتبه ، فلم إذن لا يقول لنا ذلك وفيم نفيه أن يكون هذا ما يراه فيما تحدث فيه .(1)
على أن يراعي هنا أن هذا لا يعني أن القائل يقصد أن باقي ما كان يقوله موحي به إليه من الله ، ذلك أنه إنما كان يفتي في أمور فقال فيها ما كان يعتقد أنه حكم الله ، ولو سئل أي قس في أي أمر لأجاب بما يعتقد أنه حكم الله ، دون أن يعني ذلك بأي حال أن ما يجيب به موحي به إليه من الله .
ومما نقرؤه للمسيحيين في تأكيد الوحي بالنسبة للأناجيل المتداولة ، وفي أنها هي المقصودة بإنجيل المسيح ، أن المسيح قد قال كما جاء في إنجيل متى ( فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ) (ص5 : 18) ، وبالتالي فالإنجيل عندهم لا يمكن أن يزول ، وعلى هذا فإن ما يعتقده المسلمون من زوال إنجيل المسيح الذي يؤمنون به ، ومن أن هذه الأناجيل المتداولة ليست إنجيل المسيح الذي يؤمنون به ، كل ذلك ، وعملاً بهذه الآية ، لا يمكن أن يكون صحيحاً ، وهنا فقد وجدناهم يقولون بزوال رسالتين من رسائل شاول الذي لقبوه ببولس الرسول ، فإذا كانت رسائل شاول من العهد الجديد ، فهل تختلف في ذلك عن الأناجيل ، بالطبع لا كما يعتقدون فكيف إذن زالت رسالتان أم أن هاتين الرسالتين لو بقيتا لما اعتبرتا من العهد الجديد ، وهذا غير صحيح بالطبع .(1)(1/376)
ومن أطرف ما قرأته تدليلاً على صحة الكتاب المقدس وسلامته من التعديل أو النقص ما يقوله القمص باسيليوس إسحق في كتابه الذي سماه الحق في صفحة 43 منه قوله أنه يورد هنا إحصاء لكلمات وحروف الكتاب المقدس للتدليل على مبلغ قدسيتها عند اليهود والنصاري ، وهو يقول تأكيداً لذلك ، أن الكتاب المقدس يحتوى على 430.938 كلمة وعدد حروفه 3.568.480 حرفاً ، وهذا الذي يقوله وإن بدا فيه التحدي والتعجيز ، ظناً بأن إثبات عدم صحته يقتضي عد كلمات الكتاب المقدس وحروفه ، وأيا كانت النتيجة فهو يستطيع الادعاء بأن الحاسب قد أخطأ وهو موقن أن في القليل فإن القارئ لن يحاول التحقق من صحة الأرقام بنفسه ، ولكن ومع ذلك ، فما أسهل القطع بكذب هذه الأرقام.
وتفصيل ذلك أننا قرأنا من قبل في المزمور 16 الآية التي تقول (لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ، لن تدع تقيك يري فساداً ) (10) ، وقد طالعنا نفس الآية في التعليق في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته كما يلي (لأنك لن تترك نفسي الجحيم ، لاتدع قدوسك يري فساداً .) ونفهم من ذلك أن هناك ترجمة أخرى بالعربية للكتاب المقدس غير تلك التي تحت يدي ، كما أن العبارة (عار عند البشر) في المزمور 22 نقرأ في كتاب تأملات في المزامير (عار عند الشعوب) ، وهو ما يؤكد وجود ترجمة أخرى ، فأي الترجمتين يقصدها سيادته بهذه الأرقام ، ثم إنه نفسه يقول في الصفحات من 46 - 48 من كتابه أن الكتاب المقدس انتشر في العالم كله شرقاً وغرباً ، وكل النسخ في كل الأرض متشابهة لفظاً ومعني وترجم إلى كل اللغات وقد اجتزأ منها التراجم السريانية والفلجانية والقبطية والأثيوبية والعربية والأنجلوساكسونية ، وأشير إلى أن لدي أكثر من ترجمة بالإنجليزية ، فيا تري إلى أي التراجم المذكورة يشير سيادته بأرقامه هذه ، بالقطع ليس إليها كلها ، وأضيف أيضاً ، وبالقطع ليس إلى أي واحد منها .(1/377)
وصفوة القول في كل ما تقدم ، أن الثابت أن إنجيلاً معيناً كان معروفاً في عهد المسيح عليه السلام ، وأشار إليه المسيح نفسه ، وكان معروفاً أيضاً إلى ما بعد رفع المسيح وإليه أشار تلاميذه وغيرهم ، ورأي البعض تسطيره ، أو كتابة ما شاهدوه أو سمعوا به ، فكان نتيجة لذلك العديد من الكتب أو المؤلفات سماها كاتبوها بالأناجيل ، ولعل الاختلاف الوحيد بين كل منها لا يقوم إلا بالنسبة لأمانة كاتبها واجتهاده ليحصل على المعلومات التي أوردها ، فمنهم من كان يدقق في كل الأمور ومنهم من كان يدقق في البعض منها ومنهم من لم يدقق في شيء منها على الإطلاق ، ولذا كان طبيعياً أن تتضارب وأن تتناقض ، وكان حرياً بالكنيسة أن تجمع المؤتلف منها فتقره ، بعد بحث وتمحيص ، ويكون منها جميعاً إنجيل واحد ، يمكن أن يلتزم به الكل ، ولكن الواقع كان غير ذلك ، فبدلاً من أن تجمع من كل منها ما تطمئن إلى صحته ، اختارت أربعة منها هي هذه الأناجيل الأربعة المتداولة ، وقبلتها جملة على الرغم مما فيها من متناقضات لا يستقيم معها القول بصحتها جميعاً ، وقبلتها وأقرتها وألزمت المسيحيين بها ، ولكنها لم تكتف بذلك ، بل طاردت الباقي وأحرقته ، مع أنها لا تختلف في قيمتها عن هذه الأربعة المتداولة ، وكان حرياً بالكنيسة أن تبقي عليها كلها للتراث الإنساني ، إذ قد تكون الحقيقة فيها دون هذه الأناجيل التي أقرتها ، ولكنها أبت إلا أن تحرم الإنسانية منها ، ولكن ، ومهما قيل من أسباب لاختيار الأناجيل المتداولة بالذات ، ومهما قيل في شرعيتها أو قانونيتها أو غير ذلك من العبارات التي نطالعها ، فإن ذلك أبداً لن يعطي هذه الأناجيل المختارة ، أي ميزة تمتاز بها على غيرها مما طورد وأحرق ، غير اختيار الكنيسة لها ، وكذلك الحال بالنسبة لباقي أسفار العهد الجديد ، ولكن الكنيسة ، ولأسباب غير مفهومة على الإطلاق ، افترضت في هذه الأناجيل وغيرها من أسفار العهد الجديد ، أنها(1/378)
كتبت بوحي وإرشاد من الروح القدس ، أي من الله كما يعتقدون في الروح القدس ، أما كيف كان هذا الوحي ، وكيف استدلت الكنيسة على أن هذه الأناجيل بالذات وحدها دون غيرها هي التي كتبت بهذا الوحي وذاك الإرشاد ، وكيف كان ذلك بالنسبة لباقي أسفار العهد الجديد ، فهذا ما يستحيل على الكنيسة أن تعطينا عنه أي جواب مقبول أو معقول ، وبطبيعة الحال فلست هنا أقصد كما يبدو لي أن البعض قد فهم ، أن ثبوت الوحي لهذه الأناجيل وتلك الأسفار يعني ثبوته لغيرها مما طورد وأحرق ، ولكن ما أقصده بحق هو أن نفي الوحي عن هذه التي طوردت وأحرقت ، هو نفي في نفس الوقت للوحي عن تلك الأناجيل والأسفار التي قبلت واعتمدت .
ويحاول المسيحيون أن يربطوا بين الوحي في كتابة أسفار العهد الجديد والوحي في كتابة أسفار العهد القديم ، فيعتبرونه وحياً واحداً في الحالين ، ولكن الواقع ينفي ذلك كل النفي ، فإذا كنا نري إنجيل المسيح في العهد الجديد في أربع نسخ مختلفة كل منها منسوبة لشخص معين ، فإننا لا نري في العهد القديم سفراً منسوباً لغير رسوله ونبيه ، ولا سفراً كتبه العديدون في صور مختلفة اختير البعض منها دون البعض ، ولا رسائل لأتباع هؤلاء الرسل ، ولذا ، فمحاولة الربط هذه لا تقوم على أساس من الصحة وبالتالي فلا يمكن قبولها .(1/379)
على أن افتراض الوحي على هذا النحو في كتابة أسفار العهد الجديد ، أمر يمكن على أي حال فهم علته والغرض منه ، فالذي لاشك فيه هو أن الاعتقاد بهذا الوحي هو ما يربط المسيحيين بمعتقداتهم المستقرة لديهم تقريباً إلى اليوم ، ولو لم يفترض هذا الوحي لتزعزعت العقيدة واختلفت وتضاربت تضارباً بيناً لدي الجميع ، ولكان فيما يجده المسيحيون من تناقض في أسفار العهد الجديد ، حافزاً لهم على ألا يولوا هذه الأسفار ذلك القدر من الاهتمام الذي يولونه لها اليوم ، ولم يكن من سبيل لربط المسيحيين بها إلا بافتراض الوحي في كتابتها ، بل إنه رغم هذا الافتراض ، فقد تباين المسيحيون إلى أبعد حدود التباين في أمر العقيدة نفسها ، وافترقوا إلى مذاهب متعددة يحاولون إلى اليوم جهدهم للتوحيد بينها دون جدوى ، ويعترف المسيحيون أنفسهم بهذا الانقسام وبخطورته على الدين نفسه ، وفي هذا نري مجلس الكنائس المسكوني يشدد على هذا الأمر في اجتماعه سنة 1954 ويقول في أحد تقاريره عن الانقسام :
( أن هذا الانقسام يعتبر خطيئة لأنه يحجب عن الناس كفاية المسيح للخلاص كما أن الناس يحرمون من إنجيل المصالحة لأنهم لا يرون في حياة الذين ينادون بالإنجيل ما يحقق أمانيهم ويعطيهم صورة طيبة عن تصرفاتهم .) (عن كتاب رب واحد وكنيسة واحدة لروبرت نلسون - ترجمة إبراهيم مطر - وصادر عن مكتبة المشعل الإنجيلية ببيروت ص 41 و 42)
ولكن ، إذا كنا قد انتهينا إلى إثبات أنه لم يكن هناك ثمة وحي في كتابه أسفار العهد الجديد ، فهل معني ذلك أن هذه الأسفار تفقد كل قيمة لها بالتالي ، بالطبع لا ، ولعل خير ما يعبر عن قيمة هذه الأسفار ما نقرأه في كتاب العقل والإيمان أو لماذا نؤمن بعقائدنا المسيحية (بقلم الأستاذ نورمن أندرسن - الطبعة الثانية المترجمة إلى العربية الصادرة عن مطبعة النيل المسيحية) في صفحة 22 منه قوله :(1/380)
( ما الثقة التي توجهها أساليب النقد والبحث الحديث إلى هذه الوثائق ؟ فمع أن الكثيرين - ومن ضمنهم مؤلف هذا الكتيب - يؤمنون كل الإيمان بوحي هذه الأسفار - إلا أننا لا نفترض بالضرورة وجود هذا الإيمان في قرائنا الكرام بل على عكس ذلك نفترض جدلاً بأن نعتبر هذه الأسفار كأنها مخطوطات بشرية لها نفس الثقة التي لغيرها من المخطوطات القديمة - لا أكثر ولا أقل ، على أنه لمن المستغرب أن قوماً من الذين يدعون لأنفسهم قوة الإدراك وفضيلة الإنصاف ، يتوهمون أن الافتراض جدلاً بعدم وحي هذه الأسفار ، يجردها حتماً من قيمتها التاريخية كوثائق قديمة ، ويتركها بلا قيمة إلا في دائرة الروح والأخلاق .)
فإذا كنا لكل ما سبق أن بيناه ، نعتقد بيقين أن أسفار العهد الجديد لم يكن هناك ثمة أي وحي في كتابتها ، مخالفين في ذلك ما يعتقده السيد الكاتب المذكور ، فإننا نتفق مع ذلك معه تمام الاتفاق في أن نفي الوحي بالنسبة لها على هذا النحو ، لا يجردها حتماً من قيمتها التاريخية كوثائق قديمة ، وإنما تعتبر بحق مخطوطات بشرية لها نفس الثقة التي لغيرها من المخطوطات القديمة .(1/381)
وإذ ننتهي الآن إلى ذلك ، فإن كل الأمور تتضح وتستقيم ، ويمكننا على أساس من هذا الذي انتهينا إليه وأثبتناه أن نفسر كل شيء ، وأول ما نفسره هو سبب إجماع الأناجيل وغيرها من أسفار العهد الجديد على القول بصلب المسيح عليه السلام مخالفين في ذلك الواقع الذي نعرف منه أن الذي صلب بالفعل هو يهوذا الاسخريوطي لا المسيح عليه السلام ، ذلك أنه من الصورة التي انتهينا إليها من تفصيل كيفية تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه له إليه ، والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته بدلاً منه على أنه المسيح نفسه ، رأينا أنه لحظة رفع الله لمسيحه رجع أعداؤه إلى الوراء وسقطوا على الأرض ، وكان ذلك ليلاً ، فاختلط الأمر على أعدائه حين اندفعوا إلى حيث كان المسيح إثر هذه الواقعة ، ولم يجدوا بينهم غير يهوذا الاسخريوطي ، وكان وحده شاهد معجزة رفع المسيح ، لأنه كان أقربهم إليه ، وهو الذي كان يعرفه ، وقد دنا منه في هذه اللحظة ليقبله لتكون هذه علامة لمن معه ليقبضوا عليه ، واستسلم يهوذا لمن قبضوا عليه ظناً منهم أنه المسيح ، وتركهم يحاكمونه ويصلبونه معتقدين أنه المسيح ، وبذلك لبَّس الأمر لهم ، ولم يعرف أي من الناس أن هذا الذي حوكم وصلب هو يهوذا الاسخريوطي ، وإنما اعتقدوا جميعاً أنه المسيح بالفعل ، ولذا لم يكن لكاتب بشر إلا أن يكتب أن الذي صلب هو المسيح ، وذلك بعكس ما لو كان الكاتب موحي إليه من الله بما يكتب ، فإنه كان لابد حينئذ أن يكتب أن المسيح قد رفع ولم يصلب ، وأن آخر غيره هو الذي صلب ، وكذلك لم يكن للتاريخ وما سجله إلا بشر غير موحي لهم ، إلا أن يسجل أيضاً أن الذي صلب هو المسيح عليه السلام .
ثم جاء القرآن ، معلنا للناس جميعاً ، أن الذي صلب لم يكن هو المسيح عليه السلام ولكن آخر ، فنقرأ فيه :
(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ... )(1/382)
وقد وجدنا من قبل ، أن الصورة التي انتهينا إليها ، من كيفية تخليص الله للمسيح ورفعه له إليه ، ثم القبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه مستسلماً لمن قبضوا عليه ظناً منهم أنه المسيح ، ودون أن ينفي عند محاكمته كونه المسيح نفسه ، هي ما تطابق تمام التطابق ما ورد في هذه الآية ، ثم هي بدورها تؤكد لنا أن الذي صلب إنما صلب ظناً أنه المسيح ، وبالتالي فما كان لبشر يسردون هذه الواقعة أو يسجلونها للتاريخ إلا أن يقولوا أنه المسيح من صلب ولكننا نجد الآية تشير إلى شيء من الشك كان بالنسبة لهذا الذي صلب فتقول :
( ... وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ) .
ولقد وجدنا هذا الشك بالفعل ، يساور نفس من كانوا يحاكمون من ظنوه المسيح ، فيسألونه عما إذا كان هو المسيح حقاً ، أو ملك اليهود حقاً ، وغير ذلك من الأسئلة التي لم تكن لتدل إلا على شكهم في شخصية هذا المائل أمامهم ، وقد وجدناه في بعض الأناجيل ساكتاً فلا يتكلم ليزيل من أنفسهم هذا الشك ، ولا يحق لنا أن نتغافل هنا عما ذكرته أناجيل من أنه أجاب بأنه هو ، ولكننا لا يجب أن نتغافل هنا أيضاً عن أن هذه الروايات كانت سماعية محضة ، وأن أياً من أتباع المسيح لم يحضرها ، وإنما حضرها أعداؤه وحدهم ، ومن ثم فهي روايات سماعية من الأعداء ، ولذا فليس ببعيد أن بعضهم لم يشأ أن يثير الشك حول حقيقة شخصية المصلوب بالإشارة إلى ما كان من سكوته ، فأضاف من عنده هذا الكلام ، وخاصة أننا نجد أن الغالب في الأناجيل على هذا المقبوض عليه أثناء محاكمته ، أنه كان يلزم السكوت حتى كان يثير بذلك عجباً كبيراً .(1/383)
وبذا استقامت الأمور جميعاً فيما يختص بموضوع الصلب ، فالعهد القديم قد تنبأ بكل جلاء ووضوح بتخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، ولم يكن الواقع ليكون غير هذا الذي تنبأ به العهد القديم ، وهو ما كان بالفعل ، ولكن الأمر لبِّس علي من قبضوا علي يهوذا وحاكموه وصلبوه ، فظنوا أنه المسيح ، ولم يعرف بتخليص الله للمسيح من دون الله غير يهوذا الذي قبض عليه وحوكم وصلب بدلاً منه ، ولم يعرف الناس غير أن الذي صلب هو المسيح بالفعل ولم يكن لهم وهم بشر أن يعرفوا غير ذلك ، ولذا ذكروا ذلك في كل ما خطوه من أناجيل وغيرها ، والتي لم يكن هناك ثمة أي وحي من الله في كتابتها ، ثم جاء القرآن ، وحي الله المنزل على محمد عليه السلام كما يعتقد المسلمون ، فذكر الحقيقة التي يعلمها الله ، وسبحانه وتعالى ما كان له أن يخطئ ، فأكد بذلك تحقق نبوءات العهد القديم ، ولم يكن في ذلك ما يهدم كل قيمة لأسفار العهد الجديد ، وإنما كان ذلك فحسب ، تأكيداً لكون كتبة الأسفار المتداولة ، ليسوا سوى بشر ، كتبوا ما كتبوه ، بغير أي وحي من الله ، ومن ثم كان طبيعياً أن يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه غيرهم من الناس ، فيظنون أن الذي صلب هو المسيح نفسه ، رغم مخالفة ذلك للواقع ، ولكن لم يكن في مقدورهم كبشر ، أن يعرفوا حقيقة هذا الواقع .
الفصل الخامس
تأملات ختامية في هذا الباب(1/384)
تري ؛ ما الذي كان في هذا الباب ، لقد استهدفنا فيه أن نصل إلى الحقيقة بين صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون ، وعدم صلبه ورفع الله إليه وصلب غيره بدلاً منه كما يعتقد المسلمون ، واقتضانا استهدافنا للحقيقة أن نبدأ بالتعرف على تفاصيل صلب المسيح وما سبقه كما يعتقد المسيحيون ، ووجدنا كل هذه التفاصيل ثابتة في الأناجيل ، والتعرف على تفاصيل تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب آخر بدلاً منه كما يعتقد المسلمون ، ولم نجد هذه التفاصيل في القرآن ، ووجدنا أن إيمان المسلمين بالكتب السماوية يقتضيهم افتراض أن الأصل في المتداول منها هو الصحة ، وبالتالي لم يكن من سبيل للوقوف على الصورة التفصيلية لما يعتقده المسلمون إلا بأن نلتمس هذه التفاصيل في الأناجيل نفسها ، واستطعنا أن نستخلص منها هذه الصورة التفصيلية بالفعل ، ولم نعن في هذا الصدد بأن نستخلصها مما يقوله البعض تفسيراً للآيات القرآنية من أن شبه المسيح ألقي على آخر ، إذ لم نجد لهذه التفاسير قوة في الاعتبار مثل ما يجب أن يكون للتفاصيل التي وردت في الأناجيل نفسها ، بل إننا وجدنا أيضاً وبحق أن هذا التفسير لا يتفق مع ما ورد في القرآن وأن الصورة التفصيلية التي استخلصناها من الأناجيل هي ما يطابق النص القرآني في معناه ، ثم اقتضانا استهدافنا للحقيقة بعد ذلك أن نبحث عن المعيار الذي يمكن أن نحتكم إليه بشأنها ، وإذا بنا لا نجد معياراً مقبولاً لذلك سوى ذلك المعيار الذي يعتد به المسيحيون أنفسهم دون المسلمين في أبحاثهم ودراساتهم ، ألا وهو ما جاء في العهد القديم من نبوءات ، وكان واضحاً بذلك أننا إنما كنا كمن يجعل من المسيحيين أنفسهم هم الحكم في الأمر ، ولكنا وجدنا أيضاً أن استهدافنا للحقيقة وحدها يحتم علينا قبول نبوءات العهد القديم كمعيار صحيح للكشف عن الحقيقة .(1/385)
ولكن ، هل كان الأمر على هذا النحو مجرد استهداف للحقيقة ، لا أظن منصفاً يجيب بالإيجاب ، فقد كان الأمر في حقيقته أكثر من ذلك بكثير بالنسبة لما جاء في القرآن نفياً لصلب المسيح من قوله (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ) لقد كان الأمر في حقيقته بمثابة الامتحان ، لا ، بل التحدي لهذه الآية ، التحدي لها باعتبارها وحياً من الله ، فوضعناها في جانب ، ووضعنا العهد الجديد المتداول مع كل هذا ، ثم جعلنا الحكم في الأمر ، هو ما يحتكم إليه هؤلاء جميعاً أنفسهم ، مسلمين بأن هذا هو ما يجب أن يقبله من يستهدف الحقيقة وحدها .
وبدا واضحاً منذ الوهلة الأولى أن الآية لن تصمد ، وأن ما يقول به المسلمون سينهار ، وكيف لا ، وقد سلمنا الآية وما يقول به المسلمون لهذه المئات من الملايين الذين ينكرونها ، لنحتكم بشأنها إلى ما يحتكمون هم أنفسهم إليه ، وينتهون منه إلى عكسها فأي تحد كان يمكن أن يفوق هذا التحدي .(1/386)
وإذا بالنتيجة مذهلة ، إذا بها معجزة ، إن ما احتكمنا إليه لا ينطق إلا بصدق هذه الآية ، بل إذا بالأمور جميعاً لا تستقيم إلا بها ، فوجدنا النبوءات في العهد القديم لا تقول بغيرها ، وجدنا النبوءات نتحدث بنفسها ، فتنطلق عالية مدوية بكل صراحة وبأجلي وضوح تقول لنا ، أن الرب مخلص مسيحه ، يرسل من العلا فيأخذه ، يرفعه من أبواب الموت ، إليه لا يقرب ، وفي يد العدو لا يحبس ، وأن الشرير يعلق بعمل يديه ، كراجياً حفرة فسقط في الهوة التي صنع ، حفر أمام المسيح حفرة فوقع في وسطها ، في الشبكة التي أخفاها انتشبت رجله ، وهو الخائن ، الذي صار يغدره وخيانته عاراً عند البشر ، وإذا بمن قالوا بعكس تلك الآية ، لم ينتهوا إلي ما انتهوا إليه ، إلا بالتحايل على النبوءات ، فحملوها ما لا تحتمل ، وجعلوا المصلوب فيها هو المسيح على قطعها بأنه غيره ، بل جعلوا من المسيح دودة لا إنسان وعاراً عند البشر ، لا لشيء إلا ليكون هو المصلوب ، فبهذا وصفت لنا المزامير من صلب ، وما كان للمسيح أبداً أن يكون شريراً أو يعد عاراً عند البشر ، بل ما كان لهذا إلا أن يكون غيره ، وهكذا إذا بالمتحدين جميعاً يتوارون أمام جلال تلك الآية وقوة الحق الذي جاءت به ، وإذا بالحقيقة تصرخ أن ليست الحقيقة إلا ما جاء بها.
تري أي جلال حملته هذه الكلمات على قلتها ، ومن هو الذي كلمته هي الحق وحده وفي أي امتحان أو تحد لا تكون إلاها الغالبة ، هل غير كلماته سبحانه وتعالى الذي يعلم الجهر وما يخفي ، والذي يعلم الحقيقة وأن عن العالم كله خفيت ، فهل كل ذلك إلا دليل أن من الله أوحيت.
بل ما الذي وجدناه ، ألم نجد أن غير الله لم يكن ليعرف إلا أن المسيح هو من صلب ، ولذا فلم يكن لكتاب غير موحي به من الله إلا أن يقول بصلبه ، وما كان لكتاب أن يقول بالنفي إلا أن يكون من الله وحيه ، أفليس نفي القرآن صلب المسيح ، أليس هذا النفي في حد ذاته دليل وحي ذلك القرآن.(1/387)
ثم تري أي حكمة هذه التي قصد الله في ألا يترك لنا من سبيل للكشف عن تفاصيل ما أورده في كلمات قليلة في كتابه إلا بأن نلجأ إلى ما في الأناجيل المتداولة نفسها ، ثم ألا نجد معياراً للكشف عن الحقيقة بين كلامه وبين ما جاء في هذه الأناجيل إلا المعيار الذي يأخذ به المسيحيون أنفسهم ، أليست هي حكمة بالغة ألا يكون الدليل على صدق كلامه سبحانه وتعالى بالنسبة لمن ينفون صحته إلا فيما يقولونه هم أنفسهم وفيما يؤمنون به من الكتاب المقدس وفيما يرتضونه حكماً في الأمر ، أليست هي حكمة بالغة إذ بهذا وحده لا عذر لهم بعد ألا يؤمنوا ، وبهذا وحده لا يملكون إلا أن يؤمنوا ، ولو كان الدليل غير هذا لما قبلوا أن يؤمنوا .
لعمري ، أن هذا وحده لكاف عندي لأومن بأن القرآن هو وحي الله وكلامه نزله على رسوله الأمين ، ولكني لم أتصورني يوماً أملي رأيي أو أفرضه علي غيري ، وإنما أسأل من ينكرون أن القرآن كتاب الله ، أن يتأملوا بأنفسهم في كل ما سبق ، ثم ليحكموا بأنفسهم وفق ما يمليه عليهم ضميرهم وإيمانهم فحسب .(1/388)
ولعلي أستطيع أن أزيد الأمر شيئاً من الوضوح ، فأتساءل ، إذا كان القرآن ليس كتاباً من عند الله وليس موحي به كما يعتقدون ، وإذا كان مؤلفه هو محمد كما يحسبون ، فإن الأمر ليكون حينئذ حقيقاً بشيء كثير من التأمل ، فما الذي كان يفعله محمد لو كان هو مؤلف القرآن حيال ما يعتقده المسيحيون ، إنه يحتم الإيمان بالمسيح وبرسالته ، ولكنه يأتي بالنسبة للواقعة التي لا يختلف فيها المسيحيون والتي يؤيدهم فيها التاريخ نفسه ، ألا وهي الاعتقاد بصلب المسيح ، فينفيها نفياً قاطعاً وصريحاً ، وفي مقابل ذلك ، نجده بالنسبة للواقعة التي لا يختلف فيها المسيحيون والتي يؤيدهم فيها التاريخ نفسه ، ألا وهو الاعتقاد بصلب المسيح ، فينفيها نفياً قاطعاً وصريحاً ، وفي مقابل ذلك ، نجده بالنسبة لأكثر الأمور خفاء وسراً ، والتي يستحيل على المسيحيين إقامة دليل مقبول عليها ، ألا وهي الاعتقاد بميلاد المسيح من عذراء ، فلا يؤيدها فحسب ، بل ويضعها والكفر في مرتبة واحدة ، وذلك ما نقرأه في سورة النساء من قوله تعالى (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً) (156) أفإذا كان محمد هو مؤلف القرآن كان يفعل ذلك حقاً.
وأن الأمر ليزيد غرابة ، حين نجد أن هذا الذي يضعه القرآن في مرتبة واحدة إلى جوار الكفر ، من المسيحيين أنفسهم من يحاول أن ينفيه ويستبعد الاعتقاد به ، وهذا ما يشير إليه كتاب حياة يسوع (وهو من تأليف الدكتور بترسن سميث ونقله إلى العربية السيد / حبيب سعيد - الطبعة الثانية - وهي صادرة عن (دار الشرق والغرب) ) حيث نقرأ في صفحة 24 منه :(1/389)
( رأيت من اللائق أن أفرد فصلاً خاصاً لميلاد المسيح العذراوي ، إذ قد طرح الموضوع في مناقشات علنية ، ونجم عنه شيء من الريبة في بعض العقول ، ولا يجئ هذا التساؤل من جانب غير المؤمنين فقط ، بل هناك نفر من المسيحيين أنفسهم يزعمون أن التساؤل في عقيدة ميلاد المسيح من عذراء لا يؤثر شيئاً في الاعتقاد بألوهية المسيح . ورغبة في إزالة الشكوك والشبهات يطالبون بحذف العبارة القائلة : (حبل به بالروح القدس وولد من مريم العذراء) من قانون الإيمان المسيحي )
ويضيف الكاتب في صفحة 29 قوله :
( والتساؤل حول الميلاد العذري ليس حادثاً جديداً ، بل هو قديم نشأ مع الكنيسة . ويرجع تاريخه إلى الزنديق (كيرنثوس) خصم القديس يوحنا. وثار أيضاً في أوقات مختلفة ، كما ثار أيضاً في هذا العصر ، ولكن مع هذا الفارق : أن التحدي في العصور الأولى جاء من الخوارج من قوم جحدوا ألوهية المسيح .
والفكرتان - أي ألوهية المسيح وميلاده من عذراء - قد تمشتا معاً جنباً إلى جنب وجرى الناس إما على قبولهما معاً أو رفضهما معاً . أما في هذا العصر فالميل يتجه إلى الفصل بينهما . ويرغب بعضهم ممن يؤمنون بألوهية المسيح أن يترك باب موضوع الميلاد العذراوي مفتوحاً على مصراعيه.
وإنها لمحاولة تستحق الإشفاق من جانب المرتاب الذي يميل إلى جعل العقيدة المسيحية سهلة التصديق ....)(1/390)
فما مصلحة محمد في أن ينفي صلب المسيح ، وهو عالم أن هذا وحده كاف لأن يشكك المسيحيين في دعوته ، وخاصة إذا علمنا أن مسألة عدم صلب المسيح هذه هي مسألة ثانوية عند المسلمين ، ولا تثير في أذهانهم أي شيء بصدد إيمانهم بمحمد ورسالته ، ثم ما مصلحته في أن يؤكد الميلاد العذراوي للمسيح حتى ليضع في مرتبة واحدة عدم الإيمان به مع الكفر ، وهو لو نفاه لوجد من المسيحيين من يؤيده ويسانده ، أفليس الصحيح أنه لو كان محمد عليه السلام هو مؤلف القرآن وكان مغرضاً في تعرضه للمسيحية كما يعتقدون ، فقد كان الأولى به أن يؤيد صلب المسيح وينفي الميلاد العذراوي له وليس أن يفعل العكس .
ولكن القرآن ارتاد الصعب وتجنب السهل ، وما كان هذا منه إلا مجرد تقرير للحقيقة وحدها ممن يعلمها وحده ، وهو الله والذي شاء سبحانه وتعالى أن يعلنها للناس كافة ، إذ مهما بدا فيها من عدم توافقها ومصلحة الرسالة فإن الحقيقة وحدها هي التي يجب أن تعلن ، يقيناً بأنها هي أيضاً ما لابد وأن ينتهي إليه كل مستهدف لها.
وأعود فأكرر أنه إذا كان يكفيني هذا لأومن بأن القرآن هو كتاب الله الموحي به إلى رسوله محمد عليه السلام فإنني لا أفرض هذا الرأي على أحد وإنما فقط أسأل كل منكر لذلك ، أن يراجع ضميره وإيمانه وحده ، وأن يخلص بنفسه إلى الحقيقة التي يتعين عليه أن يؤمن بها .
وبعد بقيت كلمة لا أملك إلا أن أوجهها إلى كل من ينكر تخليص الله للمسيح عليه السلام من الصلب والقبض على يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، كيف تقرأ بل تترنم وتنشد وأنت تتطلع إلى الصليب أمامك وعليه تمثال للمصلوب وتقول :
( الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ) و ( مجمع القبائل يحيط بك فعد فوقها إلى العلي.) و(أرسل من العلي فأخذني .) و (لم تحبسني في يد العدو بل أقمت في الرحب رجلي .) و( يرسل من السماء ويخلصني .) و (يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب.) ... الخ
كما تقول أيضاً :(1/391)
( كراجياً حفرة فسقط في الهوة التي صنع . يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه .) و(أهلكت الشرير .) و (في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم . و (معروف هو الرب قضاء أمضي . الشرير يعلق بعمل يديه ) و(أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر ) و (حفروا قدامي حفرة . سقطوا في وسطها .) و (إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية . لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر .) .... الخ
كيف يا أخي تقرأ وتترنم بكل ذلك وأنت تتطلع إلى الصليب أمامك وعليه تمثال المصلوب ، ثم تصر بالرغم من ذلك على أن هذا المعلق على الصليب أمامك هو المسيح عليه السلام الذي هو مجد البشرية وشرف نفخر به ، ولا تري فيه الخائن يهوذا الاسخريوطي الذي هو بحق وحتى اليوم عار عند البشر ، ثم ما عذرك يا أخي أن تنكر الحق والله يجعلك به تنطق على هذا النحو ، بل تنشد وتترنم .
الفصل السادس
اليهود ......... ودم المسيح
قلنا في تقديمنا للباب الثاني (في الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه) ، والذي منه هذا الفصل ، أن هذا الموضوع لا يطرق ويبحث علي هذا المدي الواسع ، دون أن يطرق معه موضوع آخر لصيق به ومتفرع عنه ، أثير في الأعوام الأخيرة ، وعرف بموضوع تبرئة اليهود من دم المسيح ، نخصص له فصلاً سادساً وأخيراً بعنوان اليهود ودم المسيح .(1/392)
والواقع أني لست أول من يطرق هذا الموضوع في جمهورية مصر العربية ، ولعل أول من طرقه فيها وتناوله في العديد من مقالاته هو الكاتب الصحفي الأستاذ أنيس منصور ، إلا أنه ، وفي حدود ما أذكره - حيث لا أستطيع الاحتفاظ بالصحف كما أفعل بالنسبة للكتب - تناول الموضوع من جانبه السياسي ، أو باعتباره موضوعاً سياسياً ، كما سبق إلى الكتابة في الموضوع ، بل وتحت نفس العنوان الذي اخترته عنواناً لهذا الفصل ، الأستاذ فتحي عثمان في الطبعة الثانية من كتابه (مع المسيح في الأناجيل الأربعة) ، ولما كنت أكتب هنا في نفس الموضوع ، ولست أجد عنواناً أكثر انطباقاً عليه من هذا العنوان ، لذلك لا أري مانعاً من أن استعير نفس العنوان الذي اختاره سيادته ، وللحق فقد تناول سيادته الموضوع من زاوية سليمة ، وعرضه عرضاً شيقاً ، وأتفق معه فيما قاله في هذا العرض ، ولا أجد محلا لتكراره هنا ، إلا أنه قد انتهي إلى القول بأنه وإن كان قد يعتقد بأن وثيقة تبرئة اليهود من الوجهة (الفنية) قد لا تعني خطأ ما ، ولكن لابد لصاحب الدعوي أن يقدر (ظروف الواقع) التي يبشر فيها بتعاليمه وأن يحذر أن يصطاده المغرضون (بكلمة) ... ، ولست أتفق مع سيادته في هذا الذي انتهي إليه من الاعتقاد بأن تلك الوثيقة قد لا تعني من الوجهة الفنية خطأ ما ، وقبل أن انتقل إلى تفاصيل رأيي في هذا الشأن أشير هنا إلى أن سيادته قد أغناني بما أورده في عرضه لهذا الموضوع ابتداء من صفحة 266 من كتابه مشقة البحث عن تلك الوثيقة وما تم بشأنها ، وفي إشارتي إلى تلك الوثيقة سأنقل عن سيادته ما أورده بشأنها.(1/393)
وموضوع صلب المسيح عند المسيحيين لا يبدأ بواقعة صلبه ، وإنما هو عندهم يبدأ قبل ذلك بكثير ، فهم - وكما سبق أن رأينا - يعتقدون بأن آدم عليه السلام إذا أخطأ ، بأن أكل من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها ، فقد بذلك حياة الاستقامة التي خلقه الله بها وأصبح خاطئاً وذلك قبل أن ينجب نسلاً ، ولذا فإنه يكون طبيعياً - أن يولد منه البشر جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره ، وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن أن يدخل في ملكوت الله أي من الناس لأنهم جميعاً يحملون الخطيئة ومن ثم فهم غير كاملين ، ولكن الله - وكما يعتقدون أيضاً - يريد أن يتصالح مع الناس على خطيئتهم ، أو بمعني أصح على خطيئة آدم ، ويري المسيحيون أن ذلك لا يمكن أن يكون إلا بالفداء ، وبالدم أيضاً ، وهم يسردون الشروط التي يرون لزم توافرها في هذا الفادي والتي ينتهون منها إلى أنها لا يمكن أن تتوافر في غير الله نفسه الذي يتجسد من الروح القدس ومريم العذراء فيكون الله الابن أو المسيح الذي بعد أن تأنس صلب من أجل البشر ومن أجل خلاصهم من خطيئة آدم . لذلك يقولون فيما يسمي عندهم بقانون الإيمان والذي يتفق المسيحيون على الإيمان به :
( ... نؤمن برب واحد ، يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد ، المولد من الآب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للآب في الجوهر ، الذي به كان كل شيء ، هذا هو الذي من أجلنا نحن البشر ، ومن أجل خلاص نفوسنا ، نزل من السماء ، وتجسد من الروح القدس ومريم العذراء ، وتأنس ، وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي ، وتألم ، وقبر ، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب ....)(1/394)
هذا هو اعتقاد المسيحيين وإيمانهم بالنسبة للمسيح وواقعة صلبه ، أما كيف صلب كما يعتقدون ، فنحن نقرأ في إنجيل متى (حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذي يدعي قيافا ، وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه .) (ص 26 : 3و 4) ، كما نقرأ في إنجيل مرقس ( وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه .) ، وفي إنجيل لوقا نقرأ ..... (وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه ) (ص 19 : 47) ؛ وفي إنجيل يوحنا نقرأ (فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعاً وقالوا ماذا نصنع ... فقال لهم واحد منهم ، وهو قيافاً ، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة . أنتم لستم تعرفون شيئاً ، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها ... فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه .) (ص 11 : 47 - 53).(1/395)
فنعلم من ذلك أن اليهود تآمروا على المسيح بمكر ليقتلوه ، ورأس المؤامرة هنا هو قيافاً رئيس كهنتهم ، وطبقاً لما ورد في الأناجيل ، فإن يهوذا الاسخريوطي ذهب إلى رؤساء الكهنة وسألهم ماذا يعطوه وهو يسلمه إليهم ، فجعلوا له ثلاثين من الفضة ، فأخذ يتحين الفرصة ليسلمه ، حتى إذا ما أظن أنها قد حانت ، جاء ليلاً ومعه جمع كثير من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب ، ويعتقد المسيحيون طبقا لما ورد في الأناجيل أنهم قبضوا على المسيح ومضوا به إلى قيافا رئيس الكهنة ، حيث اجتمع قيافا مع الكهنة والشيوخ ، وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والجمع كله يطلبون شهادة زور عليه ليقتلوه ، وفي الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على المسيح حتى يقتلوه ، ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي ؛ ويتردد هذا الوالي بالنسبة للمسيح وكان يريد أن يطلقه ، وإذا اعتاد في كل عيد أن يطلق للجمع أسيراً ، فيسألهم من يريدون ، وفي نفس الوقت ترسل إليه زوجته تحذره أن أياه وذلك البار لأنها تألمت كثيراً في نفس اليوم في حلم من أجله ، ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجميع أن يطلبوا آخر ويهلكوا يسوع ، ولكن الوالي يبقي متردداً ، فيسألهم عما يفعله بيسوع الذي يدعي المسيح ، فقال له الجميع ليصلب ، ويعود ليسألهم عن أي شر عمل ، ولكنهم يزدادون صراخاً قائلين ليصلب ، ويضيف إنجيل متى قائلاً (فلما رأي بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً بل بالحري يحدث شغب أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلاً إنني برئ من دم هذا البار ، أبصروا أنتم . فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا .) (ص 27 : 24 - 26) . فأطلق بيلاطس من أرادوه وأما يسوع فجلده وأسلمه ليصلب حيث صلب بالفعل كما يعتقد المسيحيون .(1/396)
اليهود إذن تآمروا على المسيح ليمسكوه بمكر ويقتلوه ، وأرسلوا له ليلاً جمعاً ليقبضوا عليه حتى يقتلوه ، وطبقاً لما يعتقده المسيحيون واليهود معاً ، فإنهم قد قبضوا بالفعل على المسيح ، ثم اقتادوه إلى قيافا رئيس الكهنة ؛ وهناك كان رؤساء الكهنة والشيوخ والجميع يطلبون شهادة زور عليه ليقتلوه ، وفي الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب حرضوا الجميع أن يطلبوا آخر ويهلكوا يسوع ، ويسألهم الوالي عما يفعله بالمسيح فيطلبون صلبه ، ولما يتردد يزداد صراخهم طالبين صلبه ، حتى إذا ما غسل الوالي يديه متبرئاً من دم هذا البار تاركاً لهم أن يروا ما يرونه بشأنه ، لا يكتفون بتقرير صلبه بل ويقولون أن دمه عليهم وعلى أولادهم ، وبعد ذلك سلمه ليصلب حيث صلب بالفعل كما يعتقدون .
جريمة قتل كاملة ، تلك هي التي ارتكبها اليهود ، مع سبق الإصرار الكامل عليها ، فمن تآمر للقتل ، إلى قبض للقتل ، إلى طلب شهود زور للقتل ، إلى طلب من الوالي للقتل ، إلى إصرار على القتل حين يتردد الوالي ، إلى قبول كامل بتحمل عاقبة هذه الجريمة ووزرها ليس عليهم وحدهم وإنما أيضاً على ذريتهم من بعدهم فقالوا أن دمه عليهم وعلى أولادهم .(1/397)
ولكن المسلمين يعتقدون بأن المسيح عليه السلام لم يصلب ، ففيم إذن يمكن أن يكون اعتراضهم على تبرئة اليهود من دم المسيح ما داموا يعتقدون أنه لم يكن هناك دم أريق للمسيح على الإطلاق ، وهنا يحتاج الأمر إلى قليل من الإيضاح ، فالمسلمون وإن اعتقدوا بعدم صلب المسيح ، فإنهم لا ينفون أن اليهود قد تآمروا عليه ليمسكوه بمكر ويقتلوه ، إنهم يعتقدون بذلك ، ويعتقدون أن اليهود سعوا فعلا للقبض علي المسيح ليقتلوه ، بل وبأنهم صلبوا من صلبوه ظناً منهم أنه المسيح نفسه وليس غيره كما هو واقع في اعتقاد المسلمين الذين يعتقدون أن هذا الذي صلب هو آخر غير المسيح الذي خلصه الله ورفعه إليه ، ومن هنا فالجريمة في حد ذاتها قائمة وأركانها متوافرة ، تماماً كما لو كانوا قد صلبوا المسيح فعلاً ، وكل ما هنالك أنه قد حدث خطأ في شخص المجني عليه ، فبينما قصد اليهود إلى قتل المسيح بالذات ، وظنوا أن المسيح فعلا هو من قتلوه ، فإن المسلمين يعتقدون أن الله قد خلص المسيح وأن آخر هو الذي صلب عوضاً عنه ، وفي جميع القوانين ، في كل أنحاء العالم ، وفي الإسلام نفسه ، فإن الخطأ في شخص المجني عليه لا ينفي الجريمة نفسها ، وإنما تبقي قائمة كما هي ، وإذا كان لشخص المجني عليه بالذات اعتبار في نوع العقوبة أو مقدارها ، كما هو الحال بالنسبة لشخص المسيح بالذات مثلاً ، فلا يكاد الحال يختلف ما دام أن القاتل وأهل القتيل يتفقون على أن قتيلهم بالذات - وهو هنا المسيح - الذي قتل وليس غيره .
هذا عن الجريمة ، أما عن العقوبة ، فموضوع المناقشة هنا ليس حكم الإسلام فيها ، وإنما حكم المسيحية نفسها فيها ، فالمسيحيون هم الذين كانوا يدينون اليهود ، وهم الذين اليوم يبرئون اليهود ، وفي الحالتين طبقاً لما يعتقدونه متفقاً مع ديانتهم وعقيدتهم ، ولذا فحكم المسيحية والعقوبة التي توقع وعلى من توقع هو ما يتعين بحثه وليس أي حكم أخر .(1/398)
وهنا ، والأمر يتعلق بصلب المسيح ، الذي يعتقد المسيحيون أنه الله ، لابد لاستنباط الحكم أن نقارنه بخطيئة أخرى في حق الله نعرف حكمها عند المسيحيين ، فالحية أغوت حواء ، وحواء أعطت رجلها آدم ، فأكل هو الآخر من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها ، هذه هي كل خطيئة آدم ، التي يعتقد المسيحيون أنه بها فقد آدم حياة الاستقامة وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً ولذلك ولد البشر جميعاً منه خطاة بطبيعتهم نظيره ، وآدم هنا وقع تحت الإغواء ، ويقيناً لم يدر بخلده حين ارتكب هذه الخطيئة أنها ستورث للبشر جميعاً من بعده وأن الله لن يجد سبيلاً لتخليص البشر منها إلا بأن يتجسد ويصلب على نحو ما يعتقد المسيحيون ورأيناه من قبل.
أما اليهود فقد تآمروا على المسيح الذي يعتقد المسيحيون أنه الله نفسه ، ويعتقدون أيضاً أن كتاب اليهود يدلهم عليه وعلى ألوهيته كذلك ، هم إذن في اعتقاد المسيحيين تآمروا على الله نفسه وليقتلوه ، تآمروا على الله متجسداً في المسيح ليصلبوه ، وقتلوه فعلاً صلباً كما يعتقد المسيحيون ، ولم يكفهم هذا وإنما قبلوا في تحد أن يكون دمه عليهم وعلى أولادهم من بعدهم.
والواضح البين أنه لا تناسب على الإطلاق ، بين خطيئة آدم وبين إثم اليهود وجرمهم ، فالأولى ، معصية الله ليس في ذلك شك ، أما الثانية ، فمعصية العاصي ، بل هي أكبر إثماً ومعصية من كل ما قد يتخيله البشر من معاصي ، فهل فوق صلب الإله كما يعتقدون معصية ، وآدم لم يقبل على نفسه ومن باب أولى على ذريته تحمل وزر معصيته ، وإن كان حقيقاً بمجرد ارتكابها أن يتحمله ، أما اليهود ، فقد قبلوا وفي تحد كما رأينا أن يكون عليهم وعلى أولادهم دم المسيح ، وهو الله كما يعتقد المسيحيون .(1/399)
والذي لا يمكن الجدل فيه ، أنه إذا كانت خطيئته آدم تورث ، فمن باب أولى خطيئة اليهود هذه يجب أن تورث ، بل إن الممكن أن نتصور الثانية تورث دون الأولى ، أما العكس ، فلا وألف لا ، فليس لعقل أن يقبل أن خطيئة آدم بأكله من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها بعد أن أغوته حواء فأكل منها ، تورث ، وأما صلب الإله وقتله وسفك دمه كما يعتقد المسيحيون وبعد أن قبل القتلة في تحد أن يكون دمه عليهم وعلى أولادهم لا تورث ، لا وألف لا هنا يقولها كل عقل وكل منطق.
والآن ، لننتقل إلى الوثيقة - وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح - لنري ما كان من أمرها ، ففي الثامن من نوفمبر سنة 1963 وزع المكتب الصحفي في الفاتيكان بياناً على أعضاء المجلس المسكوني المقدس للكنيسة الكاثوليكية الرومانية في دورته الثانية ، وتضمن البيان مشروع وثيقة تقدم بها الكاردينال الألماني أغسطين بيا الذي يقال أنه صاحب الإشارة بتعديل ما ورد في صلاة الأحد من أن اليهود هم الشعب العاصي ، وقد خرج الكاردينال بيا على العالم بمشروع وثيقة تنزع إلى تبرئة اليهود من دم المسيح وتحمل البشرية جمعاء هذه المسئولية ، ويشير المشروع إلى اعتقاد المسيحيين بأن جذور الكنيسة تمتد إلى العهد الذي أقامه الله مع إبراهيم ونسله . وأنه بمجئ السيد المسيح وهو من نسل إبراهيم حسب الجسد امتدت مراحم الله التي كانت للشعب المختار للعالم بأسره ، وتناول المشروع نقطة أخرى .(1/400)
هي أن مسئولية موت المسيح تقع على النوع الإنساني الواقع تحت الخطيئة ، وهذا هو التعليم الواضح الثابت في العهد الجديد ، والذي ردده جميع آباء الكنيسة وعلمائها الكبار ، ويقوم على أن المسيح قد مات ليكفر عن خطايا كل إنسان ، فالمسئولية التي دمغت قادة اليهود ، لا يبرأ من تبعتها النوع الإنساني كله ، كما أن جريمة هؤلاء القادة جريمة شخصية لا يؤخذ بجريرتها الشعب اليهودي كله في ذلك الزمان أو في أي زمان لاحق ، وقال الكاردينال أغسطين بيا في كلمة ألقاها في الدورة الثانية لاجتماع المجمع المسكوني الثاني قدم فيها مشروعه ، قال ، أن المشروع وضع على أساس أنه مشكلة دينية بحتة لا علاقة لها بأي مسألة قومية أو سياسية ، وبخاصة موضوع اعتراف الكرسي البابوي بإسرائيل ، وإنما يتناول المشروع النواحي المشتركة بين الكنيسة الكاثوليكية والشعب اليهودي ، إذ الكنيسة استطراد لشعب إسرائيل المختار ، كذلك لا يتعلق الأمر بإثارة الشك فيما ذكرته الكتب المقدسة عن الحكم الظالم على المسيح البرئ وإنما يتعلق بأنه لا ينبغي أن ينسب إلى جميع الشعب اليهودي ما ارتكبه بعض أفراده ، ويشير الكاردينال إلى ما دعا إلى وجوب بحث هذه المسألة وهو سيطرة العداء لليهودية منذ عشرات السنين في بعض المناطق واتخاذه صورة إجرامية كما حدث في ألمانيا في إبان الحكم النازي ، ويصل إلى أن على المسيحيين أن يتخذوا إزاء اليهود نفس الموقف الذي اتخذه المسيح وتلاميذه ، وقد انتهي الأمر إلى إقرار المشروع في قراءة أولى بعد أن كان قد فشل في الحصول على الأصوات الكافية لتقرير مبدأ مناقشته في الدورة الثانية للمجمع المسكوني وأوقف بحثه في جدول الأعمال حرصاً على تدعيم الوحدة المسيحية ؛ وعاد للظهور بعد تعديل يسير في الصياغة عند انعقاد الدورة الثالثة للمجمع.(1/401)
هذا هو البيان وما انتهي إليه الأمر من إقراره ، وأعجب ما يلاحظ عليه أنه بعد أن نزع إلى تبرئة اليهود من دم المسيح ، لم يستطع أن يخالف ما تقوم عليه المسيحية من وجوب الجزاء على المعصية ، ولذا فإنه بعد أن نزع إلى تبرئة اليهود من هذا الدم ، حمله للبشرية جميعاً ، وما أثقل هذا الذي حمله للبشرية إنه ، دم الله كما يعتقدون ، الله الذي لم يجد سبيلاً ليخلص البشر من خطيئة آدم الذي عصاه إذ أكل من الشجرة التي حرم عليه أن يأكل منها إلا بأن يتجسد ويتأنس ويصلب ، فكيف هو غافر لهم وزر صلبه وسفك دمه ، وإذا كانت خطيئة آدم قد اقتضت من الله ليغفرها للبشر أن يتجسد ويتأنس ويصلب ، فهل يكفي صلبه ثانية لتخليص البشر من وزر صلبه الذي يريد السيد الكاردينال تحميله للبشرية جمعاء ، بل هل يكفي صلب أقانيم الله الثلاثة معاً كما يعتقدون في الله لتخليص البشر من هذه الخطيئة ، وهل الله ليخلص البشر من تلك المعصية التي ارتكبها آدم بأكله من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها ، لا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بأن يوقعهم في شر المعاصي كلها ، وبأن يحملهم إثم الآثام جميعها ، ألا وهو صلبه ، أبداً ، أبداً ، ليس هذا بالذي يقبله عقل ، أو ترتضيه المسيحية نفسها كما يعتقدون بشأنها.(1/402)
ثم من ناحية أخرى ، لقد وجدنا بحق ، أنه إذا كان لخطيئته أن تورث ، فإن أحق الخطايا بذلك هي خطيئة اليهود ، الذين يعتقد المسيحيون ويؤمنون ، بأنهم تآمروا على المسيح الإله ليقتلوه ، وقبضوا عليه ليقتلوه ، وطلبوا شهود زور عليه ليقتلوه ، وصمموا علي قتله حين رأي الوالي إطلاق سراحه ، بل وفي تحد قبلوا أن يكون دمه عليهم وعلى أولادهم من بعدهم ، واليهود عندما ارتكبوا هذه الخطيئة إنما ارتكبوها باعتبارهم اليهود ، باعتبارهم يمثلون اليهود ، فرأس المؤامرة هو قيافا رئيس كهنتهم ، والمخططون والمدبرون هم رؤساء كهنتهم والمنفذون هم كل هؤلاء مع شعب اليهود ، وإذا كان هناك من يسأل عنها إذن فهم شعب اليهود في ذلك الزمان ، وإذا كانت هذه الخطيئة تورث ، فإنما لنسل اليهود من بعدهم ، ولهذا لم يكن عبثاً أبداً أن يشار لليهود على مر الزمان في صلاة الأحد على أنهم الشعب العاصي ، فذلك من صلب عقيدة المسيحيين وإيمانهم ، وبغيره لا تستقيم أبداً تلك العقيدة عندهم ، لأنه إذا كانت جريمة صلب المسيح الذي هو الله في اعتقادهم ، لا تقع على غير من قاموا بها أنفسهم ، ولا تورث لشعب اليهود من بعدهم ، فإنه من باب أولي ، فإن خطيئة آدم إذ عصي ربه وأكل من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها ، هذه الخطيئة من باب أولى لا تورث ، ولا يستقيم بحال ، القول بتوارث هذه دون الأخرى ، وإنما الذي يمكن أن يستقيم في العقل هو العكس كما بينا ، ولذا ، فإن البشر جميعاً ، من غير المسيحيين لا يمكن بحال أن يقبلوا من أصحاب هذه الوثيقة وممن أقروها القول بأن خطيئة شعب اليهود المتمثلة في صلبهم المسيح الإله كما يعتقدون ، لا تورث لشعب اليهود من بعدهم ، بينما خطيئة آدم هذه تورث ويولد البشر من بعده خطاة بها ، بل يجب أن يرفعوا من باب أولي من باقي البشر خطيئة آدم أيضاً ، فإن فعلوا ، فقد التقوا مع الإسلام ، وانتهت عقيدة الصلب عندهم ، لزوال سببها والغرض منها ، وما(1/403)
هم أبداً بفاعلين ، ولذا فليس أمامهم من سبيل ، لتلافي هذا التناقض البين في أساس عقيدتهم وديانتهم ، إلا بأن يعودوا إلي ما كانوا عليه ، من تحميل لشعب اليهود في عهد المسيح وذريتهم من بعدهم ، وزر وإثم صلب المسيح الإله كما يعتقدون ، فهل يفعلون ، هنا أعتقد أنه يظل الجانب الذي ادعي صاحب الوثيقة عدم وجوده بقوله أن المشروع وضع على أساس أنه مشكلة دينية بحتة لا علاقة لها بأية مسألة قومية أو سياسية ، ذلك أنهم إن لم يفعلوا ، فلن يكون ذلك بحال لسبب ديني أو عقائدي كما يدعي ، وإنما وبيقين ، لأسباب قومية أو سياسية محضة ، وإنما على أي حال ، فإننا هنا ، مسلمين كنا أو مسيحيين ، لا يجوز أن نقبل هذه الوثيقة ، وبهذه الحجج وحدها في تقديري ، يجب أن نجابهها ونجابه القائلين بها .
وأخيراً ، وبعد كل هذا الطواف في موضوع صلب المسيح أو عدم صلبه ؛ لا أجد ما أختم به هذا الباب خيراً من قول المسيح عليه السلام في إنجيل متى :
(فأذهبوا وتعلموا ما هو ، إني أريد رحمة لا ذبيحة) (ص 9 : 13)
الباب الثالث
في
الحقيقة
بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته
وجدنا في الباب الأول أنه يتعين علينا أن نبحث عن الحقيقة وحدها ، وأنه للوصول إلى الحقيقة لا يجوز افتراضها على نحو معين ابتداء ، وإنما يتعين أن نبحث عنها بين الفروض محل البحث ، ونحن في هذا الباب نبحث عن الحقيقة بين فرضين محددين ، الأول وهو الذي يعتقده المسيحيون ، هو ألوهية المسيح ، والثاني وهو الذي يعتقده المسلمون ، هو عدم ألوهية المسيح ، وأنه ليس سوى إنسان نبي بشر ، وهذان الفرضان هما اللذان نبحث عن الحقيقة بينهما في هذا الباب ، وفي بحثنا كما قدمنا ، لن نتقيد بصحة أي فرض منهما ابتداء ، وإنما سنبحث عن الحقيقة وحدها بينهما ، ولن نتقيد في بحثنا إلا بالحقيقة وبكل ما يوصلنا إليها .(1/404)
وكما فعلنا في الباب السابق ، فإن الطبيعي أن نبدأ بحثنا بشرح مفصل لألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون ، ولعدم ألوهيته كما يؤمن المسلمون ، وذلك في فصل أول ، لتوضيح الفرضين اللذين نبحث عن الحقيقة بينهما ، ثم نتبع ذلك بفصل ثان لبيان المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين هذين الفرضين ، وهو المعيار الذي يتعين أن يكون مقبولاً لدي المسيحيين والمسلمين على السواء ، ثم نتلو ذلك بفصل ثالث نطبق فيه المعيار الذي ننتهي إليه في الفصل الثاني ، ولكمال البحث أيضاً ، ينبغي أن نبحث في فصل رابع ما قد يوجه إلي الحقيقة التي ننتهي إليها من اعتراضات ، ثم إنه لا يفوتنا في هذا الصدد ما للعلم من أثر في المجتمعات الحديثة ، وأن الكثيرين قد وجدوا بحق أن العلم يدعو للإيمان بالله ، وأقاموا الدليل العلمي على وجوده سبحانه وتعالى ، وليس من شك في أن مثل هذا قد يعيننا في التعرف على الله والذي يقول المسيحيون أنه المسيح عليه السلام نفسه ، ولذا لزم أن نتعرف في فصل خامس على الله في ضوء العلم ، ولعل ذلك يكون مفيداً في الكشف عن الحقيقة وتأكيدها ، ولا يقال هنا أننا أغفلنا دور العلم في الباب السابق ، ذلك أن الفرع الوحيد من فروع العلم الذي كان ممكناً أن يساعدنا في ذلك الباب ، هو التاريخ ، والمتفق عليه في المسيحية والإسلام أن التاريخ إنما قال بأن الذي صلب هو المسيح عليه السلام ، وقد أشرنا إلى ذلك بالفعل في الباب السابق ، وأخيراً فإنه قد تعن لنا في النهاية بعض التأملات فيما ننتهي إليه .
نخصص لها الفصل السادس والأخير من هذا الباب إن كانت .
الفصل الأول
ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون
وعدم ألوهيته كما يعتقد المسلمون(1/405)
قلنا أنه من الطبيعي أن نبدأ بحثنا بشرح مفصل لألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون ، وعدم ألوهيته كما يؤمن المسلمون ، وهذا طبيعي كما قلنا لأنه مما لاشك فيه أن الوقوف على تفاصيل كل من الفرضين ، لابد وأن يعين إلى حد كبير في الكشف عن الحقيقة بينهما ، وواضح من ذلك أن البحث في هذا الفصل ينقسم إلى مبحثين :
المبحث الأول : في ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون .
المبحث الثاني : في عدم ألوهية المسيح كما يعتقد المسلمون .
المبحث الأول
ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون
وجدنا في الباب السابق ، أن السند الأول في اعتقاد المسيحيين بصلب المسيح عليه السلام ، هو ما ورد في الأناجيل الأربعة من تفاصيل عن القبض عليه ومحاكمته وصلبه ، وأمكننا بذلك أن نستخلص من الأناجيل الأربعة ، الصورة التي يعتقد بها المسيحيون لصلب المسيح ، ونجد هنا أيضاً أن المسيحيين يقولون بأن السند الأول لاعتقادهم بألوهية المسيح ، هو ما ورد عن ذلك أيضاً في الأناجيل الأربعة ، ولقد يقال لذلك بأن علينا أن نستخلص ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون من الأناجيل الأربعة أيضاً ، تماماً كما فعلنا بالنسبة لاعتقادهم بصلب المسيح .(1/406)
ولكننا نقف هنا لنعلن عجزنا عن ذلك ، لأسباب عدة ، ولكنها بسيطة وواضحة ، فإذا كانت التفاصيل التي وردت في الأناجيل الأربعة عن القبض على المسيح ومحاكمته وصلبه ، قد وردت في وضوح وجلاء حتى أنها لا تثير أي خلاف حول حقيقة المعاني المقصودة منها ، فإن الآيات التي وردت في الأناجيل عن طبيعة المسيح عليه السلام ، ليست بهذا الوضوح الذي لا يثير الخلاف ، والسبب الثاني ، وهو مترتب علي هذا السبب الأول مباشرة ، وهو أن طبيعة المسيح عليه السلام قد ثار حولها الكثير من الخلاف بين المسيحيين أنفسهم ، حتى أن هذه الخلافات أدت إلى انقسام المسيحيين إلى مذاهب متعددة ، وهم في ذلك يستندون إلى ما جاء في الأناجيل نفسها ، ثم إنه إذا كانت أقوال المسيح والتي نسبت إليه في الأناجيل هي التي تحدد على أساس منها طبيعته ، فإن المسلم به لدي المسيحيين أنفسهم أن المسيح لم يقل عن نفسه في بادئ الأمر أنه الله ، وإنما عرفه الناس جميعاً رسولاً ونبياً ، وإنساناً بشراً ، ثم ، وكما يقولون أخذ يعلن شيئاً فشيئاً للمقربين منه فحسب ، عن ذاته الإلهية ، وعلى هذا فإنه يكون من المتيقن أن محاولتنا استخلاص ألوهيته كما يعتقد بها المسيحيون من مثل هذه الأقوال سيكون أمراً جد عسير ، ولا نحسب أننا يمكن أن ننتهي من ذلك على الإطلاق إلى صورة يقبلونها أو إلى الصورة التي يعتقدون بها .(1/407)
وإزاء ذلك ، فليس أمامنا لكي نتعرف على ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون أو بمعني أدق ، على طبيعة المسيح عليه السلام كما يعتقد بها المسيحيون ، إلا بأن نلجأ إلى تعريف المسيحيين أنفسهم لهذه الطبيعة وشرحهم لها ، محاولين أن نتعرف على هذه الطبيعة في مختلف مذاهبهم ، على أن ذلك قد يؤدي إلى الخوض في تفاصيل عديدة عن المذاهب نفسها ، ولذا فإنه قد يكون من المقبول أن نكتفي باختيار مذهب واحد من المذاهب المسيحية الكبيرة المعروفة ، مع الإشارة إلى ما يمكن الإشارة إليه من الاختلاف بين طبيعة المسيح فيه وطبيعته في المذاهب الأخرى بمقدار ما يسمح به مجال البحث .
وطبيعي أن تكون الصورة الرئيسية التي نختارها في هذا الخصوص ، هي أقرب الصور إلى أيدينا ، وأكثرها احتكاكا بنا ، وهي الصورة التي تقول بها كنيسة الإسكندرية عن طبيعة المسيح عليه السلام ، ومن حسن الحظ أننا نجد كتيباً صغيراً من منشورات كلية البابا كيرلس السادس اللاهوتية للكرازة المرقسية ، نشرته اللجنة العليا لمدارس التربية الكنسية الأرثوذكسية بالقاهرة ؛ في تعليم كنيسة الإسكندرية وأخواتها الكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة فيما يختص بطبيعة السيد المسيح ، ومما يزيد من أهمية هذا الكتيب واعتباره ؛ أنه في حقيقته ليس مجرد تعليم كنيسة الإسكندرية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة في هذا الصدد ، بل إنه كان أيضاً الكلمة التي ألقاها الأرشيدياكون الدكتور وهيب عطا الله جرجس - وهو دكتور في الآداب والدراسات المصرية والقبطية وحاصل على بكالوريوس في اللاهوت وليسانسية في الفلسفة - ممثلاً لوجهة نظر كنيسة الإسكندرية في المؤتمر العالمي الذي انعقد في مدينة القدس القديمة في المدة من 12 - 15 أبريل سنة 1959 ، ولذا فهو بغير شك يعتبر خلاصة وقمة تعاليم الكنيسة في هذا الصدد ، ولذا أيضاً ، والتزاماً للأمانة الكاملة ، فإننا ننقل تلك الكلمة كاملة فيما يلي :(1/408)
( ثمة مسألتان جديرتان بالنظر ، فيما يختص بكنيستا القبطية الأرثوذكسية المرقسية الإسكندرية.
الأولي : أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة شديدة المحافظة والاستمساك بالتعليم المسيحي القديم والتقليد الرسولى الأول .
يمكن أن يقال بصفة عامة أن شعبنا القبطي من أعرق الشعوب تديناً ، إن لم يكن أعرقها بالفعل ، على ما يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت ، هذه الخاصية لازمتنا لا منذ اليوم الذي أعتنقنا فيه دين المسيح فقط ، بل قبل ذلك بقرون طويلة ، أعني منذ بدأت الحضارة الأولى وقبل أن يبدأ التاريخ . فالشعور الديني موروث في شعبنا وحبه يجري في عروقنا ودمائنا ، ونحن لا نجرؤ على أن نغير في عقائدنا الدينية كما سلمتها إلينا كنيستنا ، ولقد نشأنا وتربينا على مبدأ المحافظة على تعليمنا المسيحي ، وعلى أن نسلمه إلى أولادنا والآتين من بعدنا بدون أي تحوير أو تغيير ، وعلى أن نتركه وديعة في أيديهم في صورته الأولي القديمة ، طاهراً من كل زيادة أو نقص ، طبقاً لأمر ربنا في سفر الرؤيا (( ولكن تمسكوا بما هو عندكم إلى أن أجئ )) .
الثانية : أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة روحانية عميقة ، أو هي كنيسة صوفية باطنية جوانية.(1/409)
لقد جابه قادتها الروحانيون الفلسفة والفلاسفة ، ومع ذلك عرفوا أن لا يخلطوا الدين بالفلسفة ، هذا الخلط هو أصل الهرطقة ، وأن أكثر الهراطقة بدأوا رجالاً أتقياء ولكنهم خلطوا الدين بفلسفتهم الخاصة فضلوا وهرطقوا . على أن الفلسفة في ذاتها نافعة ، وهي هامة وضرورية لرجال الدين واللاهوتيين ، يجب على رجل الدين أن يدرس الفلسفة ويتعمق في دراستها ليصبح على علم بأساليب الفلاسفة وطرق تفكيرهم ، ومن ثم يكون أقدر على أن ينفذ إلى عقولهم فيقنعهم بحقائق الديانة المسيحية . ولكن هناك فارق ضخم بين أن يقرأ رجل الدين الفلسفة ويناقش نظرياتها ، وبين أن يتحول الدين عنده إلى فلسفة ، ولعل من أكبر الأخطاء التي يقع فيها المفكرون أحياناً أن يظنوا أن المصطلحات والتعبيرات الفلسفية قادرة على أن تنقل نقلاً أميناً ودقيقاً للمعاني اللاهوتية ، إن المصطلحات الفلسفية لا تصلح دائماً أن تعبر تعبيراً صادقاً عما يريد الفلاسفة أنفسهم أن يبينوه ولهذا يضطرون أحياناً لضيق اللغة ، أن ينحتوا ألفاظاً جديدة للتعبير عن المعاني الجديدة التي يقصدونها ، وهناك فلاسفة آخرون يكتفون باستعمال الألفاظ المألوفة ولكن بمعاني أخرى جديدة مختلفة بعض الاختلاف ، أو بعيدة كل البعد عن المعاني المعروفة . وإذا كان ذلك كذلك فيما يتصل بدائرة الفلسفة ، أفلا يكون الأمر نفسه فيما يتصل بدائرة الدين والإلهيات ؟ بل ألا يكون حرياً بالأكثر في شئون ديانتنا أن لا نعتمد في فهم حقائقها واستيعاب معانيها على مصطلحات فلسفية إنسانية لاسيما إذا كانت هذه الحقائق تتعلق بالجوهر الإلهي أو الطبيعة الإلهية؟(1/410)
إني أجرؤ على أن أن أقرر أن الخلاف ، كل الخلاف بين الكاثوليك ومن يقولون بقولهم من أصحاب الطبيعتين كالبروتستانت وبعض الأرثوذكس الذين يعترفون بمجمع خلقيدونية من جانب ، وبين القائلين بالطبيعة الواحدة في السيد المسيح وممن لا يؤمنون بقانونية مجمع خلقيدونية من جانب آخر - أقول أن الخلاف بين هؤلاء وأولئك خلاف فلسفي صرف يقوم على أساس التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر عن الاتحاد الكائن بين لاهوت السيد المسيح وناسوته .(1/411)
أما نحن في الشرق ، فإننا نتخوف كل التخوف من استخدام مصطلحات فلسفية في تعريف أو تحديد معني أو حقيقة من الحقائق اللاهوتية فالكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية (وهي كنيسة الإسكندرية والكنيستان السوريانية والأرمنية) تؤمن بلاهوت المسيح كما تؤمن أيضاً بناسوته . ولكن المسيح عندهم طبيعة واحدة مع ذلك . وقد يبدو في هذا نوع من التناقض . ولكن على الرغم مما يبدو في هذا من تناقض منطقي عقلي ، إلا أن كنيستنا لا تري فيه شيئا من التناقض لأنها تنظر إلى طبيعة السيد المسيح نظرة صوفية روحانية ينحل فيها كل ما يبدو أمام الفكر البشري أنه متناقض أو محال ، هذه التجربة الصوفية أو الروحانية تعلو على كل تناقض عقلي أو فلسفي ، فيها لا يسأل المسيحي لم ؟ أو كيف ؟ إن ديانتنا أسرار نؤمن بها ونقبلها بكل يقين وإيمان لا لشيء إلا لأنها قد أعلنت لنا من الله ، ونحن نؤمن بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي ، لا لشيء إلا لأننا أيقنا أنها من الله ، وكما نؤمن بوجود الله وأنه قادر على كل شيء ، كذلك نؤمن بأسرار ديانتنا من دون أن نكون في حاجة إلى أن نسأل . لم ؟ أو كيف ؟ ولاشك أن العقل الفلسفي لا يستطيع أن يقبل هذا الإيمان الصوفي . ولكن العقل الفلسفي ليس في الواقع عقلاً روحياًَ على الحقيقة . أنه عقل لا يؤمن إلا بقدراته ومقاييسه وحدها. والديانة بالنسبة إلى العقل الفلسفي هي علم يمكن أن يوضع على قدم المساواة مع أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية ، والعقل الفلسفي يحاول أن يخضع الديانة لذات المنهج العلمي الذي تخضع له كل فروع المعرفة المادية . ومن هنا فقد يدخل إلى الدين مناهج التحليل والتصنيف والاستنباط والاستقراء ، وما إليها من أجل أن يجعله أكثر اساغة وقبولاً للعقل الفلسفي .(1/412)
ويا للأسف ، إننا لا نستطيع بهذا المنهج في معالجة المسائل الدينية والحقائق اللاهوتية ، أن نفهم روح الديانة ، فعندما يتدخل العقل ، تقف التجربة الروحية الصوفية ، بل تختفي ، إن لنا أن نستخدم عقولنا إلى حد معين ، وحينئذ يجب أن يقف العقل ويسلم قياده للتجربة الروحية الصوفية.
الإيمان الأرثوذكسى في طبيعة السيد المسيح
إن الإيمان الأرثوذكسى كما نعترف به في كنيستنا هو أن ربنا يسوع المسيح كامل في لاهوته ، وكامل في ناسوته ، ومع ذلك لا نجرؤ على القول أنه إله وإنسان معاً ، لأن هذا التعبير ينطوي على معني الانفصال بين اللاهوت والناسوت ، وإنما نقول بالحري أنه (( الإله المتجسد )) ، فاللاهوت والناسوت متحدان فيه اتحاداً تاماً في الجوهر ، وفي الأقنوم ، وفي الطبيعة ، ليس هناك انفصال أو افتراق بين اللاهوت والناسوت في ربنا يسوع المسيح . بل إنه منذ اللحظة التي حل كلمة الله في رحم السيد العذراء ، اتخذ الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس ، من دمها ، أي من دم العذراء ، جسداً بشرياً ذا نفس إنسانية ناطقة عاقلة ، واتحد بالناسوت الذي أخذه من القديسة مريم العذراء ، فالمولود من القديسة مريم ، إذن ، هو الإله المتجسد ، جوهر واحد ، شخص واحد ، أقنوم واحد ، طبيعة واحدة ، أو قل هو طبيعة واحدة في طبيعتين ، وبعبارة أخرى يمكن أن نتكلم عن طبيعتين من قبل أن يتم الاتحاد ، أما بعد الاتحاد فهناك طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين .
وعلى ذلك فالاتحاد الذي تقول به الكنائس الأرثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية يختلف اختلافاً جوهرياً وأساسياً عن نوع الاتحاد الذي يقول به يوطيخيا.
يقول يوطيخيا أن ربنا يسوع المسيح طبيعة واحدة ، ولكن على أساس أن ناسوت المسيح قد تلاشي تماماً في لاهوته ، اختلط به وانعدم فيه ، مثل نقطة الخل عندما تختلط بالمحيط ، فيوطيخيا ينكر في الحقيقة ناسوت السيد المسيح إنكاراً تاماً .(1/413)
وتقول الكنائس الأرثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية بأن السيد المسيح طبيعة واحدة تجتمع فيه جميع الصفات والخصائص الإنسانية أو الناسوتية وجميع الصفات والخصائص اللاهوتية ، بدون اختلاط ، وبدون امتزاج ، وبدون تغيير . وهذا هو الإيمان الذي يجهر به الكاهن في القداس القبطي عندما يتلو الاعتراف الأخير ، وهو يحمل الصينية المقدسة على يديه ، قائلاً :
" آمين ، آمين ، آمين ، أؤمن ، أؤمن ، وأعترف إلى النفس الأخير أن هذا هو الجسد المحيى الذي أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ، (أخذه) من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم ، وجعله واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ، ولا امتزاج ، ولا تغيير .... بالحقيقة أؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين " .
وعلى ذلك فصفات اللاهوت باقية ، وصفات الناسوت باقية ، ولكن في طبيعة واحدة .
" المسيح إذن من طبيعتين ، ولكن ليس هو طبيعتين بعد الاتحاد " كما يقول البابا ديوسقورس ، فاللاهوت امتزج بالناسوت ، ولا اختلاط به ، ولا استحال أحدهما إلى الآخر ، إنما اللاهوت والناسوت قد اتحدا . واتحادهما ليس من قبيل الاجتماع أو المصاحبة ، ولكنه اتحاد حقيقي بالمعني الحقيقي لكلمة اتحاد ، فقد صارا واحداً ، ولا مجال للقول بعد ذلك أن هناك طبيعتين ، وإلا فلا يكون الاتحاد صحيحاً أو حقيقياً .
ولكن كيف صار هذا الاتحاد ، أو كيف يكون لطبيعة السيد المسيح الواحدة صفات اللاهوت وصفات الناسوت معاً بدون اختلاط وبدون امتزاج وبدون تغيير ؟ أو كيف يكون للسيد المسيح صفات الطبيعتين ولا تكون له الطبيعتان ؟ هذا ما لا نعرف ، إنه سر من الأسرار الإلهية ، لا يمكن أن نفهمه أو نعيه أو نحتويه في عقولنا ، من هذا سمي في الاصطلاح الكنسي بسر التجسد الإلهي ، فنحن نؤمن بنوع من الاتحاد يفوق كل فهم بشري وكل تصور .(1/414)
قد تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة للعقل الفلسفي أو للعقل المادي ، وقد يكون فيها تناقض ، وقد يكون فيها ما يتعارض مع قوانين العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية ، كل هذا قد يكون صحيحاً ، ولكننا هنا في الشرق لا نسأل كيف ؟ ولماذا ؟ ، ولكننا نصدق ونؤمن بتجربة باطنية روحية صوفية عالية على كل منطق وعقل أن هذا أمر ممكن ، ذلك لأن الله أراده ، وإذا أراد الله شيئاً فهو ممكن ، وحتى لو كان هذا غير معقول للعقل المادي ، فإنه معقول للعقل الروحاني الذي لا يعرف لقدرة الله حدوداً . وهذا هو " الإيمان الذي بلا فحص " الذي يصرخ من أجله الكاهن القبطي في خدمة القداس الإلهي .
قد نتكلم أحياناً عن الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية ، لكن هذه التفرقة ذهنية بحتة لا وجود لها في الواقع بالنسبة للسيد المسيح ، الآله المتأنس ، ذلك أنه لم يحدث بتاتاً أن الناسوت واللاهوت كانا منفصلين أو مفترقين في الخارج ثم اتحدا معاً بعد ذلك ، إن ما حدث هو هذا : أن الاقنوم الثاني من اللاهوت القدوس نزل وحل في أحشاء البتول مريم وأخذ من لحمها ودمها جسداً ذا نفس إنسانية ناطقة عاقلة .
ولهذا أشار القديس يوحنا الإنجيلي بصريح العبارة و " الكلمة صار جسداً " ، وليست هناك لفظة أقوى دلالة على الاتحاد الحقيقي الكامل من كلمة صار . أليست هذه الآية وحدها تدل دلالة قاطعة على أن المولود من مريم طبيعة واحدة ، هي طبيعة الإله المتجسد ؟ ولو كان هناك معني آخر ، لما استعمل الوحي الإلهي كلمة " صار " . فليست هناك إذن ثنائية في طبيعة السيد المسيح ، بل طبيعة واحدة . وهذا برهان واضح على صحة التعبير الذي تتمسك به الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية : أن هناك طبيعة واحدة للكلمة المتجسدة.(1/415)
والاتحاد بين اللاهوت والناسوت في السيد المسيح يمكن تشبيهه بالاتحاد القائم بين النفس والبدن . فعلي الرغم من أن النفس طبيعة مغايرة في صفاتها ومميزاتها لطبيعة الجسم ، لكننا نري أن الإنسان طبيعة واحدة هي التي نسميها ( الطبيعة البشرية ) التي تجمع بين صفات روحانية وصفات مادية معاً .
ومع ذلك فهذا التشبيه ناقص لأن النفس تنفصل عن البدن بالموت ، أما الاتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت فغير قابل للانفصال أو المفارقة لحظة واحدة أو طرفة عين .
وقد يشبه الاتحاد بين اللاهوت والناسوت بالاتحاد القائم بين الفحم والنار ، في جمرة الفحم ، ففي الجمرة صفات الإضاءة والإحراق ، وفيها صفات المادية من كتلة ووزن وحجم .... الخ .
ومع ذلك فهذه المشابهات جميعها ناقصة ومعيبة ، ولا يمكن مقارنتها بالاتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت . إنه سر لا يعبر عنه ، يفوق العقول ، والأفهام البشرية .
ومرة أخرى نكرر القول إننا نؤمن بطبيعة واحدة ، هذه الطبيعة ليست هي اللاهوت وحده ، وليست هي الناسوت وحده ، إنها طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين معاً ، بدون اختلاط وبدون امتزاج وبدون تغيير .
أما بعد ، فيبدو أن الخلاف بين الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية والكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية ، مجرد خلاف في التعبير ، ذلك لأن كل فريق يقر بالاتحاد بين اللاهوت والناسوت.
وإني أري أن هذا صحيح إلى حد بعيد ، وأن الخلاف بين الفريقين هو خلاف في الحقيقة على التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر به المسيحيون عن إيمانهم بحقيقة الاتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت.(1/416)
ومع ذلك فكنيستنا المرقسية الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الأخرى التي لا تقر بقانونية مجمع خلقيدونية أسباب تحدوها إلى أن تتمسك بالتعبير " طبيعة واحدة للكلمة المتجسد " أو " طبيعة واحدة من طبيعتين " ، أو " طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير " . وهي الأسباب عينها التي ترفض من أجلها الإقرار بتعبير الغربيين " طبيعتان متحدتان " .
هذه الأسباب يمكن تلخيصها في النقاط الآتية :-
1- ليس هناك نص إنجيلي واحد يدل بوضوح على أن للسيد المسيح طبيعتين بعد الاتحاد .
على العكس تماماً فإن هذه النصوص المقدسة تساند التعبير (طبيعة واحدة لها صفات وخواص الطبيعتين) . ونحن هنا نكتفي بإيراد بعض هذه النصوص على سبيل المثال فقط .
قال يوحنا الإنجيلي " والكلمة صار جسداً " ، وهو تعبير كما رأينا يدل على الوحدة ولا يدل على الأثينية في طبيعة السيد المسيح .
جاء في سفر الرؤيا قول السيد المسيح عن نفسه " أنا هو الأول والآخر ، والحي وقد كنت ميتاً ، وها أنا حي إلى دهر الدهور ، ولي مفاتيح الموت والجحيم " .
وهنا نلاحظ أن الضمير " أنا " في هذه الفقرة لا يدل أبداً على اثينية ، وإنما يدل بالحرى على الاتحاد الحقيقي ، والطبيعة الواحدة ، فالسيد المسيح هو بعينه الأول والآخر ، وهو بعينه الحي الذي كان ميتاً .
وهذا المعني عينه يتضح أيضاً من قول السيد المسيح نفسه في إنجيل يوحنا " ولم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ، ابن البشر الذي هو في السماء " .
فهو إذن بعينه في السماء ، وهو بعينه في الأرض ، وهو ابن الله ، وهو ابن الإنسان ، هنا إذن هوية ، ووحدانية ، وليست هنا رائحة الاثنينية ، وإنما هو جوهر واحد ، وأقنوم واحد ، وطبيعة واحدة .(1/417)
ويقول القديس بولس في حديثه إلى الكهنة الذين اجتمعوا إليه في مدينة أفسس " احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه " .
فكيف أمكن للقديس بولس الرسول أن يقول عن الدم الذي افتديت به الكنيسة أنه دم الله نفسه إذا كانت هناك أية ثنائية في طبيعة المسيح بأي معني من المعاني ؟
والرسول بولس نفسه يقرر أيضاً في رسالته الأولي إلى كنيسة الله في كورنثوس قائلاً " لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد " .
وعلى ذلك فالمخلص المصلوب هو رب المجد نفسه ، مرة أخرى ليس هنا ثنائية في الطبيعتين ، وليست هنا طبيعتان ، إنما طبيعة واحدة هي طبيعة الله المتجسد .
وهذه الحقيقة عينها تتضح من نصوص أخرى كثيرة ، منها ما ورد في رسالة القديس بولس الأولى إلى تلميذه الأسقف تيموثيؤس " عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد " " المسيح يسوع .... الذي إذ هو في صورة الله لم يعتد مساواته لله اختلاساً . لكنه أخلي ذاته آخذاً صورة عبد صائراً في شبه البشر ، وإذ وجد في الهيئة كبشر ، وضع نفسه وأطاع حتى الموت ، موت الصليب "
وهناك فقرات أخرى كثيرة تؤيد القول بالطبيعة الواحدة منها (متى 3 : 17) ، ....
ثانياً : أن التعبير القائل بطبيعتين متحدتين للسيد المسيح - وهو التعبير الذي تقول به الكنائس الخلقيدونية - تعبير خطر لأنه يشتمل على معاني ، أو على الأقل على احتمالات بمعاني ، تتعارض مع حقائق ديانتنا المسيحية .
1- أنه يتضمن الثنائية في السيد المسيح ، والثنائية نوع من الافتراق والانفصال بين لاهوت السيد المسيح وناسوته . وإلا فلماذا تصر الكنائس الخلقيدونية على القول بطبيعتين متحدتين ، ولا يقولون طبيعة واحدة للكلمة المتجسد ؟(1/418)
2- أن تعبير الكنائس الخلقيدونية القائل " بطبيعتين متحدتين " يحمل التصريح بأن هناك طبيعتين للسيد المسيح ، كانتا مفترقتين ثم اجتمعتا معاً . وهذا يفتح السبيل للمذهب النسطوري بعينه ، وهو المذهب الذي ترفضه الكنائس الخلقيدونية نفسها رفضاً باتاً ، وتعتبره هرطقة فاسدة.
3- أن تعبير " الطبيعتين المتحدتين " تعبير هادم لقضية الفداء والخلاص الذي قام به السيد المسيح من أجل الجنس البشري .
لأنه إذا كان للسيد المسيح طبيعتان بعد الاتحاد ، فمن المنطقي أن عمل الفداء قام به جسم السيد المسيح ، لأنه هو الذي وقع عليه فعل الصلب ، وعلى ذلك ففداء المسيح ليست له أي قوة على خلاص الجنس البشري ، إذ يكون الذي مات من أجل العالم هو إنسان فقط ، مع أن الفداء يأخذ كل قيمته في أن الذي صلب عنا هو بعينه الكلمة المتجسد ، حقاً إن اللاهوت لم يتألم بآلام الصليب التي وقعت على ناسوت المسيح ، ولكن اللاهوت هو الذي أعطي فعل الصلب قيمته اللانهائية لفداء جميع أفراد النوع الإنساني .
إن التعبير " طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين " تعبير سليم ينقذ قضية الفداء من الانهيار ، بينما أن القول بطبيعتين متحدتين يقبل الاحتمال بأن الصلب كان صلباً لجسد يسوع فقط ، ولم يكن صلباً للمسيح باعتباره الإله المتجسد ، وهذا يفقد الخلاص كل قيمته التي يتعلق عليها فداء الجنس البشري بأسره وهو معني تعارضه كل نصوص الكتاب المقدس التي تتكلم عن الفداء .
ولسنا ، في حاجة إلى أن نكرر مرة أخرى ما قاله الرسول القديس بولس من أن الدم الذي سفك لافتداء البشرية هو دم الله عينه " كنيسة الله التي افتداها بدمه " .
4- إن تعبير الطبيعتين المتحدتين لا يستطيع أن يفسر اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية ، في أن القديسة مريم هي والدة الإله .(1/419)
لست أدري كيف يستطيع الكاثوليك والأرثوذكس الخلقيدونيون ، أن ينقذوا أو يبرروا اعتقادهم في أن السيدة العذراء هي والدة الإله ، إذا كانوا يصرون على القول بأن للسيد المسيح طبيعتين متحدتين ؟
أما التعبير بطبيعة واحدة للكلمة المتجسدة ، فهو وحده الذي يمكن أن يفسر الاعتقاد في أن العذراء والدة الإله ، من حيث أن الذي ولد من مريم هو الإله المتجسد ، ولو كان في المسيح طبيعتان لكانت العذراء والدة الإنسان يسوع فقط ، ولا يصح تلقيبها بوالدة الإله ، لأنها ليست أصلاً للاهوت ، فالقول بطبيعتين في السيد المسيح يسلم إلى الاعتقاد النسطوري الذي يؤيده البروتستانت بكافة نحلهم ومذاهبهم ، وهو أن العذراء ليست والدة الإله ، وإنما هي والدة الإنسان يسوع .
وبالإجمال فإن هذه هي أهم الأسباب التي من أجلها تتمسك الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية ( وهي الكنيسة المرقسية الإسكندرية في مصر وأثيوبيا وكل أفريقيا وفي الأردن وفلسطين ، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية) بالتعبير التقليدي " طبيعة واحدة للكلمة المتجسد " الذي قال به آباء الكنيسة من أمثال أثناسيوس الرسولي ، والبابا كيرلس الأول القلب بعمود الدين ، وترفض القول بطبيعتين متحدتين ، وهي الأسباب عينها التي تحدو هذه الكنائس غير الخلقيدونية إلى رفض الاعتراف برسالة أوطوموس ليون أسقف روما ، وبتحديدات مجمع خلقيدونية ، لأن كلا من تلك الرسالة وهذه التحديدات تشتمل على القول صريحاً بأن للسيد المسيح طبيعتين متحدتين ، وهو التعبير الذي ينطوي على احتمالات خطيرة من الوجهة اللاهوتية كما أسلفنا .
هذا هو الوضع اليوم ، الوضع الصحيح للمشكلة القائمة بين القائلين بالطبيعة الواحدة والقائلين بالطبيعتين ، وهي مشكلة التعبير الصحيح الذي يجب أن يعبر به المسيحيون عن اعتقادهم في لاهوت السيد المسيح وناسوته في نفس الوقت .(1/420)
ولاشك أن الكنائس الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية التي تقر بمجمع خلقيدونية ليست نسطورية على الإطلاق ، كما أن الكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة التي لا تقر بمجمع خلقيدونية ليست بأوطاخية على الإطلاق.
لذلك فإننا لم نفقد الأمل في أنه سيأتي إن شاء الله اليوم السعيد الذي يوفق فيه المسيحيون إلى التعبير الواحد الذي يترجم عن عقيدتهم في طبيعة السيد المسيح .
ولاشك في أننا في حاجة ماسة إلى مجمع مسكوني عام يضع صيغة هذا التعبير الموحد ، ولكن إلى أن تتحقق هذه الأمنية السعيدة يجب أن نرحب بالمؤتمرات .
فإنها السبيل الوحيد بين اللاهوتيين في الوقت الحاضر لتقريب وجوه النظر وتصحيح الأفكار الخاطئة التي يحملها الغرب على الخصوص عن عقيدة الكنيسة المرقسية الإسكندرية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة ، وإتهامها بالأوطاخية ذلك الاتهام الذي ليس له على الإطلاق سند من واقع .
فلنصل إلى الله من أعماق قلوبنا من أجل وحدة كنيسة المسيح ، حتى يمكنها أن تحمل مشعل الحق الإلهي ، وتكرز بإنجيل المسيح بغير عثرة ، وتهدم صروح الشر ، وتقاوم الإلحاد والمادية.
إن وحدة الكنيسة الجامعة الرسولية ليست فقط تطابق إرادة الله المقدسة ولكنها الشرط الذي اشترطه السيد المسيح من أجل نشر رسالته بين غير المسيحيين لأنه يقول (ولست أسأل من أجل هؤلاء (التلاميذ) فقط ، بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي عن كلامهم ، ليكونوا بأجمعهم واحداً كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا حتى يؤمن العالم أنك أنت أرسلتني ) ).(1/421)
هذه هي الكلمة التي جاءت في ذلك الكتيب ، وقد أوردناها كما هي ، وفقط وضعنا نقطاً مكان فقرة تشير إلي أرقام آيات دون أن تبين الآيات نفسها ، وكما وجدنا فإن هذه الكلمة تلقي بعض الضوء على الخلاف الكنائس التابعة للمذاهب الأخرى حول طبيعة المسيح عليه السلام ، ولكنها لا تلقي ضوءاً على الخلاف كله والواقع أن إلقاء الضوء على الخلاف كله سيجرنا إلى ما ليس مجاله هذا البحث ، ولذا سنكتفي بما سبق ؛ ولعله قد وضح منه تماماً لماذا كان عجزنا ابتداء عن أن نستخلص بأنفسنا من الأناجيل الأربعة المتداولة ، ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون ، فقد وضح بجلاء أن المسيحيين أنفسهم لم يستطيعوا أن يستخلصوا من هذه الأناجيل ولا غيرها من أسفار العهد الجديد تعبيراً واحداً عن هذه الطبيعة يتفقون عليه جميعاً ، حتى أنهم ليصلون من أجل الوصول إلي مثل هذا التعبير من أجل وحدة الكنيسة نفسها .
المبحث الثاني
عدم ألوهية المسيح كما يعتقد المسلمون
وهنا نجد أن القرآن قد أفاض في هذه المسألة بالذات بنصوص صريحة لا تحتمل اللبس أو الشك وبحيث أن المسلم يخرج من القرآن بفكرة محددة واضحة لا خلاف عليها بين المسلمين جميعاً بالنسبة لطبيعة المسيح عليه السلام ، كما يجب أن يؤمن بها ولذا فإننا سنبدأ هنا ببيان بعض من هذه الآيات ، لنتبين منها اعتقاد المسلمين في هذا الشأن .
(إذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ........................................................................... هذا صراط مستقيم ) [آل عمران : 45 - 51]
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .) [آل عمران : 59]
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس ........................ تدرسون) [آل عمران : 79](1/422)
(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق .................. ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً ) [النساء : 171 - 172] .
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ....................... وضلوا عن سواء السبيل ) [المائدة : 72 - 77].
(وإذ قال الله يا عيسي ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ................... وأنت على كل شيء شهيد ) [المائدة : 116 - 117].
(وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصاري المسيح ابن الله ذلك قولهم ............. سبحانه عما يشركون) [التوبة : 30 - 31]
(واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً . ................................................... فإنما يقول له كن فيكون) [مريم 16 : 35]
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ........... إلا آتي الرحمن عبدا) [مريم 88 : 93](1/423)
هذا كله وغيره ورد في القرآن عن المسيح عليه السلام ، هو رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم ، وقول القرآن فيه ذلك ، جعل من المسيحيين من حاول الربط بين الكلمة (كلمته) هذه ، وبين ما بدأ به يوحنا البشير إنجيله من قوله (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله) (ص 1 : 1) ، وقوله بعد ذلك (والكلمة صار جسداً ....) (ص1 : 4) ، فيرون من ذلك أن القرآن يستعمل نفس التعبير الذي استعمله إنجيل يوحنا عن المسيح وهو الكلمة ، ويحاولون الوصول من ذلك إلي القول بأن القرآن يعترف بألوهية المسيح ، وذلك منهم ليس مجرد تفسير خاطئ ، بل هو تلفيق تأباه الآيات نفسها ، وقد طالعنا فيها مرتان ، الأولى في سورة آل عمران عندما بشرت الملائكة مريم بكلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم ، وتساءلت أني يكون لها ولد ولم يمسسها بشر (قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضي أمراً فإنما يقول له كن فيكون) ، كما قرأنا مثل ذلك في سورة مريم حيث قرأنا (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمراً فإنما يقول له كن فيكون) فكلمة الله المقصودة هنا هي كلمة (كن) التي يلقيها إلي العذراء مريم (فيكون) المسيح عليه السلام (1).(1/424)
من القرآن أذن ، أن المسيح عليه السلام خلق بكلمة من الله سبحانه وتعالى قال كن ، ألقاها إلي البتول مريم العذراء ، فكان ما أراد ، كان المسيح عيسي ابن مريم ، تكلم عليه السلام في المهد صبياً ، وكان رسولاً إلي بني إسرائيل ، جاءهم بآية من ربهم أنه يخلق لهم من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله ، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم آية لهم إن كانوا مؤمنين ، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وليحل لهم بعض الذي حرم عليهم ، ودعا إلى عبادة الله ربه وربهم ، ومثل عيسي الذي ولد من غير أب ، كمثل آدم الذي خلق من غير أب أو أم ، خلقه الله من تراب فقال له كن فكان ، وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يدعو الناس لعبادته هو من دون الله ، فالمسيح لا يمكن أن يكون قد قال شيئاً من ذلك ، ويؤكد القرآن بما لا ريب فيه ولاشك ولا لبس ولا أدني غموض ، أن القول بأن المسيح هو الله كفر ، القول به كذلك على أية صورة تصوره لها هو في حكم الإسلام كفر .
وهكذا يتضح لنا بجلاء ، أن المسيح عليه السلام في الإسلام هو رسول نبي بشر ، ولم يكن هو الله ، ولم يكن إلهاً في يوم من الأيام ، بل ولم يدعي هذه الألوهية أبداً ، فلم يدع الناس أبداً لي أن يعبدوه من دون الله ، بل إنه لكفر القول بأنه هو الله ، ورمي من يقولون بأن المسيح هو الله بالكفر مفهوم ، ذلك أنه إذا كانت الحقيقة أن المسيح عليه السلام ليس إلا رسولاً نبياً إنساناً بشراً وليس هو الله ، فإن القول بالرغم من ذلك بأنه هو الله يكون من غير شك بمثابة الكفر بالله نفسه .
الفصل الثاني
المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين
ألوهية المسيح وعدم ألوهيته(1/425)
وجدنا في الباب السابق ، أن المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين صلب المسيح عليه السلام أو عدم صلبه ، كان في البحث عما ورد في العهد القديم وبالذات في سفر المزامير من نبوءات عن ذلك ، ووجدنا أن اعتماداً نبوءات العهد القديم كنبوءات صحيحة يتعين أن تتحقق وقد تحققت بالفعل ، هي من الأسس التي تقوم عليها دراسات المسيحيين وأبحاثهم دون المسلمين ، إلا أننا وجدنا فيها مع ذلك معياراً صحيحاً تقضي الأصول السليمة للبحث عن الحقيقة بأن يقبله المسلمون أيضاً.(1/426)
ونحن نجد هنا أيضاً أن المسيحيين يقولون بأن نبوءات العهد القديم تشير إلي أن المسيح سيكون هو الله أيضاً ، ولقد يقال لذلك أننا يجب أن نتخذ من نبوءات العهد القديم معياراً للكشف عن الحقيقة بشأن طبيعة المسيح عليه السلام في هذا الباب أيضاً ، ما دمنا قد وجدنا فيها من قبل المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه ، ولكن هذا القول مردود في هذا الباب بالذات ؛ ذلك أن مفهوم النبوءة التنبؤ بعمل أو بحادث أو بأمر يقع في المستقبل ، أما التنبؤ بطبيعة فهذا غير مفهوم ، ولذا كان طبيعياً أن نبحث عن نبوءة تقول بأن المسيح سيصلب أو سيخلصه الله ويرفعه إليه ، أما أن نبحث عن نبوءة تقول أن المسيح سيكون إلهاً ، أو لن يكون إلهاً ، فهذا غير مقبول ، بل تعليق الكون على المستقبل ينفي الإلوهية نفسها والتي تستلزم الدوام والاستمرار ، وصحيح هنا أنه يمكن البحث عن نبوءة بأن الله سيتجسد من مريم العذراء ومن الروح القدس بعد أن ينزل فيكون المسيح كما يقولون ، ولكن لا توجد مثل هذه النبوءة على الإطلاق ، ولا يوجد من قال بمثلها (1) ؛ ثم إن التنبؤ عن المسيح دون الإشارة إلي طبيعته مفروض معه أنه إنما سيكون إنساناً وإن ولد من عذراء ما دامت النبوءة لم تشر إلي أنه الله قد تجسد ؛ ولذا فإن نبوءات العهد القديم لن تكون ذات جدوى على هذا النحو في الكشف عن الحقيقة بين ألوهية المسيح عليه السلام أو عدم ألوهيته.(1/427)
تري ؛ هل يعز علينا الوصول إلي المعيار الصحيح إذن ، إن الأمر ليبدو على هذا النحو غاية في الصعوبة والدقة ، ولكن ، لا أظننا بعاجزين عن الوصول إلي هذا المعيار ، ولعل عوداً بنا إلي الماضي ، إلي ميلاد المسيح ونشأته وحياته بين الناس بشراً مثلهم ، ثم رسولاً نبياً ينشر الدعوة بينهم ، ثم كيف تطور الأمر بعد ذلك حتى اعتبره الأمر بعد ذلك حتى اعتبره البعض إلهاً ، ورأ,ا فيه الله سبحانه وتعالى ، كل ذلك بالإضافة إلي إيمان المسيحيين والمسلمين على السواء بكل ما يصدر عن المسيح عليه السلام ، لعل كل ذلك يكشف لنا عن المعيار الصحيح للوصول إلي الحقيقة بين الفرضين موضوع البحث ، المعيار الذي يفترض قبول الجميع له ، ولا يقبل من أي أن يرفضه .
ولعلنا نجد ما يساعدنا في الوصول إلي ما نريد في كتاب حياة يسوع وهو كتاب (سيرة المسيح الشعبية) تأليف الدكتور بترسن سميث (وقد نقله إلي العربية السيد / حبيب سعيد - الطبعة الثانية - الصادرة عن (دار الشرق والغرب) ) ، ويبدو أن هذا الكتاب من الأهمية بمكان حتى أنه - وكما أشار مترجمه - قد أعيد طبعه إحدي وثلاثين مرة باللغة الإنجليزية خلال ثماني سنوات ؛ ونقرأ في الصفحتين 24 و 25 من الكتاب قوله :(1/428)
( خلال حياة السيد المسيح لم يفكر أحد قط من التلاميذ - في هذا الموضوع - الميلاد العذراوى للمسيح - فإن التفكير فيه قبل إدراك ألوهية المسيح كان يحسب من الأمور السخيفة السابقة لأوانها ، والتي لا يمكن تصديقها ، وإن تكتم الأم العذراء (التي حفظت جميع هذه الأمور في قلبها) يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن روايتها لم تفش إلا لنفر قليل من الأخطاء ، وكيف لا يكون ذلك والأمر دقيق يتطلب بطبيعته التمنع والإحجام عن إذاعته في وقت كان ينظر فيه إلي المسيح كمجرد إنسان ، ونحن مع توقيرنا لسر التجسد يصعب علينا جداً أن ندرك حقيقة الموقف يومئذ . ولكن التاريخ يفضح كل شيء ويروى لنا كل الفريات المستقبحة التي أذاعها أعداء المسيحية فيما بعد ، وهل تستطيع الأم المباركة نفسها أن تنسي ذلك اليوم المشئوم القاسي ، يوم ارتاب خطيبها في طهارتها وعفتها وأراد أن يخليها سراً ؟ وكيف كان يمكنها أن تذيع في عالم مشبع بالشكوك والافتراءات ذلك الاختبار الفريد الفذ في ذاته قبل أن تدرك في نفسها ألوهية المسيح ومعني الميلاد العذراوي؟
ولا يغرب عن البال أن التلاميذ قبلوا المسيح في بادئ الأمر كإنسان . وقد كان هذا هو القصد الإلهي الذي أراده المسيح . فإنه كأنسان اكتسب عطفهم وإعجابهم واحترامهم ، وتدريجياً أخذت أحاسيسهم تتعمق وتزداد في الدهشة والرهبة ، في الحيرة والتردد وقد جاروا في أمرهم ، ولم يرد هو أن يجلو ما غمض عليهم ولكنه احتفظ بالسر الإلهي ، وحتى عندما لمحوا وميضاً منه منعهم من أن يتكلموا . وحتى بعد التجلي أمرهم أن يصمتوا إلي أن (يقوم ابن الإنسان من الأموات) . ولم يبدأ بإعلان ذاته إلا قبيل نهاية حياته ، فقال لهم (أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي) - (أنا والآب واحد) - (يوما ما سآتي لأدين الأحياء والأموات).(1/429)
ولم يشرق عليهم فجر هذا الإعلان الهائل إلا بعد القيامة ، والأربعين يوماً التي قضاها متردداً عليهم ، والصعود إلي السماء ، ونزول الروح القدس عليهم - وبعد هذا كله أدركوا في رهبة وخشوع من كان ذلك الشخص العجيب الذي قضي معهم ثلاث سنوات في فلسطين ، فكتب أحدهم : ( الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده ، مجداً كما لوحيد من الآب) .)
وهكذا بين لنا الكاتب في إيجاز أن ألوهية المسيح لم تخطر على بال أحد منذ ميلاد المسيح ، وإنما يقبله الجميع أولاً كإنسان فحسب ، ثم بدأت فكرة ألوهيته كما يقول الكاتب تنمو في الأذهان شيئاً فشيئاً ولكنها لم تتضح تماماً إلا بعد رفع المسيح عليه السلام ومضي نحو أربعين يوماً.
ويعود الكاتب ابتداء من صفحة 31 إلي التفصيل في بعض ما أوجزه فيقول :
(ولا يسع الباحث إلا أن يفكر في موقف العذراء الأم إزاء ولدها يسوع . هل حسبته (إلهاً) ابن الآب الأزلي ؟
إن رواية الإنجيل تجعل هذه الفكرة محالة . كما أن العقل لا يسلم بها . وإلا كيف أمكن تربيته كصبي بشري عادي خاضعاً لوالديه (يتقدم في الحكمة والتامة عند الله والناس)؟ وإلا كيف استطاعت أن تؤنبه على توانيه في الهيكل مع أحبار وعلماء اليهود ؟ وكيف عالجت شئونه كلها كطفلها الخاضع لها ؟ إن فكرة (ألوهيته) لو كانت عرفت في بادئ الأمر لهالت كل إنسان وتعذر معاملته كصبي بشري ، ولكانت الحياة العائلية غير محتملة وغير ممكنة ، ولذهب هباء قصد التجسد الذي انطوي على أن يكون المسيح إنساناً كاملاً ينمو تدريجياً في الحياة الشخصية والإدراك البشري.
كلا . إن العذراء لم تفكر في ولدها كإله . قد عرفت أنه المسيح المنتظر الموعود به ولكن اليهود كانوا يعتنقون أفكاراً مبهمة غامضة عن المسيح . عرفت أن ميلاده المعجز جعله فريداً عديم المثال ، ولكنها لم تدرك سر (ألوهيته) الهائل الذي لم تفطن إليه ولم تعرفه إلا مؤخراً .(1/430)
وحتى التلاميذ أنفسهم لم يدركوا هذا السر الهائل إلا قبيل نهاية حياته . لأن سر ألوهيته ظل مكتوماً أكثر سني حياته على الأرض حتى يتسع له المجال لينمو إنساناً كاملاً يتذوق اختبارات البشر ، وليعرفه الناس كصديق بشري ، وليجرأ بطرس على توجيه الأسئلة إليه ، وليضع يوحنا يده على صدره بلمسة الحب والعطف ، وليجد الأطفال الصغار حناناً بين ذراعيه ، وليقبل إليه العشارون والخطاة في جسارة لا تكلف فيها . وكيف كان يمكن أن يحدث كل هذا لو عرفوا من بادئ الأمر أنه (الله) ؟
ولكننا نراه يزيح اللثام تدريجياً عن هذا السر كلما اقتربت نهاية الحياة ، ونري في الرسل شعور الدهشة والحيرة يتزايد . ونراهم يذهلون أحياناً ويصمتون أمام تلميحات عارضة عن هذا السر الهائل . ولكنهم لم يفطنوا إليه ويدركوه تماماً إلا بعد موته وقيامته وصعوده بمجد وإرسال الروح القدس ، عندئذ أخذوا يرجعون بذكرياتهم إلي الوراء خلال ثلاث سنوات انقضت في صحبته ويتعجبون كيف أمسكت عيونهم عن معرفة ما عرفوه الآن من أن (الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً) .
وهل لنا أن نتقدم بوقار خطوة إلي الأمام ؟ ونحن الآن على أرض مقدسة نواجه أسراراً خالدة . ولكن لا يسعنا إلا التفكير فيها . ونرغب جد الرغبة أن نفهمها بقدر ما تصل إليه أفهامنا ، وتري ماذا كان شعور الطفل الإلهي عن نفسه ؟(1/431)
ولزاماً علينا قبل كل شيء أن نؤمن بناسوته كما نؤمن بلاهوته . فقد صار (إنساناً تاماً) مثلنا في كل شيء ما عدا حماقتنا وعصياننا وخطيتنا وكان الصبي يسوع غلاماً بشرياً . ونحن نتعجب ونتساءل قائلين . ترى متي بدأ هو أن يدرك (نفسه) ويعرف الأعماق التي لا غور لها داخل (نفسه) ؟ ألم يحدث أن ساوره أحياناً خلال صلواته في عهد الصبوة شعور الرهبة . وأحس - ولو إحساساً ضئيلاً - بعظمة منسية وبعالم من النور والجمال يفوق كل شيء مما رأي على الأرض ؟ ألم يفطن الصبي إلي حقيقة نفسه ويفهم دعوته وسبب مجيئه إلي هنا؟
نحن نعلم أن قبوله البشرية وحدودها الضيقة معناه الانتقاص من إدراكه الكامل لحقيقة عظمته في العالم الأزلي . ولولا ذلك لما استطاع أن يكون إنساناً كاملاً ، ولكن نجرأ على شيء آخر ، ويخامرنا فكر بأن سر يسوع نفسه كان مستكناً في (عقله الباطن) بشكل ما ، بينما كان يشعر بإدراكه العادي المستيقظ أنه غلام بشري طبيعي .....
ولسنا نحسبه عدم احترام من جانبنا أن تجول مثل هذه الأفكار بمخيلاتنا ، ولكن يليق بنا ألا نذهب إلي أبعد من هذا .)
فالمسيح عليه السلام ، وعند المسيحيين أنفسهم ، قد ولد إنساناً ، وعرفته أمه إنساناً ، وعرفه الناس جميعاً إنساناً ، ثم قبلوه إنساناً نبياً ورسولاً بشراً ، ولم يدر بخلد أحد منهم أنه إله أو أنه الله نفسه ، إلا في الأيام الأخيرة كما يقول الكاتب ، حين بدأ كما يقول يلمح إلي ألوهيته في خفاء ، ودون أن يقبل نشرها بين الناس أو إعلانها لهم ، حتى أن هذه الألوهية لم تعرف تماماً إلا بعد رفعه ومرور فترة من الوقت بعد ذلك.(1/432)
ولكن يلاحظ أنه وحتى بعد كل ذلك ، فإن ما قيل عن ألوهية المسيح عليه السلام ؛ لم يكن الأمر المقبول أو المسلم به بين المسيحيين جميعاً ، بل ظل هناك من ينفون عن المسيح هذه الألوهية المقال بها ، حتى أن يوحنا كتب إنجيله للرد على هؤلاء ، وفي هذا نقرأ في كتاب رب المجد الذي سلفت الإشارة إليه في صفحة 241 منه :
( وقال إيريناوس أيضاً - وذلك في القرن الثاني كما في الكتاب - أن يوحنا الإنجيلي قصد ببشارته الرد على الضلال الذي قرر كبرنثوس الهرطوقي في عقول الناس والذي جاء أولاً من جماعة النيقولاوبين ولكي يقنعهم بأنه لا يوجد إلا إله واحد قد خلق جميع الأشياء بكلمته .
وايرونيموس يثبت شهادة إيريناوس هذه إذ يقول : ( ولما كان يوحنا في آسيا قامت هرطقات أبيون وكيرنثوس وغيرهم ممن أنكروا لاهوت المسيح وهم الذين يدعوهم في رسالته أضداد المسيح والذين كثيراً ما يذمهم بولس في رسالته فالتزم يوحنا بسبب طلبه جميع أساقفة آسيا ورسل كنائس أخرى كثيرة أن يكتب بالتصريح عن لاهوت مخلصنا ويتقدم في خطاب سام كثير الشجاعة والمناسبة عن الكلم ) .)
ونقرأ أيضاً في صفحتي 242 و 243 من نفس الكتاب :
(وقال أيضاً هذا الأب المعلم في كتابه المعنون بمشاهير الأنام - أن يوحنا كتب بطلب أساقفة آسيا ضد كيرنثوس وغيره من الهراطقة خصوصاً ضد تعليم الأبيونيين الذين قاموا في ذلك الزمان وكانوا يقولون أن المسيح لم يكن له وجود قبل ولادته من مريم فلذلك التزم أن يعلن طبيعته الإلهية).(1/433)
هذا هو المسيح عليه السلام ، وعند المسيحيين أنفسهم ، وهذا هو ميلاده ونشأته وحياته ودعوته ، ولد من العذراء الطاهرة ، مريم الصديقة عليها السلام ، التي اصطفاها الله سبحانه وتعالى على نساء العالمين لتكون أم المسيح ووالدته ، ونشأ عليه السلام طفلاً تربي في أحضان والدته التي لم تعرف فيه غير طفل ولدته من غير أن يمسسها بشر ، وعاملته على هذا الأساس ، وعامله الناس جميعاً على هذا الأساس ، وفي هذا مازال اللقاء قائماً بين المسيحيين والمسلمين ، وكبر الفتي وأصبح شاباً ثم رجلاً ، ولم ير فيه الناس ، وكذلك أمه ، غير إنسان بشر مثلهم ، وإلي هنا مازال المسلمون والمسيحيون على لقاء ، ثم بدأ عليه السلام يبشر بدعوته ورسالته ويكرز بالإنجيل فعرفه الناس رسولاً نبياً فوق كونه إنساناً بشراً مثلهم ، وإلي هنا فمازال اللقاء قائماً بين المسيحيين والمسلمين ، بل ولقد مضى بعد ذلك مستمراً في نشر دعوته ورسالته مكرزاً بالإنجيل ، سنة ، واثنتين وربما ثلاث ، وربما أيضاً أكثر قليلاً ، وإلي هنا ، فإنه لم يخطر بعد ببال أحد من أتباعه أو من أخص خاصته المقربين إليه ، أن يكون هذا الرسول الذي يعيشون معه ويرون معجزاته ويعلمون بميلاده العذراوي ، بل ويعلمون أيضاً بأنه المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم ، وإلي هنا فما زال المسيحيون والمسلمون على لقاء .
ولكن ، إلي هنا أيضاً يقف اللقاء ، فبعد ذلك يقول المسيحيون أن ألوهية المسيح بدأت تتجلي لأتباعه شيئاً فشيئاً ، حتى أعلنها لتلاميذه بنفسه ، وإن طلب منهم إخفاءها إلي حين ، ولم تتجلي هذه الألوهية كاملة إلا بعد ما قالوا به من صلب المسيح وقيامته بعد دفنه وبقائه معهم أربعين يوماً وحلول الروح القدس عليهم ، وبتجلي إعلان ألوهية المسيح على هذا النحو ، آمن أتباعه بها إلا البعض الذين يري المسيحيون أنهم هرطقوا ونفوا عنه هذه الألوهية .(1/434)
ولعل المعيار قد بدأ الآن يتضح ؛ فهناك فترة طويلة ، بل أطول فترة في حياة المسيح ، ظل الجميع خلالها على السواء لا يرون فيه غير إنسان بشر مثله مثل سائر الناس ، إلا أنه ولد من عذراء ، لم يمسسها بشر ، وفي هذا ، وحتى آخر هذه الفترة يتفق إيمان المسيحيين تماماً مع اعتقاد المسلمين بشأن طبيعة المسيح عليه السلام ، والمعيار الذي يكشف لنا عن الحقيقة بشأن تلك الطبيعة يكون إذن في بيان ما إذا كان ما تلا هذه الفترة يؤدي بالفعل إلي القول بألوهية المسيح أم لا .
على أن المعيار لازال على جانب من الغموض والإيهام ، فما هي الأشياء التي ستتخذ أساساً للبحث في هذا المعيار ، والتي يتعين أن تكون مقبولة لدي المسيحيين والمسلمين علي السواء ، وهنا لا نجد أموراً يصح أن تكون مقبولة عند البحث في هذا المعيار غير أقوال المسيح نفسه عليه السلام ، فهي على اختلاف النظر إلي طبيعة المسيح بين المسيحيين والمسلمين ، فهم يتفقون معاً على تقدير هذه الأقوال ؛ فهي عند المسيحيين أقوال الله نفسها ومن ثم يتعين الالتزام بها مباشرة ، وهي عند المسلمين أقوال موحي بها إلي المسيح عليه السلام من الله ومن ثم يتعين الالتزام بها مباشرة أيضاً ، وعلى هذا فالمعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة هو في أقوال المسيح نفسه عليه السلام ، والتي يثبت لنا صدورها منه ، وإن من المفيد بلا شك ، لمحاولة إلقاء الضوء على الحقيقة كاملة ، ألا نتتبع أقوال المسيح عليه السلام عن نفسه في فترة زمنية معينة ، وإنما نتتبع هذه الأقوال منذ البداية .
وليس أمامنا من وثائق يمكن أن نتتبع فيها هذه الأقوال غير الأناجيل المتداولة الأربعة نفسها (1) ، ولعل فيما سبق أن بحثناه في الباب السابق عن كيفية كتابة أسفار العهد الجديد وحقيقة الوحي المقال به في كتابتها ، وفي خطورة الموضوع الذي نحن بصدد البحث عن الحقيقة بشأنه ، ما يحتم علينا أن نتقيد بأمور معينة في البحث .(1/435)
وأول هذه الأمور أن ما نحن بصدد بحثه هو من أخطر الأمور الدينية ، بل هو أخطرها جميعاً ، فها نحن ذي نقف مع تلاميذ المسيح عليه السلام ، مع أتباعه وحوارييه ، الذين آمنوا به رسولاً نبياً ، وإنساناً بشراً مثلهم ، ولم يظهر بعد هذا الاعتقاد الذي يقول بأن المسيح هو الله ، والخطوة التالية هي تحديد طبيعة المسيح الحقيقية ، والأصل هنا أنه عرف وآمن به الناس كإنسان بشر ، فإذا كانت هذه هي حقيقته الوحيدة بالفعل ، فإن القول بألوهيته رغم ذلك يكون كفراً بالله نفسه ، وهذه الصورة لتأنيس الإله ، لم ترد بعد في ذهن أي من تلاميذه وحوارييه وأتباعه ، وليس من المعقول على الإطلاق أن يتقبل الإنسان بيسر القول بأن إنسان آخر عرفه الناس ولم يعرفوا فيه غير كونه إنساناً ، أنه الله نفسه ، ولذا فلابد من الاحتراس ، ومن الحذر ، كثيراً جداً وإلي أبعد حد ، في البحث في هذه الألوهية التي قيل بها ، لأن القول بها خطأ كما قدمنا ، لن يكون إلا كفراً بالله نفسه ، وهذا ما لم يقصد إليه أحد ممن يؤمنون بالله .(1/436)
أما الأمر الثاني ، فهو أنه قد ثبت لنا بحق ، في الباب السابق ، عدم صحة ما قيل من أن أسفاراً العهد الجديد موحي بها من الله على أية صورة كان هذا الوحي ، وبالطبع ، فليس ثمة محل لتكرار ذلك الذي رددناه في هذا الصدد في الباب السابق ، وإنما يكون البحث في هذا الباب على أساس من أن أسفار العهد الجديد غير موحي بها ، ولا يقال هنا أننا خرجنا على ما التزمنا به في الباب الأول من افتراض صحة الأناجيل المتداولة ، وألا نقيم دليلاً يجعلنا نرفضها برمتها ، لأننا إنما نتقيد بافتراض صحتها فيما لا نقيم الدليل على عدم صحته ، وهذا ما لم نخرج عليه بالقول بثبوت عدم صحة ما قيل من أنها موحي بها ، لأن هذا القول لا يعفينا بأي حال من ضرورة إقامة الدليل على عدم صحة ما نقول بعدم صحته ، كما أن هذا لا يعد دليلاً نقيمه لرفض الأناجيل المتداولة برمتها ، لأننا إنما نقيم البحث على أساس منها وحدها.(1/437)
أما الأمر الثالث الذي يجب أن نتقيد به ونراعيه ، فهو أننا قد لاحظنا من قبل أن كتبه الأناجيل الثلاثة الأولى ، فقد أوردوا لهذا السبب على لسانه في هذه الأناجيل أن مجيئه وانقضاء الدهر سيكون قبل أن يمضي هذا الجيل الذي كان يتحدث إليه ، وهذا ما وجدنا بحق أنه لم يحدث في الواقع ، ولهذا فإنه ينبغي ألا يفوتنا أن كتبه هذه الأناجيل أنفسهم كانوا ممن آمنوا بألوهية المسيح ، ولذا ينبغي التدقيق إلي أقصي حد فيما يثبتونه على لسان المسيح ويدل على ألوهيته ، وذلك باستعراض الوقائع التي يرد فيها هذا الكلام ، ومقارنتها بما ورد مماثلاً لها في الأناجيل الأخرى ، حتى نخرج بحقيقة ما قاله المسيح نفسه ، خشية أن يكون إيمانهم بألوهية المسيح قد حدا بهم إلي أن يثبتوا على لسانه ما لم يقله قصداً منهم إلي إثبات هذه الألوهية له ، كما دفعهم من قبل توقعهم عودة المسيح بمجد وتاريخ مبكر ، إلي أن يثبتوا على لسانه أن مجيئه وانقضاء الدهر سيكون في جيلهم ، وهو ما انتهينا إلي أنه لم يقله .(1/438)
أما الأمر الرابع ، فهو التشديد بالذات بالنسبة لما ورد في إنجيل يوحنا ؛ والاهتمام إلي أقصى حد بمطابقة على ما ورد في الأناجيل الثلاثة الأخرى ، لما بان لنا من قبل من أن هذا الإنجيل ، إنما كتب أصلاً للرد على من نفوا ألوهية المسيح ، وكاتب هذا الإنجيل لا يخفي هذا القصد ، إذ نراه يقول في الإصحاح قبل الأخير من إنجيله وفي نهاية ذلك الإصحاح (وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب . وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه .) (ص 20 : 30 و 31) ، وثبوت قصد الكاتب على هذا النحو من كتابته لهذا الإنجيل ، مع وجود أناجيل أخرى عديدة وقت كتابته علمنا من قبل أنها طوردت وأحرقت ولم يبق منها غير الأناجيل الثلاثة الأخرى ، كل ذلك يوجب الحذر ، بل وربما التشكك ، في كل ما يثبته هذا الكاتب على لسان المسيح مقرراً ألوهيته ، خاصة إذا لم يتطابق مع ما ورد في الأناجيل الأخرى .
وأما الأمر الخامس ، فهو أننا أيضاً قد أثبتنا بحق في الباب السابق ، عدم صحة ما قيل عن ظهور المسيح بعد رفعه ، ولذا فلا داعي لتكرار ما قلناه في ذلك ، ويكفي هنا عدم بحث ما قد يكون قد أثبت على لسان المسيح في الأناجيل في تلك الفترة .
أما الأمر السادس ، فخاص بسفر الرؤيا ، فهذا السفر ، وهو كغيره من أسفار العهد الجديد غير موحي به ، وكاتبه بالتالي لا تثبت له أي رسالة ، فإنه لا محل على الإطلاق لبحث ما قد يكون قد ورد فيه منسوباً إلي المسيح عليه السلام ، خاصة وأن هذا السفر لم يكن هو الأساس الذي قيل به للاعتقاد بألوهية أو لاهوت المسيح وإنما قيل بأن الأساس في ذلك كان في أقوال المسيح نفسها والتي سمعها منه تلاميذه ، كما أن الأقوال المنسوبة للمسيح في هذا السفر ، وهو لا يزيد عن كونه رؤيا قيل بها ، لا يمكن بحال ، مع انتفاء الوحي عن كاتب ذلك السفر ؛ اعتبارها أقوالاً ثابتة للمسيح .(1/439)
وأخيراً ، فإنه وإن كان البحث عن الحقيقة بين ألوهية أو عدم ألوهيته ، فإننا نجد أن هذه الألوهية قد ارتبطت دائماً عند المسيحيين بالقول بأن المسيح ابن الله ، ويقابل ذلك عند المسلمين أن القرآن قد نفي نفياً قاطعاً هذه البنوة المقال بها ، ولذا فإنه يكون من الأوفق ، قبل أن نعمل المعيار الذي انتهينا إليه ، في الكشف عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، أن نبدأ يبحث القول بأن المسيح ابن الله ، لما قد يكون لذلك من أثر على الحقيقة المراد البحث عنها نفسها.
الفصل الثالث
الاحتكام إلي الأقوال الثابتة للمسيح
للكشف عن الحقيقة
بين ألوهيته وعدم ألوهيته
كما بينا فيما سبق ، فإن أول ما يجب أن نتناوله بالبحث في هذا الفصل ، هو القول بأن المسيح ابن الله ، لما قد يكون لذلك من أثر على الحقيقة نفسها المراد البحث عنها ، ولذا فإننا سنخصص المبحث الأول لبحث هذه البنوة المقال بها ، أما المبحث الثاني ، وهو الرئيسي في هذا الفصل ، فطبيعي أن يكون في إعمال المعيار الذي انتهينا إليه ، ألا وهو أقوال المسيح الثابتة له ، للكشف عن الحقيقة بين ألوهيته أو عدم ألوهيته ، وأخيراً ، نتناول في مبحث ثالث ، بيان الحقيقة التي ننتهي إليها من إعمال هذا المعيار في المبحث الثاني .
المبحث الأول
القول بأن المسيح ابن الله
قلنا أن القول بألوهية المسيح عليه السلام ، يرتبط دائماً عند المسيحيين بالقول بأن المسيح ابن الله ، وهذا الذي قلناه يتضح جلياً في قانون الإيمان المسيحي ، والذي يتحدث عن الإيمان بالمسيح فيقول ( .... نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساو للآب في الجوهر الذي به كان كل شيء ....) ، ولعل في تتبع ما قيل عن هذه البنوة لله في الأناجيل ، ما يعيننا على بيان ما يكون إلهاً من أثر في بحثنا ، ومما جاء في الأناجيل عن ذلك : (1)(1/440)
(طوبي لصانعي السلام ، لأنهم أبناء الله يدعون .) (متى ص 5 : 9)
(فكونوا أنتم كاملين كما أن إياكم الذي في السماوات هو كامل .) (متى ص 5 : 48)
(احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم . وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات .) (متى ص 6 : 1)
(فصلوا أنتم هكذا . أبانا الذي في السماوات ....) (متى ص 6 : 9)
(فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم .) (متى ص 6 : 14 و 15)
(انظروا إلي طيور السماء . إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلي مخازن ، وأبوكم السماوي يقوتها .) (متى ص 6 : 26)
(لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلي هذه كلها .) (متى ص 6 : 32)
(فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحرى أبوكم الذي في السماوات يهب خيراته للذين يسألونه ) (متى ص 7 : 11)
(بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات . ) (متى ص 17 : 21)
(فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السماوات ، ولكن من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السماوات .) (متى ص 10 : 32 و 33)
(لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي .) (متى ص 12 : 50)
(والذين في السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين بالحقيقة أنت ابن الله .) (متى ص 4 : 33)
(قال لهم وأنتم من تقولون أني أنا . فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي . فأجاب يسوع وقال طوبي لك يا سمعان بن يونا . إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات .) (متى 16 : 15 - 17).
(أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار . لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات .) (متى ص 18 : 10)(1/441)
(وأقول لكم أيضاً إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات . ) (متى ص 18 : 19)
(فقال لهما أما كأسي فتشربانها وبالصبغة التي اصطبغ بها أنا تصطبغان ، وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم من أبي .) ( متى ص 20 : 23)
(ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيء لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السماوات زلاتكم . وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر أبوكم الذي في السماوات أيضاً زلاتكم .) (مرقس ص 11 : 25و26)
(فقال لهم متى صليتم فقولوا أبانا الذي في السماوات ..... ) (لوقا ص 1 :2)
(فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلي هذه ) (لوقا ص 12 : 30)
( لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت .) ( لوقا ص 12 : 32)
ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة من الأناجيل الثلاثة الأولى ،ولعل أهم ما هو جدير بالملاحظة في الأمر ، أن بنوة الله التي وردت على لسان المسيح عليه السلام في هذه الأناجيل ، لم يكن مقصوداً بها المسيح وحده ، وإنما قصد بها هو تماماً كما قصد بها كل الناس عداه ، فهو يرد على لسانه قوله (أبي الذي في السماوات) ، كذلك يرد على لسانه قوله (أبوكم الذي في السماوات) ، وكما يقال عنه (ابن الله) ، يقال عن صانعي السلام أنهم (أبناء الله) ، بل إنه حين يطلب من الناس أن يصلوا يطلب منهم أن يقولوا (أبانا الذي في السماوات .) ، وعلى هذا فإن هذه البنوة التي وردت في هذه الأناجيل الثلاثة على لسان المسيح - وحتى بفرض صحتها - لا تعني تمييزاً خاصاً للمسيح عن الناس .(1)(1/442)
والواقع أن هذه البنوة بين المسيح عليه السلام والله التي يقول بها المسيحيون لا معني لها على الإطلاق ، وذلك أن العقيدة يجب أن تكون جامعة شاملة مانعة ، فإذا قالوا بأن المسيح هو الله ، فلا يصح بأي حال أن يقبل منهم القول بأنه ابن الله ، فهو إما أن يكون هو الله في اعتقادهم وأما أن يكون هو ابن الله في اعتقادهم ، أما الجمع بين ألوهيته وبين بنوته لله - أي لنفسه - فإنه أمر لا يمكن فهمه ولا قبوله على الإطلاق.(1/443)
وللحق فإنهم يفسرون ذلك فيقولون بأن هذه البنوة ليست بنوة بالمعني المفهوم ، وبالذات ميلاد المسيح من الله ليس هو الميلاد الذي نفهمه ، وإنما هو في اعتبارهم ميلاد معنوي أو نحو ذلك ، وكذلك البنوة ، فالكاتب مثلاً يقول عما يؤلفه أنه بنات أفكاره ، ويقبل هذا القول منه دون أن يتصور أحد أن البنوة التي يقصدها هي البنوة المعروفة ، ولا أن الميلاد الذي يقصده لهذه البنات لأفكاره هو الميلاد المعروف ، وهذا مفهوم حقاً بالنسبة للكاتب ، ولكنه لا يمكن القول به بالنسبة للبنوة التي يقال بها بين المسيح والله ، ذلك أن للبنوة معني محدداً ومفهوماً ، وللولادة كذلك معني محدداً ومفهوماً ، والكاتب لا يقول يوماً أنه يلد بنات أفكاره ولكنهم يقولون عن المسيح أنه مولود من الآب قبل كل الدهور ، وفي القليل ، إذا كانوا يقصدون بهذه البنوة معاني أخرى غير التي تعرف للميلاد والبنوة ، فلا يحق لهم أن يتمسكوا بالقول بأن المسيح هو ابن الله وأنه مولود منه قبل كل الدهور كما يقولون ، إذ أن كل ذلك لن يوصلنا إلي أي معني محدداً أو مفهوم ، كما أنه لا حاجة إليه ما داموا يقولون مباشرة بأن المسيح هو الله ، وكل ما يمكن أن يعتبروه لهذه البنوة أنها مجرد رمز يستطيعون أن يرمزوا به لما يقولون عنه الأقنوم الثاني من أقانيم الله الثلاثة ، دون أن يكون لهذه البنوة المقال بها أي أثر يعتد به في تحديد طبيعة المسيح عليه السلام ، وإلا لجاز القول بأن الناس جميعاً آلهة . (1)
والواقع أيضاً أن هذه البنوة غير مفهوم القول أو التمسك بها ، فهم قد حددوا في قانون إيمانهم أن المسيح هو ابن الله الوحيد ، وأنه مولود من الآب أي من الله قبل كل الدهور ، ومع ذلك فإن ما نجده في الكتاب المقدس يؤكد لنا عكس ذلك ، فها نحن نطالع في الإصحاح الرابع من سفر الخروج قوله :(1/444)
( وقال الرب لموسي عندما تذهب لترجع إلي مصر أنظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون . ولكني أشدد قلبه حتى لا يطلق الشعب .
فتقول لفرعون هكذا يقول الرب . إسرائيل ابني البكر . فقلت لك أطلق ابني ليعبدني فأبيت أن تطلقه . ها أنا أقتل ابنك البكر .) (ص 4 : 21 - 23)
فها هو العهد القديم الذي يؤمن به المسيحيون ، يتحدث قبل المسيح بأكثر من ألف سنة عن ابن الرب ، هو إسرائيل ، بل ويزيد في تأكيد هذه البنوة التي لا يشاركه فيها أحد ، فيقول أنه ابن الرب البكر ، فهل معني هذا أن إسرائيل ابن الله حقاً ، وإذا كان هذا صحيحاً ، فهل هو ابن الله البكر ، للحق إن التمادي في مثل هذا الكلام لن يؤدي بنا إلا لغير ما نحب أن يرد على لساننا عن الله سبحانه وتعالى .(2)
ثم هذا الميلاد الذي يقولون به ، متى كان ، هل قبل كل الدهور حقاً ، فكيف إذن فسره شاول الذي لقب ببولس الرسول بأنه اليوم الذي أقام الله فيه المسيح من الأموات كما يعتقدون ، إذ نقرأ على لسان بولس في الإصحاح الثالث عشر من سفر أعمال الرسل قوله :
( ونحن نبشركم بالموعد الذي صار لآبائنا ، إن الله قد أكمل لنا هذا لنا نحن أولادهم إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني أنت ابني أنا اليوم ولدتك . أنه أقامه من الأموات ...) (32 - 34).(1/445)
وواضح من ذلك أن يوم الميلاد المقصود للمسيح من الله هو يوم أن أقامه من الأموات كما يعتقدون ، ولم يكن هذا اليوم أبداً قبل كل الدهور ، بل كان بعد كل الدهور إن كان فعلاً ، وفي هذا تناقض يهدم فكرة الألوهية كلها ، لأنها لا تستقيم في مفهوم المسيحيين أنفسهم مع القول بالميلاد والبنوة ، إلا أن يكون هذا الميلاد منذ الأزل ، ولذا كان النص في قانون إيمانهم على أنها قبل كل الدهور(1) ، ولكنها هنا تخالف نصاً صريحاً يؤمنون به ، إلا أننا مع هذا لن نحاول أن نتخذ من ذلك سبيلاً لهدم هذه الألوهية ، وإنما سنكتفي فحسب باستبعاد فكرة البنوة من بحثنا عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، لما بان من كل ما تقدم من أن هذه البنوة المقال بها لا سند لها ولا تجدي في إثبات هذه الألوهية ، وإن كانت تجدي في نفيها.
خلاصة القول في هذا المبحث إذن ، أن بنوة المسيح لله بفرض قوله بها ، فإنها كان يقابلها تماماً بنوة الناس جميعاً لله ، بحيث لا فرق فيها بن المسيح وسائر الناس ، وهي بنوة لا معني لها على الإطلاق في نسبة الألوهية أو نفيها عن المسيح ، لأنهم حين يتحدثون عن ربطها بالألوهية إنما يحاولون أن يصوروها بصور أخرى تفقد البنوة معناها المعروف لها ، ثم قد سبق أن أشير في العهد القديم إلي بنوة ابن بكر الله ، مما لا يستقيم معه القول بأن المسيح هو ابن الله الوحيد ، وأخيراً فإن تفسيرهم للميلاد عن هذه البنوة بأنه كان قبل كل الدهور ، يناقض صريح نص يؤمنون به ، الأمر الذي إن كان يمكن الربط بينه وبين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، بأن نحتكم إلي الأقوال الثابتة للمسيح عليه السلام ، بغض النظر عما قد يثار إليه من بنوته لله .
المبحث الثاني
أقوال المسيح الثابتة عن طبيعته عليه السلام(1/446)
وجدنا من قبل ، أن المسيحيين يتفقون مع المسلمين في أن المسيح عليه السلام قد عده الناس إنساناً بشراً مثلهم ، ونبياً رسولاً من عند الله ، فترة من الزمن في حياة المسيح هي معظم سني حياته على الأرض ، ووجدنا أن بحثنا عن الحقيقة بين ألوهيته أو عدم ألوهيته ينبغي أن يكون من عند هذا اللقاء ، لنري هل كان من المسيح بعده ما يجعل الناس يرون فيه الله نفسه أم لا.
لقد أوضحنا بحق أن الأمر غاية في الخطورة والأهمية ، حتى لينبغي الحذر فيه إلي أقصى حد ، وإنه للواقع ، أنه لا يتصور القول على إنسان عرفه الناس إنساناً بشراً مثلهم ، أنه الله نفسه ، إلا إذا كان هذا هو ما يقطع به المرء دون أدني شك أو أقل ريبة ؛ لأن القول بذلك خطأ ليس سوى الكفر بعينه .
وزيادة في إيضاح الأمر ، فإننا هنا في الفترة من حياة المسيح التي عده الناس جميعاً فيها إنساناً بشراً مثلهم ، فوق كونه رسولاً نبياً ، ولم يدر بخلد أي منهم أن هذا الذي يعرفونه ويعيش بينهم هو الله أو يمكن أن يكون الله ، وعلى هذا فالأصل الذي نبدأ منه هنا هو أن المسيح مجرد إنسان بشر ، ولا يحتاج القول بهذا الفرض إلي إثبات ، بعكس القول بألوهية المسيح ، فهي التي يجب أن يقوم دليل على ثبوتها ، فإن لم يقم هذا الدليل ، كان القول بألوهيته غير صحيح متعيناً إهداره.
وبحثنا عن أقوال المسيح في هذا الصدد ، هو بحث عنها كما قدمنا في الأناجيل المتداولة نفسها ، وكلنا يعرف أن هذه الأناجيل تروى قصة المسيح عليه السلام ، ولذا فالأصل فيها هو أن تتطابق ، وإن اختلفت ، ففي بعض التفاصيل ، ولهذا فإنه يكون طبيعياً ألا نتناول أقوال المسيح عليه السلام في كل إنجيل على حدة ، بل نتناول أقوال المسيح الواحدة أو المرتبطة أو المتطابقة ، في الأناجيل ، مع بعضها البعض ، منعاً من الوقوع في تكرار لا جدوى منه.
وفيما يلي على التوالي أقوال للمسيح تكشف عن حقيقته في مختلف الأناجيل :(1/447)
( ثم أصعد يسوع إلي البرية من الروح ليجرب من إبليس . فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً . فتقدم إليه المجرب وقال إن كنت ابن الله فقل أن تصير تلك الحجارة خبزاً . فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله . ثم أخذه إبليس إلي المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل . وقال له إن كنت ابن الله فأطرح نفسك إلي أسفل . لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك فعلي أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك ، قال له يسوع مكتوب أيضاً لا تجرب الرب إلهك . ثم أخذه أيضاً إبليس إلي جبال عال جداً وأراه جميع ممالك العالم ومجدها . وقال له أعطيك هذه جميعهاً إن خررت وسجدت لي . حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان ، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد .) (متى ص 4 : 1 - 10).
(أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية ، أربعين يوماً يجرب من إبليس . ولم يأكل شيئاً في تلك الأيام ولما تمت جاع أخيراً . وقال له إبليس إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزاً . فأجابه يسوع قائلاً مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة من الله . ثم أصعده إبليس إلي جبل وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان . وقال له إبليس لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إلي قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد.
فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع . فأجابه يسوع وقال اذهب يا شيطان أنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ، ثم جاء به إلي أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلي أسفل . لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك وأنهم على أيديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك . فأجاب يسوع وقال له إنه قيل لا تجرب الرب إلهك ، ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلي حين .) (لوقا ص 4 : 1 - 13)(1/448)
وفي هذه الآيات نري الشيطان يجرب المسيح ، إنه إبليس يريد أن يوقعه في الإثم فيغريه ، ولا يستهوى المسيح ما أغري به ، بل يرد على الشيطان بآيات وردت في العهد القديم ، فيقول بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة من الله ، ترى ، هل كان الله حقاً هو الذي يرد على الشيطان فيقول له ذلك ، هل كان المسيح هنا يقصد نفسه أو حتى شيئاً في نفسه يقولون عنه أنه اللاهوت الذي حل في الناسوت ، إن النفي هو الإجابة القاطعة على هذا السؤال ، ثم يقول أيضاً أنه مكتوب أن لا تجرب الرب إلهك ، فهل كان يقصد ألا يجرب نفسه ، أو اللاهوت الذي فيه ، والذي أصبح معه واحداً كما يقولون ، أم أنه قصد أنه مكتوب ألا يجرب الرب الذي ليس هو المسيح نفسه ، بالطبع كان يقصد الله الذي ليس هو المسيح بأي حال ، ثم هو يقول أيضاً أنه مكتوب أن للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ، فهل كان يشير بذلك إلي نفسه أو إلي اللاهوت الذي فيه كما يقولون ، هذا هو ما لا يمكن أن يحتمله الكلام ، ولهذا فالنفي بلاشك هو الإجابة على هذا السؤال .(1/449)
ثم إن اختبار إبليس للمسيح عليه السلام ، لا يجوز رغم ذلك أن يمر بنا على هذا النحو فحسب ، ذلك أن التعمق في هذا الاختبار يكشف لنا أموراً هامة ، أولها أنه من غير المتصور أن إبليساً يختبر الله ، إنه للغو حقاً مثل هذا القول ، فليس الله بالذي يمكن أن يجربه إبليس أو أن يتعرض لإغراء إبليس ، ثم ، وهذا هو الأمر الثاني ، إذا كان الناس يعجزون بإدراكهم عن أن يعرفوا في المسيح أنه الله إذا كان هو الله حقاً فلا يتصور أن إبليساً نفسه لا يعرف الله فيقدم هكذا بسهولة على محاولة إغوائه ، وأخيراً فإنه إذا كان المسيح هو الله حقاً ، فلا معني أبداً لأن يجربه إبليس ، لأنه اختبار وتجربة لا معني لهما بالنسبة لله ، فهل يغريه بكل الممالك ، وهي كلها لله ، أم يغريه بالناس ، وكلهم عباده ، إنه للحق ، هذه التجربة من إبليس في حد ذاتها ، كافية لنفي أية ألوهية يقال بها عن المسيح عليه السلام ، ولكننا لا نقول بذلك بالطبع هرباً من استكمال البحث ، وإنما هي نقطة عنت لنا على الطريق . (1)(1/450)
(ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات ، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات ، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس ...... ) (متى ص 7 : 21 و22) ، وهذه الآية قد وردت كما هو واضح في الإصحاح السابع من إنجيل متى ، والذي يشير إلي الفترة الأولى من دعوة المسيح عليه السلام ، وهي الفترة التي يسلم المسيحيون بأن المسيح لم يشر فيها إلي ما قالوا به من ألوهيته ، ولهذا فإن ورود الآية على هذا النحو غير متصور على الإطلاق وإلا لكان المسيح مدعياً لنفسه الألوهية منذ بداية دعوته وهذا ما لم يقولوا به ، ولهذا فإن هذه الآية لو كانت قد صدرت عن المسيح حقاً في هذه الفترة فلابد أنه قالها مشيراً إلي الله لا إلي نفسه ، ولما كان كاتب الإنجيل يري في المسيح الله نفسه ، فإنه لم يجد حرجاً من أن يورد على لسانه هذا القول الذي يعتقد هو بصحة مضمونة ، دون أن يكون قد صدر بالفعل من المسيح ، ولعل هذا يقتضينا المزيد من الحذر بعد ذلك . (1)
( في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض ... ) (متى ص 11 : 25)
( وفي تلك الأيام خرج إلي الجبل ليصلي وقضي الليل كله في الصلاة لله ) (لوقا ص 6 : 12)
(وبعد ما ودعهم مضي إلي الجبل ليصلي .) (مرقس ص 6 : 46)
(وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض ....) (لوقا ص : 10 : 21)
وفي هذه الآيات نري المسيح يصلي ، يصلي لله ، ويقضي الليل كله في الصلاة ، فهل كان يصلي لنفسه ؛ إن هذا هو غير المعقول ، بل كان يصلي لله ، وما تعبده لله بالصلاة طول الليل إلا تأكيد ما بعده تأكيد لكونه مجرد إنسان يصلي لله ، ثم هو يقول لله أو للآب أحمدك يا رب السماء والأرض ، وقطعاً لم يكن يقصد أن يحمد نفسه ، وإنما يحمد الله الذي لا إله إلا هو . (1)(1/451)
(ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي .) (متى ص 12 : 32)
(الحق أقول لكم أن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها . ولكن من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلي الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية . لأنهم قالوا أن معه روحاً نجساً .) (مرقس ص 3 : 28 - 30)
(وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له . وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له.) (لوقا ص 12 : 10)
ومفهوم الآيات أن الروح القدس الذي هو الله أيضاً عند المسيحيين , غير المسيح الذي أشير إليه على أنه ابن الإنسان ، لأنهما إن كانا واحداً لوجب أن يكون الحكم واحداً بالنسبة لمن يجدف على أي منهما ، ولكن التجديف هنا يغفر إذا كان عن المسيح ، ولا يغفر إذا كان على الروح القدس الذي هو الله أيضاً في اعتقادهم ، ومن ثم فلا يمكن أن يكون المسيح هو الله .(1)
(وأما يسوع فقال لهم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته .) (متى ص 13 : 57)
(فقال لهم يسوع ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيتك .) (مرقس ص 6 : 4)
(وقال الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه ...) (لوقا 4 : 24)
وهنا لا نري المسيح يصف نفسه في هذه الآيات إلا بالنبي ، ولم يزد على ذلك شيئاً .(1)(1/452)
(ولما جاء يسوع إلي نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلاً من يقول الناس . أني أنا ابن الإنسان فقالوا . قوم يوحنا المعمدان . وآخرون إيليا . وآخرون ارميا أو واحد من الأنبياء . قال لهم وأنتم من تقولون أني أنا . فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي . فأجاب يسوع وقال له طوبي لك يا سمعان بن يونا . إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات . وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها . وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات ، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات .
وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات . حينئذ أوصي تلاميذه أن لا يقولوا لأحد أنه يسوع المسيح .) (متى ص 16 : 13 - 20)
(ثم خرج يسوع وتلاميذه إلي قري قيصرية فيلبس . وفي الطريق سأل تلاميذه قائلاً من يقول الناس إني أنا . فأجابوا . يوحنا المعمدان . وآخرون إيليا . وآخرون واحد من الأنبياء . فقال لهم وأنتم من تقولون أني أنا . فأجاب بطرس وقال له أنت المسيح . فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه .) (مرقس ص 8 : 27 - 30)
(وفيما هو يصلي على انفراد كان التلاميذ معه . فسألهم قائلاً من تقول الجموع أني أنا . فأجابوا وقالوا يوحنا المعمدان . وآخرون إيليا . وآخرون أن نبياً من القدماء قام. فقال لهم وأنتم من تقولون أني أنا . فأجاب بطرس وقال مسيح الله . فانتهرهم وأوصي أن لا يقولوا ذلك لأحد.) (لوقا ص 9 : 18 - 21)(1/453)
والذي يفهم من تكرار هذه الآيات أن المسيح عليه السلام قصد أن يعرف تلاميذه أنه المسيح ، المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم ويتوقعه اليهود أنفسهم ، ولكن إجابة بطرس كما هو واضح تختلف في كل إنجيل عنها في غيره ، فهو المسيح ابن الله الحي ، وهو مسيح الله ، وهو المسيح ، ولكن المهم على أي حال أن المعني الذي يمكن استخلاصه منها كلها ، هو الذي قلناه دون غيره على الإطلاق (1) ، كما أن إيراد إنجيل متى على لسان بطرس عبارة ابن الله الحي بعد كلمة المسيح ينفيها عدم ورود هذه العبارة في الإنجيلين الآخرين مع أهميتها لو صحت ، ولذا فلا يمكن قبول هذه العبارة على هذا النحو .
(فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك يا رب . لا يكون لك هذا . فالتفت وقال لبطرس إذهب عني يا شيطان . أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس .) (متى ص 16 : 22و 23)
(فأخذ بطرس إليه وابتدأ ينتهره ، فالتفت وأبصر تلاميذه فانتهر بطرس قائلاً إذهب عني يا شيطان . لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس .) (مرقس ص 8 : 32 و 33)(1/454)
وهنا نجد أن متى قد أورد على لسان بطرس أيضاً أنه يدعو المسيح عليه السلام رباً ، ونعرف أنه حتى هذا الوقت لم يكن التلاميذ قد عرفوا في المسيح كونه الله كما يقولون ، وبذلك فليس معني هذا القول من إنجيل متى سوى أنه تزيد منه إضافة على لسان بطرس لما يعتقده من أن المسيح هو الله فعلاً ، خاصة وأنه على إيراد إنجيل مرقس لنفس الواقعة ، فإنه لم يورد هذه الكلمة ، كما أننا نلاحظ هنا ، ومناسبة الكلام كما نعرف من كلام الإنجيلين أن المسيح قال أنه ينبغي أن يتألم كثيراً ويقتل ويقوم ، نلاحظ هنا ، أن المسيح نفسه رأي في بطرس الذي انتهره لقوله هذا الكلام معثرة له لأنه لا يهتم بما لله لكن بما للناس ، فمن هو الله الذي قصده المسيح هنا ، هل قصد نفسه أو اللاهوت الحال فيه كما يقولون والذي يرون أنه والآب واحد ، أبداً ، إن العقل والمنطق ليقطعان بأنه لم يقصد نفسه على الإطلاق ، وإنما قصد الله الذي لا إله إلا هو ، ثم بطرس وهو ينتهره ، هل كان ينتهر الله ، وهل يتصور أنه كان يعتقد أن المسيح هو الله كما نقرأ في إنجيل متى ، ثم يجرؤ على أن ينتهره ، بل حتى على أن يدنوا منه .
( وإذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية . فقال له لماذا تدعوني صالحاً . ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله . ولكن إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا . قال له أية وصايا . فقال يسوع لا تقتل لا تزن .) (متى ص 19 : 16 - 18)
(وفيما هو خارج إلي الطريق ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية . فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً . ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله . أنت تعرف الوصايا . لا تزن . لا تقتل .) (مرقس ص 10 : 17 - 19).(1/455)
(وسأله رئيس قائلاً أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية . فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً . ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله . أنت تعرف الوصايا . لا تزن . لا تقتل .) (لوقا ص 18 : 18 - 20).
وهنا نرى أن واحداً سأل المسيح عليه السلام عما يفعله ليرث الحياة الأبدية وتكون له ، ولكنه يبدأ سؤاله بأن يقول له موقراً (أيها المعلم الصالح) ، ولا يري المسيح عليه السلام أن ثمة من يصح أن يقال عنه صالح غير الله ، ولذا ، فقبل أن يجيب عن سؤال السائل ، ينهاه عن وصفه بالصالح فيقول له (لماذا تدعوني صالحاً) ؛ ثم يوضح سبب اعتراضه ونهيه له عن ذلك فيقول (ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله .) فما الذي نعرفه من ذلك ، أليس أن المسيح يرفض أن تنسب إليه حتى صفة واحدة من الصفات التي يري أن الله يختص بها وحده ، وإذا كان الأمر كذلك ، فهل يمكن القول بعد ذلك بأنه هو الله نفسه ، إن هذا هوا لمحال ، وإلا فلماذا يرفض حتى أن تنسب له صفة من صفات الله ، حتى أنه لا يجيب السائل إلا بعد أن يزيل من ذهنه ما قد يكون التبس عليه من ذلك .(1)
(حينئذ تقدمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها وسجدت وطلبت منه شيئاً . فقال لها ماذا تريدين قالت له قل أن يجلس ابناي هذا واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك . فأجاب يسوع وقال لستما تعلمان ما تطلبان . أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا . قالا له نستطيع . فقال لهما أما كأسي فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان . وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم من أبي .) (متى ص 20 : 20 - 23)(1/456)
(وتقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي قائلين يا معلم نريد أن تفعل لنا كل ما طلبنا ، فقال لهما ماذا تريدان أن أفعل لكما . فقالا له أعطنا أن نجلس واحد عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك . فقال لهما يسوع لستما تعلمان ما تطلبان . أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا . فقالا له نستطيع . فقال لهما يسوع أما الكأس التي أشربها أنا فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان . وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم .) (مرقس ص 10 : 35 - 40)
وهنا نري ابني زبدي يسألان المسيح أن يجعل لكل منهما مكاناً في الملكوت ، أن يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، ويبدأ المسيح فيقول لهما مدللاً على أنهما لا يستحقان ذلك بقوله لهما أنهما لا يستطيعان أن يشربا الكأس التي سيشربها ، وأورد هذا القول منه في صيغة سؤال يحمل في طياته هذه الإجابة ، ولكنهما رداً بأنهما يستطيعان أن يشربا هذه الكأس ، وبذا انعدمت الحجة التي يمنع بسببها عنها المسيح أن يجلسا معه في الملكوت على هذا النحو ، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يجيبهما إلي طلبهما ، بل أجاب في صراحة بأنه لا يملك أن يجيبهما إلي طلبهما ، لأنه لا يستطيع أن يمنح ذلك إلا لمن أعد لهم ذلك من أبيه ، وأبيه هنا يقصد بها الآب أو الله كما يعتقدون ، وهذا تفريق واضح قاطع يفرق به المسيح بين نفسه وبين الله ، لأنه لو كان هو الله نفسه مستطيعاً أن يمنحهما ما طلبا إذا شاء ، ولكنه يقطع بأنه غير مستطيع ذلك بقوله (فليس لي أن أعطيه إلا .... ) ، ومن هذا نعرف أنه ليس الله بأي حال . (1)(1/457)
(أما الفريسيون فلما سمعوا أنه أبكم الصدوقيين اجتمعوا معاً . وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجربه قائلاً : يا معلم أية وصية هي العظمي في الناموس . فقال له يسوع تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك . هذه هي الوصية الأولى والعظمي . والثانية مثلها . تحب قريبك كنفسك . بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء .) (متى ص 22 : 34 - 40)
(فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأي أنه أجابهم حسناً سأله أية وصية هي أول الكل . فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل . الرب الهنا رب واحد . وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك . هذه هي الوصية الأولى . وثانية مثلها تحب قريبك كنفسك . ليس وصية أخرى أعظم من هاتين . فقال له الكاتب جيداً يا معلم بالحق قلت لأن الله واحد وليس آخر سواه . ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح . فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل قال له لست بعيداً عن ملكوت الله .) (مرقس ص 12 : 28 - 34)
(وإذا ناموسي قام يجربه قائلاً يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية . فقال له ما هو مكتوب في الناموس . كيف تقرأ . فأجاب وقال تحب الرب إلهك من كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك . فقال له بالصواب أجبت . أفعل هذا فتحيا ) (لوقا ص 10 : 25 - 28).(1/458)
وهنا نري المسيح يجعل أول الوصايا وأهمها أن نحب الرب الهنا ، ونراه في إنجيل مرقس يقول (الرب الهنا رب واحد) ، وهنا جمع نفسه مع من يتحدث إليهم في نسبته للرب ، فالرب الهنا وإلههم كما هو مفهوم من الآية ، فهل كان يقصد بذلك أنه هو هذا الإله ، بالطبع إن الكلام لا يحتمل ذلك على الإطلاق ، كما أن المقطوع به أيضاً أن من كان يتحدث إليهم لم يدر بخلدهم على الإطلاق أنه قد يكون هو نفسه هذا الرب الإله الذي يتحدث عنه ، ولذا نري من سأله في إنجيل مرقس يرد فيقول (بالحق قلت لأن الله واحد وليس آخر سواه .) ، ولم يقصد بذلك على الإطلاق أن الله هو نفسه المسيح الذي يتحدث إليه ، بلي إن المسيح قد أقره على هذا الرد إذ نقرأ في إنجيل مرقس بعد ذلك (فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل قال له لست بعيداً عن ملكوت الله .) ، ومن كل هذا نعرف أن المسيح نفسه لم يقصد بأي حال أن يقول أنه الله .(1)
بل إننا نقرأ قبل الآيات السابقة مباشرة في إنجيلي متى ومرقس :
(وأما من جهة قيامة الأموات أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل :أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب ، ليس الله إله أموات بل إله أحياء ) (ص 22 : 31 و 32)
(وأما جهة الأموات أنهم يقومون أفما قرأتم في كتاب موسي في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلا أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب ، ليس هو إله أموات بل إله أحياء . ) (مرقس ص 12 : 26 و27)
فمن هذا الذي يقول عن المسيح (هو) ، هل كان يقصد نفسه بقوله (ليس هو إله أموات) ، ومن هو الذي قال عنه أنه الله ، هل يمكن بأي حال من الأحوال القول بأنه كان يقصد نفسه بإشارته إلي الله وبقوله هو ، إن المستحيل أن يكون قصد ذلك ، وإن المستحيل أيضاً القول بأن هذا يعني أنه هو نفسه الله (1) ، ويقينا أنه يقصد أن الله هو غيره .
وفي نفس الإصحاحين أيضاً وفي الإصحاح العشرين من إنجيل لوقا نقرأ :(1/459)
( وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع . قائلاً ماذا تظنون في المسيح ، ابن من هو ، قالوا له ابن داود ، قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك . فداود نفسه يدعوه رباً . فمن أين هو ابنه .) (مرقس ص 12 : 35 - 37).
(وقال لهم كيف يقولون أن المسيح ابن داود . وداود نفسه يقول في كتابه المزامير ، قال الرب لربي أجلس عن يميني . حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك . فإذا كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه ) (لوقا ص 20 : 41 - 44)
والذي نعرفه أنه رغم هذه الآيات فإن إنجيل متى يبدأ بقوله (كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود) (ص 1 : 1) كما نقرأ في الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا (ولما ابتداء يسوع كان نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف ... بن داود) (23 - 31) ، فلم ينف أي من هذين الإنجيلين رغم ورود الآيات السابقة فيهما أن المسيح هو ابن داود ، وبذلك فلا يمكن أن يفهم قول المسيح لهذه الآيات أنه ينفي بنوته لداود ، وإلا لما أشار الإنجيلان إلي هذه البنوة ، وإنما كان هذا القول من باب تعجيز الفريسيين الذين كانوا يسألونه في تحد عن الإجابة ، دون أن يقصد على الإطلاق أن ينسب لنفسه صفة الرب الإله ، ويبين لنا قصد المسيح هذا مما أورده إنجيل متى من أن أحداً بعد ذلك لم يجسر بتة أن يسأله ، وليت أحداً سأله ، إذن لأجاب بما يفهم منه الجميع أن ما قاله لم يقصد منه على الإطلاق أن يقول عنه البعض أنه الرب الإله.
وليس هذا الأسلوب في الإفحام بغريب على المسيح ، فنحن نقرأ في إنجيل متى مثلاً.(1/460)
(ولما جاء إلي الهيكل تقدم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يعلم قائلين بأي سلطان تفعل هذا ومن أعطاك هذا السلطان . فأجاب يسوع وقال لهم وأنا أيضاً أسألكم كلمة واحدة فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضاً بأي سلطان أفعل هذا . معمودية يوحنا من أين كانت . من السماء أم من الناس . ففكروا في أنفسهم قائلين إن قلنا من السماء . يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به . وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي . فأجابوا يسوع وقالوا لا نعلم. فقال لهم هو أيضاً ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا.) (ص 21 : 23 - 7)
فهنا لم يقصد المسيح بكلامه أن يجيبوه فعلاً ، وإنما قصد إفحامهم وتعجيزهم عن الإجابة ، دون أن يقصد أن يجيب على نحو معين ، تماماً كما قصد في الآيات السابقة أن يفحم مستمعيه دون قصد أن يقول بأنه هو الرب الإله.
(وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده .) (متى ص 24 : 36) .
(وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) (مرقس ص 13 : 32)(1/461)
فإذا كان الآب يعرف شيئاً لا يعرفه الابن نفسه ، فمن هو الآب ومن هو الابن ، هل هما واحد ، هل لعقل أن يتصور مع ذلك أنهما واحد ، إن المستحيل للواحد أن يعرف أمراً ولا يعرفه في نفس الوقت ، وإنما الممكن أن الواحد يعرف أمراً ولا يعرفه غيره ، والذي يمكن القطع به لذلك ، أن الابن الذي هو المسيح كما يعتقدون ليس الله ، فلا يمكن أن يكون هو نفسه الآب الذي هو الله كما يعتقدون ، وهذا ما نعرفه من هذا الكلام للمسيح نفسه عليه السلام ، والغريب أن هذا الذي يعلم ولا يعلم كما يظنون ، ليس فرداً عادياً ، بل إنهم يعتقدون أنه الله نفسه ، وهو المستحيل ، بل إن عدم علم الابن هنا بذلك اليوم وتلك الساعة ، لينفي يقيناً عن هذا الابن الألوهية المدعي بها ، والتي لا يستقيم معها عدم العلم بأي أمر .(1)
(ومن قبلي فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني .) (مرقس ص 9 : 37)
(ومن قبلني يقبل الذي أرسلني .) (لوقا ص 9 : 48)
فمن الذي أرسل المسيح عليه السلام ، أليس الله من أرسله ، أم هو الذي أرسل نفسه ، إن الكلام لا يستقيم إلا بأن غيره قد أرسله ، فمن هو غير الله ، وهل بعد ذلك يكون المسيح هو الله ، بالطبع هذا ما لم يقصده المسيح بأي حال . (1)
(فأجاب يسوع وقال لهم ليكن لكم إيمان بالله .) (مرقس ص 11 : 22)
فمن هو الله الذي أشار إليه المسيح طالباً أن يكون لهم إيمان به ، هل كان يشير بذلك إلي نفسه ، أم إلي الله الذي لا إله إلا هو ، بالطبع كان يشير إلي الله ، ولم يقصد بأي حال أنه هو الله نفسه.(2)
ثم ها هي ذي آخر فترة نعرفها عن المسيح عليه السلام قبل رفعه ، إنها لحظة صلاته في جثسيماني ودعائه لله بأن يخلصه من الصلب ، وسنتتبعها هنا في الأناجيل لنتبين فيها آخر ما قاله المسيح عليه السلام ، عسى أن يكون في ذلك التحديد القاطع لطبيعته :(1/462)
( وحينئذ جاء معهم يسوع إلي ضيعة يقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى أمضى وأصلي هناك . ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب . فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت . امكثوا ههنا واسهروا معي . ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلاً يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس . ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت . ثم جاء إلي التلاميذ فوجدهم نياماً . فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة. اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة . أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف . فمضي أيضاً ثانية وصلي قائلاً يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ، ثم جاء فوجدهم أيضاً نياماً . إذ كانت أعينهم ثقيلة . فتركهم ومضي أيضاً وصلي ثالثة قائلاً هذا الكلام بعينه .) (متى ص 26 : 36 - 44)
(وجاءوا إلي ضيعة اسمها جثسيماني فقال لتلاميذه اجلسوا ههنا حتى أصلي . ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وابتدأ يدهش ويكتئب . فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت . أمكثوا ههنا واسهروا . ثم تقدم قليلاً وخر على الأرض وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن . وقال يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك . فأجز عني هذه الكأس ، ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت . ثم جاء ووجدهم نياماً فقال لبطرس يا سمعان أنت نائم . أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة ، اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة . أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف . ومضي أيضاً وصلي قائلاً ذلك الكلام بعينه . ثم رجع ووجدهم أيضاً نياماً إذ كانت أعينهم ثقيلة فلم يعلموا بماذا يجيبونه . ثم جاء ثالثة وقال لهم ناموا الآن واستريحوا .) (مرقس ص 14 : 32 - 41)(1/463)
(وخرج ومضي كالعادة إلي جبل الزيتون . وتبعه أيضاً تلاميذه . ولما صار إلي المكان قال لهم صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة . وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلي . قائلاً يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس . ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك . وظهر له ملاك من السماء يقويه . وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض . ثم قام من الصلاة وجاء إلي تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن . فقال لهم لماذا أنتم نيام . قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة .) (لوقا ص 22 : 39 - 46)
فهنا ، آخر لحظات المسيح على الأرض ، نراه يحزن يكتئب ، ويصلي ، ولكن أي صلاة ، إنها أعمق صلاة ، إنه يخر على الأرض ، يخر على وجهه ، يجثو على ركبتيه ويصلي ، ويصلي بأشد لجاجة ، حتي ليصير عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض ، فلمن كانت كل هذه الصلاة ، هل لنفسه ، بالطبع لا ، فليس لعقل أن يقبل ذلك أو يتصوره ، ثم ها هو يدعو في صلاته ، فلمن يوجه الدعاء ، إنه يقول يا أبا الآب ، إنه يقول إذن يا الله ، إنه يدعو الله أن يعبر عنه هذه الكأس، إنه يدعوه أن يجيز عنه هذه الكأس ، فهل لعاقل أن يتصوره داعياً نفسه بهذا الدعاء ، بالقطع لا ، ثم إذ تستبين له إرادة الله ألا يجيز عنه هذه الكأس ، يسلم بمشيئة الله وإرادته ، فيقول (ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت) ، (ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أ،ت) ، (ولكن لا لتكن إرادتي بل إرادتك .) ، فنعرف من كل ذلك أن هناك ارادتان مختلفتان ، إرادة المسيح ألا يصلب ، فيسأل الله أن يجيز عنه هذه الكأس ، وإرادة الله في أن يصلب المسيح ، والإرادتان متضادتان كما هو واضح ، ولا تتفق أي منهما مع الأخرى ، فهل بعد يكونان لواحد أم لاثنين هما المسيح والله ، إن القطع أنهما إنما لاثنين ولا يمكن أبداً أن يكونا لواحد.(1/464)
هذا هو المسيح عليه السلام ، وهذه هي أقواله في أناجيل متى ومرقس ولوقا ، ليس فيها إلا ما يؤكد اعتباره مجرد إنسان نبي ، ورسول بشر ، وليس فيها على الإطلاق ، هذا الذي يمكن أن نفهم منه أنه هو الله ، أو أنه قصد أن يعلن للناس أنه الله ، وهذا كله في الأناجيل المتداولة التي آمن كاتبوها بأن المسيح هو الله ، ولا يمكن بأي حال القول بأنه قد ثبت على لسان المسيح عليه السلام ما يجيز لأحد اعتباره إلهاً أو الله نفسه ، ففي البدء يجرب من الشيطان ، وليس الله بالذي يجرب من الشيطان ، وهو يصلي لله ، وليس الله بالذي يصلي لنفسه ، وهو يصف نفسه بالنبي ويقبله الناس نبياً ، ثم هو يعرف الناس بأنه المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم ، ولا يزيد شيئاً ، ثم هو يرفض حتى أن تنسب إليه صفة من صفات الله ، فيسأل من وصفه بالمعلم الصالح لماذا يقول له ذلك فليس صالح إلا واحد وهو الله ، فيرفض بذلك ، ويقيناً ، الادعاء بألوهيته ، ثم يسأله ابناً زيدي - أو أمها - أن يجعل لهما مكاناً عن يمينه وعن يساره في ملكوت الله ، فيقول بأنه ليس له أن يمنح مكاناً لأحد إلا أن يكون قد أعد له من قبل الله ، ثم هو يؤكد أن أول الوصايا أن نحب الرب الهنا ، ولم يقل أحد بأنه كان يقصد نفسه بقول الرب الإله ، بل كان واضحاً بجلاء أنه إنما يقصد الله الذي لا إله إلا هو ، ثم ها هو يتحدث عن ساعة انقضاء الدهر فيقول بأن أحداً غير الله وحتى هو نفسه لا يعلمها ، فيقطع بذلك لمن يعي أنه ليس الله ، وإلا لكان على علم بتلك الساعة، ثم هو يتحدث عمن أرسله ، فنعلم أن الله من أرسله وأنه هو نفسه بالتالي ليس الله ، وأخيراً فها هو ذا في آخر لحظات له على الأرض ، يصلي لله أعمق الصلاة ويدعوه ، ثم يسلم أخيراً بمشيئته ؛ فمن أين يمكن القول رغم ذلك بأنه الله ، إنه لافتراء على المسيح نفسه أن يقال عنه ذلك أو أن ينسب إليه أنه قال عن نفسه ذلك.(1/465)
ولقد قلنا من قبل أن بحثنا عن أقوال المسيح عليه السلام ، هو بحث عنها في الأناجيل المتداولة نفسها ، ولاشك أنه قد لوحظ أن كل ما أوردناه من آيات قد ورد في الأناجيل الثلاثة الأولى وحدها ، ولم يرد ذكر لأية آية مما ورد في إنجيل يوحنا ، فهل كان ذلك رجوعاً منا عما قلناه في البدء ، أم هرباً من إنجيل يوحنا وما جاء فيه ، هنا نقول أن الواقع ليس هذا ولا ذاك ؛ فقد قلنا أيضاً أننا سنتناول أقوال المسيح الواحدة أو المرتبطة أو المتطابقة في مختلف الأناجيل ، مع بعضها البعض منعاً من التكرار الذي لا جدوى منه ، ووجدنا في إعمالنا لذلك أن هذه الوحدة وتلك المطابقة وذاك الارتباط ، لا يمكن القول بأي منها بالنسبة لأقوال المسيح الواردة في هذا الصدد ، إلا بالنسبة للأناجيل الثلاثة الأولى وحدها ، دون إنجيل يوحنا ، ولذا لم يكن بد من أن نبحث ما ورد في إنجيل يوحنا من آيات على حدة ، مع بيان الفارق بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى.
وأول ما نلاحظه بالنسبة لإنجيل يوحنا أن أول ما بدأ به إنجيله ، هو أنه قطع برأي من عنده يعرف به الله والمسيح عليه السلام فيقول :
(في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة لله . هذا كان في البدء عند الله ........ كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلي العالم ، كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم ....
والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقاً .) (ص 1 : 1 - 14)(1/466)
فهنا نري يوحنا يقطع برأيه في شأن طبيعة المسيح عليه السلام ، ويقول بأنه هو الله نفسه ، حيث يقول أنه في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله ، ثم يقول أن الكلمة صار جسداً ؛ ومجموع ذلك كان أن المسيح هو الله ، وبالطبع ليوحنا أن يقرر ما يشاء عن طبيعة المسيح عليه السلام ، إنما ما يقرره في ذلك بطبيعة الحال لا يقيد أي أحد ، لأنه إنما هو رأي شخصي يقول به كما انتهينا من قبل .
ولقد رأينا أن إنجيلي متي ولوقا قد أشار إلي ما كان من تجربة للمسيح من إبليس قبل أن يبدأ المسيح دعوته ، وإلي هذا أيضاً أشار إنجيل مرقس وإن كان في إيجاز حيث قال :
(وللوقت أخرجه الروح إلي البرية ، وكان هناك في البرية أربعين يوماً يجرب من الشيطان .) (ص 1 : 12 و13)
أما إنجيل يوحنا ، فإنه لا يشير إلي هذه التجربة للمسيح من إبليس على الإطلاق.
ثم ها هي الأناجيل الثلاثة تشير إلي صلاة المسيح ودعائه لله ، فنراه يخرج إلي الجبل ليصلي منفرداً طول الليل ، ولكن إنجيل يوحنا لا يشير إلي شيء من هذه الصلاة ، وحتى تلك الصلاة العميقة ، التي سجلتها الأناجيل الثلاثة الأولي للمسيح عليه السلام ، وذلك الدعاء الحار منه لله أن يجيز عنه كأس الصلب ، قبل حضور أعدائه للقبض عليه ، يتجاهلها يوحنا في إنجيله كل التجاهل.
فما الذي يدعو يوحنا إلي كل ذلك ، للحق أن هذه التجربة وتلك الصلاة وهذا الدعاء كلها من أقطع الأمور تأكيداً لنفي ما قيل عن ألوهية المسيح ، ولذا فليس تجاهل يوحنا لها جميعاً على إجماع الأناجيل الثلاثة على ذكرها ، إلا محاولة منه لاستبعاد كل ما قد يشكك في ألوهية المسيح ، وهي الألوهية التي لم يكتب إنجيله كما سبق أن علمنا إلا لإثباتها ؛ وهذا كله مما يؤكد لزوم توخينا الحذر ؛ أشد الحذر ، بل كل الحذر ؛ في تقبل أقوال يوحنا التي يوردها على لسان المسيح عليه السلام خاصة بطبيعته الإلهية المقال بها.(1/467)
ثم نحن إذ نتتبع بعد ذلك أقوال المسيح في هذا الإنجيل نحس وكأنما هو قد حرص منذ الوهلة الأولى على أن يقول للناس أنه هو الله ؛ ولنطالع فيما يلي بعضاً مما ورد على لسان المسيح في هذا الإنجيل على التوالي :
(أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا . الحق أقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا . إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات . وليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء .) (ص 3 : 10 - 13)
وهكذا ينسب يوحنا إلي المسيح أنه في أول دعوته كان يقول عن نفسه أن يتكلم بما يعلم ويشهد بما رأي ، ويفهم من كلامه أنه رأي السماويات وأنه صعد إلي السماء وأنه منها نزل ، وهذا ما لا يتصور صدوره عن المسيح في هذه الفترة لأنهم على الأقل يقولون بأنه لم يعرف الناس بألوهيته المقال بها إلا في أواخر أيامه ، كما أننا لا نجد مقابلاً لذلك في الأناجيل الثلاثة الأخرى.
(لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية . لأنه لم يرسل الله ابنه ليدين العالم بل ليخلص العالم . الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن به قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد .) (ص 3 : 16 - 18)(1/468)
ونعجب إذ نقرأ هذا الكلام منسوباً للمسيح وفي الإصحاح الثالث ، تالياً لنفس الكلام السابق ، وفي نفس مناسبته ، إنه يقول أن الله بذل ابنه الوحيد الذي هو المسيح كما يعتقدون لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، وهذا القول وذلك المعني كما نعرف حتى من الأناجيل الأخرى ، لم يقل به أحد ولم يعرف به أحد إلا بعد ما اعتقدوه من صلب المسيح عليه السلام ، ولذا فمن العجيب أن يرد على لسان المسيح نفسه وفي أول فترة دعوته ، حتى أن المنطق الصحيح ليقضي بالقطع بأن هذا الكلام ما كان ليقوله المسيح في هذا الوقت ، وما قاله على الإطلاق ، ثم إننا لازلنا نذكر صلاة المسيح ودعاءه لله أن يخلصه من الصلب وذلك في آخر لحظة قبل مجئ الأعداء للقبض عليه ، ومن ثم ففي القليل كان هناك حتى هذه اللحظة أمل لدي المسيح في أن يرفع عنه الله كأس الصلب ، فكيف رغم هذا يجزم في بداية دعوته بأن الله قد بذل فعلاً ابنه الوحيد ، إن هذه العبارة لا تقال أبداً إلا بعد تمام ذلك البذل إن كان ، ويقيناً لذلك أنها من اختلاق يوحنا وقد نسبها رغم ذلك للمسيح .
(فقالت له المرأة السامرية كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية . لأن اليهود لا يعاملون السامريين . أجاب يسوع وقال لها لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً . قالت له المرأة يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة . فمن أين لك الماء الحي . ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر وشرب منها هو وبنوه ومواشيه . أجاب يسوع وقال لها . كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً . ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلي الأبد . بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلي حياة أبدية .) (ص 4 : 9 - 14)(1/469)
وهنا نري المسيح ، الذي يحرص كما يقولون في بدء دعوته على إخفاء ألوهيته ، لمجرد طلبه جرعة ماء من امرأة سامرية ، يحدثها عن الماء الحي الذي يعطيه ومن يشرب منه فلا يعطش إلي الأبد وهو ما يكون من الله وحده ، ولا يكون من غيره كما نفهم ، وكأن المسيح بذلك يدعو الناس إلي اعتباره إلها منذ بدء دعوته ، وهو ما لم يقل به أحد ، وإلا لعبده أتباعه منذ ذلك الحين.
(فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء . لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم . فقالوا له يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز . فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة . من يقبل إلي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً ، ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون . كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً . لأني قد نزلت من السماء لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني .) (ص 6 : 32 - 38)
(الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية . أنا هو خبز الحياة . آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا . هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء . إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلي الأبد . والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم .) (ص 6 : 47 - 51)
(فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير . لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق . من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه . كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي . هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا. من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلي الأبد.) (ص 6 : 53 - 58)(1/470)
(فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهم أهذا يعثركم فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلي حيث كان أولاً .) (ص 6 : 61 و 62)
ولاشك أنه كلام غريب هذا الذي نقرؤه في الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا ، وهو على أي حال يريد أن يوضح أن المسيح هو الله ، وعلى لسان المسيح نفسه ، ويكفي لعدم قبول هذا الكلام أنه من ناحية ، وعلى ما يبدو من أهميته ، فلم يرد له ذكر في أي من الأناجيل الثلاثة الأخرى ، وهو ما لو كان لأشارت إليه هذه الأناجيل حتماً لأهميته ، وهو من ناحية أخرى ينسب للمسيح في الفترة المتفق على أنه أخفي فيها ألوهيته المقال بها ، وهذا الكلام إن كان لا يخفيها وإنما يكشفها ، وما لم يقل به أحد أنه كشف عن طبيعته في هذه الفترة.
(وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادي قائلاً إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي.) (ص 7 : 37 و 38)
(ثم كلمهم يسوع قائلاً أيضاً أنا هو نور العالم . من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة.) (ص 8 : 12)
(فقال لهم أنتم من أسفل . أما أنا فمن فوق . أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم) (ص 8 : 23)
(فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.) (ص 8 : 58)
(ما دمت في العالم فأنا نور العالم) (ص 9 : 5)
(أنا هو الراعي الصالح . والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف .) (ص 10 : 11)
(كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب . وأنا أضع نفسي عن الخراف.) (ص 10 : 15)
(أنا والآب واحد) (ص 10 : 30)
(..لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه .) (ص 10 : 38)
(قال لهم يسوع أنا هو القيامة والحياة . من آمن بي ولو مات فسيحيا . وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلي الأبد .) (ص 11 : 25 و 26)(1/471)
وهكذا رأينا يوحنا يذكر على لسان المسيح في كل مناسبة ما يقطع للقارئ بأنه هو الله ، فمن يؤمن به تجري من بطنه أنهار ماء حي ، وهو نور العالم ، وهو كائن قبل أن يكون إبراهيم ، وهو والآب واحد ، وهو في الآب والآب فيه ، وهو القيامة والحياة من آمن به ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن به فلن يموت إلي الأبد.
وهذا الذي يورده يوحنا على لسان المسيح ، لا نراه مع ذلك في أي من الأناجيل الثلاثة الأخرى ، وكأنما المسيح إنما بدأ منذ اليوم الأول إلي آخر يوم في دعوته وهو يصيح في الناس بأنه الله ، بل الأغرب من ذلك أننا وجدنا المسيح في رواية أجمعت عليها الأناجيل الثلاثة الأخرى يرفض أن تنسب إليه صفة من صفات الله فيقال عنه أنه (الصالح) ثم إذا بنا نجد أن يوحنا يورد في إنجيله هذه الصفة عن المسيح وعلى لسانه فيقول (أنا هو الراعي الصالح) وفي كل ذلك لا يتعارض إنجيل يوحنا مع الأناجيل الأخرى فحسب ، بل هو يناقضها ، ويناقض ما يقول به المسيحيون جميعاً من أن المسيح إنما عرف في البداية مجرد إنسان بشر ، بل وحاول أيضاً إخفاء ألوهيته التي قالوا بها حتى أيامه الأخيرة.
ثم تبقي آيات أخرى نسبت إلي المسيح عليه السلام وقد وردت في الإصحاحات من الرابع عشر حتى الثامن عشر ، ومن هذه الآيات ما قيل منسوباً إلي المسيح عليه السلام مما يلي :
(قال له يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة . ليس أحد يأتي إلا الآب الأبي . لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً . ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه . قال له فيلبس يا سيد أرنا الآب وكفانا. قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس . الذي رآني قد رأي الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب . ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في. الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال . صدقوني أني في الآب والآب في.) (ص 14 : 6 - 11)(1/472)
(ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني . وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد . أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلي واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني . أيها الآب أريد أن هؤلاء الذي أعطيتني يكونون معي حيث أكون لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم .) (ص 17 : 20 - 24)(1/473)
وقد وردت هذه الآيات كما قلنا في الإصحاحات من الراب عشر إلي أول الثامن عشر ، وهذه الإصحاحات الأربعة كلها كلام منسوب صدوره للمسيح عليه السلام وهي تبدأ بعد أن قال عليه السلام لبطرس الذي قال أنه سيتبعه حتى ليضع نفسه عنه (الحق الحق أقول لك لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات.) (ص 13 : 38) ، وتنتهي في اللحظة التي يذهب بعدها المسيح وتلاميذه إلي عبر وادي قدرون حيث يأتي أعداؤه للقبض عليه إذ نقرأ بعد هذا الكلام المنسوب للمسيح (قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلي عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه.) (ص 18 : 1) ، ومع ذلك فإننا نجد أن الأناجيل الثلاثة الأخرى قد أجمعت على عدم الإشارة إلي أي من هذا الكلام الذي نسب للمسيح في إنجيل يوحنا في هذه اللحظات ، فنحن نقرأ في إنجيل متي (قال له يسوع الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. قال له بطرس ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك. هكذا قال أيضاً الجميع . وجاءوا إلي ضيعة اسمها جثسيماني )(ص 14 : 30 -32) ، وهو نفس الحال أيضاً في إنجيل لوقا والذي نقرأ فيه (فقال أقول لك يا بطرس لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني ... وخرج ومضي كالعادة إلي جبل الزيتون . وتبعه أيضاً تلاميذه ...) (ص 22 : 34 - 39) على أن لوقا أضاف هنا في هذه اللحظات أربع آيات من 35 إلي 38 ولكنها بخلاف هذا الذي أورده يوحنا في إصحاحاته الأربعة .(1/474)
فما الذي يعنيه كل ذلك ، وهل يمكن لأحد أن يصدق أن الأناجيل الثلاثة ، وهي الأقرب عهداً إلي المسيح ، والتي عنيت بكل تفاصيل ما قيل من المسيح قبل ذهابه مع التلاميذ إلي جثسيماني ، وما قيل منه هناك ، هل يمكن لأحد أن يصدق أنها تتغافل جميعاً عن كلام يصدر من المسيح ويشغل أربع إصحاحات كاملة ويكون قد صدر منه فعلاً ، بينما يذكر يوحنا بعد نحو سبعين سنة من رفع المسيح هذا الكلام فيورده في إنجيله ، أن العقل والمنطق ليقطعان بأن أيا من هذا الكلام الذي ورد في هذه الإصحاحات الأربعة من إنجيل يوحنا ، لا يمكن أن يكون قد صدر عن المسيح في هذه اللحظات التي قال يوحنا بصدوره عنه فيها.
وأخيراً ، فما الذي نخلص إليه من كل ما سبق عن إنجيل يوحنا ، الأناجيل الثلاثة الأولى تذكر تجربة المسيح من إبليس ، وهو لا يذكرها ، وتتمشي الأناجيل الثلاثة مع القول بأن الناس إنما عرفوا المسيح ابتداء كمجرد إنسان بشر ، فلا تورد على لسان المسيح شيئاً يثبت له أية ألوهية ، بينما من يقرأ إنجيل يوحنا يري المسيح يدعو الناس طوال الوقت إلي أن يعتبروه إلهاً ، ثم تذكر الأناجيل الأخرى أن المسيح كان يصلي لله ويتوجه إليه بالدعاء خاصة قبل قدوم أعدائه للقبض عليه ، يتغافل يوحنا عن أية إشارة إلي شيء من ذلك ؛ ثم يورد على لسان المسيح في اللحظة السابقة على توجهه مع تلاميذه إلي جثسيماني كلاماً يملأ أربعة إصحاحات كاملة ، مع أن الأناجيل الثلاثة الأخرى وهي الأقرب عهداً إلي المسيح لا تشير إلي أي شيء من ذلك الكلام.(1/475)
ونعرف مما سبق أن ذكرناه أن يوحنا قصد ببشارته الرد على ما قيل أنه ضلال قرره كيرنثوس الذي قيل بأنه هرطوقي ، هذا الضلال الذي قرره في عقول الناس والذي جاء أولاً من جماعة النيقولاويين لكي يقنع الناس بأنه لا يوجد إلا إله واحد خلق جميع الأشياء بكلمته ، وهذا وحده كفيل بأن يفسر لنا لماذا أورد يوحنا كل هذه الآيات على لسان المسيح ، فهو إنما أوردها ليقنع الناس بأن المسيح هو الله كما قصد ببشارته ، ولم يكن من سبيل لأن يفعل ذلك ، إلا أن يورد آيات على لسان المسيح تؤكد ذلك ، ولكنه إذ فعل ذلك إنما ناقض الواقع ، وناقض الأناجيل المعروفة ؛ وناقض الحق ؛ بأن أورد على لسان المسيح ؛ ما لم يصدر عنه ؛ وما يسهل لأي باحث أن يكشف أن المسيح لم يقله.
ولا يخفي الكاتب هذا القصد في نفسه ؛ بل يعلنه صراحة ، فيورد في أول الإنجيل الصورة التي يري عليها المسيح الإله ؛ ثم يقول صراحة في الإصحاح قبل الأخير من إنجيله (وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه.) (ص 20 : 31)
وإن المرء ليعجب حقاً ، كيف قبل المسيحيون بشارة هذا حالها ، حتى ليعتبرون أن كل كلمة جاءت فيها ، موحي بها من الله وعليهم أن يلتزموا بها ، وحتى يصدقون ، بل ويؤمنون بكل كلمة جاءت فيها ؛ ومن الغريب أن نقرأ في كتاب رب المجد الذي سلفت الإشارة إليه في صفحة 329 منه قوله :(1/476)
(لا يخفي أن أكثر الأقوال عن لاهوت السيد المسيح هي في بشارة يوحنا . فبطبيعة الحال وجد منكرو لاهوت المسيح أن بشارة يوحنا هي عقبة كؤود وحجر عثرة في سبيلهم . ففي الأجيال المسيحية الأولى رفض الهراطقة يوحنا ..... أما في الأجيال المتأخرة فقد رفض أعداء المسيحية قبول هذه البشارة منتحلين لأنفسهم عذراً في عدم قبولها بأنها ليست صحيحة النسبة إلي يوحنا الرسول ، والحقيقة هي أنهم رفضوها لأنها قذي في عيونهم إذ أن موضوعها الوحيد بل غاية الوحي منها إثبات لاهوت المسيح .....)
ولا ندري على أي أساس ووفق أي معيار كان قبول هذه البشارة ، هل لأنها قامت على إثبات ما قيل عن لاهوت المسيح عليه السلام ، أن هذا لأدعي للشك فيها لا لقبولها ، ولكنا على أي حال لا ننادي بقبولها هي أو غيرها ، لأننا قد انتهينا من قبل إلي ثبوت الوحي للمسيح عليه السلام وحده ، وإن ما يصدر منه فقط هو ما يتعين قبوله ، على أن يثبت صدوره منه ، ومجرد مطالعة هذه البشارة ، ومجرد مقارنتها بالأناجيل الأخرى ، لأمر يسهل معه على أي باحث أن يقطع بأن ما ورد فيها على لسان المسيح تأكيد لألوهيته ، أمر لم يكن إطلاقاً في الواقع ، وإذا كانت بشارة يوحنا تعتبر قذي حقيقة ، فهي قذي للمسيحية الحقيقية التي لم يكن من هذه البشارة إلا أنها حاولت - وقد يكون ذلك بحسن نية - هدمها.
المبحث الثالث
الحقيقة في أقوال المسيح الثابتة له
بين ألوهيته وعدم ألوهيته(1/477)
بدأنا البحث فيما سبق ، على أساس البدء من حيث يلتقي المسلمون والمسيحيون جميعاً ، من صورة واحدة لطبيعة المسيح عليه السلام ، وهي اعتبار الناس له ، فوق كونه نبياً ، مجرد إنسان بشر مثلهم ، وهي الفترة التي كانت فيها دعوة المسيح عليه السلام ، بل هي أكبر فترة في حياة المسيح على الأرض ، إذ تبدأ منذ ولادته وحتى قبل رفعه بقليل ، فقد عرف الناس جميعاً المسيح عليه السلام ، في هذه الفترة الطولي من حياته ، تماماً كما يعرفه المسلمون اليوم ، مجرد إنسان نبي ، رسول بشر ، …ولم يدر في خلد أي منهم أن هذا الذي يعرفونه قد يكون إلهاً ، أو أنه الله نفسه.(1/478)
ووجدنا أن بحثنا عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، إنما يكون بالبحث في أقوال المسيح نفسها الثابت صدورها منه ، وبحثنا عن هذه الأقوال في الأناجيل نفسها ، بحثنا في أناجيل متى ومرقس ولوقا ، فلم نجد في أي منها قولاً ثبت صدوره عن المسيح ويبين للناس منه أن المسيح إله ، بل على العكس ، كانت كل الأقوال تقطع بأن هذا المسيح الذي يتحدث ليس أكثر من إنسان على الإطلاق ، إنما كانت هناك بعض أقوال أخرى ، لا تكشف عن طبيعة إلهية في المسيح عليه السلام ، في غير أذهان كتبة الأناجيل أنفسهم ، وما ذلك منهم إلا ترديد لاقتناعهم بعد رفع المسيح أنه الله ، دون أن يمكن نسبة آرائهم هذه إلي المسيح نفسه بأي حال ، ولكننا وجدنا مع ذلك إنجيل يوحنا ، والذي كتب بعد هذه الأناجيل ببضع عشرات من السنين ، والذي كتب لإثبات ألوهية المسيح ، وجدنا هذا الإنجيل على العكس من الأناجيل السابقة جميعاً ، فهو يورد على لسان المسيح منذ بدء دعوته إلي نهايتها أقوالاً تقطع بأن هذا المتكلم يقصد أن يقول للناس أنه الله ، ونعرف أن ذلك مستحيل في حد ذاته ، لأن المسلم به أن المسيح وعلى الأقل في بدء دعوته ، لم يكن يشير إلي أنه غير إنسان مثله مثل سائر البشر ، ولكننا إذ نعرف قصد الكاتب من كتابته هذا الإنجيل ، نفهم لماذا أورد على لسان المسيح هذه الآيات التي يعرف الناس منها أن المتحدث يقصد أن يقول لهم أنه الله ، ووجدنا أن في ثبوت هذا القصد للكاتب ، بالإضافة إلي عدم ورود ما ذكره من ذلك في غيره من الأناجيل السابقة ، والتي كان حرياً بها أن تورده لأنها الأقرب عهداً إلي المسيح ، فإننا إزاء كل ذلك لا نملك إلا استبعاد كل ما أورده إنجيل يوحنا على لسان المسيح في هذا الخصوص ، لاستحالة الاطمئنان إلي صدوره عنه على أية حال .(1/479)
وبذا فإننا لا نجد في أقوال المسيح الثابتة شيئاً يشير من قريب أو بعيد إلي هذه الألوهية المدعاة له ، ولذلك فليس على من يستهدف الحقيقة إلا أن يقر بها ، وهي أن المسيح عليه السلام ليس سوى رسول بشر ، إنسان نبي ، وليس هو الله أو إلهاً بأي حال من الأحوال.
وإن العقل والمنطق ليحتمان أيضاً هذه النتيجة ، فإن أخطر شيء في المسيحية هو قول المسيحيين اليوم أن المسيح هو الله ، وهم يجعلون من هذا الاعتقاد صلب المسيحية وقوامها الذي لا تقوم إلا به ، وإن المرء يتساءل في عجب ، هل يمكن لأمر على هذا الجانب من الخطورة أن يبقي خافياً طوال الدعوة ولا يعرف إلا بعد رفع المسيح عليه السلام ، وإذا كان الاعتقاد بألوهية المسيح هو صلب المسيحية ، فكيف لا يعلنه المسيح للناس جميعاً في وضوح وجلاء ، وكيف أنه على العكس إنما يحاول إخفاء هذه الحقيقة كما يقولون ، وماذا كانت دعوة المسيح إذن إذا كان صلب دعوته لا يدعو الناس إليه.(1/480)
بل إن الثابت أيضاً أن القول بألوهية المسيح لم يكن أمراً مجمعاً عليه بعد رفع المسيح عليه السلام ، بل ظل كثيرون بعد ذلك على إيمانهم عن طبيعة المسيح كما عرفوه من قبل ، فظلوا لا يرون فيه غير إنسان نبي ، ورسول بشر ، ولم يروا فيه إلهاً على الإطلاق ، وهؤلاء أنفسهم من قصد يوحنا الرد على بعضهم بإنجيله ، وهؤلاء الذين بقوا على إيمانهم عن طبيعة المسيح التي عرفوه في حياته ، سموا بالهراطقة ، ونحن جميعاً نعلم أن الكنيسة بعد أن أقرت هذه الأناجيل الأربعة المتداولة وطاردت غيرها من الأناجيل وأحرقتها ، ويقيناً أنه كانت هناك أناجيل يؤمن بها هؤلاء الذين سموا بالهراطقة ، والذين منهم من رفضوا إنجيل يوحنا كما علمنا ، ويقينا أيضاً أن هذه الأناجيل كانت تنفي ما قيل عن ألوهية المسيح ، ولذا طوردت وأحرقت ، ولو بقيت إلي اليوم ، لكانت خير دليل في يد المسيحيين أنفسهم على عدم ألوهية المسيح ، ولكنه التعصب تشبث بفكرة خاطئة اعتنقها البعض ، وحارب من لا يؤمن بها وطارد أناجيله وأحرقها ، ومن يدري ، لعل هذه الأناجيل كان من بينها ذلك الإنجيل الذي دعا المسيح منذ فجر دعوته إلي الإيمان به ، وإليه أشار بعد ذلك في حياته ، وهو الإنجيل الذي يؤمن به المسلمون كما سبق أن بينا ، ولكن هكذا شاء التعصب للقول بألوهية المسيح أن يحارب من ينفي هذه الألوهية ، حتى أنه كاد أن يطمس ما ينفي هذه الألوهية.(1/481)
وإذا كانت الحقيقة قد حوربت على هذا النحو ، وقبل الإسلام وليس بعده ، فإنه يبقي على كل مسيحي يؤمن بالله وبمسيحه وبرسله ، أن يبحث نفسه عن الحقيقة بشأن هذا النبي الرسول ، المسيح عليه السلام ، الذي عرفه الناس إنساناً بشراً معظم ، بل طوال سني حياته ، وظل البعض لا يري فيه غير ذلك ممن آمنوا به واتبعوه حتى بعد رفعه ، بينما قال البعض الآخر ، وبعد رفعه ، وهم الذين كانت لكلماتهم الغلبة ، قالوا بعد رفعه أنه الله وإن لم يعرفوه من قبل ، أقول يبقي على كل مسيحي أن يسائل نفسه ، هل كان حقاً من ذلك الإنسان العظيم ما يجعل الناس يعتقدون أنه الله ، ويحتم عليهم أن يؤمنوا بذلك ، وليبحث كل بضميره وإيمانه ، وبما يؤمن أنه الحقيقة ، ويقيناً أن من يستهدف الحقيقة لابد وأنه واجدها ، ولن تكون غير أن المسيح عليه السلام لم يكن غير إنسان بشر ، ولم يكن منه على الإطلاق ما يجيز للناس أن يعتبروه إلهاً أو يروا فيه الله.
وحينئذ لن يجد أحد نفسه ملزماً ، بما وجدناه في تعليم كنيسة الإسكندرية فيما يختص بطبيعة السيد المسيح ، من أنه يجب أن نقف بعقولنا عند حد معين كما يقول الدكتور وهيب عطا الله صاحب هذا التعليم ، ولن يجد أحد نفسه ملزماً على الإطلاق بأن يؤمن بما يعتبر مشكلة كبيرة بالنسبة للعقل الفلسفي وللعقل المادي ، ولا بما فيه تناقض أو تعارض مع قوانين العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية دون أن يسأل كيف ولا لماذا ، وإنما سيجد كل عقله مطلقاً من غير قيد ، محرراً من غير خوف ، يطوف به أرجاء الكون مع الله الخالق القادر المدبر المهيمن ، الذي لا إله إلا هو ، والذي لم يتجسد ولم يتأنس ولم يكن إنساناً في يوم من الأيام ، سبحانه وتعالى عما يشركون .
الفصل الرابع
ما قد يثور من اعتراضات على الحقيقة التي انتهينا إليها
من عدم ألوهية المسيح(1/482)
وطبيعي أن تكون أول هذه الاعتراضات هي تفسير كيف أن الناس إذن ؛ أو بعض الناس بمعني أدق ، اعتبروا المسيح إلهاً وهم من أقرب المقربين إليه وشهادتهم عنه هي أقرب الشهادات إلي القبول ، أما الاعتراض الثاني ، فهو إذا كان التعرف على حقيقة طبيعة المسيح أمر من السهولة بمكان كما انتهينا ، فكيف أن المسيحيين أنفسهم لا يصلون إلي هذه الحقيقة ، وهم اليوم يعتبرونها من أكبر ما يناقضه دينهم ، أفلم يكون الأولي أن يصلوا هم إلي الحقيقة بشأن طبيعة المسيح ، وخاصة أن المسيحية دينهم ، ونبحث كل اعتراض في مبحث على التوالي.
المبحث الأول
كيف يعتبر اتباع المسيح أنه هو الله
وإنها للحق لتبدو مشكلة كبيرة أن يعتبر أتباع المسيح ، والذين عرفوه ، أن يعتبروا المسيح إلهاً ، ويرون فيه الله نفسه ، ولكن الواقع أنه أمر منطقي إلي أبعد حد ، وكما قلنا من قبل ، فإننا لنحكم على واقعة معينة ، يجب أن ننسي العصر الذي نعيش فيه ، ونعود إلى العصر الذي كانت فيه هذه الواقعة ، والواقع أن الحضارة التي نعيشها في هذا العصر قد فتحت الأذهان ووسعت الآفاق والمدارك ، عما كان عليه الحال منذ ما يقرب من العشرين قرناً أضعاف المرات ، وإن ما كانت العقول تقبله وترضاه وتدافع عنه في ذلك الزمن ، قد تأباه عقولنا اليوم وترفضه حتى لتجاربه ، فالحياة كانت بسيطة غير معقدة كما هي اليوم ، والناس ، غالبية الناس هم أقرب ما يكونون إلي من نصفهم اليوم بالسذج البسطاء ، وإذا كان من السذج للبسطاء اليوم من تستهويهم الخرافات حتى ليؤمنون بها ، فلابد أن الخرافة كانت تسلب عقول هؤلاء الأقدمين.
وإذا وعينا كل ذلك ، ووعينا أن أتباع المسيح وتلاميذه كانوا من البسطاء ، البسطاء جداً ، كالصيادين مثلاً ، لسهل علينا أن نعرف كيف اعتقدوا أن المسيح هو الله خطأ ولعل لنا في سفر أعمال الرسل صورة مصغرة لكيفية تكون هذا الاعتقاد عند أتباع المسيح ، إذ نقرأ في ذلك السفر :(1/483)
(وكان يجلس في لسترة رجل عاجز الرجلين مقعد من بطن أمه ولم يمش قط . هذا كان يسمع بولس يتكلم . فشخص إليه وإذ رأي أن له إيماناً ليشفي . قال بصوت عظيم قم على رجلك منتصباً . فوثب وصار يمشي . فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكأونية قائلين إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا. فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس إذ كان هو المتقدم في الكلام . فأتي كاهن زفس الذي كان قدام المدينة بثيران وأكاليل عند الأبواب مع الجموع وكان يريد أن يذبح فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما واندفعا إلى الجمع صارخين . وقائلين أيها الرجال لماذا تفعلون هذا . نحن أيضاً بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلي الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها.
الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم . مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيراً يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً ، وبقولهما هذا كفا الجموع بالجهد عن أن يذبحوا لهما.) (ص 14 : 8 - 18)
فهنا ، وعلى حد ما جاء في السفر ، أناس ممن عاصروا عهد المسيح عليه السلام ورأوا معجزة بسيطة لا تكاد أن تقاس شيئاً إلي جانب معجزات المسيح ، ولبساطتهم ولسذاجتهم فإنهم من فورهم قالوا بأن الذين فعلوا ذلك إنما هم آلهة تشبهوا بالبشر ونزلوا إليهم ، وأطلقوا عليهم أسماء غير أسمائهم كأنهم آلهة حقاً ، ثم أتي الكاهن بثيران وأكاليل مع الجموع يريد أن يذبح ، تأكيداً لما ظنوه من أن اللذين فعلاً هذه المعجزة آلهة ، وكان بولس وبرنابا لم ينصرفا بعد ، ولذا بذلا جهدهما لكي يصرفا الناس عما ظنوه بشأنهما ، حتى أنهما مزقا ثيابهما من فرط ضيقهما بهذه الضلالة التي قال بها الناس عنهما ، وبعد جهد منهما ، تمكنا من أن يصرفا الناس عن هذا الظن بشأنهما.(1/484)
فتري ، إذا كان هذا هو حال الناس بالنسبة لمعجزة لا تقاس شيئاً إلي جانب معجزات المسيح ، الذي وصل إلي حد أنه أحيا أمام الناس الموتي - بإذن الله - ، فكيف يكون حال من عرفوا المسيح ، وعاصروه ، ورأوا معجزاته يوماً بعد يوم ، تأخذهم الدهشة حيناً ، وتأخذهم الرهبة حيناً آخر ، يعجبون مرة ، ويذهلون مرات وما كانوا إلا قوماً بسطاء ، معظمهم من الصيادين ، وكان الأمر يصل بهم أحياناً كما عرفنا من الأناجيل إلي حد أن يخافوا أن يسألوا المسيح عما غمض عليهم ، ولم يكن إذن لتوالي المعجزات إلا أن تحفر في نفوسهم آثاراً عميقة تترسب يوماً بعد يوم حتى كان ما كان من ظنهم أنه قد صلب ، ثم ما أشيع من أنه قام من بين الأموات بعد دفنه ، وحينئذ يجمعون ذلك على ما علموه من ميلاده من مريم عليها السلام هي عذراء ، وإلي معجزاته التي شاهدوها ، فيجتمع في أذهانهم من هذا الخليط كله صورة يخالونها الله نفسه ، إذ كان ذلك هو التعليل في أذهانهم لمعجزاته وميلاده من عذراء ولما ظنوه من صلبه ودفنه وقيامته من بين الأموات ، تلك القيامة التي اقترنت رواياتها بقوله فيها ما يدل أيضاً على ألوهيته ، فيجهر بعضهم للناس بذلك ، وما أسهل أن يتلقف الناس هذا الذي يجهرون به ، وما أسهل أن يؤمن الناس في ذلك الحين به ، وهم على هذا الحال الذي عرفناهم عليه في الرواية السابقة ، بل إن هذا لهو الأقرب إلي أذهان الناس في ذلك الوقت ، ولذا يتلقونه في يسر ورضاء ، حتى ليدافعون عنه ويحاربون من ينكره .(1/485)
ولكن الثابت أيضاً ، أنه رغم كل هذا ، فقد بقي أناس على إيمانهم الذي كانوا عليه من قبل عن المسيح ، فلم يروا فيه الله على الإطلاق ، وإنما ظلوا على اعتقادهم الصحيح ، عن طبيعة المسيح عليه السلام من أنه إنسان بشر وليس إلهاً بأي حال ، وإذا كان قد كان قد كتب لهذه الفئة أن تنهزم ولا تكون لها الغلبة ؛ فليس ذلك عيب الحقيقة ، وإنما عيب من تغاضوا عن الحقيقة ، وحاربوها ، ظناً منهم أنهم إذ يؤلهون المسيح فإنهم يزيدون من قدره ، ولكنهم وللحق ، إنما يحاربون رسالته نفسها ، وإن كانوا لا يعلمون ؛ ويقيناً أن المسيح لو لم يكن قد رفع عن الناس ؛ لفعل أكثر مما فعله بولس وبرنابا حين مزقا ثيابهما أمام الناس الذين رأوا فيهما آلهة ؛ ولكن المسيح كان قد رفع ؛ وبذا كتب للقول بألوهيته أن ينتشر ؛ على ما فيه من مجانبة للحقيقة والواقع ؛ وليتهم قالوا بألوهيته قبل رفعه عليه السلام ، إذن لما كتب للقول بألوهيته أن ينتشر بأي حال.
المبحث الثاني
لماذا لا يصل المسيحيون إلي الحقيقة التي انتهينا إليها
بشأن طبيعة المسيح
ولا أظن أن السبب الذي من أجله لا يصل المسيحيون إلي الحقيقة التي انتهينا إليها بشأن طبيعة المسيح لازال خافياً حتى الآن ، وإنما كل ما أراه أنه في حاجة إلي مزيد من الشرح والإيضاح ؛ فقد عرفنا أن الناس جميعاً ؛ أم المسيح ؛ والدته ؛ وآله وأصحابه وأقرانه ومن عرفوه وعاشروه حتى بدء دعوت ؛ ومن عرفوه حين بدأ دعوته وبعد بدئها بفترة هي الطولي في فترة دعوته ؛ عرفوا جميعاً المسيح طوال هذا الوقت ؛ كمجرد إنسان بشر مثلهم ؛ رغم أنهم عرفوا فيه المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم ؛ بل وعرفوا بميلاده العذراوي وبمعجزاته جميعاً ؛ لم يروا فيه جميعاً غير إنسان بشر مثلهم ؛ بل إن أيا منهم لم يدر بخلده على الإطلاق أن هذا الإنسان الذي عرفوه يمكن أن يكون هو الله .(1/486)
وحتى إلي ما بعد رفع المسيح ؛ فقد ظل أناس على اعتقادهم بشأن طبيعة المسيح عليه السلام ؛ فلم يروا فيه كل ما أشيع بعد رفعه عن الاعتقاد بألوهيته ؛ لم يروا فيه رغم ذلك غير إنسان بشر مثلهم ؛ إلا أن آخرين ؛ ابتدأوا بعد رفعه يشيعون الاعتقاد بألوهيته ؛ وتلقف العامة هذا القول الذي كان لبساطتهم وسذاجتهم أقرب إلى عقولهم وقلوبهم ، فأخذوه قضية مسلماً بها واعتنقوه ؛ وانتصر هذا الاعتقاد وكثر من قالوا به حتى حاربوا من ظلوا على إيمانهم عن طبيعة المسيح من أنه مجرد إنسان بشر ؛ وسمي من قالوا بألوهية المسيح من ظلوا متمسكين باعتقادهم بأنه مجرد إنسان بشر مثلهم ؛ سموهم بالهراطقة ، ولا زالوا يسمونهم كذلك إلي يومنا هذا .
وهنا أكبر مغالطة ؛ فإذا كانت كلمة الهرطقة كلمة دخيلة على اللغة العربية ؛ فإنها قد أصبحت تطلق اصطلاحاً على الانحراف ، وإن أي إنسان ينظر إلي هؤلاء الذين سموا بالهراطقة ، ليبين له أن الواقع أنهم لم يكونوا المنحرفين على الإطلاق ، ذلك أنهم وسائر الناس جميعاً ، الذين عرفوا المسيح عليه السلام ، عرفوه رغم كل ما عرفوه عنه ، أنه مجرد إنسان بشر ؛ وظلوا على هذا الاعتقاد ولم ينحرفوا عنه ، حتى بعد رفع المسيح عليه السلام ؛ وحتى بعد أن شاع القول بأنه الله ، فقد ظلوا رغم ذلك على إيمانهم الذي عرفوه عن طبيعة المسيح من أنه إنسان بشر مثلهم ؛ أما الذين انحرفوا حقاً ، فهم الذين انحرفوا عن هذا الذي كان مستقراً بين الناس جميعاً ؛ وقالوا أن المسيح هوا لله ، وبذا ، فالذين هرطقوا حقاً ، والذين هم حقيقون بأن يقال عنهم أنهم هراطقة ، هم الذين انحرفوا عن القول بأن المسيح إنسان بشر ، وهو ما كانوا يعتقدونه أولاً ، وقالوا بأن المسيح هو الله .(1/487)
وعلى أساس من هذه المغالطة ، من هذه الأكذوبة الكبري ، يركز المسيحيون اليوم تعاليمهم ، فبدلاً من أن يكون الأصل هو ما عرف عن المسيح من أنه مجرد إنسان بشر كسائر الناس وعلى من يقول بغير ذلك إثبات ما يقوله ، أصبح الأصل عندهم أن المسيح هو الله وعلى من يقول بعكس ذلك إثبات ما يقوله ، بل إنهم لا يقبلون أبداً أن يعتقدوا بعكس ذلك مهما كان الدليل قاطعاً وحاسماً ، ويعتبرون أن القول بغير ما يعتقدونه من ألوهية المسيح انحرافاً وهرطقة .(1/488)
ولكن الواقع الذي يسلمون به هو عكس ما يقولون ، فإنهم يسلمون بأن المسيح لم تعرفه أمه العذراء الطاهرة إلا إنساناً ، رغم أنها أدري الناس بأنها ولدته ولم يمسها بشر ، وعرفه الناس جميعاً طفلاً وشاباً ورجلاً ، مجرد إنسان مثلهم ، ثم بدأ يبشر بدعوته ، فعرف فيه الناس فوق ذلك رسولاً نبياً ، ولم يعرف فيه أحد أنه إله ولم يدر بخلد أحد أنه قد يكون كذلك ، وظل الناس على هذا الاعتقاد بشأنه طوال فترة دعوته ؛ وحتى بعد رفعه ومرور أيام على ذلك ، فهنا نحن بصدد شخص لم يعرف إلا كإنسان ، وليس أخطر في الدين من أن يقال عن شخص عرف على هذا النحو وطوال حياته ، أنه الله ، فمن هنا ، ومن هذه النقطة بالذات يتعين أن يكون بحث كل مسيحي عن حقيقة المسيح عليه السلام ، فيري هل هذا الإنسان ه إله أو هو الله حقاً ، ولو بدأ أحد من هنا كما بدأنا لما وجد في المسيح غير إنسان ، ولما وجد إلا أن القول بأن الله ، هو في الواقع كفر بالله ، ولكنهم يأبون أن يبدأوا من هذه النقطة ، ولا يبدأون إلا من القول بأن المسيح هو الله ، وعلى أن هذا القول هو الذي انحرف في الواقع ، فإنهم يجعلون ممن لا يقرونهم وكأنهم هم المنحرفون ، ويسمونهم الهراطقة ؛ والحق كما قلنا من قبل أنهم هم الذين انحرفوا وهم الذين هرطقوا ، ولن يصلوا إلي الحقيقة يوماً إلا بأن يبدأوا من حيث عرف المسيح كإنسان ويمضوا بعد ذلك ، وحينئذ فلن يجدوا فيه غير إنسان ، ولكن ، هل يفعلون .
الفصل الخامس
الله في ضوء العلم(1/489)
قلنا أنه لا يفوتنا هنا في هذا الباب ، ما للعلم من أثر في المجتمعات الحديثة ، وأن الكثيرين قد وجدوا بحق أن العلم يدعو إلي الإيمان بالله ، وأقاموا الدليل العلمي على وجوده سبحانه وتعالى ، وقلنا أيضاً أنه ليس من شك أن مثل ذلك قد يعيننا في التعرف على الله ، والذي يقول المسيحيون أنه المسيح عليه السلام ، وهناك كتب كثيرة تؤكد وجود الله وتقيم الدليل على ذلك بأساليب علمية ، ولعل خير كتاب نستعين به في هذا الصدد هو كتاب (الله يتجلي في عصر العلم) (الذي ألفه نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض وقد ترجمه الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان) ، ذلك أن هذا الكتاب بخلاف الكتب الأخرى من هذا النوع ؛ إنما قام بتأليفه عدد كبير من العلماء ؛ أثبت كل منهم وجود الله حسب الفرع من فروع العلم الذي تخصص فيه ؛ وبعد أن نستعرض ما جاء في هذا الكتاب في مبحث أول نتناول في مبحث ثان بيان أي من الصورتين لله أيدها الكتاب ؛ الله كما يؤمن به المسلمون ؛ أم الله الذي هو المسيح كما يؤمن المسيحيون.
المبحث الأول
الله يتجلى في عصر العلم
قلنا أن هذا الكتاب قد ألفه عدد كبير من العلماء ؛ كل منهم أثبت وجود الله حسب الفرع من فروع العلم الذي تخصص فيه ؛ والذي يعنينا بطبيعة الحال هو الصورة التي ينتهي إليها المؤلفون لله ، وهذا ما نعني بأن نتناوله من مقالة كل مؤلف بقدر الإمكان فيما يلي :
(من مقالة الدكتور إدوارد لوثر كيل نقرأ في صفحتي 29 و30)(1/490)
(واليوم لابد لمن يؤمنون بنتائج العلوم أن يؤمنوا بفكرة الخلق ، وهي فكرة تستشرق على سنن الطبيعة ، لأن هذه السنن إنما هي ثمرة الخلق ، ولابد لهم أن يسلموا بفكرة الخالق الذي وضع قوانين هذا الكون ، لأن هذه القوانين ذاتها مخلوقة ، وليس من المعقول أن يكون هناك خلق دون خالق : هو الله ، وما أن أوجد الله مادة هذا الكون والقوانين التي تخضع لها حتى سخرها جميعاً لاستمرار عملية الخلق عن طريق التطور.)
(ونقرأ في مقالة الدكتور وولتر أوسكار ليدبرج من صفحة 33)
(وحتى عندما تتحرر عقول الناس من الخوف فليس من السهل أن تتحرر من التعصب والأهواء ، ففي جميع المنظمات الدينية المسيحية تبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في إله هو على صورة الإنسان ، بدلاً من الاعتقاد بأن الإنسان قد خلق خليفة لله على الأرض. وعندما تنمو العقول يعد ذلك وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية فإن تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير أو مع أي منطق مقبول. وأخيراً عندما تفشل جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي نجد هؤلاء المفكرين يتخلصون من الصراع بنبذ فكرة الله كلية . وعندما يصلون إلي هذه المرحلة ويظنون أنهم قد تخلصوا من أوهام الدين وما ترتب عليها من نتائج نفسية ؛ لا يحبون العودة إلي التفكير في هذه الموضوعات ، بل يقاومون قبول أية فكرة جديدة تتصل بهذا الموضوع وتدور حول وجود الله.)
(ويقول نفس الدكتور أيضاً في مقالته)(1/491)
(ولا تنبع فكرة الإيمان بوجود الله أصلاً من قدرة الإنسان على تقدير هذا النظام أو التنبؤ بما يترتب عليه ، ولكنها ترجع إلي أن الإنسان نفسه قد خلق خليفة لله. فإذا نبذ الإنسان فكرة الإيمان بإله على صورته . وآمن بما تكشف عنه وتدل عليه الظواهر الطبيعية من أن الإنسان هو الذي خلق على صورة الله أو خليفة له ، فإنه يسير في الطريق السليم نحو الإيمان بجلال الله وقدسيته.)
(ومن مقالة الدكتور كليرانس ايرسولد نقرأ في صفحة 39)
(ولكن هل لله وجود ذاتي كما يعتقد الكثيرون ، أما من وجهة نظر العلم فإنني لا أستطيع أن أتصور الله تصوراً مادياً بحيث تستطيع أن تدركه الأبصار ، أو أن يحل في مكان دون الآخر ، أو أن يجلس على كرسي أو عرش . إن الكتب المقدسة عندما تصف لنا الإله ، وتتحدث عن ذاته وكنهه تستخدم كثيراً من الألفاظ الدنيوية التي نألفها في وصف حياة الإنسان وتاريخه على الأرض ، ولكن الله تعالى كائن روحاني لطيف ، بل هو فوق ذلك إن كان وراء الروحانية من وراء في مرتبة الصعود . ونحن لا نستطيع أن نصفه وصفاً روحانياً صرفاً ، فالإنسان رغم أنه يتكون من جسد وروح لا يستطيع أن يدرك هذه الصفات الروحانية أو يعبر عنها إلا في حدود خبرته ، ومع ذلك فإننا نستطيع أن نصل إلي أن الله تعالى يتصف بالعقل والحكمة والإرادة . وعلى ذلك فإن لله وجوداً ذاتياً ، وهو الذي تتجلي قدرته في كل شيء ، وبرغم أننا نعجز عن إدراكه مادياً أو وصفه وصفاً مادياً ، فهنالك ما لا يحصي من الأدلة المادية على وجوده تعالى ، وتدل أياديه في خلقه على أنه العليم الذي لا نهاية لعلمه ، الحكيم الذي لا حدود لحكمته ، القوي إلي أقصي حدود القوة .)
(ومن مقالة الدكتور جورج إيرل دافيز في صفحة 41)
(وقد تتعدد الأسباب التي تدفع بالإنسان إلي إعادة النظر في أمور الدين ، ولكننا نؤمن أنها ترجع جميعاً إلي رغبة البشر رغبة صادقة في الوصول إلي الحقيقة .(1/492)
وينبغي أن نفرق في هذا المقام بين معارضة الدين أو الخروج عليه وبين الإلحاد ، وأن نعترف بأن من يخرج على بعض الأفكار التقليدية التي ينطوي عليها دين من الأديان ، لكي يؤمن بوجود إله قوي كبير ، لا يجوز أن نعده بسبب ذلك وحده ملحداً ، فمثل هذا الشخص قد يكون غير معتنق لدين من الأديان ، ولكنه يؤمن بالله ، وقد يكون إيمانه هذا بالله تعالى قائماً على أساس متين.)
(ونقرأ من نفس المقالة في صفحة 42)
(أما عن عقيدتي في وجود الله ، فمن العبث أن أنكر أنها لم تتأثر بما تلقيته من تعاليم دينية في سنوات حياتي الأولي ، إذا أنه لا سبيل إلي التخلص من الآثار التي تتركها هذه السنوات المبكرة من حياتنا في أنفسنا . ولكنني أستطيع أن أؤكد أنه بينما تتفق عقيدتي الدينية في الوقت الحاضر مع ما تعلمته في صباي عن وجود الله ، فإن هذه العقيدة تقوم في الوقت الحاضر على أساس قوي يختلف كل الاختلاف عن الأساس الذي يقوم عليه الإيمان المستمد من سلطة الكنيسة ورجال الدين.)
(ونقرأ ما يقوله الدكتور إيرفنج وليام في ختام مقالته في صفحة 56)
(ولكنني أومن بوجود الله . إنني اعتقد في وجوده سبحانه لأنني لا أستطيع أن أتصور أن المصادفات وحدها تستطيع أن تفسر لنا ظهور الإلكترونات والبروتونات الأولى أو الذرات الأولى أو الأحماض الأمينية الأولى أو البروتوبلازم الأول أو البذرة الأولى أو العقل الأول . إنني أعتقد في وجود الله لأن وجوده القدسي هو التفسير المنطقي الوحيد لكل ما يحيط بنا من ظواهر الكون التي نشاهدها.)
(وللدكتور لورنس كولتون ووكر نقرأ في صفحتي 68 ، 69)(1/493)
(إن تلك التفاعلات الدقيقة والحركة المنظمة والخضوع لقوانين ثابتة مما تكشف عنه هذه التفاعلات وأمثالها التي لا يحصيها عد ولا حصر ، ليست إلا دليلاً وشاهداً على أن الكون منظم غاية التنظيم مما أطلق عليه هجلز (نظرية كمال الكون) .. وكما قال الفيلسوف بول (إن قدرة الله تتجلي في كل شيء . وكل شيء يقوم بقدرته ) وكما يقول فيليبس في تعليقه على هذا الكلام : (لقد ظهر الحق ، فمنذ بدأ الله هذا الكون تتجلي آياته وقوته الخالدة في كل ما يقع عليه الحس أو يحيط به العقل ) .)
(ونقرأ للدكتور وولتر إدوارد لاميرتس في صفحتي 73 و74)
(إن المقام لا يتسع لضرب أمثلة عديدة أخرى لإثبات أن نظرية التطور المادي لا تستطيع أن تفسر لنا تلك الاختلافات العديدة التي نشاهدها في عالم الأحياء . إنها جميعاً تشير إلي وجود خالق حكيم هو الذي جعل هذه الكائنات الحية قادرة على أن تتحمل ظروفاً غير الظروف التي نشأت في ظلها ، وعلى أن تتلاءم مع هذه الظروف .
ومع ذلك فإن دراسة الطبيعة لا تكشف لنا إلا عن قدرة الخالق ونظامه المحكم رغم أنها لا تستطيع أن تكشف لنا عن حكمته ومقصده .)
(ونقرأ للأستاذ جورج هربرت بلونت في صفحتي 80 و81 قوله)
(لقد درس كثير من الباحثين الأسباب التي تجعل الناس يؤمنون إيماناً أعمي يقوم على التسليم ، لا على أساس المنطق والاقتناع ، وما يؤدي إليه هذا النوع من الإيمان بأفكار متناقضة حول صفات الله ، وتدل الشواهد على أن هنالك نوعاً من الإجماع بين الفلاسفة والمفكرين على أن لهذا الكون إلهاً ، ولكنه لا يوجد هنالك اتفاق على أن هذا الإله هو ذاته إله الكتب المقدسة.)
(ونقرأ أيضاً من نفس المقالة في صفحة 84)(1/494)
(ومجرد الاقتناع بوجود الله لا يجعل الإنسان مؤمناً ، فبعض الناس يخشون من القيود التي يفرضها الاعتراف بوجود الله على حريتهم ، وليس هذا الخوف قائماً على غير أساس ، فإننا نشاهد أن كثيراً من المذاهب المسيحية ، حتى تلك التي تعتبر مذاهب عظمي ، تفرض نوعاً من الدكتاتورية على العقول ، ولاشك أن هذه الدكتاتورية الفكرية إنما هي من صنع الإنسان وليست بالأمر اللازم في الدين).
(ونقرأ في أول مقالة الدكتور دونالد روبرت كار في صفحة 86)
(من المحال أن أدخل في مناقشة حول وجود الله ، دون أن أكون متأثراً ببعض الاتجاهات . وقد يبدو ذلك متعارضاً مع الروح العلمية ، ولكن دعني أوضح ذلك أولاً ثم أعقب ببعض الملاحظات العلمية .
عندما يطلب إلينا أن نبين الأسباب التي تدعونا إلي الإيمان بالله ، نستطيع أن نجد في بحوثنا العلمية ما يدعونا بقوة إلي الإيمان به ، ولو أنه ليس من الضرورى أن يكون هو نفس إله الكتاب المقدس ، ثم نحاول بعد ذلك أن نثبت أن هذا الإله هو ذات إله الكتاب المقدس . وهذا الأمر يعتمد كثيراً على الإيمان الروحي ؛ ويتوقف على ما بينه الله من إيمان في قلوبنا.)
(ونقرأ للدكتور جون أدولف بوهلد في صفحتي 104 و105)(1/495)
(.... والواجب أن نتلمس قدرة الله في النظام الذي خلقه والقوانين التي أخضع لها جميع الظواهر والأشياء ، فقد يستطيع الإنسان أن يفسر ما كان غامضاً عليه باكتشاف القوانين التي تحكمها ، ولكن الإنسان عاجز عن أن يسن تلك القوانين ، فهي من صنع الله وحده . ولا يفعل الإنسان أكثر من أنه يكتشفها ثم يستخدمها في محاولة إدراك أسرار هذا الكون . وكل قانون يكتشفه الإنسان يزيده قرباً من الله ، وقدره على إدراكه ، فتلك هي الآيات التي يتجلي بها الله علينا ، وقد لا تكون هذه هي طريقته الوحيدة في هذا التجلي ، فهو يتجلي أيضاً في كتبه المقدسة مثلاً ومع ذلك فإن تجليه تعالي في آياته التي نشاهدها في هذا الكون تعتبر بالغة الأهمية بالنسبة لنا.)
(وأخيراً نطالع ما ذكره الأستاذ أندرو كونواي ايفي في صفحة 156 عن صفات الله من قوله)
(لقد درست صفات الله دراسة مطولة على أساس التحليل المنطقي الذي قام به الفلاسفة . وأمكن باستخدام المنطق الوصول إلي أن لله صفات معينة ، وفيما يلي مجموعة غير كاملة منها:
الله أبدي - خالد - لطيف (ليس مادياً) - ليس حادثاً - قدوس - طيب - يعلم الشر ولكنه ليس شريراً ولا يريد الشر - لا يكره الأشياء - حق - عليم - محب - مريد - منزه عن الشهوات والنزوات - أصل الفضائل جميعاً.
وتتفق هذه الصفات إلي حد كبير مع الصفات التي وردت عن الله في الإنجيل ، وخاصة في العهد الحديث ، ولكن معظم صفات الله التي وردت في الإنجيل ، جاءت على أنها بديهيات ولم تقدم على أساس منطقي .)
المبحث الثاني
أي الصورتين لله يؤيدها العلم
الصورة المسيحية أم الإسلامية(1/496)
رأينا في المبحث السابق ، الله ، كما يتصوره العلماء الذين يثبتون وجود الله علمياً كل حسب الفرع من فروع العلم الذي تخصص فيه ، وإذ نتساءل الآن عن أي الصورتين لله يؤيدها العلم ، الصورة المسيحية أم الصورة الإسلامية ، فإننا لا نكاد أن نعرف من كل ما سبق غير الصورة المسيحية لله ، ألا وهو الآب والابن والروح القدس ، كما وجدنا ، والابن هو كما يقولون المسيح عليه السلام ، الذي هو نفسه الله وفقاً للتفصيل الذي أشرنا إليه من قبل ، ولكننا في كل ما سبق لم نشر إلي الله كما يؤمن به المسلمون.
ولعلنا لسنا هنا في حاجة إلي تفصيل لبيان فكرة المسلمين عن الله وتصورهم له ، إذ يكفي في هذا الصدد أن فكرة المسيحيين والمسلمين عن الله في الأصل فكرة واحدة ، فالله هو الأزلي الخالق القادر المهيمن ، بديع السماوات والأرض وما بينها ، خالق كل شيء ، إليه كل شيء ، إليه المصير ، إلي آخر ذلك مما يقوله المسيحيون والمسلمون عن الله ، أما الفرق بين الله عند المسلمين وعند المسيحيين فإنه لا يقوم إلا في تصور المسيحيين أن لله أقانيماً ثلاثة ، وإن المسيح عليه السلام هو الله نفسه وقد نزل وتجسد ، أو هو الله الابن ، ومن هنا فإن وجه الخلاف أصلا يقوم في تأليه المسيحيين للمسيح عليه السلام والذي لا يري فيه المسلمون غير إنسان بشر ؛ وعلى هذا فبيان مدي مطابقة العلم لصورة الله في المسيحية أو الإسلام ، إنما يكاد أن ينحصر في بيان ما إذا كانت هذه الصورة المسيحية من تأليه المسيح تتفق مع العلم أم لا.(1/497)
وهنا نجد أن العلم إنما أيد الفكرة عن الله التي تتفق فيها المسيحية والإسلام ، فالله فيما تقدم في المبحث السابق ، هو الخالق الأزلي ، الذي ليس له بداية ، العليم المحيط بكل شيء ، القادر دون أن تكون لقدرته حدود ، خالق الكون ، وهو العقل اللانهائي ، خالق قوانين الكون ومسخرها ، الحكيم ولا حدود لحكمته ، تتجلي قدرته في كل شيء الأبدي ، الخالد ، .... إلي آخر ذلك من الصفات التي رآها العلماء بحق لله ، وهي كلها صفات يؤمن بها المسيحيون والمسلمون لله.
أما حيث تختلف المسيحية والإسلام ، حيث يري المسيحيون في المسيح الله نفسه بينما ينفي المسلمون في المسيح هذه الألوهية المقال بها ، فهنا وجدنا العلماء بين أحد أمرين ، إما أن يتجاهلوا هذه النقطة تماماً ، وقد فعل معظمهم ذلك ، وإما أن يتعرضوا لها ولا يغفلوها ، وقد فعل القليلون ذلك ، وهؤلاء الذين فعلوا ذلك إنما نفوا أن يكون المسيح هو الله ، بل وصلوا إلي أبعد من ذلك ، وهؤلاء الذين فعلوا ذلك إنما نفوا أن يكون المسيح هو الله ، بل وصلوا إلي أبعد من ذلك ، فقد قالوا أن هذا القول نفسه ، والذي لا ينسجم مع أسلوب التفكير ولا أي منطق مقبول ؛ هو الذي يجعل المفكرين ينبذون فكرة الله كلية ؛ أي أنه هو نفسه الذي يؤدي إلي الإلحاد والكفر بالله بدلاً من الإيمان به .
وهذا هو ما وجدناه صراحة في مقالة الدكتور وولتر أوسكار لندبرج ، والذي قال بأن جميع المنظمات المسيحية تبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في إله هو على صورة الإنسان ، مشيراً بذلك إلي المسيح عليه السلام ، ويقول بعد ذلك أنه عندما تنمو العقول وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية فإن تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير ولا مع أي منطق مقبول ، ويشير بعد ذلك إلي أن هذا يؤدي بالمفكرين إلي نبذ فكرة الله كلية.(1/498)
ولسنا ندري ما هو دين هذا الدكتور ؛ وأغلب الظن أنه يهودي ، لأن أياً من هؤلاء الكتاب الذي أشرنا إليهم ليس مسلماً بطبيعة الحال ، ولأنه يشير إلي المنظمات المسيحية بما يفهم منه أنه ليس مسيحياً ، ولقد يري المسيحيون في ذلك ما يجعل رأيه مشوباً بالتعصب لدينه ، ولكننا لا ننسي في هذا الصدد أن المسيحيين قد جمعوا العهد القديم الذي يؤمن به اليهود إلي ما سموه بالعهد الجديد وجعلوا من كل ذلك كتاباً واحداً يؤمنون به في مجموعة ، ولذا فالمفروض أن صورة الله لا تختلف في المسيحية عنها في الموسوية ، ثم إن الرجل إنما يتحدث من وجهة النظر العلمية ، وهو إنما يشير في الحقيقة إلي أمر واقع ، وهو انتشار الإلحاد في البلاد المسيحية بين المثقفين خاصة ، وهو يضع يده بحق على السبب المباشر لهذا الإلحاد.
ثم إنه إذا أمكن القول بأن هذا الكاتب إنما يتعصب لدينه ، فهذا لا يمكن أن يقال بالنسبة لآخر هو الدكتور جورج إيرل دافيز ، ذلك أننا نعرف من مقالته أنه مسيحي ، وهو في مقالته يقترب إلي حد كبير مما قاله الدكتور وولتر أوسكار لندبرج ، ذلك أنه يقول في مقالته :
(وينبغي أن نفرق في هذا المقام بين معارضة الدين أو الخروج عليه وبين الإلحاد ، وأن نعترف بأن من يخرج على بعض الأفكار التقليدية التي ينطوي عليها دين من الأديان ، لكي يؤمن بوجود إله قوي كبير ، لا يجوز أن نعده بسبب ذلك وحده ملحداً .)(1/499)
فما هو الخروج على الدين هذا الذي لا يري فيه الكاتب إلحاداً ، أليس هو القول بوجود إله قوي كبير ، مخالفاً بذلك ما يقول به دينه ، وما يقول دينه إلا بأن المسيح هو الله ، وبذا فالكاتب لم يقصد إلا القول بأن الإيمان بالله دون الاعتراف بأن المسيح هو الله لا يجوز أن يعد إلحاداً ، والكاتب إذ يريد أن يقول ذلك ، فإنه يخشي أن يعترف به صراحة ، لأنه إنما لا يستطيع التخلص من عقيدته في ألوهيته المسيح والتي تلقي التعليم بها في السني الأولي من حياته كما يقول ، وما كان أجدره بأن يكون أكثر شجاعة وصراحة في إبدائه لرأيه .
ثم ها نحن نرى آخرين ، يتساءلون عما إذا كان الله الذي يثبته العلم هو الله الذي يشير إليه الكتاب المقدس ، وطبيعة التساؤل هنا تحمل معني الشك وعدم الاقتناع ، وعلى أي حال فإننا لم نجد كاتباً واحداً انتهي من أبحاثه إلي أن الله الذي يثبت العلم وجوده له أقانيم ثلاثة ، أو أنه إنسان أو نحو ذلك على الإطلاق ، بل كل ما وجدناه في هذا الصدد ينفي ذلك نفياً تاماً ، ويجعل القول بذلك سبب الإلحاد بين المسيحيين بحق .
وهذا الذي انتهينا إليه ليس بعيداً عن الواقع بأي حال ، فهذه الطبيعة الإلهية التي قبل بها للمسيح كانت هي وحدها السبب الأول لإنشقاق المسيحيين ، والمعول الأول في هدم وحدتهم ، التي يقولون رغم ذلك بأن الدين لا يقوم أصلاً إلا بها.
وفي هذا الصدد نقرأ في كتاب الحلقة الثانية من تاريخ الأمة القبطية عن خلاصة تاريخ المسيحية في مصر (تأليف الأستاذين كامل صالح نخلة وفريد كامل عضو لجنة التاريخ القبطي) ، نقرأ ابتداء من صفحة 68 وتحت عنوان تاريخ الإنشقاق :(1/500)
(كيرلس الكبير الأول البابا الرابع والعشرون (412 - 444م) في أيامه ظهرت بدعة نسطور أسقف القسطنطينية ، ومؤداها (أن لسيدنا يسوع المسيح أقنومين أحدهما إنساني والثاني إلهي . وأن السيدة العذراء ليست والدة الإله بل والدة المسيح ) فكتب البابا كيرلس رسالة للرهبان والمتوحدين أدحض بها هذه البدعة وأثبت الإيمان الأرثوذكسى الصحيح . وهو (أن لسيدنا يسوع المسيح أقنوماً واحداً إلهياً اتحد بالطبيعة الإنسانية إتحاداً بدون اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة ، وأن السيدة العذراء تدعي بحق والدة الإله) وكتب بعد ذلك إلي نسطور نفسه يرشده إلي الصواب كما كتب إلي القيصر تاودويسيوس وإلي امرأته وأخوته وكتب أيضاً إلي أسقف رومه فلم يعبأ نسطور برسالة البابا كيرلس وأصر على رأيه . أما أسقف رومه فعقد مجمعاً مكانياً حرم فيه نسطور وبدعته وحدد له عشرة أيام للتوبة . ولكن أسقف أنطاكية انتصر لنسطور وانشقت الكنيسة ......)
ويوضح كتاب رب واحد وكنيسة واحدة الذي سلفت الإشارة إليه ، أثر الانقسامات في الكنيسة بقوله في صفحتي 21 ، 22 منه :
(وإنه لمن الواضح أنه بموجب الكتاب المقدس فإن الكنيسة تقوم على صعيدين :
فهناك الكنيسة الجامعة غير المرئية والكائنة على الأرض وفي السماء ، وهناك أيضاً الطائفة المحلية التي تشكل نواة زماننا الحاضر ، ولا يكون عملنا مطابقاً لتعاليم العهد الجديد إذا دعونا تلك المنظمات (الكنسية) أمثال اللوثرية أو المثودسيثية أو الكاثوليكية أو غيرها. وانفصال هذه المنظمات سواء أكان ذلك حاصلاً في المدن أو في القرى ، بين الشعوب أو في العالم هو ما يجعل مشكلة الانقسام بارزة ولهذا يحق لنا أن نتساءل عن قيمة العهد الجديد ؟.)(2/1)
وهكذا كان الإنقسام في الكنيسة ، وإلي هذا الحد وصل أثره إلي حد التساؤل عن قيمة العهد الجديد ، فالمسيحيون يؤمنون بأن الكنيسة لا يجوز أن تكون غير واحدة ، ولكن الواقع غير ذلك ، فهم أمام العديد من الكنائس ، كل تدعي لنفسها أنها الكنيسة الحقيقية وحدها دون غيرها ، وهم لا يرون فيما يسمونه بالمصالحة ما يمكن أن يكون والكنيسة على هذا النحو من الانقسام ، ثم هم لم يعرفوا الانقسام إلا منذ قالوا بألوهية المسيح ، فقبلها عرفوا جميعاً في المسيح فوق كونه رسولاً نبياً ، أنه مجرد إنسان بشر مثلهم ، ولو ظلوا على الذي عرفوه لما اختلفوا يوماً ، ولكنهم ينسون ذلك كله ، ولا يفكرون في العودة إلي حيث لم يكونوا مختلفين ، وإنما يبدأون دائماً من حيث بدأ الخلاف ، فيتمسكون بالقول بألوهية المسيح ، ولا يكون من نتيجة تمسكهم هذا إلا استمرار لكل الخلاف والانشقاق والانقسام في كنيستهم ، ولابد أن يستمروا على هذا الانقسام ، ما داموا متمسكين بالقول بألوهية المسيح ، لأن هذه الألوهية غير صحيحة على أية صورة من الصور ، ولذا يسهل دائماً على كل فريق أن يهدم الصورة الأخرى ، ولو أننا جمعنا حججيهم جميعاً في هذا الصدد ، لوجدنا أنها تهدم هذه الألوهية المقال بها تماماً.
ورغم ذلك ، فإنهم إذ يمضون في التمسك بهذه الألوهية المقال بها ، لا يجدون من سند يناصرها إلا أن يلغي المسيحي عقله ، فيؤمن بها رغم ما في قولهم بها في تفصيلها من مناقضة للعقل والمنطق والحس والمادة وغير ذلك مما وجدناه ، وليس بحق للمسيحي في هذا الصدد أن يسأل كيف ولا لماذا ، وكما وجدنا لم يجدوا تبريراً لذلك إلا القول بأن للناس أن يستخدموا عقولهم إلي حد معين ، وحينئذ يجب أن يقف العقل ، وهكذا فقط يستطيعون أن يؤمنوا بألوهية المسيح.(2/2)
ولكن ليس كل الناس من يقبل أن يقف بعقله ، فالعقل هو أغلى ما وهبهم الله ، ولذا فإن كثيراً من الناس من يأبي ذلك ، وهم إذ يفكرون ، يأبون أن يكون المسيح هو الله ، لأن العقل والمنطق وكل شيء مقبول في هذه الدنيا يأبي على العقل أن يقبل ذلك ، وهم إذ يجدون أنفسهم على هذا النحو ، ويجدون أن الدين يحاول أن يقسرهم على قبول ذلك ، يدفعهم هذا وحده إلي رفض فكرة الله كلية ، أي يؤدي بهم إلي الكفر بالله ، وقد وجدنا أيضاً أن القول بألوهية المسيح هو سبب انشقاق الكنيسة وانقسامها ، قروناً طويلة لا يبدو أنها ستنتهي يوماً إلى عودة وحدتها ثانية ، وبذلك لم تعد الكنيسة اليوم ، وفي اعتقاد المسيحيين أنفسهم ، صالحة لتكون أساساً تقوم عليه المسيحية الحقيقية .(2/3)
فما الذي يشير إليه ذلك كله ، ألا يقطع كل هذا بأن ثمة فساداً أساسياً فيما قامت عليه المسيحية ، وألا يشير كل ذلك إلي أن هذا الفساد ليس سوى القول بألوهية المسيح عليه السلام ، وألا يشير ذلك كله أيضاً إلي أن التمسك بهذه الألوهية المقال بها لن ينتهي إلا إلي انتهاء المسيحية نفسها كدين يؤمن به الناس إن آجلاً أو عاجلاً ، إذ كما رأينا فإن من يفكر سينتهي بسبب تمسك المسيحية بالقول بألوهية المسيح ، إلي رفض فكرة الله كلية وبالتالي إلي الكفر بالله وإلي الإلحاد ، وكما رأينا بالنسبة للكنيسة فالقول بألوهية المسيح والاختلاف حول هذه الألوهية كان السبب في إنشقاق الكنيسة وانقسامها قروناً عديدة إلي يومنا هذا ، أليس هذا كله لا ينتهي حقاً إلا إلي انتهاء المسيحية نفسها كدين يؤمن به الناس ، وأليس معني هذا كله ، أن المسيحية لتبقي ، عليها أن تعود إلي عهدها الأول ، إلي ما قبل الانقسام الأول ، الذي يحاول المسيحيون تغافله وهو الانقسام الذي خرج به بعض اتباع المسيح الذين صارت لهم الغلبة فيما بعد ، على ما كان معروفاً ومتيقناً عن طبيعته ، من أنه ليس سوى إنسان بشر وهو ما ظل الكثيرون على الإيمان به حتى بعد رفع المسيح عليه السلام بسنين عديدة ولكن المنشقين حاربوهم حتى غلبوهم.
تري ألا يبين بحق أنه بذلك وحده يمكن أن تتوحد المسيحية ويمكن أن تتوحد الكنيسة ، ولكن ليس لمجرد وحدة المسيحية ووحدة الكنيسة يجب أن يعود المسيحيون إلي ذلك ، وإنما لأن هذه هي الحقيقة فقط ، يجب أن يعودوا إليها ، وكيف لا يعودون وفي هذا أيضاً فوق ذلك وحدتهم التي فقدوها قروناً ، وظلوا يحاولون إعادتها دون جدوي.
الفصل السادس
تأملات ختامية في هذا الباب(2/4)
كان هذا الباب في البحث عن الحقيقة بين ألوهية المسيح وعدم ألوهيته ، ووجدنا المسيح عليه السلام وقد عرف طوال سني حياته رسولاً نبياً وإنساناً بشراً ، ووجدنا أن المسيحيين والمسلمين يلتقون جميعاً في ذلك ، وكان طبيعياً أن يبدأ البحث من نقطة اللقاء هذه ، بل من سني اللقاء هذه، لنتتبع أقوال المسيح والتي يؤمن المسيحيون والمسلمون معاً بضرورة الالتزام بها ، ولنتبين ما إذا كان يلبس نفسه في أقواله ثوب الألوهية التي قاموا بها أم لا ، وتتبعنا أقواله في الأناجيل الثلاثة الأولى ، فإذا بها جميعاً تقطع بنفي الألوهية عن نفسه ، ثم تناولنا رابع الأناجيل ، والذي كتب بعد الأناجيل الأخرى بعشرات السنين ، وبعد رفع المسيح عليه السلام بنحو سبعين عاماً ، والذي كتب لإثبات ألوهية المسيح ، فإذا به وحده يورد على لسان المسيح ما يثبت هذه الألوهية لنفسه، مناقضاً برواياته الأناجيل الثلاثة الأخرى ، ولم يكن السبب في ذلك سوى القصد الثابت لمؤلف هذا الإنجيل من محاولته إثبات ألوهية المسيح ، وكان لزاماً لمن يستهدف الحقيقة أن يستبعد ما جاء في هذا الإنجيل عن ذلك ، ولم يكن معني هذا سوى القول بعدم ألوهية المسيح ، ولم يكن هذا القول بدعة جديدة كما وجدنا بحق ، فقد كان هذا هو إجماع كل من عرفوا المسيح في حياته ، وكان هذا هو ما ظل يعتقده الكثير من المسيحيين حتى بعد رفع المسيح بسنين عدة ، حتى أن يوحنا كتب إنجيله للرد على هؤلاء وإثبات ألوهية المسيح ، ولم يكن هذا القول منا إذن بدعة ولا انحرافنا ، وإنما كان الإنحراف حقاً هو الخروج على ما هو مستقر لدي الناس عن طبيعة المسيح عليه السلام كمجرد إنسان بشر ، والقول بألوهيته ، كان هذا هو الانحراف حقاً وهو الهرطقة حقاً ، ولكن تغلب الانحراف وتغلبت الهرطقة حتى استقر لها الأمر فعدت اليوم عدم الانحراف هو الانحراف ، وعدم الهرطقة هو الهرطقة .(2/5)
وأول ما نعلمه عن القول بألوهية المسيح بعد رفعه ، والجهر بذلك للناس ، هو ما نقرؤه في سفر أعمال الرسل في الإصحاح الثاني من قول بطرس (فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (36) ، وإنه لما يشعرنا بالأسى أن يكون هذا القول من أحد الأشخاص الذين عرفوا المسيح عليه السلام حق المعرفة ، ولكن ذلك لم يكن غريباً على ذلك العصر الذي عاش فيه بطرس كما وجدنا من قبل ، ولم يكن غريباً على من عرف المسيح عليه السلام حق المعرفة ، بل إن هذا هو الطبيعي في مثل هذه الظروف ، ووسط البلبلة التي صاحبت القول بصلب المسيح ودفنه وقيامته ، ولكم كان حرياً أن يكون هناك من يقف بشجاعة ليعلن للناس عدم صحة هذا الذي قيل لهم ، بل الذي لاشك فيه أنه قد كان هناك كثيرون ينفون ذلك ، حتى أن يوحنا بعد نحو سبعين سنة يكتب إنجيله ليرد عليهم ، ولكن للأسف ، انتصر الناس لذلك الصوت الجديد المعلن لألوهية المسيح ، انتصروا لأن طبيعة العصر كانت تجعل من ذلك الأمر مقبولاً لدي الناس ولعلهم رأوا فيه تقديراً منهم للمسيح عليه السلام.(2/6)
أقول لم يكن هذا الذي حدث غريباً بل كان طبيعياً ، وأضيف أن مثله ربما كان سيحدث بين المسلمين عند وفاة محمد عليه السلام ، فقد ذهب عمر وهو من أعرف الناس بمحمد عليه السلام، إلي حيث كان جثمانه عندما بلغه نبأ وفاته وهو لا يصدق أنه مات ، وكشف عن وجهه فألفاه بغير حراك ، وبدلاً من أن يقتنع بموته حسبه في غيبوبة لابد أن يفيق منها ، وعبثاً حاول البعض إقناعه بموته ولكنه خرج يصيح في الناس في المسجد ويقول (أن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ، وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلي ربه كما ذهب موسي بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسي ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات) ، وكان الناس بطبيعة الحال أقرب إلي تصديق عمر ؛ فهذا حال الناس دائماً مع رسلهم ، ومن يدري أي فتنة كانت تحدث بين المسلمين وأي انشقاق كان سيكون لو اعتقد الناس في هذا الذي يقوله عمر ، إنه الباطل الذي كان لابد وأن يجر وراءه باطلاً إثر باطل ليقويه ويؤكده ، ولعلهم كانوا سينتهون أيضاً إلي تأليه محمد عليه السلام ، ولكن كان هنالك الشجاع الذي تصدي لكل ذلك ، تصدي لعمر وللناس الذين كاد أن يحدث قول عمر الفتنة في قلوبهم ، كان أبو بكر الصديق ، أكبر صاحبة محمد عليه السلام ، هاله هذا الذي يسمع بعد أن أيقن من وفاة محمد عليه السلام ، فصاح في الناس يقول ( ....... يا أيها الناس ، إن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات . ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.) ، هكذا في جرأة وصراحة وشجاعة ، في جزم ويقين ، ثم تلا على الناس آية من سورة آل عمران تقول (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) (144) ، وبذا قتل الفتنة في مهدها ، وآمن الناس جميعاً بأن محمداً(2/7)
عليه السلام مات .
ثم إننا إذا مضينا مع منطق المسيحيين لكان لزاماً أيضاً القول بأن موسي إله أو هو الله ، فإذا كان المسيح عليه السلام قد أتي بمعجزات كثيرة ، فقد أتي موسي بالمذهل من المعجزات ، لقد كانت معجزاته تشمل مصر كلها في وقت واحد كما نعرف من العهد القديم ، وقد جاء في العهد القديم أيضاً أن الله قد جعل موسي إلهاً وجعل له نبياً أيضاً ، إذ نقرأ في الإصحاح السابع من سفر الخروج (فقال الرب لموسي انظر . أنا جعلتك إلهاً لفرعون . وهارون أخوك يكون نبيك) (1) ، أفلا يقتضي منطق المسيحيين إذن أن يقولوا عن موسي أنه إله وأنه الله ، ولكنهم لا يقولون ، لأن هذا غير حق ، ويجب أيضاً ألا يقولوا هذا عن المسيح عليه السلام ، لأن هذا أيضاً غير حق وإن المرء ليعجب حقاً ، فإذا كان لله ثلاثة أقانيم كما يقولون ، فلماذا لم يقل الرسل قبل المسيح عليه السلام بذلك ، هل كانوا يدعون إلي عبادة إله آخر غير الله ، وهل كان الناس يعبدون إلهاً آخر غيره ، إن هذا التثليث لو كان صحيحاً لكانت الدعوة إليه هي رسالة الرسل جميعاً قبل المسيح عليه السلام ، بل ولكانت رسالة المسيح أيضاً ، ولكن أحداً من الرسل قبل المسيح لم يقل ذلك ، بل ولكانت رسالة المسيح أيضاً ، ولكن أحداً من الرسل قبل المسيح لم يقل ذلك ، والمسيح نفسه أيضاً لم يقل ذلك ، وإنما قيل بهذا من بعده ، ونسب إليه أنه قال به بعد رفعه ، أي بعد ما قيل عن صلبه ، ولكن العقل يستحيل أن يقبل أن يكون أساس الدين هو هذه الأوهام التي قيلت عن ظهور المسيح بعد رفعه أو بعد ما قيل عن صلبه .(2/8)
وإن العجب ليزيد حقاً ، حين نجد أن هؤلاء الذين قالوا بألوهية المسيح وظنوا أنهم بذلك عرفوا الله حقاً ، لم يكن من شأن قولهم هذا إلا أن يجهلوا الله في الواقع ، فتخبطوا في تصورهم لهذه الألوهية ، وانشقوا وانقسموا بهذا التخبط ، وجعلوا لله قانوناً وضعوه بأنفسهم ، وظنوا أن الله يمكن أن يتقيد بقانون يضعونه ثم يفكرون في تغييره يوماً ، ونسوا أن الله واحد حق لا إله هو لا يتغير أبداً مهما قالوا ، ولم يكن هذا هو ما أدي بهم إليه القول بألوهية المسيح ، بل أدي بهم هذا إلي ما هو أخطر بكثير ، فبعد أن كانوا يعبدون إلهاً واحداً هو الله ، أدي قولهم بألوهية المسيح واختلافهم حول تصورهم لهذه الألوهية ، إلي أنهم أصبحوا يعبدون أرباباً عدة لكل كنيسة ربها الذي يختلف عن رب الكنيسة الأخرى ، وإن هذا لحق ، فالله الذي تتصوره الكنيسة المرقسية الإسكندرية بقولها أن المسيح طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين الإلهية والإنسانية معاً ، هو غير الله الذي تتصوره الكنائس الأخرى التي تؤمن بطبيعتين متحدتين للمسيح عليه السلام ، ويتضح لنا هذا المعني بجلاء في كتاب رب واحد وكنيسة واحدة الذي سلفت الإشارة إليه ، ولا يعنينا هنا الإشارة إلي تفاصيل هذا الكتاب ، وإنما عنوانه فقط ، فهو يريد للمسيحيين رباً واحداً وكنيسة واحدة ، ونعرف سر طلبه كنيسة واحدة مما هو واقع من أن الكنائس تعددت ، وهو إذن يريد أيضاً رباً واحداً لأن الواقع أن الرب قد تعدد عند المسيحيين بتعدد كنائسهم .(2/9)
ورغم كل هذا تمضي الكنيسة ، لا ، فأية كنيسة هذه التي يمكن الإشارة إليها ، لقد تعددت ، إذن فتمضي الكنائس قروناً عديدة في طريق لا لقاء فيه ، ويعلمون أن الأصل في انشقاقهم وانقسامهم كان قولهم بأن المسيح هو الله ، ويقولون بأن هذا الانشقاق يكاد أن يبطل قيمة العهد الجديد كله والمسيحية كلها ، ولكنهم بدلاً من أن يضعوا أيديهم على أصل هذا الانشقاق فيستأصلوه ، يدورون حول أنفسهم في حلقات مفرغة لا لقاء فيها أبداً.
بل ويشير العلم في صراحة ووضوح ، إلي سر انتشار الإلحاد في الدول المسيحية المتقدمة علمياً ، فلا يري فيه غير تأليههم للمسيح ، ويرون المسيحية تكاد لذلك أن تنتهي ، ولكنهم يصرون على تجاهل الواقع ، ويدورون في حلقاتهم المفرغة ، ويعجبون إذ يرون الناس يلحدون ، وينسون أنهم أن العقل هو أهم وأغلي إنما يصورون لهم الدين بأن من يتبعه يجب أن يقف بعقله عند حد معين ، وينسون ما منحنا الله ، وأن الذي يرتضي أن يقف بعقله سيأتي يوم ولا يكون منه أحد في الوجود.
ونقرأ في كتاب رب واحد وكنيسة واحدة في صفحة 41 منه :
(وهذه هي الرسالة التي يشتهيها غير المسيحيين في زماننا لأننا نؤمن بأن الله عن طريق المسيح يستطيع أن يتغلب على العداوات التي بين البشر ، ويضع حداً لها ، وفي وسع الكنيسة أن تلعب هذا الدور الخطير عن طريق المصالحة في المسيح . بيد أن غير المسيحيين يرون أن المسيحيين عن طريق المصالحة في المسيح بيد أن غير المسيحيين يرون أن المسيحيين عن طريق انقساماتهم ومنازعتهم ، لا يدللون أو يبرهنون عملياً عن هذه المصالحة التي يشتهونها . ولذلك فإننا نجد غير المسيحي يتردد في موقفه تجاه قبول الرسالة المسيحية أو رفضها . فهواما أن يستاء من تصرفات المسيحيين أو يظل على الأقل محجماً ومتردداً في أمره .)(2/10)
ولاشك أن المسلمين من غير المسيحيين الذين يقصدهم الكتاب ، والذي لاشك فيه أن الكاتب لم يعرف الإسلام حق معرفته ، فالإسلام لا يشتهي للمسيحيين انقساماً أو انشقاقاً ، ولكنه يريد منهم أن يضعوا أيديهم على سر هذا الانشقاق والانقسام فيزيلوه ويتحدوا ، وهو يشير بجلاء ومطابقاً الحقيقة والواقع إلي أن السر في ذلك هو تأليههم للمسيح عليه السلام والذي منذ أن قالوا به انشقوا وانقسموا ، ولا يريد الإسلام لهم إلا أن يعودوا إلي الحقيقة التي بدأ بالانشقاق عنها انقسامهم ، وهي أن المسيح عليه السلام إن هو إلا إنسان نبي رسول بشر وليس إلهاً بأي حال ، وأن يعبدوا الله الذي لا إله إلا هو ولا يشركوا به شيئاً ، وفي هذا يقول القرآن (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران : 64) ، فالإسلام لا يريد للمسيحيين انشقاقاً أو انقساماً بأي حال بل لا يريد حتى انشقاقاً أو انقساماً بين المسيحيين والمسلمين ، وإنما يريد للناس جميعاً مسيحيين ومسلمين ، وحتى غير المسيحيين والمسلمين ، أن يلتقوا عند كلمة واحدة أن يعبدوا الله جميعاً ولا يشركوا به شيئاً ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ، ولكن إذا كان الإسلام لا يريد الانشقاق أو الانقسام بين المسيحيين كما قلنا ، فإن هذا الانشقاق وذاك الانقسام سيظل قائماً دائماً أبداً ما لم يلتقوا على ما دعاهم إليه الإسلام ، وهو أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ، وبالتالي ألا يقولوا أن المسيح هو الله ، فهل يرفضون هذه الدعوة المخلصة من أجل الله .
فهل يسمعون ويستجيبون فيلتقون ، ندعو الله أن يفعلوا فيلتقوا ويتحدوا.
الباب الرابع
الإسلام(2/11)
قلنا في الباب الأول أنه لما كنا نعرف أن صلب الخلاف بين المسيحية والإسلام إنما يقوم أساساً على الخلاف حول صلب المسيح عليه السلام أو عدم صلبه ، وحول ألوهية المسيح عليه السلام أو عدم ألوهيته ، فطبيعي أن نبدأ بالبحث عن الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه ، ونتبع ذلك بباب آخر في البحث عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، وأضفنا أنه على أساس ما نصل إليه من حقيقة بشأن هذين الأمرين ، نقيم البحث فيما يليهما.
ولقد وجدنا بحق ، أن الحقيقة في هذين الأمرين هي ما جاء في القرآن ، وما قال به الإسلام ، ووجدنا فيما ذكرناه من آيات القرآن على ندرتها في البابين السابقين ، نوراً يشع بالحقيقة وحدها، ويشع بها في قوة وتحد لا سبيل إلي النيل من قبس منها ، وجدنا في الآيات القرآنية على ندرتها ، قوة لا تكون إلا للحقيقة ويقيناً لا يكون إلا بالحق ، وعلى ما تكالب للنيل من هذه الآيات ، فقد كانت الغالبة وحدها ، بل كان كل شيء كأنما به عوج دونها ، وبها وحدها استقامت الأمور جميعاً ، ولذا ، ولهذا كله ، كان لزاماً أن يكون ما نبحثه بعد ذلك الأصل الذي حوي هذه الآيات ، والدين الذي حوي هذا الأصل ، فكان لزاماً إذن أن يكون بحثنا بعد ذلك ..... في الإسلام.(2/12)
وإن هذا الذي انتهينا إليه في البابين السابقين ، ليجعلنا ، وليجعل القارئ معنا ، حقيقين بأن نقف بالقرآن وبالإسلام على قمة نأبي النزول دونها ، وكيف لا وقد كان للآيات القرآنية ولما قال به الإسلام كل هذا الجلال الذي رأيناه لهما في البابين السابقين ، ولكن الواقع أننا لم نقصد بالبابين السابقين أن نجد سنداً يؤيد الإسلام أو يؤكده ، وإنما استهدفنا أن نقف على الحقيقة وحدها فيما يختلف فيه الإسلام عما هو مستقر لدي المسيحيين اليوم ، وإذا كان استهدافنا للحقيقة في ذلك ، قد انتهي بنا إلي تأكيد كل ما قال به القرآن والإسلام ، وهو ما يؤكد الإسلام ديناً حقاً حقيقاً بأن نؤمن وبأن نوقن به ، حيث انتهي بنا بالقرآن وبالإسلام عند قمة من اليقين والحق لا تدانيها قمة، فإنه يبقي بعد ذلك أن نتناول الإسلام نفسه ، فنتعرف على الكيفية التي يتطلب بها من الناس أن يدينوا به ، وذلك في فصل أول ، وفي فصل ثان ، نتناول أركان الإسلام ، وفي فصل ثالث وأخير تنتهي إلي التعريف بالإسلام.
الفصل الأول
الكيفية التي يتطلب بها الإسلام من الناس أن يدينوا به(2/13)
يطلب الإسلام من الناس الإيمان بعقائد معينة ، وفي تطلب الإسلام من الناس أن يؤمنوا بهذه العقائد بين الكيفية التي يتطلب من الناس أن يؤمنوا بها ، ولا اختلاف بين المسلمين على هذه الكيفية ، وهي تدور بين النظر العقلي وبين ما يجد الإنسان في نفسه من الشعور الباطني والإحساس الداخلي ، وليس أيسر لمن يطالع القرآن من أن يجد فيه بنفسه كل ذلك ، ولكننا سنكتفي في هذا الصدد بأن نورد ما أورده فضيلة الشيخ الأستاذ محمود شلتوت الذي كان شيخاً للجامع الأزهر (1) والذي يعد منصبه قمة الاختصاص بشئون الإسلام حتى أنه يلقب بالأستاذ الأكبر ، ثم نتبع ذلك بمبحث عن الاجتهاد الفردي ، قد أورده أيضاً فضيلة شيخ الجامع الأزهر في كتابه المشار إليه ، وذلك لما نراه في هذين المبحثين ، وفي كتاب لشخص كان له هذا القدر في الإسلام ، من إلقاء لأكبر قدر ممكن من الضوء ، على الجانب من الإسلام الذي نبحثه في هذا الفصل.
المبحث الأول
النظر العقلي والشعور الباطني وأثرهما في كيفية
ثبوت العقيدة في الإسلام(2/14)
بعد أن بين فضيلة الشيخ السابق للجامع الأزهر في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) المشار إليه ، العقائد الأساسية التي طلب الإسلام الإيمان بها ؛ وكانت العنصر الأول من عناصره ، وذكر أنها أولاً : وجود الله ووحدانيته ، وتفرده بالخلق والتدبير والتصرف ، وتنزهه عن المشاركة في العزة والسلطان ، والمماثلة في الذات والصفات ، وتفرده باستحقاق العبادة والتقديس ، والاتجاه إليه بالاستعانة والخضوع ، فلا خالق غيره ولا مدبر غيره ، ولا يماثله مما سواه شيء ، ولا يشاركه في سلطانه وعزته شيء ، ولا تخضع القلوب ولا تتجه إلي شيء سواه ، وثانياً : أن الله يصطفي من عباده من يشاء - عن طريق ملائكته ووحيه إلي خلقه - ثم يبعثه إليهم رسولاً يبلغهم ، ويدعوهم إلي الإيمان والعمل الصالح ، وثالثاً : الإيمان بالملائكة (سفراء الوحي بين الله ورسله) ، وبالكتب (رسالات الله إلي خلقه) ، ورابعاً : الإيمان بما تضمنته هذه الرسالات من يوم البعث والجزاء (الدار الآخرة) ومن أصول الشرائع والنظم التي ارتضاها الله لعباده ، بعد أن بين الكتاب ذلك جاء فيه الصفحات من 32 إلي 36 تحت عنوان الطريق إلي الإسلام :
(والإسلام حينما يطلب من الناس أن يؤمنوا بتلك العقائد ، لا يحملهم عليها إكراهاً ، لأن طبيعة الإيمان تأبي الإكراه ، ولا يتحقق إيمان بإكراه ، وقد جاء في القرآن (لا إكراه في الدين) . وجاء فيه لنبيه محمد (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
وكذلك لا يحملهم عليها عن طريق الخوارق الحسية ، التي يدهش بها عقولهم ويلقي بهم في حظيرة الاعتقاد دون نظر واختيار (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين). والمعني أنا لإنشاء ذلك ، لأنا نريد منهم إيماناً عن تقبل واختيار.(2/15)
لا يحملهم عليها بالإكراه ، ولا يحملهم عليها بالخوارق ؛ إنما يحملهم عليها بالبرهان الذي يملأ القلب . وعلى هذا المبدأ عرض القرآن عقائد الإسلام عن طريق الحجة والبرهان.
وكانت حجته التي لفت الأنظار إليها فيما يتعلق بعقيدة الإله (وجوداً ووحدانية وكمالاً) دائرة بين النظر العقلي ، وبين ما يجد الإنسان في نفسه من الشعور الباطني والإحساس الداخلي.
النظر العقلي :
وفي سبيل الحجة العقلية طلب إليه النظر والتفكير في هذا الكون . في أرضه وسمائه ، وما أودع فيه من أسرار ، وبني عليه من نظام وإحكام ، وأفرغ عليه من وحدة جعلته متماسك الحلقات ... الأمر الذي يحيل في نظر العقل صدور الكون عن نفسه ، أو عن قوي متضادة متعارضة ، ويوجب في الوقت نفسه الاعتراف القلبي بأنه لابد لهذا الكون البديع المنسق المترابط السائر بحكم نظام واحد لا يلحقه خلل ولا انتكاس - من مصدر خالق مدبر له ؛ مهيمن عليه ، متصرف فيه عن طريق العلم الشامل ، والقدرة النافذة ، والحكمة البالغة ، وأن هذا الكون سائر بتدبير هذا الخالق إلي الغاية التي حددها بعلمه وحكمته . وعندئذ يفعل به ما يشاء مما أرشدته إليه كتبه ، ودل عليه وحيه لأنبيائه ورسله ، من ظواهر انحلاله وفنائه التي كثر الأخبار بها في القرآن . وتجئ بعدها الدار الآخرة ... .
وهذا الطريق هو أكثر ما أرشد القرآن إليه ولا نكاد نري سورة من سوره إلا وفيها كثير من الإرشاد إلي هذا الطريق ، والدعوة إلي التفكير فيه والحث عليه ....
الوجدان الفطري :(2/16)
وفي سبيل الشعور الباطني والوجدان النفسي يرشدنا القرآن ، ويسترعي أنظارنا إلي حقيقة نفسية واقعية ، تعبر عن قبس الإيمان بوجود الخالق ووحدانيته ، وعن فطرية الشعور الديني في نفس الإنسان ، وتتمثل في ذلك الإحساس الداخلي الذي يحسه الإنسان من نفسه حينما يتحرر من سلطان الوهم والهوي ، وينفلت من حكم المادة المظلمة ، أو عندما يفاجأ بالسؤال عن مصدر هذا الكون ، أو عندما تنزل به شدة تحيط به ، ولا يري فيما يقع عليه حسه طريقاً للخلاص منها ....)
ومن كل هذا نعرف أن الإسلام لا يتطلب من الناس أن يدينوا به بالإكراه ، الذي لا يكون معه أي إيمان ، ولا بالخوارق الحسية ، التي لا يكون للإيمان اختيار معها ، وإنما يطلب الإسلام من الناس أن يدينوا به ويؤمنوا بعقائده ، وسنده في ذلك الحجة والبرهان ، ومنها النظر العقلي والشعور الفطري ، ولعل أهم ما عني به الإسلام دليلاً على صحة عقائده ، هو دعوته إلي الإيمان بها بالنظر العقلي.
المبحث الثاني
الاجتهاد الفردي في الإسلام
وتحت عنوان الاجتهاد الفردي ، نقرأ في كتاب فضيلة الشيخ السابق للجامع الأزهر السالف الإشارة إليه من صفحة 559 إلي صفحة 563 :
(والاجتهاد الفردي حق ثابت في الإسلام ، لكل من له أهلية النظر والبحث ، يستوي فيه الرجل والمرأة ، والحاكم والمحكوم ، وأرباب الوظائف الكبري ، وغيرهم ممن لا يشغلون وظيفة ، وكما يستوون في ثبوت هذا الحق لهم ، يستوون في حق احتمال الخطأ ، ولا يعرف الإسلام عصمة أحد من الخطأ ، إلا الرسول فيما يبلغه عن ربه ، أما فيما يجتهد فيه فقد سبق أنه فيه عرضة للخطأ ..
وإذا كان الرسول فيه عرضة للخطأ فإن غيره من أمته ، مهما علا كعبه ، وقربت نسبته إليه ، يكون - بالأولي - عرضة للخطأ .
لا اختصاص لأحد بحق التفسير والفهم :(2/17)
ومن هنا يتضح أن الإسلام لا يخص أحداً بحق الاستثناء بتفسير النصوص ، ولا بحق إلزام الناس برأيه ، بل يمنح هذا الحق لكل مسلم حائز لأهلية البحث ، أما من ليست له أهلية البحث ، فإن واجبه أن يسأل أرباب الأهلية ، عما يحتاج إليه ، ولا يلزم باتباع شخص معين ، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يدين بمذهب فقيه معين ، فإيجابه تشريع شرع جديد.
ولم يزل الناس من الصدر الأول يسألون من يروي من الباحثين المعروفين من غير تقييد برأي معين منهم.
وقد ثبت عن جميع المجتهدين التحذير من تقليدهم في اجتهادهم إلا بعد معرفة دليلهم ، كما ثبت عنهم جميعاً (إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط).
ليس في الإسلام من يجب الأخذ برأيه (الخليفة والإمام والقاضي):
ومن هنا نعرف أن الخليفة أو الإمام ليس معصوماً من الخطأ ، ولا هو مهبط الوحي ، ولا أثرة له بالنظر والفهم ، وليس له سوى النصح والإرشاد ، وإقامة الحدود والأحكام في دائرة ما رسم الله، وهو نائب في وظيفته عن الأمة ، توليه وتعينه وتطيعه ما دام قائماً بمهنته ، وقائماً على حدود الله ؛ وتعزله إذا انحرف عن الحدود واقتحم حدود الله.
وكما أن هذا وضع الخليفة ، فهو وضع القاضي والمفتي ، وشيخ الإسلام و(الملا) فوظيفة القاضي لا تعدو الفصل في الخصومات بما اختير الحكم به في القوانين.
الفتوى ليست ملزمة :
وظيفة المفتي لا تعدو بيان المسائل التي يسأل عنها ، فإن كان مجتهداً أبدي حكماً بنظره واجتهاده، وإن لم يكن مجتهداً أفتي برأي غيره - أي غير يختار - ومع ذلك وعلى كل فليست فتواه ملزمة لمن يستفتيه ، وللمستفتي مطالبته بالدليل ، وله أن يستفتي غيره ممن يطمئن إلي علمه.(2/18)
أما شيخ الإسلام والملا ، فإن المسلمين لا يعرفونهما إلا لقبين علميين شاع في بعض العصور والأقطار اطلاقهما على من عرفوا في بيئاتهم بامتياز خاص في علوم الدين والشريعة ، ولا يرتبط بهما حق تحليل أو تحريم في الشريعة ، وليس لهما من حق في العصمة من الخطأ ، بل لا يعرفهما الإسلام.
اجتهاد الأفراد :
وفي ظل النظر الفردي الذي قرره الإسلام ، اجتهد كل من آنس من نفسه أهلية النظر ، وكان لكل ناظر طريقته في البحث والاستدلال ....
أسباب تعدد المذاهب :
وبالاختلاف في طرق الاجتهاد هكذا تعددت المذاهب الفقهية في الإسلام ودون منها بأصوله وأحكامه ما ساعدت الظروف الزمنية على تدوينه ، واشتهر منها وشاع ما ساعدت الظروف على انتشاره .
والمكتبة الإسلامية المنتشرة في أنحاء المعمورة مليئة بموسوعات كثيرة لكل من هذه المذاهب ....
ثمرة مشروعية الاجتهاد الفردي :
ولقد كان في تقرير حق الاجتهاد الفردي والجماعي ما فتح لأهل البحث والاستنباط من علماء الشريعة الإسلامية ، أوسع الأبواب لتخير القانون الذي تنظم به شئون المجتمعات الإسلامية على اختلاف ظروفها ، غير مقيدين فيما يختارون إلا بشيء واحد : وهو عدم المخالفة لأصل من أصول الشريعة القطعية ، مع تحري وجوه المصلحة ، وسبيل العدل ، وكان ذلك أساساً لدوام الشريعة الإسلامية ، وصلاحيتها لكل زمان ومكان .........)
وبعد ، فهذه هي الكيفية التي يتطلب بها الإسلام من الناس أن يدينوا به ، بالحجة ، بالعقل ، بالبرهان ، بالطبيعة والفطرة ، لا إكراه ، ولا إجبار ، وحتى الرأي ، ليس لمسلم أن يلزم آخر به ، لكل مسلم أهل للبحث ، أن يبحث لنفسه وأن يجتهد برأيه ، دون أن يصح لأحد أن يفرض عليه رأياً يأباه عقله أو منطقه ، أو تنقصه حجته ودليله.(2/19)
وليس هذا الذي أقوله بصادر عن شخص يحاول أن يبدع في الدين ، وإنما عن شخص وضعه المسلمون في القمة في البحث الديني وفي الشريعة الإسلامية ، عن فضيلة شيخ سابق للأزهر ، وبالتالي فهو نفسه لا يري أن له أن يلزم الناس برأيه ، وإنما لكل أن يبحث وأن يجتهد وأن يكون له رأيه الذي يؤمن به ويقتنع به ، ولقد يرد على ذهن البعض ، أن يقارن الاختلاف في الرأي الذي نتج عن حق الأفراد في الاجتهاد الفردي ، بما كان من اختلاف بين المسيحيين وانشقاق الكنائس المسيحية ، ولكن الواقع أنه ليس ثمة وجه للمقارنة على الإطلاق ، ذلك أن أصل الانشقاق في الكنيسة كما بينا فيما سبق هو الاختلاف حول الله نفسه وحول ما قيل عن ألوهية المسيح وعن تفاصيل هذه الألوهية ، أما الله فلا يختلف فيه اثنان من المسلمين ، وكذلك الرسول وغيره من الرسل عليهم السلام ، وإنما الاختلاف عند المسلمين يكون في الأحكام الشرعية ، وهو مماثل تماماً لاختلاف المحاكم في تطبيقها لقانون واحد في بعض الأحيان ، ولا يمتد هذا الاختلاف في الإسلام إلي الله أو رسله بأي حال من الأحوال ، لأن النصوص القرآنية في هذا الصدد من الوضوح والقطع بما لا يحتمل أي خلاف ، ولا خلاف على الإطلاق أيضاً بالنسبة لأي من العقائد الأساسية في الإسلام ، وإنما الخلاف هو فيما ينظم شئون المجتمعات الإسلامية ، وهي خلافات في عمومها أقرب إلي التلاقي منها إلي التناقض.
ولست إلا مقرراً للواقع حين أقول ، أن هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ ، وما فيه من بحث التزمت فيه من البداية ، ألا أقر بغير الحقيقة وحدها ، إن هو إلا ثمرة من ثمار حرية كل مسلم في الاجتهاد الفردي ، وفي ألا يقبل إلا ما يقوم الدليل والبرهان على صحته وأن يرفض ما عدا ذلك.
الفصل الثاني
أركان الإسلام
ويقوم الإسلام على خمس :
أولاً : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله .
ثانياً : إقامة الصلاة .
ثالثاً : إيتاء الزكاة .(2/20)
رابعاً : صوم رمضان .
خامساً : حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
وهذه الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام ، هي ما نتناوله في المباحث الخمسة التالية.
المبحث الأول
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
جعل الإسلام من الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عنواناً على الإيمان بالإسلام ، وبنطق هذه الشهادة كان الناس يدخلون في دين الإسلام ، ولاشك في أن الشهادة بأن لا إله إلا الله هي صلب الإيمان وأساس كل دين ، وبهذه الشهادة ينتفي عند المسلم أن يكون هناك أي إله غير الله ، وأما الشهادة بأن محمداً رسول الله ، فهي وإن كانت في ظاهرها ، قاصرة على الشهادة بأن محمداً رسول الله ، فإنها في حقيقتها تتضمن الشهادة بأن كل الأنبياء الذين سبقوه حتى المسيح عليه السلام هم أيضاً رسل الله ، ذلك أن الشهادة بأن محمداً رسول الله يتعين معها الإيمان برسالته وقبولها ، واعتبار القرآن وحي الله المنزل عليه والإيمان بكل كلمة فيه ، وقد ورد في القرآن الكريم ذكر الأنبياء السابقين وحتم على المسلمين الإيمان بهم كما يؤمنون بمحمد عليه السلام ، فيرونهم رسلاً وأنبياء كما يرونه ، ولا يفرقون بينه وبينهم ، ولا بين الإيمان برسالاتهم ورسالته ، وفي ذلك نقرأ في سورة البقرة : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (136).
فالإيمان بمحمد والشهادة بأنه رسول الله ، هو في نفس الوقت إيمان برسالته التي تحتم الإيمان بالأنبياء الرسل السابقين ، وهذه الشهادة تنطق أحياناً (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ) ، وفيها يضاف لفظ العبودية لله إلي محمد ، وذلك تأكيداً لكونه رسولا ً بشراً ، وحتى لا يقع الناس فيما وقع فيه المسيحيون من تأليه للمسيح عليه السلام .
المبحث الثاني
إقامة الصلاة(2/21)
للصلاة أهمية كبيرة في الإسلام ، ويجب أن يكون من يؤديها طاهراً ، فإن كان الشخص جُنباً وجب أن يطهر جسده كله بغسله ، وإن لم يكن كذلك يجب عليه الوضوء إن لم يكن متوضئاً ، والوضوء هو غسل الوجه واليدين إلي مفصل الذراعين ، والرجلين إلي مفصل الكعبين ، ومسح الرأس.
وإذ يكون الإنسان طاهراً على هذا النحو ويريد الصلاة فيشرع فيها بتلاوة النداء المعروف بالأذان ، ومن شعائر الإسلام الإعلان عن كل صلاة بهذا الأذان وفيه يقول المؤذن (الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله .) ويتلي هذا الأذان عالياً في الجوامع قبل كل صلاة ، إعلاناً للناس بحلول ميعاد الصلاة وليلتقوا في الجوامع ويؤدوا الفريضة التي فرضها الله عليهم.
والمصلي إذ يبدأ صلاته يقف مولياً وجهه شطر المسجد الحرام الذي بمكة ، ويفتتح الصلاة بالتكبير قائلاً (الله أكبر) ثم يتلوا فاتحة الكتاب أي القرآن وبعضاً مما يحفظ من آياته ، ثم ينحني حتى يستوي ظهره ويمسك ركبتيه بيديه ويسمي ذلك بالركوع ، وفي هذا الركوع يقول (سبحان ربي العظيم) ثم يقف من ركوعه قائلاً (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) ، ثم يسجد ملامساً الأرض بجبهته ويقول في هذا السجود (سبحان ربي الأعلى) ، ويرفع رأسه جالساً ثم يعود إلي السجود ويقول ما قاله في المرة الأولى ، ومع كل حركة من ركوع وسجود واعتدال يكبر الله بقوله (الله أكبر) ، وهذا كله يسمي بالركعة .(2/22)
والصلوات المفروضة خمس ، الأولى صلاة الصبح وميعادها بين الفجر وشروق الشمس ، وبها يستقبل المسلم يومه ، وهي ركعتان يجلس المصلي بعد ثانيتهما يحي الله ويشهد بوحدانيته وبرسالة محمد نبيه وإذ تنتهي الصلاة يلتفت المصلي يميناً ويساراً ويقول في المرتين (السلام عليكم ورحمة الله) ، والثانية صلاة الظهر وميعادها بين الظهر ومنتصف المدة بينه وبين غروب الشمس ، وهي أربع ركعات ويؤخر فيها التسليم إلي نهاية الركعات الأربع ، والثالثة صلاة العصر وهي من وقت انتهاء ميعاد صلاة الظهر وحتى غروب الشمس ، وتؤدي فيها أربع ركعات مثل صلاة الظهر ، والرابعة صلاة المغرب ، وتؤدي من ثلاث ركعات وميعادها من غروب الشمس إلي زوال شفقها من الأفق ، والخامسة هي صلاة العشاء ، ويمتد ميعادها من بعد ميعاد صلاة المغرب وإلي قبل طلوع الفجر وتؤدي من أربع ركعات.
وهذه الصلوات تؤدي أما على إنفراد وفي أي مكان ، وأما جماعة وفيها يقف المصلون صفوفاً منتظمة خلف بعضهم البعض ويؤدونها خلف واحد منهم يؤمهم فيها ، وهي تكون في أي مكان أيضاً ، وهي مفضلة دائماً في الإسلام لما في اجتماع المصلين من فرصة للتآلف والتعارف والتعاون ، ولكن من الصلاة ما يجب أن يؤدي جماعة ، ومنها صلاة الجمعة وهي صلاة الظهر من يوم الجمعة ، حيث يفرض الإسلام على المسلمين أن يؤدوها جماعة ويسمعوا المواعظ قبلها ، ومنها كذلك صلاة العيدين ، حيث يفرض الإسلام على المسلمين أن يؤدوا صلاة الصبح في العيدين الإسلاميين المعروفين جماعة أيضاً ، وتختلف هذه الصلاة عن الصلوات السابقة بزيادة مرات التكبير فيها كما أن المصلين يكبرون الله قائلين:(2/23)
(الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ..... )
كما يصلي جماعة أيضاً على الميت بعد تكفينه .
وهذه صورة موجزة للصلاة في الإسلام ، وهي على هذا النحو حقيقة بالتأمل من وجهتين ، الأولى من حيث هي صلاة فردية يؤديها كل فرد سواء بمفرده أم مع غيره ، أي من وجهة نظر خاصة بالمصلي نفسه ، والثانية من وجهة نظر عامة نتأمل فيها صلاة المسلمين عامة .
أولاً : الصلاة الإسلامية بالنسبة للمصلي نفسه :
رأينا أن المصلي يتطهر قبل أن يبدأ صلاته بالاستحمام أو بالوضوء ، ولاشك أن في هذا التطهر معني من معاني التقديس لما هو مقبل عليه ، إذ وهو يصلي إنما يقف خاشعاً بين يدي الله ، ثم نجد أن الصلوات المفروضة يعلن عنها في مواعيدها بنداء عرف بالأذان ، وفي هذا النداء يصيح المؤذن بصوت عال من أعلي مكان في المسجد ليسمعه أكبر عدد من الناس أن الله أكبر الله أكبر ، ويتلو الشهادة التي عرفناها في الإسلام ، ويدعو الناس إلي الصلاة ، وإن نظرة واحدة إلي هذا النداء الذي يدعي به الناس إلي الصلاة ، إلي كل صلاة ، لأمر لا يملك معه المؤمن إلا أن يشعر بالإجلال والتوقير والتكبير لله.(2/24)
ويفتتح المصلي صلاته بالتكبير لله ، وتكبير الله على هذا النحو هو تكبير له على كل ما يعظمه الناس ، ومعه ترفع اليدان إلي الرأس علامة لهذا التكبير أيضاً ، ويبدأ المصلي بعد ذلك دائماً بتلاوة فاتحة الكتاب ، وهي تبدأ بحمد الله رب العالمين ، وتصفه بالرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، ويتوجه إليه المصلي قائلاً (إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين انعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين) ، ويختتمها المصلي داعياً أن آمين ، ثم يتلو المصلي بعد ذلك بعض آيات من القرآن ، ثم يركع ويسجد مكبراً مسبحاً لله الرب الأعلى العظيم.
والمتأمل لكل ذلك لابد واجد فيه العبادة في أجلي صورها ومعانيها فهي - أي الصلاة - فيها تكبير وحمد وتسبيح وركوع وسجود لله رب العالمين ، ولا يتصور أن تكون ثمة عبادة لله تفوق هذه الصورة أو خشوع له وخضوع يفوق الخشوع أو الخضوع اللذان يصاحبان صلاة هذه صورتها.
ويعيب البعض على الإسلام هذه الحركة في الصلاة من ركوع وسجود ووقوف حتى أن بعضهم يقول عنها أنها صلاة شكلية ، وإنه لعجيب حقاً أن يقال هذا والناس جميعاً يعرفون أن الإنسان روح وجسد ، ولا يعقل أن تعبد الروح وحدها الله ، لأن الإنسان ليس مجرد روح ، وإنما يتعين أن يشارك الجسد والروح أيضاً في العبادة ، وما عبادة الجسد لله إلا بالركوع والسجود له ، بل أن في هذا الركوع وذاك السجود أيضاً عبادة بالروح ، ذلك أن بهما يحس المصلي بأنه يعبد الله حقاً.
ونعلم أنه قد جاء في الأناجيل أن المسيح عليه السلام طلب من الناس أنهم حين يصلون ، لا يكونون كالمرائين الذين يصلون أمام الناس ليقال عنهم أنهم ممن يصلون ، ولذلك طلب منهم أن يتداروا إذ يصلون ، ولكن المسلمين يرون في كل حين وفي كل مكان ، يؤدون الصلاة ، ولذا يقول البعض من المسيحيين بأن المسلمين في ذلك إنما هم كالمرائين يؤدون الصلاة أمام الناس ليقال عنهم أنهم ممن يصلون.(2/25)
ولكن لا يمكن القول بانطباق هذا الكلام على المسلمين في صلواتهم ، فالمسيح عليه السلام لم يفرض علي المسيحيين الصلاة في أوقات معينة ، أما الإسلام فقد فرض خمس صلوات في اليوم ، وفي مواعيد معينة ، من يتجاوزها عد آثماً ، ولذا فإن المسلم يؤدي صلاته كلما حل ميعادها حيثما كان ، وهو بطبيعة الحال لا يقف وسط جمع فيطلب منهم أن يفسحوا له ليؤدي صلاته ، وإنما لما كانت طبيعة الصلاة وهي عبادة الله وابتهال له ، تقتضي شيئاً من الهدوء لانصراف الذهن إليها ، فالمسلم عادة يتخير مكاناً يتوفر فيه ذلك وهو ما لا يكون في الغالب إلا بعيداً عن الناس، وقد يكون في مكان مقفل إذا كان في بيت أو نحوه ، وقد يكون في مكان مكشوف كأن يكون في حقل أو نحوه ، ولكنه على أي حال لا يقصد أن يري الناس صلاته وإنما يقصد أن يؤدي الفرض الذي أوجبه الله عليه في ميعاده ، أما أن يقصد مسلم بذلك أن يراه الناس مصلياً فيعرفون فيه أنه يصلي ، فهذا مكروه بطبيعة الحال وليس من الإسلام في شيء .
ثانياً : الصلاة الإسلامية من وجهة نظر عامة :(2/26)
نعلم مما سبق أن الصلاة في الإسلام فرضت في مواعيد معينة ، خمس مرات في اليوم ، في الصبح ، وفي الظهر ، وفي العصر ، وفي المغرب ، وفي العشاء ، ونعرف جميعاً أن الأرض كروية ، وعندما يكون هناك صبح في مكان منها ، فهناك ظهر في مكان آخر ، وعصر في مكان ثالث ، ومغرب في مكان رابع ، وعشاء في مكان خامس ، أي أن هذه الأوقات الخمسة للصلاة ، تكون موجودة دائماً على الأرض ولكن في بقاع مختلفة منها ، فالصبح لابد وأن يكون دائماً في بقعة معينة على الأرض ، ولا يمكن أن يمر وقت على الأرض لا يكون فيه صبح في جميع بقاعها ، فوقت الصبح ينتقل مع دوران الأرض إلي بقاع مختلفة ، ولكن لابد وأن يكون هناك صبح في بقعة ما على الأرض ، وهكذا الحال أيضاً بالنسبة للظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلابد أن يكون هناك دائماً أبداً صبح وظهر وعصر ومغرب وعشاء على الأرض في بقع مختلفة منها تختلف بدوران الأرض ، ونعلم فوق ذلك أن المسلمين لا يقيمون في نقطة واحدة على الأرض ولا في بلدة واحدة ولا في بقعة واحدة ، بل في كل بقاع العالم ، فما الذي يعنيه كل ذلك.(2/27)
لو أن الصلاة كانت قد فرضت في ميعاد واحد كالصبح مثلاً ، فإن معني ذلك أن على المسلمين جميعاً في مختلف أنحاء الأرض أن يصلوا كل صباح ، فإذا عرفنا أن هناك على الأرض صباح في كل لحظة من اللحظات ، ينتقل من مكان إلي مكان على نحو ما أوضحنا ، فإن معني هذا أنه لابد وأن تكون هناك صلاة في كل لحظات من اللحظات ، أي أن الصلاة لا تنقطع أبداً على الأرض ، ولكن الصلاة لم تفرض مرة واحدة في اليوم ، وإنما فرضت خمس مرات ، وكما نعرف ، فلم تحدد الصلاة في كل مرة بلحظة معينة ، وإنما بمدة معينة ، قد تكون ساعة واحدة أو تطول إلي بضع ساعات ، وبذا فلابد أن تتلاقي الصلوات على الأرض دائماً وفي مختلف بقاعها بين صبح وظهر وعصر ومغرب وعشاء ، وكل هذا يزيد في حتمية أن تكون هناك دائماً أبداً وفي كل لحظة من اللحظات صلاة لله على الأرض.
ولما كنا نعرف مما تقدم أن الصلاة في الإسلام فيها تكبير لله وحمد لله ، وتسبيح لعظمته وعلوه ، وركوع وسجود لجلاله ، لأمكننا من جماع صلوات المسلمين في مختلف أنحاء الأرض ، أن نري صوتاً هادراً إلي السماء أبداً ، أن الله أكبر ، لا إله إلا الله ، أن سبحان ربنا العظيم ، سبحان ربنا الأعلى ، الله أكبر الله أكبر ، الحمد لله رب العالمين ، ولرأينا الناس أبداً راكعين ساجدين لله الذي لا إله إلا هو ، ولا يزيد مرور الوقت هذا الصوت الهادر إلي السماء يعبد الله إلا خلوداً وعلواً ، ذلك أن الناس يتضاعفون ، والمسلمون أيضاً بطبيعة الحال يتضاعفون ، وفي تضاعفهم مضاعفة لهذا الصوت الهادر إلي السماء ، وفي ذلك تأكيد لدوامه وخلوده أبداً .(2/28)
ولما كنا نعرف جميعاً أن الله محيط بكل شيء علماً ، فهو لاشك محيط بكل صلاة لمسلم على الأرض ، وإذا كانت الصلاة تصعد إلي الله ، أو هو في القليل محيط بها علماً ، فإن أي امرئ ، إذا تصور نفسه بعيداً عن الأرض ، وتصور أنه محيط بكل صلاة لمسلم في الأرض ، لرأي أن الأرض تكبر الله أبداً ، وتسبح دائماً بحمده وعظمته وعلوه ، ولرأي الأرض أبداً ، راكعة ساجدة لله العلى العظيم .
ولست أتصور أحداً ، يستطيع أن ينكر على الصلاة في الإسلام ، وهو على نحو ما فصلناه فيما سبق ، كل هذا الأثر العظيم ، وكل هذه الوحدة الجامعة بين المسلمين جميعاً ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وفي هدير لا ينقطع أبداً ، هدير خالد أبداً ، لا احتمال لانقطاعه ولو للحظة واحدة ، وإنما الاحتمال دائماً في تزايده وزيادته علواً وعلواً ، هدير مكبر دائماً لله ، مسبح دائماً بحمده ، مسبح أبداً بعظمته وعلوه ، بل وتال في كل لحظة ، آيات الله في كتابه العزيز ، القرآن الكريم ، في سجود وركوع دائمين لله الخالق رب العالمين .
ولست أحسب أحداً يستطيع أن يصف عبادة أخرى ، فيرى فيها شيئاً من هذا الكمال والدوام أو من هذا الجمع إلي الأبد ، للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وإنه لطبيعي حقاً ، أن يكون اسم المسجد الذي تؤدي فيه الصلاة ، الجامع ، فإنه للحق لجامع على صورة تفوق كل خيال.
المبحث الثالث
إيتاء الزكاة(2/29)
والزكاة وإن كانت فرضاً يصيب مال المسلم ، فهي في الواقع من العبادة ، لأن الإنسان إذا كان في الصلاة يتعبد بروحه وجسده ، فهو بالزكاة إنما يتعبد بماله ، ذلك أن الزكاة إنما فرضت على مال المسلمين لصالح الفقراء والمساكين ومن نحوهم ، وهي وإن كانت في طبيعتها صدقة لهؤلاء ، إلا أنها بفرضها على المسلمين رفع عنها معني الصدقة وأصبحت حقاً لمن يستحقونها ، وفي ذلك ما فيه من معني التضامن والتكافل الاجتماعي وعدم جرح كرامة المرء أو مس شعوره ، وهي فوق هذا تعويد للناس على التصدق بالمال وصرفه في سبيل الله ، ولاشك أنها لكل ذلك إنما هي أمر محمود للإسلام ، لا يمكن لمؤمن إلا أن يقره ويعمل به ، وبالطبع في فرض الزكاة ومقدارها وكيفية جمعها وأوجه صرفها ونحو ذلك تفصيل كثير ، وليس مجال البحث هنا هذه التفاصيل ، وإنما مجال البحث هو استعراض عام لأركان الإسلام لتفهمها وبيان أثرها ، ولذا نكتفي بهذا الإيجاز هنا عن الزكاة .
المبحث الرابع
صوم رمضان
وقد فرض القرآن على المسلمين أن يصوموا شهراً كاملاً كل عام ، هو شهر رمضان ، وحكمة اختيار هذا الشهر بالذات هي أنه الشهر الذي بدأ فيه تنزيل القرآن من الله علي رسوله ونبيه محمد عليه السلام ، ويقتضي الصيام الإمساك عن الطعام والشراب من وقت شروق الشمس إلي غروبها ، ويحسب البعض أنه يكفي ليكون الإنسان قد صام يومه ، أن يمسك عن الطعام والشراب بين شروق الشمس وغروبها ، ولكن الحقيقة أن الصوم أبعد من ذلك بكثير ، إذ لا يكفي فيه الإمساك عن الطعام والشراب فحسب ، بل يجب له الإمساك عن كل ما يمس الفضيلة أو الشرف أو الصلاح أو التقوي .(2/30)
فلا صوم لشاهد زور ، ولا صوم لحاقد أو حاسد ، ولا صوم لمن يرتكب الخطايا والمعاصي ، ولا صوم لمن يفسد في الأرض ، وبالطبع ليس معني هذا أن مثل هؤلاء لا يقبل منهم صوم ، وإنما لا يقبل الصوم منهم إذ ظلوا على حالهم وهم صائمون ، أما أن يتوبوا عما كانوا فيه ويبتغوا وجه الله ويصوموا ، فلاشك أن صومهم مقبول .
ولهذا كان لشهر رمضان من الأثر ما يستحيل أن ينكره من يعيش بين المسلمين فيه ، فالمسلمون جميعاً يحسون لهذا الشهر من الإجلال والتوقير ما لا مزيد عليه لأي شهر آخر ، فالعاصي يستقبله بالإقلاع عن المعاصي ، والمفسد يستقبله بالإقلاع عن حسده ، فالكل يريد أن يصوم هذا الشهر، والكل يعلم أن صيامه لا معني له إن هو بقي على حاله من الشر ، ولذا فالكل يقلع فيه عما قد يكون عليه من شر.
ولكل ذلك فإن في هذا الشهر دائماً ، تتجلي روعة الإيمان وروحانية العبادة في الإسلام ، ويبدو المسلمون جميعاً في شتي أنحاء الأرض في حلة قشيبة من الورع والتقوي ، لا أخالها إلا الصورة المثالية للإيمان ، حتى أن كل مؤمن يتمني لو كانت كل الشهور رمضان.(2/31)
ثم يمضي شهر رمضان ، وينتهي عن المسلمين فرض الصوم ، ويرتفع عمن كانوا أشراراً قبله ما جعلهم يقلعون عن الشر ، فهو لرغبتهم في أن ينالوا ثواب الصوم صاموا أيضاً عن الشر ، ولكنهم لن يصوموا بعد ، ومن ثم فلن يفقدوا ثواب الصوم إذا هم عادوا إلي الشر ، ولا نستطيع أن ننكر أن بعضاً من ضعيفي الإيمان يعودون إليه ، ولكن الذي لا يستطيع أن ينكره أحد ، أن الكثيرين ، الكثيرين جداً ، إذ يحسون روعة الإيمان وجلاله في هذا الشهر ، ويعرفون أكثر أثر الشر وعواقبه ، يمضون في الطريق الذي بدأوه في هذا الشهر ، فلا يعودون إلي الشر ثانية ، وحتى هؤلاء الذين لم يصرفهم صوم الشهر في عام عن الشر ، فهو سيصرفهم عنه حتماً في العام التالي ، أو الذي يليه ، أو في أي عام آخر بعده ، ولكنه لابد له يوماً أن يجذبهم بعيداً ونهائياً عن الشر ، وفي كل هذا وذاك ، فائدة محققة للفرد وللمجموع وللدين.
وهكذا يبين لنا أثر صوم شهر رمضان من حيث الواقع ، فهو تجربة روحية يمر بها المسلم كل عام، ويعطي فرصة كل عام لمن انحرف إلي الشر أن يحيد عنه ، ويحيد عنه كثيرون فعلاً تأثروا بهذا الشهر ، وإنها لحكمة بالغة ألا يكون الصوم فرضاً طوال العام كله ، إن البعض قد يقول إنه ما دام للصوم هذا الأثر ، فلم لا يفرض العام كله ، ذلك أنه لو فرض على هذا النحو لكان فيه إثقال على المؤمنين كافة ، ولما كان هناك ما يدعو الإنسان إلي التغيير لاستقباله ما دام مفروضاً كل الأيام ، ولكن الصوم قد فرض من جهة أخرى ، طوال شهر كامل ، وفي هذا فرصة كافية للناس لأن تتشبع بحب الخير وتجنب الشر.
المبحث الخامس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا
وحج البيت فرض على المسلم الذي يستطيع إليه سبيلاً ، والبيت المقصود هنا هو الذي أشار إليه القرآن بقوله :(2/32)
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدي للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ، ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) (آل عمران : 96 - 97) .
وإلى هذا البيت أيضاً تشير آيات أخرى فتقول :
(وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين . ( وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وعهدنا إلي إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود . وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلي عذاب النار وبئس المصير . وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) (البقرة : 124 - 126)
(وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود . وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) (الحج : 26 - 29)(2/33)
هذا هو البيت الذي فرض القرآن على القادرين من المسلمين أن يحجوا إليه ، وإذا كانت أركان الإسلام الأربعة الأخرى ، من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، ليست ببعيدة على الإطلاق عن الأديان الأخرى التي سبقته ، حيث تفترض جميعاً الإيمان بالله ، وفيها أيضاً واجب التصدق على الفقراء والمساكين الذي نظمه الإسلام بالزكاة ، وفيها كذلك التعبد لله سواء بالصلاة أم بالصوم ، فإن الحج بالذات ، هو أكثر هذه الأركان وضوحاً في ارتباطها بما سبق من الأديان ، وفي بيان أصل الإسلام ، حيث نعود إلي إبراهيم عليه السلام ، والد إسماعيل عليه السلام الذي كان من نسله محمد عليه السلام ، ووالد إسحق عليه السلام الذي كان من نسله المسيح عليه السلام ، فإبراهيم عليه السلام إذن هو أب المسيحيين والمسلمين جميعاً ، وعلى السواء .
والبيت الذي يحج إليه القادرون من المسلمين كل عام ، هو بيت الله الذي بناه إبراهيم عليه السلام ، بمكة ، وطهره ودعا الناس للحج إليه ، وأسكن عنده من ذريته من كان من نسله محمد عليه السلام ، ومنذ أن بني البيت ، والعرب يحجون إليه ويعبدون الله فيه ، وكانوا في البدء يعبدون الله حق عبادته ، ولكن توالي الأيام والسنين ، بل والقرون ، كان له أثره على هذه العبادة ، حتى أن العرب انتهوا إلي أن أشركوا بالله ، فعبدوا الأوثان والأصنام ، ووضعوها حول البيت ، وجعلوا منها شفعاء لله ، وزادوا في ضلالهم ، حتى بعدوا بالحج عن حقيقته كعبادة لله إلي عبادة للأصنام ، حتى جاء الحق ، حين جاء محمد ، فطهر البيت من الأصنام والأوثان ، ودعا إلي عبادة الله الواحد الأحد ، رب العالمين ، الذي لا إله إلا هو ، وفرض القرآن على المسلمين أن يحجوا إلي أول بيت وضع للناس ، البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام ، ودعا الناس جميعاً ليحجوا إليه ، إلي الكعبة ، وهم إلي اليوم يحجون إليها في كل عام.(2/34)
وليس الحج علي هذا النحو فحسب ، هو ما يكشف عن الرباط الحقيقي بين الإسلام ، وإبراهيم عليه السلام وابنه ، بل كان هناك تقليد آخر ، يكشف عن هذا الرباط الحقيقي ، ذلك أن العيد يعقب الحج مباشرة ، ويبدأ المسلم يومه بعد تأدية صلاة العيد بذبح الضحية ، كبش يذبحه رمزاً لافتداء الله لابن إبراهيم عليه السلام من الذبح ، بعد أن هم إبراهيم عليه السلام بذبحه امتثالاً لأمر ربه ، فكان ذبح الضحية في العيد بعد الحج مباشرة ، رمزاً وكشفنا عن حقيقة الرباط الذي يربط الإسلام بإبراهيم عليه السلام .
والحج يجمع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها ، في صعيد واحد ، فيكون لذلك عظيم الأثر بين المؤمنين ، وليس أطهر ولا أنقي قلباً ولا أصفي نفساً من الشخص الذي يحج بإيمان وحسن قصد بعد أن يعود من حجه ، وإذا كان شهر رمضان بما يبعثه من روحانية في المسلمين يجعل الكثيرين ممن اتخذوا الشر سبيلاً يحيدون خلاله وبعده عن كل ما عرفوا من الشر ، فإن الغالب الأعم أن الحج لابد وأن يكون له هذا الأثر إلا فيما ندر ، عند من يحجون ليقول الناس عنهم أنهم قد حجوا ، أما الباقون ، فما أروع ما يتركه فيهم الحج من أثر في الواقع ، ومبعث ذلك من ناحية أن الحج إنما قد فرض مرة واحدة ، والمسلم إذ يؤدي هذه الفريضة إنما يكون قد نوي إذا حسنت نيته ألا يقرب الشر بعدها أبداً ، ومن ناحية أخرى فالحج لمن ينتويه ، يكون امتداداً للروحية التي بدأها بشهر الصيام ، يبقي عليها بعده إلي أن يحج ، فيكون بالحج قد بلغ قمة عالية من الحياة الروحية استمرت أكثر من ثلاث شهور ، ومن يعيش مدة هذا طولها في حياة روحية على هذا النحو ، صعب جداً أن يرجع يوماً إلي الشر ، ما لم تكن نيته غير حسنة من البدء كما قلنا.(2/35)
وكانت هذه أركان الإسلام الخمسة ، لم نعمد إلي تفصيلها ، وإنما قصدنا أن نتلمس منها جوانب معينة ، توضح أثرها وعمقها ، وامتداداها عبر الأجيال السابقة ، إلي إبراهيم عليه السلام ، أبو المؤمنين ، ورسول الله ونبيه ، وقد بان لنا في كل ركن من هذه الأركان ، الخير العام ، للناس جميعاً ، والرباط الخالد ، الذي يربط المسلمين جميعاً ، في مشارق الأرض ومغاربها بإيمانهم وبصلاتهم وبكل يما يقيمونه من أركان دينهم ، مما لا أحسب أي مؤمن بالله ، إلا متطلعاً إليه في إعجاب وتقدير ، وفي دعاء وابتهال إلي الله أن يصل دينه إلي هذا الكمال ، ولا أحسب المسيحي بالذات إلا ضارعاً إلي الله ، أن يحقق لكنيسته هذه الوحدة الكاملة الجامعة ، التي رآها في الجامع حين يجمع المسلمين جميعاً في صلواتهم ، على النحو الذي أوضحناه ، فللحق إن هذه الوحدة لتفوق كل أحلام وأماني المسيحيين التي يتمنوها لكنيستهم ، وبالطبع ليست هذه الأركان الخمسة ، هي كل الإسلام ، وإنما هي فحسب ، دعائمه التي بني عليها ، أما الإسلام نفسه ، كعقيدة ، وكشريعة ، فهو أكبر من كل ذلك بكثير .
الفصل الثالث
التعريف بالإسلام
يقتضي التعريف بالإسلام بيان أمرين ، الأول هو بيان ما هو الإسلام ، والثاني هو بيان ما يدعو إليه الإسلام ، ولذلك فإن بيان ما هو الإسلام وما يدعو إليه الإسلام ، هو ما نبحثه في مبحثين على التوالي فيما يلي :
المبحث الأول
ما هو الإسلام(2/36)
لنعرف الإسلام ينبغي أن نعرف الدين عند الله ، فما هو الدين عند الله ، وهنا نعرف أنه منذ أن كان الإنسان على الأرض ، كانت معه الخطيئة ، وأنه يتوالى نسل بني آدم ، توالت الخطيئة والفساد على الأرض ، وكان الرسل والأنبياء ، يدعون إلي عبادة الله والبعد عن كل شر وفساد ، واتخاذ الخير والصلاح سبيلاً ، كان نوح عليه السلام ، الذي أنقذه الله سبحانه وتعالى هو ومن معه من الغرق بالفلك الذي أوحي إليه أن يصنعه ، وكان نوح مؤمناً ، وكان من تبعه مؤمنين ، وكان كذلك إبراهيم عليه السلام ، أبو الأنبياء والمرسلين ، أبو المؤمنين ، الذي باركه الله هو ونسله في الأرض ، وكان إبراهيم عليه السلام مؤمناً ، بل أبو المؤمنين ، وكان رسولاً نبياً ، وأبو الأنبياء والمرسلين من بعده ، وكان من تبعه مؤمنين ، وكان أيضاً إسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام ، كان الرسل إلي موسي عليه السلام ، وكانوا مؤمنين ، وكان موسي عليه السلام وكانت التوراة ، وكان مؤمناً ، وكان من تعبه مؤمنين ، وكان الأنبياء من بعد موسي عليه السلام ، وكانوا ومن تبعهم مؤمنين ، ثم كان المسيح عليه السلام ، وكان الإنجيل ، وكان عليه السلام مؤمناً ، وكان من تبعه مؤمنين ، وكان أخيراً محمد عليه السلام ، وكان القرآن ، وعرف محمد عليه السلام مسلماً ، وعرف من تبعه بالمسلمين .(2/37)
واليوم يعرف من تبعوا موسي عليه السلام وآمنوا بالتوراة باليهود أو الموسويين نسبة إلي موسي عليه السلام ، ويعرف دينهم باليهودية أو الموسوية ، ويعرف من تبعوا المسيح عليه السلام وآمنوا بالإنجيل بالمسيحيين نسبة إلي المسيح عليه السلام أو النصاري نسبة إلى الناصرة بلده عليه السلام ، ويعرف دينهم بالمسيحية أو النصرانية ، ويعرف من تبعوا محمداً عليه السلام ، وآمنوا بالقرآن بالمسلمين ، ويعرف دينهم بالإسلام ، وكل يؤمن أن دينه هو دين الله ، أو هو الدين عند الله وهنا نعود إلي حيث بدأنا فنتساءل ثانية ، ما هو الدين عند الله .
وهنا نجد أن أياً من المسلمين أو المسيحيين أو الموسويين لا يستطيع أن ينفي أن نوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء والمرسلين قبل موسي عليه السلام كانوا مؤمنين ، وقد آمنوا ومن تبعوهم بدين الله ، ونعرف أن الموسوية أو المسيحية لم تكن قد عرفت بعد في عهد أي منهم ، فما هو هذا الدين الذي آمنوا به ، والذي هو دين الله أو الدين عند الله بلا خلاف في الموسوية أو المسيحية أو الإسلام.(2/38)
ولم يثبت الكتاب المقدس اسم الدين الذي آمن به واعتنقه هؤلاء الأنبياء ومن تبعوهم ، ولذا ليس من سبيل لأن نعرفه إلا بأن يكون اسم هذا الدين هو تعريفه الذي يعرف به ، فبم نستطيع أن نعرف هذا الدين ، ونعلم أن الله إذ بعث هؤلاء الأنبياء إنما بعثهم برسالات يدعون الناس إليها ، يجمعها معاً أنها تتضمن أوامر الله ونواهيه ، فمن قبلها وانقاد لله فيها بلا اعتراض فهو المؤمن ، الذي آمن بالله وبدينه ، وهو الذي يدين بدين الله ، وبذا فإن الدين عند الله هو الإنقياد لأوامر الله ونواهيه بلا اعتراض (1) ، ولذلك فإن الدين عند الله هو الإسلام لله ؛ لأن الإسلام لغة معناه الانقياد لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض ، ومن ثم يكون الإسلام معناه الانقياد لأوامر الله ونواهيه بلا اعتراض ، وهذا هو ما وجدنا أنه الدين عند الله.
ولهذا يقول تعالي في القرآن الكريم :
(إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران : 19)
والمقصود هو الإسلام لله حيث نقرأ في آيات أخرى :
(بلي من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة 112)
(ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (البقرة 128)
(إذ قال …له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) (البقرة 131)
(قولوا آمنا بالله ........ ونحن له مسلمون) (البقرة 136)
(فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ) (آل عمران 20)
(ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) (النساء 125)
(قل إن هدي الله هو الهدي وأمرنا لنسلم لرب العالمين) (الأنعام 71)
(فإلهكم إله واحد فله أسلموا) (الحج 34)(2/39)
ولهذا فإن الدين عند الله هو الإسلام لله ، وكان الإسلام لله لذلك هو دين الرسل والأنبياء ومن تبعوهم قبل موسى عليه السلام ، وما دام هو دين الله فيمكن اختصاراً أن يسمي بالإسلام ، لأنه ما دام هو دين الله ، فإذا قيل الإسلام فحسب ، لزم أن يعرف أنه يقصد به الإسلام لله ، ولذا يكفي أيضاً أن يقال عمن آمنوا بدين الله واتبعوه ، أنهم مسلمون ، وإنما لابد وأن يكون مفهوم ذلك أنهم مسلمون لله.
وبناء على ذلك فقد كان نوح عليه السلام مسلماً ، وفي هذا نقرأ في القرآن الكريم :
(واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلي الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ، فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) (يونس 71 و72) .
ولذلك أيضاً كان إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وبنوه مسلمين ، وفي هذا أيضاً يقول تعالي في قرآنه الكريم :
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ..... .............. ونحن له مسلمون) (البقرة 127 - 133)
وكان موسى عليه السلام ، نبياً مرسلاً من الله ، وكانت التوراة كتاباً منزلاً من الله سبحانه وتعالى ، وكان مقتضي الإسلام لله إذن الإيمان بموسى عليه السلام رسولاً من الله ونبياً ، والإيمان بالتوراة كتاباً منزلاً من الله العزيز الحكيم ، ومقتضي أيضاً أن من تبعوا موسى عليه السلام وآمنوا بالتوراة كانوا أيضاً مسلمين ، وفي هذا نقرأ في القرآن :
(وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) (يونس 84)(2/40)
ولذلك فالصحيح أن من اتبعوا موسي وآمنوا بالتوراة أنهم كانوا مسلمين لا موسويين ، لأن الدين لله لا للنبي الذي يبعثه الله رسولاً إلي الناس ، ولأنهم باتباعهم موسي وإيمانهم بالتوراة إنما يكونون فعلاً قد أسلموا لله فيما أرادهم أن يسلموا له فيه ، وبذا فهم مسلمون حقاً وإن لم يسموا أنفسهم كذلك.
وتوالي الرسل والرسالات بعد موسى عليه السلام ، وكان مقتضي الإسلام لله ، الإيمان بالرسل جميعاً وبرسالاتهم ، وهكذا إلي أن بعث الله المسيح عليه السلام رسولاً وآتاه الإنجيل ، فكان مقتضي الإسلام لله ، الإيمان بالمسيح عليه السلام رسولاً من الله ونبياً ، وهكذا آمن به الناس فعلاً ، والإيمان بالإنجيل كتاباً منزلاً من الله ، وبذا فإن من اتبعوا المسيح وآمنوا بالإنجيل كانوا أيضاً مسلمين ، وفي هذا نقرأ في القرآن :
(فلما أحس عيسي منهم الكفر قال من أنصاري إلي الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ) (آل عمران 52).
(وإذا أوحيت إلي الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأنا مسلمون ) (المائدة 111).
ثم كان محمد عليه السلام رسولاً بعثه الله وأوحي إليه بالقرآن الكريم ، وكان مقتضي الإسلام لله أيضاً الإيمان بمحمد رسولاً من الله ونبياً ، والإيمان بالقرآن كتاباً منزلاً من عند الله ، كان من المسلمين .
وعلي كل هذا ، فإن مقتضي الإسلام لله إذن ليس الإيمان بمحمد عليه السلام رسولاً نبياً وبالقرآن كتاباً منزلاً من عند الله ، كان من المسلمين .(2/41)
وعلى كل هذا ، فإن مقتضي الإسلام لله إذن ليس الإيمان بمحمد عليه السلام رسولاً نبياً وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله ، فحسب ، وإنما مقتضي الإسلام لله ، الإيمان بكل الرسل الذين سبقوا محمداً عليه السلام ، وبكل الرسالات التي سبقته والتي كانت جميعها من الله ، وهذا ما عني القرآن بتوضيحه أكثر من مرة حيث نقرأ فيه : (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (البقرة 136)
(قل آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (آل عمران 84).
وهكذا نعرف الإسلام ، فهو دين الله منذ أن كان الدين ، هو الدين عند الله ، هو أن نسلم لله فننقاد لأوامره ، ونواهيه في كل زمان بلا اعتراض ، هو دين نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ، وهو في عهد موسي الإيمان بالرسل السابقين ورسالاتهم بالإضافة إلي الإيمان بموسي رسولاً من الله ونبياً وبالتوراة كتاباً من الله منزلاً ، وهو بعد عهد موسي الإيمان بالإضافة إلي ما تقدم بكل الأنبياء الذين تبعوه وبرسالاتهم ، وهو في عهد المسيح الإيمان بالإضافة إلي ما تقدم بالمسيح رسولاً من الله ونبياً وبالإنجيل كتاباً منزلاً من الله ، وهو قد ظل هكذا إلي أن بعث الله محمداً عليه السلام رسولاً من عنده ونبياً وأوحي إليه بالقرآن ، فأصبح الإسلام هو الإيمان بالإضافة إلي كل ما سبق ، بمحمد عليه السلام رسولاً من الله ونبياً وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله.(2/42)
وعلى هذا فالإسلام هو دين نوح وهو ملة إبراهيم ودين إسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام ، والإسلام أيضاً في عهد موسي عليه السلام وبعده إلي عهد المسيح عليه السلام هو ما عرف باليهودية أو الموسوية ، والإسلام في عهد المسيح عليه السلام وبعده إلي عهد محمد عليه السلام هو ما عرف بالمسيحية ، وبمحمد والقرآن تكامل الإسلام وتكامل الدين عند الله الذي كان منذ أن كان الدين هو الإسلام لله .
ويعلم الله أن اليهود والنصارى سيطلبون من الناس أن يتبعوا دينهم حيث كل يحسب أن دينه وحده هو دين الله ، ولذا فهو كما قلنا ، وبمعني أصح فإننا قد قلنا فيما سبق ما أراد الله أن نقول حيث قال في القرآن الكريم :
(وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين .) (البقرة 135)
فهو هنا سبحانه وتعالى يريدنا أن نقول لمن يريدوننا أن نكون يهوداً أو نصارى أننا إنما نتبع ملة إبراهيم عليه السلام حنيفاً ، وما كان من المشركين ، لأن أيا من اليهود أو النصارى لا يستطيع أن يقول عن إبراهيم بالطبع أنه كان مشركاً وإنما كان نبياً وكان نبياً مؤمناً حقاً بل هو أبو الأنبياء والمؤمنين ، ثم يمضي سبحانه وتعالى فيطلب منا أن نسألهم في تحد ويقين فنقول لهم :
(أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى .) (البقرة 140)
والسؤال يتضمن معني التحدي ، فهم لا يستطيعون فعلاً أن يقولوا عنهم أنهم كانوا يهوداً أو نصارى ، للسبب البديهي البسيط الذي توضحه آية أخرى تقول :
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) (آل عمران 65).(2/43)
فإبراهيم إذن لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، لأن من سموا باليهود هم من آمنوا بالتوراة ، ولم تكن التوراة قد نزلت في عهد إبراهيم عليه السلام ، وكذلك من سموا بالنصاري هم من آمنوا بالإنجيل والذي لم يكن قد نزل أيضاً في عهده ، ولذا فلم يكن إبراهيم عليه السلام يهودياً ولا نصرانياً ، ومع ذلك فقد كان مؤمناً تبع دين الله وآمن به ، فما هو هذا الدين الذي آمن به وتبعه ، هذا ما توضحه آية تالية فتقول :
( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) (آل عمران 67)
بل ويمضي القرآن في تأكيد ذلك فيقول عن إبراهيم عليه السلام أنه هو الذي سمي المؤمنين بالمسلمين فيقول :
(وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل .) (الحج 78)(2/44)
هذا هو الإسلام ، في بساطته وفي عظمته ، في يسره وفي عمقه ، هو الدين عند الله ، لأننا لو أردنا أن نعرف الدين عند الله لما استطعنا أن نقول أنه اليهودية على إيماننا بها ، ولا المسيحية على إيماننا بها ، لأننا بذلك إنما نكون متغافلين عن الأنبياء المرسلين قبل موسي عليه السلام وعمن اتبعوهم وآمنوا بالله وانقادوا لأوامره ونواهيه بلا اعتراض منهم ، فهؤلاء كانوا ، وبإقرار اليهود والمسيحيين أنفسهم ، مؤمنين ، وقد اتبعوا دين الله ، ولكنهم لم يكونوا يهوداً أو نصارى ، فماذا كان دينهم ، ثم إذا كانت المسيحية هي الدين عند الله ، فماذا كان دين من آمنوا بموسي عليه السلام رسولاً نبياً وبالتوراة كتاباً منزلاً من الله ، وماذا كان دين الأنبياء بعده ومن تبعوهم إلي المسيح عليه السلام وما كانوا نصارى أو مسيحيين بطبيعة الحال ، ولذا فليس من تعريف للدين عند الله غير الإسلام لله ، أو الإسلام فحسب لأنه لابد وأن يكون الإسلام لله ما دام منسوباً لله ، فالإسلام هو وحده التعريف للدين الذي يجمع الدين كله منذ كان الدين ، ويجمع الرسالات كلها منذ أن كانت الرسالات ، فالله لم يطلب من الناس أن يكونوا يهوداً أو مسيحيين ، وإنما طلب منهم دائماً أن ينقادوا له في أوامره ونواهيه بلا اعتراض ، فإن فعلوا كانوا مسلمين لله ، أو مسلمين اختصاراً للتسمية مع ضرورة بقاء مفهومها دائماً أنهم مسلمون لله ، ولذا كان نوح عليه السلام ومن تبعه هم المسلمون ، وكان إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام ومن تبعهم مسلمين ، وكان موسى عليه السلام ومن تبعه مسلمين ، وكان الأنبياء بعد موسي عليه السلام ومن تبعهم مسلمين ، وكان المسيح عليه السلام ومن تبعه مسلمين ، ثم كان محمد عليه السلام ، وكان القرآن وبذلك تكامل الإسلام ، دين الله منذ أن كان الدين ، إلي خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه السلام ، وإلي القرآن آخر كتب الله المنزل على محمد عليه السلام.(2/45)
فهل غير الإسلام دين ، وهو الدين عند الله :
(إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران 19)
وهل غير الإسلام نبتغي :
(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) (آل عمران)
ويلاحظ هنا ، وفي نطاق ما تقدم ؛ أن الموسوية والمسيحية ليستا غير الإسلام في مفهوم هذه الآية ؛ لأن الموسوية كما أوضحنا هي الإسلام في عهد موسي إلي عهد المسيح عليهما السلام ؛ والمسيحية هي الإسلام من عهد المسيح إلي عهد محمد عليهما السلام وبمحمد والقرآن الذي نزل عليه تكامل الدين عند الله ، ولهذا فليس إسلاماً اليوم ما لا يتضمن الإيمان بما عرف بالموسوية أو بالمسيحية ، مع ملاحظة أن المسيحية المقصودة هنا ، هي المسيحية الحقيقية ، هي الإيمان بالمسيح عليه السلام رسولاً نبياً وبالإنجيل كتاباً منزلاً من الله ، لأن هذه المسيحية الحقيقية ، وفقاً لما انتهينا إليه في البابين الثاني والثالث ، وليست المسيحية بمعتقداتها التي استقرت اليوم ، وليس القصد من ذلك بطبيعة الحال محاولة التجني على المسيحية أو محاربتها ، وإنما القصد كله هو التمسك بالمسيحية الحقيقية وكما كانت في الواقع ، وكما دعا إليها المسيح عليه السلام نفسه ، وهي على هذا النحو كانت الإسلام نفسه إلي بعث محمد عليه السلام وتنزيل القرآن عليه ، وبذلك تكامل دين الله ، الذي هو منذ أن كان الدين ، الانقياد لله في أوامره ونواهيه بلا اعتراض ، أي الإسلام لله ، أي الإسلام.
فهل لمؤمن بالله أن يستكبر فيأبي أن يسلم وجهه لله ، وهل غير الإسلام ، دين الله ، والدين عند الله ، يبغي مؤمن بالله ، وله سبحانه وتعالى أسلم من في السماوات والأرض :
(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض .) (آل عمران 83)
وهل أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم :
(ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً) (النساء 125)(2/46)
وإذا كان هذا هو الإسلام ، وإذا كانت هذه هي حقيقته ، بكل صراحة وبكل وضوح كما وردت في القرآن ، فالذي أنا واثق منه أن هذا المعني الذي فصلته يغيب عن أذهان الكثيرين وفهمهم ، وللأسف حتى بين بعض المسلمين .
فبالنسبة لغير المسلمين ، والذين لا يعرفون العربية على وجه الخصوص ، يكاد أن يكون من المستحيل أن يعرفوا الإسلام على حقيقته هذه ، لسبب بسيط ، وهو أن هذا المعني الذي انتهينا إليه ، إنما هو ما نعرفه من معني كلمة الإسلام لغة ، فقد وجدنا أن الإسلام لغة هو الانقياد لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض ، ولذا فقد سمي الله سبحانه وتعالى دينه الإسلام ، لأن الدين عند الله أن ننقاد لأوامره ونواهيه بلا اعتراض ، ولذا كان الدين عند الله هو الإسلام لله ، أو الإسلام ، وأوضح القرآن بكل جلاء أن المقصود بالإسلام ، هو الإسلام لله على هذا المعني المعروف للإسلام لغة ، ولهذا لم يكن الإسلام اسماً اختير للدين ، وإنما هو التعريف الوحيد الذي يمكن أن يعرف به الدين عند الله ، لأنه التعريف الذي يستطيع الجمع بين الدين جميعه ، منذ أن كان الدين، هو وحده الذي نستطيع أن نقوله أنه كان دين نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام ومن تبعهم ، وهو أيضاً الدين الذي نستطيع أن نقول أنه كان دين موسي والأنبياء من بعده والمسيح أيضاً عليهم السلام ومن تبعهم ، وهو أيضاً دين محمد عليه السلام ومن تبعه ، ولذا فالإسلام معني للدين قبل أن يكون اسماً له ، بل هو معني أولاً وأخيراً ، ولكن حين يذكر ، يذكر الإسلام في لغة أجنبية ، يذكر بالحروف الأجنبية ، ولكن بنطقه العربي ، ولذلك يصبح في اللغات الأجنبية اسماً لا معني له إلا مجرد كونه اسماً لدين ، وهذا خطأ ما بعده من خطأ ، لأن المقصود بالإسلام المعني أصلاً دون الاسم ، والواجب أن تترجم كلمة الإسلام بمعناها في العربية إلي جميع اللغات ، بحيث إذا ذكر الإسلام في لغة لا يذكر بنطقه العربي ، وإنما(2/47)
بمعناه في اللغة العربية ، لأنه بهذا وحده قد يمكن لمن لا يعرفون العربية أن يعرفوا الإسلام بمعناه الحقيقي ، وبغير هذا لا يمكن لهم أن يعرفوه ، ولا يعدو الإسلام عندهم أن يكون اسماً لا معني له على الإطلاق .
أما غير المسلمين ممن يعرفون العربية ، فمنهم من يأخذ بظاهر بعض الآيات ، مثل ما وجدناه من قوله تعالى :
(إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران 19)
و (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) (آل عمران 85)
فيحسبون أن الموسوية والمسيحية غير الإسلام في حكم هاتين الآيتين ، وللأسف فإن بعضاً من المسلمين أيضاً قد يرون هذا الرأي ، فيأبون أن يعتبروا الموسويين أو المسيحيين مسلمين ، مع أن المقطوع به من آيات القرآن الكريم ، أن ما عرفوا بالموسويين في عهد موسي وإلي عهد المسيح هم المسلمون في هذه الفترة ، وأن من عرفوا بالمسيحيين في عهد المسيح وإلي عهد محمد هم المسلمون أيضاً في هذه الفترة ، وهم إن كانوا قد سموا بالموسويين أو المسيحيين فإن هذا لا ينفي أبداً كونهم مسلمين ، لأنهم إنما قد أسلموا لله فآمنوا بالله وانقادوا له فيما أراد أن ينقادوا له فيه من أوامر ونواهي بلا اعتراض ، فكان الإسلام هو دينهم وإن لم يسموا أنفسهم بالمسلمين ، ولكن بعد محمد لم يعد إسلامهم كاملاً ، لأن الإسلام الكامل يقتضي أن يؤمنوا بمحمد رسولاً من الله ونبياً ، وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله ، ولكنهم لم يفعلوا ، وبذا لم يكمل إسلامهم ، ولذلك ففي الإسلام اليوم يعتبر الموسيون والمسيحيون مسلمين ، ولكن إسلاماً قاصراً غير كامل ، لا يكتمل إلا بالإيمان بمحمد عليه السلام رسولاً نبياً وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله كما بينا.(2/48)
ويلاحظ أنه على العكس من ذلك ، فإذا كان من آمنوا بالرسل إلي موسي عليه السلام ورسالاتهم ؛ أو على المسيح عليه السلام والإنجيل ، يعتبرون في حكم الإسلام مسلمين ، ولكن إسلاماً قاصراً غير كامل ، لا يكتمل اليوم إلا بالإيمان بالرسل إلي المسيح عليه السلام لمن لم يؤمنوا به وبالإنجيل ، وبالإيمان بمحمد رسولاً من الله ونبياً وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله ، على العكس من ذلك ، فإن من يؤمن بأي من الرسل أو أي من الكتب قبل ذلك ، لا يكون في حكم الإسلام مسلماً ، أي أن من لا يؤمن بالمسيح رسولاً من الله ونبياً ، أو بالإنجيل كتاباً منزلاً من الله ، أو بالتوراة كتاباً منزلاً من الله ، لا يكون في حكم الإسلام مسلماً ، ومرجع ذلك أن القرآن أوجب الإيمان بالكتب والرسل قبل محمد عليه السلام ، ومن ثم فإن عدم الإيمان بأي منهم يناقض الإيمان بالقرآن نفسه ومن ثم لا يكون إسلاماه .(2/49)
فالإسلام إذن هو الدين عند الله ، لأن الدين عند الله هو أن ننقاد لأوامره ونواهيه في كل زمان بلا اعتراض ، وهذا هو الإسلام ، ولهذا كان هو الدين كله ، وهو الرسالات كلها ، فلذا لزم الإيمان بالرسل جميعاً ، وقد كان الإسلام دين نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلي موسي عليه السلام ، ثم سمي أتباع موسي دينهم باليهودية أو الموسوية ، وسموا أنفسهم باليهود أو الموسويين ، ولكن كانوا هم الذين سموا دينهم وأنفسهم بذلك لا الله ، الذي لم ير فيهم غير مسلمين له ، وكان الأنبياء بعد موسي عليه السلام ، وظل أتباعهم يسمون أنفسهم باليهود أو الموسويين ودينهم باليهودية أو الموسوية ، ولكنهم كانوا عند الله أيضاً مسلمين ، وسمي أتباع المسيح عليه السلام أنفسهم بالمسيحيين أو النصارى ، وسموا دينهم بالمسيحية أو النصرانية ، ولكن لم يسمهم الله أو دينهم بذلك ، بل رآهم أيضاً مسلمين ، وبمحمد عليه السلام والقرآن ، ختم الله الدين الذي هو الإسلام له ، وعني فيه بأن يوضح أن الدين ليس اليهودية ولا المسيحية ، بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ، بل كان حنيفاً مسلماً ، وهكذا كان كل من تبعوا الرسل وآمنوا بالله وكتبه من بعد إبراهيم ، وبذلك لا يكون الله قد شرع الناس عدة أديان سماوية كما يحسب البعض ، بل دين واحد ، أن نسلم لله رب العالمين وإذا كان اليهود أو المسيحيون اليوم يأبون أن يسلموا ، فإن الإسلام هو دينهم الحق وإن كانوا لا يعلمون.
المبحث الثاني
ما يدعو إليه الإسلام(2/50)
أول ما يدعو إليه الإسلام بطبيعة الحال هو ما عرفناه من سبب تسميته بالإسلام ، فالإسلام هو أن ننقاد لله سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه بلا اعتراض ، فنؤمن بالله الذي لا إله إلا هو ، رب نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ، إله موسي وهارون ، رب المسيح عيسي ابن مريم ومحمد ، إله الناس جميعاً ، رب العالمين ، خالق كل شيء ، منه كل شيء ، وإليه المصير ، عالم الغيب والشهادة ، لا يعلم الساعة إلا هو له الملك ، وهو على كل شيء قدير .
ولقد أوضح القرآن بكل جلاء ، أن الإسلام ليس ديناً جديداً نزله الله سبحانه وتعالى بعد أديان أخرى ، بل هو الدين الذي نزله جميعه ، على كل الأنبياء والمرسلين وهو وحده الذي يمكن أن نسمي به الدين جميعه منذ أن كان الدين ، إذ لا يمكن أن نسمي الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم ممن آمنوا قبل موسى عليه السلام بالموسويين ، ولا قبل المسيح عليه السلام ومن تبعه بالمسيحيين ، ولكن يمكن أن نسميهم جميعاً مسلمين ، لأنهم إنما أسلموا بإيمانهم لله رب العالمين ، ولما كان الإسلام هو الدين كله ، وهو الرسالات كلها ، فلذا لزم الإيمان بالرسل جميعاً ورسالاتهم والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسي وعيسي أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .)
ولهذا كان الدين كله واحداً ، وكانت الدعوة كلها واحدة ، ولم يكن ممكناً بالتالي أن تتناقض المسيحية مع الإسلام أو أن تختلف معه ، لأن المسيحية كما رأينا ، هي الإسلام نفسه قبل محمد عليه السلام ، ولهذا فلم يختلف الإسلام منذ عهد محمد عليه السلام ، عن الإسلام قبله ، ولهذا أيضاً فإننا نجد في القرآن الكريم ، قمة ما بلغته المسيحية على لسان المسيح عليه السلام من كمال ، بل وما فوقها ، فإذا كانت قمة الكمال في المسيحية هي قول المسيح عليه السلام :(2/51)
(أحبوا أعداءكم . باركوا لاعتيكم . أحسنوا إلي مبغضيكم . وصلوا الأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .) (متى ص 5 : 44)
فإن القرآن قد بلغ فوق هذه القمة حين قال سبحانه وتعالى فيه :
(ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.) (فصلت 34)
فأي كمال تحمله هذه الآية ، إنها لا تدعو فحسب إلي أن نحب من بيننا وبينه عداوة كما دعا المسيح عليه السلام ، وإنما تحثنا على أن ننزله من أنفسنا منزلة من هو ولي حميم ، وشتان بين أن نحب شخصاً ، وبين أن ننزله من أنفسنا منزلة من هو ولي حميم .
ولو مضينا مع آيات القرآن كلها ، لما وجدنا فيها إلا ما وجدناه في كل الكتب السماوية قبله ، وفي كل ما دعا إليه الرسل من قبل ، من دعوة إلي كل خير وصلاح ، ونهي عن كل فاحشة وفساد ، ولما وجدنا فيه شيئاً يختلف عن الدين قبله ، ولكن إذا كنا نري المسيحية اليوم ، تخالف بعضاً مما جاء في القرآن وآمن به المسلمون ، من قولهم أن المسيح هو الله وأنه قد صلب ولم يخلصه الله ويرفعه إليه ، فقد وجدنا من قبل وبكل جلاء ، أن الحقيقة هي ما قال به القرآن وآمن به المسلمون ، وأن هذا القول عن ألوهية المسيح عليه السلام وصلبه إنما هو قول يخالف الحقيقة والواقع ويخالف دعوة المسيح نفسها ، وأن المسيحية الحقيقية ، هي في الإيمان بالله وكتبه ورسله ، وبالمسيح مجرد رسول نبي بشر ، وهذه المسيحية الحقيقية كما أوضحنا مراراً ، هي الإسلام نفسه، الذي تكامل ببعث محمد عليه السلام رسولاً نبياً وبإنزال القرآن عليه وحياً من الله سبحانه وتعالى.
الباب الخامس
دعوة الحق(2/52)
الذي نعرفه ، أن البحث في هذا الكتاب لم يكن محاولة للتقريب بين المسيحية والإسلام ، وإنما كان محاولة للكشف عن الحقيقة بينهما ، فإذا الحقيقة مذهلة ، بل إذا بها معجزة ، لأن الكشف عنها لم يكشف عن تقريب بين المسيحية والإسلام ، وإنما كشف عن وحدة حقيقية كاملة بينهما ، وحدة كاملة لا خلاف ولا اختلاف فيها ، لأن الواحد لا يختلف عن نفسه ، إذا بما عرف بالمسيحية ، هو الإسلام نفسه قبل بعث محمد عليه السلام رسولاً نبياً ، وما كانت رسالة محمد إلا تتمة لهذا الدين ، الذي هو الإسلام وإن عرف بالمسيحية فترة طويلة من الزمن امتدت قرابة الستة قرون ، وكشفت لنا الحقيقة عن أن ما يعرف اليوم عن اختلافات بين المسيحية والإسلام ، إنما هي اختلافات لا أساس لها من الواقع ، تنفيها الحقيقة نفسها ، ويتعين بعد كشف الحقيقة بشأنها الرجوع عنها إلي الحقيقة وحدها ، فتكون للدين كله وحدته وكماله .
ولاشك أننا من جماع كل ما سبق ، نستطيع أن نستخلص دعوة يجب أن نتوجه بها إلي الإخوة المسيحيين في كل مكان ، وهذا ما نخصص له الفصل الأول من هذا الباب ، كما أن هناك ثمة دعوة أخرى نستطيع أن نستخلصها ويجب علينا أن نتوجه بها إلي المسلمين في كل مكان ، وهذا ما نخصص له الفصل الثاني من هذا الباب.
وعلى أن ما نتوجه به من دعوة إلي المسيحيين أو المسلمين ، إنما هو من دعوة الحق التي انتهينا إليها ، إلا أننا سنفرد فصلاً أخيراً من هذا الباب ، نخصه ببيان للدعوة ، التي هي دعوة الحق ، ليكون تعريفاً لها ، بينما يكون الفصلان الأول والثاني على هذا النحو بعضاً من تفصيلها.
الفصل الأول
الدعوة إلى الأخوة المسيحيين(2/53)
من المفيد بلا شك ، أن نلقي ضوءاً أولاً ، على الكيفية التي تدعو بها المسيحية اليوم الناس إلى اتباعها ، والكيفية التي يدعو بها الإسلام الناس إلي اتباعه لما في المقارنة بين الكيفية من توضيح وكشف لحقيقة الدعوة في كل منهما ، وهذا ما نتناوله في مبحث أول ، وطبيعي أن دعوة الإسلام إلي المسيحيين اليوم أن يختاروه ديناً يبتغونه لأنفسهم ، والدعوة على هذا النحو ، ومع ما انتهينا إليه من أن المسيحية هي الإسلام نفسه قبل بعث محمد عليه السلام رسولاً من الله ونبياً ، ليست دعوة إلي اعتناق دين جديد ، وإنما هي دعوة لأن يتموا إسلامهم لله ، لأن يتموا دينهم الذي هو بحق الإسلام وإن لم يعرفوه ، وهذا ما نتناوله في مبحث ثان ، والذي لاشك فيه ، أن من المسيحيين من قد يأبى رغم كل ذلك أن يسلم لله فيبتغي الإسلام ديناً ، وإلي هؤلاء يتوجه الإسلام ، أن في القليل احفظوا دينكم كما دعاكم إليه المسيح عليه السلام ، وهذا ما نتناوله في مبحث ثالث.
المبحث الأول
مقارنة بين كيفية دعوة المسيحية اليوم
والإسلام للناس أن يتبعوهما
ولاشك أن خير سبيل للمقارنة هنا ، إنما يكون بالمقارنة بين ما يمكن اعتباره قمة في المسيحية والإسلام على السواء ، ولقد تعرضنا في بحثنا فيما سبق لهاتين القمتين كل على حدتها ، فالقمة في المسيحية هي بلا شك تعاليم الكنيسة ، في الإسلام بلا شك هي في فضيلة شيخ الجامع الأزهر ، وتعاليم الكنيسة إذ تدعو المسيحيين إلي الإيمان بصورة معينة تتضمن تأليهاً للمسيح ، إنما تحدد كيفية معينة يكون الإيمان بهذه الألوهية عن طريقها ، والشيخ السابق للجامع الأزهر إذ يشرح معتقدات الإسلام ، يوضح كيفية معينة يتطلب بها الإسلام الإيمان بهذه المعتقدات ، فما هما هاتان الكيفيتان.(2/54)
وهنا نعود إلي ما ذكرناه من قبل مما جاء في كتيب يعلم كنيسة الإسكندرية فيما يختص بطبيعة السيد المسيح ، ونقرأ في صفحة 13 من هذا الكتيب بعد أن قرر الكاتب أن الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية تؤمن بلاهوت المسيح كما تؤمن أيضاً بناسوته ولكن المسيح عندهم طبيعة واحدة مع ذلك ، نقرأ في صفحة 13 وما بعدها قول الكاتب بعد ذلك :
(وقد يبدو في هذا النوع من التناقض ، ولكن على الرغم مما يبدو في هذا من تناقض منطقي عقلي ، إلا أن كنيستنا لا تري فيه شيئاً من التناقض لأنها تنظر إلي طبيعة السيد المسيح نظرة صوفية روحانية ينحل فيها كل ما يبدو أمام الفكر البشري أنه متناقض أو محال ، هذه التجربة الصوفية أو الروحانية تعلو على كل تناقض عقلي أو فلسفي ، فيها لا يسأل المسيحي لم ؟ أو كيف ؟ إن في ديانتنا أسرار نؤمن بها ونقبلها بكل يقين وإيمان لا لشيء إلا لأنها قد أعلنت لنا من الله ، ونحن نؤمن بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي ، لا لشيء إلا لأننا أيقنا أنها من الله ، وكما نؤمن بوجود الله وأنه قادر على كل شيء ، كذلك نؤمن بأسرار ديانتنا من دون أن نكون في حاجة إلي أن نسأل ، لم ؟ أو كيف ؟ ولا شك أن العقل الفلسفي لا يستطيع أن يقبل هذا الإيمان الصوفي ...)
ويستطرد الكاتب فيقول :
( إن لنا أن نستخدم عقولنا إلي حد معين ؛ وحينئذ يجب أن يقف العقل ويسلم قياده للتجربة الروحية الصوفية ).
وبعد أن يوضح الكاتب كيفية أن المسيح كما يعتقدون من طبيعتين ولكنه ليس هو طبيعتين بعد الاتحاد ، يقول في صفحة 18 :(2/55)
(قد تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة للعقل الفلسفي أو العقل المادي ، وقد يكون فيها تناقض ، وقد يكون فيها ما يتعارض مع قوانين العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية ، كل هذا قد يكون صحيحاً ، ولكننا في الشرق لا نسأل كيف ؟ ولا لماذا ؟ ولكننا نصدق ونؤمن بتجربة باطنية روحية صوفية عالية علي كل منطق وعقل أن هذا أمر ممكن ، ذلك لأن الله أراده ، وإذا أراد الله شيئاً فهو ممكن ، وحتى لو كان هذا غير معقول للعقل المادي فإنه معقول للعقل الروحاني الذي لا يعرف لقدرة الله حدوداً . وهذا هو (الإيمان الذي بلا فحص) الذي يصرخ من أجله الكاهن القبطي في خدمة القداس الإلهي .)
هذا ما وجدناه في المسيحية ، وهو تماماً بعكس ما وجدناه في الإسلام ، مما قرأناه في كتاب فضيلة شيخ الجامع الأزهر عن الإسلام عقيدة وشريعة ، حيث قرأنا فيه بعد أن بين كاتبه العقائد الأساسية التي طلب الإسلام الإيمان بها ، قوله في صفحتي 32 و 33 :
(والإسلام حينما يطلب من الناس أن يؤمنوا بتلك العقائد ، لا يحملهم عليها إكراهاً ، لأن طبيعة الإيمان تأبي الإكراه ، ولا يتحقق إيمان بإكراه ، وقد جاء في القرآن (لا إكراه في الدين) . وجاء فيه خطاباً لنبيه محمد (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) .
وكذلك لا يحملهم عليها عن طريق الخوارق الحسية ، التي يدهش بها عقولهم ويلقي بهم في حظيرة الاعتقاد دون نظر واختيار (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين). والمعني أنا لإنشاء ذلك ، لأننا نريد منهم إيماناً عن تقبل واختيار .
لا يحملهم عليها بالإكراه ، ولا يحملهم عليها بالخوارق ، وإنما يحملهم عليها بالبرهان الذي يملأ القلب . وعلى هذا المبدأ عرض القرآن عقائد الإسلام عن طريق الحجة والبرهان .(2/56)
وكانت حجته التي لفتت الأنظار إليها فيما يتعلق بعقيدة الإله (وجوداً ووجدانية وكمالاً) دائرة بين النظر العقلي ، وبين ما يجد الإنسان في نفسه من الشعور الباطني والإحساس الداخلي)
ووجدناً أيضاً في الصفحات 559 إلي 563 من نفس الكتاب بياناً لثبوت حق الاجتهاد الفردي في الإسلام لكل من له أهلية النظر والبحث ، ويستوي في ذلك الجميع ، ووجدنا أنه لا اختصاص لأحد بحق التفسير والفهم ، ومن هنا فإنه وإن كان واجب من ليست له أهلية البحث أن يسأل أرباب الأهلية عما يحتاج إليه ، فإنه لا يلزم بإتباع شخص معين ، ووجدنا أيضاً أنه ليس في الإسلام من يجب الأخذ برأيه ، وأن الفتوى ليست ملزمة ، وبذلك أطلق الإسلام العنان للعقل ، وبغير ما حدود.
وهكذا وجدنا أن المسيحية اليوم إذ تتطلب من أتباعها الإيمان بألوهية المسيح إنما تحتم فسر أتباعها على الإيمان بهذه الألوهية ، دون أن تتيح لأحد أن يسأل كيف ولا لماذا ، وهذا ما يمكن تلخيصه فيما يصرخ به الكاهن القبطي في خدمة القداس الإلهي عن الإيمان بلا فحص ، وذلك كله بعكس الإسلام ، الذي حين يطلب من أتباعه أن يؤمنوا بالله وبقدرته وصفاته وأفعاله ، فإنما يجعل سنده في ذلك الحجة والبرهان ، والتي تدور بين النظر العقلي والوجدان الفطري ، وهو ما يمكن تلخيصه بألا إيمان إلا بفحص ، ثم إذا بالمسيحية تطلب من أتباعها أن يقفوا بعقولهم عند حد معين ، يسلمون بعده قيادها لما يقال عنه بالتجربة الروحية الصوفية ، بينما يأبي الإسلام أن يسلم أحد عقله لآخر ، ولا يرتضي بأي حال أن يحد العقل بأي حدود.(2/57)
وبذلك نجد أنفسنا أمام قمتين ، قمة هي الإيمان بلا فحص والوقوف بالعقل عند حد معين يسلم قياده بعده لغيره ، وقمة هي ألا إيمان إلا بفحص ، وألا حدود للعقل وألا سلطان لأحد على عقل غيره ، والمتطلع إلي هاتين القمتين وهما على هذا النحو ، ليوقن على الفور ، أن الأولى إنما هي قمة التردد والشك ، ولذا تأبي الفحص وتأبي للعقل أن ينطلق ، لأنها تعرف أن هذا كفيل بهدمها ، وأما الثانية ، فهي قمة الثقة واليقين ، لأنها ليست لا تأبي الفحص فحسب ، بل تريده وتحتمه ، ولأنها لا تحد العقل وإنما تنطلق به ، وما يدل ذلك كله إلا على ثقة ويقين لا مزيد عليهما.
فإلي أي جانب يمكن للعقل أن تتجه ، بل إلي أي جانب يمكن للقلب والفكر والإيمان أن يتجه ، إلي دعوة تريد أن تقسره على إيمان بلا فحص ، وتريد للعقل أن يقف عند حد معين يسلم قياده بعده لغيره ، أم إلي الدعوة التي لا ترتضي منه إيماناً بها إلا بفحص يطمئن إليه وتأبي للعقل إلا أن ينطلق بغير ما حدود وبغير سلطان لأحد عليه ، إلي جانب هو قمة في الشك والتردد ، أم إلي جانب هو قمة في الثقة واليقين ، للحق إن العقل لا يتردد ، وإن القلب والفكر والإيمان لا تتردد ، فلابد وأن تتجه إلي قمة الثقة واليقين ، إلي الإيمان الذي لا يكون إلا بفحص ، وإلي الإيمان الذي يحفظ العقل ولا يحده ، إلي الإسلام.(2/58)
بل إنه لمن العجيب ، أن تظل هناك دعوة في القرن العشرين ، تدعو الناس إلي أن يقفوا بعقولهم ، التي لم يكرمهم الله قدر ما كرمهم بمنحهم إياها ، ولكن الذي ليس عجيباً على الإطلاق ، هو أن هذه الدعوة في الدول المتقدمة ، يتناقص أتباعها نسبياً إلي حد خطير ، حتى انتشر الإلحاد وكاد أن يشمل دولاً بأكملها ، ورب قائل هنا ، فلماذا إذن لم يتجه الناس في هذه الدول إلي الإسلام ، ذلك الجانب الذي لا يقبل الإيمان إلا بفحص ، ولا يحد العقل عند أي حد ، وهنا نقرر للأسف ، بأن هذا الجانب الذي كان مفروضاً أن تتجه إليه العقول حين تأبي الإيمان بلا فحص ، ويأبى أصحابها أن يقفوا بها عند حد معين ، هذا الجانب وهو الإسلام لا يكاد أن يكون معروفاً بين هؤلاء الناس ، وإن عرف فبصورة مشوهة تبعد به عن الحقيقة التي رأيناها له في هذا البحث ، ولو أنه كان معروضاً بينهم وبصورته الحقيقية لأتجه إليه هؤلاء جميعاً ، ولحفظهم بذلك من الإلحاد.
على أنه لا يفوتنا هنا أن نذكر ، أن هذا الجانب الذي يتطلب من العقول أن تقف عند حد معين ، وأن تسلم بألوهية المسيح بلا فحص ورغم تناقضها مع كل عقل ومنطق على نحو ما رأينا ، إنما هو ما يمثل المسيحية كما هي معروفة اليوم ، وهي بخلاف المسيحية الحقيقية التي انتهينا إليها ، والتي تقوم على وحدانية الله وكماله وتنزيهه عن الحلول أو التجسد أو نحو ذلك ، وعلى الإيمان بالمسيح عليه السلام رسولاً نبياً وإنساناً بشراً ، وبرسالته وبالإنجيل كتاب الله المنزل عليه ، وهذه المسيحية الحقيقية التي انتهينا إليها ، إنما تقف في الجانب الذي يقف فيه الإسلام تماماً ، فلا ترتضي الإيمان إلا بفحص ، ولا تقف بالعقول عند حد معين ، بل تطلقها بغير ما حد ، وهذا كله طبيعي ، لأن المسيحية الحقيقية كما وجدنا ، هي الإسلام نفسه قبل بعث محمد عليه السلام ، وذلك وفق ما انتهينا إليه بحق.
المبحث الثاني
أتموا إسلامكم(2/59)
عرفنا فيما سبق ، أن محمداً عليه السلام من نسل إسماعيل ابن إبراهيم أبو الأنبياء والمؤمنين ، ونعلم من سفر التكوين في العهد القديم ، أن هاجر عندما حبلت من إبراهيم في ابنه إسماعيل ، أذلتها سارة زوجة إبراهيم فهربت من وجهها ، ويضيف الإصحاح السادس عشر بعد ذلك :
(فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية . على العين التي في طريق شور . وقال يا هاجر جارية ساراي . من أين أتيت وإلي أين تذهبين . فقالت أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي . فقال لها ملاك الرب ارجعي إلي مولاتك واخضعي تحت يديها . وقال لها ملاك الرب أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة.
وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلي فتلدين ابناً. وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك .) (7 - 11) .
ونقرأ في الإصحاح السابع عشر من السفر نفسه عن إسماعيل أيضاً :
(أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً . واثني عشر رئيساً يلد وأجعله أمة كبيرة) . (20)
ونقرأ في الإصحاح الحادي والعشرين من نفس السفر :
(ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم بمزح فقالت لإبراهيم أطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق . فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه . فقال الله لإبراهيم لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك ، في كل ما تقوله لك سارة اسمع لقولها ، لأنه بإسحق يدعي لك نسل. وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك.(2/60)
فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها ، فمضت وتاهت في برية بئر سبع ، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار . ومضت وجلست مقابلة نحو رمية قوس لأنها قالت لا أنظر موت الولد . فجلست مقابلة ورفعت صوتها وبكت . فسمع الله صوت الغلام . ونادي ملاك الله هاجر من السماء وقال لها مالك يا هاجر . لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو . قومي احملي الغلام وشدي يدك به . لأني سأجعله أمة عظيمة . وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام . ) (9 - 20)
هذا هو إسماعيل ، جد محمد ، عليهما السلام ، وهذا هو وعد الله له في العهد القديم ، فملاك الرب يقول لهاجر (تكثيراً أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة ) ، ويقول الله لإبراهيم عن إسماعيل (وابن الجارية أيضاً أجعله أمة لأنه نسلك) ، ويقول ملاك الله ثانية لهاجر عن إسماعيل (قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة .) ، وما هذه الأمة من نسل إبراهيم ، وما هذا التكثير من نسل إسماعيل ، وما هذه الأمة العظيمة منه ، إلا أمة المسلمين اليوم.
هذا هو محمد عليه السلام ، وعنه قال موسى عليه السلام :
(يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلى . له تسمعون) (تثنية ص 18 : 15).
ويستطرد موسى عليه السلام فيقول أيضاً :
(قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به . ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه .) (تثنية ص 18 : 17 - 19).(2/61)
وواضح أن الآيات تشير إلي أن النبي المقصود من وسط إخوتهم ، أي من فرع آخر غير فرعهم ، وهو لا يكون إلا من إسماعيل عليه السلام ، وإذا كان الإخوة المسيحيون جرياً على عادتهم من إسناد كل نبوءات العهد القديم إلي المسيح عليه السلام ، قد قالوا أنه هو المقصود بهذه النبوءة ، فإن هذا القول منهم لا يقبل ، لما هو واضح من أنها لا تنطبق إلا على محمد عليه السلام الذي هو من نسل إسماعيل أخو إسحاق عليهما السلام ، وبذا كان بحق نبياً من وسط إخوتهم ، وهو مالا ينطبق على المسيح عليه السلام .
هذا هو النبي محمد ، وهذه هي أمته ، وهذا بعض مما جاء عنهما في العهد القديم ، وكما نعلم فقد حافظ المسلمون على عهد الله لإبراهيم عليه السلام في نسله أن يختتن منهم كل ذكر ، كما جعلوا من البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس ليحجوا إليه ، بيتاً يجب على كل مسلم أن يحج إليه متى استطاع إليه سبيلاً .
وتماماً كما أوجبت المسيحية على المسيحيين الإيمان بكل الرسل وبجميع الكتب المنزلة من الله قبل المسيح عليه السلام ، فقد أوجب الإسلام على المسلمين الإيمان بكل ذلك ، وكما يجب على المسيحي أن يؤمن بالمسيح رسولاً نبياً وإنساناً بشراً ، وبالإنجيل كتاباً منزلاً من الله ، فإنه يجب على المسلم الإيمان بذلك كله تماماً ، بل إن هذا هو نفسه الإسلام قبل بعث محمد عليه السلام كما رأينا من قبل.
وإذا كان هذا هو ما يدين به من دانوا بالمسيحية الحقيقية ، فإن هذا هو نفسه في حكم الإسلام هو إسلام من دانوا بالمسيحية الحقيقية ، ثم كان بعث محمد عليه السلام ، رسولاً نبياً ، وكان تنزيل القرآن عليه من الله سبحانه وتعالى ، ولم يعد الإسلام هو ما عرف قبل ذلك بالمسيحية فحسب ، وإنما لزم لتمام الإسلام الإيمان بمحمد رسولاً نبياً ، والإيمان بالقرآن كتاباً منزلاً من الله.(2/62)
وهذا هو القرآن الكريم ، وهذه آياته ، وقد سبق لنا أن تحدينا في هذا البحث بعضاً من هذه الآيات ، فما كان بحثنا عن الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه إلا تحدياً لما جاء في القرآن من نفي للصلب ، لأننا إنما سلمنا القرآن لمن ينكرونه ليحكموا بشأنه ، حيث احتكمنا لما يجعل منه المسيحيون أنفسهم ودون المسلمين ، أساساً لأبحاثهم ودراستهم ، ومع ذلك فلم تغلب هذه الآيات ولم تقهر ، وإنما غلب وقهر كل ما عداها ، لم تنحن ، وإنما انحني إجلالا لها كل ما سواها.
واختبرنا هذه الآيات أيضاً في كل ما قالته عن نفي ما قيل من ألوهية المسيح ، فكانت هي الحقيقة دون غيرها.
صحة لا يعلوها صحة ، ودقة لا تبلغها دقة أخرى ، وكمال لا يفوته كمال آخر ، هذا هو كل ما ورد في القرآن ، وهو بين أيدي الجميع ، وليقرأه من يريد وبه نتحدي ، أي إنسان بالغاً ما بلغ من العلم أو العقل أو الحكمة ، أن يثبت عدم صحة أو دقة أو كمال حرف واحد مما فيه ، وهيهات أن يقدر أحد ، لأنه من الله ، وما من الله هو الكمال كله ، وهيهات أن يقدر أن ينال منه أحد ، فهل بعد الله لا يسلمون فيؤمنون برسوله وبقرآنه.
وهذا هو الله سبحانه وتعالى في الإسلام ، الذي لا إله إلا هو ، خالق كل شيء منه كل شيء ، إليه كل شيء ، عالم الغيب ، وعالم الساعة ، سبحانه وتعالى القادر على كل شيء ، خالق السماوات والأرض ، خالق آدم ، رب نوح ، وإله إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ، رب موسي وهارون ، إله المسيح عيسى بن مريم ومحمد ، رب الناس جميعاً إله العالمين ، إليه المصير ، فهل من إله غيره ، وهل من عبادته أو التسليم له يستنكف أي من المؤمنين.(2/63)
وهذه هي أركان الإسلام ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وهي تتضمن الشهادة برسالة الرسل قبل محمد عليه السلام على تفصيل ما قلناه من قبل ، وإيتاء الزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ، وذلك كله على التفصيل الذي أشرنا إليه من قبل ، وما وجدناه فيه من كمال ، ثم الصلاة ، وقد وجدنا فيها بحق ، وفي المسجد الذي تؤدي فيه ، ما يحقق للمؤمنين وحدة وجمعاً بين المسلمين جميعاً ، وما يحقق كمالاً لا حدود له ولا مثيل له ، ولا مزيد عليه في عبادة الله في الإسلام ، فقد رأينا أنه بهذه الصلاة في الإسلام ، سيبقي خالداً أبداً ، ذلك الصوت الهادر كل لحظة وبغير انقطاع أبداً ، بل وبغير احتمال للانقطاع أبداً ولا لأصغر لحظة ، أن الله أكبر ، لا إله إلا الله ، وأن سبحان ربنا العظيم سبحان ربنا الأعلى ، الحمد لله رب العالمين وستبقي أبداً على الأرض ، رؤوسنا تركع وتسجد لله العظيم ، الذي لا إله إلا هو ، ولن يزيد مرور الزمن إلا أن يزيد هذا الصوت الهادر أبداً إلي السماء ارتفاعاً وعلواً وهذه الرؤوس الراكعة الساجدة الخاشعة لله الواحد الأحد أضعافاً فوق أضعاف ، ولن تكون أبداً على الأرض ، عبادة أخرى أو صلاة أخرى يتحقق لها شيء من هذا الكمال أو قبس من ذلك الخلود .(2/64)
فهلا ضم الإخوة المسيحيين أصواتهم إلي هذا الصوت الهادر إلي السماء مكبراً الله حامداً مسبحاً راكعاً ساجداً له أبداً ، فيعلو صوت الإيمان والحق ، ويعلو في السماء صوت خالد هادر أبداً من الأرض ، مكبراً مسبحاً حامداً راكعاً ساجداً أبداً لله ربهم ورب العالمين ، ويحققون بذلك الوحدة التي طالما نشدوها في كنيستهم ، على صورة تفوق كل أمانيهم وأحلامهم بشأن الوحدة ، وهي أمامهم وبين أيديهم وهي تتمة دينهم ، في المسجد ، الذي سمي بحق بالجامع ، فهلا يفعلون ، فإن فعلوا فقد فازوا واهتدوا وأتموا دينهم ، وإن لم يفعلوا ، فلن يخفت أبداً ، ذلك الصوت الهادر إلي السماء مكبراً مسبحاً حامداً راكعاً ساجداً أبداً لله ، وإنما سيزيد أبداً علواً وخلوداً ، كلما مضي به الوقت .
والذي آمله ألا يكون هناك على أي حال من المسيحيين من يستنكف عن أن يكبر الله أو يحمده أو يسبحه بعلوه وعظمته أو يركع أو يسجد له ، لأنه لا يستنكف عن ذلك إلا الكافرون.
هذا هو الإسلام ، فهل بعد من الإخوة المسيحيين من يستنكف عن الإسلام لله ، وهل يستنكفون وهم بإيمانهم بالمسيح عليه السلام رسولاً نبياً وإنساناً بشراً ، وبإيمانهم بالإنجيل كتاباً منزلاً من الله ، وبإيمانهم بالرسل والكتب قبل المسيح إنما قد أسلموا لله فيما أراد لهم أن يسلموا له فيه ، ولكن بعد محمد عليه السلام لا يكمل الإسلام إلا بالإيمان به رسولاً نبياً ، وبالقرآن كتاباً منزلاً من الله ، فهل يؤمنون.
المبحث الثالث
فاحفظوا دينكم(2/65)
كانت قضية الدين دائماً ، هي الإيمان بوجود الله ، الإله الذي لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ، رب كل شيء ، منه كل شيء ، إليه كل شيء ، وإليه المصير ، وكانت الدعوة إلي الإيمان بالله وبوجوده علي هذا النحو هي قضية الدين منذ أن كان الدين ، وكان الكفر بالله ، هو عدم الإيمان بوجوده على هذا النحو ، وهكذا كان الأساس في دعوة كل الأنبياء والمرسلين ، الدعوة إلي الإيمان بوجود الله وعبادته ، واستمرت هذه دعوة الرسل والأنبياء جميعاً ، إلي المسيح عليه السلام ، الذي إنما دعا هو الآخر ، إلي الإيمان بالله ، الذي دعا إلي الإيمان به الأنبياء والمرسلون من قبله ، إلي الإيمان بوجوده وعبادته .(2/66)
ولكن ، وبعد رفع المسيح عليه السلام ، ظهر بين المسيحيين من قال بأن المسيح نفسه هو هذا الإله أو هو الله ، وكان هذا جديداً في المسيحية ، ولم يظهر إلا بعد رفع المسيح عليه السلام ، ولم يتقبله لذلك كل من تبعوا المسيح ، وإنما بقي الكثيرون على إيمانهم بالله على النحو الذي دعاهم إليه المسيح عليه السلام ، وعلى النحو الذي دعا إليه جميع الرسل والأنبياء من قبله ، وظلوا على إيمانهم هذا ، وظلوا على اعتقادهم في المسيح مجرد إنسان بشر ، وإن كان رسولاً نبياً ، وإن كان قد ولد أيضاً من عذراء ، وإن كان قد صنع ما صنع من المعجزات بإذن الله ، ولكن الآخرين أخذتهم هذه الدعوة الجديدة ، ولعل مبالغتهم في حبه عليه السلام دفعتهم إلي تقبل القول بتأليهه ، وبمضي الزمن دخلت الدعوة إلي تأليه المسيح في صلب المسيحية ، وزاد من اتبعوها وإن بقي كثيرون أبوا أن ينحرفوا عن إيمانهم الأول الذي تلقوه من المسيح نفسه عليه السلام ، ولكن كانت الغلبة لمن اعتنقوا الإيمان بألوهية المسيح ، حتى أصبح من ينفي هذه الألوهية اليوم عدواً للمسيحية حقيقاً بأن يحارب ، وحتى حوربت أناجيل مختلفة وأحرقت ، ولاشك أن بعضاً منها كان ينفي هذه الألوهية ، وإلا لما كان ثمة ما يدعو من آمنوا بهذه الألوهية إلي إحراقها ، وبقيت الغلبة إلي اليوم ، للذين انحرفوا عن الإيمان الأول ، وقالوا بخلاف ما كان معروفاً بألوهية المسيح ، ولا يكاد يوجد بين المسيحيين اليوم من ينفي هذه الألوهية .(2/67)
ولكن ، وبذلك ، انقلبت قضية الدين ، فبعد أن كانت هي الإيمان بوجود الله ، والدعوة إلي عبادته ، وبعد أن كانت قضية الدين كلها هي محاولة إثبات ذلك ، أصبحت قضية الدين في المسيحية ، هي محاولة إثبات ألوهية المسيح ، ولم يكن لهذا من نتيجة إلا أن يشتت كل الجهد الذي يبذل لقضية الإيمان ، فإذا كان من الممكن إثبات وجود الله بصورة منطقية ومقبولة ومتفقة مع كل منطق وكل عقل ، فإن من المستحيل إثبات أية ألوهية للمسيح ، وبأية صورة من الصور المقبولة ، ولهذا يكاد جهد المسيحيين اليوم أن ينصرف لا إلي إثبات وجود الله والدعوة إلي عبادته ، وإنما إلي محاولة قسر الناس على الإيمان بألوهية المسيح ، على ما في كل صور الألوهية التي قالوا بها له من مخالفة للعقل والمنطق ولكل ما يمكن قبوله على نحو ما رأينا من قبل ، ولذلك لم يكن في القول بهذه الألوهية للمسيح إلا وبالاً على الدين نفسه ، فيه انقسم المسيحيون أولاً إلى قسمين قسم بقي على إيمانه الأول ، الذي تلقاه عن المسيح عليه السلام ، وظل على إيمانه بالله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو ، وبالمسيح رسولاً نبياً إنساناً بشراً ، وقسم آخر اعتنق الإيمان بألوهية المسيح ، ثم تغلب من اتبعوا القسم الثاني وانتشر بين المسيحيين الاعتقاد بألوهية المسيح ، ولكن لم يكن ذلك توحيداً لكلمة المسيحيين وإيمانهم ، وإنما كان بداية لانشقاقات وانقسامات أخرى في الكنيسة وبين المسيحيين استمرت على مدي القرون العديدة التي عاشتها المسيحية على الأرض إلي اليوم ، ولم يزدها الزمن إلا انشقاقاً وانقساماً ، ومرجع ذلك كله ، الاختلاف حول تصور هذه الألوهية ، حتى انتهت المسيحية اليوم ، وكما يقول المسيحيون أنفسهم ، إلي صورة يتساءل معها المرء ، عما إذا كان للعهد الجديد قيمة حقاً .(2/68)
بل والأخطر من ذلك بكثير ، فإن انتشار الحضارة بين الدول المسيحية ، وتفتح العقول والمدارك فيها على العلوم الحديثة ، يجعل هذه العقول وتلك المدارك تأبي هذه الصورة لله ، ولكن لأن المسيحية وهي الدين الذي يدعوهم إلي عبادة الله ، تصور الله على هذه الصورة الإنسانية التي عرف بها المسيح ، حتى أنهم يقولون عنه الإله المتأنس ، فإنهم يأبون تقبل هذه الصورة ، وهو ما ينتهي بهم إلي إنكار وجود الله كلية كما رأينا من قبل ، أي إلي الإلحاد ، وبذلك فإن السبب الأساسي لانتشار الإلحاد في الدول المسيحية المتقدمة علمياً ، ليس هو أن العلم لا يتفق معه أن يكون هناك إله ، وإنما هو أن هذه الصورة للإله التي تحاول المسيحية اليوم أن تقسر العقول على تقبلها ، لا تتفق بحق مع العلم ، بل وكما رأينا ولا مع العقل ولا المنطق ولا أي شيء مقبول.
والواقع ، وكما وجدنا من قبل ، أن القول بألوهية المسيح عليه السلام على هذا النحو ، ما كان ليكون سبباً للانشقاق والانقسام في المسيحية حتى ليهدر كل قيمة لها ، وما كان ليكون سبباً للكفر بوجود الله والإلحاد ، إلا أن تكون هذه الألوهية المقال بها لا أساس لها من الواقع ، وهذا هو ما وجدناه بحق ، ولذا يتعين عليهم أن يرجعوا إلي دينهم ، كما دعاهم إليه المسيح عليه السلام ، وكما كان قبل أن ينشقوا عنه أولاً ويقولوا بألوهية المسيح ، فيحفظون بذلك دينهم ، ويحفظون الله فيحفظهم ، ويصدون تيار الإلحاد الذي يكاد أن يقضي تماماً على دينهم ، وهو فاعل ذلك بتقدم المدنية والحضارة ، وبمرور الزمن ، ما لم يعودوا إلي دينهم الحق ، ويعودوا إلي القول بأن لا إله إلا الله ، وبأن المسيح ابن مريم عليه السلام ، ما هو إلا رسلو نبي وإنسان وبشر.
وهذا الذي تحتمه الحقيقة والواقع ، على المسيحيين أنفسهم ، هو نفس ما يدعوهم إليه ، الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم ، حيث يقول تعالى :(2/69)
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) (آل عمران 64)
وبذلك أكد القرآن ، أنه ليس دعوة إلي دين جديد ، وليس محاربة للمسيحية أو مناهضة لها ، وإنما وكما عرفنا من الآيات الأخرى ، فإن ما عرف بالمسيحية قبل بعث محمد عليه السلام هو في الإسلام ، الإسلام نفسه ، مع ملاحظة واحدة ، وهي أن هذا الإسلام قبل محمد إنما هو دعوة المسيح الحقيقية ، إلي عبادة الله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو والإيمان بالإنجيل المنزل من الله سبحانه وتعالى على المسيح عليه السلام ، ولذلك أوضح القرآن بحق أن أهم ما يأخذه على المسيحية كما عرفت بعد المسيح عليه السلام ، هو تأليه المسيحيين للمسيح واتخاذهم له إلهاً من دون الله ، مناقضين بذلك قضية الدين عند الله ذاتها ، ولذلك كله ، وتأكيداً لأن الإيمان بالله وحده ، بوجوده وعبادته دون الإشراك به ، هو قضية الدين كله ، وتأكيداً لأن الدين ليس مجرد اسم يتخذ وإنما هو عبادة الله دون إشراك به ، وتأكيداً لأن الإسلام ليس ديناً جديداً جاء يناقض المسيحية أو يحاربها ، وإنما هو تتمة للدين كله عند الله ، الذي هو الإسلام لله ، وإن عرف قبل محمد عليه السلام بالمسيحية ، تأكيداً لكل ذلك ، يدعو القرآن أهل الكتاب ، ومن بينهم المسيحيين ، إن لم يرتضوا الإسلام ديناً ، حيث أن هذا هو الأصل ، أن يلتقوا مع المسلمين على كلمة سواء ألا يعبدوا إلا الله وألا يشركوا به شيئاً ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.(2/70)
ولا أحسب تسامحاً ولا علواً في الدين يبلغ هذا العلو أو ذلك التسامح ، ولا أحسب مؤمناً واحداً بالله يرتضيه ضميره أن يرد يداً تمتد إليه أن (تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) فهل يرد الإخوة المسيحيون يد الإسلام وهي تمتد إليهم بذلك ، وهل يردونها وفيها حفظ أيضاً لدينهم من تيار الإلحاد الذي يكاد أن يقضي عليه تماماً بمرور الزمن وانتشار المدنية والحضارة ، لا أحسب مسيحياً واحداً يرفض يداً تمتد إليه بذلك إلا أن يكون مدعياً الإيمان بغير حق ، وعلى أي حال فهذه يد الإسلام تمتد إليكم أيها الأخوة المسيحيون ، فإن قبلتم هذه اليد فقد حفظتم دينكم ، وحفظتم الله فيحفظكم ، وحفظتم قضية الدين ، واتبعتم المسيح رسول الله ونبيه ، ووحدتم كلمتكم على الحق ، ووقفتم ووقف المسلمون معكم صفاً واحداً في مواجهة تيار الإلحاد الذي يكاد أن يقضي على دينكم إذ تخلصونه من كل ما يقدر المعترضون أن يعترضوا به عليه ، ويعود دينكم إلي حقيقته ، فلا ينحني أمام العقل ويقولون أنه ينقضه ، ولا أمام المنطق ويقولون أنه يخالفه ، إنما يقف تماماً كما يقف الإسلام اليوم ، فينحني له العقل إجلالاً والمنطق تقديراً وتعظيماً ، هذه يد الإسلام إليكم فإن قبلتموها فقد فزتم ، وإن لم تفعلوا ، وتوليتم :
(اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران 64)
الفصل الثاني
الدعوة إلي المسلمين(2/71)
ولقد يقال هنا ، إذا كنا قد انتهينا من كل هذا البحث إلي أن الدين عند الله هو الإسلام ، وإلي تأكيد كل ما يقول به الإسلام ، فإنه يكون الطبيعي أن تكون نتيجة هذا البحث دعوة توجه إلي المسيحيين لاعتناق هذا الدين ، أو لعدم الإشراك بالله كما قال القرآن ، أما المسلمون ، فلا محل لتوجيه أية دعوة إليهم ، إلا أن الواقع أنه من خلال البحث ، قد بان لنا أن ثمة بعض أمور تمثل واجباً على المسلمين عليهم أن يؤدوه ، منها ما يمثل واجباً على المسلمين نحو أنفسهم ، ومنها ما يمثل واجباً على المسلمين نحو غيرهم ، وهذا ما نبحثه في مبحثين على التوالي .
المبحث الأول
واجب المسلمين نحو أنفسهم
وجدنا من قبل أنه على أن المسيحية والإسلام يجتمعان معاً على الإيمان بجميع الرسل والكتب السماوية السابقة على المسيح عليه السلام ، فإن المسيحيين وحدهم دون المسلمين هم الذين يعنون بالكتب السابقة حتى أنهم يجمعونا جميعاً معا ويلحقون بها الأناجيل وما تلاها من أعمال ورسائل ويجعلون منها جميعاً كتاباً واحداً يؤمنون به جميعاً ويسمونه بالكتاب المقدس ، ووجدنا أن المسيحيين إذ يقيمون إيمانهم على أساس من الإيمان بالكتاب المقدس على هذا النحو فإنهم لذلك لا تكاد كتاباتهم أن تخلو إطلاقاً من الإشارة إلي آيات في الكتب السابقة على الأناجيل ، محاولين دائماً الربط بين ما جاء في الكتب السابقة ، وبين رسالة المسيح عليه السلام حتى ليخرجون من ذلك إلي ما يعتقدون أنه يكون وحدة كاملة يقوم عليها الدين كله وكل معتقداتهم بشأنه.(2/72)
وقد قلنا من قبل أنه كان مفهوماً أن يكون هذا هو عين ما يفعله المسلمون الذين يؤمنون إيماناً نابعاً من دينهم بتنزيل الكتب السابقة من الله ، وبأنها مما يجب أن يؤمنوا به ، بما في ذلك أيضاً رسالة المسيح عليه السلام ، إلا أن المسلمين رغم ذلك ، يكادون أن يغفلوا هذه الكتب إغفالاً تاماً حتى ليسقطوها تماماً من اعتبارهم ، وقلنا أن المسلمين يبررون ذلك بأنه ما دام قد جاء في القرآن أن المسيح عليه السلام لم يصلب ، وأنه ليس إلهاً بأي حال من الأحوال ، وأنه قد بشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ، ولا يجدون في الأناجيل شيئاً من ذلك ، بل يجدونها على العكس تؤكد صلب المسيح وألوهيته ، ولا تشير إلي الرسول الذي يأتي من بعده ، فلابد إذن وأن تكون هذه الأناجيل مزورة ومن ثم يتعين إسقاطها من الاعتبار ، ونفس الأمر تقريباً يسري على ما سبق الإنجيل من كتب ، ولذا يسقطها المسلمون تقريباً من كل اعتبار.
وقلنا كذلك أن المسلمين يجدون في القرآن وأحاديث الرسول الكفاية التي تغنيهم عن الكتاب المقدس نفسه ، لما فيه من أخطاء وتزوير - كما يقولون - وهم لن يسلموا من الوقوع في أخطائه إذا أخذوا به كما هو واعتبروه كتاباً صحيحاً .
وهذا الذي قلناه من قبل ، مما يفعله المسلمون ، من إعراضهم في الغالب عن الكتاب المقدس عموماً ، وإسقاطهم له من كل اعتبار ، هو ما نعتقد أن هذا البحث كله يناقضه ، وهو ما نعترض عليه الآن .
وإنه لصحيح كل الصحة ، أن المسلم ليجد في قرآنه ، وفي أحاديث رسوله الكفاية كل الكفاية ، لما يحتاجه في أمور الدنيا والآخرة ، حتى ليغنيه ، عن كل كتاب غير القرآن ، والذي تعرض أيضاً فيما تعرض له ، إلي الكتب والأنبياء المرسلين قبل محمد عليه السلام.(2/73)
وإنه لصحيح أيضاً ، وكما انتهينا في هذا البحث ، أن في الأناجيل المتداولة وقائع غير صحيحة ، كما أنه مما لاشك فيه ، أن العهد القديم لم يسلم من الأخطاء ، التي يتحتم وقوعها في القليل ، نتيجة للترجمة والنقل العديد من المرات وإلي العديد من اللغات.
ولكن هذا كله ، لا يجيز بأي حال للمسلمين ، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم ، أن يؤمنوا بكل كتبه ورسله ، بكل أنبيائه وبكل ما أنزله عليهم ، لا يجيز لهم هذا كله أن يتغاضوا عن الكتاب المقدس كلية كما هم فاعلون اليوم ، وأن يسقطوه من اعتبارهم ، لأنهم بذلك أولاً ، يكادون ألا يجعلوا ثمة معني لإيمانهم برسل الله وأنبيائه ، وما أنزل عليهم قبل محمد عليه السلام ، ولأنهم ثانياً ، إنما يجعلون الإسلام يظهر لغير المسلمين ، وكأنه دين جديد غير هذا الدين الذي بعث به الله الرسل والأنبياء جميعاً من قبل ، فيكون ذلك من أول أسباب أعراضهم عن الإسلام .(2/74)
والصحيح في اعتقادي ، أنه يجب للكتاب المقدس أن يأخذ مكانه الصحيح عند المسلمين ، وإذا كان هناك في الكتاب المقدس ما لا يستطيع المسلمون أن يقبلوه ، فهذا لا يجيز لهم إهداره كما قدمت ، وإنما لهم حدودهم في الأخذ بما جاء فيه واعتباره ، وأول ذلك أن القرآن قد أورد الكثير مما ورد في الكتاب المقدس ، وهنا يتعين على المسلم الاعتماد أولاً على رواية القرآن فيما أورده مما ورد أيضاً في الكتاب المقدس ، ولا أحسب أنه يوجد ثمة تناقض إلا فيما وجدناه حول صلب المسيح أو عدم صلبه ، وحول ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، وهو ما وجدنا بحق ، أن الصحيح هو ما جاء في القرآن بشأن هذين الأمرين ، وثاني هذه الحدود ، هو ما وجدناه بحق ، من أن الإنجيل المنزل من الله على المسيح ليس له اليوم وجود كامل ، وأن الأناجيل المتداولة لم تكتب بوحي من الله أو نحو ذلك ، وإنما هي قصص عن حياة المسيح وتعاليمه كتبها أفراد يحكمهم الاعتقاد بصلبه والإيمان بألوهيته ، وهي لعدم ثبوت الوحي في كتابتها لا إلزام لها عند المسلمين وإنما في القليل ، هي فيما لا يتعارض مع القرآن أو الأحاديث ، أقرب ما تكون إلي الحقيقة بالنسبة لحياة المسيح وتعاليمه ، وثالث هذه الحدود ، أن سفر أعمال الرسل وما تلاه من رسائل ، نظراً لعدم ثبوت الوحي لها كما انتهينا من قبل ، فهي لا إلزام لها عند المسلمين على الإطلاق ، أما رابع هذه الحدود ، فهي ما يتعلق بالعهد القديم عموماً ، وهنا أقول أنه يجب أولاً دراسة العهد القديم من حيث كيفية كتابته ، وعلى أساس مما ننتهي إليه في ذلك ، نستطيع أن نقرر الحدود التي يمكن على أساسها القول بالأخذ بما جاء فيه ، وإنما أقول أيضاً هنا ما أعتقده ، فالعهد القديم كما هو واضح لم يكتب بالكيفية التي كتب بها العهد الجديد ، ذلك أن كل سفر من أسفاره كما يبدو منسوب إلي الرسول الموحي إليه به مباشرة ، بخلاف الأناجيل والتي نسبت كتابتها إلي غير المسيح ، كما(2/75)
أنه لا توجد أسفار متكررة في العهد القديم كما هو الحال في الأناجيل المتداولة التي هي اليوم أربعة وكانت أضعاف ذلك في بعض الأوقات ، ولذلك اعتقد أن أسفار العهد القديم المعروفة اليوم هي نفسها الأسفار الصحيحة ، وإن لم تسلم بطبيعة الحال من أخطاء نتيجة تكرار نقلها وترجمتها ، ولكن الحدود التي يقطع بها في كيفية مدي الأخذ بالعهد القديم ، هي تلك التي لا تكون إلا بعد دراسة كيفية كتابة العهد القديم ، دراسة مفصلة على نحو ما سبق أن فعلنا بالنسبة للعهد الجديد.
ولا أحسب خيراً من هذا البحث ، دليلاً على لزوم أن يأخذ الكتاب المقدس مكانه الصحيح عند المسلمين ، على النحو السالف بيانه ، ذلك أني إذا كنت قبل هذا البحث ، عزيزاً بربي وديني وقرآني ونبيي ، فإن هذا البحث ، والذي خضت فيه في الكتاب المقدس ، لم يكن له من أثر إلا أن ضاعف من إيماني وعزتي بربى وديني وقرآني ونبيي ، ولا أحسب أي مسلم يطالع الكتاب المقدس ، إلا ويزيد يقيناً وإيماناً وعزة ، بربه وبدينه وبقرآنه وبنبيه ، فها هو الكتاب المقدس ، ليس فيه إلا ما يؤكد كل ما قال به الإسلام وما يؤمن به المسلمون ، وإلا ما ينفي ما ينفيه الإسلام والمسلمون، إذا توخينا في دراسته وبحثه ، أن نستهدف الحقيقة وحدها .(2/76)
فليقرأ المسلمون إذن الكتاب المقدس بعد قرآن ربهم ، ولهم حدودهم التي أوضحناها بشأنه ، فيزيدون إيماناً بالله ربهم ورب العالمين ، ويقيناً بالإسلام دينهم ودين الله ودين الناس أجمعين ، وبالقرآن كتاباً من الله الذي لا إله إلا هو له الملك وإليه المصير ، وبمحمد عليه السلام رسولاً من الله وخاتم النبيين ، فليقرأ المسلمون إذن الكتاب المقدس ، فيظهرون للناس جميعاً ، حقيقة الإسلام ، أنه الدين عند الله منذ أن كان الدين ، لأن الدين عند الله هو الإسلام لله ، والإسلام وحده هو ما يجمع الدين كله منذ أن كان الدين ، والرسل جميعاً منذ أن بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، فليقرأوا إذن الكتاب المقدس ، فيوضحوا للناس جميعاً ، أن الإسلام هو دينهم ، الذي لا انفصال بينه وبين ما عرف من قبل من دين وإن سمي مرة بالموسوية وأخرى بالمسيحية ، وإنما هو دائماً ، لم يكن إلا الإسلام لله دينهم وإن كانوا لا يعلمون .
المبحث الثاني
واجب المسلمين نحو غيرهم
رأينا أن واجب المسلمين نحو أنفسهم ، أنهم يجب أن يجعلوا للكتاب المقدس مكانه الصحيح بينهم ، وعلى النحو الذي فصلناه ، ورأينا أيضاً أن هذا الواجب إنما يحتمه من بين ما يحتمه ، أن تغاضي المسلمين عن الكتاب المقدس كما هو الحال إلي اليوم ، إلي حد أنهم يكادون أن يسقطوه تماماً من اعتبارهم ، يجعل الإسلام يظهر لغير المسلمين ، وكأنه دين جديد لا صلة له بالدين من قبله ، فيكون ذلك من أول أسباب إعراضهم عن الإسلام.(2/77)
ومن هنا نعرف أن أهم واجب على المسلمين نحو غيرهم ، هو أن يكشفوا للناس حقيقة الإسلام بكل جلاء ووضوح ، من أنه ليس ديناً جديداً دعا إليه محمد عليه السلام ، وإنما هو الدين كله عند الله ، هو الدين كله منذ أن كان دين الله على الأرض ، هو دين نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام ودين من تبعوهم ، وهو دين موسي والمسيح عليهما السلام ومن تبعوهما ، وهو دين محمد عليه السلام وجميع الأنبياء والمرسلين من قبله ومن تبعوهم ، فنوح عليه السلام ومن تبعوه كانوا مسلمين لله ، وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب عليهم السلام ومن تبعوهم كانوا مسلمين لله ، وموسي والمسيح عليهما السلام وجميع الأنبياء والمرسلين قبلهما وبينهما ومن تبعوهم كانوا مسلمين لله ، ومحمد عليه السلام ومن تبعه كانوا مسلمين لله ، وما عرف بالموسوية إلي عهد المسيح عليه السلام كان هو الإسلام نفسه ، وما عرف بالمسيحية ولكن على صورتها الحقيقية التي انتهينا إليها قبل محمد عليه السلام ، هو الإسلام ، وبمحمد عليه السلام والقرآن تكامل الدين عند الله الذي هو الإسلام لله ، أو الإسلام ، وما ذلك كله إلا لأن من تبع الرسل وآمن برسالاتهم فإنما هو قد أسلم لله وهو مسلم لله وهو قد اختار الإسلام لله ديناً ، لأن الدين عند الله ما هو إلا الإسلام له .(2/78)
وهذه الوحدة التي تجمع الدين كله ، في الإسلام لله ، فتجمع الرسل والأنبياء جميعاً ، وتجمع الرسالات كلها ، هي وحدة حقيقية أصيلة في الإسلام كما وجدنا بحق من قبل ، والإسلام على أساس من هذه الوحدة لا يقوم على الإيمان برسول دون آخر ، ولا بكتاب دون غيره ، وإنما يقوم على الإيمان بالرسل جميعاً وبكتب الله كلها ، دون تفريق بين نبي وآخر ، وهذه الوحدة لا تقوم لذلك في الدين وحده ، وإنما تقوم أيضاً في الأمة التي اتبعت هذا الدين ، منذ أن كان على الأرض ، فأمة الأنبياء والرسل جميعاً هي أمة واحدة ، وهي بلا شك أمة المسلمين لله ، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء ، بعد أن يعدد بعض الأنبياء والمرسلين يقول جل جلاله :
(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .) (92)(2/79)
وهذه الوحدة الكاملة في الدين ، التي يقوم عليها الإسلام اليوم ، قد قام عليها الإسلام من قبل ، ومنذ أن كان الدين على الأرض ، فلم يكن الرسل من قبل يدعو كل منهم إلي الإيمان به وحده ولا برسالته هو وحده ، وإنما كان كل رسول من الله ونبي ، يدعو الناس دائماً إلي الإيمان أيضاً بالرسل والكتب من قبله ، حتى المسيح عليه السلام الذي قال (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل.) ، ولقد كان المسيحيون موفقين حقاً ، حين حققوا هذا القول من المسيح عليه السلام ، فضموا إلي ما عرف عندهم بالعهد الجديد ، كل ما عرف من قبل من الكتب المنزلة من الله سبحانه وتعالى وسموها بالعهد القديم ، وجعلوا من كل ذلك كتاباً واحداً يقوم دينهم على الإيمان به كله ، وسموه بالكتاب المقدس ، وبذلك لم يدعوا مجالاً للشك ، في أن هذا الدين الذي آمنوا به ، دين جديد ، وإنما أكدوا أنه هو نفسه الدين كله من قبل ، والذي جاء المسيح عليه السلام ليكمله ، وإن نسوا أن المسيح إنما قال أنه جاء ليكمل ولم يقل أنه جاء ليتمم ، وبذلك فقد ترك باب الدين مفتوحاً ليتممه رسول من الله يأتي من بعده ، ولم يكن غير محمد عليه السلام.
وعلى أن هذا هو ما فعله المسيحيون تأكيداً لإيمانهم بالرسل والكتب قبل المسيح عليه السلام ، وعلى أن الإسلام يحتم هو الآخر ، الإيمان بالرسل والكتب جميعاً قبل محمد عليه السلام ، فقد وجدنا أن المسلمين قد أعرضوا إعراضاً يكاد أن يكون تاماً عن الكتاب المقدس ، وكان ذلك بالذات كما وجدنا أيضاً ، لما جاء في العهد الجديد عن تأليه المسيح وصلبه بعكس ما قال به القرآن ، ولكننا قد بينا أن هذا لا يجيز الإعراض كلية عن الكتاب المقدس على هذا النحو ، وإنما يتعين على المسلمين قبول الكتاب المقدس في الحدود التي تحتمها الأصول الصحيحة لدراسة الكتاب المقدس وبحثه وبيان كيفية كتابته على النحو الذي فصلناه من قبل.(2/80)
ولا يكفي كل ذلك بطبيعة الحال للكشف عن حقيقة وحدة الدين كله ، الذي هو الإسلام لله ، وإن عرف زمناً بالموسوية وآخر بالمسيحية ، وإنما لابد للكشف عن هذه الحقيقة وزيادة تأكيدها ، من الربط تماماً بين ما جاء في الكتاب المقدس وما جاء في القرآن ، وبالطبع لا يكون ذلك بالتحايل على آيات العهد القديم مثلاً ولا بالإفراط كما فعل المسيحيون حين قالوا بأن كل كلمة في العهد القديم تتحدث عن المسيح عليه السلام ، الأمر الذي وصل بهم إلي حدود غير معقولة ولا مقبولة على الإطلاق ، وإنما يكون هذا الرابط بكل ما يقنع العقل ويقبل في المنطق وأصول البحث الصحيحة ، يقيناً بأن الحقيقة إنما تؤكد هذا الرباط المتين بكل وضوح وجلاء ، ولنا في هذا البحث نفسه خير مثل على ذلك ، فإن توخينا الحقيقة فيه ، وتركنا للآيات في العهد القديم تتحدث بنفسها ، إنما أكد أن الحقيقة هي ما ذكر في القرآن وحده بالنسبة لصلب المسيح عليه السلام ، بل إن ذلك قد أكد أيضاً ، أن المسيحيين بمحاولتهم الربط بين ما جاء في العهد القديم وبين ما جاء في العهد الجديد عن صلب المسيح لم يصلوا إلي ذلك إلا بمخالفة كل منطق وكل عقل وكل ما هو مقبول في أصول البحث الصحيحة ، التي لا تكشف في العهد القديم إلا عن التنبؤ بتخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه له إليه والقبض علي يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، تماماً كما قال القرآن والمسلمون ، بل إننا قد وجدنا أيضاً أن الأمور كلها لم تستمر إلا بما جاء في القرآن وما قاله المسلمون في هذا الصدد ، حيث أكد هذا التطابق بين القرآن والعهد القديم أن العهد الجديد غير موحي به ، وأنه إنما كتبه أفراد عاصروا عهد المسيح ولم يكن لهم أن يعرفوا إلا أنه قد صلب ، لأن الأمر شبه لهم ، أي لبس لهم ، وبذا استقامت الأمور جميعاً في الدين .
وللمسلمين سند يحتم عليهم البحث على هذا الأساس ، فقد قال تعالى في سورة الأعراف :(2/81)
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل .) (157)
كما جاء في سورة الصف قوله تعالى :
(وإذ قال عيسي ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .) (6)
فمن هاتين الآيتين نعرف أن التوراة والإنجيل تنبأ عن محمد عليه السلام ورسالته ، وذلك يحتم على المسلمين أن يبحثوا فيهما عن هذه التنبؤات ، وقد وجدنا من قبل نبوءة عن محمد عليه السلام في التوراة ، والذي يبدو أنه لا يوجد في الأناجيل الأربعة المتداولة ما يتنبأ بوضوح عن محمد عليه السلام ، ولكن هذا لا ينفي أنه عليه السلام قد يكون المسيح قد تنبأ عنه بالفعل صراحة ، لأن المقطوع والمسلم به أن الأناجيل الأربعة المتداولة لا تتضمن كل ما صدر عن المسيح عليه السلام ، وأن الكثير من أقواله لم تدون في هذه الأناجيل ، وأن هناك أناجيل متعددة غيرها قد طاردتها الكنيسة وأحرقتها ، ولذلك فإنه قد يكون شاقاً البحث عن هذا التنبؤ عن محمد عليه السلام على لسان المسيح عليه السلام ، ولكن هذا لا يمنع من البحث وخاصة فيما يعرف بالأجراف أو أقوال المسيح غير المدونة ، ويقيناً ، ووفقاً للأسس الصحيحة للبحث ، لابد وأن يكشف عن الكثير والهام جداً في هذا الصدد .
ويتعين بالإضافة إلي كل ما تقدم ، توضيح فكرة الإسلام عن الله ، بما يؤكد بحق ، أنها فكرة الدين كله عن الله منذ أن كان الدين ، وأن الله كما يعبده المسلمون هو الله الذي دعا الرسل جميعاً بما فيهم المسيح نفسه عليه السلام إلي عبادته ، وهو نفسه الله الذي يؤكد العلم وتؤكد الحضارة والمدنية بل والفطرة نفسها وجوده ، ويتعين في ذلك تأكيد ما انتهينا إليه بحق من أن المسيح عليه السلام لم يدع أحداً إلي تأليهه أو عبادته ، وأن القول بذلك إنما كان خروجاً على الدين كما دعا إليه المسيح بحق.(2/82)
والكشف عن حقيقة الوحدة في الدين عند الله الذي هو الإسلام لله على نحو ما فصلت فيما سبق والربط ، أو بمعني أصح والكشف عن الرباط الحقيقي الكامل بين الإسلام والقرآن وبين الكتاب المقدس على نحو ما أسلفت ، مع تأكيد فكرة الإسلام عن الله بما يطابق الحقيقة والواقع على النحو المتقدم ، هي ما آمل أن يصبح فرعاً له مكانة واعتباره الكاملين بين الفروع الرئيسية للبحث في الإسلام بعد أن طال تجاهل هذا الفرع من فروع البحث بدافع الخشية والتردد أمام ما في العهد الجديد من مناقضات لما جاء في القرآن ، لأنه في ظني أنه بغير هذا لا معني على الإطلاق لأن يجهد المسلمون أنفسهم في تفصيل أحكام الإسلام لغير المسلمين ، لأنه يجب أن يكون لديهم أولاً الأساس الذي يمكن معه أن يتقبلوا هذه الأحكام ، وهذا الأساس لا يقوم إلا بالكشف عن حقيقة وحدة الدين الذي هو منذ أن كان الدين ، الإسلام لله ، والفكرة الصحيحة في الإسلام عن الله ، والتطابق الكامل الحقيقي بين الكتاب المقدس والقرآن.(2/83)
والذي آمله بالذات وبصفة خاصة ، الكتابة في كل ذلك باللغات الأجنبية ، ونشر ما يكتب من ذلك في الدول المسيحية التي ينتشر فيها الإلحاد ، مع ضرورة أن يوضح بكل جلاء فيما يكتب من ذلك ، أن لكلمة الإسلام معني في اللغة العربية هو الانقياد لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض ، وأنها لهذا المعني الذي تمثله ، اختيرت اسماً للدين ، لأن الدين عند الله هو الانقياد لأوامره ونواهيه بلا اعتراض ، أي الإسلام له ، ولذا سمي الدين كله بالإسلام ، وعلى هذا فلا تنقل كلمة الإسلام أو أسلم أو مسلم أو مسلمون ، أو نحو ذلك إلي أية لغة أجنبية ينطقها بالعربية ، وإنما يجب أن تترجم بمعناها إلي تلك اللغة ، ويقيني أن ذلك كله إنما يعصم أفراد هذه الدول ، من الوقوع في شرك الإلحاد ، باختيارهم الإسلام ديناً حين تأبي أذهانهم قبول الفكرة التي تقول بها المسيحية اليوم عن تأنيس الإله أو الله أو تأليه المسيح ، وفي القليل ، فإن هذا سيحفظ في هذه الدول ، المسيحية الحقيقية وكما دعا إليها المسيح ، بأن يستجيب من يأبى عقله قبول فكرة تأنيس الإله أو تأليه المسيح ، ويأبي رغم ذلك أن يرتضي الإسلام ديناً ، بأن يستجيب من يأبي ذلك ، إلي دعوة الإسلام إليه أن (تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) ، وبذلك يحفظ المسلمون الدين ، الذي هو منذ أن كان الدين ، الإسلام لله ، وإن عرف زمنا بالمسيحية .
وما هذا البحث كله ، إلا مثال لما آمل أن أراه من كتب في هذا الصدد ، وكنت أتمني لو أكون متمكناً من اللغات الأجنبية لأترجمه إليها ، ولكني لا أفقد الأمل في أن يتقدم من يحمل عني هذا العبء ، وعلى أي حال ، فما هذا البحث إلا شعلة أرفعها على الطريق ، آمل بعدها أن أري مشاعل عديدة ، على الطريق نفسه ، وتضئ الطريق كله ، فهذا ما أؤمن بحق ، أنه أول واجب للمسلمين نحو غيرهم ، بل وربما نحو أنفسهم أيضاً.(2/84)
ولا يفوتني في هذا الصدد ، أن أشير إلي ضرورة ترجمة القرآن وإلي كافة اللغات الأجنبية ، فالقرآن هو بحق ، أعز وأغلي وأعظم ما يعتز به المسلمون ويفاخرون به ، وإن فيه من الإعجاز ، في كل شيء ، ما لا يضارعه فيه كتاب آخر ، والمسلمون باعتبار أن القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى نفسه ، يعتزون به إلي غير ما حد ، بكلماته التي نزله بها ، وبلغته التي أنزل عليها، بل وبهجاء كلماته كما كتبت وقت تنزيله رغم اختلاف الكتابة باللغة العربية اليوم من حيث الهجاء اختلافاً قليلاً عما كانت عليه وقت تنزيل القرآن .
واعتزاز المسلمين بالقرآن على هذا النحو طبيعي ومفهوم ، باعتباره كلام الله ، واحتفاظهم به إلي اليوم ، بصورته التي كتب عليها وقت تنزيله ، طبيعي أيضاً ومفهوم ، لأنهم يخشون إن هم فتحوا الباب أمام أي تعديل في هجاء كلماته ، أن يكون من ذلك سبيل للبعض ليدخل على القرآن ما ليس منه.(2/85)
ولكن الاعتزاز بالقرآن على هذا النحو ، أدي إلي شل ترجمته إلي اللغات الأجنبية شللاً يكاد أن يكون كاملاً ، بحيث لا يوجد أي قرآن مترجم من مسلمين عرب إلي أية لغة أجنبية ، أو في القليل فلم أسمع إلي اليوم بقرآن مترجم على هذا النحو ، ولكن ، إذا كان اعتزاز المسلمين باللغة العربية التي نزل بها القرآن ، بالإضافة إلي استحالة نقل ما يحويه القرآن من إعجاز لغوي وغير لغوي نقلاً كاملاً وحقيقياً إلي أية لغة أجنبية ، إذا كان ذلك يجعل المسلمون يحجمون عن ترجمة القرآن ، فإن عليهم أن يذكروا جيداً ، أن القرآن لم ينزل للعرب وحدهم دون غيرهم ، وإنما هو دعوة للناس كافة ، وإذا كانت حكمة الله عز وجل اقتضت أن تكون اللغة التي ينزل بها القرآن هي العربية ، فإن معني هذا لم يكن أبداً أن يحجب القرآن عن غير العرب ، وإنما مفهوم أن القرآن قد نزل للناس أجمعين ، أن الله سبحانه وتعالى باختياره اللغة العربية لتنزيل القرآن ، إنما قد ألقي على أمة العرب ممن يسلمون لله ، أن ينقلوا هذا القرآن إلي غيرهم ممن لا يعرفون العربية.(2/86)
وإنه لمستحيل حقاً ، أن ينقل القرآن بكل ، أو حتى ببعض كثير من كماله وجلاله وعظمته ، إلي أية لغة أجنبية ، وإنما هذه الاستحالة ، لا تجيز للمسلمين من العرب أن يغضوا النظر كلية عن هذه الترجمة ، وإنما عليهم أن يطرقوا باب ترجمة القرآن بكل شجاعة ، وبكل حيطة وحذر ، محاولين نقل ما يستطيعون نقله ، من جلال القرآن وكماله إلي كافة اللغات الأجنبية ، وخاصة أنه قد ظهرت هناك بالفعل ، ترجمات للقرآن في لغات أجنبية ، طالعت منها واحداً باللغة الإنجليزية ، وجدت فيه قصوراً كبيراً ، لا يعطي عن الإسلام إلا صورة مشوهة ، ولست أرمي مترجمة لهذا بسوء القصد ، وإنما أعتقد أنه قد بذل جهده ليترجم القرآن ترجمة أمينة ، ولكن ترجمة قائمة على مجهود فردي ، ومن شخص غير عربي ومهما بلغت إجادته للعربية ، فسيبقي قاصرً عن تذوق كل ما فيه من جمال ومعان ، يتذوقها خيراً من المسلم العربي ، ويكون أقدر على الوصول بالترجمة إلي درجة أكبر من الكمال ، ألا يقوم بها مجهود فردي ، وإنما تشكل لجان لإتمامها ، والمسلمون إذ يغضون النظر عن ترجمة القرآن على هذا النحو ، إنما لا يدعون من سبيل لغير العرب ، إلا أن يلجأوا إلي هذه الترجمات التي تشوه القرآن ولو من غير قصد ، ولا تنقله النقل الصحيح ، أو في القليل لن تبلغ الحد من الكمال الذي يبلغه قرآن يترجمه عرب وبمجهود جماعي لا فردي.
وبالطبع فإن ترجمة القرآن على هذا النحو تحتاج إلي دراسات وشروط عديدة لا مكان هنا لتفصيلها ، وإنما اكتفي هنا بأن أقرر المبدأ الواجب وهو ترجمة القرآن إلي كافة اللغات الأجنبية ، وضرورة أن تكون هذه الترجمة عن طريق مجهود جماعي لا مجهود فردي ، وأترك بعد ذلك لهذا المجهود الجماعي تلك الدراسات وهذه الشروط الواجب توافرها لهذه الترجمة ، والتي لا يجوز أن تتأخر بأي حال.
الفصل الثالث
دعوة الحق(2/87)
يولد الإنسان عادة فيجد نفسه على دين معين ، هو الدين الذي يجد عليه والديه والذي كان عليه أجداده من قبل ، واعتناق الدين على هذا النحو ، ليس بأي حال من الأحوال نتيجة لبحث واختيار ، وإنما هو بذلك أقرب إلي تقليد يتوارث بلا اعتراض ، ولعل ذلك يرجع أولاً إلي أن الإنسان في صغره لا يكاد أن يحس أو يعي أن هناك غير هذا الدين الذي اعتنقه ، ولذا فهو إذ يكبر ، يحس بأن كل ما عداه غريب وكأنما لا يكون الدين إلا ما اعتنقه ، مما وجد عليه آباءه وأجداده من قبل ، فيتمسك بهذا الدين الذي وجد نفسه عليه ، ويمضي حياته ويموت على اعتناقه له ، وأغلب الظن أن معظم الناس يعيشون ويموتون على هذا النحو ، دون أن يبحثوا ما إذا كان ما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم وأجدادهم من قبل هو الحق أم لا.
ولكن العقل لا يقبل أبداً ، أن يكون مجرد أن يتبع الإنسان ما وجد عليه آباءه وأجداده من قبل ، إنما يكون بذلك قد اتبع الحق ، بل إن هذا لو كان صحيحاً لما كان هناك الدين على الأرض ، ولما انتقل أناس من باطل إلي حق ، ولا من عبادة أصنام إلي عبادة الله الواحد الأحد ، ولبقي العالم إلي اليوم ، من حيث العبادة على ما كان عليه الناس منذ آلاف السنين من خرافات وأباطيل.(2/88)
ولذلك فإن الدين لم يكن في يوم من الأيام إقراراً لوضع من الأوضاع القائمة ، ولا لتقليد من التقاليد المتوارثة ، وإنما كان دائماً ، ثورة على كل باطل مما أورثته التقاليد وأقرته الأوضاع ، كان الدين دائماً ، دعوة للناس أن يثورا على ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم من باطل ، ودعوة إلي الاعتصام بالحق والكمال الذي يدعوهم إليه ، فكان الناس بالدين يواجهون ما توارثوه عن آبائهم وأجدادهم ، ويكتشفون من مواجهته مدي ما فيه من زيف وبطلان ، فيعرضون عنه ، ويؤمنون بما جاء به الدين الذي دعاهم إلي نبذ هذا الزيف والبطلان من حق ، وبذلك كان الدين دائماً ، دعوة إلي مواجهة المتوارث عن الآباء والأجداد وبحث الجديد الذي يدعو إليه ، وكان الإيمان بعد ذلك إيماناً حقيقياً كاملاً نتيجة لبحث دقيق ولاختيار حر كامل .
وبذلك لم يكن الدين يوماً ، تقليداً متوارثاً ولا تقليداً يتوارث ، وإنما كان دائماً دعوة إلي مواجهة كل ما هو متوارث ، والبحث عما فيه من حق أو باطل ، عما فيه من هدي أو ضلال ، وإتباع ما هو حق وهدي ، ونبذ كل ما هو باطل وضلال ، عن بحث وإيمان واقتناع.
والحقيقة أن الدين لم يتغير ، وأن اعتناق الدين لا يكون كتقليد يتوارث ، وإنما يجب أن يكون عن بحث واقتناع ويقين ، فليس يكفي لأن يعتنق الإنسان ديناً معيناً أن يتوارثه عن والديه وأجداده ، وإنما الإيمان الحق يحتم على الإنسان أن يواجه عقائده ، وأن يبحثها ، وأن يبحث أيضاً غيرها ، ولا يؤمن بعد ذلك إلا بما يهديه ضميره واقتناعه وعقله ويقينه أنه هو الحق ، وأن يعرض عما يهديه كل ذلك إلي أنه باطل ، فبذلك يكون إيمانه إيماناً حقيقياً ، نابعاً عن بحث وإيمان واقتناع ، وليس أعظم من إيمان يكون على هذا النحو.(2/89)
وإذا كان ثمة ما أقوله بالنسبة لبحثي هذا كله ، فهو أنه في حقيقته وواقعه ، قصة تجربة حقيقية ، ومواجهة حقيقية للدين الذي توارثته ، أردت بها ألا أخرج منها إلا بالحقيقة وحدها ، أيا كانت ، ولو أدي بي الأمر إلي ما يخالف ما توارثته من دين ، وما أعظمها من تجربة بالنسبة لي ، وما أعظم ما خرجت به منها ، وإذا كنت أتصور أن واجب كل إنسان نحو نفسه ، يحتم عليه أن يواجه دينه وعقيدته بمثل هذه التجربة ، فإنني لا أتصورني بأي حال أفكر في أن أقسر أحداً على الإيمان بما كتبت تسليماً بصحته ، وإنما كتبت ما كتبت لأنه تجربة حقيقية ، أعتقد أنها قد تفيد الناس جميعاً ، ولذا رأيت ألا احتفظ بها لنفسي ، وإنما أعرضها على كل من يريد الحقيقة وحدها ، ليبحثها معي ، وليراجعها وليقل بعد ذلك ، ولنفسه ، عن حقيقة ما يخلص به منها ، وهل ما خلصت إليه أنا منها ، هو ما يطابق الحقيقة فعلاً ، أم لا ، وليحكم في ذلك بضميره واقتناعه وإيمانه بالله وبكل ما هو حق ، فإن كان ما كتبت هو ما يري معي أنه يطابق الحقيقة ، فليؤمن به ، وإن رآه لا يطابقها ، فإن واجبه نحو نفسه ، يحتم عليه أن يرد لنفسه على ما كتبت ، ليكون إيمانه حقيقاً بالاعتبار حقاً ، وفي الحالين ينبغي على كل أن يعرف أنه لا يحكم لي أو علي ، وإنما يحكم لنفسه أو عليها ، ولذا فإن تطلبت العدل في الحكم على ما كتبت ، فلست أطلب عدلاً لي ، وإنما أطلب العدل لمن يحكم نفسه ، لأنه هو الذي سيفيد من الحكم إن كان عدلاً ، وسيضار به إن كان ظلماً.(2/90)
وبعد فهل تراني قد أرضيت الجميع ، أم تراني قد أغضبت الجميع ، أم لعلي أرضيت بعضاً من هؤلاء دون البعض ، وبعضاً من أولئك دون البعض ، بهذا البحث قد يكون أي شيء من ذلك ، ولكن الذي أنا موقن منه بعد هذا البحث ، أنني قد أرضيت ضميري وإيماني وقلبي ، وأرضيت الحقيقة نفسها ، وأرضيت أولاً ومن قبل ، الله ربي ورب العالمين ، وإذا كنت قد خلصت من هذا البحث بشيء ، فهو أنه قد أكد لي إيماني وعقيدتي ، بل قد ضاعف لي من إيماني ويقيني بعقيدتي ، وجعلني أحس أكثر من أي وقت مضي ، بأن أعظم ما أنعم الله به علي ، هو أن جعلني مسلماً له ، واليوم وقد تضاعف شعوري بهذه النعمة على منه سبحانه وتعالى فقد أصبح أول ، وأضيف أيضاً (وآخر) ما يبتهل به لساني داعياً إليه أبداً أن :
(اللهم أدم علي نعمتك هذه ، فأحيني مسلماً لك ، وتوفني مسلماً لك ، واحشرني في زمرة المسلمين لك يا رب العالمين) ……آمين
باب ختامي
على هامش دعوة الحق
كانت هذه دعوة الحق ، بكل اليقين ، وبكل الإيمان ، أطلقتها ، فنشرت في الخامس من أبريل سنة 1963 ، ولقد لقيت هذه الدعوة قبولاً لدي العديدين ، فاق عندي كل خيال ، وإذ أسجل هنا شكري وإعزازي ، لكل من تلقي هذه الدعوة فوقعت من نفسه موقعاً حسناً ، فكتب إلي بذلك ، فأني أكتفي هنا بتسجيل هذا ، مقدراً ، أن أي كلمات أخرى ، خلاف البحث نفسه ، لا يجوز أن أجعل منها واسطة بيني وبين القارئ .
وبقدر ما قرأت ، وبقدر ما بحثت ، وبقدر ما وجدت ، فقد كنت أعرف تماماً ماذا أنا قد كتبت ، كنت أعرف قدر ما كتبت ، وقيمته ، وقوة الحجة فيه ، لمن ينكرون ما أنا إليه في بحثي قد انتهيت، وكان يقيني أنني ما استهدفت إلا الحقيقة وحدها ، وكان يقيني أيضاً أن الحقيقة نفسها هي ما أنا إليه قد وصلت ، ولذا ففي حيرة تساءلت ، هل على مثل هذا البحث ، يمكن لأحد أن يرد .(2/91)
لذلك كنت في شوق ، بل في أكبر شوق ، لأقرأ على بحثي هذا رداً ، أي رد ، وانتظرت قليلاً فلم أجد ، وقدرت بالطبع أن الرد لن يكون سهلاً ، وأنه إلي وقت يحتاج ، ثم ترامي إلي أن هناك كتاباً قد صدر ، وعلى كتابي يرد ، وبقدر ما سررت ، بقدر ما آلمني أني إلي نسخة من ذلك الرد لم أوفق ، فقد سارعت حيث اعتدت أن أجد من الكتب ما استعنت به في بحثي ، ففوجئت برد يقول أن نسخ الرد قد نفذت ، وعبثاً أوصيت إخوة من المسيحيين الذين أعرفهم ، ليأتوني بنسخة من ذلك الرد ، فلم يأتني أيهم بواحدة منه.
ثم قيض الله لي من استطاع ، من أجلي ، أن استيلاء استولي على نسخة ، وإلي بها دفع ، فإذا بعنوانها (الحق) ، وقد وضعت داخل قرص الشمس رسم بها محيط ، وكان ذكاء من المؤلف القمص باسيليوس إسحق (كاهن كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بغربال بالإسكندرية) أن اختار من بين ما اختاره من آيات الكتاب المقدس على الغلاف ، آية تقول (اقتن الحق) ، وأسرع لأتصفح ذلك الرد ، وللوهلة الأولي ، بخيبة أمل أصبت ، وللوهلة الأولي أيقنت ، أن ليس على كتابي هذا الرد.
فأول ما قاله الكاتب في أول باب والذي جعل عنواناً له (الطعن في صحة الكتاب المقدس) ما يلي:
(بدأ الكاتب كتابه بالطعن في الكتاب المقدس بالتزوير وحجته في ذلك أن القرآن بشر برسول يأتي بعده اسمه أحمد ولم يوجد في الكتاب المقدس - العهد الجديد - شيء من ذلك ... ولذلك يجب إسقاطه من الاعتبار.
ثم عاد في صفحة أخرى وقال أن بالكتاب المقدس أخطاء وتزوير ولا يمكن للمسلمين أن يعتبروه كتاباً صحيحاً.
ثم يتحدث بعد ذلك عن إنجيل آخر اسمه إنجيل برنابا ينفي عن المسيح ألوهيته وصلبه ، ويبشر برسول اسمه أحمد ...... )
ويقيناً فلم أبدأ بالطعن في الكتاب المقدس بالتزوير ، ويقينا بالتالي فلم أستند في ذلك إلي تلك الحجة التي يتحدث عنها.(2/92)
وصحيح أنني قد انتهيت إلي حد ما في بحثي إلي أن العهد الجديد من الكتاب المقدس بعض الأخطاء ، وبعض مما يمكن عدة تزويراً ، إلا أن هذا وإن صح ، لا يجعل كتابي هو المقصود هنا ، ما دام أنه بيقين لم ينطو على هذا الذي أشار إليه المؤلف أولاً ، بالإضافة إلي أن ما قاله المؤلف من أن الكتاب الذي يرد عليه أشار إلي إنجيل آخر اسمه إنجيل برنابا ينفي عن المسيح ألوهيته وصلبه ويبشر برسول اسمه أحمد ، فهذا الذي قاله المؤلف يعطي انطباعاً لدي القارئ ، بأن الكتاب الذي يرد عليه قد اعتمد على صحة إنجيل برنابا ، بينما أنا ليس فقط لم اعتمد عليه ، بل ورفضت أي بحث يقوم على أساس صحته.
ليس كتابي إذن ما يرد عليه المؤلف ، خاصة وأنه لم يذكر صراحة أنه قصد بمؤلفه هذا الرد على كتابي ، إلا أني رغم ذلك ، أمضي في قراءة الكتاب ، كالعديد غيره من الكتب التي اعتدت أن اقتنيها وأقرأها في المسيحية ، فأعرف مما قاله في بداية الباب الأول من كتابه من أنه : (بدأ الكاتب كتابه ...) ومما ورد في باقي الكتاب ، أن الكاتب إنما قصد به الرد على كتاب معين.
ففي صفحة 51 يقول : ( تحدث أحد الكتاب عن إنجيل مفقود أنزل على المسيح ورد ذكره في القرآن ولم يوجد له أثر الآن ...)
وفي صفحة 54 يختار عنواناً يقول : ( هل يمكن أن يذكر العهد الجديد وقائع غير صحيحة؟) ثم استطرد قائلاً : ( تحت هذا العنوان ذكر أحدهم بعض الاعتراضات التي أغلق فهمها عليه ....)
وفي صفحة 56 يوجه الخطاب في كلامه إلي الكاتب الذي يرد عليه مباشرة فيقول : ( وإليك بعض العلامات التي يدل وقوعها على ..... )
وفي صفحة 58 يشير إلي قصة ظهور المسيح لشاول الذي لقب ببولس الرسول ويورد النصين اللذين ورداً في هذا الشأن ورأيت أنهما يتناقضان ويقول : ( ظن أحد الكتاب أن خلافاً في النصين ... )(2/93)
وفي صفحة 59 يقول تعليقاً على المزمور 109 : ( واستخلص أحد الكتاب من هذا أن الذي حوكم كان يهوذا ، وليس المسيح ، لأن الله أوقع شبهة عليه ..... ودلل بذلك على صحة ما ورد في القرآن من أن المسيح لم يصلب ........) وصحيح أنني لم أقل بأن الله أوقع شبه المسيح على يهوذا ، ولكن أنا من استدل من هذا المزمور على أن الذي حوكم كان يهوذا.
وفي صفحة 60 يقول بعد أن أشار إلي ما ورد في إنجيل متى من أن يهوذا مضي وخنق نفسه وما ورد في سفر أعمال الرسل خلافاً لذلك قال : ( وظن الكاتب - بأل التعريف - أن هناك تناقضاً بين القولين ولكن لا تناقض البتة ...)
وفي صفحة 61 بعد أن أشار إلي تناقض آخر كتبت عنه في كتابي قال : ( ومضى يقول أحد الكتاب أن التناقض دليل على عدم صحة الروايتين ..... )
وفي صفحتي 65 و 66 يقول : ( ولكن ما قول الكاتب فيما.... وما قولك في ....... وما قولك فيما ........ وما قولك فيما ........ فهل تظن أنه ........)
وفي صفحة 66 أيضاً يقول : ( اعترض أحد الكتاب على اختيار الله لبولس رسولاً لسبب ما جره على الكنيسة ........ )
وفي صفحة 70 يقول : (ولكن أحد الكتاب يقول أنه بعد ستة قرون جاء نبي الإسلام وقال أن المسيح لم يصلب وإنما رفعه الله إليه ....
واستطرد يقول : وما دام القرآن قد نفي هذا وأنه لم يصلب فإنه أصدق نبأ من نبوءات التوراة ، وأصدق نبأ من سجلات التاريخ ، وأصدق نبأ من الأناجيل ، ورسائل الرسل ، وذلك لأن الله قال ذلك في القرآن والله لا يخطئ أبداً .
ولذا فمهما كان هناك من إجماع على المسيح قد صلب فإنه لم يصلب ولكن رفعه الله إليه ما دام القرآن قال كذلك ... )(2/94)
والسطران الأخيران بنصهما قد وردا في الصفحة الخامسة من الطبعة الأولى من كتابي هذا ، مع فارق بسيط ، وهو أن الكاتب يوحي هنا للقارئ بأن ذلك كان سندي في القول بعدم صلب المسيح وتخليص الله له ، بينما الواقع أنني قد أوردت هذين السطرين كسبب لاعتقاد المسلمين عامة بعدم صلب المسيح .
وفي نفس الصفحة والتالية لها يقول أيضاً : ( ثم يعود هذا الكاتب ، فيقول أن الذي شبه لهم أنه المسيح لم يكن إلا يهوذا .... ثم استطرد يقول .. وافترض الكاتب فرضين : أولهما أن شخصية المسيح لم تكن معروفة ، كما أن يهوذا أيضاً لم يكن معروفاً لهم . ثانيهما : أن المحاكمة كانت سريعة وأن يهوذا لم يفصح عن شخصيته للجنود ... )
وفي صفحة 72 يوجه خطابه إلي الكاتب الذي يرد عليه فيقول : ( فحسبك أن تعلم أن .... )
وفي صفحة 82 يقول : ( فهل بعد كل هذا يقول قائل أن يسوع لم يصلب وأن الذي صلب آخر غيره ، وأن المحاكمة كانت سريعة ، وجرت ليلاً وتحت جنح الظلام .)
وفي صفحة 84 يقول : (استند أحد الكتاب على الآية الواردة في المزمور 20 : الآن عرفت أن الرب خلص مسيحه ، ظناً منه أن كلمة المسيح قصد بها المسيح بأل التعريف.)
وفي صفحة 86 يوجه خطابه أيضاً إلي الكاتب الذي يرد عليه فيقول : (أما عن الأوصاف التي ذكرتموها الواردة في مز 22 :...... كل هذا قصد به المسيح ولم يقصد به يهوذا .)
هذا كله ، وإلي آخر الكتاب ، أعرف منه أن الكاتب قصد بكتابه الرد علي كتاب معين ، ويوجه الخطاب فيه إلي كاتب معين ، وكتاب واحد ، وكاتب وحيد ، هو الذي قال كل هذا الذي يحاول مؤلف كتاب الحق الرد عليه ، وكاتب وحيد وكتاب واحد ، هو الذي تضمن كل ما أشار إليه ذلك المؤلف ، والكاتب هو أنا ، والكتاب هو دعوة الحق .
ولم يلكن لهذا كله إلا معني واحداً :
أن زوراً زور على الكاتب ما قاله من أنني بدأت كتابي بالطعن في الكتاب المقدس بالتزوير.(2/95)
وأن زوراً زور على ما قاله من أنني استندت في ذلك إلي أن القرآن بشر برسول يأتي بعد المسيح اسمه أحمد ولم يوجد في الكتاب المقدس - العهد الجديد - شيء من ذلك ولذلك يجب إسقاطه من الاعتبار .
وزورا زور على ما قاله من أني تحدثت عن إنجيل آخر اسمه إنجيل برنابا .... بما يوحي للقارئ بأني قد استندت إلي هذا الإنجيل أو اعتمدته ، بينما العكس هو الصحيح ، فقد رفضت أي بحث يقوم على أساس صحته .
وزوراً زور على أنني قلت : (فمهما كان هناك من إجماع على أن المسيح قد صلب فإنه لم يصلب ولكن رفعه الله إليه ما دام القرآن قال كذلك ...) لأنه أورد هذا الكلام باعتباره رأيي وسندي أنا ، بينما أوردته باعتباره سبب إيمان المسلمين بعدم صلب المسيح .
وزوراً زور على في صفحة 59 حين أشار إلي المزمور 109 وقال أني استخلصت منه أن هذا الذي حوكم كان يهوذا وليس المسيح ثم تساءل بعد ذلك قائلاً : (ولكن من أين استدل الكاتب على أن هذا الكلام خاص بشخص معين ...) إذ معني هذا بكل وضوح أنني لم آت بهذا السند الذي استدل به ، بينما أنا لم آت بسند فحسب بل وبما يعتبر عنده سنداً كتابياً لا يملك إلا التسليم به ، والتعليق على ذلك المزمور شاهد على ما أقول ، وزوراً زور على إذن ما يفيده تساؤله من أني لم آت بهذا الدليل .
الزور إذن ، ما بدأ به رده علي.
والزور أيضاً ما مضي يحاول به الرد علي.
وحتى ما لم يزوره علي ، فإنه في الغالب لا يشير إلي ما استندت إليه فيما وصلت إليه من نتائج ، ويجد لذلك المجال فسيحاً أمامه ، ليقول كل ما يهواه.(2/96)
ولكني لذلك أفهم لماذا لم يجرؤ الكاتب أن يشير في كتابه إلي أنه يرد علي كاتب معين أو كتاب معين ، إنها بيقين ، الخشية ، من أن يحاور القارئ أن يقارن بين كتابه وبين كتابي ، فيكشف أولاً زوره ، ويكشف ثانياً أنه في حقيقته ليس فيه ما يمكن في أصول البحث ، أن يعتبر معه رداً على كتابي ، وأنه في واقعه ، إذا قورن بكتابي ، فلن يستطيع أن يقنع ، حتى أكثر المتعصبين في إيمانهم بالمسيحية في صورتها الحالية .
ولا أعرف ، كيف ، ورغم ما بذلته من جهد للوصول إلي نسخة من هذا الكتاب الذي شاء مؤلفه أن يسميه الحق ، لا أعرف رغم ذلك ، كيف وصلت نسخة منه إلي كاتبين جليلين أولهما الأستاذ ابن الخطيب (صاحب الفرقان وأوضح التفاسير وغريب القرآن) الذي أصدر رداً عليه كتاباً جعل عنواناً له (هذا هو الحق) ، وثانيهما الأستاذ مصطفي حسن البكرى (من العلماء) الذي أصدر رداً عليه أيضاً كتاباً جعل عنواناً له (الإسلام والمسيحية) ، وما كان أغناهما ، وأغني القمص باسيليوس إسحاق عن ذلك ، لو تحلي بالشجاعة الأدبية الواجبة ، والتزم أمانة الكلمة ، فقال في كتابه هذا أنه أصدره رداً على كتابي ذاك.(2/97)
وأسمع أيضاً أن كتاباً آخر قد صدر رداً على كتابي ، وهذه المرة يعرضه على أخ مسيحي ، أنه الجزء الأول من رد السيد / يسي منصور والذي اختار عنواناً له (بيان الحق) وقد ذكر بصدره وعلى الغلاف أنه رد على كتاب دعوة الحق للأستاذ منصور حسين ، وأتصفحه ، وعبثاً أحاول اقناع ذلك الأخ بأن يعطيني تلك النسخة فيأبي ، إذ صدرها المؤلف بإهداء إليه ، وأبحث عن نسخة منها حيث اعتدت أن أجد الكتب التي تبحث في المسيحية ، فلا أجد ، وأجد لدي عنوان المؤلف على مؤلفات أخرى له ، ولحسن الحظ أنه يقيم في الإسكندرية ، فأبعث إليه طالباً شراً بعض النسخ ، فيعتذر بنفاذها ، ويطلب لقائي ، وأذهب إليه ، ويسألني عن رأيي في رده ، وأقول له رأيى ، والذي لا زلت عليه إلي اليوم ، أني لا أستطيع أن أعتبره رداً ، …فإذا قرأه أعرف تماماً أنه لم يكتب إلا للمسيحيين ، حيث يقوم على افتراض صحة المعتقدات المسيحية المستقرة اليوم ، وأيضاً لمسيحيين لم يقرأوا كتابي ، لأنه نادراً ما يبين أسانيدي ، وغالباً ما يقتصر على إيراد النتيجة التي أنتهي إليها ، ويحاول الرد عليها ، فيجد المجال فسيحاً أمامه ليقول ما يشاء ، لأنه لم يبين سند رأيي المعارض ، ويكفي لمن يقرأ كتابي ، أن يقرأه فحسب ، ليعرف أن هذا الذي كتبه سيادته لا يعد في أصول البحث رداً ، ويقول لي بأنني قد طلبت في كتابي من كل قارئ أن يرد علي ، فأجيبه بأنني لم أقصد بحال أن على كل قارئ أن يكتب كتاباً رداً على ، وإنما فقط إذا لم يقتنع فعليه أن يجد لنفسه رداً على ما قلت ، حتى يكون إيمانه حقيقاً بالاحترام ، وإن كنت بطبيعة الحال أرحب بأي رد ينشر ، وتأتيني إجابته ، أنه على أي حال ، فإنه إن لم ينشر أي رد على كتابي ، ربما ظن البعض ذلك عجزاً عن الرد ، ولذا كان يجب أن ينشر رد ، واتفق معه على أن هذا هو تقديري الصحيح للأمر ، إن هذا الذي نشره لم ينشره إلا للقول بأن رداً قد نشر على كتابي ، للإيحاء بأن ذلك(2/98)
الكتاب قد رد عليه ، ولا يهم بعد ذلك إن كان ذلك الرد يعد في حقيقته رداً أم لا .
وينتهي لقاؤنا ، بوعد منه أن يحاول العثور على نسخة لي خلال أسبوع ، ويطلب من يلقي قبولاً منه ، أن يحيطني علماً على الأقل عند صدور الأجزاء الثلاثة الأخرى من رده ، وأترك له عنواني ورقم تليفوني ، ولقد تفضل مشكوراً بعد أسبوع ، وأهداني نسخة من الجزء الأول من رده ، ونسخاً من كتب أخرى له ، ولكن ، وبعد ذلك ، وعلى صدور الأجزاء الثلاثة الأخرى من رده، بل وعلى إعادة طبع ذلك الرد ، لم أسمع منه كلمة واحدة ، وإن كنت قد استطعت أن أتابع بنفسي صدور الأجزاء الثلاثة الأخرى وأن أقتنيها.
وإن كنت وجدت زوراً في كتاب (الحق) ، فقد وجدت زوراً أقل منه في كتاب (بيان الحق) وإن كان أكثر بغياً.
فزوراً نسب إلي صفحة 71 من الجزء الثالث من رده قوله : (ولقد أنكر الأستاذ منصور حسين الإنجيل ونفي عنه صحة الوحي بحجة أن القرآن لا يعترف بما جاء فيه من إثبات لاهوت المسيح وصلبه.) أقول زوراً هذا الذي نسبه إلي لأنني لم أستند إلي ذلك في كتابي قط ، وإن كنت قد أشرت إلي شيء من ذلك فباعتباره سبب عدم قبول المسلمين للأناجيل المتداولة ، وليس كسند أو حجة لي كما يقول .
أما الزور الأكثر بغياً ، فهذا الزور الذي تجرأ في على الكتاب المقدس نفسه لا لشيء ، إلا ليقنع القارئ بصحة رأيه .(2/99)
فزوراً زور على أناجيل مرقس ولوقا ويوحنا قال في صفحة 162 من الجزء الأول من رده : (وإني أقول أنه قد اتفق البشيرون الأربعة على أن الملاك دحرج الحجر ....) ويقصد بالحجر هنا الحجر الذي كان موضوعاً على قبر من صلب بعد دفنه ، وهو يقول ذلك رداً على ما قلته من تناقض في روايات الأناجيل في هذا الخصوص ، وهو هنا يقول إنه قد اتفق البشيرون الأربعة على أن الملاك قد دحرج الحجر ، وليس لأحد أن يفهم من ذلك إلا أن البشيرين الأربعة قد ذكروا ذلك ، بينما الثابت أن بشيراً واحداً هو الذي ذكر ذلك وهو متى ، وأما الثلاثة الآخرون فلم يذكروا ذلك على الإطلاق ، وزوراً إذن ما نسبه إليهم من ذلك ، ولا يقال هنا أنهم لم ينفوا ذلك، لأن عدم النفي لا يعني تقرير الواقعة والاتفاق عليها.(2/100)
وزوراً زور أيضاً على سفر أعمال الرسل حين قال في صفحة 168 من الجزء الأول من رده : (والجواب - أن قصة متى أن يهوذا خنق نفسه لم ينفها أحد من البشيرين الآخرين بل أيدها بطرس الرسول ، أمام جميع الرسل وقال (وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم) أ. ع. أ : 19) ، أقول زوراً زور حين قال ذلك لأن المعني الواضح لهذا القول منه أن ما قال بطرس أمام جميع الرسل بأنه قد صار معلوماً عند جميع سكان أورشليم هو أن يهوذا خنق نفسه ، بينما الآية في ذلك السفر تقول (فإن هذا اقتني حقلاً من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم ) (ص1 : 18 و19) ، وبذلك فإن العبارة التي قالها بطرس من أن ذلك صار معلوماً عند جميع سكان أورشليم إنما ترجع إلي قوله عن يهوذا أنه إذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ، فإذا علمنا أنني إنما استند إلي التناقص بين قول متى البشير في إنجيله عن موت يهوذا أنه مضى وخنق نفسه ، وبين ما قاله بطرس عنه أنه إذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها، وكان السيد / يسى منصور إنما يحاول القول بأنه ليس هناك تناقض ، فإنه بذلك يبين بجلاء قصده الواضح من ذلك التزوير.
وللحق فلقد عجبت العجب كله ، فإن أمانة الكلمة ، وشرف الموضوع الذي تصديت له ، كانا لي بالنسبة لي أمراً مهولاً ، لا يقبل عندي إلا أمانة الكلمة كاملة ، وشرف الرسالة كاملاً ، بل الأمانة في أجلي صورها ، والشرف في أعلا مراتبه ، والتزاماً بأمانة الكلمة وشرف الرسالة ، فقد التزمت بأن أنقل دائماً وباستمرار كل ما أكتبه النقل الأمين الصادق ، وأن انقله للقارئ بالصورة التي لا تحتمل أدني لبس أو اختلاف ، ولقد وصل بي الأمر ، إلي الحد الذي اعتبره كثيرون تكراراً مملاً ، لا لزم له ، ومع ذلك فقد أصررت عليه في هذه الطبعة الثانية ، لا لشيء ، إلا تأكيداً لهذا الالتزام.(2/101)
فمن ذلك مثلاً ، أني حين أردت أن أبين تفاصيل القبض على المسيح كما يعتقد المسيحيون ومحاكمته وصلبه كما يظنون ، وهي تفاصيل لا يكاد يقوم بشأنها خلاف ، وكنت مستطيعاً أن أورد الصورة نفسها كما استخلصها بأمانة من الأناجيل ، وما كان لأحد في تقديري أن يعترض على ، ولكن ، والتزاماً بالأمانة كاملة ، أوردت أولاً هذه التفاصيل بنصها في الأناجيل الأربعة ، وبعد هذا ، وبعد هذا فقط ، أتبعتها بالصورة التي استخلصتها من الأناجيل.
ثم حين عرضت لتصور المسيحيين لألوهية المسيح ، لم أشأ أن أورد أي تصور من أي كتاب أجده، وإنما ، نقلت نقلاً كاملاً خطاباً يمثل تعليم كنيسة الإسكندرية فيما يختص بطبيعة السيد المسيح.
بل اقتضتني أمانة الكلمة ، وشرف الرسالة ، ويقيني الكامل بكل ما كتبت ألا أكتفي بالبحث والنتيجة التي أخلص إليها ، وكان ذلك وحده ، وفي أصول البحث يكفيني ، ولكني مع هذا أمضي فأثير بنفسي كل ما أتخيل أنه قد يثور من اعتراضات على النتيجة التي أنتهي إليها لأناقشها وأرد عليها إن كان ذلك ممكناً وقد أمكن بالفعل.
لهذا كله قد عجبت ، وعجبت أكثر لأني أقدر أن التزوير لا يلجأ إليه إلا من لا يعتقد بصحة سنده ومن لا يوقن بسلامة معتقده ، فلا يجد سبيلاً للرد على غيره إلا بأن يزور على هذا الغير ما قاله عله بذلك يستطيع أن يدعي أنه قد رد عليه ، وأقول زاد عجبي لأني على أي الأحوال ما كنت أحسب أن من سيحاول الرد يمكن أن يكون هو نفسه غير مقتنع بصحة ما يقول ، وهذا ما يدل عليه عندي أن يلجأ إلي الزور يزور به على ما كتبت ، ولكن على غير هذا لا يدلني ما لجآ إليه من زور .(2/102)
ولقد كان من حسن الحظ ، أن لم يظهر رد واحد ، بل ردان ، لأن الحقيقة واحدة ، وأما ما عدا الحقيقة فكثير ، لأن الحق واحد والباطل لا عدد له ، ولهذا كان لزاماً لو لم تكن الحقيقة ما انتهيت إليه ، ولو لم يكن الحق ما أقول أن يكون الرد على واحداً وإن تعدد أما أن يتعدد الرد ، ليس فقط يتعدد بل يتناقض فذاك ، يقول الأمر والآخر يقول ضده ، فهذا وحده دليل أن ما انتهت إليه هو الحقيقة وأن ما قلت به هو الحق.
السيد / يسى منصور في صفحتي 68 و 69 من الجزء الأول من رده ، يعدد لي تسعة أمثلة يدلل بها على أن إسحق ابن إبراهيم الذي ورد في العهد القديم أن إبراهيم كان سيذبحه ، يعدد هذه الأمثلة ليدلل بها على أن إسحق هنا مثال للمسيح ويؤكد ذلك بأنه لهذا تقول الكنيسة القبطية في القداس في صلاة القسمة في أحد الشعانين : ( وكما حمل إسحق حطب المحرقة حمل المسيح خشبة الصليب ....) أما كاهن الكنيسة القمص باسيليوس إسحق ، فيعطينا في صفحة 127 درساً في مضي الرمز ويقول أن ما قاله بعضهم عن إسحق أنه كان رمزاً إلي المسيح .... إنما هو خطأ بحث لأن الكاتب اعتمد على نظرية خاطئة ، وصحيح أنه عاد في الطبعة الثانية من الكتاب ، فأضاف جديداً ، لاشك أن نتيجة لهجوم عليه من المسيحيين أنفسهم ، لرفضه ما لا خلاف عليه عندهم وتؤكده الصلاة التي أشار إليها السيد / يسى منصور ، ولكنه رغم هذا يأبي العدول عما قرره أولاً ، إذ يحاول أن يوضح في الطبعة الثانية أن هناك فارقاً بين المثال والرمز ويقول في صفحة 149 : ( وإذن لم يكن إسحق رمزاً للمسيح بل مثالاً له .) ، ومع ذلك فإنه يبقي في نفس الطبعة ما سبق أن أورده في الطبعة الأولى ، فنقرأ في صفحة 152 من الطبعة الثانية قوله (وهنا يستقيم الكلام إذا اعتبرنا أن إسحق يمثل الجنس البشري)(2/103)
السيد / يسى منصور يحاول أن يفسر التناقض بين الروايتين الواردتين في سفر أعمال الرسل عن ظهور المسيح لشاول ، الذي لقب ببولس الرسول حيث ورد أحداهما أن الرجال المسافرين معه وقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً ، بينما قالت الأخرى أن الذين معه نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمه ، فيقول سيادته في صفحة 63 من الجزء الثالث من رده : ( وبقليل من التأمل نري أن الروايتين متفقتان على أن الرجال الذين مع شاول نظروا النور وارتعبوا ووقفوا صامتين ولم يروا شخص المسيح . وأنهم سمعوا الصوت كدوى لكنهم لم يسمعوا الصوت بوضوح ولم يسمعوا شيئاً من كلماته ، فلا تناقض .) ، أما السيد القمص فيقول لإزالة هذا التناقض في صفحة 58 : ( ظن أحد الكتاب أن خلافاً في النصين ، ولا خلاف بينهما قط ؛ إن المسيح تكلم مع شاول وحذره من عاقبة أعماله ، وجرى حديث بينهما وأجاب بولس السيد المسيح ...... فالرجال المسافرون معه سمعوا صوت بولس وهو يتحدث مع المسيح ولكنهم لم يسمعوا صوت المسيح . وفي الثانية : الكلام واضح : إن المسافرين لم يسمعوا صوت الذي يكلمني أي صوت المسيح الذي كان يكلم شاول ...... ) ، ولن أعلق .(2/104)
السيد / يسى منصور يقول عن الأقوال التي ذكرها شاول الذي لقب ببولس الرسول بقوله (وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب ....... ) و (أما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن . ولكن أعطى رأياً كمن رحمه الرب أن يكون أميناً ... ) ، يقول سيادته في صفحة 44 من الجزء الثالث من رده : ( أن بولس الرسول لا يقصد بالآيات السالفة أن ينفي الوحي عن أقواله ، ولكنه يتكلم عما نقله من أقوال المسيح في بعض الأحكام وعما لم يحكم فيه المسيح في وقت وجوده بالجسد فهو يميز بين الأقوال التي يستشهد بها من أقوال المسيح وبين أقواله هنا الآن التي يقولها بروح الله.) ، ثم يقول في نفس الصفحة وصفحة 30 : ( فهذه الآية الكريمة لا تفيد كما ادعي المعترض أن بولس الرسول كان لا يري نفسه ملهماً بالوحي ، لأن بولس الرسول صرح مراراً أنه ينطق بالوحي ، ولما قال (وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب .....) كان يعني بذلك أن المسيح لم يتكلم في مسألة ...... ولم يدون شيء بخصوصها في الكتب الإلهية قبل الآن ...) ، أما القمص باسيليوس إسحق فيقول في صفحة 64 : ( والأمر واضح جلي .... ففي الأول حرم الطلاق بين المؤمنين بأمر الله ، وأما الثاني فأعطي رأياً ، ولم يكن بوحي من الله أن ..... وقال صريحاً أنه لم يؤمر من الرب أن يكتب هذا ..... وإنما هذا رأيه الخاص. وأما بخصوص العذارى فإنه لسبب ..... فإذن عندما أبدي الرسول رأيه في هذا الأمر لم يكن مسوقاً من الروح القدس .... ولكنه كان ينصح المؤمنين لشدة الأهوال التي تشابه حصار أورشليم . ولهذا كان يتعين أن يوضح أن هذا كلامه وليس كلام الله .) فهل أنا هنا بحاجة إلي تعليق .(2/105)
وليس هنا مجال لبيان كل أوجه التناقض بين الردين ، وأكتفي هنا بهذا الذي ذكرته ، تاركاً الباقي كل في موضعه من الكتاب ، على أنه لا يفوتني هنا أن أشير إلي أنني لم أتناول على الإطلاق ، ما استند إليه من القرآن ببحث أو رد تعليق لأسباب أعتبرها بديهية ، ذلك أني حين أحاول أن أقنع أحداً بما أقول ، فإن أصول البحث توجب أولاً أن أكون أنا أولا قابلاً لهذا السند ، ولهذا ، ففي كل ما كتبته ، لم أقل شيئاً لست مقتنعاً به ، ولم أستند على أمر لا أقبله أنا سنداً ، ولهذا فإنني حين قبلت الاستناد إلي ما في العهد القديم من نبوءات ، لم يكن ذلك مجرد مسايرة للمسيحيين في هذا الاستناد ، وإنما إيماناً منى نابعاً من ديني بأن العهد القديم كتاب الله الذي أقبله ، وحين أخذت في الصورة الإسلامية بالتفاصيل التي وردت في الأناجيل عن محاولة القبض على المسيح عليه السلام ثم محاكمته وصلبه ، أوضحت أنني آخذ بها اعتماداً على إيماني النابع من ديني بالإنجيل ، واقتناعاً بفرض يجب أن أقيم عليه البحث ، وهو أن يكون الأصل في الأناجيل المتداولة فتراض صحتها فيما لا يقوم الدليل على عدم صحته مما ورد فيها ، بل وحتى حين انتهيت إلي عدم صحة الكثير مما ورد فيها ، بل وحتى حين انتهيت إلي عدم صحة الكثير مما ورد فيها ، لم أرفض هذه الأناجيل جملة ، وإنما رأيت الأخذ بها كأسفار تاريخية غير موحى بها بعد أن أقمت الدليل على ذلك ، وفي كل هذا كتبت ما أنا معتقد بصحته وألتزم به قبل أن أطلب من القارئ أن يقتنع به ، بل إنني في ختام كتابي طلبت من المسلمين أن يأخذ الكتاب المقدس مكانه الصحيح بينهم ، إذ هو كتابهم ، تماماً كما أن العهد القديم كتاب اليهود قد اعتبره المسيحيون كتابهم ، ولهذا ، وعلى هذا الأساس ، اعتبرت أن من حقي ، بل ومن واجبي أن أتناول الكتاب المقدس وأقرأه وأعلق عليه.(2/106)
أما هؤلاء الكتاب ، فما هو القرآن عندهم ؛ إنه عندهم ، ليس بالكتاب المقدس ، وليس من عند الله ، وهو عندهم غير موحي به ، وهو عندهم من تأليف محمد عليه السلام وحده ، وهو عندهم ولكل هذا لا يصلح دليلاً على أي شيء ، فإذا كان هذا هو حال القرآن عندهم ، فأي سند يكون لهم إذن فيه ، وإذا كان القرآن عندهم لا يصلح سنداً فكيف يستندون إليه ، وإنها للحجة التي يقولونها أنه ما دمنا لا نقتنع بغير القرآن فسيأتوننا بالسند منه ، وأما أنا فأقول لهم لا ، يجب أن يكون السند أولاً مقبولاً منكم حتى يقبل منكم الاستناد إليه ، كما أنه غير صحيح أننا لا نقبل غير القرآن سنداً ، بل نقبل كل ما يقره العقل وتقبله أصول البحث ، وكتابي هذا خير شاهد على ذلك ، ثم ماذا تريدون من القرآن ، أن تفسروه للمسلمين ، وهل هم ينقصهم أن تفسروه لهم ، أم تريدون أن تحرفوا فيه الكلم عن مواضعه ، وهذا ما أعتقده ، لأنه ليس أعجب بعد كل ما استقر من خلاف بين المسيحية والإسلام وحول صلب المسيح وعدم صلبه وبين القول بألوهيته وعدم ألوهيته وبعد أن قالت الآيات القرآنية بكل صراحة أن لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح عيسي بن مريم ، وبعد أن قال القرآن أنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، ليس أعجب بعد كل هذا من أن يحاول من يرد علينا أن يقول لنا بأن القرآن يقر بألوهية المسيح وبصلبه ، لا أبداً هذا استخفاف بالعقول فوق كل استخفاف ، وهذا هراء أبداً لا أنزل إلي حد مناقشته .(2/107)
وإذا ذكرت هنا ما لقيت من جهد في سبيل الحصول على كتابي الحق وبيان الحق اللذين حاولا الرد على كتابي ، فإني أذكر هنا أيضاً بالفضل والتقدير والاحترام ، السيد الأب كنيث نولن ، فقد كتب إلي سيادته ، وطلب أن يناقشني ، وأن يلقاني ، وكان له ما طلب ، ثم أرسل إلي سيادته بنسخة من تعليقه على كتابي قبل نشره يسألني رأيي فيه ، ثم إذ نشر التعليق تفضل سيادته فأرسل لي خمس نسخ منه ، وإذا كنت أعتقد بيقين ، أن هذا الذي فعله سيادته ، إنما هو ما يمليه علي المرء ، أمانة الكلمة التي يكتبها ، وشرف الرسالة التي يتصدي لها ، فقد عمق من احترامي وتقديري واعترافي له بالفضل ، لما كان من سيادته من ذلك ، ما لقيته من جهد وعناء ، في سبيل الحصول على الكتابين الآخرين اللذين حاولا الرد علي ، وما وجدته فيهما من زور ، ومن تجاهل لمعظم أسانيدي ، وأسجل هنا ، وأمانة ، أن سيادته لم ينسب إلي في تعليقه ، ولا حتى كلمة واحدة لم أقلها ، وما كان أيسر ذلك عليه لو أراد ، فرده نشر في مجلة أجنبية لم أسمع بها ، وبلغة لم أعتد القراءة بها ، ولم يكن لي من سبيل إلي تلك المجلة إلا من سيادته شخصياً.
وأذكر هنا أيضاً ، بالشكر والتقدير والاحترام ، السيد الأستاذ الدكتور جرجس قسطنطيس جرجس مدرس الرياضيات بكلية العلوم بجامعة القاهرة ، فقد أرسل سيادته كتابين مؤرخين 17/6/1970 أحدهما باسمي والآخر باسم والدي على عنوان كل منا ، ويقول في كل منهما أن سيادته يدرس اللاهوت بالقسم الليلي بالكلية الأكليريكية اللاهوتية بالدمرداش ، وأنهم قد تعرضوا في دراستهم لكتابي (دعوة الحق) ، وقد بحث عن هذا الكتاب لدي الناشر فلم يجد لديه أي نسخة وأخبروه أنه ربما يجد عندي نسخة ، وعلى الأهمية الواضحة التي جعلها سيادته لطلبه هذه النسخة من إرساله أكثر من خطاب في نفس الوقت ، فقد أكد أيضاً هذه الأهمية بطلبه في كلا الخطابين أن يكون الرد حالاً .(2/108)
ومن فورى بادرت بإرسال النسخة المطلوبة ، وانتهرت هذه الفرصة لأسأل سيادته عما إذا كان قد سمع بأن ثمة ردوداً أخرى ظهرت رداً على كتابي ، ومن فوره أيضاً ، تفضل سيادته مشكوراً بالرد على بكتاب مؤرخ 23/6/1970 ، ويبلغني أنه لم تظهر ردود أخرى ، ويتفضل سيادته فيقول أنه يسعده القيام بأي خدمة أطلبها ، وبأنني إذا أردت المزيد من المعلومات والردود التي وقعت بين المسيحية والإسلام فيوجد كتاب قوي للمرحوم الإيغومانس (إبراهيم لوقا) ويسمي المسيحية في الإسلام وقد نفذ من السوق ويتفضل سيادته فيعرض على إن لم يكن لدي هذا الكتاب فسيادته على استعداد للبحث عنه وإحضاره لي.
بل وفوق هذا يتفضل سيادته فيقول بأنه إذا قابلني أي إشكال في الموضوع حول المسيحية والإسلام ، فعندهم الأنبا شنودة أسقف التعليم الديني وهو عميد الكلية الأكليريكية اللاهوتية وهو بجانب روحانيته فهو يمتاز بعبقرية جبارة ويعطي الردود الحاسمة المقنعة ، وأستطيع أن أجده في الكلية الأكليريكية اللاهوتية بشارع رمسيس بالدمرداش بجوار كلية طب عين شمس ، وهو يرحب بأي سؤال ويرد عليه بصدر واسع ، وإنه لمن سوء حظي حقاً ، أني لم يقابلني أي إشكال في الموضوع حول المسيحية والإسلام ، ولهذا فلم أحظ بشرق هذا اللقاء.
وتفضل سيادته أيضاً فقال لي في كتابه هذا أنه قد أشير إلي كتابي في محاضرات للأنبا شنودة أسقف الكلية الأكليريكية التي يعطيها بالقسم الليلي ، وقد أشار إليه في مادة (مقدمات الكتاب المقدس) وفي مادة (الدين المقارن أو الإسلاميات) وقال سيادته أنه سيكتب بياناً عن هذه الإشارات لكتابي في ورقة أخرى منفصلة ، وتفضل مقرراً أنه على استعداد تام لأي خدمة أو طلب أو سؤال بعهد الانتهاء من امتحانات الكلية اللاهوتية التي تنتهي في منتصف أكتوبر.(2/109)
وتفضل سيادته فأرفق بكتابه هذه أربع صفحات جعل في أولها عنواناً يقول (إشارات لكتابكم دعوة الحق من محاضرات سيدنا الأنبا شنودة في مادة (مقدمات الكتاب المقدس)) ، ويقول سيادته تحت هذا العنوان :
(في كتاب دعوة الحق من ص 70 يتناول الأستاذ منصور حسين المزامير ويشرح من المزامير أن المسيح لم يصلب تنفيذاً للآية القرآنية (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) (النساء 157).
(1) في مزمور (2) ....... قلتم سيادتكم أن المقصود بهذا المزمور هو السيد المسيح وأن الله ضحك عليهم وأبدل شخص المسيح بشخص آخر . الرد : أن هذا الكلام لم يكن مقصوداً به شخص المسيح بقدر ما كان مقصوداً به المسيحية ذاتها فمتي ارتجت الأمم وفكرت الشعوب بالباطل إلا لإفناء المسيحية ولكنها نسبت للمسيح . مثلما شاول كان يضطهد المسيحية فظهر له المسيح وقال (شاول لماذا تضطهدني)(2/110)
وبغض النظر عما أضفته في هذه الطبعة تعليقاً على هذا المزمور من كتب الإخوة المسيحيين ، فإنه يكفيني للرد على ذلك أن أذكر ما ورد في سفر أعمال الرسل عن رفقاء بطرس ويوحنا من أنهم ( ... رفعوا بنفس واحدة صوتاً إلي الله وقالوا أيها السيد أنت هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها . القائل بفم داود فتاك لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل . قامت ملوك الأرض واجتمع الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه . لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل . ليفعلوا كل ما سبقت فعنت يدك ومشورتك أن يكون). (ص 4 : 26 - 28) ، والآية المشار إليها هنا على أنها قيلت من الله على فم فتاه داود ، والتي يقطع رفقاء بطرس ويوحنا بأنها قصد بها بالذات يسوع المسيح ، بل وزاد تأكيدهم هذا بأن أوضحوا التفاصيل التي تقطع بذلك ، ولم يظهر في كلامهم أدني احتمال لأن يكون القصد منها الإشارة إلي المسيحية أكثر من المسيح ، أو الإشارة إلي المسيحية على الإطلاق ، هي تلك التي وردت في المزمور الثاني والتي يقول الرد أنها لم يكن مقصوداً بها شخص المسيح بقدر ما كان مقصوداً بها المسيحية ، والسؤال هنا ، أيهما أكثر قبول ، واعتباراً ، ما ورد في ذلك الرد ، أما ما ورد في سفر أعمال الرسل ، وللقارئ وحده أترك الإجابة.(2/111)
(2) مزمور (3) ........ - قلتم أن هذا المزمور يشير إلي صراخ المسيح لتخليصه من الصليب وقد استجاب الله له - نرد عليكم بأن الخلاص ليس تخليص المسيح من الصليب ولكن الخلاص الذي نعنيه هو فداء الناس على الصليب وتخليصهم من عبودية إبليس ، كما أن هذا المزمور يشير بوضوح إلي موت المسيح ودفنه وقيامه إذ يقول (أنا أضطجعت ونمت ثم استيقظت) وإذا كان السيد المسيح يريد التخلص من الصليب لما ذهب إلي بستان جثسيماني وهو يعلم أنه سيقبض عليه هناك ولما بقي هناك حينما جاء إليه الجنود ليقبضوا عليه ولما كان يوقظ التلاميذ قائلاً (إن عدوي قد اقترب) .
ورداً على ذلك أقول أنه ليس أدل على أن المسيح لم يكن يريد أن يصلب من كل هذه الصلاة الحارة العميقة في ذلك البستان حتى كانت قطرات العرق تتساقط منه كقطرات الدم وهو يسأل الله أن يعبر عنه هذه الكأس ، أما لماذا ذهب إلى البستان رغم ذلك ، ولماذا أيضاً لم يحاول الهرب عندما علم أن أعداءه قادمين للقبض عليه ، فهذا ما نعرفه منه عليه السلام حينما اختتم كل هذه الصلاة وكل ذلك الدعاء بقوله لله لكن ليكن كما تريد أنت لا كما أريد أنا ، فهو وإن لم يكن يريد أن يصلب ، وهذا طبيعي ، فإنه رغم ذلك سلم لله بمشيئته في أن يصلب ، وهذا أعظم الإيمان ، وأما أن هذا المزمور يرمز إلي موت المسيح ودفنه وقيامته ، فلست بمستطيع أن أري في الاضطجاع والنوم والاستيقاظ موتاً ودفنه وقيامة ، كما أن المزمور يحدثنا عن أنه اضطجع ونام واستيقظ لأن الرب يعضده فلا يخاف من ربوات الشعوب المصطفين حوله ، ومن يضطجع وينام ويستيقظ لأن الرب يعضده فلا يخاف من ربوات الشعوب المصطفين حوله ، نقول عنه أنه رغم ذلك صلب ودفن وقام من الأموات ، ففيم تعضيد الرب له وفيم إذن عدم خوفه.(2/112)
(3) مزمور (4) ....... الرد : لا نستطيع أن نأخذ كل صراخ في المزامير في الضيقة على أنه صراخ من المسيح خوفاً من الصليب فمزامير داود مملوءة بالصراخ في الضيقة - ولا نأخذ كل المزامير على أنها نبوءات عن السيد المسيح - فإن حياة داود كلها ضيقات ومملوءة بخلاص الرب له - والآية في مزمور 4 (اعلموا أن الرب قد جعل صفيه عجباً) لا تشير إلي خلاص المسيح من الصليب ولكن تشير إلي مجد المسيح في قهره للموت بالقيامة وعمل الفداء - ومجد المسيح هنا ليس مجداً عالياً بل مجد روحي كما يقول في مزمور (4) (حتى متى يكون مجدي عاراً) .
وأقول رداً على ذلك ، أنه لو صح هذا التفسير للمزمور ، لوجب أن يكون هو نفسه ما نجده في الكتب المسيحية ، فإذا رجعنا إلي التعليق على المزمور الرابع نجد تفسيراً آخر في كتاب دراسات في سفر المزامير يري أن أقوال هذا المزمور تصدق على مسيح الله الحقيقي لأن تصرف الكتبة والفريسيين وعامة الشعب من ورائهم برهن على أنهم أحبوا الباطل وابتغوا الكذب إذ ساروا وراء عناد قلوبهم في مقاومة مسيح الله ملكهم الحقيقي ..... ، ويكفي لترجيح تفسيري الرجوع إلي ما قلته تعليقاً على هذا المزمور ، ومن الغريب أن يقال في التعليق على هذا المزمور بالذات أننا لا نستطيع أن نأخذ كل صراخ في المزامير في الضيقة على أنه صراخ من المسيح خوفاً من الصليب ، ورغم هذا يستند نفس القائل إلي أن هذا المزمور يشير إلي المسيح نفسه ، وإن كان على النحو الذي رآه ، ففيم إذن كان هذا الذي قيل في بداية التعليق على المزمور ، على أن تلك العبارة التي تقول أننا لا نستطيع أن نأخذ كل صراخ في المزامير .
اكتفي بهذه الإشارة إليها هنا ولي إليها عودة ، لأنها تقريباً كانت نفس مأخذ السيد الأب كنيث نولن.(2/113)
مزمور (12) : (طبعة رومية) أو مزمور 13 (طبعة بيروت) (ملحوظة الطبعة المفضلة للمزامير هي طبعة رومية) - وهذا كله في الخطاب - ... لا يمكن أن تنطبق على السيد المسيح وصلاته من أجل تخليصه من الصليب لأنه إذا كان خائفاً من القبض عليه لما ذهب إلي بستان جثسيماني وهو عالم أنه سيقبض عليه هناك - كما أننا نقول أن المسيح لا يمكن أن يخاف من الموت.
والرد على ذلك بسيط ، وهو أولاً ، بل تقولون ، وأحيل في ذلك إلي ما أورده السيد / يسى منصور في كتابه بيان الحق في جزئه الأول في صفحتي 123 ، 124 عن الرأي الذي ذهب إليه كثيرون من أئمة التفسير الذين يعلقون أهمية خاصة على ناسوت المسيح فيقول أنهم قالوا : ( إن المسيح لم يكن خائفاً من الصليب ولكن جسده الطبيعي الطاهر الذي لم يعرف خطية اقشعر من الموت الذي هو قصاص الخطية ، كما يقشعر الجسد الطبيعي من الظلام الدامس - وأي ظلام أشد من ظلام الخطيئة ، ولأن المسيح رأي هذا الموت مظهراً لغضب الله عليه ...... فكان الصليب مراً ، ولذا وجب على الجسد الذي يتجرع كأسه أن يقشعر .
فلو لم تكن في الصليب مرارة لما صار الصليب صليب الفداء . ولو لم يذق يسوع مرارة الصليب لما اعتبرت تضحية حقه ... فالطبيعة الإنسانية تقشعر من المرارة ، وتكره الألم ، وتنفر من الظلمة وتجفل من الحزن ، وتأبي الموت فلا لوم ولا تثريب على ناسوت المسيح أن يبدو طبيعياً ومنفعلاً بكل الانفعالات الطبيعية ) .(2/114)
وتأبي الموت هذه وردت في الكتاب الذي يحاول الرد علي ، وأن تقشعر طبيعته الإنسانية من المرارة وأن تكره الألم وأن يقشعر جسده من الموت ، هو ما ورد في ذلك الكتاب أيضاً ، فهو رافض ذلك لا يريده ، كما تقدم وكما تقطع به صلاته كما قدمنا ، ولكنه يذهب إلي البستان تسليماً بمشيئة الرحمن في أن يصلب كما سبق أن أوضحنا تفصيلاً ، فالخوف والرفض وعدم الإرادة كلها موجودة بالنسبة للصلب ولكن التسليم بإرادة الله في ذلك أيضاً موجودة ، ومن هنا انطباق المزمور .
مزمور 20 (طبعة بيروت) أو مزمور 19 طبعة رومية .......... - قلتم أن هذا المزمور ينطبق على السيد المسيح وتخليصه من الصليب والرد أن كلمة مسيح لا تنطبق فقط على السيد المسيح بل على كثيرين مثل داود النبي وشارل الملك في العهد القديم وسليمان الحكيم ثم عبارة (هؤلاء بمركبات وهؤلاء بخيل) لا ترمز إلي الذين قدموا وقبضوا على السيد المسيح فلم يقل أحد أنهم جاءوا بخيل أو مركبات ولم يقل أحد أنهم عثروا وسقطوا - ثم عبارة (نحن قمنا واستقمنا وانتصرنا) بصيغة الجمع أي أن هذا الكلام لا يشير إلي السيد المسيح .(2/115)
وإذا كنت أنوي التعليق على ذلك بعد التعليق على المزمور (22) إلا أنه لا يفوتني هنا أن أشير إلي أن القول بأنهم عثروا وسقطوا لم يقله أحد غير صحيح ، وليس أدل على ذلك من أن إنجيل يوحنا قد قال عنهم أنهم في لحظة الوصول إلي المسيح للقبض عليه رجعوا إلي الوراء وسقطوا على الأرض ، ثم إن الاستدلال من عبارة (نحن قمنا .....) على أنها لم يقصد بها المسيح لأنها وردت بصيغة الجمع ، فهذا كلام غريب في حد ذاته ، وغريب من مسيحي بالذات ، فأي قارئ للمزمور لا يمكن أن يعترض على إمكان أن يكون المقصود بهذه العبارة فرد واحد ، أو على أنها لا يقصد بها إلا فرد واحد ، وأما أن يكون المعترض مسيحياً بالذات فهذا أعجب ما في الأمر ، ذلك أن معظم الكتب المسيحية حين تعرض لمثل هذه العبارات تستخرج منها ، بغير حق ، دليلاً على تعدد الأقانيم في الإله الواحد ، وإلا لما استعمل الوحي صيغة الجمع في حديثه عن الواحد ، وعموماً فأنا أحمد للراد اعتراضه على هذا الأسلوب للمسيحيين المستفاد من ورده.
مز 22 (طبعة بيروت) مزمور 21 (طبعة رومية) .
قلتم أن هذا المزمور يرمز إلي يهوذا الذي صلب بدلاً من المسيح لأنه لا يصح أن يقال عن السيد المسيح ..... أما أنا فدودة لا إنسان عار عند البشر ومحتقر الشعب ..... الرد وكلمة عار ليس أنه عار في ذاته بل إنه احتمل العار وقد ذكر بولس الرسول كثيراً في رسائله عن ذلك فقد جاء في رسالته إلي أهل غلاطية (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة) (غل 3 : 13) وقد حمل السيد المسيح كل لعنات الناموس وخطايا البشر واحتمل كل هذا من أجلنا كما أن أشعيا النبي قال عنه في ساعة الصلب وتنبأ (لا صورة له ولا جمال ولا منظر فتشتهيه) مع أنه قيل (أنه أبرع جمالاً من جميع بني البشر).(2/116)
وقبل أن أمضى إلى التعليق على ذلك فيما بعد أوضح أنني لا أستطيع أن أفهم من قول قائل عن نفسه (أما أنا فدودة لا إنسان . عار عند البشر .... ) أنه لا يقصد أنه عار في ذاته ، وأما ما يذكره بولس فإن هو إلا محاولة لتبرير ما ظن أنه المسيح قد صلب ، ولا أعتبرها محاولة موفقة ، ثم ما هذا القول بأنه قد احتمل كل لعنات الناموس وخطايا البشر ، أليست هي خطيئة آدم وحدها ما تقولون بأن الله قد تجسد وتأنس وصلب ليفدي البشر منها ، وإلا ، هل معني أن يكون الإنسان مسيحياً إذن أن يرتكب ما يعن له من الخطايا فقد افتداها المسيح كما تعتقدون بدمه مسبقاً ، للحق لم أفهم بحال أنكم تقصدون هذا ، وأما القول بأنه مكتوب أنه ملعون كل من علق على خشبة ، فهذه شهادة بأن هذا الذي علق في الأناجيل لا يمكن أن يكون المسيح ، لأنه أبداً ، وبأي حال ، لا يمكن أن يكون ملعوناً ، ويقطع بذلك أنه مكتوب أيضاً في العهد القديم ، في المزمور التاسع (معروف هو الرب . قضاء أمضى . الشرير يعلق بعمل يديه .) (16) ، فهل يمكن القول طبقاً لذلك ، وباعتبار أن المسيح قد علق على خشبة كما تعتقدون ، أنه قد صار شريراً أيضاً ، بالطبع لا ، وتماماً أيضاً لا يمكن القول بأنه قد صار لعنة ، لأنه لو قيلت إحداهما عليه ، لوجب قول الأخرى أيضاً ، والغريب أنني أنا الذي لا أعتبر في حكم المسيحيين من أتباع المسيح، أقف بكل ما حواه هذا الكتاب مدافعاً عن مجد المسيح وكرامته ، نافياً عنه العار الذي ألحق به ، نافياً عنه اللعنة المدعي بها ، فيعيب على من يرون في أنفسهم أتباع المسيح أن أنفي اللعنة والعار عنه ، أينا من أتباع المسيح حقاً ، إن الشرف كله لي أن أكون من أتباع المسيح عليه السلام ، ومن أول من يدفعون عنه اللعنة والعار اللذين ألحقهما به من يعتقدون أنهم أتباعه .(2/117)
ويستطرد سيادته كل ما تعرضوا له في دراستهم في مادة (مقدمات الكتاب المقدس) عن كتابي (دعوة الحق) وأنه أشير في دراستهم في مادة علم الدين المقارن (الإسلاميات) عن حادثة صلب المسيح إلي كتابي (دعوة الحق) وقال إن الإشارة هي إلي ما قلته في صفحة 149 من أن الذي نستطيع أن نستخلصه مما ورد في الأناجيل أن الذين حاولوا القبض على المسيح لم يكونوا يعرفونه .... وأن الرد أن المسيح وتلاميذه كانوا معروفين جداً وأخذ سيادته يعدد ثلاثة عشر سبباً لذلك خلاصتها أن المسيح وتلاميذه كانوا معروفين في معجزة إشباع الجموع وأن الخدم كانوا يعرفون أن بطرس هو أحد التلاميذ وأن جمعاً عظيماً قابل المسيح في أحد السعف كما كان المسيح وتلاميذه يحضرون ولائم العشارين والخطاة وصنع معجزات كثيرة قبل صلبه وأنه لو كان غير المسيح من صلب لما حدثت زلزلة وقت الصلب ولما أظلمت الشمس عندئذ وكان المسيح يعظ في مجاميع اليهود وفي شفاء المفلوج يقال أن البيت مزدحماً كما قال المصلوب كلمات لا يقدر يهوذا أن يقولها على الصليب ولم تكشف المحاكمة عن أنه ليس المسيح كما أن نيقودبموس ويوسف الرامي أنزلا الجسد من على الصليب وكفناه ، وقد أشار بولس الرسول كثيراً إلى مجد الصليب ، ولست أراني بحاجة إلي الرد على كل هذا بغير ما أوردته في البحث نفسه ، والذي يبدو واضحاً جلياً أن السيد الدكتور جرجس قسطنطين لم يكن قد قرأه بعد عند كتابته هذا الخطاب إلي ، لضيق الوقت بين خطابيه الأولين وهذا الخطاب (17/6/1970 و 23/6/1970) مع ملاحظة الوقت الذي استغرقه وصول خطابيه الأولين إلي والوقت الذي وصله خلاله كتابي والخطاب المرفق به ، وهذا فضلاً عن أنه يعرض على البحث في كتاب المسيحية في الإسلام ، والذي يقرأ كتابي يعرف من أوله أنه لدي .(2/118)
والآن أعود إلي المزمورين 20 و 22 وإلى عبارة أننا لا نستطيع أن نأخذ كل صراخ المزامير في الضيقة على أنه صراخ من المسيح خوفاً من الصليب فمزامير داود مملوءة بالصراخ في الضيقة ولا تؤخذ كل المزامير على أنها نبوءات عن السيد المسيح فإن حياة داود كلها ضيقات ومملوءة بخلاص الرب له .
وفي هذا أقول ، لقد وجدت الكتب المسيحية تقول أن المسيح ساطع في كل الكتاب المقدس كالشمس وأن المسيحيين لا يهتمون أين يفتحون التوراة ، وكتب الأنبياء ليجدوا الكلام عن المسيح ، كما قرأت أيضاً أنه في سفر التكوين كان فجر النبوة وفي الأسفار التالية كان تدرجها في الارتفاع حتى تكبدت السماء في سفر المزامير وظهر المسيح فيه واضحاً جلياً في كمال مجده كأنه الإنجيل يتكلم عن يسوع من كل مناحي حياته عن أعماله وأقواله وتعاليمه وظروفه وأحواله ، وأن هذا السفر كان كالهالة أحاط بكوكب يسوع فتكلم حتى عن إحساساته العميقة وآلامه المبرحة أكثر من أي نبي آخر حتى ليمكن القول أن سفر المزامير هو سفر ميسا الخاص بدليل أن الاقتباسات المأخوذة من العهد القديم كله (كتاب هل تنبأت التوراة عن المسيح) ، كما قرأت أيضاً أنه لم يوجد كتاب ملئ بالإشارات عن الرموز والنبوات عن المسيح أكثر من كتاب المزامير هذا وعليه أهميته في نظر اللاهوتيين تفوق الوصف (كتاب رب المجد) ، بل وحتى السيد / يسى منصور في كتابه بيان الحق الذي أصدره رداً على كتابي لم يستطع إلا الإقرار بذلك فقال في صفحة 35 من الجزء الأول أنه (ومعلوم أن سفر المزامير يسمي عند اليهود والمسيحيين بسفر الميسا.) ، والميسا هنا يقصد بها المسيح كما هو معروف.(2/119)
هذا ما وجدته ، وقبلته ، ثم أخذت أبحث عما يقوله هذا السفر عن المسيح وإقراراً للواقع ، فقد كان أول مزمور قرأته في هذا السفر باعتباره نبوءة عن صلب المسيح عند المسيحيين كما يقولون، هو المزمور 22 ، ووجدت فيه بحق نبوءة عن الصلب ، وعن المصلوب ، لما وجدته من تطابق بين عباراته وبين ما حدث مع المصلوب في الأناجيل ، ولكني اصطدمت منه بعبارة مهولة ، هي حديث المصلوب فيه وقوله عن نفسه (أما أنا فدود لا إنسان ، عار عند البشر ...... ) ، ويأبى قلبي وعقلي وإيماني أن أري المسيح الكريم العظيم يقول هذا عن نفسه بأي حال.
وأتساءل ، أين هي النبوءة ، وأين هو التطبيق ، إن صلب من صلب لم يكن واقعة مجردة ، إن المسيحيين أنفسهم لا يقولون أن المسيح هو الله في اعتقادهم قد تجسد وتأنس ونزل وصلب فحسب ، بل هناك حياة كبيرة على الأرض قبل ذلك ، وهناك تفاصيل أخرى سبقت واقعة الصلب ، ولا انفصال لها عن تلك الواقعة ، وأجد هذه التفاصيل تقول أن المسيح ذهب إلي ضيعة يقال لها جثسيماني مع تلاميذه ، وتركهم وأخذ يصلى بعيداً ، وكان يصلى أعمق وأحر صلاة سمع بها أحد حتى يومنا هذا ، وكل هذه الصلاة وهذا الدعاء يسأل الله أن يخلصه من الصلب ، أن يعبر عنه هذه الكأس إلا أنه ، ولعظيم إيمانه يستسلم لمشيئة الله ويقول له ليكن كما تريد أنت لا كما أريد أنا ، وأقبل هذه التفاصيل أيضاً في الصورة الإسلامية حتى لحظة محاولة القبض على المسيح على التفصيل الذي انتهيت إليه في بحثي ، ولا أرى في واقعة الصلب إذن واقعة مجردة مستقلة عن غيرها ، وإنما أرى المسيح يدعو الله أن يخلصه من الصلب ، فيستجيبه في الصورة الإسلامية ويرفعه إليه ويقبض على يهوذا الاسخريوطي ويحاكم ويصلب بدلاً منه وعلى أنه المسيح نفسه ، بينما نعرف من الصورة المسيحية أن هذا الدعاء لا يستجاب وإنما يقبض على المسيح ويحاكم ويصلب كما يعتقدون المسيحيون.(2/120)
وأبحث عن الصورة بكل تفاصيلها ، ولا أبحث عمن صلب مجرداً ، فأجد المزمور العشرين ، وهو مزمور لداود يبدأ بالدعاء على لسان داود قائلاً (ليستجب لك الرب في يوم الضيق .) ، فأفهم منه أن داود هنا يدعو لآخر ، وفي زمن مستقبل أن يستجيب له الرب في يوم الضيق ، ولا أعرف يوم ضيق في حياة المسيح أكثر من هذا اليوم الذي كان مقرراً أن يقبض الأعداء فيه عليه ليقتلوه ، وأرى في الأناجيل ما دعا الله عندئذ به وهو أن يعبر عنه هذه الكأس ، أي كأس الصلب ، ثم أري داود النبي يمضي فيوضح كيف يتصور هذه الاستجابة فيقول (ليرفعك .....) ، وبعد أن يستمر في دعائه لهذا الآخر بما مفهومه أن طلب الاستجابة هذا إنما فيه معاملة لمن يدعو له حسب عمله ، يعود ، وفي فقرة جديدة ، يتحدث ، فنفهم من صريح عبارته أنه يتنبأ ، وأن الوحى أعلمه هذا الذي سيقوله في تلك اللحظة ، فيقول بصريح العبارة وأوضحها (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه .) ، وبصريح العبارة يتحدث عن المسيح الرب ، وبصريح العبارة نفهم أنه يتنبأ ، ويتنبأ بأن الرب مخلص مسيحه ، ثم يربط بين هذا التخليص وبين ما دعاه في أول المزمور بقوله (ليستجب لك الرب في يوم الضيق . ليرفعك اسم إله يعقوب ..... ) ، قاطعاً بأن الدعاء الأول كان عن مسيح الرب ، وأن النبوءة عن تخليص الرب لمسيحه ، ثم يصف كيفية تخليصه فيقول (هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ......) ، وأرى في ذلك رمزاً لمحاولة القبض على المسيح ، ويعترض المعترض كما قرأنا في الخطاب بأن أحداً لم يقل أن من جاءوا للقبض على المسيح جاءوا بمركبات وخيل ، وفي الرد على هذا الاعتراض أرد من وجهين ، فمما الاختلاف فيه أن عدم ذكر واقعة الأناجيل لا يعني أنها لم تحدث ، وإنما فقط لو نفت الأناجيل واقعة معينة يمكن التفكير في القول بعدم حدوثها ، والأناجيل وإن لم تذكر أن من قدموا للقبض على المسيح أنهم قدموا بمركبات وخيول ، فإنها أيضاً لم تنف ذلك ، ويقول لنا السيد(2/121)
القمص باسيليوس إسحق في صفحة 73 من كتابه الذي سماه الحق والذي أصدره رداً على كتابي أن القوة التي نيط بها القبض على المسيح مكونة من كتيبة من الجنود الرومانيين والكتيبة في العادة - كما يقول - كان عددها 600 جندياً مسلحاً بقيادة ضابط روماني ، والخدام وهم الموظفون اليهود الملحقون بمحكمة السهندريم وموظفو إدارة بوليس الهيكل ، فهل نستطيع أن نتصور كذلك ، وهو ما لم تنفه الأناجيل ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن السيد / يسى منصور يقول في الجزء الأول من كتابه بيان الحق الذي حاول به أيضاً الرد على كتابي ، يقول - بحق - في صفحة 69 منه (فليس من الضرورى أن يكون المثال كالحقيقة في كل شيء وإلا فلا يكون المثال مثالاً ) - وإن اختلفت معه فيما رتبه على ذلك - ولهذا ، فحتى لو فرضنا أن من قدموا للقبض على المسيح لم تكن معهم مركبات وخيول ، فإن هذا لا يغير من صحة النبوءة واعتبارها عن لحظة محاولة القبض على المسيح ، لأن هذا الوصف الذي أتى به المزمور لا ينطبق في حياة المسيح إلا على تلك اللحظة وحدها.(2/122)
ثم يأتي المزمور 21 بعد ذلك ، ليقطع في غير ما لبس أو أدنى غموض ، بأنه والمزمور السابق كانا عن المسيح ، إذ يذكر لنا هذا المزمور فرحة الملك بقوة الرب ، ويقول أن شهوة قلبه أعطاه الرب وملتمس شفتيه ، وهو الدعاء الذي دعاه له ، لم يمنعه ، ونعرف تماماً أن ملتمس شفتيه هذا الذي لم يمنعه هو عدم صلبه إذ يقول عنه أنه سأل الرب حياة ، ويؤكد المزمور بعد ذلك بما لا يستطيع أن ينفيه أي مسيحي بأن المسيح هو المقصود منه بقوله (فأعطيته . طول الأيام إلي الدهر والأبد.)، فمن في الدنيا كلها أعطى حياة هذا طولها غير المسيح ، وهل داود أعطى هذه الحياة ، لا يستطيع حتى مسيحى أن ينكر ذلك عن المسيح أو أن يقوله عن داود ، ثم يؤكد المزمور ارتباطه بالمزمور السابق وبالمؤامرة على المسيح للقبض عليه وصلبه قاطعاً بفشلها ، إذ يتحدث عن أعدائه ، وغضب الله عليهم ويوضح أن سبب هذا الغضب ، أنهم نصبوا عليه شراً ، تفكروا بمكيدة ، ويقطع بما لا يقبل الجدل فيقول أنهم لم يستطيعوها ، ثم يأتي بعد ذلك المزمور 22 والذي أتفق مع ما يقول به المسيحيون من أنه يتحدث عن واقعة الصلب نفسها ، فأجد فيه المصلوب يحدثنا عن نفسه فيقول أنا دودة لا إنسان عار عند البشر .(2/123)
فهل بعد كل هذا ، يطلب إلي أن أعتبر المزمور 20 ليس عن المسيح ، والمزمور 22 عن المسيح ، أمزمور يحدثنا عن مسيح الرب ، ويحدثنا بصورة التنبؤ عن المستقبل ، ويدعو بأن يستجيب له الرب في يوم الضيق ، ونعلم يقيناً أنه في يوم الضيق دعا المسيح ربه أن يخلصه من الصلب ، ثم يؤكد لنا المزمور بعد ذلك بنبوءة صريحة قاطعة أنه الآن قد عرف أن الرب مخلص مسيحه ، وأنه سيستجيبه من سماء قدسه ، ومع كل هذه الصراحة وذلك الوضوح ، أقول أن هذا المزمور لا يتحدث عن يسوع المسيح عليه السلام ولا صلة له به ، ثم أجد مزموراً آخر ، يتحدث فيه شخص عن نفسه فيقول أنه دودة لا إنسان عار عند البشر ، فأري فيه المسيح ، بل وبين المزمورين نفسيهما مزمور ثالث ، يقطع بما لا يقبل خلافاً بأن الأول عن المسيح وبالتالي فالأخير عن غيره ، ثم لا أرى في مسيح الرب المسيح نفسه ، وأري في هذا الذي هو في رأي نفسه دودة لا إنسان عار عند البشر ، المسيح نفسه ، ولا أرى فيه الخائن يهوذا الاسخريوطي .
على أن القول بأن المزمور 20 والمزمور 21 إنما قصد بهما المسيح نفسه ، ليس بدعة من عندي ، فمن المسيحيين أنفسهم من يسلم بأن المسيح ، وبأجلى معنى ، هو المقصود بهما ، فها هو ذا السيد / فخرى عطية في كتابه دراسات في سفر المزامير يقول في صفحة 302 : (التطبيق النبوي: إن الروح القدس يستخدم أقوال المزمورين 20 و21 لغرض نبوي ، ومن هنا فالتكميل والإتمام لا يوجدان إلا في المسيح ، ونرى البقية الأمينة توحد نفسها بمسيحها ، ولاحظ كيف أن طلبة مز 20 : 4 (ليعطك حسب قلبك ويتمم كل رأيك) تجد استجابتها في مز 21 : 2 (شهوة قلبه أعطيته وملتمس شفتيه لم تمنعه (إشارة إلي القيامة) حياة سألك فأعطيته طول الأيام إلي الدهر والأبد) (مز 21 : 4) . إن يوم (ضيق) مسيا هو اليوم الذي فيه قدم نفسه . والآن هو (مرفع)...)(2/124)
وواضح أن الكاتب يرى هنا أن تخليص المسيح يقصد منه قيامته من بين الأموات ، ولكن ، هل يمكن للمركبات والخيول أن تشير إلي القبر ، أم إلي محاولة القبض على المسيح ، وأي التفسيرين يقبله العقل .
ويعطيني السيد القمص باسيليوس إسحق درساً في معني كلمة مسيح حتى ينفي انطباق المزمور 20 على المسيح - كما ذهب الأستاذ الدكتور جرجس قسطنطين جرجس في كتابه إلي - فيقول لي أن كلمة مسيح لقب أطلقه اليهود على كهنتهم وأنبيائهم وملوكهم لأنهم كانوا يمسحون بالدهن المقدس عند تكريسهم لوظائفهم السامية ولذلك يسمي الملك الممسوح بمسيح الرب ، ومسيح في الآية (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه) أي الممسوح بالدهن ولو كان قصد بها المسيح لقال المسيا (ص 84 - 86 من كتاب الحق) ، وعلى أن ما أوردته عن المزمور 21 يقطع بأن المسيح هو المسيح المقصود في المزمور 20 ، وعلى أن القمص باسيليوس إسحق رماني لذلك بالجهل بكتب النصارى أو بأني فعلت عن قصد ذلك لتضليل الجهلاء - والله أعلم - .
كما يقول - فإن الرد القاطع لا آتي به من عندي ، بل من كتب النصاري ، من كتاب السيد / فخرى عطية الذي أسلفت الإشارة إليه والذي قال في صفحة 308 منه تعليقاً على نفسه الآية : ( في هذا العدد تعبير يشير في الكتب النبوية إلي ربنا يسوع المسيح نفسه ، تعبير يستخدمه الشعب الأرضى عن المخلص المجد (الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه) والمسيح (الممسوح) هو مسيا ، ومسيا هو الذي كان ذلك الشعب ينتظرونه طوال القرون .....) ، فماذا أقول دام فضلكم.(2/125)
ألا أني رأيت الحق جلياً في هذه المزامير الثلاثة فلابد وأن أكون على خطأ ، ويقال لي تبريراً لذلك، وعلى صراحة الآيات أن مسيح الرب في المزمور 20 لم يقصد به المسيح عليه السلام ، وإذا كانت كلمة المسيح لقب أطلقه دون تحديد فهل يقصد بها غيره ، وإذا لم أكن على حق ، فأي مسيح هذا الذي قصده المزمور ، ولكن يقيناً إن من اعترض على لا يعترض أبداً على هذا الذي يقوله السيد / فخرى عطية من أن المسيح عليه السلام بالذات هو المقصود بالمزمورين 20 و 21 ، لا لشيء ، إلا لأنه لا ينتهي إلي ما انتهيت إليه بحق منهما ، فرأي فيهما نبوءة عن صلب المسيح ودفنه وقيامته من الأموات .
هذه هي المزامير 20 و 21 و 22 على التوالي ، وهذه هي النبوءات الصريحة الواضحة فيها ، رأينا فيها المسيح يدعو الله في يوم الضيق ، ورأينا الله يستجيب لدعائه فيرفعه ، ويفرح بذلك في المزمور 21 وتعرف من الأوصاف التي وردت عمن خلصه الله فيه أنها لا تنطبق ألا على يسوع المسيح وحده دون العالمين ، ويؤكد لنا نفس المزمور فشل المؤامرة عليه ، ثم نعرف من المصلوب في المزمور 22 أنه دودة لا إنسان عار عند البشر ، فنعرف يقيناً أنه ليس المسيح عليه السلام وإنما يهوذا الاسخريوطي .(2/126)
وليست كل صلاة أو صراخ في المزامير أسندته إلي المسيح ، وإنما هي صورة كاملة ، واحدة ، تتكرر في المزامير ، وأبداً لا تتغير ، هناك هذا البار يدعو الله في يوم ضيقه ، فيرسل من العلا ويأخذه ، يرفعه فوق القائمين عليه ، يوصى به ملائكته فعلي الأيادي يحملونه لئلا تصدم بحجر رجله ، لا يحبسه في يد العدو ، إليه لا يقرب ، فهل داود أرسل الله من العلا فأخذه ، وهل داود أوصى الله ملائكته به على الأيادي يحملونه لئلا تصدم بحجر رجله ، هل غير المسيح هذا ، ودائماً آخر ، الشرير ، هو الذي يري في نفسه دودة لا إنسان وعار عند البشر ، وكراجياً حفرة فسقط في الهوة التي صنع ، الشرير يعلق بعمل يديه ، في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم ، حفروا أمامه حفرة فسقطوا في وسطها ، على رأسه يرجع تعبه وعلى هامته يهبط ظلمه ، الصورة الإسلامية كاملة ، بكل تفاصيلها ، بكل جلالها ، بكل كمالها ، فأين هي في المزامير تفاصيل هذه الصورة الأخرى التي يقولون بها ، أين دعاء المسيح البار الكامل ، الذي لا يستجاب ، وأين المسيح الذي يحاكم ، ثم أين هو المسيح الذي يصلب ، أهذا الشرير ، الذي يقول عن نفسه أنه دودة لا إنسان عار عند البشر ، أبداً وألف أبداً .
وبعد ، فماذا أنا بقائل ، يكفيني هذا في هذا الهامش ، فالكتاب نفسه يغنيني عن أي كلام ، وإذ أنا على يقين من هذا الذي في هذا البحث كتبته ، فإن يقيني أيضاً ، أن أمانة الكلمة تحتم على أن أقول ، أن القارئ لا يجوز له أن يكتفي بوجه واحد من أوجه النظر ، وأن اليقين الكامل بهذا البحث بل والقراءة الكاملة له ، إنما تحتم على القارئ أن يسعى بنفسه إلي ما أشرت إليه من كتب ظهرت من قبل أو قد تظهر من بعد رداً على ، فيطالعها ، وليحكم بنفسه ولنفسه عليها.(2/127)
وإذا كان هذا ما أكتبه أنا ، فإنه من باب أولى ما أتوقع أن يكتبه بعد ذلك من يحاول الرد على ، فلا يخفي مثلاً كما فعل صاحب كتاب الحق ، اسم الكتاب أو الكاتب الذي عليه يرد ، بل وأن يطلب إلي قارئه أن يطالع كتابي ، بل وقبل أن يقرأ رده ، وإلا فما معني أن يكون كتابه رداً ، أرجو على أي حال أن يفعل ذلك من يتصدي للرد على ، وإلا دل بذلك ليس فقط على عجزه عن الرد ، بل وأيضاً على عدم يقينه شخصياً بصحة ما يكتب.
وإذا كان لي رجاء لمن ينشر رداً على ، فهو فقط أن يحيطنى علماً بصدوره حتى يتسني لي الإطلاع عليه ، وعنواني أسجله هنا حتى لا تكون لأحد حجة (34 شارع سانت جينى ، برشدي ، بالإسكندرية - جمهورية مصر العربية) .
وكلمة أخرى ، لا أقدر أن أكتمها ، ففي صلاة قدم بها القمص باسيليوس إسحق الطبعة الثانية من كتابه الذي سماه الحق يقول مخاطباً الله : ( .... إننا اليوم نذكر ما لنا من البركات ونلتمس منك أن توزعها على الآخرين أيضاً .....)
فسيادته يسأل الله أن يوزع بركات سيادته على الآخرين ، كما يقول في كلمة أضافها إلي نهاية كلمته التي قدم بها الكتاب في طبعته الثانية : ( .... وستجدوننا أيها الكتاب على أتم استعداد لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا .)
فهكذا رأي سيادته في نفسه بعد صدور طبعته الأولى ، فأبي إلا أن يصدر بذلك طبعة الثانية ، فهو يذكر اليوم ما له من بركات ويلتمس من الله أن يوزعها على الآخرين أيضاً ، وهو على أتم استعداد لمجاوبة كل من يسأله عن سر الرجاء الذي فيه .
أما أنا ، فعن نفسي أقول ، لا يظنن أحد بي بركات أوزعها أو أسأل الله أن يوزعها على غيري ، ولا يظنن أحد في رجاء ، لأن يقيني أن لا بركة لأحد لغير نفسه ، ولا رجاء في أحد لغير نفسه ، لأنه بإيمانك وحدك ستدخل ملكوت الله وجناته وليس بغيرك.
وبعد
فشكراً وحباً وتحية ، لكل من طالع هذا الكتاب فقبله .(2/128)
وشكراً وحباً وتحية ، لكل من قرأ هذا الكتاب أيضاً ولو رفضه.
وشكراً وحباً وتحية ، لكل من رد على هذا الكتاب ، وإن زور في رده .
وشكراً وحباً وتحية ، واحتراماً للأستاذ جرجس قسطنطين جرجس ، ذاكراً لسيادته كريم فضله.
وشكراً وحباً وتحية ، مع عظيم احترامي وتقديري وامتنائي ، للسيد الأب كنيث نولن ، فلئن اختلفنا معاً ، فعلي أمانة الكلمة ، وشرف الرسالة التقينا.
ثم من قبل ومن بعد ، شكراً لله الشكر كله ، وحمداً لله الحمد كله ، أن أعانني على إعادة كتابة وطبع هذا الكتاب .
منصور حسين
فهرس
موضوعات الكتاب
تمهيد
الباب الأول : في منهج البحث
الفصل الأول : الكتب التي تتعرض لدين واحد دون الآخر.
الفصل الثاني : الكتب التي تقوم على نفي تنزيل القرآن من عند الله أو نفي صحة الأناجيل الأربعة المتداولة
الفصل الثالث : الكتب التي تحاول توحيد الكلمة بين المسيحية والإسلام
الفصل الرابع : نقد المناهج السابقة وبيان منهج البحث
الباب الثاني : في الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه
الفصل الأول : صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون وتخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون
المبحث الأول : في صلب المسيح كما يعتقد به المسيحيون
المبحث الثاني : في تخليص الله للمسيح ورفعه إليه وصلب غيره كما يعتقد المسلمون
الفصل الثاني : المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين صلب المسيح كما يعتقد المسيحيون وتخليص الله له كما يعتقد المسلمون
الفصل الثالث : الاحتكام إلي ما في المزامير من نبوءات للكشف عن الحقيقة بين صلب المسيح وتخليص الله له ورفعه إليه وصلب غيره
المبحث الأول : النبوءات في المزامير
المبحث الثاني : الحقيقة في المزامير
الفصل الرابع : ما قد يثور من اعتراضات على حقيقة تخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا ومحاكمته وصلبه بدلاً منه(2/129)
المبحث الأول : هل يمكن أن تكون الصورة التي انتهينا إليها من تخليص الله للمسيح والقبض على يهوذا بعد ذلك رغم أنه كان المرشد إليه ثم محاكمته وصلبه على أنه المسيح صحيحة
المبحث الثاني : مصير الجسد الذي صلب وما قيل عن خنق يهوذا لنفسه وعن ظهور المسيح بعد ذلك
المبحث الثالث : كيف يستدل المسيحيون من العهد القديم على أن الذي صلب هو المسيح نفسه لا يهوذا الاسخريوطي
المبحث الرابع : كيف لا يستدل المسيحيون من نبوءات العهد القديم على تخليص الله للمسيح وصلب يهوذا بدلاً منه
المبحث الخامس : تفسير تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه وبحث عقيدة المسيحيين في الصلب
المبحث السادس : هل يمكن أن يذكر العهد الجديد وقائع غير صحيحة
الفصل الخامس : تأملات ختامية في هذا الباب
الفصل السادس : اليهود ...... ودم المسيح
الباب الثالث : في الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته
الفصل الأول : ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون وعدم ألوهيته كما يعتقد المسلمون
المبحث الأول : ألوهية المسيح كما يعتقد بها المسيحيون
المبحث الثاني : عدم ألوهية المسيح كما يعتقد المسلمون
الفصل الثاني : المعيار الصحيح للكشف عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته
الفصل الثالث : الاحتكام إلي الأقوال الثابتة للمسيح للكشف عن الحقيقة بين ألوهيته وعدم ألوهيته
المبحث الأول : القول بأن المسيح ابن الله
المبحث الثاني : أقوال المسيح الثابتة عن طبيعته عليه السلام
المبحث الثالث : الحقيقة في أقوال المسيح الثابتة له بين ألوهيته وعدم ألوهيته
الفصل الرابع : ما قد يثور من اعتراضات على الحقيقة التي انتهينا إليها من عدم ألوهية المسيح
المبحث الأول : كيف يعتبر أتباع المسيح أنه هو الله
المبحث الثاني : لماذا لا يصل المسيحيون إلي الحقيقة التي انتهينا إليها بشأن طبيعة المسيح
الفصل الخامس : الله في ضوء العلم
المبحث الأول : الله يتجلي في عصر العلم(2/130)
المبحث الثاني : أي الصورتين لله يؤيدها العلم الصورة المسيحية أم الصورة الإسلامية
الفصل السادس : تأملات ختامية في هذا الباب
الباب الرابع : الإسلام
الفصل الأول : الكيفية التي يتطلب بها الإسلام من الناس أن يدينوا به
المبحث الأول : النظر العقلي والشعور الباطني وأثرهما في كيفية ثبوت العقيدة في الإسلام
المبحث الثاني : الاجتهاد الفردي في الإسلام
الفصل الثاني : أركان الإسلام
المبحث الأول : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
المبحث الثاني : إقامة الصلاة
المبحث الثالث : إيتاء الزكاة
المبحث الرابع : صوم رمضان
المبحث الخامس : حج البيت من استطاع إليه سبيلا
الفصل الثالث : التعريف بالإسلام
المبحث الأول : ما هو الإسلام
المبحث الثاني : ما يدعو إليه الإسلام
الباب الخامس : دعوة الحق
الفصل الأول : الدعوة إلي الإخوة المسيحيين
المبحث الأول : مقارنة بين كيفية دعوة المسيحية اليوم والإسلام للناس أن يتبعوها
المبحث الثاني : أتموا إسلامكم
المبحث الثالث : فاحفظوا دينكم
الفصل الثاني : الدعوة إلي المسلمين
المبحث الأول : واجب المسلمين نحو أنفسهم
المبحث الثاني : واجب المسلمين نحو غيرهم
الفصل الثالث : دعوة الحق
باب ختامي : على هامش دعوة الحق(2/131)
(1) يشير القمص باسيلوس اسحق في كتابه الحق ص 7 إلى هذه الفقرة بقوله ( ولكن أحد الكتاب يقول أنه بعد ستة قرون جاء نبي الإسلام وقال أن المسيح لم يصلب وإنما رفعه الله إليه .... واستطرد يقول : وما دام القرآن قد نفي هذا وأنه لم يصلب فإنه أصدق نبأ من نبؤات ...... ، وأصدق نبأ من سجلات التاريخ ، وأصدق نبأ من كلام المسيح نفسه عن صلبه ، وأصدق نبا من الأناجيل ، ورسائل الرسل ، وذلك لأن الله قال ذلك في القرآن والله لا يخطئ أبداً ، ولذا فمهما كان هناك من إجماع على أن المسيح قد صلب فإنه لم يصلب ولكن رفعه الله إليه ما دام القرآن قال كذلك ... ) والمغالطة في نسبة هذا الكلام إلى الكاتب مباشرة واضحة من سياق نص الفقرة نفسها ، ولا محل لذلك لتناول ما رد به على هذه الفقرة .
(1) وردت هذه الفقرة في كتاب بيان الحق للسيد / يس منصور الجزء الثالث ص 71 مدللاً بها على ما قاله قبلها ونصه ( لقد أنكر الأستاذ منصور حسين الإنجيل ونفي عنه صحة الوحي بحجة أن القرآن لا يعترف بما جاء فيه من إثبات لاهوت المسيح وصلبه فقال : ثم أورد نص هذه الفقرة ، وإني لأترك للقارئ أن يقرر ما إذا كان يمكن من هذه الفقرة أن يسند إلى هذا الإنكار الذي أورده الأستاذ يسي منصور في تعليقه عليها ، ويقينا بأن إجابة القارئ هي النفي ، فلست أري محلاً لتناول ما رد به سيادته على هذا الإنكار .(2/132)
(1) اختار السيد / يسي منصور هذه الفقرة والفقرة المشار إليها في الهامش السابق للتعليق عليهما من ص 71 حتى 79 من الجزء الثالث من كتابه بيان الحق وإذ كانت هذه الفقرة بدورها كالفقرة السابقة لا تتضمن رأيا شخصياً لي فلست أري هنا أيضاً محلاً لتناول رده عليها ، ومن الطريف أن أشير إلى ما أنهي به رده هذا من قوله ( ولكن أن تتعجب فتعجب للأستاذ منصور حسين الذي يقول أن الإنجيل لم يكن مع المسيحيين منذ نشأن المسيحية لأن الحواريين ألفوا من عند أنفسهم إنجيلاً تسلمه المسيحيون إلى الآن .… وخالف بذلك ما يقوله القرآن نفسه .) ولا أفهم كيف نستخلص هذا الكلام من تلك الفقرة وسابقتها.
(1) كان ما تقدم هو نفس ما ورد في الطبعة الأولى من هذا الكتاب ومع كل هذا الوضوح فيما كتب ، بما لا يتحمل أي لبس أو غموض فيما قصدت ، يبدأ القمص باسيليوس اسحق رده على في كتابه الذي سماه الحق ، وكتب هذا العنوان داخل دائرة تصدر منها أشعة كأنما هو الحق الساطع كالشمس ، بدأ هذا الرد في أول الباب الأول من كتابه هذا بقوله ( بدأ الكاتب كتابه بالطعن في الكتاب المقدس بالتزوير وحجته في ذلك أن القرآن بشر برسول يأتي بعد المسيح اسمه أحمد ولم يوجد في الكتاب المقدس - العهد الجديد - شيء من ذلك ... ولذلك يجب إسقاطه من الاعتبار ، ثم عاد في صفحة أخرى ، وقال أن بالكتاب المقدس أخطاء وتزوير ولا يمكن للمسلمين أن يعتبروه كتاباً صحيحاً . ثم يتحدث بعد ذلك عن إنجيل آخر اسمه إنجيل برنابا ينفي عن المسيح ألوهيته ، وصلبه ، ويبشر برسول اسمه أحمد ... ) وعلى مدي ثلاثين صفحة من الكتاب يرد على هذه العبارات ، ولا أحسب أن لي أن أرد على رده هذا ، فهو يرد على ما ليس لي ، وإن كان لي أن أعلق على العبارة السابقة ، فهو أني ما كنت لأتخيل أن أحداً يتصدي لأمانة الكتابة ، فوق حمله لرسالة دينية ، يرضي بأن يكون هذا هو سبيله ، ولا أزيد .(2/133)
(1) مع هذا الوضوح القاطع المانع لأي لبس ، من افتراضنا أن الأصل في الأناجيل المتداولة صحتها ، يجد القمص باسيليوس أسحق الجرأة ليقول أني بدأت كتابي بالطعن في الكتاب المقدس بالتزوير (الهامش السابق).
(1) يعلق السيد / يسى منصور في كتابه بيان الحق - الجزء الأول - ص 53 إلى ص 55 على ما ذكرته من المزمور التاسع بقوله :
( وقبل كل شيء أريد أن يستقر في الأذهان وليعرف الأستاذ منصور حسين أن داود كاتب سفر المزامير كانت حياته كلها مليئة بالضيقات والإضطهادات وكثيراً ما وصل إلى حافة الهاوية وكانت بينه وبين الموت خطوة صم 20 : 3 - ثم ذكر ما يراه أمثلة لذلك وأضاف - وكانت تعزيته في كل هذه المواقف الحرجة هي أناشيده ومزاميره التي كان يكب فيها قلبه ويعبر عن إيمانه وثقته بالله .
أما الأستاذ منصور حسين فبعد أن قرأ هذه المزامير حملها معان قريبة من معانيها .
فصلوات داود المستجابة والنجاة التي أحرزها والعقاب الذي حاق بأعدائه أمور معروف أمرها أنها خاصة بداود ، فلا يجوز أن نستنتج منها تعسفاً - كما استنتج منها الأستاذ منصور حسين - أن المسيح لم يصلب ونجا كداود . لأن هذا ليس من المنطق في شيء .
تماماً كما لو كذبنا قصة الإنجيل من قتل هيردس ليوحنا المعمدان إدعاء بنجاة يوحنا المعمدان من يد هيرودس لأن داود نجا من يد شاول .
فهل يقبل أحد هذا المنطق السخيف الذي يفترض مقياساً سقيماً تكذب نتيجته وقائع التاريخ ؟
ولنذكر مثلاً الآية التي أوردها من أقوال داود النبي " الشرير يعلق بعمل يديه " من 9 : 16 ، فقد فسر هذه الآية تفسيراً تعسفياً فقال بالحرف الواحد " إنما هو يهوذا الاسخريوطى الذي يعرف منه الجميع بالشرير ... هو الوحيد الذي يكون قد علق بعمل يديه "
وفات سيادته أن هذه الآية " الشرير يعلق بعمل يديه " هي كلمة مطلقة تدل على أن الشرير أعماله تتبعه وهو يتحمل ذنبه .)(2/134)
ثم ضرب السيد / يسي منصور مثالين قال عنهما أنهما اختبار داود مع أعدائه مما أوحى إليه بهذه الآية ، واستطرد قائلاً : ( وفي مجرى التاريخ لما رأي يهوذا أنه قد دين بتسليمه المسيح للصلب ندم ورد الثلاثين من الفضة ومضى وشنق نفسه . مت 27 : 5 .
وألوف الناس اليوم يعلقون على المشانق لأنهم قتلة .
فشنق يهوذا لم يعف المسيح من الصلب بل جاء دليلاً على حدوثه ، لأنه لولا تسليمه المسيح للصلب لما شنق نفسه أمام المسيح فانتصر بقيامته من الأموات.)(2/135)
وأول ما أشير إليه بالنسبة لهذا التعليق ، أن يوحنا المعمدان يختلف عن المسيح بالنسبة لسفر المزامير ، فهذا هو السفر الذي يقول فيه المسيحيون - كما وجدنا في الفصل الثاني من الباب الثاني من هذا الكتاب - أن المسيح قد ظهر فيه واضحاً جلياً في كمال مجده كأنه الإنجيل يتكلم عن يسوع من كل من مناحي حياته من أعماله وأقواله وتعاليمه وظروفه وأحواله ، وهو السفر الذي اقتبس منه العهد الجديد نصف الاقتباسات التي اقتبسها من العهد القديم كله ، وهو السفر الذي يقتبس منه المسيح كثيراً ويطبقه على ذات نفسه مستلفتاً النظر إلى اعتباره سفر مسيا الخاص وهو السفر الذي لم يوجد كتاب ملئ بالإشارات والرموز والنبوءات عن المسيح أكثر منه ، وهو السفر الذي يقول عنه السيد / يسي منصور نفسه في صفحة 35 من الجزء الأول من رده ، أنه معلوم أنه يسمي عند اليهود والمسيحيين سفر المسيا وأنه يتكلم عن شخصية المسيح بالتفصيل وفي غاية الجلاء والوضوح ، ولهذا فيوحنا المعمدان وغيره يختلفون تماماً عن المسيح بالنسبة لهذا السفر من ناحية ، ومن ناحية أخرى فقد شاء السيد / يسي منصور في تعليقه أن يفصل بين ما سماه الصلوات المستجابة في المزمور ، وبين الآية التي تقول أن الشرير يعلق بعمل يديه ، مختاراً أن يستقل بالرد على كل منهما على حدة ، ولا أفهم كيف يفرق بينهما على هذا النحو وقد جمعهما المزمور معاً بحيث تكمل كل منهما الأخرى ، فإذا كان سيادته يري في آية أن الشرير يعلق بعمل يديه أنها مطلقة تدل على أن الشرير أعماله تتبعه وهو يتحمل ذنبه ، كالألوف الذين يعلقون على المشانق لأنهم قتلة ، فإنه لم يقتل لنا ، هل كل من يشنق لأنه قاتل يقابله آخر تآمر عليه هذا القاتل فدعا الله أن يخلصه فاستجاب له ورفعه من أبواب الموت ، أنني لم أستدل على صلب يهوذا بدلا من المسيح من آية واحدة من المزمور ، وإنما آياته مترابطة معاً ، فمن ناحية هناك الآية ( يا رافعي من أبواب الموت(2/136)
) ، ويقابلها من الناحية الأخرى ( الشرير يعلق بعمل يديه ) ،وهما مترابطتان تكمل كل منهما الأخرى ، وهذا الترابط هو ما هرب منه السيد / يسي منصور بإفراده رداً مستقلاً على كل جانب من جانبي الصورة في المزمور لأنه لو ربط بينهما ، سيستحيل عليه أن يقول كل شرير يهلك نتيجة لشره ، يقابله بار يخلصه الله ، ولن يجد تطبيقاً لذلك سوى تخليص الله للمسيح عليه السلام ورفعه إليه وصلب يهوذا الاسخريوطى بدلاً منه فعلق بذلك بعمل يديه ، وهذه الصورة هي التي تتطابق مع معنى المزمور ، وقد وجدنا مثيلاً لها في المزامير السابقة ، من تقابل بين بار يخلصه الله وشرير يقع في الحفرة التي حفرها ، وهذا أيضاً هو ما سنجده في مزامير تالية ، أما عن شنق يهوذا لنفسه ، فستلي الإشارة إليه في متن الكتاب .
(1) يعتقد المسيحيون بأن المسيح بعد أن صلب ودفن قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام وصعد للسماء .
(1) على هذه الأهمية البالغة التي أعطيتها لهذا المزمور في الطبعة الأولى من هذا الكتاب تلك الأهمية التي لا تخفي على أي قارئ ، وعلى أن السيد / يسي منصور خصني بأربع كتب يرد بها على هذا الكتاب ، إلا أنه رغم هذا أغفل اغفالاً تاماً الرد على ما ذكرته بالنسبة لهذا المزمور ، وللقارئ أن يقرر ما إذا كان هذا المزمور ضئيل الأهمية في هذا البحث إلى حد أن لا تتسع له أربعة أجزاء نشرت للرد على الكتاب ، أم لأمر آخر لم يرد عليه السيد / يسي منصور للقارئ وحده أترك أمر استخلاصه .
أما القمص باسيليوس اسحق فقد رد على قائلاً من ص 84 - 86 من كتابه :(2/137)
( معنى كلمة مسيح : استند أحد الكتاب على الآية الواردة في المزمور 20 : الآن عرفت أن الرب خلص مسيحه ، ظناً منه أن كلمة مسيح قصد بها المسيح بأل التعريف . وهذا خطأ إما أن يكون عن جهل يكتب النصاري وأقحم نفسه فيما لا يعرف ، وإما أن يكون عن قصد لتضليل الجهلاء ..... والله أعلم بما تخفيه الصدور . مسيح أي ممسوح .... وكلمة مسيح لقب أطلقه اليهود على كهنتهم وأنبيائهم وملوكهم لأنهم كانوا يمسحون بالدهن المقدس عند تكريسهم لوظائفهم السامية . وفي مسح الكهنة : راجع خر 20 حيث أمر الله موسى بمسح هرون وبنيه كهنة . وفي مسح الأنبياء : راجع امل 19 حيث أمر الله ايليا النبي بمسح اليشع نبياً خلفاً له ، وفي مسح الملوك : قد أمر الله صمويل بمسح شاول ملكاً ، وأيضاً بمسح داود ملكاً ، وأمر اليشع بمسح ياهو ملكاً . وبذلك يسمي الملك الممسوح مسيح الرب .(2/138)
ومن أمثلة ذلك قول داود للرجل العماليقي الذي قتل شاول الملك : ( كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب .......... ) وقول ابيشاي لداود الملك عن شمعي عندما تجرأ على الملك وسبه : ( ألا يقتل شبعي لأجل هذا لأنه سب مسيح الرب) ، وقصد بمسيح الرب في الحالتين : الملك . لأنه مقلم من الله ......... رو 13 ولأنه ممسوح بالدهن المقدس . وفي هذا يقول داود في صلاته : برج خلاص لملكه ، والصانع رحمة لمسيحه لداود نسله إلى الأبد مز 19 . وفي مز 2 . يتكلم عن مؤامرات الملوك والرؤساء عليه .......... فيقول : " قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء على الرب وعلى مسيحه ، وقصد بذلك الملك ........ ولنشرح الآية التي استند عليها الكاتب في نفي الصلب عن المسيح ، وتوهم أنه سرعان ما قد توصل بسهولة ويسر إلى توكيد نفي الصلب . ( الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه .........) مسيح .... أي الممسوح بالدهن .... وهكذا جميع الآيات التي وردت في التوراة عن مسيح . عبر عنها بما معناه ممسوح . ولو كان قصد بها المسيح لقال المسيا كما ذكرها دانيال في ص 9 عندما تنبأ عن مجئ المسيح له المجد .).
أما ردى على هذا فبسيط ، فعن جهلي بكتب النصارى وإقحام نفسي فيما لا أعرف فيكفيني في شأنه ما أوردته بعد المزمور مباشرة من تعليقات على المزمور من كتب النصارى نفسها لم أكن قد أوردتها في الطبعة الأولى من هذا الكتاب ، وفي هذه التعليقات نفسها ما يكفيني رداً على كل هذه الأقوال .(2/139)
(1) يرد القمص باسيلوس اسحق في كتابه (الحق) ص 86 ، 87 على ذلك بقوله موجهاً الخطاب إلى : ( أما عن الأوصاف التي ذكرتموها الواردة في مز 22 : متروك من الله ودودة لا إنسان ، وعار عن البشر ، ومحتقر الشعب . وأن الأشرار اكتنفوه وثقبوا يديه ورجليه ، وقسموا ثيابه بينهم ، واقترعوا على لباسه .... كل هذا قصد به المسيح ، ولم يقصد به يهوذا ، وهذا لكي يعرفنا داود النبي ما سيتم يوم الصلب ، ووصف في نفس المزمور 22 ما يشير إلى أن المقصود بهذا الكلام إنما هو الملك مسيا العظيم وأن مجده يعقب اتضاعه وأن كل ممالك العالم تصير رعيته ، وكل قبائل الأرض تسجد قدامه ) قال سيادته هذا ولم يزد . واعتبر أنه قد رد على ، ولعله يرى أني لذلك لابد مفحم ، وأترك للقارئ تقدير هذا الرد مكتفياً بما في المتن .(2/140)
(1) يرد السيد / يسي منصور في الجزء الأول من كتابه بيان الحق من صفحة 45 على ذلك بقوله : ( اعترف الأستاذ منصور حسين في كتابه (دعوة الحق) أن كل ما جاء في مزمور 22 هو نبؤة صحيحة عن الصلب ، وأذن كل ما كتبه البشيرون الأربعة عن المصلوب مستشهدين بآيات المزمور 22 هو صحيح ولكنه ادعي تعسفاً أن المصلوب هو يهوذا . فقد استبعد أن ينطبق على المسيح القول الوارد في المزمور 22 : 6 ( أما أنا فدودة لا إنسان عار عند البشر ومحتقر الشعب) وفاته أن المسيح له المجد (أخلي نفسه آخذاً صورة عبد) في 2 : 7 وأنه من فرط تواضعه في إنسانيته المضطهدة المحتقرة من باب المجاز والكناية شبه نفسه (بدودة) كما شبه داود نفسه (ببرغوث) في قوله لشاول الملك ( وراء من خرج ملك إسرائيل ، وراء من أنت مطارد ، وراء كلب مبيت ، وراء برغوث واحد.) 1 صم24 : 14 وعلى هذا المنوال مثل القرآن الدواب والطوير بالناس الذين خلقوا في أحسن تقويم ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) سورة الأنعام : 38 ، وقد شبه أشعياء النبي (إسرائيل) بدودة كقوله (لا تخف يا دودة يعقوب يا شرذمة إسرائيل أنا أعينك يقول الرب وفاديك قدوس إسرائيل . هأنذا جعلتك نورجاً محدداً جديداً ذا أسنان تدوس الجبال وتسحقها وتجعل الآكام كالعصافة) 1 ش 41 : 14 ، 15) ، ورأي سيادته في عنوان المزمور إشارة لقيامة المسيح من الأموات وبالتالي عدم انطباقه على يهوذا ثم أخذ يطابق بين المزمور وواقعة الصلب ، ولا أري معني لما أورده من الأمثلة بعد أن قابل بين تعبير الدودة وفرط التواضع في إنسانية مضطهدة محتقرة كما يقول ، واكتفي أيضاً بهذا التعليق اكتفاء بما ورد في المتن وبما سيلي في المبحث الرابع من الفصل الرابع .
(1) في التعليق على ما كتبت عن هذا المزمور يقول السيد / يسي منصور في كتابه بيان الحق من ص 56 - 60 من الجزء الأول :(2/141)
( وأخيراً لا يفوتني أن أذكر مزمور 69 فهو بين المزامير أشهر من نار على علم في التنبؤ عن صلب المسيح ، ولكن الأستاذ منصور حسين كعادته في جعل النور ظلاماً يقول (والمزمور من أوله إلى آخره يؤكد اليأس واقتراب النهاية . وهو إنما إلى يهوذا الأسخريوطي دون المسيح ... والحقيقة هي عكس ما يقول تماماً . فهذا هو العهد الجديد يقتبس ما لا يقل عن أربع آيات من هذا المزمور ، تشير إلى ذات المسيح . فأولاً - المزمور يقول ( أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب ) والمسيح نفسه قال إن ذلك مكتوب عنه كقوله (لكي تقم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب ) يو 15 : 25 ، ثانياً - المزمور يقول (لأن غيرة بيتك أكلتني ) وقد فهم الرسل أن ذلك عن المسيح ، كقول يوحنا البشير (فتذكر تلاميذه أنه مكتوب غيرة بيتك أكلتني ) يو 2 : 17 ، وثالثاً : المزمور يقول (تعبيرات معيريك وقعت علي ) ، وقد أوضح بولس الرسول أن ذلك عن المسيح كقوله (لأن المسيح لم يرض نفسه كما هو مكتوب تعبيرات معيرك وقعت علي ) ، ورابعاً - المزمور يقول ( ...... ، ويجعلون طعامي وفي عطشي يسقونني خلاً ) ، وقال يوحنا في ذلك (فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان ، وكان آناء موضوعاً مملوءاً خلاً ، فملاؤا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه فلما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل ) يو 19 : 28 ، ومع كل هذا فيدعي الأستاذ منصور حسين أن هذا المزمور كله عن يهوذا .
ونحن نسأله من نفس هذا المزمور إن استطاع أن يجيب :-
1- هل يهوذا احتمل العار من أجل الله ؟ وهل هو الذي يقول (من أجلك احتملت العار ) (7).
2- هل يهوذا وسيط بين الله والناس لنجاتهم ؟ وهل هو الذي يقول (لا يخزي بي منتظروك يا سيد رب الجنود . لا يخجل بي ملتمسوك يا آله إسرائيل ) (9) .
3- هل يتصف يهوذا بالغيرة على بيت الله ؟ وهل يقول (غيرة بيتك أكلتني ) ؟ (9).(2/142)
4- وهل يهوذا احتمل التعبيرات الموجهة لله ؟ وهل هو الذي يقول (تعبيرات معيريك وقعت علي ) ؟ (9) .
5- هل نال يهوذا رضي الله ؟ وهل هو الذي يقول (أما أنا فلك حلاتي في وقت رضي ) (13).
6- وهل يهوذا طرده الأشرار وشمتوا في جراحة فاستحقوا سخط الله وغضبه ؟ وهل هو الذي أعداؤه يهددهم الله بأشد اللعنات والويلات فيقول ( لتصر مائدتهم قدامهم فخا وللآمنين شركا. لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائماً صب عليهم سخطك وليدركهم حمو غضبك . لتصر مائدتهم خراباً وفي خيامهم لا يسكن ساكن . لأن الذي ضربته أنت هم طردوه ويوجع الذين جرحتهم يتحدثون . اجعل إثماً على أثمهم ولا يدخلوا في برك. ليمحو من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يكتبوا ) ( مز 69 : 22 - 27.)
7- وهل رفع خلاص الله يهوذا ؟ وهل هو الذي يقول (خلاصك يا الله فليرفعني )؟ (مز 69 : 29).
8- وهل انتصر يهوذا وقدم لله تسابيح وفرح معه الودعاء ؟ وهل هو الذي يقول (اسبح اسم الله وأعظمه بحمد فيستطاب عند الرب أكثر عن ثور بقر ذى قرون وأظلاف . يري ذلك الودعاء فيفرحون . تحيا قلوبكم يا طالبي الله )؟ (مز 69 : 30 - 32).
9- وهل يهوذا يعود الخلاص إلي إسرائيل ؟ وهل هو الذي يقول (لأن الله يخلص صهيون ) ؟ (مز 69 : 35).
وإذا كان هذا المزمور بعد أن تحدث عن الآلام يختتم بكلمات : الخلاص ، الرفعة ، الفرح ، الحياة ، الملك ، السبح ، التعظيم ، الحمد ، المحبة ، مما يتفق مع آلام المسيح وأمجاده ، فكيف يدعي الأستاذ منصور حسين أن المزمور يبتدئ باليأس وينتهي باليأس ؟
وأما الآيات الواردة في هذا المزمور والتي ظن أنها تناسب يهوذا أكثر من غيرها إنما هي لا تنطبق إلا على المسيح . وهذه هي الآيات مع شرحها :-
1- ( صرت أجنبياً عند أخوتي وغريباً عند بني أمي ) ، ومفهومها الحقيقي هو أن المسيح جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله فتنكروا له كشخص غريب .(2/143)
2- ( بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك ) ومفهومها الحقيقي هو أن المسيح كان يمثل الخطاة وينوب عنهم . فطلب الرحمة أن تأتي للبشر في شخصه عن طريق قيامته المعبر عنها في أشعياء (مراحم داود الصادقة) اش 55 : 13 ع13 : 34 والتي قال فيها بطرس الرسول (حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حى بقيامه يسوع المسيح من الأموات) 1 بط 1 : 3 .
3- (حينئذ رددت الذي لم اخطفه ) ، ومفهومها الحقيقي هو أن المسيح لوداعته المتناهية كان يسلم في حقوقه . فمثلاً لما طلبوا منه الجزية في كفر ناحوم دفعاً لكي لا يعثرهم مع أن له مطلق الحرية ألا يدفعها ... وقد أوصي أتباعه أن يضحوا بحقوقهم المادية في سبيل خلاص نفوس أعدائهم فقال (من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً) مت 5 : 4 .(2/144)
هذا هو الحق فعلته على رؤوس الأشهاد ، ليؤمن به من أراد الإدمان وليتحرر به من أراد الحرية .) وأول ما نلاحظه على هذا الرد أنه يختار النتيجة التي انتهيت إليها ليحاول الرد عليها دون الأسباب التي استندت إليها في الوصول إلي هذه النتيجة حتى أن من يطالع هذا الرد ليكاد يتخيل أني لم آت أسباباً لهذا الذي يرد عليه ، ولا يغير من ذلك أنه أورد ثلاث آيات قال أني رأيتها تتناسب مع يهوذا دون المسيح ، إذ اقتصر علي إيرادها دون ما استندت إليه في نسبتها إلي هذا دون ذلك وهو ما قد يترك نفس الانطباع لدي القارئ ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن أهم ما استندت إليه في نسبة هذا المزمور ليهوذا دون المسيح هو ما ورد على لسان المتحدث فيه مخاطباً الله أنه - أي الله - عرف حماقته وذنوبه عنه لم تخف وعرف عاره وخزيه وخجله ، ولاشك أن العجز عن الرد ما جعله يتغاضي عن أهم ما استندت إليه فلم يجد سبيلاً إلا أن يتجاهله ، ولكن هل ينفي ذلك التجاهل وجود هذه الآيات في ذلك المزمور ، وأنه ليكفيني رداً عليه أن أتحداه أن يذكر لنا حماقة المسيح وذنوبه ويبين لنا عاره وخزيه وخجله هذا أمام الله لماذا كان ، ويقيناً لن يستطيع ، بل لن يجرؤ أن ينسب للمسيح ذنباً واحداً يكفله بالعار والخزي والخجل أمام الله علي هذا النحو ، ومع كل هذا ، فلنتناول رده ، فهو في شقه الأول يدلل على رأيه بأن العهد الجديد أشار إلي أن هذا المزمور تنبأ عن المسيح ، والرد على هذا بسيط ، فمن ناحية أشرت أنا إلي ذلك صراحة في متن الكتاب ، ومن ناحية أخرى ، فإنه وإذ ورد في العهد الجديد الإشارة إلي هذا المزمور باعتباره يتنبأ عن المسيح ، وثبت أمامنا أنه إنما يتنبأ عن يهوذا ، فلا يدل ذلك على شيء سوى على خطأ ما ورد في العهد الجديد من ذلك ، وأما الأسئلة التسعة التي أوردها ، فإننا يجب أن ننظر إليها في ضوء الصورة التي أقول بها عن تخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض على يهوذا(2/145)
ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، فيهوذا بغير شك أول من تجلي له جلال الله وقدرته بتخليص المسيح ، وإذا رأي بعينيه معجزة تخليص المسيح والقبض عليه بعد ذلك ومحاكمته علي أنه المسيح ، محتملاً عار صلبه ، بل ودون أن يحاول أن ينبه الأعداء إلي أنه ليس المسيح ، فمن أجل من هو هنا يحتمل العار غير الله ، وهو ما ورد في السؤال الأول ، أما الآية في السؤال الثاني فهي دعاء على لسان المصلوب ولا تتضمن أي تنبؤ وله أن يري في نفسه ما يشاء ، ولعله يري في نفسه ذلك لقبوله الصلب عوضاً عن المسيح بعد أن رأي معجزة ربه ورفعه ، أما السؤال الثالث فلا أفهم لم لا يري يهوذا ذلك في نفسه بعد قبوله الصلب على هذا النحو ، وعن السؤال الرابع فقد رأينا أن ذلك - كما يقول المسيحيون أنفسهم - رمزاً لما كان مع المصلوب من الناس حوله ، والسؤال الخامس يحمل الآية ما لا تحتمله ، فإن القول " في وقت رضي " ، لا يعني نوال الرضا وإنما هو يطلب أن يستجاب دعاؤه في وقت رضا عنه لأنه في غير هذا الوقت لن يستجاب له ، وقد وجدنا أنه لم يستجب له ، فأين هو الرضا ، أما السؤال السادس ، فالطرد والشماتة للمصلوب ، أيا كان ، وأما باقي السؤل فدعاء على لسان المصلوب ، ومن صلبوه ، ويراهم اعداءه هم أنفسهم من أرادوا صلب المسيح بالتالي ، فليس في مثل هذا الكلام ما يصرفه إلي المسيح دون يهوذا ، فالأعداء في الحالتين لا يختلفون ، وهم مستحقون في الحالتين لكل هذا الدعاء عليهم ، أما السؤال السابع فنري فيه يهوذا يدعو الله أن يخلصه برفعه ، فلم يختار هذه الصورة لدعائه لله أن يخلصه إلا أن يكون قد رأي معجزة الله برفعه لمسيحه فسأل الله أن يخلصه كما خلص المسيح ، ولكن الله لا يرفعه ، لأنه ليس المسيح وإنما يهوذا خائنه ، وعن السؤال الثامن ، فإننا لا ننسي أن يهوذا كان أولاً من تلاميذ المسيح والذي يري المسيحيون أنفسهم فيه أنه ينطبق عليه قول المزمور الحادي والأربعون (رجل سلامتي الذي(2/146)
وثقت به أكل خبزي رفع علي عقبه .) فهو قبل خيانته كان رجل سلامة المسيح الذي وثق به فماذا يمنع أن يقول هذا عن نفسه أنه يسبح اسم الهل ويعظمه بحمد ... الخ ، أما السؤال التاسع فليس في آية (لأن الله يخلص صهيون .) ما يجعل يهوذا يعود الخلاص إلي إسرائيل لو كان هو الذي يصلب وليس المسيح ، وأما الكلمات الأخيرة للمزمور ، فليس لي في شأنها إلا أن أحيل القارئ على المزمور نفسه فيقرأها ليري أنه ليس فيها ما يحاول الكاتب الإيحاء به من معان ، وأما الآيات التي أوردها فيكفي رداً عليها ما أوردته في المتن وتجاهله الكاتب ، فقط أسأل من يصدق لو أن المسيح هو من صلب يفكر على الصليب في أنه دفع جزية ، وأين هي الجزية في (رددت الذي لم أخطئه) .(2/147)
(1) كعادته في رده في أجزائه الأربعة ، لا يري السيد يسي منصور ما يرد به على ما قلت بالنسبة لهذا المزمور سوي أن يتجاهله فلا تتسع له أجزاءه الأربعة ، وكأنما هو بهذا يحسب أنه يطفئ نور النبوة في المزمور والواقع أنه لا يفعل سوى أنه يحجب ذلك النور عن عينيه وحدها ، أما القمص باسيليوس إسحق فيرد على ذلك في ص 59 من كتابه ولكنه يقول عجباً ، إذ يقول : ( قال داود في مز 109 : فأقم أنت عليه شريراً ، وليقف شيطان عن يمينه ، إذا حوكم فليخرج مذنباً ، وصلاته فلتكن خطية .. لتكن أيامه قليلة ، ووظيفته ليأخذها آخر . ليكن بنوه أيتاماً وامرأته أرملة . واستخلص أحد الكتاب من هذا أن الذي حوكم كان يهوذا ، وليس المسيح ، لأن الله أوقع شبهه عليه .... ودلل بذلك على صحة ما ورد في القرآن عن أن المسيح لم يصلب ... ولكن من أين استدل الكاتب على أن هذا الكلام خاص بشخص معين ... كلا إنما هو كلام موحي به من الله عما يصيب كل متناه في عمل الشر ....... لما كان يهوذا قد تناهي في عمل الشر فقد جوزي بما نطق به الوحي وتم عليه حكم الرب الذي نطق به على الأشرار .) أليس عجباً أن يتساءل هذا الكاتب بعد كل ما كتبته من أين استدللت على أن هذا الكلام خاص بشخص معين ، موحياً بذلك للقارئ بأني قد افترضت ذلك دون سند ، وأما قوله بأني استخلصت كون الذي حوكم كان يهوذا وليس المسيح لأن الله أوقع شبهه عليه ، فهو قول زور لأني لا في هذا المكان ولا في أي مكان آخر غيره قلت بأن الله أوقع شبه المسيح على يهوذا ، كما أني لا أعتقد في ذلك .(2/148)
(1) في رد السيد / يسي منصور علي كتابنا ، أورد في صفحتي 130 و 131 من الجزء الأول من رده ، ما سبق أن قررناه في الفصل الأول من هذا الباب من اتفاق اعتقاد المسلمين مع إيمان المسيحيين في التفاصيل حتى لحظة محاولة القبض علي المسيح وأنه هنا يعتقد المسلمون بأن الله رفعه بينما قبض على يهوذا وحوكم وصلب بدلاً منه بينما يعتقد المسيحيون بأن الذي قبض عليه وحوكم وصلب هو المسيح أيضاً ، ثم يضيف أني تساءلت قائلاً (كيف إذن يستدل المسيحيون على صلب المسيح لا يهوذا ) ، ويحاول بعد ذلك أن يوضح كيفية هذا الاستدلال ، وواضح أنه بذلك يتجاهل كل ما تقدم من بحث بين هاتين العبارتين ، بينما هذا البحث وحده هو عماد الكتاب ، وفيه بطبيعة الحال الرد على استدلالاته ، ولكنه كعادته ، يعبر نحو مائة صفحة بين العبارتين ، ثم يدعي بعد ذلك أنه يرد على ما كتبت .(2/149)
(1) في التعليق علي هذا البحث بدأ السيد / يسي منصور - في الجزء الأول من ص 130 حتى ص 150 - بدأ بإيراد ما انتهيت إليه في الفصل الأول من هذا الباب من اتفاق الصورتين الإسلامية والمسيحية حتى لحظة محاولة القبض على المسيح حيث المسلمون بأن الله قد رفعه حينئذ بينما قبض على يهوذا الاسخريوطي وحوكم وصلب بدلاً منه بينما يعتقد المسيحيون بأن الذي قبض عليه وحوكم وصلب هو المسيح أيضاً ثم قال إني تساءلت قائلاً (كيف إذا يستدل المسيحيون على صلب المسيح لا يهوذا) ، وهي عبارة وردت في مقدمة هذا الفصل ، ثم قال إنه يقدم من نفس الصورة (التي وردت في الأناجيل حسبما يقصد) تسعة عشر برهاناً قاطعاً علي أن الذي رأوه مصلوباً وسجلوا ما سجلوه عنه هو المسيح لا يهوذا ، وكان أول ما استدل به علي ذلك أن يهوذا كان هو نفسه الدليل الذي سلم المسيح لليهود فكيف يقبض اليهود على دليلهم ومرشدهم وكيف يعقل أنهم اشتبهوا فيه على أنه المسيح ، وأضاف قائلاً (ومن يصدق ما قاله الأستاذ منصور حسين (ثم هم جميعاً ، الجمع وقوادهم ورؤسائهم لا يعرفون شيئاً عن شكل المسيح أو ملامحه) ثم يمضي مكملاً هذه البراهين التسعة عشر فنري منها أن المسيح عرف نفسه لمن أتوا للقبض عليه ، وأن بطرس تبعه ، وأنه ورد في إنجيل يوحنا أن سمعان بطرس وتلميذ آخر دخلا مع يسوع إلي دار رئيس الكهنة ، وإن شهوداً شهدوا عليه بالمحكمة - وفاته أنهم شهود زور - ، ويختار حديث الذي يحاكم أمام قيافا في إنجيل يوحنا ، وشنق يهوذا لنفسه ، وكلام المقبوض عليه أمام بيلاطس في إنجيل يوحنا ، وما ذكرته زوجة بيلاطس عنه من أنه بار - ولا أدري قيمة لهذه الشهادة - والنسوة اللاتي تبعنه ، والعنوان الذي كتب عن المصلوب ، والتجديف على المصلوب ، وما ورد في إنجيل يوحنا عن أم المسيح وغيرها بجوار الصليب ، وطلب المصلوب المغفرة لمن صلبوه ، ووعده أحد المصلوبين بجواره بالفردوس ، وما رآه من ثقة المصلوب في الموت(2/150)
حين قال يا أبتاه في يديك أستودع روحي ، وإن من أخذ جسد المصلوب ورد عنهما في إنجيل يوحنا أنهما تلميذان للمسيح ، ثم ما رآه من أن البعض شاهد قيامته من الأموات وظهوره المقال به بعد ذلك لشاول الذي لقب ببولس الرسول ، وأنهي تعليقه بقوله (فهذه كلها شهادات دامغة لشخص المسيح المصلوب . وقد تحقق منه جميع الذين عاينوه أثناء محاكمته ، وصلبه ، وأثناء قيامته ، وصعوده إلي السماء ، ووجوده في المجد. أن هذه الحقيقة واضحة وضح النهار ولله در من قال :- ولا يصح في الأذهان شيء : إذا احتاج النهار إلي دليل )(2/151)
وواضح أن السيد يسي منصور كعادته لا يشير إلي ما استند إليه ، بل هو يتلقف جملة من هنا وجملة من هناك وكأنما أنا أقول ما قلت بغير سند ومن ثم يري المجال فسيحاً لنفسه ليقول ما يشاء ، بل إنه ليورد العبارات التي اكتبها بصورة لا تعني إلا التضليل بما قصدته منها ، فعبارة كيف إذن استدل المسيحيون على صلب المسيح لا يهوذا وردت في مقدمة هذا الفصل بشأن ما قد يثور من اعتراض على الصورة التي انتهينا إليها والتي قامت على أن المزامير قد تنبأت بتخليص الله للمسيح ورفعه إليه والقبض علي يهوذا الاسخريوطي ومحاكمته وصلبه بدلاً منه ، والمقصود بذلك بطبيعة الحال هو كيف يستدلون على أن الذي صلب هو المسيح نفسه لا يهوذا الاسخريوطي ، والعبارة الأخيرة هي عنوان المبحث الثالث من هذا الفصل ، والذي خصصته للرد على هذا التساؤل الذي أشار إليه السيد /يسي منصور ، ولكنه يورد هذا التساؤل في كتابه مطلقاً ، بما يوحي بأني قد أوردته مطلقاً ، بل وهو يؤكد هذا المعني بإجابته التي استند فيها كلها إلي ما ورد في الأناجيل دون العهد القديم وكأني قصدت أنه ليس في الأناجيل مما يفيد صلب المسيح ، ولا أدري كيف يكون بذلك يرد علي ، ثم إن معظم ما أورده في شواهده التسعة عشر قد تناولته بالتعليق سواء في هذا المبحث أو المباحث التالية ، ولكنه ، وكعادته ، يكتب وكأني لم أقل شيئاً هذه الشواهد ، وأخيراً ، فإن الدليل الرئيسي والموضوع الأول الذي دار حوله البحث في هذا الكتاب بالنسبة لموضوع الصلب ، إنما قام أساساً في نبوءات العهد القديم التي وردت في المزامير ، وقد أوردت منها عشرات المزامير ، ومع هذا فلم يتسع رد السيد / يسي منصور على هذا الموضوع في أجزائه الأربعة من كتابه لغير ستة عشر صفحة من ص 45 إلي ص 60 في الجزء الأول من كتابه ، أما هذا المبحث ، والذي لم أورده بحال كدليل علي أن الذي صلب هو يهوذا وليس المسيح ، وإنما ، وكما يبين من عنوان المبحث نفسه ،(2/152)
لنتبين ما إذا كانت الصورة التي انتهينا إليها يمكن أن تكون صحيحة أو لا ، ومن ثم فهذا المبحث ، وبمفرده ليس دليلي على صحة هذه الصورة ، وإنما هو دليلي فقط على أنها يمكن في العقل والمنطق أن تكون صحيحة ، ومع هذا فإننا نري السيد / يسي منصور يفرد له في كتابه واحد وعشرين صفحة ، وعلي هذا فإننا نري السيد / يسي منصور يفرد لها في كتابه واحد وعشرين صفحة ، وعلى النحو السالف بيانه ، والذي لا يمكن لأي باحث أن يعتبره رداً على الإطلاق ، فهو لم يرد على ما قلت ، وإنما ردد فحسب ما ورد في الأناجيل.(2/153)
أما القمص باسيليوس إسحق فيتناول هذا الموضوع في سبع عشرة صفحة من كتابه ابتداء من ص 68 ، وهو بعد أن يذكر آيات من الإصحاح 53 من سفر أشعياء في العهد القديم - وسترد الإشارة إليه في المتن - والآية القرآنية التي تقول بأنهم ما قتلوا المسيح وما صلبوه ولكن شبه لهم .... ، يستطرد فيقول : (وهنا نتساءل : هل صلب المسيح حقاً ، أم أن الله خدع أبصار الناس ؟ وما هي الحكمة في أن الله يخفي خبر هذه الخدعة نحو ستة قرون ثم يري أن يعلن الحقيقة للبشر ، وأن الذي صلب لم يكن المسيح ، وإنما هو شخص آخر أوقع الله شبه المسيح عليه ..... والعجيب أن القرآن لم يذكر من هو هذا الشخص الذي وقع عليه اختيار الله ليوقع شبه المسيح عليه ...... ولماذا وقف الله من شرذمة من عباده هذا الموقف العجيب فيحتال لتنفيذ مشيئته إلي مثل هذه الحيلة التي تتجافي مع العدالة ومع الكرامة ..... وهو القادر ........ ولماذا يرفعه الله إليه ...... ويرونه صاعداً أمامهم فيمجدون الله ..... وبذلك يفتح أمامهم باباً للندم والتوبة ...... ) ثم يمضي فيقول أن الصلب واقعة مادية لا سبيل إلي إنكارها لثلاثة أسباب ، أولها أن التاريخ أيد ذلك - وهذا ما لم أنفيه - ، وثانيهما أن الإنجيل أثبت هذا أيضاً - وهذا أيضاً لم أنفيه - ، وثالثاً أن التوراة تنبأت بصلبه ، - وهذا ما ينفيه الفصل الثالث من هذا الباب - ، ثم يمضي سيادته فيقول : ( ولكن أحد الكتاب يقول أنه بعد ستة قرون جاء نبي الإسلام وقال إن المسيح لم يصلب وإنما رفعه الله إليه ... واستطرد يقول - يقصدني أيضاً - : وما دام القرآن قد نفي هذا وأنه لم يصلب فإنه أصدق نبأ من كلام المسيح نفسه عن صلبه ، وأصدق نبأ من الأناجيل ، ورسائل الرسل ، وذلك لأن الله قال ذلك في القرآن والله لا يخطئ أبداً . ولذا فمهما كان هناك من إجماع على أن المسيح قد صلب فإنه لم يصلب ولكن رفعه الله إليه ما دام القرآن قال كذلك .... ثم يعود الكاتب -(2/154)
وهو يقصدني كذلك - فيقول أن الذي شبه لهم أنه المسيح لم يكن إلا يهوذا ..... وطبعاً على سبيل التخمين والحدس ما دام القرآن أغفل ذكر اسم من صلب عوضاً عن المسيح .... ثم استطرد يقول - يقصدني - وإن كان يهوذا بذاته الذي ساوم رؤساء كهنة اليهود على تسليم المسيح لهم إلا أن مقابلة يهوذا لهم كانت سريعة ولم تكن شخصيته معروفة لهم . ثانيهما : أن المحاكمة كانت سريعة ، وأن يهوذا لم يفصح عن شخصيته للجنود وللناس الذين جاءوا للقبض علي المسيح تحت قيادته أو بمعني أدق تحت إرشاده ، فقبضوا على يهوذا الذي استسلم لهم وقبل حكم الموت راضياً ، وبني نظريته على مجرد هذه الفروض الوهمية ، وسنبين هنا بطلان هذه الافتراضات كلها .......... )
ثم يمضي سيادته فيحاول التدليل من الأناجيل بأن الذي صلب هو المسيح وليس يهوذا ثم أضاف ما سبق أن ذكرناه ، من تعليقه على المزمورين العشرين والثاني والعشرين في صفحات أخرى تالية .(2/155)
وأول ما يلاحظ على رد القمص باسيليوس إسحق هو تزييفه الواضح لما كتبت ، فصحيح أنه قد وردت في كتابي العبارة التي تقول أنه (لذا فمهما كان هناك من إجماع على أن المسيح قد صلب فإنه لم يصلب ، ولكن رفعه الله إليه ما دام القرآن قال كذلك ......) ولكني ، وبخلاف ما يفهم من رد الكاتب ، لما أورد هذه العبارة باعتبارها تمثل رأيا شخصياً لي ، وإنما باعتبارها السبب في اعتقاد المسلمين بعدم صلب المسيح ، كما لم أوردها باعتبارها سنداً لي ، وإنما بالعكس ، فقد رفضت أن يكون سندي افتراض صحة القرآن ، ولهذا فإنه تزييف صارخ أن تنسب لي هذه العبارة وباعتبارها السند الذي استند إليه ، وله الحق بطبيعة الحال أن يتوقع من القارئ المسيحي بعد أن يزيف له ما كتبت علي هذا النحو أن يرفض كلامي ، ولكن هذا القول لم يكن أبداً بكلامي وإنما هو زوراً نسب إلي ، ثم هو يمضي فيدعي بأني بنيت نظريتي على سماه بالفرضين الوهميين ، ويعلم القارئ بأن هذين الفرضين لم يكونا سندي على الإطلاق ، وإنما سندي كان ما تنبأت به المزامير ، وأما هذين الفرضين فلم يردا إلا في سياق بحث ما إذا كان يمكن أن تكون الصورة التي انتهينا إليها صحيحة ، وكزميله السيد / يسي منصور فإنه يستند بعد ذلك إلي رواية الأناجيل دون إشارة لما أوردته بشأنها ، أما المزامير ، فقد سبق أن أوردنا كل ما قاله بشأنها وهو عن المزامير 20 ، 22 ، 109 ، ويمكن للقارئ أن يرجع إلي رده بهامش كل منها ، والغريب أن سيادته يتصور أنه على هذا النحو يكون قد رد على ما كتبت .(2/156)
(1) يقول القمص باسيليوس إسحق رداً على ذلك ص 59 ، 60 من كتابه : ( ورد في مت 27 ما يأتي : فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضي وخنق نفسه . وجاء في ا ع ص 1 : وإذا سقط - أي يهوذا - علي وجهه فانشق .... وانسكبت احشاؤه ...... وظن الكاتب أن هناك تناقضاً بين القولين ولكن لا تناقض البتة . فالأولي ذكرت أنه انتحر أما الثانية فذكرت كيفية الانتحار ....) وهنا أيضاً يظن أنه قد رد علي ، وواضح أن الأولي لم تذكر أنه انتحر فقط ، بل وذكرت كيفية الانتحار بأنه خنق نفسه ، بخلاف الثانية التي لم تذكر أنه انتحر وإنما أتت بوصف يدل على أن موته كان جزاء من الله ، ومن الغريب أنه لكي يحاول أن يجعل كلامه مقبولاً ، لا يكتفي بما أتاه من قبل من محاولات لتزوير كلامي ، وإنما يلجأ هنا أيضاً إلي ما يمكن عده تزويراً على الكتاب المقدس نفسه ، وطبيعي أن الكاتب يستطيع الاستناد إلي آيات متباعدة من الكتاب ويغفل ما بين بعضها لطوله وعدم حاجته إليه اكتفاء بوضع نقط محله للربط بين الآيات أما أن يفعل ذلك في آية واحدة ، باستبعاد كلمات منها ووضع نقط محلها ، مع أهمية هذه الكلمات ، فهذا لاشك أقرب ما يكون إلي التزييف ، ولهذا فنحن نراه قد استبعد من الآية في سفر الأعمال كلمتي : (من الوسط) ووضع مكانها ثلاث نقط ، في غير أدني محل أو مبرر لاغفالها ، ومع أهميتها وقيمتها فيما استندت إليه.(2/157)
أما السيد يسي منصور فإنه يرد على ما قلت ص 168 في الجزء الأول من كتابه بقوله (والجواب - أن قصة متى أن يهوذا خنق نفسه لم ينفها أحد من البشيرين الآخرين بل أيدها بطرس الرسول أمام جميع الرسل وقال (وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم ) أ ع 1 : 19 ، فيهوذا وقت أن شنق نفسه سقط على وجهه وانشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها . فقصة متى وقصة بطرس مكملة أحداهما للأخرى ، ولا تتنافي مطلقاً . قال أحد مشاهير المفسرين (أن يهوذا علق نفسه في أعلي شجرة مغروسة على حافة هوة فوق وادي هنوم ، فانقصف غصن الشجرة وانقطع الحبل فسقط يهوذا وانشقت أحشاؤه كلها كما جاء في سفر الأعمال .)(2/158)
والغريب أن السيد يسي منصور كزميلة يأتي هنا بالآيات بصورة تثير اللبس في حقيقتها لمن لا يعرفها ، فهو يقول أن قصة متى أن يهوذا خنق نفسه أيدها بطرس أمام جميع الرسل وقال وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم ، ومن يقرأ هذا لابد وأن يعتقد أن ما أيده بطرس هو خنق يهوذا لنفسه وبينما وجدنا أن عبارته هذه انصرفت إلي ما قاله من أن يهوذا إذا سقط على وجهه انشق من الوسط وانسكبت أحشاؤه وهذا هو ما قال عنه أنه صار معلوماً عند جميع سكان أورشليم وليس خنق يهوذا لنفسه كما يدعي سيادته ، أما هذه الصورة التي قال بها أحد المفسرين فلا أدري ما قيمتها وليس هناك من سند يؤيدها ، وأما القول بأن القصتين تكمل كل منهما الأخرى ، فلو كان ذلك صحيحاً لوجب ذكرهما معاً سواء في إنجيل متى أو على لسان بطرس أو في القليل في أحدهما ، لأنهما لو كانتا تكملان بعضهما لما كان هناك داع أو مبرر لنسيان كل منهما جانباً هاماً من الصورة وبشكل يوحي ، بل ويقطع ، بتعارضهما ، ثم ما قول السيد / يسي منصور في تفسير القمص باسيليوس إسحق لهذا التناقض ، وأخيراً ، فإني لأعجب وهو يدعي الرد علي ، لم لا يورد في رده التفسير الذي قلت به حتى يستطيع القارئ أن يوازن بين الآراء ويختار ما يعتقد بصحته ، إن كل ما أورده عن لساني بعد الآيتين أنني قلت (شتان بين الروايتين) ، ثم استباح لنفسه أن يرد على هذه الجملة دون أن يوضح كيف رأيت أنا أنه شتان بينهما .(2/159)
(1) ويعلق السيد / يسي منصور على ذلك في الجزء الأول من كتابه من ص 169 - 171 بأنني لم أخذ بقصة الإنجيل المقدس بل بإشاعة اليهود التي تنكر قيامة السيد المسيح وتدعي سرقة الجسد ، وبالطبع لم يكن ما قلته من ذلك أعده دليلاً على غير وجود هذه الإشاعة ، والإنجيل يؤيد ذلك ثم إن احتمال صحتها لا يقوم على وجودها ، وإنما في أن ذلك يتفق مع ما انتهينا إليه في بحثنا من تنبؤ بتخليص المسيح ورفعه وصلب يهوذا بدلاً منه ، ولكن كعادته ، يترك السيد / يسي منصور الأصل ليتعلق بفرع لا أقيم له أنا وزناً سوى في احتمال صحته فحسب وليس كدليل كامل .
(1) يعلق السيد / يسي منصور في صفحتي 159 ، 160 من الجزء الأول من رده على ذلك بقوله : ( وإني أقول أنه لا يوجد في مجموع هذه العبارات أي تناقض . فالبشائر الأربع متفقة في إيراد اسم مريم المجدلية ثم إن مرقس 16 : 1 ولوقا 24 : 10 أورداً اسم مريم أم يعقوب التي يشير إليها متي بالقول مريم الأخرى مت 27 : 56 بمعني أن مريم هذه وردت في الثلاث بشائر . إذا يوجد اتفاق بين كل ما جاء في البشائر عن النساء اللاتي أتين إلي القبر . ولا ننكر أن مرقس قد انفرد بذكر سالومة بينهن ، كما انفرد لوقا بذكر يوفا لو 24 : 10 لكن هذا لا يدل على أن مرقس ولوقا يناقض أحدهما الآخر ، وكل ما في الأمر أن قول هذا يكمل قول ذاك .(2/160)
فسالومة كانت بين النساء في ذلك الصباح كما كانت يوفا أيضاً . ومما تليق ملاحظته أن يوحنا مع أنه لا يذكر إلا مريم المجدلية يشير في كلامه إلي مصاحبة بعض رفيقات إذ يقول أنها لما وجدت القبر فارغاً ركضت إلي بطرس ويوحنا (وقالت لهما اخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه .) يو 20 :2 فقولها (لسنا نعلم) بصيغة الجمع يري أنها لم تذهب بمفردها .) وواضح أن في العبارة الأخيرة تحميل للكلمة أكثر مما تحتمل ، ولو قصد يوحنا ما قاله الكاتب لكان لزاماً ، أن يذكر صراحة أن من ذهبن مريم المجدلية وغيرها ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن يري السيد / يسي منصور أن هذا التناقض ليس فيه تناقض ، فهذا شأنه ، ولكنه بحال لن ينفي هذا التناقض الواضح .
(1) ويعلق السيد / يسي منصور علي ذلك في ص 161 ، 162 من جزئه الأول بقوله (وإني أقول قد اتفق البشيرون الأربعة على أن الملاك دحرج الحجر . وأنه لما جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى حدثت الزلزلة ودحرجة الحجر وقال الملاك لهما حسب قول متي (هلم انظر الموضع الذي كان الرب مضطجعاً فيه ) مت 28 : فذهبتا للقبر علي أثر قول الملاك وتطلعتا فرأتا الحجر مدحرجاً حسب قول مرقس ولوقا ويوحنا فلا تناقض .) وزور جديد ، ولكن واضح هذه المرة ، ينسبه السيد / يسي منصور إلي الأناجيل بقوله أنه قد اتفق البشيرون الأربعة علي أن الملاك دحرج الحجر ، ولا يعني هذا إلا أن الثلاثة ذكروا صراحة كما ذكر متي البشير في إنجيله أن الملاك دحرج الحجر ، ولكن الصحيح أن متي وحده هو من ذكر ذلك أما البشيرون الثلاثة الآخرون فلم يذكر أي واحد منهم من دحرج الحجر ، وهو بمحاولته هذه إنما يؤكد التناقض والذي لم يجد سبيلاً لإزالته إلا بأن ينسب زوراً للبشيرين الثلاثة مرقس ولوقا ويوحنا ما لم يقله أي منهم ، وأما باقي أقواله ، فللقارئ أن يقارن بينها وبين ما كتبت ليعرف أن السيد / يسي منصور لم يزل التناقض بل أكده .(2/161)
(1) يقول السيد / يسي منصور رداً على ذلك في صفحتي 162 و 163 من الجزء الأول من كتابه : (وإني أجيب أن متي البشير قال أن ملاكاً نزل من السماء ودحرج الحجر عن القبر وجلس عليه . وقال للمرأتين أن المسيح قد قام ودعاهما لرؤية القبر الفارغ (مت 28 : 1 - 7) ، ومرقس يذكر أن النسوة لما تطلعن إلي داخل القبر رأين ملاكاً آخر في زي شاب جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فحدثهن أن الرب ليس هنا لأنه قد قام (مر 16 : 5 -6) ، ولوقا البشير يذكر أن النسوة وهن داخل القبر كن محتارات . وإذا بالملاك الذي خارج القبر ينضم للملاك الذي داخله وكان الملاكان يبدوان كرجلين في ثياب براقة فأكدا للنسوة قيامة المسيح حسبما تنبأ (لو 24 : 3 و4) ، وذهبت مريم المجدلية وأخبرت الرسل بما سمعت ولما لم يصدقوها رجعت تتردد على القبر حتى تتحقق الأمر لأنها سمعت عن قيامة المسيح ولكنها لم تره فأخذت في البكاء . ولما انحنت لتنظر داخل القبر وجدت الملاكين جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع . فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين ؟ ثم التفتت فنظرت يسوع (يو 20 : 1 - 18) ، فلا تناقض إطلاقاً بين البشيرين الأربعة .) وهذه الرواية وهذا التسلسل الذي أورده السيد / يسي منصور لها ، هي بغير شك من تأليف سيادته ، فليس في البشائر الأربعة رواية واحدة تؤيدها ، وإنما هو يضم روايات البشائر المتناقضة ليصنع منها رواية جديدة لا يراها تتناقض مع بعضها ، وذلك لا يعنينا بطبيعة الحال ، وإنما الذي يعنينا هو تناقضها مع رواية البشائر الأربعة نفسها ، فطبقاً لرواية سيادته الجديدة ، فإن مريم المجدلية ذهبت إلي القبر مرتان ، ثانيتهما هي تلك التي أشار إليها يوحنا البشير ، وتسبقها تبعاً لذلك تلك التي أشار إليها البشير مرقس ، وإذ كان الثابت في رواية البشير مرقس أن المرة التي أشار إليها كانت الشمس فيها قد طلعت إذ يقول (إذ طلعت الشمس .) ، بينما يقول البشير(2/162)
يوحنا عن المرة التي أشار إليها (باكراً والظلام باق.) ، ولكن نور الشمس هنا يجعل منه السيد / يسي منصور ظلاماً ، إذ هو يراه أسبق من ذلك الذي قال عنه يوحنا البشير (والظلام باق ) ، إذ قبل هذا الظلام لابد وأن يكون ظلاماً مثله ، أو لعله رأي في الظلام الذي أشار إليه يوحنا البشير نوراً أسطع من نور الشمس ولذا رأي وقته تالياً للوقت الذي أشار إليه البشير مرقس بقوله (وإذا طلعت الشمس .) ، وإنه لمن الطريف هنا الإشارة إلي ما سبق أن قاله سيادته عني في تعليقه على المزمور 69 في صفحة 56 من الجزء الأول من كتابه من قوله (ولكن الأستاذ منصور حسين كعادته في جعل النور ظلاماً يقول ....... ) ، ثم إذا كانت هذه الرواية التي ألفها سيادته صحيحة ، فلماذا لم يذكرها كلها أي من البشيرين وهم كما يعتقد سيادته إنما يكتبون بوحي من الله ، وإذا صح هذا الوحي كما يعتقد ، فهل يختلف الوحي بين الملائكة والشباب فيري الملائكة شباناً أو العكس ، ثم إن الواضح الجلي أن الأناجيل الأربعة إنما قصدت الإشارة إلي واقعة واحدة وليس إلي أكثر من واقعة كما يدعي سيادته ، بل وفوق هذا ، فإنه في تعليقه في الهامش السابق إنما قد افترض ضمناً أن الأناجيل الأربعة تتحدث عن واقعة واحدة ، وإلا لما كان اغناه من كل ذلك التعليق بالقول بأن هناك أكثر من واقعة ، ولكن له عذره فإنه أمام تناقض صارخ ليس له حل ، إلا ويتناقض .(2/163)
(1) يعلق السيد / يسي منصور عل ذلك في ص 166 في الجزء الأول من كتابه بقوله : (والجواب أن إشارة مرقس 16 : 8 تفيد وصف حالة النساء وهن راجعات فلم يقفن في بيوت المعارف والأصدقاء ليخبرنهم بما رأين وسمعن إذ كن مرتعدات . ولا ريب أن مرقس لم يقصد بإشارته هذه أن ينفي أخبارهن للتلاميذ لأنه في عدد 7 من هذا الفصل يفيد أن الملاك قال لهن (اذهبن وقلن لتلاميذه وبطرس أنه يسبقكم إلي الجليل ) فإن كانت هؤلاء النسوة لم يخبرن التلاميذ يكون هذا عدم طاعة منهن لأمر الرب على لسان الملاك. الأمر الذي لا يمكن صدوره من نساء تقيات أمثالهن . وفي عدد 10 من هذا الفصل يؤكد مرقس نفسه أن مريم المجدلية ذهبت وأخبرت التلاميذ وهم ينوحون ويبكون مصداقاً لقول إنجيل لوقا 24 : 9 فإذن لا تناقض بين مرقس ولوقا مطلقاً .)(2/164)
وإنها لغريبة جرأة السيد / يسي منصور على الحق ، فأن يقول مرقس البشير (فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة اخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات .) ، أن يقول مرقس البشير ذلك بكل جلاء ووضوح لم يقصد به أن ينفي إخبارهن للتلاميذ ، فبالله فماذا يقول مرقس غير هذا حتى نعرف أنه قصد نفي إخبارهن للتلاميذ ، ثم ما الذي يقصده سيادته من قوله أنه لو أن هؤلاء النسوة لم يخبرن التلاميذ يكون ذلك عدم طاعة لأمر الرب على لسان الملاك الأمر الذي لا يمكن صدوره من نساء تقيات أمثالهن ، هل يقصد من ذلك أن مرقس البشير كذب علينا حين قال هذا الكلام إذن وهو في حل من أن يصدقه ، وإني لقابل ذلك منه إن كان هذا هو قصده ، والغريب أنه يمضي بعد هذا فيغالط مدعياً أن مرقس البشير أكد أن مريم المجدلية ذهبت وأخبرت التلاميذ ، يغالط لأننا نعلم أن هذا الذي ذهبت إليه مريم المجدلية ذهبت وأخبرت التلاميذ عنه بذلك هو واقعة أخرى وهي أن المسيح ظهر لها ، وليس تلك الواقعة الأولي التي نفي مرقس البشير بكل جلاء أنها أو غيرها أخبرن بها أحداً ، وهي ما قاله لهن الشاب الذي لقينه داخل القبر من أن يقلن لتلاميذ المسيح ولبطرس أنه يسبقهم إلي الجليل وهناك يرونه كما قال لهم .(2/165)
(1) في التعليق على ذلك يقول السيد / يسي منصور من ص 163 - 165 ، من الجزء الأول من رده : ( وإني أجيب أنه إذا رتبنا أخبار القيامة حسب وقوعها الزمني لا نجد أي إشكال . ففي أول الأسبوع أول الفجر أتت مريم المجدلية والنسوة اللاتي معها فوجدن الحجر مرفوعاً عن القبر واخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا فلم يصدقوهن لو 24 : 1 - 11 . فخرج بطرس ويوحنا . وكان الاثنان يركضان معاً ، فسبق يوحنا بطرس وجاء أولاً إلي القبر . وانحني فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل . ثم جاء بطرس يتبعه ، ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان علي رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان بل ملفوفاً في موضع وحده . فحينئذ دخل يوحنا الذي جاء أولاً إلي القبر فرأي وآمن . ومضيا إلي موضعهما يو 10 : 2 - 10 ، لو 24 : 12 . أما مريم المجدلية فرجعت مع مريم الأخرى إلي القبر ثانية وكانت عند القبر خارجاً تبكي . وفيما هي تبكي انحنت إلي القبر فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحدا عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين ؟ .... والتفتت إلي الوراء فنظرت يسوع واقفاً .... وقالت له ربوني ... وتقدمت هي ومريم الأخرى وأمسكتا بقدميه وسجدتا له . قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد إلي أبي . فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب يو 20 : 11 - 8 مت 28 : 1 ، مر 16 : 1 - 8 . (فبعد ما قام باكراً في أول الأسبوع ظهر أولاً لمريم المجدلية فذهبت هذه وأخبرت التلاميذ الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون . فلما سمع أولئك أنه حي وقد نظرته لم يصدقوها ) مر 16 : 9 - 11 . ومن هذا البيان نعرف أن ظهور المسيح كان أولاً لمريم المجدلية ومعها مريم الأخرى كما ذكر متي . ولا تناقض مع ما ذكره مرقس ويوحنا أنه ظهر لمريم المجدلية لأنهما لم يتعرضا لذكر مريم الأخرى بالنفي ولا بالإثبات . وكذلك نعرف أن يوحنا ذكر أن المسيح قال(2/166)
لمريم لا تلمسيني ومتي ذكر أنها والأخرى لمستاه ، وهذا لا تناقض فيه ، لأن المسيح قال لمريم لا تلمسيني بعد أن امسكتا هي والأخري بقدميه وسجدتا له .)
وهنا يطالعنا السيد / يسي منصور برواية أخرى من تأليفه ، وهو يبدأ بالقول بأنه في الأسبوع أول الفجر أتت مريم المجدلية والنسوة اللاتي معها فوجدن الحجر مدحرجاً ، هو بذلك يناقض ما قاله هو نفسه في ص 162 من أن ملاكاً نزل من السماء ودحرج الحجر عن القبر وجلس عليه وقال للمرأتين أن المسيح قد قام ودعاهما لرؤية القبر الفارغ ، إذ مفاد ذلك أن دحرجة الحجر كانت في حضور المرأتين وهو ما يناقض روايته الأخيرة ، ثم هو يضيف بعد ذلك مباشرة أنهن أخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا ، وهو عكس ما قرره مرقس البشير من أنهن لم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات ، ثم هو يقول أنهن أخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بينما نعلم عن إنجيل يوحنا أنها مريم المجدلية وحدها وقد ركضت إلي سمعان بطرس والتلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه بالتحديد ولم يذكر أحداً آخر معهما فذهب بطرس والتلميذ الآخر ثم مضي التلميذان بعد ذلك إلي موضعهما تأكيداً لأن الرواية نقلت لهما وحدهما ، ورجوع مريم علي النحو الذي يراه السيد / يسي منصور إلي القبر قول لم تقل به أي من البشائر كما رأينا من قبل ، وأما محاولة التوفيق بين ما قاله متي البشير من أن مريم المجدلية ومريم الأخرى فيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذ المسيح إذا به لاقاهما وحياهما فتقدمتا وامسكتا بقدميه وسجدتا له ، وما قاله مرقس البشر من أن المسيح ظهر أولا لمريم المجدلية ، وما قاله يوحنا البشير من أن المسيح طلب إلي مريم المجدلية ألا تلمسه لأنه لم يصعد بعد إلي أبيه ، وذلك على النحو الذي يقول به السيد / يسي منصور ، فإن هذه المحاولة بعيدة كل البعد عن الصواب ، فهو يقول أنها فيما هي تبكي انحنت إلى القبر ورأت الملكين وسألاها عن سبب بكائها ثم التفتت إلي الوراء فنظرت(2/167)
يسوع وقالت له ربوني ، ونحن نعرف من إنجيل يوحنا أنها لم تعرفه عن فورها وإنما ظنته أولاً البستاني ولما ناداها باسمها عرفته ، والمقطوع به هنا كانت واقفة تتحدث إليه ولم تكن تركض هي ومريم الأخرى ، واللتين ذكر إنجيل متى عنهما أنهما خرجتا سريعاً من القبر راكضتين وفيما هما منطلقتان لاقاهما يسوع فيحاهما فتقدمتا حينئذ وامسكتا بقدميه ، وشتان بين هذه الحالة التي تنطلقان فيها راكضتين ، والحال التي يشير إليها إنجيل يوحنا عن حديث مريم المجدلية إلي من ظنته أولاً أنه البستاني ، ثم لو صح وجود مريم الأخرى مع مريم المجدلية لما كان هناك محل لأن يخفي يوحنا البشير ذلك ، كما أنه لو أنهما أو إحداهما سجدتا للمسيح وامسكتا بقدميه حينئذ ، لما اخفي عنا ذلك أيضاً يوحنا البشير ، بل لوجب عليه ذكره ، وهيهات علي أي حال أن يستطيع واحد أن يأتي بصورة لا يجد في الأناجيل نفسها ما ينفيها ، لا لشيء إلا لعدم صحة كل ما ذكر عن ذلك الأمر .
(1) يعلق السيد / يسي منصور علي ذلك في الجزء الأول من رده ص 167 و 168 قائلاً : (والجواب أن ظهور المسيح لتلميذي عمواس سجله كل من مرقس ولوقا . وقال مرقس (ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم) مر 16 : 12 و 13 وقال لوقا (ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته ) لو 24 : 16 ، والسبب هو تأكدهما أنه مات وعدم توقعهما قيامته فكان المسيح في هذه الحالة غريباً علي أذهانهما . وكما رأي أصحاب أيوب ، أيوب ولم يعرفوه أ ي 2 : 12 وكما رأي الرسل أنفسهم المسيح في العلية فجزعوا وظنوا أنهم نظروا روحاً لو 24 : 37 ، ذلك لأن غرابة الموضوع غطت على المعرفة لأول وهلة . هكذا كان مع تلميذي عمواس . ولكنهما عرفاه عند كسر الخبز لو 24 : 13).(2/168)
والواقع إنني في الطبعة الأولي من هذا الكتاب لم أشأ الربط بين رواية مرقس عن المنطلقين ورواية لوقا عنهما ، لأن الأول قال بظهور المسيح لهما بهيئة أخرى ، بينما لا يفهم من ثانيهما ذلك ، فخشيت إن ربطت بينهما أن يتصدي لي من يقول بأن كل واقعة منهما مستقلة عن الأخرى ، ولكن ، وها قد أغناني السيد / يسي منصور عن التردد في ذلك فربط هو بنفسه بينهما ، ومن قوله أرد عليه ، فما هي الهيئة الأخرى التي ظهر بها إلا أنها شكل أخر غير شكل المسيح عليه السلام ، ورغم هذا فيدعيان أنه المسيح ، لمجرد أنه أخذ منهما الخبز وبارك وكسر وناولهما ، أبداً ، ليس لعقل أن يقول أن هذا ذا الهيئة الأخرى والذي اختفي لمجرد معرفتهما أنه المسيح هو المسيح ، ومن العجب كل هذا الدفاع الذي تقرأه للسيد / يسي منصور في هذا المجال ، مع رفضه المطلق لاحتمال أن يكون يهوذا هو الذي حوكم وصلب بدلاً من المسيح ادعاء بأن شكل المسيح كان معروفاً ومع كل الظروف التي شرحناها ولابست عملية القبض والمحاكمة والصلب .(2/169)
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك ص 23 من الجزء الأول من رده : ( ولكن مما لا يستسيغه عقل على الإطلاق ما قاله السيد منصور حسين أن يهوذا هو الذي حمل ذنب اليهود وهذا قوله بالحرف الواحد ( وبصلب يهوذا يكون قد حمل وحده في الدنيا وزر الذنب الذي ارتكبه شعب اليهود ..... كلهم كغنم ضلوا والرب وضع عليه إثمهم جميعاً ) فهل إذا اشترك اثنان في جريمة وعاقبنا واحداً فقط يتبرر الآخر من العقاب هل هذا منطق يا وكيل النيابة ؟ ومتى نال اليهود السلام والشفاء بموت يهوذا ولا زالت جميع الأجيال تسخط عليهم ؟ . وطبعا هذا قولي لا أنكره ولكن أيضاً هو قد أغفل التفصيل الذي وصلت منه إلى هذا القول ، وفي هذا التفصيل وما تلاه ما يكفي ردا عليه ، ويكفي قولي أنه حمل وزر ذنوبهم في الدنيا ليفهم أني لم أقصد أن أحداً تبرر وإنما جزاؤه كغيره من الأشرار في الآخرة ، وليس في كلامي ما يفيد أن اليهود نالوا أي شفاء ولا أري ذلك
(1) وكعادة السيد / يسي منصور يتغافل عن كل ما استندت إليه واستخلصت منه هذه النتيجة فيشير إلى السطرين الأخيرين فقط في ص 12 من الجزء الأول من رده قائلاً : ( ومع أن التوراة ملآنة بالنبوات عن آلام المسيح وأمجاده ، ومع ذلك فادعي الأستاذ منصور حسين أن التوراة ليس بها شيء من ذلك . وعلى سبيل المثال أدعي أن اشعياء وخاصة في الإصحاح 53 لم يتنبأ عن صلب المسيح ولكن يتنبأ عن صلب يهوذا .(2/170)
فقال بالحرف الواحد (إن هذا الإصحاح إنما يتنبأ عن صلب يهوذا الاسخريوطي بدلاً من المسيح عليه السلام ) ، ويقول في صفحة 17 (من أجله يسد ملوك أفواههم ( - أي أن ملوك الأرض وحكامها لا يجدون أية معارضة ضد المسيح فيسلمون له ويسجدون لشخصه المبارك ..... وأن أشعياء يبين سبب قبول الشعوب للمسيحية فيقول (لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به وما لم يسمعوه فهموه ) - فقد خلت الأمم عدا إسرائيل أجيالاً عن معرفة الله ولم يكن لهم كتاب مقدس ، ولم يسمعوا عن المسيح حتى جاء نور إعلان للأمم لو 2 : 32 وقدم إنجيل الخلاص ليس لليهود فقط بل لكل الشعوب فقبلوا المسيحية على عطش ، وقد علموا بحقائقها وتلذذوا بها بعد أن كانوا يجهلونها . وقد علق بولس الرسول على فتح باب الخلاص للأمم هذا بقوله (بل كما هو مكتوب الذين لم يخبروا به سيبصرون والذين لم يسمعوا سيفهمون) (رو 15 : 21 فهل نصدق اشعياء النبي وبولس الرسول أم نصدق السيد منصور حسين وأوهامه ؟ ، وقال أشعياء النبي (من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب ) ا ش 53 : 1 هذه نبوءة صريحة عن عدم إيمان اليهود بالمسيح .... أن ذراع الرب خلقت الكون وخلصت بني إسرائيل من مصر ولكنها الآن تخلص الجنس البشري من الخطية لا بالوعود والبروق ولكن بالمحبة بالفداء بالصليب ، والصليب هو إعلان ذراع الرب وقوته للخلاص ........) إلي آخر ما كتبه السيد / يسي منصور حتى ص 33 من كتابه ، وهو إذ لم يشر إلى ما كتبته ، يجد المجال فسيحاً ليقول ما يشاء ، والرد على كل ما كتبه بسيط ، فإذا كان هذا الإصحاح لأشعياء النبي يحدثنا عن الصلب فلا مكان فيه لغير هذه الواقعة ، وهو ما وجدته فيه بالفعل ، وبينت مدي اتفاقه مع ما انتهيت إليه ، أما السيد / يسي منصور فلا يستطيع أن يري فيه واقعة الصلب وحدها ، وإلا لأنتهي لما انتهيت إليه ، ولذا يمرح هنا وهناك ، ولكن بغير ما سند يسانده.(2/171)
(1) يتناول السيد / يسي منصور هذا الموضوع بالتعليق في الجزء الأول من كتابه في الصفحات من 75 - 95 ، وهو يري أن آدم قد أخطأ ، وأعطاه الله وعد الخلاص هو وذريته كما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن ، والقرآن براء من هذا الذي يدعيه ، ولا أدري ، إذا كان الله قد أعطي آدم وعد الخلاص كما يري ، فماله ينتظر بتزايد المولدون بالخطيئة بعد عدد من ألاف السنين ، ولماذا لا ينفذ وعده من فوره ، ثم هو يري أن نبوءات العهد القديم تنحصر في أن المسيح يأتي ويخلص العالم ، ويستند في ذلك إلي أقوال لبطرس الرسول ، وهو ليس من العهد القديم ، وإلي الإصحاح 53 من سفر أشعياء ، وقد سبق لنا التعليق عليه ، وإلي آيات ليس فيها شيء من هذا الذي يستنتجه ، وآية في سفر أشعياء النبي تقول ( ويأتي الفادي إلي صهيون وإلي التائبين عن المعصية في يعقوب ....) ، ولا أفهم ماذا في كلمة الفادي هذه يمكن أن يخرج منه بالمعاني التي يقصدها ، ثم هو يري أن الصلب هو جوهر دعوة المسيح وصلب رسالته ، ولقد قلت أنهم جعلوه كذلك ، ثم يقول أن الفداء كان معلوماً لرسل المسيح وهو موضوع رسائلهم الرئيسي ، وقد وجدنا أن ذلك لم يكن والمسيح بينهم وإنما بعد رفعه ، ثم يري أن صفات الله تقتضي وجود الكفارة ، وذلك ما لم يسمع به أحد عن المسيح قبل مجيئه ، ثم هو أخيراً يقول أن الخطيئة تتوارث ويجب الخلاص منها ، ويجيب على تساؤلي عن سبب توارث الناس خطيئة آدم بالذات بأن الجواب معروف بالبداهة ، فقانون الوراثة قانون طبيعي وبحسبه لا يمكن للكائن الحي أن يلد كائناً مغايراً له ، وبما أن آدم الذي ولد منه الجنس البشري فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلق بها وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً ، فكان الأمر طبيعياً أن يولد منه البشر جميعاً خطاة نظيره ، ويري أن الكتاب المقدس يقر هذه الحقيقة والتي أطلق عليها (العلمية) ويري أنه بما أن الخطيئة تتوارث فالله يؤخذ الأبناء بأفعال آبائهم(2/172)
المطبوعة في دم أولئك الأبناء ، وكما ورثنا للخطيئة والموت من آدم الأول لسبب معصيته ، كذلك ورثنا البر والحياة من المسيح آدم الثاني لسبب طاعته وموته الكفاري ، إذن فالخطيئة عند السيد / يسي منصور تتوارث ، فلنتساءل إذن عن مقدار الخطايا التي يرثها الناس اليوم ، وأول أجدادهم السابقين بعد آدم عليه السلام ، قاتل ، وهو قابيل الذي قال عنه الإصحاح الرابع من سفر التكوين أنه قتل أخاه ، وما أكثر القتلة والسفاحين والخاطئين منذ هذا الأب الثاني للبشرية ، الذي تلا آدم ، إلي يومنا هذا ، فأي حمل من الخطايا ورثها الناس اليوم ، أن الأرض كلها لتنوء بحملها ، وإذا كان تخليص البشر من خطيئة آدم المتمثلة في عصيانه لربه بأكله من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها ، اقتضي من الله أن يتجسد وتأنس ويصلب ، فكم إلها يا تري يحتاج البشر لتخليصهم من كل هذه الخطايا الأخرى ، أن صلب ملايين الملايين من الآلهة لليوم ربما لا يكفي ، ولكن ما العمل ، وليس من إله إلا واحد ، أفينتظر سيادته إذن أن يعود ليتجسد ويتأنس ويصلب هذه الملايين من ملايين المرات ، أبداً ، أبداً ، أبداً ، أبداً ، هذا ما لا يقبله أي عقل
(1) يتساءل السيد / يسي منصور في ص 77 من الجزء الأول من رده تعليقاً منه على ما قلته من تفسير قائلاً : ( فكيف لم يكن الصلب من جوهر دعوة المسيح ؟ مع أن المسيح له المجد كان يعتبر نفسه أنه قد جاء من السماء خصيصاً ليخلص الخطاة بسفك دمه الكريم . والرد علي تساؤله بسيط ، فكم هو الوقت الذي أخذ يبشر فيه ويكرز بالإنجيل ، وكم هي الأيام التي استغرقتها واقعة الصلب ، لا نسبة بطبيعة الحال ولا تناسب بين هذه وتلك ، والأولى رسالته الحقيقية ، والثانية امتحان له من الله ، وإن قال أنه سيصلب ، فتأكيد لأن الله يمتحنه ، ولكنه لم يقل أبداً أنه ما جاء إلا ليصلب على النحو الذي انتهي المسيحيون إليه بشأنه .(2/173)
(1) ابتداء من صفحة 116 من الجزء الأول من رده يحدثنا السيد / يسي منصور عن صلاة المسيح عليه السلام في جشيماني ، وهو يحاول وبمجهود شاق ، أن يصور لنا مدي الآلام التي كان يشعر بها المسيح عليه السلام في هذه اللحظات ، ويطوف بنا سيادته هنا وهناك ليعبر لنا عن مدى هذه الآلام حتى ليكاد المرء يحار في شأن كل هذا الجهد ، ولذا به ينتهي بنا منه إلى أغرب ما لا يتوقع ، فإنه في صفحة 123 وينتهي إلى القول (فماذا كان يطلب لاشك أنه كان يطلب النجاة من الموت في البستان فقد كان يخشي أن يموت من فرط الحزن في جثماني قبل الموت في البستان فقد كان يخشي أن يموت من فرط الحزن في جثماني قبل أن يموت على الصليب .... فقد صلي للقادر أن يخلصه من الموت الذي كان يهدد جسمه النحيف المنهوك لسبب آلامه النفسية المروعة غير المدركة التي تركزت في جسده الهزيل حتى جعلت عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض ، فكادت تقضي عليه قبل أن يصل إلى الصليب . فسمع له وعبرت عنه الكأس ولم يمت في البستان ، بل ظل حياً حتى مات على الصليب ، ودفع ثمناً خلاصنا بدمه الكريم . وتوجت نصرته بالقيامة من الأموات .) وكأنما هذا الرأي الجديد الذي يقول به هو أحد رأيين يترجح التفسير بينهما فيستطرد سيادته قائلاً : ( ولا يسعنا هنا أن نغفل الرأي الذي ذهب إليه الكثيرون من أئمة المفسرين الذين يعلقون أهمية خاصة على ناسوت المسيح ، فقالوا : إن المسيح لم يكن خائفاً من الصليب لكن جسده الطبيعي الظاهر الذي لم يعرف خطية اقشعر من الموت الذي هو قصاص الخطية ، كما يقشعر الجسد الطبيعي من الظلام الدامس - وأي ظلام أشد من ظلام الخطية .(2/174)
ولأن المسيح رأي هذا الموت مظهراً لغضب الله عليه ..... ولذا وجب علي الجسد الذي يتجرع كأسه أن يقشعر .. وعليه فطلب المسيح أن تعبر عنه هذه الكأس أمر خاص به كإنسان حقيقي . وكإنسان لا يمكن إلا أن يكره الألم والوجع . وهذا هو أول وأبسط عمل لإرادة الإنسان أن يجفل من الأحزان المحسوسة ويطلب منعها وإبعادها .....) وكما يبدو من رده ، فإنه يحاول إقناع القارئ بأن الرأي الذي يقول به ، هو أحد رأيين ثار الخلاف بينهما ، وهذا غير صحيح ، وأحيل القارئ أولا ً إلى ما أوردته من نصوص الأناجيل عن هذه الصلاة ليعرف يقيناً أن الدعاء فيها كان لتخليصه من الصلب وليس لشيء سواه ، وأقرر أن هذا التفسير الذي أقوله ، هو ما جري عليه إجماع كل الكنائس والطوائف والملل المسيحية نفسها ، وأن هذا الرأي ، غير المقبول اطلاقنا من المسيحيين أنفسهم ، هو رأي وحيد لسيادته لا تقره عليه أية كنيسة من الكنائس ، وإنه ليكفيني اختلاقه لهذا التفسير غير المقبول ، لأعرف قدر الحرج الذي وقع فيه ، وهو يري المسيح عليه السلام يصلي كل هذه الصلاة ، ويدعو كل هذا الدعاء ، ورغم كونه أحق الناس بأن يستجاب له مثل هذه الدعاء ، وبالرغم من ذلك لا يستجاب ، فأراد التدليل على أنه قد استجيب حقاً ، وكما تنبأت المزامير بحق ، ولكن أبدأ ، ليس في هذا الذي تصوره أي استجابة ، وما كان هذا أبداً القصد من الدعاء ، ولا أحسب قارئاً واحداً غير سيادته ، قد يختلف معي في هذا .(2/175)
وكعادة السيد / يسي منصور فأنه يلتقط لي سطوراً متفرقة من أول الكتاب إلى هذا المبحث في صفحتي 96 و 97 من الجزء الأول من رده منها ما قلته في البداية من أن المسلمين يتفقون مع المسيحيين على أن المسيح عليه السلام كان عالماً بأنه سيصلب وبهذا أخبر تلاميذه ، ومنها ما استنتجته هنا من أنه قد يكون قد خفي عليه ما تنبأت به المزامير من أن الله مخلصه ورافعه إليه وأن الله أخفي عليه ذلك مقرراً أنني ادعيت أن الله لم يكن جاداً في وحيه بل كان يختبر المسيح ، وكعادته لم يشأن أن يشير إلى حرف مما استندت إليه ، ورأي المجال فسيحاً أمامه بذلك ليقول ما يشاء فالمسيح عنده هو الله وما دام قد قال أنه سيصلب فلابد وأن يكون قد صلب ، كما أن القول بخفاء ما تنبأت به المزامير عنه لا يتفق مع كرامة المسيح العالم بكل شيء - باعتباره الله طبعاً - ، وما كان لله أن يخفي الحق عن المسيح فيدفعه ليدلي بتصريحات خاطئة ، ويعلم الله أني أحرص على كرامة المسيح عليه السلام ومجده من السيد يسي المنصور ، وما هذا الكتاب إلا لإزالة كل شائبة علقت بكرامته ومجده ، وأما الاستناد في الرد على ما قلته أن المسيح وهو الله ما كان ليخفي عليه شيء ، فذلك رده الباب الثالث من هذا البحث ، وأما عن خفاء ما تنبأ به العهد القديم ومنه المزامير في عهد المسيح عليه السلام ، والذي يمكن أن ينصرف بالغموض الذي أحاط به ، وإلى حد ما إلى المسيح الكريم نفسه ، فيدل عليه أن المسيحيين أنفسهم يقرون بخفاء معني النبؤات إلى رفع المسيح عليه السلام ، وفي ذلك نقرأ في كتاب يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته في صفحتي 11 و 12 منه (وعند مجئ المسيح والأحداث التي مر بها من تعليم الشعب إلى معجزات الشفاء وإقامة الموتي ثم صلبه وقيامته وظهوره للتلاميذ وإرسال الروح القدس إليهم للتبشير باسمه ، كل هذه الأحداث سبق فأعلن عنها الأنبياء وتنبأوا بها في كتاباتهم للشعب ولكن الصورة الواضحة المجمعة(2/176)
لهذه التنبؤات لم تظهر وتأخذ شكلها المحدد لحين مجيء يسوع المسيح المخلص حيث أعلنت لهم التنبؤات الظاهرة عن مجيء المسيح المخلص ولكن التنبؤات الخاصة بأحداث مجيئه إلى العالم وموته وقيامته والخلاص به وغفران الخطايا بالإيمان باسمه ، لم تكن واضحة ولا مفهومة حتى أن اليهود كانوا يعتقدون أن المسيح المخلص سيجيء إلى العالم ليرد الملك لهم أي يخلصهم من حكم الرومان لذلك أعلن يسوع المسيح له المجد عن هذه التنبؤات وعن كيفية تحققها وذلك بعد قيامته من بين الأموات وظهوره للتلاميذ ، لتكون هي أساس اليقين العقلي في الإيمان بيسوع المسيح له المجد ) ومعنى ذلك أن هذه التفسيرات التي استقرت عن النبؤات ونسبت للمسيح عليه السلام إنما نسبت إليه بعد ما قيل عن صلبه ودفنه وقيامته من الأموات ، وقد سبق أن وجدنا مدي تناقض الروايات في هذا الخصوص إلى الحد الذي يهدرها جميعاً كدليل على ظهور المسيح لأي أحد بعد موته ، وبالتالي فلا محل للاستناد إلى ما نسب إليه في هذه الفترة .(2/177)
(1) في التعليق على ذلك يقول القمص باسيلوس اسحق في كتابه الحق ص 61 : ( يقول مرقس إنهن رأينا شاباً في القبر (ملاكاً) وأما لوقا فقال أنهن رأين رجلين بثياب براقة (ملاكين) ومضي يقول أحد الكتاب ، أن هذا التناقض دليل عدم صحة الروايتين .. أن النساء اللواتي ذهبن إلى القبر كن جماعتين ، فاللواتي ذكرهن لوقا اللواتي اشترين الحنوط يوم الجمعة بدليل قوله أنه كان معهن أناس (لوقا 24) أما الجماعة الأخرى فهن اللواتي اشترين الحنوط يوم السبت (واللواتي ورد ذكرهن في مرقس) وأتين لاستكمال فريضة الدفن ، والتي لم يستطعنها يوم الجمعة ..... ولا يلزم أن نفرض أن الفرقتين وصلتا معاً ، كما لا يلزم أن يكون الملاك الذي ظهر للفرقة الأولى التي وصلت أولاً هو هو وليس معه آخر ظهر للفرقة الأخرى ، ولابد أن يكون ملائكة كثيرين معه كما حدث في يوم الميلاد لم يرينهم النسوة ..... أحدي الفرق رأت ملاكاً ، وأما الثانية التي وصلت بعد الأولى رأت ملاكين . ، فأي تناقض في هذا إذن ؟) ، والتناقض هنا أن هذا قولك وحدك بأن هناك أكثر من فرقة وليس فرقة واحدة ، فمرقس البشير قال عن النسوة أنهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة (ص 106) ولوقا البشير يقول (وكانت مريم المجدلية ويوما ومريم أم يعقوب والباقيات معهن اللواتي قلن هذا للرسل .) (ص 24 : 10) ووجود مريم المجدلية ومريم أم يعقوب في الحالتين يعرفنا بأن الفرقة واحدة وليست أكثر .(2/178)
(1) ولكن القمص باسيلوس اسحق يري أن كلا الروايتين صحيحة ، فيقول شرحا لذلك في ص 58 من كتابه الحق : ( في الأولى أن الرجال المسافرين معه كانوا يسمعون الصوت - وفي الثانية لم يسمعوا صوت الذي كلمني ، ظن أحد الكتاب أن هناك خلافاً في النصين ، ولا خلاف بينهما قط ، إن المسيح تكلم مع شاول وحذره من عاقبة أعماله ، وجري حديث بينهما وأجاب بولس السيد المسيح .... فالرجال المسافرون معه سمعوا صوت بولس وهو يتحدث مع السيد المسيح ولكنهم لم يسمعوا صوت المسيح . وفي الثانية الكلام واضح : أن المسافرين لم يسمعوا صوت الذي كان يكلم شاول .... ) وكعادته يأتينا هنا السيد القمص بالجديد الغريب الذي لم يقل به مسيحي قبله ، فليس في المسيحيين من يفسر القول ( يسمعون الصوت ) ، بأن المقصود به صوت بولس وهو يتحدث مع المسيح ، وهو معني لا يحتمله الكلام نفسه ، والذي لا يكون له معني لو قصد به أن الرجال المسافرين سمعوا صوت بولس ولم يروا أحداً ، لأنه لو صح هذا لكان معناه أنهم لم يروا بولس نفسه ، وهذا غير صحيح ، ويدلنا على تفسيره يقول بما قال رداً على ذلك في صفحة 63 من الجزء الثالث من رده : ( وبقليل من التأمل نري أن الروايتين متفقتان على أن الرجال الذين مع شاول نظروا للنور وارتعبوا ووقفوا صامتين ولم يروا شخص المسيح . وأنهم سمعوا الصوت كدوي لكنهم لم يسمعوا الصوت بوضوح ولم يسمعوا شيئاً من كلماته ، فلا تناقض ) وطبيعي هذا قوله ، ولكن الواضح أن عبارة ( يسمعون الصوت ) قصد بها تماماً من سياق الكلام الذي وردت فيه أن الصوت الذي سمع كان واضحاً مفهوماً ، وهذا تماماً ما اضطر السيد القمص إلى القول بأن المقصود هو صوت بولس وليس الصوت الآخر ، فمفهوم رده أن الصوت كان واضحاً ومفهوماً لأنه صوت بولس ، إننا إذ نقرأ في الإصحاح 22 نراه يقول على لسان شاول ( فحدث لي وأنا ذاهب ومتقرب إلى دمشق أنه نحو نصف النهار بغتة البرق حولي من السماء نور عظيم .)(2/179)
(ص 22 : 6) فنفهم من ذلك أن كل ما تراءي وظهر له هو ذلك النور العظيم ، وهو ما رآه أيضاً من كانوا معه حسب قوله ، وهو نفس ما نقرأه في الإصحاح السابع تقريباً ولكن أشير لمن معه إلى أنهم لم ينظروا أحداً ، ولا يعني هذا إلا أنهم لم يروا هذا النور لأن شاول نفسه لم ير غيره ، ويقطع بهذا المعني ما ورد في الإصحاح نفسه بعد ذلك ، من أن شاول لم يعد يبصر بعدها رغم أنه مفتوح العينيين .
(1) ويشير الكاتب في هامش الصفحة تعليقاً على ذلك قوله : ( الدليل على صحة هذا الرأي ما ورد عن تاريخ الكنيسة ليوسابيوس ، في حديثه عن بابياس ، وفيه يشير إلى أن هذه البشارة قد كتبت بعد موت بطرس ، فهو يقول ( أن مرقص تلميذ بطرس قد كتب كل ما استطاع أن يتذكره ) .(2/180)
(1) يرد القمص باسيليوس إسحق على ذلك في ص 52 و 53 من كتابه قائلاً : ( أيها الأخ أرجو أن تعرف ولاشك أنك تعرف أن كلمة إنجيل يونانية عربت هكذا وتعني (أخبار سارة) وهذه الأخبار السارة تسمي إنجيل سواء أكان المسيح هو الذي بشر بها أو تلاميذه ، والمسيحيون يطلقون على العهد الجديد كله كلمة (إنجيل) فكل ما جاء به أخبار سارة وسعيدة . فرسائل بولس وبطرس يطلق عليها إنجيل . ولما قال بطرس الرسول لأهل كورنثوس : لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل (كور 4) قصد بذلك أنهم أولاده في المسيح عن طريق البشارة بالمسيح يسوع ..... ومصداقاً لهذا فإن بولس كتب إلى فليمون ليرسل له أنسيمس لكي يعاونه في خدمة الإنجيل أبان وجود بولس مقيداً في السجن (لكي يخدمني عوضاً عنك في قيود الإنجيل ...... ) وذلك لأن كل رسائل بولس وكرازاته تعتبر إنجيلاً (فل) ثم يضيف سيادته تحت عنوان هل وجدت أناجيل طاردتها الكنيسة (لاشك أنه وجد كتاب في كل عصر من العصور يكتبون عن حوادث عصرهم وتاريخ شعوبهم . وبديهي أنه وجد كتاب يكتبون عصور الأنبياء والرسل . فهل يسوغ لنا أن نعتبر كتب هؤلاء المؤرخين كتباً سماوية لأنها تاريخ حياة المسيح وأعماله ، وهل يجوز لنا أن نحصي بعض منظومات الشعراء الوثنيين ضمن الكتاب المقدس لأن بولس أشار إليها في (أعمال الرسل) ).(2/181)
وللحق أن ما قرره سيادته تحت عنوان هل وجدت أناجيل طاردتها الكنيسة لهو عين الحق ، ولكن ليس فحسب بالنسبة لهذه الأناجيل التي طاردتها الكنيسة ، وهو لم ينف وجودها ، ولكن وأيضاً بالنسبة للأناجيل المتداولة نفسها ، فما الفارق بينها وبين تلك التي طاردتها الكنيسة ، وما الدليل على وحي هذه دون تلك ، وبالطبع لست أقصد من هذا أنها كلها موحي بها كما قد يفهم سيادته ، إنما ما أقصده أنها كلها غير موحي بها ولا أدل على ذلك من أنه ليس هناك على الإطلاق ما يميز تلك التي قبلت عن تلك التي طوردت وأحرقت سوى قبول تلك ومطاردة تلك وإحراقها وقبل أن استطرد في التعليق على باقي رده ، أوضح ما قاله السيد يسي منصور في رده في هذه النقطة ابتداء من صفحة 8 من الجزء الثالث من رده فقد قال هو الآخر موضحاً معني الإنجيل قائلاً (الإنجيل كلمة مأخوذة عن اليونانية ومعناها البشارة أو الخبر الطيب ، وهو الخبر الطيب المختص بيسوع المسيح له المجد .... وأخص هذا الخبر الطيب هو البشارة بالفداء الذي صنعه لنا المسيح بموته وقيامته ، وتسمي هذه البشارة بعدة أسماء ، فهي تسمي 1- إنجيلاً ... 2- بشارة الملكوت ... 3- إنجيل يسوع المسيح .... 4- إنجيل السلام .... 5- إنجيل الخلاص ..... 6- إنجيل الله ....... 7- بشارة نعمة الله ........ 8- إنجيل مجد الله ....... 9- إنجيل المسيح ........ 10- إنجيل ابن الله ............ فهذه الكلمات التي وصف بها الإنجيل - في الآيات التي أوردها قرين كل اسم - لا تعني عدة أناجيل كما ظن المعترضون ، بل هي أسماء وأوصاف للإنجيل الواحد بعينه ... وفات سيادة المعترض أن الإنجيل هو الخبر الطيب وهو هو الذي سر الله أن يعلنه للبشر فسمي إنجيل الله ، وهو هو الذي كرز به المسيح فسمي (إنجيل المسيح) ، وهو الذي كرز به الرسل فسماه الرسل ( إنجيلنا) 2 كو 4 : 3 و 4 - وهو الذي قبله المؤمنون فسمي (إنجيل خلاصكم) - وعليه فنفس إنجيل الرسل هو إنجيل(2/182)
المسيح وهو هو واحد وليس غيره . ولذلك قال بولس الرسول مشدداً (يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح ، ولكن أن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن اناثيما) غل 1 : 7 و 7 . فهذا الإنجيل بعد أن نادي به المسيح شفاها ، وبعد أن كرز به الرسل شفاها ، دونوه كتابة ، حسبما سمعوه من المسيح وشاهدوا وقائعه ، وحسبما أعلن الروح القدس لهم ، وهو نفس الإنجيل الذي بين أيدينا اليوم .)
والسيد / يسي منصور بعد أن طاف معنا بكل الأسماء التي أعطيت للإنجيل انتهي إلى أن الإنجيل فيها كتاباً واحداً ، ونعم ما قال ، وأنا أيضاً لا أري الإنجيل أكثر من واحد أو يجوز أن يكون كذلك ، وأن تكون كلمة الإنجيل في الأصل معناها الخبر الطيب كما قرر أو الأخبار السارة كما عرفنا القمص باسيليوس إسحق ، فليس ذلك بالذي يغير من الأمر شيئاً ، الإنجيل ، أو الخبر الطيب ، أو الأخبار السارة ، سيان كلها وأن يكون هذا الخبر الطيب هو هو الذي سر الله أن يعلنه للبشر فسمي إنجيل المسيح وهو هو الذي كرز به الرسل فسمي إنجيلنا - أي إنجيل الرسل - وهو هو الذي قبله المؤمنون ، ونفس إنجيل الرسل هذا هو إنجيل المسيح وهو واحد وليس غيره ، كل هذا قبله ، أما أن ينتهي من كل هذا إلى أن هذا الإنجيل بعد أن نادي به المسيح شفاهة وكرز به الرسل شفاهة ثم دونوه كتابة وهو الإنجيل الذي بين أيدينا اليوم ، فهنا المغالطة ، فبين أيدينا يا سيد أربعة أناجيل وليس واحد ، وهو بالقطع ليست هذا الذي كرز به المسيح ولا حتى الرسل ، وأما القمص باسيليوس إسحق ، فقد ألبس كلمة إنجيل لكل سفر من أسفار العهد الجديد ، وحتى لو صح هذا ، فأين هي هذه الأخبار السارة بالذات التي كرز بها المسيح واعتبرها إنجيلاً ، أنها بالقطع غير كل تلك الأخبار السارة التي وردت في العهد الجديد . ومن الغريب أن يقول القمص باسيلوس إسحق في صفحتي 45 و 46 من رده وكأنه يلقي بالحجة الدامغة التي ما(2/183)
بعدها حجة : ( ومن العجيب أن مدعي التحريف لم يستطيعوا إقامة الحجة ومن ادعي لزمته الحجة قانوناً ، فدلونا على المتن الصحيح وأين هو في أية بقعة من بقاع العالم وإلا بطلت ادعاءاتكم ... ومتى حدث التحريف يا تري ؟ فماذا قلتم قبل القرآن قلنا وكيف يستشهد القرآن بما هو زور وبهتان ، وإن قلتم بعد الإسلام أي بعد القرن السابع قلنا إن هذا مستحيل لأن الكتاب كان قد انتشر في العالم كله شرقاً وغرباً ، وكل النسخ في كل الأرض متشابهة لفظاً ومعني .... ولم توجد نسخة واحدة مغايرة لغيرها من النسخ ). وصحيح في القانون أن البينة على من ادعي ، ولكن فات سيادته أن الادعاء الأول هو القول بصحة الأناجيل المتداولة وهذا ما تلزم البينة على من ادعاه أولاً ، على أني لست أهرب من البينة ، وأصحح أولاً فهما في تساؤله عن التحريف ، فالادعاء بالتحريف يفترض أن ما هو موجود هو الأصل نفسه ، ثم جري عليه تحريف ، ولكن ما أقوله أن الأناجيل المتداولة ليست هي الأصل وقد حدث فيها تحريف ، وإنما هي ليست أصلاً على الإطلاق وإنما هي مجرد وثائق تاريخية كتبها أصحابها بقدر ما وسع لهم أن يعرفوا أو أقول له ، أنه منذ فجر المسيحية ، وبعد رفع المسيح ، وقبل الإسلام ، كان هناك من الأناجيل العديد ، قبل المسيحيون أربعاً منها فقط ، هي المتداولة اليوم ، والباقي كما وجدنا طوردت وأحرقت ، والذين طاردوها هم المسيحيون أنفسهم وأحرقوها وليس المسلمون ، وليدلنا سيادته عليها وحينئذ أدلة من بينها على الإنجيل الصحيح ، أما أن يحرقها المسيحيون ، ثم يطالبون المسلمين رغم هذا بالإنجيل الصحيح ويتساءل سيادته في براءة عنه ، فهذا غير مقبول ، ائتونا بما أحرقتموه ، آتيكم منها بما هو صحيح .(2/184)
(1) يقول السيد / يسي منصور رداً على ما ذكرته عن لوقا البشير في موضع سابق - وما اعتقد أن مكانه الصحيح هنا - ابتداء من ص 24 من الجزء الثالث من رده : ( وللرد نقول أن لوقا هو الطبيب الحبيب ....... كاتب إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل ..... وهو رفيق بولس في السفر ، وبدأ معه منذ قصدوا تبشير أوربا ... وأشار بولس إلى ذات إنجيل لوقا الذي قبلته جميع الكنائس ... فإنجيل لوقا كان منتشراً في جميع الكنائس ، وهم يذكرون كاتبه بالمديح في تلاوتهم لهذا الإنجيل . وقد وصف بولس الرسول زميله لوقا الإنجيلي مع رسول آخر بأمجد الصفات ..... لوقا الملقب " مجد المسيح " كما جاء في الإنجيل والذي مدحه في جميع الكنائس في العصر الرسولي ، يتنكر له بعد عشرين قرناً سيادة المعترض دون أن يتوخي الحقيقة . فادعي أن إنجيله مؤلف بغير وحي كغيره من المؤلفات البشرية . ذلك لا لشيء إلا لأن لوقا البشير أشار في مقدمة إنجيله إلى بعض الذين كتبوا شيئاً من قصة المسيح بدون الوحي فأراد لوقا بإنجيله الموحي به أن يبين الصحيح من الفاسد ، وأشار إلي ما بذله من استقصاء الحقائق من واقع الرسل الملهمين الذين كانوا معاينين وخداما للكلمة . فعاب المعترض علي لوقا البشير كيف يتقصي الحقائق ويقول أنه تتبع كل شيء بتدقيق ، وظن أن هذا يتعارض مع الوحي والإلهام ، وفاته أن الروح القدس ليس ضد الاجتهاد ولكنه يعمل مع العاملين وينزههم عن الخطأ . فلوقا البشير لما رأي مؤلفات المؤرخين عن قصة المسيح وما فيها من اقتضاب وعدم تدقيق وأنها بطبيعتها مؤلفات بشرية لا تصلح كمرجع إلهي لمعرفة الصحيح من الفاسد رأي بالروح القدس أن يكتب الإنجيل لصديقه ثاوفيلس ليعرف صحة الأمور التي علم بها . فقبلت الكنيسة هذا الإنجيل سفراً قانونياً . وشهد له بولس الرسول في الرسائل . وقد أجمع أئمة المسيحيين القدماء والحديثين علي قانونية هذا السفر الجليل .) ولست أفهم هنا للقانونية - وأنا رجل قانون(2/185)
أولاً - أي معني ، ثم أن كل هذه الصفات التي نعت بها سيادته الكتابات الأخرى هي نعوت من عنده وحده ولم يقل بها لوقا البشير نفسه الذي بدأ إنجيله قائلاً (إذ كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا . كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين خداماً للكلمة .) ، وهو بذلك إنما يسلم بأن ما كتب من غيره في الأمور المتيقنة عنده ، إنما كتب كما سلمت من الذين كانوا معاينين ، وخداماً للكلمة ، فهي إذن ليست في رأيه فاسدة ، بل صحيحة ، وعبارة معاينين وخداماً للكلمة هذه راجعة إلى غيره وليس إليه كما يقول السيد / يسي منصور ، والسؤال الهام ، أين هو الوحي للوقا وهو لم يقل به ، وكل ما قاله عنه في رده إنما هو من عنده وليس من عند لوقا البشير ، وهو بالقطع ما لا يستطيع أن يقيم دليلاً عليه ، أو على الأقل يخص به لوقا دون غيره من هؤلاء الكثيرين الذين أشار إليهم في مقدمة إنجيله ، ومهما قيل عن قبول الكنائس لهذا الإنجيل وقبول المسيحيين له كسفر قانوني ، فلن يصلح ذلك أبداً دليلاً على الوحي به .(2/186)
(1) وطبيعي أن يقف السيد / يسي منصور عاجزاً عن الرد إزاء هذا التناقض الصارخ بين ما ورد في هذه الأناجيل الثلاثة وما هو واقع ومن الطريق أنه علي الرغم من إشارته إلى هذا الذي انتهيت إليه هنا ، اكتفي باستعداء القارئ على قائلاً في ص 9 من الجزء الثالث من رده ( وفي إلصاقه تهمة الافتراء والتزوير في الإنجيل قال : ..... ) وأخذ يردد هذا الذي انتهيت إليه هنا ، ولا أفهم ، إذا كان يعتقد بعدم صحة ما أقمته سنداً لهذه التهمة ، فلم لا يرد عليه ، ولم يهرب منه إلى غيره ، أما القمص باسيلوس إسحق فيرد في صفحتي 56 و 57 من كتابه قائلاً : ( أما السؤال الثاني الخاص بانقضاء الدهر ، ومجيء المسيح الثاني فقد شرح له المجد حاله العالم وما يكون عليه في ذلك الزمان ، أو بالتالي حالة ذلك الجيل ، ويقصد بالجيل الناس الذين سيكون في أيامهم انقضاء العالم ومجيء المسيح الثاني وليس المقصود به زمنا معيناً كما توهم بعضهم . ويصف داود معني الجيل في مز 78 : ( جيلا زائفاً ومارداً ، جيلا لم يثبت قلبه ، ولم تكن روحه أمينة الله .) والمقصود إذن بالجيل الشعب الذي يعيش في ذلك الزمان . وهذا ما قصده السيد بقوله : الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله ) ص 24 ، وإليك بعض العلامات التي يدل وقوعها على قرب انتهاء العالم ، وأن الناس الذين ستقع تلك الحوادث في أيامهم هم الذين ستحدث القيامة في عهدهم والعلامات هي : تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه ، قوات السماء تتزعزع ، وعن ذلك الجيل ، تكلم بولس في رسائله : ( لا نرقد كلنا ولكنا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير . 1 كو 15) ، ( ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء 1 تس 4) ومسلم به أن هذا الذي ذكره الرسول لم يتم في أيامه مع أنه ذكره وكأنه يتم في عهده ... ولكنه قصد بكلامه هذا الأحياء الذين سيكونون إبان مجيئه الثاني وما سيكون من أمرهم ،(2/187)
ولم يقصد الأحياء الذين عاشوا في عصره ، وهذا هو المقصود بكلمة جيل .) وطبيعي فإني لم أختلف على تفسير معني كلمة جيل ، وإنما أوضحت أنه وإذ يتحدث إلى آخرين يقول (هذا الجيل)، ويوضح أن كل ما قاله عن انقضاء الدهر سيكون في هذا الجيل ، فإن المفهوم الواضح لذلك أنه يقصد الجيل الذي يتحدث فيه ، وهذا هو نفس ما يفهم من كتاب شهادة إنجيل يوحنا ، فحتى التفسير ليس من عندي وفقط أقررته .
(2) يقول القمص باسيلوس إسحق في ص 67 من كتابه رداً على ذلك ( أظن أنه ليس عند ما أقوله لك في نسبة الخطأ إلى الله ..... حاشا له ذلك ولكني أقول لك أنه لحكمة اختاره لأنه كان ألد أعداء الكنيسة وشهاداته تكون أكثر وقعاً في النفوس وهذا ما جاهر به بولس أمام الولاة وفي مجامع اليهود وأن تحوله كان بسبب ظهور الرب يسوع له ودعوته للرسالة .) وعن نسبة الخطأ إلى الله فهذا ما أنفيه ينفي الوحي عن شاول هذا لأن الله حين يختار فإنما ، نتوقع أن يختار من تقبل شهادته ، فنتوقع أن يختار من عاش مع المسيح ولازمه وقاسي معه ، حتى تكون شهادته حقيقة بالاطمئنان ، وأما أن يأتي شخص هو من ألد الأعداء ، ولم يلق المسيح يوماً ، ثم يدعي برواية مشوشة أن المسيح قد ظهر له فيما يشبه الرؤيا ودعاه للرسالة ، فنقبل هذا منه ونتركه يقيم الدين كله بالصورة التي تعن له ، فهذا هو غير المعقول ، ثم قد علمنا أن التلاميذ رفضوه ابتداء ، كما أنه قيلت بشأنه نقولات مفادها أنه غنم من هذه الدعوة حتى أنه يضطر إلى الدفاع عن نفسه في رسائله فنفهم أنه قوبل بالريبة ، ثم لنقرأ ما يقوله في رسالته إلى فليمون التي يتوسط فيها لدي فليمون بشأن عبد لدي الأخير ، أنه لا يفوته أن يطلب منه أن يعدد له (أي لشاول الذي لقب ببولس ) منزلاً فيقول ( إذ أنك واثق باطاعتك كتبت إليك عالماً أنك تفعل أيضاً أكثر مما أقول . ومع هذا أعدد لي أيضاً منزلاً لأني أرجو أنني بصلواتك سأوهب لكم .) (21 و 22) ، ومع هذا(2/188)
نعتبر مثل هذا الكلام سفراً مقدساً وأنه قد كتب بوحي من الله ، لمجرد الادعاء برؤيا يعلم الله حقيقة أمرها ، لا ، هذا ليس مما يقبله العقل أوالدين أبداً ، فليس على رؤي يقام دين ،
(1) يقول القمص باسيلوس إسحق رداً على ذلك من ص 62 - 65 من كتابه ، بعد أن يوضح أن الوحي عند المسيحيين ليس إنزالاً آلياً على الأنبياء والرسل وفقاً لرأيه فيقول ( وهل هذا يعني أنه فيما عدا أوقات الوحي يبقي النبي صامتاً لا يتحدث إلى ما يحدثه عن الناس ، وأن تكلم مع الناس يعتبر كلامه كله كأنه كلام الله ويتعين تدوينه ، أنه ما لم يأمره الله بكتابته لا يعتبر موحي به كأمره تعالى لموسي بكتابة تاريخ الحرب مع عماليق في سفر خر 17 : 14 فكتب ما أمر به كما أوحي إليه الرب ، ولكن هل هو كل ما تكلم به موسي مدي الأربعين سنة التي قضاها منذ أن اختير نبياً إلى وفاته .... هو ما ورد في أسفاره الخمسة ، وما خلا ذلك بقى صامتاً .... طبعاً لا ، وهذا ما كان من أمر جميع الأنبياء والرسل ، ومن هنا ندرك أن بولس لما كتب في رسالته 1 كور 7 ( وأما المتزوجين فأوصيهم لا أنا بل الرب ألا تفارق المرأة رجلها وإن فارقته فلتلبث غير متزوجة أو لتصالح رجلها وألا يترك الرجل امرأته وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب أن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تسكن معه فلا يتركها ، والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرضي أن يسكن معها فلا تتركه .... وأما العذاري فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكني أعطي رأياً ................ والأمر واضح جلي ، ففي الأول حرم الطلاق بين المؤمنين بأمر الله ، وأما في الثاني فأعطي رأياً ، ولم يكن بوحي من الله أن تبقي المرأة التي آمنت بالمسيح مع الرجل الذي لا يزال وثنياً والعكس يبقي الرجل المؤمن مع المرأة الوثنية إشفاقاً على البنيين - كما هو مبين بذات الإصحاح - ولاستقرار الأسرة ..... وقال صريحاً أنه لم يؤمر من الرب أن يكتب هذا .......(2/189)
وإنما هذا رأيه الخاص . وأما المسيحيين في عهد نيرون يستحسن بقائهن عذاري ولكنهن لا يخطئن إن تزوجن .... ويتحملن ضيق الجسد بسبب الاضطهاد ..... وهذا ما قاله السيد بخصوص الضيق الذي سيعانيه الناس في حصار أورشليم سنة 70 م. الحبالي والمرضعات في تلك الأيام مت 24 . فأذن عندما أبدي بولس رأيه في هذا الأمر لم يكن مسوقاً من الروح القدس ...
ولكنه كان ينصح المؤمنين لشدة الأهوال التي تشابه حصار أورشليم ، ولهذا كان يتعين أن يوضح أن هذا كلامه هو وليس كلام الله . وهل نصيحته هذه تنفي رسالته ، وأن رسائله لم تكن موحاة من الله .......) .(2/190)
وطبيعي فليست هذه النصيحة هي ما ينفي رسالته وأن رسائله لم تكن موحاة بها من الله ، وإنما ينفيها أنه ليس هناك ما يثبتهما له أصلا ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فسيادته يتفق معي في نفي بولس نفسه الوحي عن هذا الذي قال عنه أنه يقول هو لا الرب أو أنه ليس عنده أمر من الرب فيه ولكنه يعطي رأياً لم يكن مسوقاً فيما كتبه من ذلك من الروح القدس ولكن فات سيادته أن هذا الذي يقوله بولس ليس كلاماً في حياته العادية يتحدث به بولس إلى الناس ، وإنما هو جزء من رسالة له وردت في العهد الجديد الذي يقول المسيحيون أنه كتب بوحي من الله أو بإرشاد من الروح القدس ، وها هو سيادته بنفسه ينفي عن آيات وردت في العهد الجديد كتابتها بوحي من الله أو بإرشاد من الروح القدس ، وفي هذا اتفق معه وفيما قلته بعد ذلك في المتن ما يؤيد ما قلته من نفي الوحي عن كل ما كتبه بولس هذا ، خاصة أنه من غير المقبول القول بأن رسالة واحدة ، كتبت كلها بوحي من الله أو إرشاد من الروح القدس فيما عدا عدة أسطر منها ، فلماذا يكون الوحي في جلها ، ولماذا ينعدم في بعضها ، أبداً ، إن الادعاء هنا بوحي سواء في الجزء أو الكل لا يقوم على سند ولا يؤيده حتى الكاتب للرسالة نفسه . وإن أفتي في بعض الرسالة بما يعتقده حكم الرب ، فليس بالوحي يدعي أنه يقول هذا ، وإنما ما يعتقد أنه حكمه فعلاً من تعاليمه وأقواله .(2/191)
أما السيد / يسي منصور ، فقد كان أكثر حذراً من زميله ، فهو يعرف أنه لو سلم بعد الوحي في شيء من العهد الجديد لنفي بذلك الوحي عن العهد الجديد كله ، لذلك نراه في رده في هذا الشأن يقول ابتداء من ص 43 من الجزء الثالث من رده بعد أن أورد ما قلته في هذا الخصوص (وإننا بعد أن نوضح لسيادته - يقصدني - ما استغلق عليه فهمه من الآيات التي أوردها ، سنبين له أن بولس صاحب رسالة موحي بها من الله ، وذلك بشهادة الإنجيل وشهادة القرآن . أن بولس الرسول لا يقصد بالآيات السالفة أن ينفي الوحي عن أقواله ، ولكنه يتكلم عما نقله من أقوال المسيح في بعض الأحكام وعما لم يحكم فيه المسيح وقت وجوده بالجسد فهو يميز بين الأقوال التي يستشهد بها من أقوال المسيح وبين أقواله هو الآن التي يقولها بروح الله .(2/192)
ففي موضوع الانفصال بين الرجل وامرأته قال ( وأما المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب أن لا تفارق المرأة رجلها ) 1 كو 7 : 10 وقصد بذلك أن الرب يسوع سبق وحكم في هذه المسألة حكماً صريحاً كما جاء في مت 5 : 32 و 19 ؟ 2 - 9 ومر 10 : 2 - 12 ولو : 16 : 18 ، ولم يكن قصد الرسول أن يفرق أو يميز بين ما علمه المسيح وهو على الأرض وبين ما ألهمه به الروح القدس ، بل مراده أن المسيح سبق فحكم في هذه المسألة ، ويقتضي أمر المسيح أنه لا يجوز للرجل أن يترك امرأته ولا للمرأة أن تترك رجلها فرباط الزيجة لا ينفك إلا بزني أحد الطرفين . فهذه الآية الكريمة لا تفيد كما ادعي المعترض أن بولس الرسول كان لا يري نفسه ملهماً بالوحي ، لأن بولس الرسول صرح مراراً أنه ينطق بالوحي . ولما قال ( وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب . إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تسكن معه فلا يتركها ) 1 كو 7: 12 كان يعني بذلك أن المسيح لم يتكلم في مسألة معاشرة المرأة غير المؤمنة للمؤمن ولم يدون شيء بخصوصها في الكتب الإلهية قبل الآن ، أما في مسألة الطلاق التي تقدم ذكرها فحكم فيها المسيح له المجد ودونت أحكامه في الأناجيل ، أما مسألة إذا كان أحد الزوجين غير مؤمن فتكلم فيها بولس الرسول بصفته أنه من الرسل الذين لا يتكلمون إلا بإلهام الروح القدس . والدليل على أنه كان لا ينطق في هذه المسألة وغيرها إلا بإلهام الروح القدس قوله أن كلامه صادر عن روح الله 1 كو7 : 40 فلا يعقل أن يعارض نفسه بنفسه بأن يقول بأن كلامه وحي وغير وحي في آن واحد . وقس على ذلك قوله ( وأما العذاري فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأياً كمن رحمه الرب أن يكون أميناً . 1 كو7 : 25 ، فقوله ( ليس عندي أمر من الرب) يعني لم يرد أمر صريح من المسيح له المجد في الأناجيل بخصوص هذه المسألة . وقوله : ( ولكني أعطي رأيا كن رحمه الرب أن يكون أميناً ) يعني أنه هو شخصياً قال(2/193)
فيها كلام رجل أمين افتداه المسيح برحمته . وقوله (أظن إلى أنا أيضاً عندي روح الله ) 1كو 7 : 40 فاللفظة اليونانية المترجمة بالظن تفيد اليقين ، إذ لا يجوز أن يكون مرتاباً في أن روح الله هو الذي كان ينطق على لسانه ، لأنه لو كان مرتاباً لفات الغرض المقصود وهو سن القوانين يسير بموجبها المؤمنون .)
وسبحان الله ، إنه لا يقول مثلا أنه لا يجوز أن يكون بولس مرتاباً في المسيح ، حتى نقبل قوله ، ولكنه يقول أن بولس لا يجوز أن يكون مرتاباً في نفسه ، وفي أن روح الله كان ينطق على لسانه كأنما هو - أي السيد / يسي منصور - أدري ببولس من نفسه ، فإن ارتاب الأخير في نفسه ، لم يجز له السيد / يسي منصور ذلك ، وأما العبارة التي أشار إليها فهي وردت في سياق كلام الرسالة الذي يقول (المرأة مرتبطة بالناموس ما دام رجلها حياً ، ولكن إن مات رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تريد في الرب فقط . ولكنها أكثر غبطة إن لبثت هكذا بحسب رأيي . وأطن أني أنا أيضاً عندي روح الله .) (تس 7:39 و 40) ، وواضح أن هذا الكلام الأخير لم يقصد منه بولس أن يسبغ على ما كتبه الوحي من الله ، كما أني وأنا لم أدعي علمي باللغة اليونانية أو بحثي في كتاب مقدس يوناني ، إلا أن لدي كتابان منه باللغة الإنجليزية والفرنسية وقد وردت العبارة في كل منهما بمعني أظن فهي بالإنجليزية I think ، وبالفرنسية Je crois ، ومن الغريب أن كلام من السيدين يسي منصور والقمص باسيليوس إسحق يضع يده على نصف الحقيقة ويرفض التسليم بالنصف الآخر ، فالسيد / يسي منصور يقول أن ما نسبه بولس للرب إنما هو ورد على لسان المسيح وفي تعاليمه قبل ذلك ، ولذا نسب بولس للرب ، وهذا ينفي الوحي عن هذا الكلام لأنه ليس سوى إقرار بما هو واقع ولا حاجة لأي وحي بشأنه ، وهذا عكس ما ادعاه القمص باسيليوس إسحق بأن ما نسبه بولس لنفسه لا للرب هو رأي شخصي غير موحي به ، إنما السيد / يسي منصور فيأبي التسليم بذلك(2/194)
لا لشيء إلا خوفاً من فوات الغرض المقصود وهو سن قوانين يلتزمون بها .
والصحيح هو ما قاله السيد / يسى منصور من أن ما نسبه بولس للرب هو ما يعتقده حكم الرب من تعاليم المسيح وأقواله المعروفة سابقاً عنه ، وما قاله القمص باسيليوس إسحق من أن ما قاله بولس باعتباره رأياً من عنده وليس من عند الرب هو رأي شخصي غير موحي به إليه ، وفي الحالتين فإن الوحي منتف عن كلا القولين
(1) ويعترض السيد / يسي منصور في الجزء الثالث من رده من ص 21 - 34 على القول بزوال رسالتين من رسائل بولس الرسول الذي كان في الأصل يدعي شاول ، وهو يشير إلى أني نقلت ما قتله عن أحد الكتاب ولكنه لا يبين اسم هذا الكاتب الذي نقلت عنه حتى لا يعطي الكلام قيمة باعتباره منقولاً عن كاتب مسيحي - وعسي به بذلك أن يترك انطباعاً لدي القارئ أن ذلك الكاتب مسلم ولذا يقول ما قاله من زوال هاتين الرسالتين وعلى أنا لحقيق بأن يرد عليه في هذا الصدد هو السيد / حبيب سعيد قائل هذا الكلام إلا أننا لا نري مانعاً من بحث رده فهو يقول بالنسبة للرسالة الأولى المشار إليها في 6كو 5 : 9 وللرد نقول أن الرسالة المشار إليها في كو 5 : 9 ويظنها المعترض - والمفروض أنه السيد / حبيب سعيد - أنه لا وجود لها في ذات رسالة كورنثوس الأولى التي وردت بها الإشارة . وهي المتداولة ضمن العهد الجديد إلى اليوم وليست رسالة أخرى . ففي هذه الرسالة كتب بولس الرسول بخصوص الذي زني بامرأة أبيه أن لا يخالطوه ، وأن ينقوا الكنيسة منه فقال ( أفأنتم منتفخون وبالحري لم تنوحوا حتى يرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل ، 1 كو 5 : 2 (نقوا منكم الخميرة العتيقة ، 1 كو 5 : 7 ثم استطرد الحديث وأشار إلى هذه الأقوال السابقة قائلاً ( كتبت إليكم في الرسالة - التي اكتبها الآن - أن لا تخالطوا الزناة ) 1 كو 5 : .. ) وقبل التعليق أوضح أن العبارة ( - التي اكتبها الآن -) هي بالطبع من إضافة السيد / يسى منصور وإلا(2/195)
لما كان هناك محل للخلاف ، وهذا التفسير الذي يعطيه سيادته لها هو محض تلفيق ولا تحتمله كلمات الرسالة على الإطلاق ، فالإصحاح يبدأ بالإشارة إلى أنه يسمع أن بين المخاطبين بها زني وزني هكذا لا يسمي بين الأمم حتى أن تكون للإنسان امرأة أبيه ، ويعجب فيقول لهم أفأنتم منتفخون وبالحري لم تنوحوا حتى يرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل ، وإذ يقول بعد ذلك (كتبت إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة) فأنه بالقطع يقصد رسالة أخرى ، لأن الكلام السابق فيها لا يقول لهم فيه أن لا يخالطوا الزناة ، وإنما مفهوم الرسالة أنه وقد طلب منهم في رسالة سابقة ألا يخالطوا الزناة فأنه يعجب لأنهم لم ينوحوا حتى يرفع من وسطهم الذي فعل هذا الزني إعمالاً لما طلبه منهم في رسالة سابقة ألا يخالطوا الزناة .
وأما الرسالة الأخرى فيقول سيادته بشأنها (وللرد نقول : أن الرسالة المذكورة في كو 4 : 16 ويظن سيادة المعترض - والمفروض أيضاً أنه السيد / حبيب سعيد - أن لا وجود لها في الرسائل ، هي الرسالة إلي أفسس ، وهي المتداولة ضمن العهد الجديد إلى اليوم ، وقد كانت مرسلة إلى لاودكيه لقراءتها ، وهكذا ترسل منها إلى كنيسة أخرى لقراءتها أيضاً ، يدل ذلك أن الرسول لا يصفها بالقول أنها التي إلى لاودكيه بل (التي من لاودكيه) . وقد أجمع المفسرون على أن الرسالة عامة إلى كل الكنائس المجاورة لأفسس لا إلى كنيسة أفسس وحدها ، وأن تيخيكس حمل نسخة منها إلى لاودكيه وهو مار بها في طريقه إلى كولوسي . ولاودكيه على بعد قليل من كولوسي وكلاهما في دائرة كنيسة أفسس ، ولأن الرسالة إلى أفسس موجهة لجميع القطاع ، فلم يذكر بولس الرسول أصدقاءه بالسلام كعادته ، مع أنه صرف بينهم عدة سنين ، ويعرف الكثيرين منهم .) .(2/196)
وهذا الذي يقوله سيادته ادعاء لا سند له ، فالرسالة إلى أهل أفسس تقول في أولها ( .... إلى القديسين في أفسس .... ) (ص 1 : 1 ) وكتب في نهايتها (كتبت إلى أهل أفسس من رومية على يد تيخيكس) وليس فيها أدني إشارة إلى طلب تلاوتها في غير أفسس ، وأما الرسالة إلى أهل كولوسي فإنها وإن عنونت وأنتهت بأنها إلى أهل كولوسي فقد جاء فيها ( ومتى قرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرأ أيضاً في كنيسة اللاودكيين والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضاً .) (ص 4 : 16) ، ولو كانت التي من لاودكية هذه هي الرسالة إلى أفسس لقال عنها ذلك ، إذ لا حكمة من الإشارة إلى لاودكية حينئذ ، أما القمص باسيليوس إسحق فيقول في صفحة 65 من كتابه : ( وليس في الأمر شيء لأن الرسول كتب إلى بعض الكنائس ما كتبه إلى الأخرى والرسالة التي كتبها إلى أفسس هي بذاتها التي كتبها إلى لاودكيه فمنعا من تكرار الكلام رؤي الاكتفاء بواحدة منها.) ونفس التعليق السابق ينطبق على هذا الرد أيضاً ، مع ملاحظة الفارق بين الردين فالأول يفترض وجود أكثر من نسخة لنفس الرسالة ، ولو صح أي منها لانتفي الآخر .
(1) يقول القمص باسيليوس إسحق تعليقاً على ذلك في ص 112 من كتابه : (قال بعضهم أن المسيح هو كلمة الله أعني أنه خلق بأمر الله .... وهنا نسأل : كل الكائنات خلقت بأمر الله ، ولم يدع أحد من تلك الكائنات الحية وغير الحية أنه كلمة الله إلا المسيح وحده دون سواه ، لا في الأناجيل ولا في القرآن . فهل تقصدون أن المسيح قد خلق بأمر الله وحده ، أما بقية البشر قد خلقوا بغير أمره ....... وإذن فبأمر من خلق العالم ؟ إذا كان المسيح وحده الذي خلق بأمر الله وأن الله لم يخلق غيره .)(2/197)
ولا أعرف كيف يستخلص سيادته هذا الفهم ، فالقرآن يقولها صريحة رداً على مريم الصديقة عليها السلام حين تساءلت أني يكون لها ولد ولم يمسسها بشر (قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضي أمراً فإنما يقول له كن فيكون) ولم يفرق النص القرآني كما هو واضح بين المسيح وبين أي شيء آخر أو أي أحد غيره في خلقه بأمر الله .
(1) يعلق السيد / يسي منصور على ذلك في الجزء الثاني من رده من ص 8 - 12 فيقول : ( فإذا كان الأستاذ منصور حسين جاداً في البحث عن نبوءة تقول بأن الله سيتجسد من مريم العذراء فذلك سهل ميسور وواضح في التوراة وضوح الشمس : - فقد قال أشعياء النبي (ولكن يعطيكم السيد نفسه آية . ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل) أ. ش 7 : 14 ، وقد تمت هذه النبوءة بميلاد المسيح فقال متي البشير : ( وهذا كله كان ليتم ما قيل من قبل الرب بالنبي القائل . هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا) مت 1 : 22 و 23 ، وقد تنبأ اشعياء بصراحة تامة أن الله القدير سيصير وليداً بين البشر فقال (لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابنه وتكون الرياسة على كتفه ويدعي اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أبا أبيا رئيس السلام) أ ش 9 :6 ، وأوضح أشعياء بغير التباس أن الموجود الأزلي سيرسل للناس متجسداً فقال (منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلني وروحه ) أ ش 48 : 16 .... ) ، واستطرد مدللاً ببعض الآيات الأخرى ، وأما أن المسيح يولد من عذراء ، فهذا مسلم به ، ولكننا نعلم أنه لم يسمي عمانوئيل وإنما يسوع ، والقول بأن عمانوئيل تفسيرها (الله معنا) قول لمتى البشير وليس لأشعياء النبي ، كما أن نفس الآية تستطرد قائلة ( .... زبداً وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير تخلي الأرض التي أنت خاش من ملكها .) (أ ش ص 7 : 14 - 16) ولو كان الولد المقصود هو الله فهل كان يحتاج إلى وقت ليعرف أن يرفض الشر ويختار الخير ،(2/198)
أن هذه الآية في حد ذاتها تنفي الألوهية المقال بها نفياً قاطعاً ، أما الآية التي تقول يولد لنا ولد ....... فتكملتها (لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلي الأبد ) ( أ ش 9 : 7) وواضح من كلمة (من الآن) أنها لا تشير إلي زمن مستقبل وبالتالي أنها لا تتنبأ ثم إن المسلم به أن أحداً سواء من أم المسيح أو تلاميذه أو أتباعه لم ير فيه الله نفسه رغم أنهم رأوا فيه المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم وذلك حال حياته ، ولو كان صحيحاً أن معني الآيات السابقة أن المسيح باعتباره الله نفسه وأن يروا فيه ذلك ، ولكن هذا ما لم يكن ولم يقل أحد أنه كان.
(1) يشير السيد / يسي منصور إلي ما قلته من ذلك في ص 20 من الجزء الثاني من رده : ( أراد الأستاذ منصور حسين أن يتخذ أقوال المسيح الواردة في الأناجيل الأربعة معياراً للبحث عن لاهوت المسيح ، ظنا منه أنه قد يجد فيها ما ينافي عقيدة اللاهوت ..... ) وأخذ يعدد الآيات التي يراها أدلة على ألوهيته ، وأوضح أنني قلت الأقوال التي يثبت لنا صدورها من المسيح وليس الأقوال الواردة في الأناجيل ، وفي باقي الباب الرد الكافي عليه .(2/199)
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك في ص 102 من الجزء الثاني من رده : ( ومن العبث أن يحاول الأستاذ منصور حسين أن ينفي أن المسيح ابن الله لينفي العقيدة بلاهوت المسيح ...... فقد فات سيادته أنه كما جاء في الإنجيل أن المسيح ابن الإنسان للدلالة على ناسوته ، كذلك جاء في الإنجيل أنه ابن الله للدلالة على لاهوته ، لأنه هو الإله المتأنس .... وإن كان الإنجيل يدعو المسيح (ابن الله) ففي الوقت ذاته يدعوه (الله) لأن للأب والابن لاهوت واحد .......) ، وكما هو واضح في هذا المبحث ، فإنني لم أحاول نفي البنوة لا نفي العقيدة بلاهوت المسيح ، وإنما كل ما حاولته هو محاولة فهم هذه البنوة المقال بها ، وانتهيت إلي أنها لا تفيد شيئاً في الواقع ما داموا يقولون بأن المسيح هو الله مباشرة ، وأن هذه البنوة تعبير رمزي فحسب .(2/200)
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك من ص 107 إلي 111 من الجزء الثاني من رده : ( ...... فنحن البشر يدعونا الكتاب المقدس أبناء الله ولكن ليس بالمعني الذي يدعي به المسيح ابن الله الوحيد . فنحن البشر دعينا أبناء الله ...... للدلالة على أنه مصدر وجودنا .... وصاحب العناية بنا ....... وعلى ما علينا من واجب الخوف والطاعة ... وعلى ما حصلنا عليه من المحبة والتقرب إليه تعالى بواسطة الفداء ..... فنحن أبناء الله بالتبني بنوة عامة أما المسيح فهو ابن الله الوحيد بنوة خاصة . فبينما يدعي البشر أبناء الله لأنهم من صنع يديه ، نجد المسيح يدعي ابن الله باعتبار معادلته ومساواته للأب . وبينما نجد البشر يدعون أبناء الله بواسطة الفداء ، نجد أن المسيح هو الذي صنع الفداء وهو الذي أعطانا سلطاناً أن نصير أولاد الله .......) وأعجب من هذه البنوة بالتبني التي يقول بها سيادته ، ولمن ، لله ، فلم يكفه أن يجعل من المسيح ابناً لله ، فجعل الله يتبني أيضاً ، وهو يفرق بين بنوة المسيح لله وبنوة غير المسيح لله ، ولكن بغير سند ، فالآيات التي ذكرتها لم تفرق بين البنوتين ، بل إنه يجعل بنوة الناس لله بالفداء - ، ولا أدري أين في أقوال المسيح التي ذكرتها أو غيرها ما يفيد ذلك ، ثم إذا كان المسيح هو الله نفسه كما يقولون ، فكيف هو ابن الله أيضاً ، وإذا كانت بنوة رمزية كما يقولون ، فما معني التمسك بها كبنوة ، أسئلة لا أخا له بمستطيع الرد عليها ، وهي تنفي تلك البنوة الخاصة التي يقول بها نفياً تاماً .
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك من ص 113 إلي ص 117 من الجزء الثاني من رده : ( معلوم أن بنوة المسيح لا تعني الولادة الجسدية لأن (الله روح) يو ص 4 : 24 ، والعقيدة القائلة باتخاذ الله صاحبة وولداً عقيدة وثنية وليست من المسيحية في شيء.(2/201)
إنما بنوية المسيح تعني المعادلة بين الله والمسيح أي أن كليهما ذو لاهوت واحد . فكلمة ابن معناها اللغوي المحدد المفهوم تعني الوحدة والمساواة بين الأب والابن في الجنس والطبيعة . ولهذا دعي المسيح ابن الإنسان للدلالة على أنه إنسان له طبيعته الناسوتية . ودعي ابن الله للدلالة على أنه إله له الطبيعة اللاهوتية ... وقد استعملت أيضاً للتعبير عن العلاقة السرية والمحبة الفائقة الكائنة بينهما بالروح .... وما أحسن ما قاله القس جردنر بهذا الصدد (أن الأبوة والبنوة في اللاهوت عبارة عن اعتبارات أدبية وعلاقات روحية ومن تلك العلاقات المحبة والإكرام والمناجاة المتبادلة والتبادل الكامل المبارك ووحدة الطبيعة والصفات والإرادة والاتفاق في العمل وتناسب الوظائف ) .... وهذه البنوية القدسية ليست بزمنية على الإطلاق ولكنها أزلية قبل كل الدهور . لأن المعادل لله أزلي كالله .... فهذه البنوية فريدة وحيدة منقطعة النظير لأنها تحمل معني الألوهية .... - وعدد أمثلة كلها من إنجيل يوحنا عدا مثال واحد هو قول إنجيل متى (الابن الحبيب) - ) وحسن ما فعله باستناده إلي إنجيل يوحنا وحده ، ويستطيع القارئ أن يتابع في المتن وجه اعتراضنا على هذا الإنجيل بالذات ، ولا أدرى كيف يجترئ بأن يدعي أن لكلمة ابن هذا المعني اللغوي الذي قال أنه محدد ومفهوم ، فقال أنها تعني الوحدة والمساواة بين الأب وابنه ، فكلمة الابن لغة لا تعني غير الولد الذكر ، ولعله يريد أن يقول أن البنوة طبقاً (لقانون الوراثة هي هذا الذي قاله ، وإني لأبحث عن البنوة في كل ما قاله فلا أجدها ، فكأنه كما يقول المثل ، قد فسر الماء بعد الجهد بالماء ، فهي عنده تعني المعادلة بين الله والمسيح ، أي أن كليهما ذو لاهوت واحد ، وهذا يعني الوحدة ، والبنوة تفترض التعدد ، ثم إنها عنده قد قصد بها التعبير عن العلاقة السرية والمحبة الفائقة بينهما بالروح ، وهذه ليست بنوة ، وهي عند من(2/202)
يستشهد به عبارة عن اعتبارات أدبية وعلاقات روحية منها المحبة .... الخ ، وهذه كلها ليست بنوة ، وهو معادل لله كما يقول والمعادل لغيره في القليل ليس ذات هذا الغير ، وهي عنده بنوة فريدة منقطعة النظير لأنها تحمل معني الألوهية ، وأقول بل لأنها لا تحمل معني البنوة على الإطلاق .
(2) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك من ص 118 - 121 من الجزء الثاني من رده : ( معلوم أن كلمة بكر في الكتاب المقدس لا تدل دائماً على معني الأسبقية في الولادة أو على الترتيب الزمني ولكنها تدل كثيراً على التفوق والتقدم والرفعة ...... والمهم أن البكر بين الأخوة والجماعة هو المتسامي بينهم .... وهذا ما عناه الله في صيغة معنوية اعتبارية (إسرائيل ابني البكر) أي الشعب الذي كان متقدماً في معرفة الله على كل الشعوب .......... وفي الوقت الذي يشير العهد القديم إلي فض الله على شعب إسرائيل بالتبني يعلن أن هناك ابناً وحيداً لله من طبيعته الإلهية سيظهر بين الناس . فقال أشعياء النبي (لأنه يولد لنا ولد ....) ..) وقد سبق لنا التعليق على الآية الأخيرة ، ولا أفهم لماذا حين تكون البنوة عن غير المسيح تكون بأي معني آخر غير البنوة عينها ، ومع هذا فقد وجدنا أنه ينتهي إلي أنها بنوة رمزية تعبر عن العلاقة السرية واعتبارات أدبية وعلاقات روحية ، وهذه كما وجدنا ليست بنوة على الإطلاق .(2/203)
(1) يعلق السيد / يسي منصور على ذلك في الجزء الثاني من رده من ص 122 - 125 بقوله : ( أن اقتران بنوة المسيح بقيامته من الأموات لا تتعارض مع كونه ابنا منذ الأزل ، بل تعتبر قيامته من الأموات ختماً لبنوته وإعلاناً رسمياً عنها . إذا صار بعد تأنسه وبعد موته بالجسد بكر وأول قيامة الأموات وذلك باستحقاق قداسته بعد أن أطاع وأكمل الفداء ....... كذلك أعلن بنويته أيضاً بقيامته من الأموات ... فالله بعد موت المسيح كنائب عن الخطاة ولده . بالقيامة كنائب عن جميع المفديين ....... وجاءت ولادته بالقيامة ختماً لبنويته الأزلية .......) وسيادته هنا يريد أن يقنعنا بأن الله قد ولد المسيح مرتان ، فلم تكفه مرة واحدة ، وهو يردد عبارات إنشائية مضخمة ، ولكن حين نبحث عن مضمونها ، لا نجد شيئاً على الإطلاق ، ولست بواجد رداً عليها إلا بأن أترك للقارئ وحده تقديرها ..(2/204)
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك في صفحتي 29 و 30 من الجزء الثاني من رده : ( وإني أقول لسيادته أن الأقنوم هو شخصية متميزة غير منفصلة في اللاهوت . وكل أقنوم هو الله . لأن للثلاثة أقانيم لاهوت واحد فأقنوم الابن يتكلم عن أقنوم الأب ، لأنه شخصية متميزة عن الأب غير منفصلة عنه . ولأن أقنوم الابن أخذ طبيعتنا الناسوتية ، فتقدم الشيطان ليجرب الابن في إنسانيته ... ومعرفة إبليس الواسعة بالله تعالى لا تعيق سفاهته ..... فالذي كان سفيهاً على الله لا يبعد عليه أن يجرب المسيح في إنسانيته والمسيح كقائد ظافر انتصر عليه نصراً مبيناً ...) وسيادته يقصد أن أقنوم الابن هو الذي يتحدث على لسان المسيح ، وكل أقنوم كما يقول هو الله ، ولم أقل أنهم يقولون غير هذا ، ولم أستند في نفي الألوهية إلي أكثر من عدم إتفاق تلك التجربة مع الألوهية ، ولإزالة هذا التناقض قال إن الشيطان تقدم ليجرب الابن في طبيعته الناسوتية أو في إنسانيته ، وفاته أن كنيسته تقول بأن للابن طبيعة واحدة لها خصائص وصفات الطبيعتين وليس له طبيعتين منفصلتين كما هو مفهوم استناده ، وحتى لو كانت له طبيعتان فهل سيفصلهما إبليس ويختبر إحداهما دون الأخرى وبالغة ما بلغت سفاهة إبليس فهل الله ينساق لسفاهته ويدعه يجربه ، أم أن الصحيح أن المسيح النبي الكريم والذي ليس إلهاً هو الذي يجرب من إبليس ، اعتقد أن الأمر واضح .(2/205)
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك من ص 52 - 54 من الجزء الثاني من رده : ( ولكي نسد على المعترض كل سبيل إلي نكران لاهوت المسيح نقول لسيادته أنه يجب ألا يبني أفكاره من أوهام هي أوهي من خيوط العنكبوت ، وليعلم يقيناً أن التصريح بلاهوت المسيح لم يكن وليد فترة معينة من دعوة المسيح بل أعلن مراراً في كل الأزمنة . ) وأشار إلي ستة أمثلة وردت في إنجيل يوحنا وحده وإلي مثال من إنجيل متى وقال : ( والمسيح في كل فترات دعوته كان يعرف سامعيه بشخصه الإلهي ......... وأما الاعتراض بأن متي البشير كان يؤمن بأن المسيح هو الله فنسب ما قاله المسيح عن الله للمسيح ، فإيمان متي البشير بلاهوت المسيح هذا صحيح ، ولكن القول بتحريفه لكلام المسيح ليس عليه دليل وظاهر البطلان ، لأن صريح الآية قالها المسيح ، ومتى رسول المسيح أرفع من أن يكذب ويحرف كلام المسيح .....) وواضح أن سيادته أحس بقوة سندي فلم يجد سبيلاً لتلافيه إلا بالقول بخلاف ما يتفق عليه المسيحيون من أن المسيح لم يكشف عن ألوهيته المقال بها إلا في أواخر أيامه ثم بعد رفعه ، كما أنه لم يجد آيات يستند إليها إلا في إنجيل يوحنا وهذا ستلي الإشارة إليه في المتن.
(1) ويقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك ص 30 و 31 من الجزء الثاني من رده : (ورداً على ذلك أقول : أن أقنوم الابن من ناحية طبيعته الناسوتية كان يصلي لأقنوم الآب ومع ذلك فهو من ناحية طبيعته الإلهية مساو للآب .) والواقع أنهم لا يرونها مساواة كما يقول ، فهم يعتقدون بأن المسيح والآب واحد ، وسيادته هنا يحاول أن يقنعنا بأن المسيح كإنسان كان يصلي لنفسه كإله ، وهذا ما لا يقبله العقل .(2/206)
(1) ويقول السيد / يسي منصور رداً على ذلك في ص 32 و 33 من الجزء الثاني من رده : ( وللرد نقول : بما أن الأقنوم هو شخصية مميزة غير منفصلة في اللاهوت فالابن والروح القدس متميزان وإن كان لهما مع الأب لاهوت واحد . والتجديف على المسيح باعتبار ناسوته لعدم معرفة ألوهيته لاحتجابه في الجسد ، فهذا التجديف يغفر في رحمة المسيح ......... وأما التجديف على الروح القدس فهو رفض إنارته التي تدعو لقبول كفارة المسيح ، فمن يرفض إرشاد القائد في أرض الظلمات ليس أمامه إلا التيه والهلاك ......) وعبثاً يحاول السيد / يسي منصور أن يقنعنا بالعقل بما قالت في شأنه كنيسته كما وجدنا في تعليمها فبما يختص بطبيعة السيد المسيح أن لنا أن نستخدم عقولنا إلي حد معين ، وأن في ديانتهم أسراراً يقبلونها ويؤمنون بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي ، فخير له أن يوفر جهده الذي يحاول به أن يقنعنا بالعقل بما يناقض العقل ، ويكفي قراءة ما يقوله لنتبين مدي مناقضته العقل .
(1) ويقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك في ص 35 من الجزء الثاني من رده أن : ( الأنبياء كانوا يتكلمون مع الناس بكلام الله أما المسيح فكان نفسه كلمة الله المتجسد الذي أعلن الله للبشر فهو نبي بل رب الأنبياء ...... إذا فنبوة المسيح خاصة لا تضعه في مرتبة الأنبياء بل تضعه في مرتبة الألوهية حسب إشارة التوراة والإنجيل) وواضح أنه يقر بأن المسيح نبي ، وإذ يعلم تماماً أن هذه النبوة تتعارض مع الادعاء بألوهيته ، لا يري سبيلاً لإزالة هذا التناقض إلا بالمغالطة اللفظية فيقول أنه نبي بل رب الأنبياء ، وأن نبوته لا تضعه في مرتبة الألوهية ، وهذا قوله ، ولا أحسب أن لعقل أن يقبله.(2/207)
(1) ويقول السيد / يسي منصور رداً على ذلك في ص 36 من الجزء الثاني من رده : (وأني أجيب سيادته أن هذه الآيات لا وجه فيها لاعتراض . فإن الاعتراف بأن يسوع هو المسيح المنتظر لا ينفي ألوهية المسيح في شيء ...) ولم أقصد ذلك ، وإنما قصدت أنه لو صحت هذه الألوهية لما اكتفي بالقول بأنه المسيح ولد لهم على أنه الله .
(1) يقول القمص باسيليوس إسحق تعليقاً على ذلك ص 111 و 112 من كتابه : ( جاء أحد الرؤساء إلي المسيح وقال له : ( أيها المعلم الصالح ) ولما كان هذا الإنسان يخاطب المسيح بوصفه إنساناً أجابه بأنه ليس أحد صالحاً إلا الله ، وهذا لكي ينفي الصلاح عن البشر ... وكان قصد المسيح بهذا ، أن يوجه نظر اليهود والفريسيين الذين يظنون أنهم أبرار إلي هذه الحقيقة وليس في هذا ما ينفي ألوهيته ) ، بل في هذا ما ينفيها تماماً ، فهو لا يقبل أن يقال عنه أنه صالح لأنه ليس صالحاً إلا واحد وهو الله ، ولا يحتمل ذلك أدني شك في أنه ينفي ألوهيته وإلا لما نفي ما لا يكون إلا الله .…
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك في ص 43 و 44 من الجزء الثاني من رده : (وهذا القول لا يتنافي مع لاهوت المسيح بل يؤيده ، إذ يبين أن صاحب السلطان المعطي الراتب والكراسي هو المسيح بالاتفاق مع إرادة الأب (أعطيه لمن أعد لهم من أبي) .. فالمسيح هو معطي الحياة الأبدية ، ولا يعجز مطلقاً عن إجابة أي طلب بشرط أن يكون الطلب بحسب مشيئة الله ..... فإذا المسيح هو القادر على كل شيء ، والمساوي للأب وهو أقنوم متميز غير منفصل في اللاهوت الواحد .)
والغريب أنه يسلم بأن إرادة المسيح غير إرادة الأب ، فهو يستلزم اتفاق المسيح مع إرادة الأب لعمل شيء ، كما أنه لا يعجز عن إجابة أي طلب بشرط أن يكون بحسب مشيئة الله وقد دل بذلك على تعدد الإرادة ، وهو ما لا يكون للواحد .(2/208)
(1) يقول السيد / يسي منصور رداً على ذلك في ص 45 من الجزء الثاني من رده : ( وأني لاجئ له بالحجة الواضحة ، فإن الوصية الأولى والعظمى التي أشار إليها المسيح قد اقتبسها من أقوال موسي النبي وهذا نصها باللغة العبرية (يسمع يا اسرائيل يهوه اليهينو يهو أحد) وكلمة (يهوه) اسم (الرب) بصيغة المفرد وكلمة (اليهينو) اسم (الإله) بصيغة الجمع و(أحد) بمعني (واحد) ففي الآية التي دعاها المسيح بالوصية العظمي لا شيء يتنافي مع لاهوت المسيح بل بالعكس فيها دلالة واضحة عن تعدد الأقانيم في وحدة اللاهوت والجوهر .) وواضح أنه يذهب بعيداً عما أقوله ، ولا أحسب أن الدين يمكن أن يقام وخاصة في أخطر شأن فيه على تلاعب بالألفاظ على هذا النحو .
(1) ويقول السيد / يسي منصور رداً على ذلك في ص 46 و 47 من الجزء الثاني من رده : ( ولرفع اللثام عما استغلق على المعترض فهمه نقول : أن المسيح أقتبس هذه الآية من أقوال الله مع موسى . وقد عرفنا موسي النبي أن الذي يتكلم معه هو ملاك الرب وهو المدعو في مواضع أخرى ملاك الله وملاك حضرته ... وهذه الأسماء كلها واضح أنها عن المسيح .) وهكذا يستخرج سيادته ما يعن له من المعاني بغير قيد ولا حدود ، فقط يكفي أن ينتهي إلي نتيجة محددة كما وجدنا في شروط درس الكتاب المقدس ، ولكن العقل لا يقبل هذا الذي يدعيه .
(1) يقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك في الجزء الثاني من رده ص 48 : (وللإجابة عليه نذكره بما أوضحناه سابقاً ، أن لله ثلاثة أقانيم متميزة غير منفصلة ، فكل أقنوم غير الآخر مع أن للأقانيم الثلاثة لاهوت واحد ، وعدم معرفة الابن لميعاد اليوم والساعة ذلك بالنسبة لاتضاعه وتجسده ومن حدود اختصاص طبيعته الناسوتية .)(2/209)
وهكذا ، في كل ما تعيه الحيلة بشأنه ، يلجأ إلي الطبيعة الناسوتية ، فأين في أقوال المسيح نفسه ما يفصل بين طبيعتين له ، وهو يقصد أن طبيعته اللاهوتية تعرف هذا اليوم وتلك الساعة ، فهل تنفصل هذه المعرفة في ذات الابن بين ذات وذات ، وكيف ينفصل هذا العلم خصوصاً وهو يتبع المذهب القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح .
(1) يقول السيد / يسي منصور في ص 49 من الجزء الثاني من رده تعليقاً على ذلك : ( وللوصول إلي الحقيقة التي لا يتماري فيها اثنان نقول كما أن الشمس ترسل أشعتها لأحياء الأرض وأنارتها والشمس المرسلة والأشعة المرسلة هما شمس واحدة ، هكذا الأب أرسل ابنه كلمته بهاء مجده ورسم جوهره . جاء لخلاص البشر ، وإن كان الأب غير الابن في الأقنومية لكنهما ذات واحدة في اللاهوت. ) ونعرف جميعاً أن أشعة الشمس هي بخلاف الشمس نفسها ولا يقول أحد بأن أشعة الشمس التي تصلنا هي ذات الشمس ، ولكنهم يقولون أن الابن والأب واحد ، وعلى هذا فالتشبيه نفسه لا يستقيم ، فقد أرسله الله وأرسل رسلاً غيره من قبل ، ولا يجيز هذا أن نقول أن المسيح أو غيره من الرسل آلهة .)
(2) ويقول السيد / يسي منصور تعليقاً على ذلك في ص 50 من الجزء الثاني من رده : ( إن المسيح طلب إلي تلاميذه أن يكون لهم إيمان بالله كما أنه طلب تماماً أن يؤمنوا به .... فالإيمان بالله يقود حتماً إلي الإيمان بالمسيح وأن الإيمان بالمسيح يدعم الإيمان بالله وهذه حجة عن لاهوت المسيح ووحدانيته مع الله ، وإلا كان الإيمان به شركاً بالله ...... فالإيمان الواحد الكامل المطلوب لا يكفي إلا بالله والمسيح لأن الله وكلمته لاهوت واحد .) وليس له إلا أن يقول أن هذا ظنه أو إيمانه أما أن هذا هو الحقيقة والواقع ، فذاك أمر بعيد عن أن يثبته هذا الذي يقوله ، فالإيمان بالله هو الإيمان به وبوجوده وبقدرته ، والإيمان بالمسيح ليس يعني أبداً الإيمان بأنه الله ، وإنما فحسب بأنه مسيح الله.(2/210)
(1) كان فضيلته شيخاً للجامع الأزهر عند صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب.
(1) لقد قرأت ما اعتبره تعليقاً ذلك يقول : ( أن الدين ليس كما يعلن الكثيرون هو مجرد أوامر ونواهي ، وليست هذه هي رسالة الدين ، بل رسالة الدين الحقيقية هي أن تحب الله من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك لكي يحبك الله ويثبت فيك وتثبت أنت أيضاً فيه ) جريدة وطني القاهرية في 16/7/1972 ص2 عمود4 السطر 14 - 20 ، والواقع أن ما ورد في هذا التعليق باعتباره رسالة الدين الحقيقية ورد في إنجيل متى (ص 22 : 36 - 38) على لسان المسيح ، وباعتباره رسولاً موحي إليه بما يقول من الله فإن هذه الأقوال تكون بالتالي من أوامر الله التي يتعين على المؤمن الانقياد لها بلا اعتراض ، ولكن ليست هذه هي كل رسالة الدين ، لأنه تبقي باقي الأوامر ، كما تبقي أيضاً النواهي التي يتعين الانقياد لها أيضاً بلا اعتراض مثل الوصايا لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ..... الخ وبذلك يتكامل الدين عند الله.
??
??
??
??
12
دعوة الحق
13
دعوة الحق(2/211)