دراسات في التصوف والفلسفة الإسلامية
تأليف
الدكتور صالح الرقب- الدكتور محمود الشوبكي
قسم العقيدة- كلية أصول الدين
الجامعة الإسلامية- غزة
الطبعة الأولى
1427هـ-2006م
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة...
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
وبعد...
فلقد درس بعض المسلمين كتب الفلاسفة اليونان بعد أن نقلت إلى العربية زمن الخليفة العباسي المأمون.وقد اندفع نفر منهم إلى الخوض في طريق الفلسفة، فتأثّر هؤلاء بنظريات اليونانية في الإلهيات والنبوات التي تتعارض تماماً مع أصول عقيدتهم الإسلامية، بل اعتنقوها، وأخذوا يدلِّلون عليها بالظنون والأوهام التي زعموا أنّها نتائج المعقولات، واشتغلوا في محاولة الجمع والتوفيق بين آراء أسلافهم الفلاسفة اليونان من جهة وبين العقيدة الإسلامية من جهة أخرى، وجاءت جهودهم الفكرية تظهر قبولهم للفلسفة اليونانية، واعتقادهم بكثير من قضاياها. ولقد استفادت الفلسفة التي تسمى بالإسلامية من الفلسفة اليونانية إلي حد بعيد، بل كان الفلاسفة اليونان أساتذة للفلاسفة الإسلاميين، خاصة الفارابي وتلميذه ابن سينا.(1/1)
إنَّ التصوف بالمعنى الفلسفي جاء بعقائد وشطحات خاصة به، والفكر الصوفي خليط كامل من كل الفلسفات، والخرافات التي انتشرت في العالم قديماً وحديثاً. فليس هناك من كفر وزندقة وإلحاد إلا دخل إلى الفكر الصوفي وتلبس بالعقيدة الصوفية. فمن القول بوحدة الوجود، إلى القول بحلول ذات الله أو صفاته في المخلوقين، ومن القول بالعصمة للأولياء، إلى القول بأن الأولياء يديرون العالم، ويتحكمون في الكون، والزعم بالتلقي من الغيب. ومن القول بأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو قبة العالم، إلى القول بأنه هو المستوي على عرش الله تعالى عما يقولون.
وشطحات الصوفية متنوعة:سلك بعضهم طريق تحضير الأرواح معتقداً بأن ذلك من التصوف، كما سلك آخرون طريق الشعوذة والدجل، وقد اهتموا ببناء الأضرحة وقبور الأولياء، وإنارتها وزيارتها، والتمسح بها، وكل ذلك من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وقال بعضهم بارتفاع التكاليف وإسقاطها عن الولي...الخ.
... إنّ الفلسفة الإسلامية وكذا التصوف الفلسفي لم تستفد منهما البشرية، ولم تقدمها خطوة واحدة إلى الأمام، ولم يستفد المشتغلون بهما اليقين والثبات، بل قد أفضتا بهم إلى الشكوك والحيرة والضلال، وأوقعتا الكثيرين منهم في الكفر والزندقة الإلحاد. والكتاب الذي نقدمه لطلبة العلم يبيِّن حقيقة مذهب المتصوفة والفلاسفة، ويكشف فساد وضلالات عقيدة الصوفية والفلاسفة المنتسبة للإسلام.
الباب الأول
دراسات في التَّصوف
الفصل الأول
التعريف بالتصوف وأصله
المقدمة:(1/2)
التَّصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثمَّ تطوَّرت تلك النزعات بعد ذلك، حتى صارت طرق مُميَّزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخى المتصوفة تربية النفس والسمو بها، بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة، لا عن طريق إتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية:الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أنَّ هناك فروقاً جوهرية بين مفهومي الزهد والتَّصوف أهمها:إنَّ الزهد مأمور به، والتَّصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطه أهل السنة والجماعة.(1)
المبحث الأول: الصوفية لغة واصطلاحاً
اختلفت كلمة العلماء حول التعريف الحقيقي للصوفية وللتصوف اختلافاً كثيراً قلَّما يوجد له مثيل، وقد ذكر بعض العلماء أنَّ تلك التعريفات قد تصل إلي الألفين، يقول محمد طاهر الحامدي:"الأقوال المأثورة في التَّصوف قيل:إنها زهاء ألفين"، وقد نقل إحسان إلهي في كتابة "التَّصوف:المنشأ والمصدر" أقوالاً كثيرة عن أقطاب التَّصوف في تعريفهم ومفهومهم للتصوف، ولكن مهما قيل عن كثرتها واختلاف الناس فيها فإنّها كلَّها لا طائل من ورائها عند التمعن في دراستها، مما يستدعي غض النظر عن تلك التعريفات كلِّها، وإلقاء الضوء على الأقرب منها، وفيما يلي بيان ذلك.
التَّصوف لغة:
يطلق علماء اللغة كلمة صوف في معاجم اللغة تحت مادة صوف على عدة معان، منها إطلاق كلمة صوف على الصوف المعروف من شعر الحيوانات، ومنها صوفان وصوفانة، وتطلق على بقلة زغباء قصيرة. وقد أطلقت كلمة صوف في بعض دلالتها بمعنى الميل، فيقال صاف السهم عن الهدف بمعنى مال عنه، وصاف عن الشر أي عدل عنه.
التَّصوف اصطلاحا:
__________
(1) - الصوفية نشأتها وتطورها تأليف محمد العبْده- طارق عبد الحليم، الطبعة الرابعة، 1422 هـ- 2001م(1/3)
يجب إدراك أنَّ الصوفية مرَّت بمراحل وتطورات، ومفاهيم مختلفة، ومن هنا وقع كثير من الجدل بين العلماء في التعريف بالصوفية، ومهما قيل عن كثرة التعريفات للتصوف، فإنَّه يصدق عليه عموماً أنه بدعة محدثة في الدين، وطرائق ما أنزل الله بها من سلطان، ونذكر فيما يلي بعض التعريفات التي أطلقت على مفهوم التَّصوف سواء، كانت من الصوفية أو من مخالفيهم، ومن ذلك ما يلي: -
1- التَّصوف هو تجريد العمل لله تعالى، والزهد في الدنيا وترك دواعي الشهرة، والميل إلى التواضع والخمول، وإماتة الشهوات في النفس..وهذا التعريف قد لا يصدق في الواقع إلا على التَّصوف في عهده الأول، الذي كان التَّصوف فيه عبارة عن الانقطاع لعبادة الله وحده، والزهد في الدنيا والتخفف من متاعها والإقبال على الآخرة، دون أن يلبسوا ذلك بشيء من الأفكار والسلوك المشين الذي وصلت إليه الصوفية بعد ذلك.
2- وذهب قسم كثير من العلماء إلى أن سبب التسمية للمتصوفة بهذا الاسم–الصوفية– إنِّما كان نسبة إلى لبسهم الصوف، الذي عبر عن الزهد والتقشف، وترك التنعم والملذات المباحة، وقد علَّق القشيري على هذا بقوله:"فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف".
3- يرى بعض العلماء أن التَّصوف مأخوذ عن الصفاء؛ أي صفاء أسرارهم أو صفاء قلوبهم أو صفاء معاملتهم لله تعالى، وهو ما يحب الصوفيون التسمي به، بل إن كل انتساب- فيما لاحظ المستشرق نيكلسون- إلى الصوف يقابله اثنا عشر تعريفاً تعتمد على الصفاء، الذي حاول الصوفية أن ينتسبوا إليه. إلا أن القشيري قد استبعد هذا المفهوم في اللغة بقوله:"ومن قال أنه مشتق من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة".
4- وبعضهم يرى أنّه نسبة إلى الصُّفة-مكان في مؤخرة المسجد النبوي- التي كان يجلس فيها فقراء الصحابة رضوان الله عليهم في المسجد.(1/4)
والحق أنّ المتصوفة ليس لهم مستند في تعلقهم بأساس تصوفهم سواء كان ذلك التعلق بالصحابة من أهل الصفة، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته في غار حراء، ومن زعم أن بدايات التَّصوف كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أهل الصفة فلا شك في خطئه. وإذا كان المتصوفة فيما يدَّعون يحبون الفقر والخرقة، والانزواء في الزوايا والأربطة، فإن الثابت المتواتر أنّ أهل الصفة في مجملهم كانوا كثيراً ما يشكون حالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمل أن يساعدهم على حياة طيبة في الدنيا تكون عوناً لهم إلى الآخرة، وقد أخبر الله عنهم أنّهم)تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)التوبة:92.(1/5)
إن تلك الصلة بين الصوفية وأهل الصفة التي يزعمها السهروردي والمنوفي محض خيال؛ ذلك أن أهل الصفة ما كانوا يحبون الفقر ولا يحبون الانفراد والعزلة عن الناس، وكيف يحبون العزلة والانفراد وهم في أكثر أماكن تجمع الناس؟! وأيضاً أكان مكثهم في الصفة بمحض رغبتهم أم كانت حالة طارئة أملتها عليهم الظروف المعيشية؟. ذلك أنه لا يخفى على طلاب العلم أن أهل الصفة كانوا من الفقراء الذين لا يجدون مأوى غير المسجد، في الوقت الذي كانوا يبحثون فيه بكل جد من أجل الوصول إلى حال اليسار والغنى، خصوصاً وهم يتلون قول الله تعالى:(وَلاَ تَنسَ نَصِيِبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) كما يسمعون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير".وقوله أيضاً:"اليد العليا خير من اليد السفلى"، فما كان أحدهم يحمل الزنبيل على ظهره ويطوف بالبيوت في طلب رزقه متكاسلاً عن العمل، متكلاً على ما في أيدي الناس أعطوه أم منعوه، كما هي حال كثير من المتصوفة، بعد أن فسدت فطرهم واختلت مفاهيمهم. حين صاروا كما مدحهم السهروردي بقوله:"واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة، وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة، تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب".
5- وبعضهم يرى أنَّه نسبة إلى الصف الأول، قال القشيري:"فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف".
6- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى قبيلة بني صوفة، وهى قبيلة بدوية كانت حول البيت في الجاهلية، وهى تنتسب إلى رجل يقال له صوفة كان قد انقطع للعبادة في المسجد الحرام.
7- وبعضهم يرى أنها نسبة إلى الصفوة من خلق الله تعالى.(1/6)
8- ما رجحه أبو الريحان البيروني 440هـ، وفون هامر حديثاً وغيرهما من أنها مشتقة من كلمة سوفا اليونانية، والتي تعني الحكمة. ويدلّل أصحاب هذا الرأي على صحته بانتشاره في بغداد وما حولها بعد حركة الترجمة النشطة في القرن الثاني الهجري، بينما لم تعرف في نفس الفترة في جنوب وغرب العالم الإسلامي. ويضاف إلى الزمان والمكان التشابه في أصل الفكرة عند الصوفية واليونان، حيث أفكار وحدة الوجود والحلول والإشراق والفيض. كما استدلوا على قوة هذا الرأي بما ورد عن كبار الصوفية مثل السهروردي المقتول ردة بقوله:"وأما أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة فخميرة الفيثاغورثيين وقعت إلى أخي أخميم- ذي النون المصري- ومنه نزلت إلى سيار ستري وشيعته،أي سهل التستري"، وأضافوا إلى ذلك ظهور مصطلحات أخرى مترجمة عن اليونانية في ذلك العصر، مثل الفلسفة، الموسيقا، الموسيقار، السفسطة، الهيولي.
وقد زعم الكاتب النصراني جورجي زيدان:"أن كلمة تصوف في العربية تعادلها كلمة "سوفيا" اليونانية والتي معناها الحكمة"، أي أن التَّصوف نسبة إلى الحكمة اليونانية، وهو زعم أبطله كثير من العلماء؛ وربمّا لأنّ التَّصوف إنما ظهر بعد الإسلام، ولا يمنع هذا أن تتأثر الصوفية بعد ذلك بشتى التأثيرات بل هو الواقع، ولكن ليس بالمفهوم اليوناني الكامل.
الرأي الصواب:(1/7)
لمّا كانت تلك التعريفات أموراً اجتهادية واستحسانات وتقريباً لهذا المذهب، فإنّك تجد أنَّه يرد عليها اعتراضات كثيرة، وفى بعضها أخطاء واضحة. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ردود على بعض تلك التعريفات، فقد ذٌكر أنّه إذا كانت النسبة إلى أهل الصفة –وهو خطأ تاريخي– فإنه يقال صُفِّي، وأما إذا كانت إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى فإنه يقال صَفِّي، وأما إذا كانت نسبة إلى الصفوة من خلق الله فإنه يقال صفوي، وأما إذا كانت النسبة إلى ذلك الرجل الجاهلي فإنه لا أحد من المتصوفة يرضى أن ينسب إلى قبيلة جاهلية قبل الإسلام، إضافة إلى أنه لم تعرف هذه التسمية بين الصحابة ولا كانت هذه القبيلة مشهورة أيضاً.
وردَّ القشيري أبا القاسم عبد الكريم(1) رد على معظم الأقوال في تعريف الصوفية فقال في رسالته:"فأما قول من قال:إنه من الصوف, ولهذا يقال:تصوّف إذا لبس الصوف كما يقال:تقمص إذا لبس القميص, فذلك وجه. ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. ومن قال:أنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي. ومن قال:أنه مشتق من الصفاء, فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة. ومن قال:أنه مشتق من الصف, فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح, ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف".(2)
__________
(1) - هو أبو القاسم عبد الكريم القشيري النيسابوري الشافعي قيل فيه:هو الإمام مطلقا, الفقيه, المتكلم, الأصولي, المفسر, الأديب..لسان عصره, وسر الله في خلقه, مدار الحقيقة, وعين السعادة, وقطب السيادة , من جمع بين الشريعة والحقيقة(مقدمة كتاب الرسالة القشيرية ص 15), وقال عنه أبو الحسن الباخرزي:لو ارتبط إبليس في مجلسه لتاب( دمية القصر) , توفي سنة 465 هـ.
(2) - الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، ط مطبعة حسان القاهرة 1974م، 2/550.(1/8)
والصواب نسبة التَّصوف إلى الصوف، وهو الأقرب إلى الاشتقاق اللغوي، كما أنه الأقرب إلى ذوق الصوفية وحالهم في تمسكهم بلباس الصوف، وقد ذهب إلى تقرير هذا القول كثير من العلماء في نسبتهم لهذه الطائفة التي لم توجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان؛ إذ لو وجدت في هذه الأزمنة وعرفها الناس وعرفوا مسالكها لاشتهرت تسميتها ولما حصل لبس أو خلاف في حقيقتها واتجاهاتها بين المتأخرين.
وقد رجّح شيخ الإسلام فيما يظهر من كلامه أن التَّصوف نسبة إلى الصوف حيث قال: "وقيل وهو المعروف: أنه نسبة إلى لبس الصوف".
وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال:إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح بن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا، ثم يقول بعد ذلك: هؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلبس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به لمن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال، إلى أن قال:فهذا أصل التَّصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع.
وما رجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وطائفة كبيرة من العلماء حق من أنها نسبة إلى الصوف، حيث كان شعار رهبان أهل الكتاب، الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية، وبالتالي فقد أبطل هؤلاء كل الاستدلالات والاشتقاقات الأخرى على مقتضى قواعد اللغة العربية، محمولة نسبة الصوفية أنفسهم إلى علي بن أبي طالب والحسن البصري وسفيان الثوري رضي الله عنهم جميعاً، وهي نسبة تفتقر إلى الدليل ويعوزها الحجة والبرهان.(1/9)
وأيّد السهروردي صحة القول بنسبة الصوفية إلى الصوف، وذكر أدلة كثيرة على فضائل لبس الصوف، وبالغ في مدح الصوفية حين اختاروا هذا الاسم. ثمّ ذكر الأسماء الأخرى والتي منها نسبتهم إلى أهل الصفة من فقراء الصحابة المهاجرين، ثم قال:"وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكن صحيح من حيث المعنى؛ لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك.
المبحث الثاني:نِشأة التَّصوف:
لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التَّصوف في الأمة الإسلامية ومن هو أول متصوف، وإن كان الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما دخل مصر قال : "تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئًا يسمونه السماع" . والزنادقة الذين عناهم الشافعي هنا هم المتصوفة، ( والسماع ) هو الغناء والمواجيد والمواويل التي ينشدونها، ومعلوم أن الشافعي دخل مصر سنة 199هـ، وكلمات الشافعي توحي بأنّ قضية السماع هذه قضية جديدة، ولكن أمر هؤلاء الزنادقة يبدو أنه كان معلومًا قبل ذلك ، بدليل أن الشافعي قال كلامًا كثيرًا عنهم كقوله مثلًا:" لو أن رجلًا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يكون أحمق ". وقال أيضًا : "ما لزم أحد الصوفية أربعين يومًا فعاد إليه عقله أبدًا".(1) ) وكل هذا يدل على أنه قد كان هناك قبل نهاية القرن الثاني الهجري فرقة معلومة عند علماء الإسلام يسمونهم أحيانًا بالزنادقة وأحيانًا بالمتصوفة .
__________
(1) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370 .(1/10)
وأما الإمام أحمد فقد أثر عنه أقوال كثيرة في التنفير من أفراد معينين نسبوا إلى التَّصوف . كقوله في رجل جاء يستفتيه في كلام الحارث المحاسبي ، قال أحمد بن حنبل : " لا أرى لك أن تجالسهم "، وذلك بعد أن اطلع أحمد بن حنبل على مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها للبكاء ومحاسبة النفس كما يزعمون، والكلام على الوساوس وخطرات القلوب . فلما اطلع الإمام أحمد على ذلك قال لسائله محذرًا إياه من مجالستهم وكتبهم " إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات " . والذي يبدو أنّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال هذا الكلام في مطلع القرن الثالث، ولكن هذا القرن ما كاد يكتمل حتى ظهر التَّصوف على حقيقته، وانتشر في الأمة انتشارًا ذريعاً، واستطاع المتصوفة أن يظهروا ما كانوا يخفونه سابقًا .(1/11)
وخلال القرنين الأولين ابتداءً من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى وفاة الحسن البصري، لم تعرف الصوفية سواء كان باسمها أو برسمها وسلوكها، بل كانت التسمية الجامعة: المسلمين، المؤمنين، أو التسميات الخاصة مثل:الصحابي، البدري، أصحاب البيعة، التابعي. لم يعرف ذلك العهد هذا الغلو العملي التعبدي أو العلمي الاعتقادي إلا بعض النزعات الفردية نحو التشديد على النفس الذي نهاهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، ومنها قوله للرهط الذين سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم:"لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني".وقوله صلى الله عليه وسلم للحولاء بنت نويت التي طوقت نفسها بحبل حتى لا تنام عن قيام الليل كما في حديث عائشة رضي الله عنها:"عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل". وهكذا كان عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا المنهج يسيرون، يجمعون بين العلم والعمل، والعبادة والسعي على النفس والعيال، وبين العبادة والجهاد، والتصدي للبدع والأهواء مثلما تصدى ابن مسعود رضي الله عنه لبدعة الذكر الجماعي بمسجد الكوفة وقضى عليها، وتصديه لأصحاب معضد بن يزيد العجلي لما اتخذوا دوراً خاصة للعبادة في بعض الجبال وردهم عن ذلك.(1/12)
ظهور العبَّاد: في القرن الثاني عشر الهجري في عهد التابعين وبقايا الصحابة ظهرت طائفة من العباد آثروا العزلة وعدم الاختلاط بالناس فشددوا على أنفسهم في العبادة على نحو لم يُعهد من قبل ومن أسباب ذلك بزوغ بعض الفتن الداخلية، وإراقة بعض الدماء الزكية، فآثروا اعتزال المجتمع تصوناً عما فيه من الفتن، وطلباً للسلامة في دينهم، يضاف إلى ذلك أيضاً فتح الدنيا أبوابها أمام المسلمين، وبخاصة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية وانغماس بعض المسلمين فيها، وشيوع الترف والمجون بين طبقة من السفهاء، مما أوجد ردة فعل عند بعض العباد وبخاصة في البصرة والكوفة حيث كانت بداية الانحراف عن المنهج الأول في جانب السلوك.
ففي الكوفة ظهرت جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وسموا أنفسهم بالتوَّابين أو البكَّائين. كما ظهرت طبقة من العباد غلب عليهم جانب التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة، واشتغالهم بالكتاب والسنة تعلماً وتعليماً، بالإضافة إلى صدعهم بالحق وتصديهم لأهل الأهواء. كما ظهر فيهم الخوف الشديد من الله تعالى، والإغماء والصقع عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم رضي الله عنهم، وبسببهم شاع لقب العبَّاد والزُهَّاد والقُرَّاء في تلك الفترة. ومن أعلامهم: عامر بن عبد الله بن الزبير، و صفوان بن سليم، وطلق بن حبيب العنزي عطاء السلمي، الأسود بن يزيد بن قيس، وداود الطائي، وبعض أصحاب الحسن البصري.
بداية الانحراف:(1/13)
كدأب أي انحراف يبدأ صغيراً، ثم ما يلبث إلا أن يتسع مع مرور الأيام فقد تطور مفهوم الزهد في الكوفة والبصرة في القرن الثاني للهجرة على أيدي كبار الزهاد أمثال: إبراهيم بن ادهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي، ورابعة العدوية، وعبد الواحد بن زيد، إلى مفهوم لم يكن موجوداً عند الزهاد السابقين من تعذيب للنفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول مالك بن دينار:"لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب". وذلك دون سند من قدوة سابقة أو نص كتاب أو سنة، ولكن مما يجدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إلى هؤلاء الزهاد من الأقوال المرذولة والشطحات المستنكرة ما لم يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.
وفي الكوفة أخذ معضد بن يزيد العجلي هو وقبيله يروِّضون أنفسهم على هجر النوم وإقامة الصلاة، حتى سلك سبيلهم مجموعة من زهاد الكوفة، فأخذوا يخرجون إلى الجبال للانقطاع للعبادة، على الرغم من إنكار ابن مسعود عليهم في السابق.
وظهرت من بعضهم مثل رابعة العدوية أقوال مستنكرة في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه، وظهرت تبعاً لذلك مفاهيم خاطئة حول العبادة من كونها لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار مخالفةً لقول الله تعالى:( وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء:90.(1/14)
ويلخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التطور في تلك المرحلة بقوله:"في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتَّصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتَّصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن علي الهجيمي ت200، تلميذ عبد الواحد بن زيد تلميذ الحسن البصري، وكان له كلام في القدر، وبنى دويرة للصوفية، وهي أول ما بني في الإسلام أي داراً بالبصرة غير المساجد للالتقاء على الذكر والسماع- صار لهم حال من السماع والصوت- إشارة إلى الغناء. وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل، وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين".
بداية ظهور مصطلح التَّصوف:
لفظ التَّصوف والصوفية لم يكن معروفا في صدر الإسلام وإنما هو محدث بعد ذلك أو دخيل على الإسلام من أمم أخرى. وذكر ابن تيمية وسبقه ابن الجوزي وابن خلدون في هذا أن لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة الأولى.(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى:"أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ، كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني وغيرهما. وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري".
وأول ما ظهرت الصوفية في البصرة، وأول من ابتنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار. واشتهر الفقه بالكوفة والتَّصوف بالبصرة.
__________
(1) - الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام بن تيمية ص 5، ط القاهرة, أيضا مقدمة ابن خلدون ص 467, تلبيس إبليس لابن الجوزي ص157، دار القلم بيروت لبنان.(1/15)
والذي توصَّل إليه بعض الكتاب العصريين أن التَّصوف تسرب إلى بلاد المسلمين من الديانات الأخرى كالديانة الهندية والرهبانية النصرانية، قد يستأنس له بما نقل عن ابن سيرين أنه قال:"إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح بن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا" فهذا يعطي أن التَّصوف له علاقة بالديانة النصرانية؛؛
ويقول الدكتور صابر طعيمة في كتابه:"الصوفية معتقدا ومسلكا":ويبدوا أنه لتأثير الرهبنة المسيحية التي كان فيها الرهبان يلبسون الصوف وهم في أديرتهم كثرة كثيرة من المنقطعين لهذه الممارسة على امتداد الأرض التي حررها الإسلام بالتوحيد أعطى هو الآخر دورا في التأثير الذي بدا على سلوك الأوائل.(1/16)
وعبد الرحمن السلمي-المتوفى سنة 412هـ والذي لفق حكايات الصوفية ووضعها على ألسنة المشايخ السابقين- جعل إبراهيم بن أدهم رائدًا ومؤسسًا لبدايات هذا الفكر . وقال الشيخ إحسان إلهي ظهير في كتابه:(التَّصوف:المنشأ والمصادر):"عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر وأقاويلهم المنقولة منهم والمأثورة في كتب الصوفية القديمة والحديثة نفسها نرى بونا شاسعا بينها وبين تعاليم القران والسنة، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية والبراهمة الهندوكية وتنسك اليهودية وزهد البوذية..ويقول الشيخ:عبد الرحمن الوكيل في مقدمة كتابه)مصرع التَّصوف):"إن التَّصوف أدنأ وألأم كيدا ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسله، إنه قناع المجوس يتراءى بأنه لرباني، بل قناع كل عدو صوفي للدين الحق فتش فيه تجد برهمية وبوذية وزرادشتية ومانوية وديصانية، تجد أفلاطونية وغنوصية، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية..ومن خلال عرض أراء هؤلاء الكتاب المعاصرين في أصل الصوفية، وغيرهم مما لم نذكره كثيرون يرون هذا الرأي. يتبين أن الصوفية دخيلة على الإسلام، يظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها-تلك الممارسات الغريبة على الإسلام والبعيدة عن هديه ن وإنما نعني بهذا المتأخرين من الصوفية حيث كثرت وعظمت شطحاتهم. أما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال، كالفضيل بن عياض، والجنيد، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.
متى ظهر أول من سمي بالصوفي:
تنازع العلماء والمؤرخون في أول من تسمَّ به على أقوال ثلاثة:-(1/17)
1- شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه:أن أول من عُرف بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي ت150هـ أو 162هـ بالشام، بعد أن انتقل إليها، وكان معاصراً لسفيان الثوري ت 155هـ، قال عنه سفيان:"لولا أبو هاشم ما عُرِفت دقائق الريا". وكان معاصراً لجعفر الصادق وينسب إلى الشيعة الأوائل ويسميه الشيعة مخترع الصوفية. وصرّح الصوفي عبد الرحمن الجامي:"أن أبا هاشم الكوفي أول من دعي بالصوفي, ولم يسم أحد قبله بهذا الاسم, كما أن أول خانقاه بني للصوفية هو ذلك الذي في رملة الشام, والسبب في ذلك أن الأمير النصراني كان قد ذهب للقنص فشاهد شخصين من هذه الطائفة الصوفية سنح له لقاؤهما وقد احتضن أحدهما الآخر وجلسا هناك, وتناولا معا كل ما كان معهما من طعام, ثمّ سارا لشأنهما, فسرّ الأمير النصراني من معاملتهما وأخلاقهما".(1)
2- يذكر بعض المؤرخين أن عبدك -عبد الكريم أو محمد- المتوفى سنة 210هـ هو أول من تسمى بالصوفي، ويذكر عنه الحارث المحاسبي أنه كان من طائفة نصف شيعية تسمي نفسها صوفية تأسست بالكوفة. بينما يذكر الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع أن عبدك كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام، لا يحل لأحد منها إلا القوت، حيث ذهب أئمة الهدى، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل، وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام.
3- يذهب ابن النديم في الفهرست إلى أن جابر بن حيان تلميذ جعفر الصادق والمتوفى سنة 208هـ أول من تسمى بالصوفي، والشيعة تعتبره من أكابرهم، والفلاسفة ينسبونه إليهم.
حقيقة وأصل التَّصوف:
__________
(1) - نفحات الأنس:عبد الرحمن الجامي، ط إيران، ص 31, 32.(1/18)
إن التَّصوف علي الإطلاق ليس إسلامي النشأة، وإنما وفد علي البيئة الإسلامية مع ما وفد من عادات وتقاليد الأجناس الأخرى بعدما امتزجت واختلطت عقب الفتح الإسلامي. وعلى هذا الرأي بعض الملاحظات، فقد ينطبق هذا الرأي علي ذلك النوع من التَّصوف، الذي قام على أساس من الغلو والانحراف الذي جاء به أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد، مع تظاهرهم بالانتساب إلى الإسلام وتقديسهم لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولعلَّ سبب هذا القول إنَّما يعود إلي الواقع الذي اشتمل عليه مفهوم التَّصوف. وقد يبدوا للناظر أنه يوجد لكل من القولين السابقين ما يبررهما في العقائد الصوفية، وأهل هذا القول يرجعون نشأة التَّصوف إلي أنه فارسي، أو هندي أو يوناني، أو مسيحي، أو أنه مزيج من هذا كله، وعلي رأس هذا الفريق كثير من المستشرقين ومن غيرهم أيضاً.
والمطلع على الحركة الصوفية من أول نشأتها إلى حين ظهورها العلني على ذلك النحو يجد أن أساطين الفكر الصوفي جميعهم بلا استثناء في القرن الثالث والرابع الهجريين كانوا من الفرس، ولم يكن فيهم عربي قط، وعند مقابلة الدين الصوفي ستجد أن التَّصوف هو الوجه الآخر للتشيع، وأن أهداف التَّصوف والتشيع كانت واحدة تقريبًا، في السياسة والدين، والمهم هنا هو التذكير بأن التَّصوف بلغ غايته وذروته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث حيث استطاع الحسين بن منصور الحلاج أن يظهر معتقده على الملأ، ولذلك أفتى علماء العصر بكفره وقتله، فقتل سنة 309هـ وصلب على جسر بغداد، وسئل الصوفية الآخرون فلم يظهروا ما أظهر الحلاج.(1/19)
وعلى الرغم من ذلك فإنّ الصوفية ظلت تواصل انتشارها في أرض فارس على الخصوص ثم العراق . . وساعد على انتشارها في فارس أن أقام رجل يسمى أبو سعيد الميهني نظامًا خاصًا للخانات الذي أصبح فيما بعد مركزًا للصوفية، وقلده في ذلك عامة رجال التَّصوف ومن هنا نشأت في منتصف القرن الرابع الهجري بدايات الطرق الصوفية التي سرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب، وفي القرن السادس ظهرت مجموعة من رجال التَّصوف كل منهم يزعم أنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، واستطاع كل منهم أن يقيم له طريقة صوفية خاصة وأتباعًا مخصوصين، فظهر الرفاعي في العراق، والبدوي في مصر وأصله من المغرب ولا يعرف له أم ولا أب ولا أسرة ولا هو من المغرب، وكذلك الشاذلي في مصر وأصله كذلك من المغرب .
وتتابع ظهور الطرق الصوفية التي تفرعت من هذه الطرق، وفي القرون السادس والسابع والثامن . . بلغت الفتنة الصوفية أقصاها وأنشئت فرق خاصة بالدراويش وظهر المجاذيب وبنيت القباب على القبور في كل ناحية، وذلك بقيام الدولة الفاطمية في مصر وبسط سيطرتها على أقاليم واسعة من العالم الإسلامي، وبنائها للمزارات والقبور المفتراة كقبر الحسين بن علي رضي الله عنهما في مصر والسيدة زينب، وإقامتهم بعد ذلك الموالد والبدع والخرافات الكثيرة، وتأليههم في النهاية للحاكم بأمر الله الفاطمي؛ لقد بدأت الدعوة الفاطمية بالمغرب لتكون بديلًا للحكم العباسي السني، واستطاعت هذه الدولة تجنيد هذه الفرق الصوفية وغزو العالم الإسلامي بهذه الجيوش الباطنية التي كان لها أعظم الأثر بعد ذلك في تمكين الجيوش الصليبية من أرض الإسلام كما ستطالعه بأدلته في هذه الرسالة .
عوامل نشأة التَّصوف:(1/20)
لقد عمّ الخطب وطمّ في القرون المتأخرة التاسع والعاشر والحادي عشر إذ ظهرت آلاف الطرق الصوفية، وانتشرت العقيدة والشريعة الصوفية في الأمة، واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة . وقد قامت الدعوة للصوفية وإظهار شأنها من جديد في هذا العصر على نطاق واسع بسبب عوامل عدة:منها:-
1- جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم، ثم الجهل بحقيقة الصوفية كذلك.
2- مساعدة أعداء الإسلام على نشر الصوفية، لأنهم يعرفون المكاسب التي سيجنون ثمارها إذا علا سلطان الصوفية وفشا الجهل، وانتشرت الخرافات الصوفية وخزعبلاتها، وتأثروا بآرائها السلبية في مفهوم الجهاد في سبيل الله، وفي مفهوم وحدة الأديان التابعة لمفهوم وحدة الوجود.
الصِّلة بين التَّصوف والتشيع:
إنَّ صلة الصوفية بالتشيع شيء مؤكد, فمرجعهم دائماً من الصحابة هو علي بن أبي طالب أو الحسن بن علي"الذي هو أول الأقطاب".(1) سلاسل التصوف كلها ما عدا النادر القليل منها تنتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي طرق إسنادها إلى علي أسماء أئمة الشيعة المعصومين حسب زعمهم من أولاد علي رضي الله عنه دون غيرهم, وأن رؤساء هذه العصابة يذكر لهم اتصال وثيق, وصلات وطيدة مع أئمة القوم كما يذكر في تراجمهم وسيرهم وأحوالهم, إضافة إلى ذلك أن الخرقة الصوفية لا يبدأ ذكرها أيضا إلا من علي رضي الله عنه أيضا.(2)
__________
(1) - لطائف المنن ص 67.
(2) - التَّصَوُّفُ المنْشَأ وَالمَصَادِر:إحسان إلهي ظهير ص131.(1/21)
وقالت الصوفية بالقطب والأبدال وهذا من أثر الإسماعيلية والشيعة.(1) وعوامل نشأة الفرقتين وطبيعة كل منها توجب أن يقترب التشيع والتَّصوف, فالشيعة انهزموا في ميدان السياسة, والصوفية انهزموا في ميدان الحياة, وأهل فارس هم أكثر الناس تصوفاً بين الأمم الإسلامية(2), وقد أخذ الصوفية فكرة الحياة المستمرة لبعض الأشخاص من الشيعة الذين يقولون بمهدية فلان أو فلان وأنه حي إلى الآن. قال ابن حزم:"وسلك في هذا السبيل بعض نوكي الصوفية فزعموا أن الخضر وإلياس عليهما السلام حيّان إلى اليوم".(3)
وقد اعتمد الصوفي عبد الرحمن السلمي في تفسيره على ما يروى عن جعفر الصادق من تأويلات للقرآن مخالفة للمنهاج الصحيح في التفسير, فإذا قالت الشيعة في تفسير قوله تعالى "وعلى الأعراف رجال" هو علي بن أبي طالب يعرف أنصاره بأسمائهم, قال السلمي:أصحاب المعرفة أصحاب الأعراف, وقال ابن عربي:"رجال هم العرفاء أهل الله وخاصته".(4)
ويذكر السراج أنَّه"لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بين جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصية بمعان جليلة وإشارات لطيفة وألفاظ مفردة وعبارة، وبيان للتوحيد والمعرفة والعلم, تعلَّق وتخلَّق بها أهل الحقائق من الصوفية".(5) وعلي رضي الله عنه من علماء الصحابة وأفضلهم بعد سابقيه في الخلافة فلماذا هذه الخصوصية ؟
__________
(1) - أبجد العلوم: صديق حسن خان 2/160.
(2) التصوف الإسلامي: زكي مبارك 2/28.
(3) - الصلة بين التصوف والتشيع: د. مصطفى الشيبي ص 136.
(4) - المصدر السابق ص 191.
(5) - نفس المصدر ص343.(1/22)
كما أخذ الصوفية مسألة عصمة الولي من الشيعة الذين يقولون بعصمة الأئمة ولكنهم أخفوها فترة من الزمن فسموها(الحفظ) ثم صرح بها القشيري فقال:"واعلم أن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات والعصمة من المعاصي والمخالفات, ويجوز أن يكون من جملة كرامات ولي الله أن يعلم أنه ولي".(1) ومن الموافقات الغريبة أن كل زعماء الطرق الصوفية يرجع نسبهم إلى علي بن أبي طالب ويتوارثون زعامة الطريقة كالإمامة عند الشيعة, وإذا كانت المشيخة هي محصول المجاهدة والسلوك فهل ولد الشيخ يجب أن يكون شيخاً؟
إن الشيخ عبد القادر الجيلاني يرجع نسبه إلى آل البيت، وكذلك الشيخ أحمد الرفاعي والبدوي، وأبو الحسن الشاذلي، والبكتاشي، والسنوسي، والمهدي، وكل زعماء الطرق حتى في البلاد الأعجمية مثل محمد نور بخش، وخواجه اسحق وباليم سلطان.(2)
والثلاثة الذين اشتهروا في التاريخ الإسلامي باسم الصوفي ولقبه بادئ ذي بدء كان اثنان منهم من الشيعة أو متهمين بالتشيع, كما أن هؤلاء الثلاثة كلهم كانوا من موطن الشيعة آنذاك, وهو الكوفة.
1- فأبو هاشم الكوفي وإن لم يرم بالتشيع، فقد كان من الكوفة الشيعية, ومتهما بالزندقة والدهرية.
__________
(1) - ص نفس المصدر ص386.
(2) المصدر السابق ص 446.(1/23)
2-جابر بن حيان فيذكره ماسينيون بقوله:"وورد لفظ الصوفي لقبا مفردا لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذ نعت به جابر بن حيان وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة, له في الزهد مذهب خاص". وذكره نيكلسون بقوله:"جابر بن حيان الكيميائي المعروف كان يدعي جابر الصوفي, وأنه تقلد كما تقلد ذو النون المصري علم الباطن الذي يطلق عليه القفطي مذهب المتصوفين من أهل الإسلام". ويذكر المستشرقان التشيكوسلاوي بي كراؤس، وم بلسنر أن جابر بن حيان كان من الشيعة الغلاة, ولعله كان من القرامطة أو الإسماعيلية, وكان يرجح مثل النصيرية سلمان على محمد, كما كان يعتقد مثل الغلاة والنصيرية عقيدة تناسخ الأرواح وهذان المستشرقان ينقلان عن جابر بن حيان نفسه أنه يقول:إنه أخذ جميع علومه عن جعفر الصادق معدن الحكمة, وأنه ليس إلا الناقل المحض والمرتب.(1/24)
والشيعة فيعدونه من أعيانهم.فلقد كتب السيد محسن الأمين الشيعي المشهور في ترجمته أكثر من ثلاثين صفحة في كتابه(أعيان الشيعة) فيقول:"أبو عبد الله, ويقال:أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الطرطوسي الكوفي المعروف بالصوفي...كان حكيما رياضيا فيلسوفا عالما بالنجوم طبيبا منطقيا رصديا مؤلفا مكثرا في جميع هذه العلوم وغيرها: كالزهد والمواعظ, من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام, وأحد أبوابه, ومن كبار الشيعة, وما يأتي عند تعداد مؤلفاته يدل على أنه كان من عجائب الدنيا ونوادر الدهر,...إذا هو زاهد واعظ مؤلف كتبا في الزهد والمواعظ".(1) ثم نقل عن عديد من الشيعة أنهم ذكروا في كتبهم الرجالية, وعدّوه من تلامذة جعفر بن الباقر, ثم قال:"يستفاد مما سلف أمور, وهي:تشيعه, وعلمه بصناعة الكيمياء, وتصوفه, وفلسفته, وتلمذته على الصادق عليه السلام, واشتهاره عند أكابر العلماء, واشتهار كتبه بينهم اشتهارا لا مزيد عليه".(2)
3- عَبْدك أو عبد الله الصوفي فهذا ذكره كل من المستشرق ماسينيون، والباحث الإيراني الشيعي الدكتور قاسم غني, والشيعي العراقي الدكتور مصطفى الشيبي وغيرهم, على أنه كان شيعيا مغالياً.
يقول المستشرق ماسينيون:"أمَّا صيغة الجمع (الصوفية) التي ظهرت عام 199هـ-814م في خبر فتنة قامت بالإسكندرية فكانت تدل– قرابة ذلك العهد فيما يراه المحاسبي والجاحظ–على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكون شيعيا نشأ في الكوفة, وكان عبدك الصوفي آخر أئمته, وهو من القائلين بأن الإمامة بالتعيين, وكان لا يأكل اللحم, وتوفي ببغداد حوالي عام 210هـ- 825م".(3)
__________
(1) - أعيان الشيعة لمحسن الأمين الشيعي 15/87, 88 ط دار التعارف للمطبوعات بيروت.
(2) - المصدر السابق ص 102.
(3) - التصوف: ماسينيون ص27.(1/25)
ونقل الدكتور مصطفى الشيبي عن السمعاني صاحب كتاب (الأنساب) أنّه قال:"إن اسم عبدك هو عبد الكريم, وأن حفيده محمد بن علي بن عبدك الشيعي كان مقدم الشيعة...وهكذا يبدو عبدك جامعا لاتجاهات عديدة مختلفة نابعة من التشيع, الممتزجة بالزهد المتأثر بظروف الكوفة التي انتقل منها كثير من سكانها إلى بغداد, بعد أن صارت عاصمة للدولة الجديدة, والمهم في شأن عبدك أنه أول كوفي يطلق عليه اسم صوفي بعد انتقاله إلى بغداد...وقد رأينا أن لبس الصوف قد نبع من بيئة الكوفة التي عرفت بتمسكها بالتشيع ومعارضتها وحربها بالسيف أو بالقول أو بالقلب لمن نكل بالأئمة العلويين, وذلك –إذا صح– يقطع بأن التصوف في أصوله الأولى كان متصلا بالتشيع".(1)
المبحث الثالث: طبقات الصوفية:
ظهرت في القرنين الثالث والرابع الهجري طبقتان من المنتسبين إلى التَّصوف وهي:-
الطبقة الأولى:
تكتل التيار الذي اشتهر بالصدق في الزهد إلى حد الوساوس، والعزوف عن الدنيا، والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه الصدر الأول من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بل وعن عباد القرن السابق له، ولكنه كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم-مثل الجنيد- بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات، ومن أشهر رموز هذا التيار:-
__________
(1) - الصلة بين التصوف والتشيع 1/293(1/26)
* الجنيد: هو أبو القاسم الخراز المتوفى 298هـ يلقبه الصوفية بسيد الطائفة، ولذلك يعد من أهم الشخصيات التي يعتمد المتصوفة على أقواله وآرائه وبخاصة في التوحيد والمعرفة والمحبة. وقد تأثر بآراء ذي النون النوبي، فهذبها، وجمعها ونشرها من بعده تلميذه الشبلي، ولكنه خالف طريقة ذي النون والحلاج والبسطامي في الفناء، حيث كان يؤثر الصحو على السكر وينكر الشطحات، ويؤثر البقاء على الفناء، فللفناء عنده معنى آخر، وقد أنكر على المتصوفة سقوط التكاليف. وقد تأثر الجنيد بأستاذه الحارث المحاسبي والذي يعد أول من خلط الكلام بالتَّصوف، وبخاله السري السقطي ت 253هـ.
* وهناك آخرون تشملهم هذه الطبقة أمثال:أبو سليمان الدارني عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العني ت205هـ، وأحمد بن الحواري، والحسن بن منصور بن إبراهيم أبو علي الشطوي الصوفي وقد روى عنه البخاري في صحيحه، والسري بن المغلس السقطي أبو الحسن ت253هـ، وسهل بن عبد الله التستري ت273هـ، ومعروف الكرخي أبو محفوظ توفي 412هـ، ومحمد بن الحسن الأزدي السلمي، ومحمد بن الحسن بن الفضل بن العباس أبو يعلى البصري الصوفي توفي 368هـ شيخ الخطيب البغدادي.
ومن أهم السمات الأخرى لهذه الطبقة:
أ- بداية التمييز عن جمهور المسلمين والعلماء، وظهور مصطلحات تدل على ذلك بشكل مهد لظهور الطرق من بعد، مثل قول بعضهم: علمنا، مذهبنا، طريقنا، قال الجنيد:"علمنا مشتبك مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهو انتساب محرم شرعاً حيث يفضي إلى البدعة والمعصية بل وإلى الشرك أيضاً، وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يخرج من ماله، وأن يقل من غذائه وأن يترك الزواج مادام في سلوكه.(1/27)
ب- كثرت الاهتمام بالوعظ والقصص، مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما في الوقت الذي اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان ونساك أهل الكتاب حيث حدث الالتقاء ببعضهم، مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين. ونتج عن ذلك اتخاذ دور للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية أو قصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي صلى الله عليه وسلم مما سبب العداء الشديد بينهم وبين الفقهاء، كما ظهرت فيهم ادعاءات الكشف والخوارق وبعض المقولات الكلامية. وفي هذه الفترة ظهرت لهم تصانيف كثيرة في مثل:كتب أبو طالب المكي قوت القلوب وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وكتب الحارث المحاسبي. وقد حذر العلماء الأوائل من هذه الكتب لاشتمالها على الأحاديث الموضوعة والمنكرة، واشتمالها على الإسرائيليات وأقوال أهل الكتاب. سئل الإمام أبو زرعة عن هذه الكتب فقيل له:في هذه عبرة ؟ قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة .
ج- الذوق من أهم هذه السمات المميزة لمذاهب التَّصوف والقاسم المشترك للمنهج المميز بينهم في تناول العبادة وغيرها، والذوق أدى إلى اتساع الخرق عليهم، فلم يستطيعوا أن يحموا نهجهم الصوفي من الاندماج أو التأثر بعقائد وفلسفات غير إسلامية، مما سهل على اندثار هذه الطبقة وزيادة انتشار الطبقة الثانية التي زاد غلوها وانحرافها.
الطبقة الثانية:(1/28)
خلطت هذه الطبقة الزهد بعبارات الباطنية، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجريدي والكلام النظري، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والسكر، والصحو، والكشف، والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال والمقامات، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم مما زاد العداء بينهما، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة، ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التَّصوف حتى الآن.
وفيها اختلط التَّصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، على أن الموجود الحق هو الله، وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت في ظهور نظريات الفيض والإشراق على يد الغزالي والسهروردي. وبذلك تعد هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التَّصوف والتي تعدت مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التَّصوف عن الإسلام بالكلية.
ومن أهمّ أعلام هذه الطبقة:أبو اليزيد البسطامي ت263هـ، وذو النون المصري ت245هـ، والحلاج ت309هـ، وأبو سعيد الخزار277-286هـ، والحكيم الترمذي ت320هـ، أبو بكر الشبلي 334هـ. والسهروردي 587هـ، ومحي الدين ابن عربي ت638هـ، وابن الفارض632هـ، وابن سبعين ت 667 هـ.
المبحث الرابع: مصادر التلقي عند الصوفية:(1/29)
إنَّ مصادر التلقي في التشريع عند المسلمين فهو الكتاب والسنة والإجماع والقياس.وأمّا مصادر التلقي عند المتصوفة فإنّ تشريعاتهم تقوم على المنامات والخضر والجن والأموات والشيوخ، وكل هؤلاء مشرعون، ولذلك تعددت طرق التَّصوف وتشريعاته، بل قالوا: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فلكل شيخ طريقة ومنهج للتربية، وذكر مخصوص وشعائر مخصوصة، وعبارات مخصوصة، ولذلك فالتَّصوف آلاف الأديان والعقائد والشرائع، بل مئات الآلاف وما لا يحصى، وكلها تحت مسمّى التَّصوف، وهذا هو الفارق الأساسي بين الإسلام والتَّصوف، فالإسلام دين محدد العقائد، محدد العبارات، محدد الشرائع. والتَّصوف دين لا حدود ولا تعاريف له في العقائد أو الشرائع.
أولا: الكشف: ويعتمد الصوفية الكشف مصدراً وثيقاً للعلوم والمعارف، بل تحقيق غاية عبادتهم، ويدخل تحت الكشف الصوفي جملة من الأمور الشرعية والكونية منها:-
1-النبي صلى الله عليه وسلم:ويقصدون به الأخذ عنه يقظةً أو مناماً.
2- الخضر عليه الصلاة السلام: قد كثرت حكايتهم عن تقياه، والأخذ عنه أحكاماً شرعية وعلوماً دينية، وكذلك الأوراد، والأذكار والمناقب.
3- الإلهام: سواء كان من الله تعالى مباشرة، وبه جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي حيث يعتقدون أن الولي يأخذ العلم مباشرة عن الله تعالى حيث أخذه الملك الذي يوحي به إلى النبي أو الرسول.
4-الفراسة: والتي تختص بمعرفة خواطر النفوس وأحاديثها.
5- الهواتف: من سماع الخطاب من الله تعالى، أو من الملائكة، أو الجن الصالح، أو من أحد الأولياء، أو الخضر، أو إبليس، سواء كان مناماً أو يقظةً أو في حالة بينهما بواسطة الأذن.
6- الإسراءات والمعاريج: ويقصدون بها عروج روح الولي إلى العالم العلوي، وجولاتها هناك والإتيان منها بشتى العلوم والأسرار.
7- الكشف الحسي: بالكشف عن حقائق الوجود بارتفاع الحجب الحسية عن عين القلب وعين البصر.(1/30)
8- الرؤى والمنامات: وتعتبر من أكثر المصادر اعتماداً عليها حيث يزعمون أنهم يتلقون فيها عن الله تعالى، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد شيوخهم لمعرفة الأحكام الشرعية.
ثانيا:الذوق: وله إطلاقان:-
1- الذوق العام الذي ينظم جميع الأحوال والمقامات، ويرى الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال إمكان السالك أن يتذوق حقيقة النبوة، وأن يدرك خاصيتها بالمنازلة.
2- الذوق الخاص فتتفاوت درجاته بينهم حيث يبدأ بالذوق ثم الشرب.
ثالثا:الوجد: وله ثلاثة مراتب:-
1- التواجد.
2- الوجد.
3- الوجود.
رابعاً: التلقي عن الأنبياء غير النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشياخ المقبورين.
الكشف عند الصوفية:
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله عن الصوفية:"إن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل الطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم…وانكشف له سر الملكوت....فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة. ويرى أبو حامد إن علوم الأنبياء والأولياء عن طريق المكاشفة، لا بالتعلم و الكتابة للكتب".(1)
ويقول عبد الرحمن إلجامي:"إنّ مستند الصوفية فيما ذهبوا إليه هو الكشف والعيان, لا النظر والبرهان. ويقول ابن عربي في رسالته إلى الفخر الرازي:"ارفع الهمة في أن لا تأخذ علما إلا من الله تعالى على الكشف, وأنه من المحال للعقل والفكر أن يصل إلى ما يطمئن إليه الإنسان في معرفة الله تعالى, وعليك أن تلزم طريق الرياضات والمجاهدات والخلوات".
__________
(1) - الإحياء 3/19.(1/31)
وقال عبد الكريم الجيلي:"إن إدراك الذات العلية هو بطريق الكشف الذي هو فوق العلم, ومن قبيل الذوق". وقال القاشاني:ومن العارفين من تحمله العناية الأزلية فيشهد الله تعالى بعد المشاهدة السابقة في معهد ألست بربكم, وهذه المشاهدة مطابقة للواقع كمستيقظ يرى مشهودا حقيقيا.
ويقول شعراً حسن رضوان:
أسماؤه وسائر الصفات مجهولة لغيره كالذات
وليس للعقول فيها مدرك بل من وراء العقل كشفا تدرك
الكشف لغة اصطلاحا:
أولا: الكشف لغة:
الكشف في اللغة هو الإظهار:يقال كشف الأمر يكشفه كشفا أي أظهره. والكشف هو رفعك الشيء عما يواريه ويغطيه, أي إظهاره.
ثانيا:الكشف اصطلاحا:
هو:"الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجودا وشهودا ". وقال السراج الطوسي: "الكشف بيان ما يستتر على الفهم, فيكشف عنه للعبد كأنه رأى العين". وقال حسن رضوان:
فالكشف رفع ظلمة الحجاب عن قلبه ونفي الارتياب
فعن يقين كل أمر ينكشف له نعم والاكتشاف يختلف
وأما المكاشفة فهي حضور للقلب لا ينعت بالبيان, فيكشف له ما يستر على الفهم, كأنه رأي العين. يقول أبو حامد الغزالي:"ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجري في مجرى العيان الذي لا يشك فيه".
وللصوفية مصطلحات تحمل معنى الكشف, منها التجلي: وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب. ومنها الذوق: وهو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه, يفرقون به بين الحق والباطل, من غير أن ينقلوا ذلك عن كتاب أو غيره. والكشف عند الصوفية يقابله الإشراق عند أصحاب الفلسفة الإشراقية كالسهروردي وغيره.
طريقة تحصيل الكشف:(1/32)
الكشف لا يمكنه البرهنة والاستدلال عليه حسا وعقلا, ولا يمكن انتقاله إلى الآخرين, وهو وقف على صاحبه السالك فحسب, لأنه وحده يعيش حالة الكشف..ومن أراد أن يحقق طريق الكشف فما عليه إلا أن يسلك الطريق الصوفي الذي يؤهله لذلك. فالكشف حال تعلم بالمنازلات والمجاهدات والمواجيد, فلا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال, وحل تلك المقامات. والوصول إلى حالة الكشف لا يكون بتحصيل العلم, ولا بقراءة القرآن وكتب التفسير والحديث, ولكن بسلوك طريق خاص, بينها أئمة الصوفية في كثير من مصنفاتهم.
وطريقة تحصيل الكشف تكون: بتقديم المجاهدة, ومحو الصفات المذمومة, وقطع علائق الدنيا كلها, وتفريغ القلب من شواغلها, والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى, ولابد للسالك من الخلوة, والخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم, فإن لم يكن له مكان مظلم, يلف رأسه بجيبه, أو يتدثر بكساء أو إزاره, ويداوم على ذكر الله تعالى مع مراعاة الأدب والمراقبة والحضور, مع توحد العزيمة ودوام الجمعية, والمواظبة على هذه الحال, دون فتور, ولا تقسيم خاطر, ولا تشتت عزيمة, ويجب على السالك أن يقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن, وعن العلم والولاية والجاه, مع اقتصاره على الفرائض والرواتب, ولا يشغل نفسه بقراءة قرآن, ولا بالنظر في كتب التفسير والحديث ونحو ذلك من كنب العلم, فإذا واظب على هذا الحال تولى الله تعالى أمر القلب, وإذا تولاه فاضت عليه الرحمة, وأشرق النور فيه, وانشرح الصد وانكشف له سر الملكوت, وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة, وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية. وبالكشف يحقق الصوفية رؤية الله تعالى بالأبصار بعد طوال العناء. وشدة الرياضة والمجاهدات. وقد تحدث ابن عربي في الفتوحات المكية عن مشاهداته لله تعالى وتكليمه له.(1/33)
ونقل ابن الجوزي عن عدد من العلماء أنّ الصوفية ذموا العلماء، وزعموا أن الاشتغال بالعلم بطالة لأن علومهم بلا واسطة، وتوهم قوم من الصوفية أنّ المقصود هو العمل، وما فهموا أن التشاغل في العلم -الشرعي- من أوفى العمل، وإنّ العالم وإن قصر في العمل فهو على الجادة والعابد بغير علم على غير الطريق.
وزعموا أن العالم من اكتسب من البواطن حتى يقول أحدهم حدثني قلبي عن ربي.
ويقول آخر شعراً: إذا طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق
واستدل المتصوفة بحديث لا اصل له عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (علم الباطن سر من أسرار الله عز وجل وحكم من أحكامه يقذفه الله عز وجل في قلوب من يشاء من أوليائه) وهذا الحديث كما يقول ابن الجوزي لا أصل له وفي إسناده مجاهيل.(1)
وكان العفيف التلمساني يشرح كتاب الفصوص، فإذا قيل له هذا مخالف للقرآن والحديث، قال التلمساني:ارم هذا كله خلف الباب واحضر بقلب صاف.(2)
ولأنَّ الصوفية اعتمدوا على علم المكاشفة كانوا يدفنون الكتب في التراب أو يلقوها في اليم، وذلك لإتلافها كما أنهم كانوا يزعمون أن من اعتمد على العلم الشرعي والحديث والكتابة فإنه لا يمكن أن يصل أبداً. فقد كان أبو الحسن بن الخلال حسن الفهم، وله صبر على الحديث وأنه كان يتصوف ويرمي بالحديث مدة، ثم يرجع ويكتب، ولقد رمى بجملة من سماعاته القديمة في دجلة.(3)
__________
(1) - تلبيس إبليس 308، 309.
(2) - انظر الفتاوى 2/245.
(3) - تلبيس إبليس ص313.(1/34)
يقول أبو بكر الشبلي أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه وأغرق في هذه الدجله سبعين قمطراً مكتوباً بخطه.(1) وقال أبو سعيد عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي: كنت أنزل رباط الصوفية، واطلب الحديث في خفية، بحيث لا يعلمون فسقطت الدواة يوماً من كمي فقال لي بعض الصوفية استر عورتك.(2) وقال الحسين بن أحمد الصفار:كان بيدي محبرة فقال لي الشبلي: غيّب سوادك عنى يكفيني سواد قلبي.(3)
وقد اعترف الصوفية بوعورة طريق الكشف, وأن صاحبها قد يضل أثناء سلوكها, وأن عمره قد يضيع دون أن يصل إلى حالة الكشف, بل يبقى يعيش فترة من الزمان في خيالات وأوهام. ويقول الغزالي:"وفي أثناء هذه المجاهدة, قد يفسد المزاج, ويختلط العقل, ويمرض البدن, وإذا لم يتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم, نشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمل قبل النجاح فيها فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة".
__________
(1) - السابق 313.
(2) - نفس المرجع 316.
(3) - المرجع نفسه 316.(1/35)
ويقول أبو حامد الغزالي :" فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى . فمن كان لله، كان الله له، وزعموا أن الطريق في ذلك، أولًا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن، وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه . ثم يخلوا بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسيره، ولا يكتب حديثًا ولا غيره . بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى . فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة، قائلًا بلسانه : الله . ...الله . . .على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه . ثم يصير عليه إلى أن يمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقي معنى الكلمة مجردًا في قلبه حاضرًا فيه، كأنه لازم له، لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس . وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى . بل هو بما فعله صار متعرضًا لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق .(1/36)
وعند ذلك إذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، فلم تجاذبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا-تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف ثم يلبث ثم يعود وقد يتأخر . وإن عاد فقد يثبت، وقد يكون مختطفًا . وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد . ومنازل الأولياء الله تعالى فيه لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم، وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك، وتصفية وتجليات، ثم استعداد وانتظار فقط " .
فانظر قول الغزالي عن الصوفي الذي يريد الوصول إلى الكشف: "ويجلس فارغ القلب، مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا يكتب حديثًا ولا غيره . . بل يقول . . .الله الله على الدوام . ." فهل وجد مثل هذا الأمر في كتاب أو سنة أو أنه عمل مبتدع يريد به صاحبه غاية لا تحصل له، وهي رؤية الله أو أنوار الله، أو الملائكة أو رسول الله ؟ !(1/37)
وأدهى من ذلك أنهم استعملوا الكشف والخواطر لتقوية أحاديث ضعيفة أو لتضعيف أحاديث قوية بحسب مزاج (المكاشف) الذي قد يكون فهمه في الواقع دون فهم الأمي الجاهل! يقول ابن عربي:"ورب حديثٍ يكون صحيحاً عن طريق رواته (العوام)، وحصل للمكاشف الذي يكون قد عاين هذا المظهر فسأل النبي– في موقف المكاشفة والمعاينة، عنه فأنكره، يقصد النبي، وقال للمكاشف:لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفَه ويترك العمل به–على بينة من ربه! وعلى الرغم من عمل أهل النقل! وهذا ولا شك تخريب لأصول الإسلام وفروعه، وبهذا جرؤ المتصوفة على التنكر للشريعة، وشجعوا على وضع الحديث وتهربوا من تبعات أفعالهم. وجعلوا محور احتجاجهم حديثٌ يسندونه إلى رسول الله عليه السلام:"ما من آية إلا ولها ظاهر وباطن وحَدٌّ ومطلعٌ، ولكل مرتبةٍ من هذه المراتب رجال وأحوال ولكل طائفة من هذه الطوائف قطبٌ وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف".(1) وزعم ابن عربي أن أصحابه وهم أهل الكشف أجمعوا على صحة هذا الحديث.
الرد على قول الصوفية بالكشف:
1- إن الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاء عن الله تعالى، وذلك لا يعرف إلا من الكتاب والسنة والإجماع(2)، قال تعالى:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) النساء:59. لذا لا يصح التحاكم إلى الرؤى المنامية ولا إلى المكاشفات، لأن ذلك ليس بمنضبط ولا يعلم الصادق من الكاذب.
2- شرط العلم النافع التقوى )وَاتقُوا الله وَيُعَلمكُمْ الله (وكل من خالف الكتاب والسنة أو جاء بعلم يخالفهما فليس تقياً حتى وإن ادعى الولاية والصلاح.
__________
(1) -الفتوحات المكية:ابن عربي 1/242.
(2) - الفتاوى 19/5.(1/38)
3-الفراسة هي أمر يقذفه الله في قلب المؤمن وهو خاطر يخطر للإنسان يميز فيه بين الحق والباطل.(1) والكشف يحصل بطريق الرياضة والجوع والسهر وهذا قد يحصل للكافر كما يحصل للمؤمن فقد حصل على ذلك كثير من المرتاضين من كفرة الهند والنصارى والمجوس.(2) فالمميز بين الفراسة وإلقاء الشيطان هو التقوى.
4-من لم تحصل له فراسة أو خارق لا يلحق ذلك ضرراً به ولا يؤثر ذلك في دينه وإيمانه، وليس الفراسة هي مقياس محبه الله للعبد ورضاه به.
وقد يسلك بعض الصوفية الطرق ويقضي عمره في العبادة ولا يحصل له شيء من مكاشفاتهم فهل يضره ذلك إن كان على سنه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
5- إن طريق المكاشفة يبعد عن العلم الشرعي ويزهد فيه قال أبو حامد الغزالي:"من الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يستغني عن مدد الأنبياء".(3) وقال أبو القاسم الجنيد بن محمد:"إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه، وقال الدقي:"سوء أدب الفقراء انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم".(4)
6- كثير من غلاه الصوفية والزنادقه يقدمون الكشف والذوق على ظاهر الكتاب والسنة عند التعارض، وأدى ذلك ببعضهم إلى إسقاط التكاليف الشرعية.
قال أبو حامد الغزالى:"ومن جنس ما يدعيه بعض من يدعي أنه قد بلغ حالة بينه وبين الله عز وجل أسقطت عنه الصلاة وحل له شرب الخمر والمعاصي".(5)
__________
(1) - مدارج السالكين 2/484.
(2) -السابق 2/228.
(3) - مشكاة الأنوار للغزالي، ص139.
(4) - القشيرية ص125-126.
(5) - فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة:للغزالي – مكتبة الجندي مصر، ص146.(1/39)
7- وأمَّا إتلاف الصوفية للكتب فلا تخلو هذه الكتب التي دفنوها أن يكون فيها حق أو باطل أو قد اختلط الحق بالباطل. فإن كان الذي أتلفوه باطلاً، فلا لوم عليهم. وإن كان قد اختلط الحق بالباطل ولم يمكن تمييزه كان معذوراً في إتلافها، كما دفن سفيان الثوري الكتب التي فيها اختلاط، وان كان فيها الحق والشرع فلا يحل إتلافها بوجه لكونها ضابطة العلم، وهى أموال لا يصح تضييعها. كما يرد عليهم من ثلاثة وجوه:-
أ - إنك لو فهمت لعلمت أنّ التشاغل بالعلم أوفى العبادات.
ب- إن اليقظة التي وقعت لك لا تدوم، وقد تندم بعد فوات الأوان، ولا تبقى القلوب على صفائها فقد تصدأ وتحتاج إلى النظر في كتب العلم، ومن أضاع الكتب قد يحدِّث من علمه فيحصل له خلط.
ج- وإذا استمرت يقظتك وحفظك، فهل وهبتها لمن هو دونك، أو أوقفتها على من ينتفع بها، أو بعتها وتصدقت بثمنها.(1) وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يرى المحابر بأيدي طلبه العلم فيقول:هذه سرج الإسلام وكان رحمه الله يحمل المحبرة على كبر سنه، فقال له رجل:إلى متى يا أبا عبد الله فقال: المحبرة إلى المقبرة.(2)
8- إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبطوا الحديث وحفظوا القرآن وكتبوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على ذلك ومن ذلك قوله:"استعن على حفظك بيمينك"(3) يعنى بالكتابة، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قيدوا العلم فقلت وما تقيده ؟ قال: الكتابة".(4) ولما سئل عليه السلام عن كتابة أقواله قال:"اكتبوا ولا حرج".(5) والعلم هو النور والجهل ظلام، فمن ترك العلم عاش في ظلمة الجهل.
الفصل الثاني
العقائد الصوفية
__________
(1) - تلبيس إبليس ص315.
(2) - السابق ص317.
(3) لسان الميزان 4/20، وأخرجه العقيلي في كتابه الضعفاء (3/83).
(4) - سنن الدرامي باب من رخص في كتابة الغلم رقم 427 (1/138).
(5) المعجم الكبير للطبراني رقم 4410 (1/51)، مجمع الزوائد (1/151).(1/40)
المبحث الأول:عقيدتهم في القرآن الكريم
لقد عمد المتصوفة قديماً وحديثاُ إلى صرف الناس عن القرآن والحديث بأسباب شتى وطرق ملتوية جداً ومن هذه الطرق ما يلي:-
أ- الزعم أن التدبر في القرآن يصرف النظر عن الله: فقد جعلوا الفناء في الله في زعمهم هو غاية الصوفي، وزعموا أيضاً أن تدبر القرآن يصرف عن هذه الغاية وفاتهم أن تدبر القرآن هو ذكر الله عز وجل لأن القرآن إما مدح الله بأسمائه وصفاته، أو ذكر لما فعله سبحانه بأوليائه وبأعدائه، وكل ذلك مدح له وعلم بصفاته أو تدبر لحكمه وشرعه، وفي هذا التدبر تظهر حكمته ورحمته بخلقه عز وجل ولكن لأن الصوفية يريد كل منهم أن يكون إلهاً ويتصف-في زعمه بصفات الله- فإنهم كرهوا تدبر القرآن لذلك. وهاهو الشعراني يقول في كتابه الكبريت الأحمر: يقول الله عز وجل في بعض الهواتف الإلهية:"يا عبادي الليل لي لا للقرآن يتلى إن لك في النهار سبحاً طويلا فاجعل الليل كله لي وما طلبتك إذا تلوت القرآن بالليل لتقف على معانيه فإن معانيه تفرقك عن المشاهدة...وهكذا وما أمرتك بالتدبر إلا لتجتمع بقلبك علي وأما استنباط الأحكام فلها وقت آخر وثم مقام رفيع وأرفع".(1) وهذه زندقة عظيمة، إذ أين قال الله هذا الذي يفتريه الشعراني، ثم كيف يقول الله ما يخالف القرآن الحق المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى:)كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته). وقال تعالى:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد:24، وقال تعالى:(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) قّ:45.
ب- الزعم بأن أجر أذكارهم المبتدعة أفضل من القرآن: قال أحمد التيجاني وغيره إن صلاة الفاتح تعدل كل ذكر تلي في الأرض ستة آلاف مرة..وهذا في المحصلة يؤدي بالناس إلى هجر القرآن إلى الأذكار المبتدعة.
__________
(1) - الكبريت الأحمر على هامش اليواقيت والجواهر ص21.(1/41)
ج- زعمهم أن من قرأ القرآن وفسره عاقبه الله: لأن للقرآن أسرار ورموزاً، وظهراً وبطناً ولا يفهمها إلا الشيوخ الكبار ولو تعرض شيء من تفسيره أو فهمه عاقبه الله عز وجل.
د- جعل القرآن والحديث هو الشريعة والعلم الظاهر وأما العلوم اللدنية الأخرى في زعمهم فهي أكمل وأعلى من القرآن كما قال أبو يزيد البسطامي خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله..وقال ابن سبعين: "لقد حجر ابن آمنة واسعاً إذ قال لا نبي بعدي".وهذا القول من هذا الزنديق في غاية الشناعة والباطل واتهام الرسول!! فلعنة الله على من قال ذلك أو صدقه.. وتابعه في هذا القول.
د- فتح باب التأويل الباطني لنصوص القرآن والحديث: ومن أعظم مخاطر الفكر الصوفي كذلك فتحهم باب للتفسير الباطني لنصوص القرآن والسنة، والحق أنه لا يكاد يوجد آية أو حديث إلا وللمتصوفة الزنادقة تأويلات باطنية خبيثة لها. ويقول ابن الجوزي في وصف ذلك: وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم الذي أكثره هذيان لا يحل نحو مجلدين سماها حقائق التفسير قال في فاتحة الكتاب عنهم أنهم قالوا إنما سميت فاتحة الكتاب لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا فإن تأدبت بذلك وإلا حرمت لطائف ما بعدها.
- قول الصوفية للقرآن ظاهر وباطن:يقول الشيخ عباس بن منصور السكسكي رحمه الله، المتوفى سنة 683 هـ، في كتابه: البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان:"قد ذكرتُ هذه الفرقة الهادية المهديَّة-أي:أهل السنة-وأنَّها على طريقةٍ متَّبعةٍ لهذه الشريعة النبويَّة...وغير ذلك مما هو داخل تحت الشريعة المطهرة، ولم يشذ أحدٌ منهم عن ذلك سوى فرقة واحدةٍ تسمَّت بالصوفية، ينتسبون إلى أهل السنة، وليسوا منهم، قد خالفوهم في الاعتقاد، والأفعال، والأقوال.
أمَّا الاعتقاد: فسلكوا مسلكاً للباطنية الذين قالوا:إن للقرآن ظاهراً، وباطناً، فالظاهر:ما عليه حملة الشريعة النبويَّة، والباطن: ما يعتقدونه، وهو ما قدَّمتُ بعض ذكره.(1/42)
فكذلك أيضاً فرقة الصوفية، قالت:إنَّ للقرآن والسنَّة حقائق خفيَّة باطنة غير ما عليه علماء الشريعة مِن الأحكام الظاهرة التي نقلوها خَلَفاً عن سلف، متصلة بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيد الصحيحة، والنقلة الأثبات، وتلقته الأمَّة بالقبول، وأجمع عليه السواد الأعظم، ويعتقدون أنَّ الله عز وجل حالٌّ فيهم!! ومازج لهم!! وهو مذهب الحسين بن منصور الحلاج المصلوب في بغداد في أيام المقتدر-الذي قدمتُ ذكره الروافض في فصل فرقة الخطابيَّة-ولهذا قال:أنا الله-تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- وأنَّ ما هجس في نفوسهم، وتكلموا به في تفسير قرآنٍ، أو حديثٍ نبويٍّ، أو غير ذلك مما شَرَعوه لأنفسهم، واصطلحوا عليه: منسوب إلى الله تعالى، وأنَّه الحق، وإِنْ خالف ما عليه جمهور العلماء، وأئمَّة الشريعة، وفسَّرتْه علماء أصحابه، وثقاتهم، بناءً على الأصل الذي أصَّلوه مِن الحلول، والممازجة، ويدَّعون أنَّهم قد ارتفعت درجتُهم عن التعبدات اللازمة للعامَّة، وانكشفت لهم حجب الملكوت، واطَّلعوا على أسراره، وصارت عبادتهم بالقلب لا بالجوارح.(1/43)
وقالوا: لأنَّ عمل العامة بالجوارح سُلَّمٌ يؤدِّي إلى علم الحقائق، إذ هو المقصود على الحقيقة، وهي البواطن الخفيَّة عندهم، لا عملٌ بالجوارح، قد وصلنا، واتصلنا، واطَّلعنا على علم الحقائق الذي جهلته العامَّة، وحملة الشرع، وطعنوا حينئذٍ في الفقهاء والأئمَّة والعلماء، وأبطلوا ما هم عليه، وحقَّروهم وصغَّروهم عند العوام والجهَّال، وفي أحكام الشريعة المطهرة، وقالوا: نحن العلماء بعلم الحقيقة، الخواص الذين على الحق، والفقهاء هم العامة؛ لأنَّهم لم يطلعوا على علم الحقيقة، وأعوذ بالله من معرفة الضلالة، فلمَّا أبطلوا علم الشريعة، وأنكروا أحكامها: أباحوا المحظورات، وخرجوا عن إلزام الواجبات، فأباحوا النظر إلى المردان، والخلوة بأجانب النسوان، والتلذذ بأسماع أصوات النساء والصبيان، وسماع المزامير والدفوف والرقص والتصفيق في الشوارع والأسواق بقوة العزيمة، وترك الحشمة، وجعلوا ذلك عبادة يتدينون بها، ويجتمعون لها، ويؤثرونها على الصلوات، ويعتقدونها أفضل العبادات، ويحضرون لذلك المغاني من النساء، والصبيان، وغيرهم مِن أهل الأصوات الحسنة للغناء بالشبابات، والطار، والنقر، والأدفاف المجلجلة، وسائر الآلات المطربة، وأبيات الشعر الغزلية التي توصف فيها محاسن النِّسوان، ويذكر فيها ما تقدم من النساء التي كانت الشعراء تهواها، وتشبب بها في أشعارها، وتصف محاسنها كليلى، ولبنى، وهند، وسعاد، وزينب، وغيرهنَّ، ويقولون: نحن نكنِّي بذلك عن الله عز وجل!! ونَصرف المعنى إليه.(1)
وقال الإمام المفسر أبو الحسن الواحدي:"صنف أبو عبد الرحمن السلمي، حقائق التفسير- وهو تفسير على الطريقة الصوفية بما يعرف بالتفسير الإشاري- فإن كان يعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر".(2)
__________
(1) - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد 59/60.
(2) - فتاوى ابن الصلاح: ص29.(1/44)
ويقول عبد الغني النابلسي الدمشقي الصوفي:"فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلوماً باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له، لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدين محمد صلى الله عليه وسلم، داخل تحت قوله تعالى:(يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)الروم:7.(1)
المبحث الثاني: عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم:
يعتقد الصوفية في الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا عقائد شتى فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف الأنبياء بساحله ، ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون، وهو الله المستوي على العرش، وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي، وكل الكائنات خلقت من نوره، وأنه هو أول موجود، وهو المستوي على عرش الله، وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده . ومنهم من لا يعتقد بذلك بل يرده ويعتقد ببشريته ورسالته، ولكنهم مع ذلك يستشفعون ويتوسلون به صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على وجه يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة.
الحقيقة المحمدية:
تعريفها:هي أول المخلوقات، ومبدأ خلق العالم، وهي النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء، أو هي العقل الإلهي الذي تجلى الحق فيه لنفسه فكان هذا التجلي بمنزلة أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود، وهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود.فالحقيقة المحمدية مزيج من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأثر بالفلسفة اليونانية في تقريرها لأول مخلوق, والتأثر بالنصرانية، التي أضفت صفات الربوبية على المسيح عليه السلام.
__________
(1) - الفتح الرباني والفيض الرحماني ص 133.(1/45)
ويستحيل علينا أن نفهم ما يريده المتصوفة بقولهم:" الحقيقة المحمدية " إلا بمعرفة عقيدتهم في الله . فالنظرية الصوفية الفلسفية قد وصلت في نهاية القرن الثالث إلى القول بأن الله هو هذا الوجود القائم المتجدد المتغير، فهو السماوات والأرض والعرش والكرسي والملائكة والإنسان والحيوان والنبات وهو الأزل والأبد- تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-وإن كانت عباراتهم تختلف أحيانا فمرة يقولون : هو الروح الساري في الموجودات ويشبهون هذا السريان بأنه كرائحة الورد في الورد . ووجود الروح في الجسم الحي . وتارة يقولون نفس وجود الموجودات: هو وجود الله فليس عناك اثنان في الوجود خالق ومخلوق بل المخلوق هو عين الخالق، والخالق هو نفس المخلوق، اعتقد بذلك ونشره في الناس كبار الصوفية من أهل الزندقة والإلحاد كابن عربي، والحلاج، والجيلي، وابن سبعين، ومن على شاكلتهم، وهؤلاء الصوفية أنكروا في كتبهم على من يشهد بأن الله سبحانه وتعالى هو الإله القائم بنفسه المستوي على عرشه البائن من خلقه، والذي هو معتقد المسلمين في ربهم سبحانه وتعالى . وقد كان هذا المعتقد أيضًا هو معتقد بعض من نسب إلى التَّصوف ولذلك شدد ابن عربي عليهم النكير أيضًا وخطّأهم ونسبهم إلى القصور وعدم الفهم.
وعلى أساس هذه النظرية ندرك مغزى ما يقول البوصيري:
وكل آي أتى الرسل الكرامُ بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وقوله:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وقول ابن نباته المصري:
لولاه ما كان أرض ولا أفق ولا زمان ولا خلق ولا جبل
وابن عربي له كتاب(التجليات) الذي يزعم فيه أنه التقى برجال التَّصوف السابقين في البرزخ وناقشهم في عقائدهم هذه في التوحيد وبين لهم خطأهم وعرفهم في النهاية أن لا موجود إلا الله، وأنَّ الله والعبد شيء واحد، وأنَّهم أقرُّوا جميعًا بذلك.(1/46)
والمهم أنَّ هؤلاء المتصوفة الذين نقلوا عقيدة وحدة الوجود عن الفلسفة الأفلاطونية واعتقدوها وجعلوها هي الحقيقة الصوفية وسرُّ الأسرار، وهي معتقد أهل الإسلام في زعمهم، نقلوا ما قاله هؤلاء الفلاسفة في نظرياتهم في بدء الخلق، فقد قال الفلاسفة الأقدمون:إنَّ أوَّل شيء بدأ في الخلق هو الهباء ( أي الذرات ) وإنَّ أوَّل موجود وجد هو العقل الأول وسموه ) العقل الفعال ) ، وأنه عن هذا العقل الأول نشأ العالم العلوي السماوات والكواكب ثم العالم السفلي . . الخ .
هذه النظرية الفلسفية القديمة جاء ابن عربي ونقلها هي نفسها إلى الفكر الصوفي ولكنه استبدل بدلًا من العقل الفعال عند الفلاسفة ما أسماه هو الحقيقة المحمدية فزعم أن أول الخلق كان هباء، وأن أول موجود هو " الحقيقة المحمدية " التي زعم ابن عربي أنها أول الموجودات وعلى حد تعبيره أول التعينات، أي أول عين تشكلت وتصورت من الذرات. يتطاول ابن عربي ويقول إن هذه ( الحقيقة المحمدية ) هي التي استوت على العرش الإلهي . فيجعل ما حدثنا الله سبحانه وتعالى به عن نفسه من أنه خالق الخلق، وأنه المستوي على العرش . . يلوي ابن عربي كل ذلك ويلبس على المسلمين وينقل لهم كلام الفلاسفة الملحدين في أسلوب جديد بغطاء إسلامي وآيات قرآنية فيقول إن ذات محمد هي أول ذات تكونت من الهباء وهي التي استوت على العرش الإلهي . ومن نور هذه الذات خلق الله الخلق جميعًا بعد ذلك فالملائكة والسماوات والأرض كل ذلك قد خلق من نور الذات الأولى.(1/47)
وهي الذات المحمدية عند ابن عربي، والعقل الفعال في الفكر الفلسفي، وهكذا استطاع ابن عربي أن ينقل ترهات الفلاسفة وتخيلاتهم المريضة إلى دنيا المسلمين وعقائدهم بل جعل هذه العقيدة الإلحادية هي العقيدة الأساسية التي قام الفكر الصوفي كله بعد ذلك عليها، فإذا علمنا ماذا يعنيه المتصوفة المتفلسفون بوحدة الوجود وأن الله عندهم ليس ذاتًا يراها المؤمنون في الآخرة وتستوي على العرش، وإنما هو نفس الوجود بكل درجاته وتناقضاته، فالله عندهم هو عين وجود المَلَك والشيطان والإنس والجان، والحيوان والنبات.
وقد فصَّل هذه العقيدة عبد الكريم الجيلي الصوفي الزنديق في كتابه(الإنسان الكامل)..فالرسول صلى الله عليه وسلم عندهم ليس هو الرسول عندنا بل هو عند أساطينهم ومحققيهم هو الله المستوي على العرش، وعند جهلائهم وأغبيائهم هو المخلوق من نور العرش، أو من نور الله وهؤلاء ربما يعتقدون أن الله موجود قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن العرش مخلوق قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن أولئك -المحققين في زعمهم- يعتقدون أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم سابق على وجود العرش بل وجود كل مخلوق لأنه أول (التعينات) أي أول من أصبح عيناً أي شيئاً معيناً ومن نوره تخلقت كل الخلائق بعد ذلك. وأمّا المغفلون منهم فيقول:يا أول خلق الله..ظانين أنه مخلوق قبل كل البشر، فهو عندهم مخلوق قبل آدم نفسه، وأولئك يقولون:يا أول خلق الله على الأرض قبل العرش والكرسي والسموات والأرض والجنة والنار، بل كل هذه في زعمهم خلقت من نور الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذا كفر وهذا كفر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد خُلِق بشَراً كما يُخلق سائر البشر وكان خلقه في وقت تكونه نطفة فعلقة فمضغة..ووليداً. قال تعالى:(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ) الكهف:110.(1/48)
ولا يخفى أيضاً أن هؤلاء المبتدعين لم يخطئوا فقط في حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كذلك أخطئوا في إعطاء كل ما يجب لله عز وجل من كمالات أعطوها للرسول صلى الله عليه وسلم، من دعاء له، واستغاثة به، وعبادة بكل معاني العبادة.
والبوصيري بدأ الحديث عن الحقيقة المحمدية التي يستعلي المؤمنون بها وبمعجزاتها في صراعهم مع أصحاب الديانات الأخرى. فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الأصل الذي ينتسب إليه الأنبياء، وكل معجزاتهم ليست إلا قطرة مستمدة من نظرية النور المحمدي. يقول البوصيري:
وَكُلُّ آيٍ أَتَى الرُّسْلُ الْكِرَامُ بِها ... ... فَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مِنْ نُورِهِ بِهِمِ
فَإِنَّهُ شَمْسُ فَضْلِ هُمْ كَوَاكِبُهَا ... ... يُظْهِرْنَ أَنْوَارَهَا لِلنَّاسِ فِي الظُّلَمِ
وفي ضوء نظرية النور المحمدي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث الحقيقة الروحية قديم أزلي، وجزء من ذات القدس، وهو حي لا يفنى ولا يموت، لكنه من حيث التشخيص الجسماني حادث يمكن أن يضم الترب أعظمه:
لاَ طِيبَ يَعْدِلُ تُرْباً ضَمَّ أَعْظُمَهُ ... ... طُوبَى لِمُنْتَشِقٍ مِنْهُ وَمُلْتَثِمِ
نقض مزاعمهم:(1/49)
هذا الكلام تلفيق بين اليونانية وفق نظرية الفيض النوراني، وبين الخرافات الهندوكية التي تقول بتناسخ الأرواح، والواقع أنّ ثمة رابطاً قوياً بين نظرية الحقيقة المحمدية، وبين احتفالهم بالمولد هي أن الحقيقة تجسدت في شخص النبي صلى الله عليه وسلم في مولده، وهذا ما يهم القوم. أما الشريعة التي جاءت بعد البعث فليست لهم؛ لأنّ علمهم لدنيٌّ مستمد من هذه الحقيقة، ولهذا، فهم يقدسون أولياءهم الذين استمدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والتصريف، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعتقدون حي في قبره، وأن الحقيقة قد انتقلت إلى مَنْ بَعدَه من الأولياء، فلماذا يُحرق عليه وهو لم يمت؟ ولهذا لا نعجب إذا حدثوا أن الرفاعي(صاحب الطريقة الرفاعية) قد مد له النبي صلى الله عليه وسلم يده من القبر فصافحه وأعطاه العهد، أو قالوا قريباً من ذلك عن البدوي أو الدسوقي أو الشاذلي. لكل هذا فهم يقدسون يوم المولد دون غيره.(1/50)
والمشكلة أن هذه التي يسمونها(الحقيقة المحمدية)هي غموض كامل وعماء في عماء, ولأنها نشأت في الأصل من خيال مريض وأوهام ليس لها أي رصيد في الواقع, ولذلك نلاحظ أن أقوالهم في تعريفها أو الكلام عنها غامضة أيضاً, فالرسول صلى الله عليه وسلم أول موجود وأول مخلوق وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره.)(1) وهو الذي منه انشقت الأسرار ولا شيء إلا وهو به منوط (2), وهو عين الإيمان والسبب في وجود كل إنسان.(3) وكأن الصوفية لم يستسيغوا أن يقال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كما وصفه القرآن الكريم بشراً رسولاً وقد جعلوا أقطابهم تتصف بما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه, فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدعوا ما أسموه الحقيقة المحمدية.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته من الغلو فقال صلى الله عليه وسلم محذراً:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم, إنما أنا عبد الله ورسوله".(4) ولكنَّ الذي فعله هؤلاء هو أكبر من الغلو, إنُّه الشرك والضلال, وإلا كيف تفسر قول الشيخ الدباغ:"إنَّ مجمع نوره لو وضع على العرش لذاب"(5)، وقول أبي العباس المرسي:"جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا هو عين الرحمة"، قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)الأنبياء:107(6). فانظر إلى هذا الاستنتاج العجيب.
بطلان عقيدة الحقيقة المحمدية:
__________
(1) - ظهر الإسلام 4/220. ومعنى القطب الذي تدور عليه الأفلاك أنه المتحكم في حركتها وسكناتها, وهو الذي يدير ما دق وجل من أمورها، وهذه هي حقيقة الألوهية، وهي عن نظرية العقل الفعال المستمدة من الفلسفة اليونانية.
(2) - هذه هي الصوفية ص 87، والكلام لابن مشيش.
(3) - التصوف: زكي مبارك 1/233.
(4) -أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية. انظر: مختصر الشمائل للشيخ الألباني ص 174, وقال عنه:حديث صحيح.
(5) - هذه هي الصوفية للوكيل ص 87.
(6) - لطائف المنن ص 12.(1/51)
واضح البطلان لعقيدة الحقيقة المحمدية عند من عرف الله تعالى وآمن به، وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم وأمن به، وقرأ القرآن وآمن به.
1- فنحن نؤمن بالله تعالى وبرسوله عليه السلام، وبأن الله عز وجل قد خص سيدنا محمداً عليه السلام بخصائص كثيرة، فهو خاتم النبيين، وأول المبعوثين، وسيد الخلق أجمعين...ولكن لا يجوز أن نخصه بخصائص الربوبية والألوهية، لأنَّها خصائص الرب عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله.(1)
2- معظم كلام غلاة الصوفية من قبيل الرؤى الشيطانية والمكاشفات، التي يشاهدونها في حالة الغيبوبة والسكر...ويعتبرون ذلك هو الحق وما دونه الباطل، وينسخون به القرآن، أو يؤُّولونه على حسب تلك الرؤى والأحوال..وكلامهم في الحقيقة المحمدية هو من هذا القبيل والعياذ بالله.
3- زعم الصوفية أن الرسول عليه السلام يملك الدنيا والآخرة وهو يعلم علم الأولين والآخرين، ومن علومه علم اللوح والقلم، والله عز وجل يقول مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ)آل عمران: 128، وقال تعالى:(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) الجن:21. وقال تعالى مبيناً عدم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بالغيب:(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف:188.
__________
(1) - أخرجه البخاري، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، رقمه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى واذكر في الكتاب مريم، حديث رقم 3445، 6/478.(1/52)
4- زعمت الصوفية أن محمداً عليه السلام أول الخلق، وخلق قبل القلم، وهذا زعم باطل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"أول ما خلق الله القلم، قال:له اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد".(1) وقال:"خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق وآخر ساعة من النهار، فيما بين العصر إلى الليل".(2) ونحن نجزم أن سيدنا محمداً من ذرية آدم، وهو ليس أول الخلق بل معلوم عندنا نسبه ومولده الذي كان عام الفيل، وكانت وفاته بعد أربع وستين سنة من مولده.
5- وإذا كانت الدنيا والآخرة هي من جود الرسول صلى الله عليه وسلم فماذا أبقى غلاة الصوفية لله عز وجل، وهو مالك يوم الدين، ورب الدنيا والآخرة.
__________
(1) - أخرجه أحمد في المسند 5/317، والترمذي في القدر برقم 2156، وأبو داوود برقم 4700.
(2) - أخرجه مسلم برقم 2789، وأحمد في مسنده 2/327 برقم 8323، وقد تكلم بعض العلماء في هذا الحديث لأن الله خلق الخلق في ستة أيام والحديث استوعب الأيام السبعة، ولعل الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام كما ورد في القرآن ثم خلق آدم يوم الجمعة في آخر الخلق ويزيد الله في الخلق ما يشاء فلا تعارض.(1/53)
6- الرسول صلى الله عليه وسلم من البشر، قال تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الكهف:110. وقال تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) فصلت:6. فالله أمره أن يبين للناس أنه بشر مثلهم ولا يمتاز عنهم إلا بالوحي الذي خصه الله وسائر الأنبياء والمرسلين به، وكل خاصية من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لهذا الوحي، كما أمره أن يبين لهم أن إلههم هو الله وحده المختص بخصائص الربوبية والألوهية، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص.
7- زعموا أنه جاء بالوحي من تلقاء نفسه، وأنه أبصر فحدث عن بصيرته، وهذا هو زعم المشركين الأوائل الذين قالوا إن هذا إلا قول البشر، ورد الله تعالى عليهم بقوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الطور:32. وبيَّن الله عز وجل أنه لو تقول على الله تعالى بغير وحي الله أو من تلقاء نفسه ونسب إلى الله ما لم يقله، لقصمه الله، قال تعالى:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَِ) الحاقة: 45-47.
كما نفى الله عنه أن يكون ساحراً أو شاعراً أو يأتي بشيء من تلقاء نفسه، وقد انقطع عنه الوحي فترة فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حزن شديد ظاناً أن ربه قد تركه وقلاه وخذله حتى تنزَّلت سورة الضحى تنفي ذلك عنه:(وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) الضحى:1-2.(1/54)
8- زعموا أنه عليه السلام يعلم علوم اللوح والقلم، وقد كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ علوم كل شيء منذ بدءِ الخلق إلى الأبد، وعلم الأولين والآخرين وعلم الدنيا والآخرة، وهذا العلم خاص بالله عز وجل، إلا من علمه الله تعالى شيئاً من علمه قال تعالى:(وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) البقرة:256. وكان صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أشياء فلا يخبر بها حتى يوحي الله تعالى إليه، ولو كان يعلم علم اللوح والقلم كما يزعمون، لما قبل الفداء في أسرى بدر وقصتهم مشهورة.
وفي سبب نزول سورة الكهف حين سألته قريش بإيعاز من اليهود عن الفتية الذين طاردهم الملك، وعن الرجل الذي طاف مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح فقال أخبركم غداً ولم يستثن - أي لم يقل إن شاء الله- فانقطع عنه الوحي خمس عشرة ليلة ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة، وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء جبريل عليه السلام بسورة الكهف يحدثه فيها عن ذلك.(1) ويعاتبه ربه بقوله:(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) الكهف:24 – 25.
9 - وزعموا أن الدنيا وما فيها خلقت من أجل محمد صلى الله عليه وسلم متناسين قوله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات:56، فالدنيا وما فيها من إنس وجن خلقت لغاية واحدة وهي عبادة الله عز وجل وحده ومن أجل هذه العبادة خلق محمد صلى الله عليه وسلم وجميع المرسلين ومن اجل ذلك أنزلت الكتب.
المبحث الثالث:عقائد الصوفية في الله تعالى
أولاً: عقيدة وحدة الوجود:
__________
(1) - انظر:أسباب النزول للسيوطي في حاشية تفسير الجلالين مكتبة العلوم الدينية، بيروت، ص491-493.(1/55)
التعريف: وحدة الوجود مذهب فلسفي لا ديني، يقول بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويعتبرونه- تعالى عما يقولون علواً كبيراً- صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله، دون أن يكون لها وجود قائم بذاته.
جاء في المعجم الفلسفي في بيان وحدة الوجود:"أنّ الله لا يوجد مستقلاً عن الأشياء، أو أنه نفس العالم، والأشياء مظاهر لذاته تصدر عنه بالتجلي، أو تفيض عنه مثل فيوض النور عن الشمس".(1)
يقول الصوفي الوجودي عبد الغني النابلسي:"اعلم أن هذه المسألة، وهي مسألة وحدة الوجود،قد أكثر العلماء فيها الكلام قديماً وحديثاً، وردها قوم قاصرون غافلون محجوبون، وقبلها قوم آخرون عارفون محققون..وأما القائلون بها فلأنهم العلماء العارفون والفضلاء المحققون، أهل الكشف والبصيرة،الموصفون بحسن السيرة وصفاء السريرة؛ كالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، والشيخ شرف الدين ابن الفارض، والعفيف التلمساني، والشيخ عبد الحق بن سبعين، والشيخ عبد الكريم الجيلي، وأمثالهم قدس الله تعالى أسرارهم، وضاعف أنوارهم فإنهم قائلون بوحدة الوجود، وأتباعهم إلى يوم القيامة،إن شاء الله تعالى".(2)
ونوضِّح هذا المذهب لأنّ آثاره وبعض أفكاره لا زالت مبثوثة في فكر كثير من الطرق الصوفية المنتشرة في العالم العربي والإسلامي، وهو ظاهر في أناشيدهم وأذكارهم وأفكارهم. والمذهب موجود في الفكر النصراني واليهودي أيضاً، وقد تأثر المنادون بهذا الفكر بالعناصر التي أدخلها إخوان الصفا من المذاهب الأغريقية والنصرانية والفارسية الأصل، ومنها:المذهب المانوي، والمذهب الرزاردشتي، وفلسفة فيلون اليهودي وفلسفة الرواقيين.
__________
(1) -المعجم الفلسفي د. عبد المنعم الحفني، ط1 الدار الشرقية مصر، 1410– 1990، ص380.
(2) - إيضاح المقصود:عبد الغني النابلسي ص 56.(1/56)
فالصوفية قد دخلت عليهم الفلسفة من باب (التشبه بالإله على قدر الطاقة) فحاولوا إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال, كما فعل الغزالي ومن تبعه في كتابه"المضنون به على غير أهله"(1), ثمَّ جاء ابن عربي وتلامذته فقالوا بالوحدة المطلقة, لأنَّ الفلاسفة يقولون:الوجود الحقيقي هو للعلة الأولي(الله) لاستغنائه بذاته, فكل ما هو مفتقر إليه فوجوده كالخيال. ومن هنا نشأت نظرية "وحدة الوجود" عند ابن عربي وقد انطلقت ابتداءً مما يردده الصوفية بشكل عام من أن الموجود الحق هو الله سبحانه, ويعنون بذلك أن الموجودات والكائنات إنما هي صور زائفة ومجرد أوهام، وليست ذاتاً منفصلة قائمة بنفسها, فمثلها لا يستحق أن يطلق عليه الوجود الحقيقي, ولكنها حرِّفت عند ابن عربي عن مفهومها لدى الصوفية بحيث انتهى إلى القول بوحدة الوجود، فقال أن الوجود الحقيقي هو الله سبحانه, ولكننا نرى هذه الكثرة والتعدد قائمة أمام أعيننا فلا يمكن إنكارها، ومن ثم فهذه الموجودات كلها ليست سوى الله ذاته– تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً– وكلها مظهر من مظاهره وتجل من تجلياته, وليست آية من آياته كما مفهوم أهل السنة فحقيقة الرب إذن أنه وجود مطلق لا اسم له ولا صفة ولا يرى في الآخرة, وليس له كلام ولا علم ولا غير ذلك ولكن يُرى في الكائنات(2)، فكل كائن هو الله والله هو كل كائن, فاتحد بذلك الوجود مع الخالق المعبود, وتم له ما أراد من هدم صرح التوحيد وكان هذا القول أشد شركاً من قول النصارى, إذ أن الكل في هذا التصور المريض إله يعبد.
__________
(1) - ابن تيمية:درء تعارض العقل والنقل 5/82.
(2) - انظر البقاعي في كتابه:تنبيه الغبي 19/40، وابن تيمية في الإيمان الأوسط ص 132، الشوكاني في قطر الولي ص 190.(1/57)
ولقد وردت إشارات إلى عقيدة وحدة الوجود عند الغزالي في كتابه(مشكاة الأنوار) تشجع الاتحاديون الملحدون الذين قالوا بوحدة الوجود، وقالوا:إن الخلق مجال ومظاهر، لأن وجود الحق ظهر فيها وتجلى، فجعلوا نفس وجوده نفس ظهوره وتجليه في المخلوقات.(1)
وقسَّم الغزالي التوحيد إلى أربع مراتب، والمرتبة الرابعة هي توحيد وحدة الوجود، يقول عن المراتب الأربعة:-
1- من قال لا إله إلا الله بلسانه وقلبه غافل وهو توحيد المنافقين.
2- أن يصدق بمعنى اللفظ وهو اعتقاد العوام وذلك كتصديق عامة المسلمين.
3- أن يشاهد ذلك بطريقة الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين ويرى الأشياء الكثيرة على أنها صادرة عن الله الواحد.
4- أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي مشاهدة الصديقين فلا يرى الكل من حيث أنه كثير، بل من حيث أنه واحد، وهي الغاية القصوى في التوحيد. وقال عن المرتبة الرابعة أنه من وصل إليها يجب كتم السر، وأنَّه لا يجوز أن يسطر في كتاب لأنَّ إفشاء سر الربوبية كفر.)(2) ويقول أيضاً:"ليس في الوجود سوى الله وصفاته وأفعاله".(3) ويقول الغزالي:"جميع الموجودات مرآة للوجود الحق، فالظاهر بذاته هو الله سبحانه، وما سواه فآيات ظهوره ودلائل نوره.(4)
__________
(1) -انظر:درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام بالرياض، ط 1، 1401هـ/1981م، 10/283.
(2) - انظر إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار الفكر، بيروت، 4/212.
(3) - السابق 1/330.
(4) - معارج القدس للغزالي ص5.(1/58)
ويحاول ابن خلدون شرح فكرة وحدة الوجود, إذ أن هذه التصورات الباطلة عادة ما تكون غامضة ومتناقضة حتى على أصحابها, فيقول ابن خلدون:يعنون بهذه الوحدة أن الوجود له قوى ذاتية فالقوة الحيوانية فيها قوة المعدن وزيادة, والقوة الإنسانية فيها قوة الحيوان وزيادة, والفلك يتضمن الإنسانية وزيادة, وكذلك الذوات الروحانية(الملائكة) ثم القوة الجامعة التي انبثت في جميع الموجودات, فالكل واحد هو نفس الذات الإلهية".(1)
__________
(1) المقدمة ص 471.(1/59)
وحين يرد السؤال:كيف يقال بوحدة الوجود؟ وهناك خالق ومخلوق ومؤمنون وكفار والكفار يعذبون في النار فمن الذي يعذبهم؟ وحتى لا يرد هذا السؤال راح ابن عربي يحرِّف كل آيات القرآن الكريم، ويطبق باطنيته وكفره في كتاب(فصوص الحكم) فمثلا بقول:فموسى عليه السلام لم يعاقب هارون عليه السلام إلا لأن هارون أنكر على بني إسرائيل عبادة العجل, وهم ما عبدوا إلا الله لأن الله قضى ألا نعبد إلا إياه, ولذلك كان موسى أعلم من هارون.(1) والريح التي دمَّرت عاد هي من الراحة لأنها أراحتهم من أجسامهم المظلمة وفي هذه الريح عذاب وهو من العذوبة.(2) ويحكم ابن عربي بإيمان فرعون بقوله تعالى:"قرة عين لي ولك"، فكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق.(3) وهكذا راح يعيث فساداً في بقية قصص الأنبياء ومن شاء فليرجع إلى كتبه ففي كل سطر سيجد رائحة وحدة الوجود. وكلامه هذا في الحقيقة هو إبطال للدين من أصله، لأنّ وعيد الله للكفار لا يقع منه شيء!! فهو وتلامذته يتسترون بإظهار شعائر الإسلام وإقامة الصلاة والتزي بزي النسك والتقشف وتزويق الزندقة باسم التَّصوف.(4)
__________
(1) البقاعي ص 120 نقلاً عن فصوص الحكم، فص 192.
(2) المصدر السابق ص 95، فص رقم 109.
(3) - المصدر السابق ص 128، وفي هذا المقام لا بد من القول بأن اعتذار البعض عن ابن عربي بأنه يقصد كذا أو كذا ويؤولون كلامه, هذا غير مقبول. قال العراقي:"لا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ولا يؤول كلامه ولا كرامة".
(4) - انظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للشيخ برهان الدين البقاعي.(1/60)
ويتلخص مذهب ابن عربي في وحدة الوجود في إنكاره لعالم الظاهر، ولا يعترف بالوجود الحقيقي إلا لله، فالخلق هم ظل للوجود الحق، فلا موجود إلا الله فهو الوجود الحق. فابن عربي يقرر أنه ليس ثمة فرق بين ما هو خالق وما هو مخلوق، ومن أقواله التي تدل على ذلك:"سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها". وكان يقول ابن عربي : من أسمائه الحسنى العلي على من يكون علياً، وما ثم إلا هو ؟ ! وعمّاذا يكون عَلياً وما هو إلا هو ؟ ! فعلوّه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات؛ فالمسمى محدثات هي العلية هي لذاتها، وليست إلا هو .(1)
ويقول:"فإنّ للحق في كل معبود وجهاً يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أي حكم فالعالم يعلم من عَبَد وفي أي صورة ظهر حتى عُبِد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود".(2)
وقال: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. فانظر ماذا ترى (قال يا أبت افعل ما تؤمر) والولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه. وفداه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.(وخلق منها زوجها): فما نكح سوى نفْسِهِ.(3)
ويقول مبيناً وحدة الوجود وأن الله يحوي في ذاته كل المخلوقات:-
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلق جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيك فأنت الضيق الواسع
ومما يؤكد على قوله بالجبر الذي هو من نتائج مذهبه الفاسد:-
الحكم حكم الجبر والاضطرار ما ثم حكم يقتضي الاختيار
إلا الذي يعزى إلينا ففي ظاهره بأنه عن خيار
__________
(1) - فصوص الحكم ص76.
(2) - فصوص الحكم ص72.
(3) - الفصوص ص78.(1/61)
لو فكر الناظر فيه رأى بأنه المختار عن اضطرار
وإذا كان قد ترتب على قول ابن عربي بوحدة الوجود قوله: بالجبر، ونفي الحساب والثواب والعقاب. وقوله بوحدة الأديان. فقد أكد ابن عربي على أن من يعبد الله ومن يعبد الأحجار والأصنام كلهم سواء في الحقيقة ما عبدوا إلا الله إذ ليس ثمة فرق بين خالق ومخلوق. يقول في ذلك:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى الغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
وجعل هذا الخبيث قوم نوح الذين عبدوا الأصنام لم يعبدوا إلا الله، وإنهم بذلك موحدون حقاً فلذلك كافأهم الله الذي هم نفسه وذاته بأن أغرقهم في بحار العلم في الله. قال ابن عربي:"(مما خطيئاتهم) فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، )فأدخلوا ناراً) في عين الماء(وإذا البحار سجرت)..(فلم يجدوا من دون الله أنصاراً) فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد"(1)، وقال الخبيث أيضاً:"ومن أسمائه العلي:عليُّ من، وما ثمَّ إلا هو، فهو العليُّ لذاته أو عن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوُّه لنفسه، ومن حيث الوجود فهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليس إلا هو".)(2)
وقال:ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. فانظر ماذا ترى(قال يا أبت افعل ما تؤمر)؛ والولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه. وفداه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد:لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد. (وخلق منها زوجها):فما نكح سوى نفْسِهِ".(3)
__________
(1) - فصوص الحكم ص73.
(2) - المصدر السابق ص 76.
(3) - الفصوص 78.(1/62)
وقال أيضاً:"فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفاً وعقلاً وشرعاً أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً. وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة".(1)
تلاميذ ابن عربي:
وقد بالغ تلاميذ ابن عربي في القول بوحدة الوجود، وعرضوا لذلك المذهب في أشعارهم وكتبهم من هؤلاء:ابن الفارض، وابن سبعين، والتلمساني. وعبد الكريم الجيلي.
1- ابن الفارض:هو عمر بن أبي الحسين علي بن المرشد بن شرف الدين الحموي الأصل المصري، وهو شيخ الاتحادية وصاحب القصيدة الثائية المليئة بالكفر والزندقة والإلحاد، الطافحة بوحدة الوجود, وابن الفارض يعد من مجدِّدي القول بوحدة الوجود بل طوَّرها وأخرجها في ثوب جديد.
هذه العقيدة تقتضي أنَّ كلَّ ما في الكون من خلائق هي عين الخالق -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- ففيها يصير العبد رباً والمخلوق خلاقاً, ولكن ابن الفارض هذا طورها ولخص هذه العقيدة كلها في ذاته هو ولم يفرق بين الصحو والمحو.(2)
فجاء ابن الفارض ومحا الفرق بين الصحو والمحو ليحدث نوعاً جديداً من وحدة الوجود في منتهى الجرأة والشرود يكون في أجلى صوره، عندما قال في قصيدته الشهيرة الثائية:
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت
__________
(1) - المصدر السابق 79.
(2) - هما مصطلحان في دين الصوفية: فالصحو: هو رجوع الصوفي إلى الإحساس بعد سكرته بوارد قوي وفيه يشهد الصوفي الفرق بين الإله والكون وأن الكون ليس هو الذات الإلهية. وأما المحو: فهو فناء السوية بين الرب والعبد وتجلي الوحدة المطلقة فيرى الصوفي الخلق عين الحق والمربوب عين الرب وهذه حالة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.(1/63)
فهذا الزنديق يأبى أن يثبت لربه ذاتاً ويتعالى أن يجعل له وجود ليحكم بالعدم الصوفي على رب العالمين فما ثم عند ابن الفارض من رب ولا مربوب إلا وهو ابن الفارض ويزعم أن كل ما وصف به الله عز وجل نفسه الموصوف به على الحقيقة هو ابن الفارض نفسه فيقول:
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبث
وكل الجهات الست نحوي توجهت بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
فصلوات الناس كلهم وتضرعاتهم ودعواتهم لا ترفع إلى الله بزعمه إنما تتوجه بها القلوب إلى ابن الفارض رجاء رحمته وابتغاء رضاه!! وكان ابن الفارض لا يمل أبداً من تكرار إفكه الوثني يزعم فيه أنه هو الله، فيضيف إليه أنه عين رسل الله أيضاً وعين أدم وعين الملائكة الذين سجدوا لأدم فيقول في تائيته:
وفي شهدت الساجدين لمظهري فحققت أني كنت أدم سجدتي
يقول الصوفي الكاشاني في شرحه لهذا البيت:"أي عانيت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي أدم تلك السجدة وأن الملائكة يسجدون والملائكة صفة من صفاتي فالساجد صفة مني تسجد لذاتي".
ويعتبر ابن الفارض هو مؤسس عبادة الأنثى عند الصوفية فلقد قام هذا الزنديق المجرم بتصوير ربه الذي يعبده وفيه كل صفات الأنثى فزعم هذا الشيطان أن ربه يتجلى في صورة أنثى عاشقة لما كان في قلوبهم من نار الشهوات والإلحاح الجسدي لنزوات الصوفية واسمع لما يقول:
ففي النشأة الأولى تراءت لأدم بمظهر حوا قبل حكم النبوة
وتظهر للعشاق في كل مظهر من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة وأوبة تدعى بعزة عزت(1/64)
فهذا اللعين يزعم أن ربه ظهر لأدم في صورة حواء ولقيس في صورة لبنى ولجميل في صورة بثينة ولكثيرة في صورة عزة فما الأنثى عنده إلا الحقيقة الإلهية, وهذه أعرض دعوى للزندقة والفجور فماذا يحدث للشباب المسلم لو آمن بهذه الصوفية ؟!!عندها ينغمسون في الخطيئة والزنا والفجور وهم يظنون أنهم في حالة اتحاد إلهي مع ربهم.
وأما عن قول أهل العلم في ابن الفارض، فيقول الذهبي:"كان سيد الشعراء في عصره، وشيخ الاتحادية، صَّور الاتحاد في ألذ عبارة وأرق استعارة كالفالوذج المسموم", وقال ابن حجر عنه:"لا ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة وتحت زي الصوفية فلسفة وأفاع, وقد سألت شيخنا الإمام سراج الدين البلقيني عن ابن عربي فبادر بالجواب بأنه كافر, فسألته عن ابن الفارض فقال:لا أحب أن أتكلم فيه, قلت فما الفرق بينهما والموضوع واحد؟ وأنشدته التائية فقطع علي بعد إنشاد عدة أبيات بقوله:"هذا كفر هذا كفر". وقال ابن حجر:"ورأيت في كتبا التوحيد للشيخ عبد القادر القوصي قال حكى لي الشيخ عبد العزيز بن عبد الغني المنوفي قال كنت بجامع مصر وابن الفارض في الجامع وعليه حلقة فقام شاب من عنده وجاء إلى عندي.
وكان ابن الفارض من الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:"إنه رآه مناماً وإنه سأل ابن الفارض عن قصيدته التائية ما سمَّاها ؟ فأجابه بأنه سمَّاها 'لوائح الجنان وروائح الحنان". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا بل سمِّها نظم السلوك". ولما كانت تلك حياته فحتما ولابد أن تكون نهايته مثلما كانت حياته فلقد عانى معاناة رهيبة عند موته وتأوه وصرخ صرخة عظيمة وبكى بكاءً شديداً وتغير لونه وأنشد قائلاً:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمناً واليوم أحسبها أطفأت أحلام
ومن أشعاره:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد أنها لي صلت
كلانا مصل عابد ساجد إلى حقيقة الجمع في كل سجدة(1/65)
وما كان لي صلى سواي فلم تكن صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
وما زالت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
فهو هنا يصرح بأنّه يصلي لنفسه، لأن نفسه هي الله. ويبين أنه ينشد ذلك الشعر لا في حال سكر الصوفية بل هو في حالة الصحو، يقول:
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت
2- ابن سبعين: من أقواله الدالة على متابعة ابن عربي في مذهب وحدة الوجود: قوله:رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك الله فقط، والكثرة وهم.وهنا يؤكد ابن سبعين أن هذه الموجودات ليس له وجد حقيقي فوجودها وهم، وليس ثمة فرق بين الخلق وبين الحق، فالموجودات هي الله!!
وقول ابن سبعين رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة وهم موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال وأنتم ذلك، فإنّه جعل العبد هالكا، أي لا وجود له، فلم يبق إلا وجود الرب، فقال:وأنتم ذلك وكذلك قال:الله فقط، والكثرة وهم، فإنه على قوله لا موجود إلا الله، ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم (ليس إلا الله)، بدل قول المسلمين(لا إله إلا الله).(1)
3-العفيف التلمساني: وهو كما يقول الإمام ابن تيمية من أعظم هؤلاء كفراً، وهو أحذقهم في الكفر والزندقة. فهو لا يفرق بين الكائنات وخالقها، إنما الكائنات أجزاء منه، وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر، وأجزاء البيت من البيت، ومن ذلك قوله:
البحر لا شك عندي في توحده وإن وأن تعدد بالأمواج والزبد
فلا يغرنك ما شاهدت من صور فالواحد الرب ساوي العين في العدد
فما البحر إلا الموج لا شيء غيره وإن فرقته كثرة المتعدد
أحن إليه وهو قلبي وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه ؟
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري وما بعده إلا لإفراط قربه
__________
(1) - مجموع الفتاوي:ابن تيمية 2/306.(1/66)
الوجود عند التلمساني واحد، وليس هناك فرق بين الخالق والمخلوق، بل كل المخلوقات إنما هي لله ذاته. وقيل للتلمسانى وقد أشاروا له إلى كلب أجرب ميت، هو ذات الله أيضاً؟ فقال:"وهل ثمَّ شيء خارج عنها".
وقد وجد لهذا المذهب الإلحادي صدى في بلاد الغرب بعد أن انتقل إليها على يد برونو الإيطالي، وروج له المستشرق اسبينوز اليهودي.
4-أبو يزيد البسطامي:طيفور بن عيسى.
يقول عن الله تعالى:"رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي:يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت:زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعنى إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا:رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا"...ومعناه أنه يطلب أن يصوره الله على صورته عز وجل تماماً، فإذا شاهده الناس قالوا:شاهدنا الله، والرواية عنه هي كما تقدم إلا أني أرى أن هذه العبارة:"إن خلقي يحبون أن يروك" ليست هكذا – ولم أر أحد بين هذا- ولكن لعل الصواب فيها "إن خلقي يحبون أن يروني"، ولهذا بين أبو يزيد كيفية الطريقة التي يمكن أن يرى الخلق فيها ربهم، وذلك بأن يرقى البسطامي إلى حد النيابة التامة عن الله تعالى صفة وشكلاً- تعالى الله عما يقولون علو كبيراً. ويقول أبي يزيد البسطامي: "طلبت الله سبعين سنة فإذا هو أنا"! وله مزاعم غيرها – يعتمدونها. وقوله عن نفسه:"سبحاني سبحاني ما أعظم شأني".(1)
__________
(1) - تهذيب كتاب النقشبندية-عرض وتحليل-:عبد الرحمن دمشقية ص66-68.(1/67)
وقال مرة:"سبحاني..سبحاني...ضربت خيمتي بإزاء العرش أو عند العرش..واجتاز بمقبرة لليهود فقال:"معذورون"، ومرّ بمقبرة للمسلمين، فقال: "مغرورون..وقال:يخاطب الله: كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة..وقال:لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة..وقال:إلهي أن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي فيه –أي النار-حتى لا يسع معي غيري.وقال:ما النار؟ لاستندن إليها غداً، وأقول:اجعلنى لأهلها فداء أو لأبلغنها، ما الجنة؟ لعبة صبيان.
ونقل أن أبا يزيد البسطامي دخل مدينة فتبعه منها خلق كثير، فالتفت إليهم، وقال:(أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني) فقال الناس:لقد جن أبو يزيد وتركوه.
6- أبو بكر الشبلي: الشبلي له من الشطحات ما نذكر بعضه فيما يلي:أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها فقال:"إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق..وقال:"لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشتركاً"..وقال:"أيش أعمل بلظى وسقر؟ عندي أن لظى وسقر فيها تسكن يعني في القطيعة والإعراض– لأنه من عذبه الله بالقطيعة فهو أشد عذاباً ممن عذبه بلظى وسقر". وقيل له:لم تقول:الله، ولا تقول:لا إله إلا الله؟ فقال:استحي أن أواجه إثباتاً بعد نفي، أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار.
7-ومنهم أبو الحسن النوري:الذي قال وقد سمع المؤذن طعنه وشم الموت وسمع نباح كلب فقال: لبيك وسعديك. وأبو حمزة الصوفي الذي سمع شاة مرغياً، فقال:"لبيك يا سيدي".
8- ومن الاتحادية عبد الكريم الجيلي القائل:"إن الحق تعالى من حيث ذاته يقتضي ألا يظهر في شيء، إلا ويعبد ذلك الشيء، وقد ظهر في ذرات الوجود".(1) وفي كتابه الإنسان الكامل.(2) يقول شعراً:
فما ثمَّ شيء سوى الله في الورى وما ثم مسموع وما ثم سامع
__________
(1) -الإنسان الكامل:عبد الكريم الجيلي 2/83.
(2) - الإنسان الكامل1/61.(1/68)
هو العرش والكرسي والمنظر العلى هو السدرة اللاتي إليه المراجع
هو الأصل حقاً والرسوم مع الهوى هو الفلك الدّوار وهو الطبائع
هو النور والظلمات والماء والهوى هو العنصر الناري وهو الطبائع
يقول الإمام ابن تيمية-بعد أن ذكر كثيراً من أقوال أصحاب مذهب وحدة الوجود-:"يقولون:إن الوجود واحد، كما يقول ابن عربي- صاحب الفتوحات- وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأمثالهم-عليهم من الله ما يستحقونه-فإنّهم لا يجعلون للخالق سبحانه وجوداً مبايناً لوجود المخلوق وهو جامع كل شر في العالم، ومبدأ ضلالهم من حيث لم يثبتوا للخالق وجوداً مبايناً لوجود المخلوق وهم يأخذون من كلام الفلاسفة شيئاً، ومن القول الفاسد من كلام المتصوفة والمتكلمين شيئاً ومن كلام القرامطة والباطنية شيئاً فيطوفون على أبواب المذاهب ويفوزون بأخس المطالب، ويثنون على ما يذكر من كلام التَّصوف المخلوط بالفلسفة".(1)
لوازم مذهب أهل وحدة الوجود:
وقد ترتَّب على هذا المذهب نتائج باطلة: قال بها ابن عربي وأكدها وهي:
1- قولهم بالجبرية ونفيهم الثواب والعقاب: يقول ابن عربي:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا وليس خلقاً بذالك الوجه فاذكروا
جمع وفرق فإن العين واحدة وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر
__________
(1) - جامع الرسائل والمسائل1/167.(1/69)
وبناء على هذا التصور فليس ثمة خلق ولا موجود من عدم، بل مجرد فيض وتجلي وما دام الأمر كذلك فلا مجال للحديث عن علة أو غاية، وإنما يسير العالم وفق ضرورة مطلقة ويخضع لحتمية وجبرية صارمة. وهذا العالم لا يتكلم فيه عن خير وشر ولا عن قضاء وقدر ولا عن حرية أو إرادة ثم لا حساب ولا مسؤولية وثواب ولا عقاب، بل الجميع في نعيم مقيم والفرق بين الجنة والنار إنما هو في المرتبة فقط لا في النون. وقد ذهب ابن عربي إلى تحريف آيات القرآن لتوافق مذهبه ومعتقده، فالعذاب عنده من العذوبة، والريح التي دمرت عاد هي الراحة، لأنّها أراحتهم من أجسامهم المظلمة، وفي هذه الريح عذاب، وهو من العذوبة.
2- قولهم بإيمان فرعون: قد حكم ابن عربي بإيمان فرعون بقوله تعالى:"قرة عين لي ولك"، فكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق.(1) وكلامه هذا في الحقيقة هو إبطال للدين من أصله، لأنّ وعيد الله للكفار لا يقع منه شيء.
3- قولهم الجنة والنار كليهما للنعيم:فأهل النار عندهم منعمون تماماً كأهل الجنة، قال ابن عربي:
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد، فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاينُ
__________
(1) - المصدر السابق 128 وفي هذا المقام لا بد من القول بأن اعتذار البعض عن ابن عربي بأنه يقصد كذا أو كذا ويؤولون كلامه, هذا غير مقبول. قال العراقي:"لا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ولا يؤول كلامه ولا كرامة ".(1/70)
4- إنّ الجماع نَفسَه دليل هذه الوحدة: فالله عند ابن عربي وتلامذته هو الطيب والخبيث– تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- فيقول ابن عربي:"والعالم على صورة الحق، والإنسان على الصورتين".(1) وقال:"ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أُمِرَ بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك. فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهوداً في منفعل، وإذا شاهده في نفسه-من حيث ظهور المرأة عنه- شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه-من غير استحضار صورة ما تكوَّن عنه- كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة. فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة. فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجرداً عن المواد أبداً، فإن الله بالذات غني عن العالمين، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعاً، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله".(2)
5-وحدة الأديان:
__________
(1) - المصدر السابق ص222.
(2) -الفصوص ص217.(1/71)
يترتب على عقيدة وحدة الوجود خرافة كبيرة من خرافات الصوفية, وشطحة من شطحاتهم الكثيرة, لا فرق بين اليهودية الإسلام، ولا النصرانية وعبادة الشجر ولا عبادة البقر أو عبادة الحجر. وهذه العقيدة لا تخرج إلا من خيال مريض يظن أنه يتسامح إنسانياً, ولكنها في نفس الوقت فكرة خطيرة لأنها تصادم سنن الله في الكون والحياة ومنها سنة الصراع بين الحق والباطل, بين الخير والشر, والجمع بين الكل على قد المساواة هو خبث مركز لهدم الإسلام أو هذيان مقلد لا يدري ما يقول, وإلاّ فكيف نسوي بين من يعبد الله سبحانه وتعالى وحده وبين من يعبد البقر, أو حرف كتب الله وعبد أنبيائه, كيف نجمع بين الإيمان والكفر هذا لا يكون إلا ممن يؤمن بوحدة الوجود كابن عربي وتلامذته الذين يعتقدون أن كل موجود على الأرض صحيح ولا داعي للتفرقة, والله أوسع من أن يحصره عقيدة معينة فالكل مصيب"، وأمَّا عذاب أهل النار فهو مشتق من العذوبة"!!)(1)
ويترجم ابن عربي هذه العقيدة شعراً فيقول:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وينسج على منواله صديقه ابن الفارض فيقول:
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي وإن حل بالإقرار فهي حلت
وإن خرّ للأحجار في البد عاكف فلا وجه للإنكار بالعصبية
وقال جلال الدين الرومي في إحدى قصائده التي يتشبه فيها بأستاذه ابن عربي:
انظر إلى العمامة أحكمها فوق رأسي
بل انظر إلى زنار زاردشت حول خصري
فلا تنأ عني لا تنأ عني
مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي
توكلت عليك أيها الحق الأعلى
ليس لي سوى معبد واحد
مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام
ووجهك الكريم فيه غاية نعمني
فلا تنأ عني لا تنأ عني(2)
__________
(1) - هذه هي الصوفية:عبد الرحمن الوكيل ص 95.
(2) - مجلة العروة الوثقى: برئاسة تحرير عبد الحكيم الطيبي، عدد 61، عام 1403هـ.(1/72)
فصلوات اليهود, وعقد زنار النصارى, وبد الوثنية في الهند ومساجد الله كلها عند هؤلاء ساح فساح يعبد فيها الله.(1)
ويقول عبد الكريم الجيلي:"وأما النصارى فهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق فهم دون المحمديين وسببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثمَّ قالوا بقدمه على وجوده في محدث عيسى، وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي لكنهم لما حصروا ذلك في هؤلاء الثلاثة نزلوا عن درجة الموحدين".(2)
ومن هذا القبيل ما روى الأمير شكيب أرسلان عن أحمد الشريف السنوسي(3) أن عمه الأستاذ المهدي كان يقول له:"لا تحتقرن أحداًً لا مسلماً ولا نصرانياً ولا يهودياً ولا كافراً، لعله يكون في نفسه عند الله أفضل منك، إذ أنت لا تدري كيف تكون خاتمتك".(4) وهذا الكلام غير صحيح من الشيخ السنوسي لأننا عندما نحتقر الكافر نحتقره لكفره، وعندما يسلم نحترمه لإسلامه، ونحن لنا الظاهر, ولكن أثر التصوف واضح فيه.
إنَّ هذه العقيدة شبيهة بأفكار الماسونية التي تدعو إلى وحدة الإنسانية، وترك الاختلاف بسبب الأديان، فليترك كل واحد دينه وعقيدته، وإنما تجمعنا الإنسانية, دعوة خبيثة ملمسها ناعم، ولكنها تحمل السم الزعاف في أحشائها.
أدلة بطلان عقيدة وحدة الوجود:
أولا:بيان بطلانه من القرآن الكريم:
1- يقول سبحانه:(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ).
__________
(1) -هذه هي الصوفية:عبد الرحمن الوكيل.
(2) - الإنسان الكامل:عبد الكريم الجيلي 2/105.
(3) - من زعماء الحركة السنوسية التي ظهرت في ليبيا في العصر الحاضر ولهم مواقف ضد الإستعار الإيطالي.
(4) -حاضر العالم الإسلامي 2/164.(1/73)
الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض. فوحدة الوجود تجعل من كل مخلوق جزءًا من الله جل وعلا. وتقرر الآية الكريمة الحكم على الذين يؤمنون بهذه العقيدة الذين يجعلون من عباد الله (سبحانه عما يصفون) جزءًا منه، تقرر الحكم عليهم بالعبارة: (إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)، التي نفهم منها ما يلي:-
أ - قوله:(إِنَّ الإِنسَانَ) يدل على أن المؤمنين بوحدة الوجود هم من بني الإنسان فقط، فلا يوجد بين الجن مثلاً، بله الملائكة، من يؤمن بهذه العقيدة الكافرة.
ب - قوله:(لكفور) على وزن "فعول" وهي صيغة تدل على المبالغة والاستمرار، تعني:إن المؤمن بوحدة الوجود هو شديد الكفر مستمر عليه، يمتنع رجوعه عنه أو يصعب. وتعني:إن شدة الكفر واستمراريته الموجودة في نوع الإنسان تجعله يؤمن بمثل هذه العقيدة.
ج- قوله:(مُبينٌ)أي:مُظهر للكفر، مُفصح عنه، مُوضح له، وهذا يعني أن الفكرة واضحة الكفر، والذي يؤمن بها مبين للكفر، الكفر ظاهر له وعليه، وذلك؛ لأن الفطرة السليمة (وبعض غير السليمة)، تقشعر رعبًا من سماع هذا التطاول على القدسية الإلهية، وترتجف هلعًا من هذا الغرور الغبي الجريء الظالم، لمجرد سماعها ذلك.
2- يقول سبحانه:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ). إنّ وحدة الوجود تجعل الجن جزءًا من الله تعالى، وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه؛ لأنه نسب بعض الذات إلى الذات.لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة، نفيًا لها ودحضًا، وتنزه الله سبحانه وتعالى عما يصفه هؤلاء الواصفون. وقوله:(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) واضحة الدلالة على أن الجن–لو كانوا يتصلون بنسب إلى الله سبحانه– لما جعلهم من المحضرين. وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفيًا كاملاً.(1/74)
3- يقول سبحانه:(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شيئا)، ويقول:(أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئا). الآيتان واضحتان كل الوضوح: إن الله سبحانه خلق الإنسان من لا شيء، من العدم، ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئًا قبل أن يوجد، كما هو الآن شيء بعد وجوده. فكون الإنسان خلق من لا شيء، من العدم، ينفي وحدة الوجود جملةً وتفصيلاً؛ لأن الله تعالى ليس عدمًا، إنه الحي القيوم الخالق البارئ المصور.
4-عشرات الآيات في الكتاب الحكيم تقرر أن المخلوق غير الخالق، منها:-
-(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، إذن فالأصنام والأوثان (وهي خلق) هي من دون الله تعالى، وليست جزءًا منه، ولا هي هو.
-(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ)، (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ)، (إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ)، (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ).
-ومنها:(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)، طبعًا، كانوا يأمرونه أن يعبد أصنامهم وأوثانهم، والآية الكريمة تقرر أنها غير الله، وبما أنها جزء من الخلق، إذن فالخلق غير الله، والمخلوق غير الخالق.(1/75)
-(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ)، والذي أُهِلَّ به لغير الله إنما أهِلَّ به للأوثان والأصنام ولمن يسمونهم «الأولياء»، وهؤلاء كلهم خلق، والآية الكريمة تقرر أنهم غير الله.
-(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرً)، (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، )أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّل)..فهذه الآيات تقرر أن المخلوق هو من دون الله، وغيره، وهي كافية للرد على كل جحود مؤمن بوحدة الوجود، ولو سماها وحدة الشهود.
ثانيا:بيان بطلانه لفساده ودلاله على معتقدات شركية:
1- قول أصحاب وحدة الوجود:أنّ الخلق هو الحق، وأنّ المخلوقات تعينت بالله سبحانه بهذه الأشكال المختلفة، يعني ألاّ يبقي أي معنى للأسماء الحسنى:(الخالقُ، البارئُ، الفاطرُ، بديعُ السماوات والأرض)، التي تعني كلها الإيجاد من العدم. وهذا القول أشدّ بطلاناً كفراً وبُهتاناً، لأنّه يستلزم أن يكون كل جماد وكل ميت هو الله تعالى عما يفترون.
2- لو كانت وحدة الوجود صحيحة، لكان الإنسان جزءًا من الله، ولكانت الآية:(إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) باطلة! ولكان الإنسان في ربح سواء آمن أم لم يؤمن، وعمل صالحًا أم لم يعمل، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواص؛ لأنه جزء من الله. وبما أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون باطلة؛ لأنها وحي من عند الله، إذن فعقيدة الصوفية هي الباطلة، إذ لو صحت عقيدتهم لأصبح معنى الآية:(إن جزءًا من الله لفي خسر)! وهذا واضح البطلان.(1/76)
3- في القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتمًا لله تعالى، لو صحت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود، مثل قوله سبحانه:(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) هود:60.لأن عادًا، حسب عقيدتهم الباطلة، هم جزء من الله سبحانه، حيث يصبح معنى الآية الكريمة:إن جزءًا من الله-تعالى عما يصفون-أُتبع في هذه الدنيا؟؟ ويوم القيامة؟!
4- قول الاتحادية أن لا فاعل إلا الله يقتضي أن تكون السرقة والزنا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، والظلم هو من فعل الله، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً وهذا ما نفاه الله عن نفسه قال تعالى في الحديث القدسي:"يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً فلا تظالموا". فتبيَّن أنّ قول الاتحادية "لا فاعل في الوجود إلا الله" من أخبث الأقوال وأبطلها خاصة إذا علمت أن أتباعه يجب عليهم أن يقولوا هذا القول كل يوم.
5- قول ابن عربي لقد حق لي عشق الوجود وأهله يقتضى أنه يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر ويعشق الكلاب والخنازير والبول والعذرة، وكل خبيث مع أنه باطل عقلا وشرعا فهو كاذب في ذلك متناقض فيه فانه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدا لأبغضه وعاداه، بل اعتدى في أذاه فعشق الرجل لكل موجود محال عقلا محرم شرعا.
6- قولهم بوحدة الأديان: وهو أن كل من عبد صنماً أو حجراً أو شجراً أو شيطاناً هو مصيب لأنها من الموجودات، وهذا من أعظم الكفر الذي يناقض القران قال سبحانه وتعالى:(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يّس:60.(1/77)
فنهى سبحانه عن عبادة الشيطان فدَّل هذا على أنه ليس هو الله وكذلك قال تعالى:(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فصلت:37. فدَّل هذا على أنّ قولهم هو من أبطل الباطل وأعظم الكفر. ومن أعظم المحادّاة لله ولدينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يرتضي من الأديان إلا الإسلام، وأنه لا يقبل غيره، قال تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) آل عمران:19. وقال تعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران:85.
وقولهم بأن "فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار، وأنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه، هذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة بل ولا من اليهود ولا من النصارى بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون، وهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعى لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون".(1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى:ابن تيمية 2/279.(1/78)
6- مما يدل على بطلان قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ما ألزم به الدكتور محمود عبد الرءوف القاسم القائلين بهذا القول في ردِّه عليهم وبيانه لباطلهم، قال:"يقول الله سبحانه وتعالى:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الصافات:158، طبعاً وحدة الوجود تجعل الجنّ جزءً من الله تعالى وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه لأنه نسب بعض الذات إلى الذات لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة نفياً لها ودحضاً وتُنزِّه الله سبحانه وتعالى عمّا يصفه هؤلاء الواصفون، والعبارة "وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ" واضحة الدلالة على أن الجن لو كانوا يتّصلون بنسب إلى الله سبحانه وتعالى لما جعلهم من المحضرين وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفياً كاملاً".(1)
7- يقول سبحانه وتعالى:(وقد خلقتك من قبل ولم تَكُ شيئاً) ويقول:(أَوَلا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) مريم:67. فالآيتان واضحتان كل الوضوح أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من لا شيء من العدم، ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئاً قبل أن يوجد كما هو الآن شيء بعد وجوده، فكون الإنسان خُلق من لا شيء من العدم ينفي وحدة الوجود جملة وتفصيلاً.لأن الله تعالى ليس عدماً إنَّه الحي القيوم الخالق البارئ المُصَوِّر.
__________
(1) - حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ: الدكتور محمود عبد الرءوف القاسم ص 704-706.(1/79)
8- لو كانت وحدة الوجود صحيحة لكان الإنسان جزءاً من الله، ولكان قوله تعالى:(إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ) باطلاً، وكان الإنسان في ربح، سواءً آمن أو لم يؤمن، وعمل صالحاً أو لم يعمل، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواصَّ، لأنه جزء من الله. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتماً لله لو صحَّت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود مثل قوله سبحانه وتعالى:(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)هود:60، لأنَّ عادًا حسب زعمهم وعقيدتهم الباطلة هم جزء من الله سبحانه وتعالى حيث يُصبح معنى الآية الكريمة:إن جزءاً من الله تعالى عمّا يصفون أُتبع في هذه الدنيا ويوم القيامة. إذن فوحدة الوجود ضلال وباطل؛ لأن الطريق إليها ضلال وباطل. ثم إن الطريق الذي يتبعه المتصوفة للوصول إلى الجذبة هو طريق الشيطان،(وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينً)، (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينً).
ثالثاً:يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -أثناء تقسيمه للقائلين بالاتحاد-:"هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين:-(1/80)
الأول:من جهة أنّ أولئك قالوا إنّ الربّ يتّحد بعبده الذي قرّبه واصطفاه بعد أن لم يكونا متّحدين وهؤلاء يقولون مازال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره. والثاني:من جهة أن أولئك خصُّوا ذلك بمن عظَّموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوا ذلك سارياً في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ وإذا كان الله تعالى قال:(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المائدة:17. فكيف بمن قال:إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانيين والأنجاس والأنتان وكل شيء، وإذا كان الله قد ردَّ قول اليهود والنّصارى لمّا قالوا:(نحن أبناء الله وأحباّؤه)، وقال لهم:(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ)المائدة: من الآية18، فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه، وإن كل ناطق في الكون فهو عين السامع كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها). وأن الناكح عين المنكوح".(1)
__________
(1) - مجموعة الرسائل والمسائل:ابن تيمية 2/29-31.(1/81)
رابعاً:الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس، كانوا وما زالوا يؤمنون بوحدة الوجود عقيدة وحيدة.وأهل الكتاب كانوا وما زالوا يؤمنون بخالق في السماء، خلق الخلق من العدم مع شرك وتشبيه، وبعض رشفات من الوحدة (ما عدا متصوفيهم طبعًا). فجاء الإسلام ليُعلن كفر أولئك المطلق، ويحرم على المسلمين ذبائحهم والزواج منهم، بينما وقف من اليهودية والنصرانية موقفًا أخف بكثير، وسماهم "أهل الكتاب"، ووسع حدود التعامل معهم (وخاصة مع النصارى)، وأجاز ذبائحهم وطعامهم ومصاهرتهم...فلو كان في دين الإسلام من وحدة الوجود ما يفتريه الصوفية، لانعكست الآية، ولصار النصارى هم الأبعدين، ولصار الهندوس والباقون هم الأقربين.
خامساً:-الأحاديث التي يرويها المتصوفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في موضوع الوحدة فهي:
أ- إما مكذوبة!وهم أنفسهم يعرفون أنها مكذوبة! ومع ذلك يوردونها دون خوف من الله، وكأنهم لم يسمعوا قول رسول:"من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وأسلوبهم أنهم يروونها، ثم يعلقون عليها بعبارة ما، مثل: "تكلموا فيه"، أو:"فيه نظر"، أو ما شابه ذلك، ثم يبنون عليها ما يشاءون من أحكام ظالمة وكأنهم إذا قالوا عن الحديث المكذوب: "فيه نظر"، أصبح من الأحكام الشرعية، وأصبح العمل به شرعيًّا؟(1/82)
ب- وإما أن يكون حديثهم صحيحًا، لكنهم يلوون عنقه، يؤولونه، ويعطونه معنى ما أنزل الله به من سلطان! وكذلك يفعلون مع الآيات القرآنية. فمثلا:تفسيرهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:"من عادى لي وليًّا آذنته بالحرب"، أن الولي هو الصوفي، وقوله في بقية الحديث:"فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه الذي يبطش بها، ورجله الذي يمشي بها" بأنه يعني وحدة الوجود. وقد أشبع العلماء هذا الحديث بحثًا، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن نص الحديث ينفي وحدة الوجود! إذ لو كانت وحدة الوجود موجودة، لكان الله سبحانه عما يصفون سمع الإنسان وبصره ويده وكله! سواء أحبه أم لم يحبه، وقبل أن يحبه وبعد أن يحبه، وفي جميع الأحوال، ولا تكون هناك حاجة لأداء الفروض والنوافل، ولا لأي شيء أبدًا لتحقق ذلك.وكون هذا الوصف:"كنت سمعه...وبصره..." لا يتحقق إلا بعد أداء الفروض والتقرب بالنوافل...ثم بعد أن يحبه الله، يعني بكل وضوح أن هذا لم يكن قبل أن يحبه الله، أي: إن هذه المزية:"كون الله تعالى سمع المرء...وبصره" هي غير متحققة في الإنسان العادي، وبذلك تنتفي وحدة الوجود، وينتفي معها فهمهم الخاطئ. ويكون معنى الحديث:إن الله سبحانه إذا أحب العبد أعانه إعانة تامة في كل شيء، ولا يكله إلى نفسه أبدًا في أي شيء، وطبعًا تكون إعانة الله للعبد كما يريد الله سبحانه لا كما يريد العبد.
موقف الإسلام من مذهب وحدة الوجود:(1/83)
الإسلام يؤمن بأنّ الله جل شأنه خالق الوجود منزه عن الاتحاد بمخلوقاته أو الحلول فيها. والكون شيء غير خالقه، ومن ثم فإن هذا المذهب يخالف الإسلام في إنكار وجود الله، والخروج على حدوده، ويخالفه في تأليه المخلوقات وجعل الخالق والمخلوق شيئاً واحداً، ويخالفه في إلغاء المسؤولية الفردية، والتكاليف الشرعية، والانسياق وراء الشهوات البهيمية، ويخالفه في إنكار الجزاء والمسؤولية والبعث والحساب. ويرى بعض الدعاة أن وحدة الوجود عنوان آخر للإلحاد في وجود الله، وتعبير ملتو للقول بوجود المادة فقط، وأن هذا المذهب تكأة لكل إباحي يلتمس السبيل إلى نيل شهواته تحت شعار من العقائد، أو ملحد يريد أن يهدم الإسلام بتصيد الشهوات، أو معطل يحاول التخلص من تكاليف الكتاب والسنة.(1/84)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم:"حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون:هو الراهب في الصومعة؛ وهذه مظاهر الجمال؛ ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول: أنت الله. ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السماوات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك. فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطؤها الذي تفترشه؛ وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً. ومن قال:إن لقول هؤلاء سراً خفياً وباطن حق، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق: فهو أحد رجلين– إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال. فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله. ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق. وهذا السر هو أشد كفراً وإلحاداً من ظاهره؛ فإنّ مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس".(1)
ويقول أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية:"وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى، فيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فهو مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه. فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى".(2) وقال أيضاً:"ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال".(3)
__________
(1) - مجموع الفتاوى 2/378-379.
(2) - المصدر السابق 2/368.
(3) - المصدر السابق 2/367.(1/85)
إنّ وحدة الوجود كفر مبين، ومعتقدها كافر مبين حسب الشريعة الإسلامية، له في الدنيا عقوبة المرتد عن الإسلام، وله في الآخرة عذاب أليم، إلا أن يتداركه الله سبحانه بلطفه وعفوه. وأمّا الصوفي الذي يبطن وحدة الوجود، ويظهر التمسك بالشريعة فهو منافق حقًّا، بل هو شر أنواع المنافقين، ومقامه الحقيقي هو في الدرك الأسفل من النار إن لم يتداركه الله برحمته.
"وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالإتحاد أخرى وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين".(1)
بل فاقوا هؤلاء إبليس اللعين بكفرهم وعنادهم وعتوهم، وقولهم على الله ما لم يقله إبليس، فإن إبليس كان يفرق بين الخالق والمخلوق، وبين الرب الإله القوي القاهر، وبين المخلوق الضعيف الفقير المحتاج إلى إلهه، وأمّا الاتحادي ابن عربي ومن على شاكلته فقد جعلوا إبليس وجبريل والأنبياء والكفار والأشقياء، وكل هذه المخلوقات هي عين الخالق وأنه ليس في الوجود غيره، يخلق بنفسه لنفسه، وأنه ليس معه غيره، وأن الكفر والإيمان، والحلال والحرام، والأخت والأجنبية، وإتيان النساء، وإتيان الذكور شيء واحد، وكل هذا عين الرب وحقيقته وأفعاله.
__________
(1) - مجموع الفتاوي:ابن تيمية(1/86)
والعقيدة الإسلامية تقرِّر:أن الله جل وعلا خلق الخلق من العدم، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك، والمخلوقات هي مِن دونِ الله وغيرهُ، أي إنها ليست تعينات من ذاته العلية، جل جلاله، وهو سبحانه فوق خلقه:(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...)، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)، والسماء هنا بمعنى:العلو.وهو سبحانه فوق السماوات، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم معقبًا على حكم سعد بن معاذ في بني قريظة:"لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرْقِعَة"، والأرقعة هي السماوات، واحدتها رقيع.(1)
قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في ابن عربي:"هو شيخ سوء مقبوح كذاب, يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً".(2) ويروي ابن تيمية عن الشيخ إبراهيم الجعيري أنه كان يقول:"رأيت ابن عربي هو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله, وبكل نبي أرسله الله"(3)، وقال ابن تيمية(4):ورأيت بخطه في كتابه(الفتوحات المكية) هذين البيتين:
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أني يكلف
ويقول البقاعي قاطعاً الطريق على من يؤول لابن عربي:"قال الأصوليون:لو نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية, كفر ظاهراً وباطناً".(5)
إنَّ مذهب وحدة الوجود باطل عقلاً، فمن عرف حقيقته عرف بطلانه بداهة، لأنَّه لا يعقل أن يكون الإنسان هو الله، والحجر هو الله، والشجر هو الله، كما لا يعقل أن يكون الإنسان هو الحجر وهو الشجر، فشتان بين مخلوق ومخلوق، وشتان بين خالق ومخلوق.
__________
(1) - الكشف عن حقيقة التصوف: للأستاذ عبد الرءوف القاسم- بتصرف يسير- ص 703– 711.
(2) - الفتاوى لا بن تيمية 2/240.
(3) - نفس المصدر 2/240.
(4) - مجموع الفتاوى 2/242.
(5) - تنبيه الغبي في كفر ابن عربي:زين الدين البقاعي ص23. ...(1/87)
إن ما جاءت به الرسل يقتضي المغايرة بين الخالق والمخلوق.(1) وقد جاء على ألسنتهم الاستنكار على من عبد غير الله أو أمر بعبادة غير الله قال تعالى:(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)الزمر64. وقال:(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) الأنعام 14. وقال:(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فاطر 3. وقال:(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)الأنعام 114.
-أجمع المسلمون على مر العصور باختلاف تخصصاتهم سواءً كانوا من العلماء أم من عوام الناس، وسواءً كانوا صالحين أو فاسقين، أو طائعين أو عاصين–عدا هؤلاء غلاة الصوفية الكفرة– على أن الله هو الخالق وما سواه مخلوق، وأنه سبحانه لا يحل في المخلوقات ولا تحل فيه وأن الله مباين لخلقه في ذاته وصفاته وأفعاله.(2)
-الاتحاد والوحدة بين الخالق والمخلوق محال لأن في إتحادهما إما أن يتحولا إلى شيءٍ ثالث مغاير لهما، أو يبقيا كما هما فليست بوحدة، أو يبقى أحدهما وينعدم الآخر فيه فليس اتحاد ولا وحدة. وإذا انعدم أن يتحد العبدان المربوبان فهل يصح ذلك في حق الخالق.
-مذهب الصوفية مركب من سلب الجهمية وتعطيلهم بل هو أشنع من ذلك، لأن الجهمية سلبوا كمال الله المقدس فنفوا الصفات والأسماء وأثبتوا العدم، لكن أهل وحدة الوجود عبدوا كل شيء، وقولهم مركب من كلمات الصوفية المجملة والشطحات وأقوالهم في حال الغيبة والسكر…ومن أقوال الفلاسفة والزنادقة التي تعتبر أقوالاً باطلة تدل على الإلحاد، كقولهم بالوجود المطلق والوجود الواحد وأزلية الكون.(3)
__________
(1) - انظر الفتاوى 2/475.
(2) - الفتاوى 2/339.
(3) - انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 1/182، 4/26.(1/88)
6- القائلون بوحدة الوجود أكفر من اليهود والنصارى: فإذا قال النصارى:إن الله هو المسيح بن مريم قال غلاة الصوفية:إن الله هو كل شيء، وإن الله هو الكفار والمنافقون والأرجاس والمجانين والصبيان، وإذا كفَّر الله النصارى بقولهم إن الله ثالث ثلاثة وإن الله هو المسيح بن مريم، فكيف بمن زعم أن الله هو كل شيء، ويتجلى في صور العاشقات والمعشوقات ؟ فهو أشدٌّ كفراً من النصارى.
وإذا عاب الله على اليهود قولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" فكيف بمن يزعمون أن اليهود والنصارى والمجوس وكافة الكفار هم أعيان الله ووجودهم هو وجود الخالق وليسوا غيره ولا سواه ؟(1) فإنهم أشد كفراً من اليهود.
7- أقوال الصوفية الدالة على وحدة الوجود مضطربة متناقضة:فقولهم:(إن الكون وما فيه من مخلوقات هي مظاهر الحق) يتناقض، لأنَّه إن كان الظاهر هو المظاهر فنفي للموجودات المتعددة، وإن كان الظاهر غير المظاهر كانت المغايرة وانتفت الوحدة المزعومة. ويقصدون بالظاهر الله وبالمظاهر الموجودات.
وقول ابن عربي:"لقد حق لي عشق الوجود وأهله" أن يعشق كل شيء إبليس وفرعون والنجاسات والخبائث والكلاب والخنازير، فهذا مناقض للشرع والعقل، ولو آذاه مؤذ وآلمه ألماً شديداً لامتنع من عشقه".(2)
فإذا كان الوجود واحداً:فالزوجة عين الأم والأخت، فكيف حرمِّت هذه وحلَّت الأخرى، وفي الوجود الظالم والمظلوم، وهذا عين هذا، فكيف يحاسب الظالم ولا يحاسب المظلوم؟؟.
لقد كان أحد القائلين بالوحدة يتكلم عن وحدة الوجود ويقول:من قال إنَّ في الكون سوى الله فقد كذب. فقال له آخر فمن الذي كذب؟ فأفحمه.(3) يعني إذا كان ما في الوجود هو الله فالذي كذب هو الله. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. حيث يؤمن القائلون بالوحدة بأن لا فرق بين الخالق والمخلوق وبين المؤمن والكافر والمصدق والمكذب، فالكل سواء.
__________
(1) - السابق 4/28، 25.
(2) - السابق 1/77، 78.
(3) - الفتاوى 2/305.(1/89)
المحاذير المترتبة على القول بوحدة الوجود:
1- إبطال حقيقة التوحيد:
إنَّ القول بوحدة الوجود لا وجود معه للتوحيد الذي دعت إليه الرسل، لأنَّه لا فرق بين الخالق والمخلوق والموحد والمشرك، ويمتنع مع القول بالوحدة المطلقة أن يكون الله خلق شيئاً لأن الأشياء ذاتهُ..وهذا مخالف لصريح القرآن وصدق الله تعالى إذ يقول:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ)الطور 35، لأنَّه من المحال أن يوجَد الشيء من العدم، أو يوجِد ذاته فلا بد للموجود من واجد ولا بد للمخلوق من خالق ولا بد للجائز من واجب. ولا يعقل أن يكون المالك هو المملوك، والرازق هو المرزوق، ولا العابد هو المعبود.
2- إبطال عقيدة الولاء والبراء:لأن هذه العقيدة قائمة على أن الدين عند الله الإسلام، وما سوى ذلك فليس ديناً عند الله تعالى، قال تعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) آل عمران 85. وتجب المحبة والولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولا تجوز لغيرهم قال تعالى:"وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ".المائدة:51.
وقال تعالى:(لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) المجادلة 22. وقد امتدح الله إبراهيم عليه السلام والذين معه بقوله تعالى:(إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الممتحنة:40، أمَّا عقيدة وحدة الوجود فقائمة على موالاة كل شيء وكل مخلوق وعدم معاداة أحد في الوجود لأن كل ما في الوجود هو الله، وكل من تواليه إنما توالي الله تعالى.وهذا مناقض لعقيدة الولاء والبراء في دين الله تعالى.(1/90)
3-القول بإيمان فرعون: يزعمون أنَّ فرعون عرف الحقيقة وآمن بالوحدة في قوله (أنا ربكم الأعلى)، لأنَّ الجميع أرباب عنده لكنه هو الأعلى لأنَّه الحاكم. وفي قوله (وما علمت لكم من إله غيري)، وقد علم بالضرورة في دين الإسلام كفر فرعون وهامان..وقد ورد ذكر ذلك بصريح القرآن قال تعالى:(وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) هود:97-98، وقال تعالى:(وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)غافر 45-46.
ولم يقصّ القرآن قصة كافر باسمه كما قص لنا قصة فرعون من الوضوح والبيان والتفصيل والتكرار.(1)
ومعنى أن فرعون يقدم قومه في النار لا أنه يسوقهم بل يكون في مقدمتهم، وقوله تعالى أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، يدخل فيهم فرعون لأنه هو زعيمهم في الكفر، وليس المراد آله دونه.
4- تعطيل شريعة الإسلام وحدوده: فالقول بوحدة الوجود فيه تعطيل لشريعة الإسلام، إذ يترتب عليها أن جميع الآلهة والمعبودات سواء، لا فرق بين من عبد الله ومن عبد الطاغوت أو الشيطان أو الحجر والشجر. وهو دعوة إلى الإباحية والفساد فلا فرق بين ما حُرم وما أبيح لأن الخمر عين الماء، والزوجة عين البنت والأم عين الأجنبية، بل عين الدابة فلا فرق عندهم بين من شرب خمراً أو شرب ماءً، ولا فرق بين من واقع زوجته أو واقع أمه وابنته أو دابته فكله سواء عندهم.
وقولهم يؤدي إلى تعطيل الحدود لأن القاتل هو عين المقتول، والسارق هو عين المسروق بل عين السرقة، والفاعل هو عين المفعول به وكلهم عين الله وذاته. وتعطيل للعبادة فكل معبود هو الله وكل عابد هو الله تعالى، والمأمور به عين المنهي عنه فلا عبادة ولا شريعة ولا قيود.
__________
(1) انظر الفتاوى 2/124.(1/91)
5- تخطئة الرسل عليهم السلام: فإذا كان الوجود واحداً والمعبود واحداً مهما كانت الصورة التي عبد فيها، فكيف قاتلت الرسل عليهم السلام وأتباعهم أعداء الله؟ وكيف استباحوا دماء الكفار؟ وما الموقف من التاريخ الإسلامي الطويل المليء بالجهاد في سبيل الله؟ وما حكم من قتلوا بسبب كفرهم؟ وما حكم قاتليهم؟ بل وما فائدة وجود النار يوم القيامة؟ وما فائدة وجود الجنة ؟ وما فائدة البعث ؟
فبناءً على معتقد القائلين بوحدة الوجود يكون الرسل عليهم السلام جميعهم على خطأ، فيما دعوا إليه من توحيد وتكاليف، وأحكام، وحدود وجهاد. وهذا الكلام هو صريح الكفر والضلال.
6- إبطال الحكمة من الخلق:قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات:56، فإذا كان القول بوحدة الوجود، يؤدي إلى إبطال العبادة، فما هي الحكمة من الخلق ؟
والله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً، قال تعالى:)أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون:115، بل خلق الله الخلق لحكمة، خلقهم لعبادته، وخلق الجنة ليثيب أولياءه، وخلق النار ليعاقب أعداءه. وإذا كان المخلوق الناقص يترفع عن العبث ويحرص أن تكون أفعاله مبنية على حكمة وغاية سامية، فكيف بالخالق الذي يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقص. فإن كل كمال لا يعتريه النقص بوجه من الوجوه يتصف به الخالق. وكل كمال يتصف به المخلوق لا يكون كمالاً مطلقاً بل يعتريه النقص من أحد الوجوه.
ثانيا:عقيدة الحلول:(1/92)
الحلول من عقائد الصوفية، يقول ابن تيمية في بيانها:"والحلول إمّا معين في شخص، وإمّا مطلق. أمّا الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى: أن الاتحاد كاتحاد الماء واللبن. وأما الحلول المطلق، وهو أنّ الله تعالى بذاته حال في كل شيء، فهذا يحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك. فأمّا ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل: فرعون والقرامطة، وذلك أنّ حقيقة أمرهم أنّهم يرون أنّ عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأنّ وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين، ولا أنه غني وما سواه فقير، لكن تفرقوا على ثلاثة طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم لأنه أمر مبهم".
وقال ابن تيمية عنهم أيضاً:"مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق، عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن وقبيح، ومدح وذم، إنَّما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلاً، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه. ومن كلماتهم: ليس إلا الله، فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم، لأنهم ما عندهم له غير، ولهذا جعلوا قوله تعالى:(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) الإسراء:23، بمعنى قدر ربك أن لا تعبدوا إلا إيَّاه، إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته، فكل عابد صنم إنما عبد الله. وقيل عن رابعة العدوية أنها حجت فقالت هذا الصنم المعبود في الأرض، والله ما ولجه الله، ولا خلا منه.(1)
وأشهر من قال بعقيدة الحلول:
__________
(1) - مجموع الفتاوى:ابن تيمية 2/52.(1/93)
1- الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث(1) رأس الصوفية القائلين بعقيدة الحلول. ومن أشعاره التي تنعق بهذه العقيدة قوله:
وله عقد الخلائق في الإله عقائدا...............وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
بيني وبينك إني تزاحمني..................فارفع بحقك إنيي من البين.
يقول الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول:وبهذه الإنية التي طلب الحلاج رفعها تصرفت الأغيار في دمه، ولذلك قال السلف الحلاج نصف رجل، وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة. وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر وبالحلول والاتحاد فيه ولا يجعل ذلك مطلقا في كل شيء. ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان والمردان أو بعض الملوك أو غيرهم فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم.
وقد كان أبو منصور الحلاج يقول في دعائه : " يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم ردّ إلي نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هو أنا، وأنا هو لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم " .(2)
ومن أشعار الحلاج الحلولية:
__________
(1) -قال إسماعيل بن علي الخطيب البغدادي في تاريخه قال : وظهر أمر رجل يقال له : الحلاج الحسين بن منصور، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى الخليفة فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله . فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار .
(2) - طبقات الصوفية للسلمي .(1/94)
-أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
- سبحان من أظهر ناسوته سرَّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب
حتى قد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب
-جبلت روحك في روحي كما يجبل العنبر بالمسك الفنق
فإذا مسك شيء مسني وإذا أنت أنا لا نفترق
-مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني فإذا أنت أنا في كل حال
- قد تحققتك في سري فخاطبك لساني
فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعان
إن يكن غيبتك التعظيم عن لحظ العيان
فلقد صيرك الوجد من الأحشاء دان
-أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
وله أيضا :
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني فارفع بحقك إنيي من البين
قال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول : وبهذه الإنية التي طلب الحلاج رفعها تصرفت الأغيار في دمه، ولذلك قال السلف : الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنيةُ بالمعنى فرفعت له صورة .
والحلاج نفسه هو الذي وجدت عنده ورقة مكتوب فيها: " من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان " . . وإذا قارنا ذلك بمذهب أبي الخطاب الرافضي الذي زعم أن الله خلق روح علي وأولاده وتوجه إليهم أمر العالم فخلقوا هم السماوات والأرض . ومن هنا قلنا في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود : سبحان ربي الأعلى لأنه لا إله إلا علي وأولاده، وأما الإله الأعظم فهو الذي فوض إليهم العالم.(1)
__________
(1) - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين:الرازي ص57 .(1/95)
وقال أبو عبد الرحمن بن الحسن السلمي : سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول : قال أبو القاسم الرازي، قال أبو بكر بن ممشاذ : حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها ليلاً ولا نهاراً، فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتاباً للحلاج، عنوانه : ( من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان ) -يدعوه إلى الضلالة والإيمان به-فبعث بالكتب إلى بغداد، فسئل الحلاج عن ذلك فأقرّ أنه كتبه فقالوا له : كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الألوهية والربوبية ؟
والحلاج كان زميلاً وصاحبًا لكبار رجال التَّصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي . فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول : " أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد " ! وأما الشبلي فيقول : " كنت أنا والحسين بن منصور الحلاج شيئًا واحدًا غير أنه تكلم وسكت أنا " .
2-ومن القائلين بالحلول:عبد الكريم الجيلي صاحب كتاب "الإنسان الكامل"، ومنظومة تسمى:"العينية" تقع في ثمانمائة بيت فيها كلام صريح بالكفر كهذه الأبيات:
وما الكون في التمثال إلا كثلجة... وأنت لها الماء الذي فيه نابع
وما الكون في التحقيق غيرا لمائه... وغيران في حكم دعته الشرائع
ففي البيت الأول حلول أي أن الله بزعمه حال في العالم حلول ماء الثلج في الثلج، وفي الثاني أن العالم والله شيء واحد أي ليس الله غيرا للعالم بل هو عين العالم فيما يزعم والعياذ بالله تعالى، وهاتان العقيدتان عقيدة الوحدة المطلقة وعقيدة الحلول أي حلول الله في الخلق. وقال الجيلي كتابه الإنسان الكامل:
وإني رب للأنام وسيد لي جميع الورى اسم وذاتي مسماه
الملك والملكوت نسجى وصنعتي لي الغيب والجبروت منى منشأه(1/96)
3- الشاعر الصوفي علي البرعي اليماني:وقد أثنا على أئمة القائلين بالحلول والإتحاد كالحلاج والبسطامي وتمجيده لمقالتيهما الكفريتين، واعتباره أن ما تفوَّها به من الكفر هو قمة المعرفة.فدَّل ثناء البرعي عليهما، وتمجيده لمقالتيهما على أنه يرتضي منهجهما كل الارتضاء، بل يقول بالحرف الواحد:طوبى لمن ذاق رشفة من تلك الخمرة التي شرب منها الحلاج وأبو يزيد فجعلتهما يتفوَّهان بما قالا من الكفر!!!. واعتبار البرعي أنَّ قتل الحلاج كان ظلماً:قال في قصيدته:(قمر السماء صفحة 149) من ديوانه المذكور: كما سفك الذين خلوا دم الحلاج ... سفكوا دماء الأبرياء ظلموا
ثمَّ سؤاله الله أن يمُنَّ عليه بالإتحاد معه:قوله في قصيدته الخضرا أم قزاز صفحه271:
له صلى الأحدا عد ما حادي حدا
بها برعى اتحدا في رقاد الوحدا
وقال في قصيدته من مكة سار ذهاب:
صلى سلم يا أحد لي من أقام الحد
البرعي اتحد وبدا ساسه بالأحد
ففي هذه الأبيات يسأل البرعي الله سبحانه وتعالى أن يمُنَّ عليه بالاتحاد معه، مما يدلّ على أنّه يعتقد أنَّ الله يَحلُّ في الصالحين ويتَّحد معهم فيصير بعدها الصالح كأنَّه هو الله له نفس صفات الإلهية، كما زعم ذلك النّصارى في أنّ الله حلَّ في المسيح واتّحد معه.(1)
موقف الإسلام من عقيدة الحلول:
اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الأولى قبل وفاة أبو بكر هذا وسئل عنه فقال : إن كان ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم حقاً وما جاء به حقاً، فما يقوله الحلاج باطل . وكان شديداً عليه . وقال أبو بكر الصولي : قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلاً يتعاقل، وغبياً يتبالغ، وخبيثاً مدعياً، وراغباً يتزهد، وفاجراً يتعبد .
__________
(1) - شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة:عمر بن التهامي بن عبد الرحمن ص21-14.(1/97)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإنَّ المسلمين إنما قتلوه على الحلول والإتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله:"أنا الله"، وقوله:"إله في السماء وإله في الأرض"، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله، وأن الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق، (وإِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) مريم:93. وقال تعالى:(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) النساء:171. فالنصارى كفرهم الله ورسوله، واتفق المسلمون على كفرهم بالله لقولهم بتعدد الإله.
ويضيف:"وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض : الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب . فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء-وقد شهد مقتله-وكما ذكر إسماعيل بن على الخطيب في تاريخ بغداد- وقد شهد قتله-وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني، وأبو الفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره ". (1)
__________
(1) -مجموع الفتاوي:2/346.(1/98)
قال أبو عبد الرحمن السلمي : "سمعت أبا بكر الشاشي يقول : قال أبو الحديد المصري : "لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله، فلما كان آخر الليل قام قائماً فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة، فتكلم بكلام جائز الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله : نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك ومشيئتك . وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إنّي أوعزت إلى شاهدك لأنّي في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعداً في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي، إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات .(1)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"الحلاج كانت له مخاريق وأنواع من السحر وله كتب منسوبة إليه في السحر، وبالجملة فلا خلاف بين الأمّة أنّ من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به وإن البشر يكون إلها وهذا من الآلهة فهو كافر، مباح الدم وعلى هذا قتل الحلاج. ومن زعم إنّ الحلاّج من أولياء الله فالمتكلم بهذا جاهل قطعا، متكلم بما لا يعلم، لو لم يظهر من الحلاج أقوال أهل الإلحاد، فإنّ ولي الله من مات على ولاية الله يحبه ويرضى عنه". وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض : الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب" .(2)
__________
(1) - البداية والنهاية:ابن كثير11/181-182.
(2) -مجموع الفتاوي 2/349.(1/99)
وقال أبو الفرج بن الجوزي : "كان الحلاَّج متلوناً تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم : إن كانوا أهل سنة، أو رافضة، أو معتزلة، أو صوفية، أو فساقاً، أو غيرهم، ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة، فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال : إنّ هذا كله ممّا يناله البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتاً لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك . فلمّا بلغ ذلك إلى الحلاج تحوّل من الأهواز . ولما صلب في أول مرة ونودي عليه أربعة أيام سمعه بعضهم وقد جيء به ليصلب وهو راكب على بقرة يقول : ما أنا بالحلاج، ولكن ألقي علي شبهه وغاب عنكم، فلما أدني إلى الخشبة ليصلب عليها سمعته وهو مصلوب يقول : يا معين الفنا علي أعني على الفنا .
الفصل الثالث
موقف الصوفية من الشعائر الدينية
1-الشريعة والحقيقة
يعتقد الصوفية أنّ الدين شريعة وحقيقة، والشريعة هي الظاهر من الدين، وأنّها الباب الذي يدخل منه الجميع، والحقيقة هي الباطن الذي لا يصل إليه إلا المصطفون الأخيار. والتَّصوف في نظرهم طريقة وحقيقة معاً. فأهل الشريعة عندهم أهل الظاهر وهم العوام من الناس الذين يعتمدون على النصوص الشرعية، ومنهم فقهاء المذاهب وعامة العلماء، ويسمونهم بعلماء الرسوم. وأمّا أهل الباطن:فهم أهل الحقيقة والطريقة وهم الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية، والتأويل هو صرف النص إلى معنى لا يحتمله إلا عن طريق الأحلام واستفتاء القلوب.(1/100)
فالشريعة عندهم هي مجموعة الأحكام العملية التكليفية أي ما يسمى بالفقه الإسلامي, والحقيقة هي ما وراء هذه الأحكام من إشارات وأسرار, فالفقهاء يعلمّون الناس أركان الصلاة وسننها، والصوفية يهتمون بأعمال القلوب من المحبة والخشية..هذا رأي المعتدلين منهم أما غلاتهم فقالوا:إن هذه الأحكام لعوام المسلمين نظراً لضيق عقولهم وقلوبهم عن استيعاب المعاني العلوية، دون الالتزام برسوم وأشكال معينة فالصلاة خمس مرات بشكل وترتيب معين هو أشبه ما يكون بالمعلم الذي يلزم الطالب بواجبات مدرسية لما يعلم عنه من عدم الاستفادة من العلم إن لم يعمل بتلك الواجبات, والمقصود هو العلم فإن كان من الخواص الذين يدركون المقصود الأساسي من الشرائع –وهو ما أطلقوا عليه الحقيقة– فقد حصل المقصود وإن لم يلتزم بها, فالصلاة هي دوام الصلة مع الله، فإن استدامت فالحاجة للصلاة تصبح مجرد الوقوف مع الأوامر الشرعية احتراماً لها، وإن كانت غير ذي فائدة, بل إنها انحرفت بعد ذلك عند البعض إلى القول بإسقاط التكاليف لمن أدرك الحقيقة.(1)
__________
(1) - الصوفية نشأتها وتطورها:محمد العبْده-طارق عبد الحليم، الطبعة الرابعة، 1422 هـ-2001م.(1/101)
إنَّ بداية الانحراف كانت في هذا الفصل بين الشريعة والحقيقة, وعند أهل السنة الشريعة هي الحقيقة فالصلاة حركات معينة ولكنها تستلزم الخشية والإنابة, وهكذا كل الأحكام الشرعية القيام بها يعني الإتيان بها على تمامها كما أرادها الله سبحانه وتعالى. وقد جرَّهم ذلك إلى مصطلح آخر وهو الظاهر والباطن. فقد ادَّعى الصوفية أنَّ للقرآن ظاهراً وباطناً, فالظاهر هو ما يؤخذ من ألفاظه حسب الفهم العربي أو السياق أو غير ذلك من الأصول المرعية في التفسير وهو ما يهتم به علماء الظاهر أو ما يطلقونه عليهم (علماء الرسوم) زراية بهم, أمَّا الباطن فهو العلم الخفي وراء تلك الألفاظ وهو المراد الحقيقي بها، وهذا لا يطلع عليه الخواص من أصحاب المقامات السامية، ويطلقون عليه (الإشارات), وهم يغمزون أهل الفقه بأنَّّهم لا يهتمُّون بأعمال القلوب.(1)
وانتقد ابن الجوزي هذا التقسيم فقال:"هذا قبيح لأنّ الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق, فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين, وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة".(2)
كما أنَّ هذه التفرقة بين الظاهر والباطن أدَّت بهم في موضع التفسير إلى تأويل الآيات وتحريفها تخريفاً شنيعاً, وهذا التأويل المذموم حاولت كل الفرق الضالة الباطنية أن تجد له نصيراً من كتاب الله يتناسب وأهواءها.
2- العبادات:
__________
(1) -انظر المصدر السابق.
(2) تلبيس إبليس ص337.(1/102)
يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة، أو خاصة الخاصة ولذلك فإن لهم عبادات مخصوصة . وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم كالذكر المخصوص بهيئات مخصوصة، والخلوة والأطعمة المخصوصة، والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة . وإذا كانت العبادات في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فإن العبادات في التَّصوف هدفها ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة حسب زعمهم، والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول والتخلق بأخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على أسرار الخلق، وينظر في كل الملكوت، ويتصرف في الكون . ولا يهم في التَّصوف أن تخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة المحمدية الإسلامية . فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر كل ذلك لا يهم لأن للولي شريعته تلقاها من الله مباشرة فلا يهم أن يوافق ما شرعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ لكل واحد شريعته فشريعة محمد للعوام وشريعة الصوفي للخواص .
3- أحكام الحلال والحرام:
وأهل وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ إذ كان منهم الزناة واللوطية والملاحدة، ثم لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة. ومن يأتون الحمير جهارًا نهارًا . ومنهم من اعتقد أنّ الله قد أسقط عنه التكاليف وأحلّ له كلّ ما حرمّ على غيره.(1/103)
وأيضاً لا يفعل هذه الأمور التي يعتبرها الناس فواحش بجسمه وروحه بل بجسمه فقط، وأما روحه فهي أجل من أن تتدنى إلى فعل هذه الأمور الجسيمة، وقد وجدوا من الناس الذين هم أضل من البهائم من يصدقهم في كل ما يصدر عنهم، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالي عن ما يفعله سائر الناس، والعقل من أجل نعم الله على الإنسان.
ثم اخترعوا مفهوماً ضالاً وهو أنّه قد يصل الأمر أحياناً إلى حد أنّ للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقي شريعته الخاصة فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام. ولذلك تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة من الفواحش والخروج عن تعاليم الإسلام ما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته.
وما دام الشيخ الصوفي قد وصل إلى حد التلقي عن الله مباشرة وأطلعه على كثير من أسرار هذا الكون وعرف الكثير من المغيبات فإنّه والحال هذه ليس عنده طمع في جنة ولا خوف من النار، ومن هنا تنشأ الاستهانة التامة بجميع التكاليف الشرعية.
-4 اعتقادهم في التربية:
لعلَّ أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس، ويلغونها وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل، والتعظيم بشأن التَّصوف ورجاله ثم بالتلبيس على الشخص ثم بالزرق إلى علوم التَّصوف شيئًا فشيئًا ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج .
5-الغناء والرقص وضرب الدفوف والتصفيق:(1/104)
ومن دين الصوفية الباطل التقرب إلى الله بالغناء والرقص، وضرب الدفوف والتصفيق. ويعتبرون هذا عبادة لله. قال الدكتور صابر طعيمة في كتابه:"الصوفية معتقدا ومسلكا ":أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بموالد بعض كبارهم أن يجتمع الأتباع لسماع النوتة الموسيقية التي يكون صوتها أحياناً أكثر من مائتي عازف من الرجال والنساء، ومبار الأتباع يجلسون في هذه المناسبات يتناولون ألوانا من شرب الدخان، وكبار أئمة القوم وأتباعهم يقومون بمدارسة بعض الخرافات التي تنسب لمقبوريهم، وقد انتهى إلى علمنا من المطالعات أن الأداء الموسيقي لبعض الطرق الصوفية الحديثة مستمد مما يسمى كورال صلوات الآحاد المسيحية".(1/105)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا وقت حدوث هذا. وموقف الأئمة منه، ومن الذي أحدثه:"اعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة، لا بالحجاز ولا بالشام، ولا باليمن، ولا مصر، ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، وبدف ولا بكف، ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية. فلما رآه الأئمة أنكروه فقال: الشافعي رضي الله عنه:خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه "التغبير" يصدون به الناس عن القران، وقال يزيد بن هارون: ما يغبر إلا فاسق، ومتى كان التغبير؟ وسئل الإمام أحمد فقال: أكرهه هو محدث، قيل: أتجلس معهم، قال، لا. وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الدارني، ولا أحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي وأمثالهم والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبد القادر والشيخ أبو البيان، وغيرهما من المشايخ، وما ذكره الشافعي من أنه من إحداث الزنادقة، كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإنّ هذا السماع لم يرغب فيه ويدع إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم إلى أن قال: وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل، الذي جعله الله إماما، وأهل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فليس فيهم من يرغب في ذلك ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القران والإيمان والهدى والسعد والرشاد والنور والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والإخلاص لله والمحبة له والتوكل عليه والخشية له والإنابة إليه. إلى أن قال: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع(1/106)
المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة:إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر، للجسد ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز، كما يجد شارب الخمر بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر اله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر. وقال أيضا: وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة، بل قد قال الله في كتابه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} لقمان: 19. وقال في كتابه:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) الفرقان:63. أي بسكينة ووقار، وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود. بل الدف والرقص لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة.
6- درجات السلوك الصوفية:
هناك فرق بين الصوفي والعابد والزاهد إذ أن لكل واحد منهم أسلوباً ومنهجاً وهدفاً. وأول درجات السلوك:-
1-حب الله ورسوله: ودليله الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأسوة الحسنة قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الممتحنة:6.
2- التوبة: وذلك بالإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، وإبراء صاحبها إن كانت تتعلق بآدمي.
المقامات: هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فترة من الزمن مجاهداً في إطارها حتى ينتقل إلى المنزل الثاني..ولابد للانتقال من جهاد وتزكية. وجعلوا الحاجز بين المريد وبين الحق سبحانه وتعالى أربعة أشياء ه: المال، والجاه، والتقليد، والمعصية.(1/107)
الأحوال: إنها النسمات التي تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة ثم تمر تاركة عطراًً تتشوق الروح للعودة إلى تنسُّم أريجه. قال الجنيد:الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم. والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، ويعبرون عن ذلك بقولهم:الأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
الورع: أن يترك السالك كل ما فيه شبهة، ويكون هذا في الحديث والقلب والعمل.
الزهد: وهو يعني أن تكون الدنيا على ظاهر يده، وقلبه معلق بما في يد الله. يقول أحدهم عن زاهد:صدق فلان، قد غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده على ظاهره. قد يكون الإنسان غنياً وزاهداً في ذات الوقت إذ أن الزهد لا يعني الفقر، فليس كل فقير زاهداً، وليس كل زاهد فقيراً، والزهد على ثلاث درجات:
1- ترك الحرام، وهو زهد العوام.
2-ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
3- ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو زهد العارفين.
التوكل: يقولون: التوكل بداية، والتسليم واسطة، والتفويض نهاية إن كان للثقة في الله نهاية، ويقول سهل التستري:التوكل: الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد.
المحبة: يقول الحسن البصري: فعلامة المحبة الموافقة للمحبوب والتجاري مع طرقاته في كل الأمور، والتقرب إليه بكل صلة، والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه.
الرضا: يقول أحدهم:الرضا بالله الأعظم، هو أن يكون قلب العبد ساكناً تحت حكم الله عز وجل ويقول آخر:الرضا آخر المقامات، ثم يقتفي من بعد ذلك أحوال أرباب القلوب، ومطالعة الغيوب، وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار وحقائق الأحوال.
اليقين: ويطلقون الخيال: لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يصل السالك إلى اليقين، وهو على ثلاث مراتب:
1- علم اليقين: وهو يأتي عن طريق الدليل النقلي من آيات وأحاديث (كلا لو تعلمون علم اليقين) التكاثر:5.
2- عين اليقين: وهو يأتي عن طريق المشاهدة والكشف:(ثم لترونَّها عين اليقين) التكاثر:7.(1/108)
3- حق اليقين: وهو ما يتحقق عن طريق الذوق:(إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) سورة الواقعة:95-96.
7- الصوفية وطلب العلوم الشرعية:
لما كان الدخول في الطريق الصوفي لا يشترط له التوجه إلى الكتاب والسنة، بل إن التوفيق له يأتي أحيانًا عن طريق الهاتف، وأحيانًا بطرق أخرى سنعرفها فيما بعد إن شاء الله تعالى، فإن القوم منذ نشأتهم رأوا أن علمهم الذي يحصلون عليه - في زعمهم- أفضل من علم الكتاب والسنة، بل رأوا أن علم الكتاب والسنة مشغلة عن طريقهم ومسلكهم، وهذه بعض عباراتهم في ذلك : -
أ ـ قال أبو يزيد البسطامي (توفي سنة 261هـ ) ناعيًا على علماء الشريعة مفاخرًا لهم : " أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون : حدثني فلان، وأين هو ؟ قالوا : مات، عن فلان وأين هو ؟ قالوا : مات " .(1)
ب ـ يقول الجنيد: " ما أخذنا التَّصوف عن القيل والقال ".(2) ويقول أيضا : " أحب للمبتدئ ألا يشغل قلبه بهذه الثلاث، وإلا تغيرت حاله : التكسب وطلب الحديث والتزوج، وأحب للصوفي أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه "( (3)
ج- وقال أبو سليمان الداراني : " إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا " .(4)
ولا يخفى على أي منصف يتقي الله تبارك وتعالى ويقول كلمة الحق أن هذه الأقوال كافية في هدم الشريعة الإسلامية، بل في هدم العمران كله، لأن الحضارة الإنسانية حتى المادية منها لا تقوم إلا على هذه الثلاث : العلم، وطلب الكسب والمعاش، والزواج . وحضارة الإسلام خاصة تقوم على هذه الثلاث، وتأمر بطلب علم الآخرة وهو علم الكتاب والسنة، وكذلك علم الدنيا وهو كل علم نافع لحياة الإنسان ورقيه في هذه الأرض .
__________
(1) - الفتوحات المكية 1/365 .
(2) - طبقات السلمي 158 .
(3) - قوت القلوب : 3/135 .
(4) - الفتوحات المكية 1/37 .(1/109)
ولم يكتف أهل هذا المنهج من المتصوفة بالتنفير من علم الشريعة والحديث بل جعلوا كشفهم، وما يزعمون نقله من العلم عن الله تبارك وتعالى حاكما على إسناد الحديث فيصححون ما شاءوا من الأحاديث، وإن كانت ضعيفة عند علماء الحديث والسنة، ويضعفون ما شاءوا منها، وإن كانت ثابتة صحيحة حسب الموازين العلمية الدقيقة التي تعارف عليها علماء الحديث ومصطلحه، والتي هي بحق مفخرة الإسلام، فليس عند أمة من أمم الأرض قديمًا وحديثًا تثبت في النقل على النحو الذي درج عليه علماء هذه الأمة في التعرف على الحديث الصحيح من الضعيف، وبذلك ولله الحمد سلم دين الأمة من دخول أقوال الزنادقة والملاحدة فيه .
لقد عمد رؤساء المتصوفة إلى هدم الإسناد في الحديث، وهو مفخرة الإسلام بحق، وذلك عن طريق الحكم على الإسناد بعلمهم الخاص . يقول ابن عربي في رسائله : " وربما قالوا ( أي علماء الشريعة ) إذا عاينوهم ( أي عاينوا علماء الصوفية ) يتكلمون بمواجيدهم مع أصحابهم : دين مكتوم، دين مشوم، وما عرفوا جهات الدين . وهؤلاء ما تكتموا بالدين فقط، وإنما تكتموا بنتائجه، وما وهبهم الحق تعالى في طاعته حين أطاعوه، وبما صح عندهم من أحاديث الأحكام ما اتفق على ضعفه، وتجريح نقلته، وهم أخذوه عن الكشف : هو انكشاف حجاب القلب ورؤيته أشياء من الغيب زعم الصوفية أنه يحصل لهم، ومراد ابن عربي هنا بالكشف الاتصال بالرسول، ومعرفة الحديث منه رأسًا عن قائله صحيحا، فتعبدوا به أنفسهم على غير ما تقرر عند علماء الرسوم، فينسبونهم إلى الخروج عن الدين، وما أنصفوا فإن للحق وجوهًا يوصل إليه منها هذا أحدها، ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه، وليس بصحيح عندهم من طريق الكشف، ويتركون العمل به مثل ذلك سواء " .(1/110)
ومعنى هذا كله أن للمتصوفة حكمهم الخاص على إسناد الحديث، فعن طريق الكشف يتصلون رأسًا بالنبي ويصححون الحديث أو يضعفونه ! ! وبهذا الهجوم على قواعد علم الحديث تتهدم السنة، وتبقى ألعوبة في يد هؤلاء الذين يحكمون عليها بما شاءوا وليس من ضابط يرجع إليه، ولا فيصل يحتكم إليه ما دام أن الكشف هذا علم غيبي، وقد يكون كشف هذا غير كشف ذاك .
ولم يكتف المتصوفة بالنهي عن العلم، بل جعلوا العلم عورة يجب أن تستر وتغطى، حتى إن شيخًا يرى مريدًا له، وقد سقطت منه محبرة، فيقول له : اخف سوأتك ! !( (1)
وبعد أن وضع المتصوفة هذه القواعد لهدم العلم الشرعي والتنفير منه دعوا الناس إلى العلم الباطني الذي أطلقوا عليه اسم الحقيقة، وقالوا : إن طريق الوصول إليه هو الكشف والفتح الرباني والفيض الرحماني . لنعلم أنهم لا يعنون بالعلم الباطن إصلاح حال القلوب كما يزعم بعضهم، بل إنهم يعنون علمًا خاصًا يكشفون به حقائق يزعمون رؤيتها والتحقق بها . ولقد بالغوا في تفضيل هذا العلم، وتشديد التنكير على من نفاه أو خالفه . وقد كانوا يخفون هذا العلم والكشف في أول أمرهم، ويجعلونه من الأسرار والخصوصيات، ولكنهم سرعان ما أعلنوا عنه وكشفوه بعد أن تحولت دفة الناس إليهم .
الفصل الرابع
الولاية الصوفية
__________
(1) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370 .(1/111)
يعتقد الصوفية في الأولياء عقائد شتى، فمنهم من يفضل الولي على النبي، وعامتهم يجعل الولي مساويًا لله في كل صفاته، فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات للولاية، فهناك:الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة:الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة:الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء:كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق، ولهم ديوان يجتمعون فيه في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير، وباختصار؛ الأولياء عالم خرافي كامل . هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات والعبودية الكاملة لله والفقر إليه، وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئًا فضلًا عن أنه يملك لغيره، قال الله تعالى لرسوله:)قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) الجن:21.
1 – الولاية الشرعية:(1/112)
أعلن القرآن أن كل مؤمن صادق في الإيمان ولي لله سبحانه وتعالى ،يقول الله تعالى :( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة:257، نصت الآية هنا على أن الله ولي كل مؤمن، وأنه بفضل هذه الولاية يخرج الله المؤمنين من الظلمات إلى النور، وقال تعالى : (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين) . الجاثية : 18-19 . يخبر سبحانه وتعالى أنه ولي لكل من اتقاه وخافه . . وجاء في دعاء موسى عليه السلام لربه:( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ). الأعراف : 155 . وقال تعالى أيضًا : (هذا صراط ربك مستقيمًا قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام : 126-127 . وقال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس:63.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا التي تبين ولايته سبحانه وتعالى لكل مؤمن صالح متق لله سبحانه وتعالى . . والولاية هي المحبة والنصرة : فالله سبحانه وتعالى إذا والى عبدًا فإنه يحبه وينصره ويعزه ويكرمه كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المائدة:54.(1/113)
وكذلك العبد إذا قيل إنه يوالي الله فمعنى ذلك أنه يحب الله وينصره كما قال تعالى : )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)البقرة:165، وقوله:(أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد:7، فولي الله من ينصره ويحبه، ومن يحب الله ينصره . . ، فكل من أحب الله ونصره، وسار في مرضاته، وحفظ حدوده، وأقام شريعته ودينه، فهو ولي الله سبحانه وتعالى .(1/114)
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم طريق الولاية فقال صلى الله عليه وسلم : "قال الله تعالى من عادى لي وليًا فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه". رواه البخاري. فالرسول فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى أن طريق الولاية للعبد هو أن يقوم بأداء الفرائض أولًا التي هي أحب الطاعات إليه سبحانه وتعالى، ثم يتدرج في أداء النوافل حتى يحبه الله، فإذا أحبه الله سبحانه وتعالى كان وليًا حقًا له جل وعلا، وقد جاء في الحديث الصحيح : " إنَّ الله إذا أحب عبدًا قال يا جبريل إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبه فيحبه جبريل، ثمَّ ينادي جبريل في أهل السماء فيقول إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" رواه مسلم.ولا شك أنه على الرغم من أن كل مؤمن هو ولي الله جل وعلا فإن ولاية الله للعبد ومحبته له تتفاوت بحسب الإيمان والتقوى والعمل الصالح فكلما ازداد إيمان العبد وترقى في درجات الكمال والصلاح وتحلى بالتقوى كان أعظم ولاية، وأقرب من ربه سبحانه وتعالى، هذا مفهوم الولاية في الإسلام على وجه الإجمال .
الولاية الصوفية الشيطانية:(1/115)
في التَّصوف الشيطاني فإن الولاية لها معنى آخر تمامًا في الشكل المضمون والموضوع، فولي الله عند الصوفية الزنادقة من اختاره الله وجذبه إليه، وليس من شرط ذلك أن يكون عند هذا المختار والمجذوب أية مواصفات للصلاح والتقوى إذ الولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب، وبغير حكمة، ويجعلون الولاية الكسبية هي ولاية العوام والمتنسكين والولاية الحقيقية عندهم هي الولاية الوهبية، يستدلون لذلك بمثل قوله تعالى : ) يختص برحمته من يشاء ) البقرة : 105 . فيقولون : الولاية اختصاص وهذا تلبيس منهم لأن اختصاص الله من يشاء برحمته لا يكون إلا لحكمة وأسباب اقتضت ذلك، كما قال سبحانه وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ) المائدة : 35 . فجعل سبحانه وتعالى تقواه واتخاذ الوسيلة منه هي الطريق الموصل لرحمته فيستحيل أن تكون رحمة الله التي يختص بها من يشاء كائنة دون حكمة لأنَّ الله سبحانه وتعالى يعلم أن يجعل رسالته وأين يضع هدايته كما قال تعالى : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام : 124 . وقال تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) الأنعام : 53 . فأخبر سبحانه ردًا على الكفار الذين احتقروا المؤمنين لفقرهم وقالوا : كيف يرزقهم الله التقوى ونحن أكرم على الله منهم لأنه رزقنا الأموال والأولاد . قال تعالى : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)الأنعام:53، فالله سبحانه وتعالى إنه أعلم من يوفق لهدايته وهم الذين يحكمون بواجب شكره سبحانه وتعالى ولذلك عبد الرسول ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت، وقام من الليل حتى تفطرت قدماه وقيل له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : "أفلا أكون عبدًا شكورًا ". متفق عليه.(1/116)
ولما اعتقد الصوفية الزنادقة أن الولاية قضية وهبية بلا حكمة ولا معقولية جعلوا المجاذيب والمجانين والفسقة والظلمة والملاحدة المشركين من أهل وحدة الوجود، أولياء لله بمجرد أن ظهر على أيديهم بعض خوارق العادات التي ظهر مثلها على الدجال وابن صياد، وأصناف من المشركين وأهل الإلحاد . . فجعلوا الكرامة الشيطانية الإبليسية كالإخبار ببعض المغيبات واحتراف بعض الحيل والشعوذات وإتقانها كزعم الدخول في النيران وضرب الجسم بالسكاكين والسهام واللعب بالعقارب والحيات، وأمثال ذلك من المخاريق والترهات جعلوا أولياء الله هم هؤلاء الذين يدجلون على الناس بمثل هذه الخرافات مع ما هم عليه من مخالفة الإسلام، في الظاهر والباطن فظاهرهم مخالف للشريعة حيث عبدوا الله بالبدع والمظاهر الكاذبة والرياء والسمعة كملبس الخرق الملونة والمرقعات وإظهار الفقر والزهد، وذكر الله بالصياح والهوس والجنون وإقامة مشاعر الشرك عند القبور والمزارات والاستعانة بالأموات، وعبادة المشايخ والذوات،جعلوا من هذه أحوالهم في ظاهرهم أولياء لله، ومن أحوالهم في بواطنهم أشر من ذلك وأمر . فهم من أهل وحدة الوجود الكافرين والزنادقة الملحدين الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق، ورب وعبد، ومن يجعلون النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم هو علة الأكوان، والمستوي على عرش الرحمن، ومبدع الأرض والسماوات إلى آخر هذا الكفر والهذيان مما يأباه من عنده أدنى إسلام وإيمان . . . هذه هي الولاية الصوفية في زعمهم جعلوها لهؤلاء كما جعلوها أيضًا للمجانين والصبيان ولأهل التخاريف والهذيان حتى عدوا في أوليائهم من يأتي الحمارة في وضح النهار، وأمام الأسماع والأبصار، وسلكوا في سلك الولاية الشيطانية هذه من يشرب الخمر جهارًا نهارًا، ويزني ويلوط عيانًا بيانًا، ويزعمون في كل ذلك أن هذا مظاهر غير مراد، وأنه نوع من التخييل للعباد، وأن الولي الصادق لا تضره معصية أبدًا، أو أن الأعيان ينقلب(1/117)
له فالخمر التي يشاهدها الناس خمرًا ينقلب في بطن الولي لبنًا خالصًا، والزانية الفاجرة التي يرى الناس الولي بصحبتها تكون زوجته، ولم يكتفوا بهذا أيضًا في تعريف الولاية عندهم بل قالوا في الفكر الصوفي إن الولي يتصرف في الأكوان ويقول للشيء كن فيكون، وكل ولي عندهم قد وكله الله بتصريف جانب من جوانب الخلق فأربعة أولياء يمسكون العالم من جوانبه الأربعة، ويسمون الأقطاب، وسبعة أولياء آخرون كل منهم في قارة من قارات الأرض السبع ويسمون البدلاء . وعدد آخر من الأولياء في كل إقليم في مصر ثلاثون أو أربعون وفي الشام كذلك، والعراق وهكذا، وكل واحد من هؤلاء قد أوكل إليه التصريف في شيء ما، حتى عدو منهم من صرفه الله في رعاية الكلاب، ومنهم من له التصريف في رعاية الحيات، وفوق هؤلاء الأولياء جميعًا ولي واحد مراد يسمى القطب الأكبر أو الغوث وهو الذي يدبر شأن الملك كله سمواته وأرضه والأولياء جميعًا في بقاع الأرض تحت أمره . فالأرض والسماوات تدار حسب الولاية الصوفية وأما الملائكة جميعًا فإنهم في خدمة هؤلاء الأولياء ينفذون أوامرهم ويخضعون لمشيئتهم . . هذه هي الولاية الصوفية وهي لا تمت من قريب أو بعيد للولاية الإسلامية القرآنية قط .(1/118)
فالولي في الإسلام عبد هداه الله ووفقه وسار في مرضاة ربه حسب شريعته، وهو يخشى على نفسه دائمًا من الكفر والنفاق وسوء العاقبة ولا يعلم هل يقبل الله عمله أو لا . . وأمَّا الولي الصوفي فهو رب كبير أو صغير يتصرف في جانب من جوانب الكون ولا يلتزم بشريعة لأن له شريعته المستقلة، والملائكة تحت مشيئته والسماوات والأرض كالخلخال برجله ! ! ولا يغرب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض، ولا خوف عليه مطلقًا لأنه قد جاءه الأمان، ولا يحزن لشيء مطلقًا لأن بيده التصريف . . هذه هي الولاية الصوفية . والحق أن الذي قرأ شيئًا من الفلسفة الإغريقية القديمة يعلم يقينًا أنَّ فكرة الولاية الصوفية هذه منقولة عن هذه الفلسفة فآلهة الإغريق قديمًا-كما صورتها الإلياذة والأوديسيا- يتصرفون في الكون ولكل منهم جانب خاص من جوانب العالم، (فمارس ) هو إله الحرب، (وكيوبيد ) هو إله الحب، و ( افروديت ) هي إلهة الجمال، و( أبوللو ) هو رب الأرباب وهكذا . . إنَّ فكرة تعدد الآلهة عند الإغريق وتصرفهم في الكون هي فكرة الولاية الصوفية تمامًا حيث يعبث هؤلاء الولاية الصوفيون بمصائر البشر، ويتحكمون في أرزاقهم وأعمالهم، ويتصارعون أيضًا ويتنافسون كما يصنع آلهة الإغريق تمامًا .
وصف ولايتهم الصوفية :
أوَّلُ من ألف كتابًا مستقلًا في الولاية الصوفية هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي، الذي يسمونه الحكيم، وهو غير الترمذي صاحب السنن المشهورة، وقد نشأ (الحكيم ) هذا في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو مجهول سنة الولادة والوفاة . وكتابه الذي أشرنا إليه يسمى خاتم الأولياء .( راجع الفصل بختم الولاية الصوفية ) .(1/119)
رسم هذا الترمذي الملامح الخيالية الزندقية للولاية الصوفية ومن أجل هذا الكتاب شهد علماء زمانه بالزندقة والكفر ونفوه من بلدة ترمذ كما أخبر بذلك صاحب الطبقات الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي، وادعى الترمذي هذا في الولاية ما تابعه بعد ذلك عامة الصوفية عليه من أن الولاية وهب، ومنحة إلهية لا كسب وموجدات، وأن الولي يعلم علم البدء وعلم المقادير وعلم الحروف.(1)
ووضع الترمذي هذا مراتب للولاية، فجعل منهم المجاذيب وأهل العته والجنون لأن الله جذبهم إليه وأسقط عنهم التكاليف، وأن هناك أربعين من أوليائهم الذين يتصرفون في شئون العالم، وأن هناك القطب الأكبر والخاتم للولاية وأن الأولياء هؤلاء محروسون عند الله فلا يلقى في صدورهم إلا الوحي الرحماني الملائكي فقط ! ! وجعل هؤلاء الأولياء منهم من بلغ ثلث النبوة، ومنهم من بلغ نصفها ومنهم من زاد على ذلك وهو ختم الأولياء.(2) ومن هؤلاء الأولياء تظهر لهم الآيات مثل طي الأرض، والمشي على الماء ومحادثة الخضر.(3) وزعم كذلك أنَّ قلوب هؤلاء الأولياء هي كتاب الله يطبع فيه ما يشاء ! ! وأنهم كالأنبياء لهم من الله عقد الولاية ولذلك كشف عن قلوبهم الغطاء فيرون ملك الله في كل أجزائه في العالم العلوي والسفلي، وزعم أن هؤلاء الأولياء يعرفون منازلهم من الجنة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويقطعون بذلك وأن الكرامات التي تظهر على أيديهم دليل على صدقهم وإيمانهم . . ، يقول الترمذي : " ما قولك في مُحَدِّث، بشر بالفوز والنجاة فقال : رب اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع الشك والاعتراض . فقال( أي الله ) : آتيك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيني الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهبًا، ففعل هذا هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى بعد ظهور هذه
__________
(1) - ختم الولاية ص362 .
(2) - ختم الولاية ص347 .
(3) - المصدر السابق ص361 .(1/120)
الآية أولًا " ا . هـ منه بلفظه.(1)
ولا غرو أن يدعي الترمذي هذا ما يدعي فأنه قد ذكر على نفسه فيما سماه( بدو شأن الترمذي ) أن زوجته قد تنبأت له، وزعمت له أنها رأت في شأنه عشرات من الرؤى منها أنها رأت أن سطح بيتها وكانت نائمة عليه قد هبط إلى الأرض وأنها وجدت داخل بيتها رجلين قاعدين في هيبة وأنهما قالا لها : قولي لزوجك : أنت وتد من أوتاد الأرض تمسك طائفة من الناس ! !( (2) وأن هذين الرجلين الذين بشراها هما محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجته هذه أيضًا تنبأت له بأنها كانت نائمة مع زوجها في فراش واحد وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل فراشهما معهما ! !( (3)
ولا يخفى أن أمثال هذه الرؤيا والتنبؤات رؤى شيطانية حتمًا فليس هناك شيء يسمى أوتادًا تمسك الأرض لأن الله سبحانه وتعالى يقول : ) إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) فاطر : 41 . وإذا كان الله هو الذي يمسك السماوات والأرض فمعنى ذلك أنه ليس في حاجة إلى الترمذي وغيره ليكون وتدًا يمسك جانبًا من الأرض ! ! نعم جعل الله الجبال أوتادًا للأرض ولم يجعل الترمذي الذي ينام ليله شاخرًا وتدًا من أوتاد الأرض،وأمَّا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول:" من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ". يستحيل أن يأتي ليدخل في فراش رجل مع زوجته ولم يدخل مع زوجة الترمذي في فراشها وهي مع زوجها إلا الشيطان حتمًا الذي يعلم من هم أولياؤه .
__________
(1) - ختم الولاية ص401 .
(2) بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص25 .
(3) - بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص38 .(1/121)
هذا هو الزعيم الأول والرائد الأول لفكرة الولاية الصوفية، وفكرة ختم الولاية . والعجيب أنه كتب كتابه هذا نحو سنة 269هـ حيث ذكر أن زوجته رأت بعض هذه الرؤى يوم السبت 20 من ذي القعدة سنة 269هـ . . وبذلك يكون الترمذي أول من وضع لبنات الفكر الصوفي في قضية الولاية المزعومة . . ومن أجل هذا الكتاب رماه علماء بلده بالكفر والزندقة واستطاعوا طرده من ترمذ ولكنه عاد إليها بعد ذلك تحت جناح بعض الظالمين . . وقد أفضنا في بيان هذه القضية من كتاب الترمذي لأنَّه أوَّل من سنَّ هذا الشر المستطير الذي جاء بعده، وكتابه هو أول كتاب فيما أظن قد وضع الأسس الخبيثة هذه لفكرة الولاية الصوفية .
مراتب الولاية عند الصوفية(1/122)
وقد ذهب المتصوفة إلى تقسيم مراتب الولاية عندهم فمنهم من قالوا إنهم يتقسمون إلى الغوث وهو أكبر الأولياء جميعًا وهو واحد في كل زمان وتحته الأوتاد الأربعة وكل واحد منهم في ركن من أركان العالم يقوم به ويحفظه والأقطاب السبعة وكل منهم في إقليم من أقاليم الأرض السبعة أي في قارة من القارات السبع، ( والأبدال ) وزعموا أنهم أربعون وهم يعيشون في العالم، وكلما هلك واحد منهم أبدله الله بغيره لحفظ الكون ! ! (والنجباء ) وهم ثلاثمائة كل منهم يتولى شأنًا من شئون الخلق . . ولا يشك مسلم يعلم شيئًا من الكتاب والسنة ولا عالم قد اطلع على علوم الكتاب والسنة أن ما قاله الصوفية في هذا الصدد هراء وكذب لا أساس له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن الصوفية أرادوا أن يؤسسوا لهم دولة في الباطن تحكم وتنفذ وتتحكم في شئون الناس فبنوا هذه الدولة العجيبة الباطنية التي يتحكم فيها هؤلاء الذين سموهم بالغوث والأقطاب والأبدال والنجباء والأوتاد . . ويتعجب الإنسان وهو يطالع الفكر الصوفي في هذا الصدد كيف أن المتصوفة أحكموا خطتهم للسيطرة على عقول الناس، ولإدخالهم إلى دينهم العجب العجيب حيث أوهموهم أن التصريف في الأرض والسماء والخلق أجمعين إنما هو لدولتهم الخفية التي يتحكم فيها أولياء الصوفية . . هؤلاء الأولياء الذين قد يكونون أحيانًا أميين لا يعرفون قراءة ولا كتابة وأحيانًا مجاذيب يصرخون ويبولون في الطرقات وأحيانًا زناة وشاربي خمور قد رفعت عنهم التكاليف الظاهرة وأن منهم من يعيش طيلة عمره قذرًا وسخًا لا يتطهر بماء قط أو صابون ليوفر الماء للفقراء ! ! ومع ذلك فهؤلاء الأولياء يعلمون الغيب كله ولا يخفى عليهم شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعجزهم شيء ولا يقف أمام إرادتهم أحد أبداً.(1/123)
وقد كفانا عبد الوهاب الشعراني مئونة تجميع خرافاتهم في مراتب الولاية، يقول : "وأما القطب فقد ذكر الشيخ في الباب الخامس وخمسين ومائتين أنه لا يتمكن القطب من أن يقوم في القطابة إلا بعد أن يحصل معاني الحروف التي في أوائل السور المقطعة مثل ألم، والمص، ونحوهما فإذا أوقفه الله تعالى على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة وكان أهلًا لها . فإن قلت :فما علامة القطب فإن جماعة في عصرنا ادعوا القطبية وليس معنا علم برد دعواهم . ( فالجواب ) قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي أن للقطب خمس عشرة علامة : أن يمد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش العظيم ويكشف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات ويكرم بكرامة الحلم والفضل بين الموجودين وانفصال الأول عن الأول وما انفصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه حكم ما قبل وما بعد وحكم من لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم ما بدا من السر الأول إلى منتهاه ثم يعود إليه . . " .
القطب الغوث واحد في الزمان فقط :
يقول ابن عربي أن القطب الأكبر أو ما يسمونه بالغوث واحد في كل زمان . فيقول :" قال الشيخ في الباب الخامس والخمسين ومائتين : ومن خصائص القطب أن يختلي بالله تعالى وحده ولا تكون هذه المرتبة لغيره من الأولياء أبدًا ثم إذا مات القطب الغوث انفرد تعالى بتلك الخلوة لقطب آخر لا ينفرد قط بالخلوة لشخصين في زمان واحد أبدًا . وهذه الخلوة من علوم الأسرار . وأما ما ورد في الآخرة من أن الحق تعالى يخلو بعبده ويعاتبه فذلك من باب انفراد العبد بالحق تعالى لا من باب انفراد الحق بالعبد فافهم واكتم " .(1) وحتى لا يقع المتصوفة في الأشكال المعروفة وهو أن كان أقطاب التَّصوف في عهد الخلافة الراشدة لذلك بادر ابن عربي للقول أن أبا بكر وعمر كانوا أقطابًا بالمعنى الصوفي . . ونقول حاشا الصحابة أن يدخلوا في هذا الزور والبهتان .
__________
(1) - اليواقيت والجواهر للشعراني(1/124)
يقول ابن عربي :" ثم اعلم أنه لما كان نصب الإمام واجبًا لإقامة الدين وجب أن يكون واحدًا لئلا يقع التنازع والتضاد والفساد فحكم هذا الإمام في الوجود حكم القطب . قال : وقد يكون من ظهر الأئمة بالسيف أيضًا قطب الوقت كأبي بكر وعمر في وقته، وقد لا يكون قطب الوقت فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يكون إلا بصفة العدل، ويكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نواب القطب في الباطن من حيث لا يشعر فإن الجور والعدل يقع من أئمة الظاهر ولا يكون القطب إلا عادلًا . واعلم أن القطبية كما أنها قد تكون لولاة الأمور كذلك قد تكون في الأئمة المجتهدين من الأربعة وغيرهم بل هي فيهم أظهر ويكون تظاهرهم بالاشتغال بالعلم الكسبي حجابًا عليهم لكون القطب من شأنه الخفاء رضي الله عنهم أجمعين ".(1) ) وهكذا يجعل ابن عربي بعض الخلفاء أقطابًا وبعض الفقهاء كذلك . ولقد من ابن عربي على الإمام الشافعي فأعطاه رتبة ( الوتد ) في مملكته الصوفية، أي أنه كان يسيطر على ربع العالم . وأما الإمام أحمد فأن ابن عربي لم يمن عليه بشيء من هذه الرتب الصوفية واكتفى بأن جعله مجرد(صديق ) ! ! وهي منزلة العامة عندهم ممن يؤمن بالخرافات الصوفية .
وظيفة القطب :
__________
(1) - اليواقيت والجواهر ج2 ص80 .(1/125)
يقول الشعراني عن شيخه ابن عربي : " وقال في الباب الثالث والثمانين وثلاثمائة : اعلم أن بالقطب تحفظ دائرة الوجود كله من عالم السكون والفساد وبالإمامين يحفظ الله تعالى عالم الغيب والشهادة وهو ما أدركه الحس، وبالأوتاد يحفظ الله تعالى الجنوب والشمال، والمشرق والمغرب، وبالأبدال يحفظ الله الأقاليم السبعة، وبالقطب يحفظ الله تعالى جميع هؤلاء لأنه هو الذي يدور عليه أمر عالم الكون كله فمن علم هذا الأمر علم كيف يحفظ الله الوجود على عالم الدنيا ونظيره من الطب علم تقويم الصحة ( فإن قلت ) فهل للقطب تصريف في أن يعطي القطبية لمن شاء من أصحابه وأولاده . (فالجواب ) ليس له تصريف في ذلك وقد بلغنا أن بعض الأقطاب سأل الله أن تكون القطبية من بعده لولده فإذا بالهاتف يقول له : ذلك لا يكون إلا في الإرث الظاهر وأما الإرث الباطن فذلك إلى الله وحده الله أعلم حيث يجعل رسالته . فعلم أنه ما حفظ من حفظ من الأولياء وغيرهم من جهاته الأربعة إلا بالأوتاد الذين كان منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه وما حفظ من حفظ في صفاتها لسبع إلا بالأبدال السبعة فكل صفة لها بدل يحفظها على صاحبها من حياة وعلم وقدرة،وإرادة وسمع وبصر وكلام .(1)
الأبدال السبعة ووظائفهم :
__________
(1) - المصدر السابق.(1/126)
قال الشعراني : وقال الشيخ أيضًا:" اعلم أن لكل بدل من الأبدال السبعة قدرًا، يمده من روحانية الأنبياء الكائنين في السماوات فينزل مدد كل بدل من حقيقة صاحبه الذي في السماء . قال : وكذلك أمداد الأيام السبعة فتنزل من هؤلاء الأبدال لكل يوم مدد يختص به من ذلك البدل . (فإن قلت ) وهل يزيد الأبدال وينقصون بحسب الشئون التي يبدلها الحق تعالى أو هم على عدد واحد لا يزيدون ولا ينقصون ؟ ؟ (فالجواب ) هم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون وبهم يحفظ الله الأقاليم السبعة ومن شأنهم العلم بما أودع الله تعالى في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار في حركاتها ونزوله في المنازل المقدرة . ) فإن قلت ) فلم سموا أبدالًا ؟ (فالجواب ) كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين : أنهم سموا أبدالًا لأن كل واحد منهم إذا فارق مكانه خلفه فيه شخص على صورته لا يشك الرائي أن ذلك البدل . ) فإن قلت ) فهل ترتيب الأقاليم السبعة على صورة ترتيب السماوات بحيث يكون ارتباط الإقليم الأول بالسماء السابعة والثاني بالسماء السادسة،وهكذا . .( فالجواب ) كما قاله الشيخ في الباب الثمن والتسعين ومائة : نعم يكون روحانية كل إقليم مرتبطة بالسماء المشاكلة له فالإقليم الأول للسماء السابعة وهكذا . . (وإيضاح ذلك ) أن تعلم يا أخي أن الله تعالى جعل هذه الأرض التي تجن عليها سبعة أقاليم ( أي سبع قارات هي قارات العالم المعروفة ) ، واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال، وجعل لكل بدل إقليمًا يمسك الله وجود ذلك الإقليم به فالإقليم الأول ينزل الأمر إليه من السماء الأولى التي هي السابعة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه هو على قلب الخليل إبراهيم عليه السلام والإقليم الثاني ينزل الأمر إليه من السماء الثانية وينزل إليه الروحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قلب موسى عليه السلام، والإقليم الثالث ينزل إليه الأمر الإلهي من السماء الثالثة،(1/127)
وينظر إليه روحانية كوكبها البدل الذي يحفظه على قلب هارون ويحيى بتأييد الرابعة قلب الأفلاك كلها، وينظر إليه روحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قلب إدريس عليه السلام وهو القطب الذي لم يمت إلى الآن، والأقطاب فينا نوابه كما مر والإقليم الخامس ينزل إليه الأمر من السماء الخامسة،وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظ الله به هذه الأقاليم على قلب يوسف عليه السلام بتأييد محمد صلى الله عليه وسلم والإقليم السادس ينزل الأمر عليه من السماء السادسة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب عيسى روح الله ويحيى عليهما السلام والإقليم السابع ينزل الأمر إليه من السماء الدنيا وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب آدم عليه السلام .
مدة حكم القطب ووظيفته
يذكر ابن عربي لنا مدة حكم القطب والأعمال المنوطة به فيقول كما نقل الشعراني : " (فإن قلت ) فهل مدة معينة للقطبية إذا وليها صاحبها لا يعزل منها حتى تنقضي ؟ ( فالجواب ) ليس للقطبية مدة معينة فقد يمكث القطب في قطبيته سنة أو أكثر أو أقل إلى يوم إلى ساعة فإنها مقام ثقيل لتحمل صاحبها أعباء الممالك الأرضية كلها ملوكها ورعاياها . وذكر الشيخ في (الباب الثالث والستين وأربعمائة) أن كل قطب يمكث في العالم الذي هو فيه على حسب ما قدر الله عز وجل، ثم تنسخ دعوته بدعوة أخرى كما تنسخ الشرائع بالشرائع وأعني بالدعوة ما لذلك القطب من الحكم والتأثير في العالم فمن الأقطاب من يمكث في قطبيته الثلاث والثلاثين سنة وأربعة أشهر ومنهم من يمكث فيها ثلاث سنين ومنهم كما يؤيد ذلك مدة خلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فإنهم كانوا أقطابًا بلا شك " .(1)
ابن عربي القطب الأعظم
__________
(1) - اليواقيت والجواهرج2 ص83 .(1/128)
بعد أن وصف ابن عربي كل هذا الوصف الخرافي للأقطاب والأبدال والأوتاد فلا بد أن يخص نفسه بلقب من هذه الألقاب . وتأبى كرامة ابن عربي طبعًا أن يختار لقبًا دونًا، فيعلن عن نفسه أنه القطب الأعظم الذي لا أعظم منه أبدًا يقول بالنص : " لا أعرف في عصري هذا أحدًا تحقق بمقام العبودية مثلي وذلك لأنني بلغت في مقام العبودية الغاية بحكم الإرث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا العبد المحض الخالص الذي لا يعرف للربوبية على أحد من العالم طمعًا، وقد منحني الله تعالى هذا المقام هبة منه، ولم أنله بعمل وإنما هو اختصاص إلهي ".(1)
ختم الولاية
نشأ في الفكر الصوفي منذ القرن الثالث الهجري دعوى كاذبة وهي أن الأولياء يختمون كما أن الأنبياء لهم نبي خاتم . وأول من أظهر هذه الفكرة ودعا رجل يسمى محمد بن علي بن الحسن الترمذي ويسمونه الحكيم وجد في أواخر القرن الثالث الهجري وهو مجهول سنة الولادة والوفاة . ولقد ألف كتابًا في هذا أسماه ( ختم الأولياء ) يقول في هذا الكتاب المذكور؛ " وما صفة ذلك الولي، الذي له إمامة الولاية ورياستها وختم الولاية ؟ قال : ذلك من الأنبياء قريب، يكاد يلحقهم . قال : فأين مقامه ؟ قال : في أعلى منازل الأولياء، في ملك الفردانية، وقد انفرد في وحدانيته، ومناجاته كفاحًا في مجالس الملك، وهداياه من خزائن السعي . قال : وما خزائن السعي ؟ قال : إنما هي خزائن ثلاث : خزائن المنن للأولياء، وخزائن السعي لهذا الإمام القائد، وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام، فهذا خاتم الأولياء مقامه من خزائن المنن، ومتناوله من خزائن القرب : فهو في السعي أبدًا فمرتبته ههنا، ومتناوله من خزائن الأنبياء عليهم السلام، قد انكشف له الغطاء عن مقام الأولياء ومراتبهم وعطاياهم وتحفهم " (ختم الولاية ) .
__________
(1) - اليواقيت والجواهر ص65، 66 .(1/129)
وقد تدرج الترمذي هذا في دعواه تلك تدرجًا إبليسيًا خبيثًا حيث هو يجابه العالم الإسلامي بمثل هذه العقيدة الفاسدة، فيتذرع لنشر عقيدته الباطلة بتحريف النصوص القرآنية والحديثية فيزعم أن للأولياء البشرى في الحياة الدنيا مستدلًا بقوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ) يونس : 62-64 . وأن الرسول بشر بعض أصحابه بالجنة، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر البشرى باقية في الرؤيا، أقول . . يتذرع الترمذي بهذه النصوص من القرآن والسنة الصحيحة ليبث في عقائد المسلمين أن الولاية لا تنقطع وأن فضل الله على هذه الأمة لا يتوقف، وأن البشرى باقية بعد الرسالة، وأن الأولياء يصلون إلى معرفة الحق لأن الله في زعمه كشف عنهم الحجاب كلها ويقول في هذا الشأن بالنص : " فهذه الطبقة التي يكبر في صدورهم ) يعني علماء السنة الذين ينكرون هذه الترهات والأكاذيب ) بلوغ الأولياء هذا المحل من ربهم فيدفعون هذا لجهلهم، لا يعلمون أن لله عبادًا أغرقوا في بحر جوده، فجاد عليهم، بكشف الغطاء عن قلوبهم، عن عجائب، وأطلعهم من ملكه ما نسوا في جنبه كل مذكور، حتى تنعموا به في حجبه الربانية " ) ختم الأولياء ص386 ) .
ابن عربي وختم الولاية(1/130)
يقول ابن عربي مدعيًا لنفسه ختم الولاية : " وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب . من أكرمها أصلًا ويدًا . وهو في زماننا اليوم موجود . عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه من عباده، وكشفها لي بمدينة فاس، حتى رأيت خاتم الولاية منه وهو خاتم النبوة المطلقة لا يعلمها كثير من الناس وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به . وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نبوة الشرائع كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي لا التي تحصل من سائر الأنبياء فإن من الأولياء من إبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء يوحدون بعد الختم المحمدي، وبعده فلا يوجد ولي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هذا معنى خاتم الولاية المحمدية " ) الفتوحات ج2 ص49 ) .
وابن عربي جاء من بعده ليزعم أن خاتم الأولياء ـ يعني نفسه ـ أفضل من خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بناء على تفضيله الولي على النبي كما قال في شعره :
مقام النبوة في برزخ ** فويق الرسول ودون الولي
ويأتي إلى حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ) مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين ) . فيزعم أن اللبنة التي رآها الرسول هي لبنة فضة، وأما خاتم الأولياء فإنه يرى أن الجدار قد نقص لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب، وأنه يرى نفسه قد انطبع موضع هاتين اللبنتين.(1/131)
وقد تصدى الإمام ابن تيمية رحمه الله لهذه المزاعم في أماكن كثيرة من كتبه ومن ذلك قوله : " وكذا خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له . وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي . وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء : كابن حموي، وابن عربي، وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعًا في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا، فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي رضي الله عنه، وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن نقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ثم عمر اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما " ) الفتاوي : ج11 ص444 ) .(1/132)
وقال رحمه الله أيضًا : " إن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء، على ما ادعوه، باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب ) ختم الولاية ) وقد ذكر في هذا الكتاب وهو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع . وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة ) قلت : رحم الله ابن تيمية : أي شيء محمود في كتابه وقد بناه من أوله لآخره على أن الأولياء معصومون، وأن الله هو يختصهم ويختارهم، وأن التكليف ليس شرطًا في ولايتهم، وأنهم يعلمون الغيب كله . . بل أسس في كتابه ختم الولاية كل أصول الشر لمن جاء بعده ) ، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده .
وقال أيضًا : " ومنها ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم خاتم الأنبياء مع الأنبياء، وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة، وخير القرون قرن ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الحديث الصحيح : ) خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )(1/133)
واقرأ ما يقوله ابن تيمية أيضًا في ذلك : " ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما، قد سلكوا مسلك ملاحدة الشيعة، كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك، فصار بعضهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه . فيقول كما كان ابن سبعين يقول : " لقد زَرَّبَ ابن آمنة ) ضيق على الناس ويعني بابن آمنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال ) لا نبوة بعدي ) " ! أو يرى، لكونه أشد تعظيمًا للشريعة، أن باب النبوة قد أغلق؛ فيدعي أن الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء . ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا، وأنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول . . فمحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه، وذلك الخيال يؤخذ عن العقل . فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية، فزعم ابن عربي أنه يأخذ من العقل، وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فإن ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف والمشاهدة والرياضة والعبادة، ويذمون طرق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة، عامته خيالات أنفسهم، ويسمونه حقيقة . . " ) الرد على المنطقيين، لابن تيمية ص486-489 ) .
الديوان الصوفي الذي يحكم العالم:(1/134)
إكمالًا لإحكام السيطرة الخرافية على العالم، اخترع رجال التَّصوف بخيالاتهم الشيطانية المريضة . . اخترعوا ديوانًا للأقطاب والأوتاد وسائر صنوف الأولياء عندهم ينعقد في غار حراء، وفي أماكن أخرى أحيانًا ليدير هذا الديوان العالم من خلال قراراته . . وقد كفانا أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي في كتابه الإبريز المؤنة وقد بسط وشرح بخيال لا يجارى، وبعقلية عندها قدرة عجيبة على الكذب والبهتان، هذا الديوان العجيب على الرغم من أنه غاية في الكفر والزندقة ولا يخلو من طرافة الخرافة . وسأحاول أن تكون تعليقاتي وشرحي لبعض ما جاء في هذا الديوان قليلة وذلك أنني أتصور وأعتقد أيضًا أن الفكرة السيئة يكفي لدحضها وبيان تفاهتها أن يعرفها الناس فلو أن الناس عرفوا الأفكار الصوفية على حقيقتها لما راج التَّصوف وقامت سوقه ولكن لأنه دائمًا كان يغلف الخرافة والكفر والشرك بالرموز والأسرار، واللف والدوران مع ما يعلنه من التمسك بالكتاب والسنة جعل الناس يتهافتون على ما عندهم ظنًا أن عندهم فعلًا علومًا جديدة وفوائد عظيمة ولكن لو أن الناس فهموا ما عند المتصوفة على حقيقته لتغير الحال . وهذا نمط من الأسرار الصوفية التي يدعي المتصوفة أنهم وصلوا إليها . يقول السلجماسي في وصف الديوان الباطني الصوفي ما يلي : هيئة الديوان : الباب الرابع في ذكر ديوان الصالحين رضي الله عنهم أجمعين .سمعت الشيخ ) يعني بالشيخ عبد العزيز الدباغ الأمي الجاهل الذي يدعي أنه قد علِم علمَ الأولين والآخرين جميعًا ) ، رضي الله عنه ـ يقول الديوان يكون بغار حراء الذي كان يتحنف فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة قال ـ رضي الله عنه ـ فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه وهم مالكية على مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب ومن المذاهب الأخرى والوكيل أمامه ويسمى(1/135)
قاضي الديوان وهو في هذا الوقت مالكي أيضًا من بني خالد القاطنين بناحية البصرى واسمه سيدي محمد بن عبد الكريم البصراوي ومع الوكيل يتكلم الغوث ولذلك يسمى وكيلًا لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان . قال والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته والصفوف الستة من وراء الوكيل وتكون دائرتها من القطب الرابع الذي على اليسار من الأقطاب الثلاثة فالأقطاب السبعة هم أطراف الدائرة وهذا هو الصف الأول وخالطه الثاني على صفته وعلى دائرته وهكذا الثالث إلى أن يكون السادس آخرها . قال ويحضره النساء وعددهن قليل وصفوفهن ثلاثة وذلك في جهة الأقطاب الثلاثة التي على اليسار فوق دائرة الصف الأول فسحة هناك بين الغوث والأقطاب الثلاثة قال ـ رضي الله عنه ـ ويحضره بعض الكمل من الأموات ويكونون في الصفوف مع الأحياء ويتميزون بثلاثة أمور أحدها أن زيهم لا يتبدل بخلاف زي الحي وهيئته فمرة يحلق شعره ومرة يحدد ثوبه وهكذا . وأما الموتى فلا تتبدل حالتهم فإذا رأيت في الديوان رجلًا على زي لا يتبدل فاعلم أنه من الموتى كأن تراه محلوق الشعر ولا ينبت له شعر فاعلم أنه على تلك الحالة مات، وإن رأيت الشعر على رأسه على حاله لا يزيد ولا ينقص ولا يحلق فاعلم أنه ميت وأنه مات على تلك الحالة، ثانيها أنه لا تقع معهم المشاورة في أمور عالم الأموات قال رضي الله عنه: ومن آداب زائر القبور إذا أراد أن يدعو لصاحب القبر ويتوسل إلى الله تعالى بولي من أوليائه في إجابة دعوته أن يتوسل إليه تعالى بولي ميت فإنه أنجع للمقصود وأقرب لإجابة دعوته . ثالثها أن ذات الميت لا ظل لها فإذا وقف الميت بينك وبين الشمس فإنك لا ترى له ظلًا وسره أنه يحضر بذات روحه لا بذاته الفانية الترابية وذات الروح خفيفة لا ثقيلة وشفافة لا كثيفة قال لي رضي الله عنه وكم مرة أذهب إلى الديوان أو إلى مجمع من ملجأ الأولياء وقد طلعت(1/136)
الشمس فإذا رأوني من بعيد استقبلوني فأراهم بعين رأسي متميزين هذا بظله وهذا لا ظل له . قال رضي الله عنه: والأموات الحاضرون في الديوان ينزلون إليه من البرزخ يطيرون طيرًا بطيران الروح فإذا قربوا من موضع الديوان بنحو مسافة نزلوا إلى الأرض ومشوا على أرجلهم إلى أن يصلوا إلى الديوان تأدبًا مع الأحياء وخوفًا منهم . قال وكذا رجال الغيب إذا زار بعضهم بعضًا فإنه يجيء بسير روحه فإذا قرب من موضعه تأدب ومشى مشي ذاته الثقيلة تأدبًا وخوفًا . قال وتحضره الملائكة وهم من وراء الصفوف ويحضر أيضًا الجن الكمل وهم الروحانيون وهم من وراء الجميع وهم لا يبلغون صفًا كاملًا قال رضي الله عنه وفائدة حضور الملائكة والجن أن الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها وفي أمور أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها فيستعينون بالملائكة وبالجن في الأمور التي لا تطيق ذواتهم الوصول إليها " ا . هـ منه بلفظه ) الإبريز ص163،164 ) .
الغوث الصوفي هو بمنزلة رب الأرباب عندهم أو كبير المتصوفين في هذا العالم، وهناك عدد كبير جدًا من المتصوفة زعم أنه وصل إلى هذه المرحلة ) الغوثية أو القطبية والقطبانية الكبرى ) منهم الدباغ هذا وكان أميًا جاهلًا لا يحفظ حزبًا من القرآن الكريم ) وانظر معنى الغوث في فصل الولاية الصوفية ) وجعلوا هذا الغوث الذي يدبر العالم من غار حراء جعلوا في خدمته الأقطاب والأوتاد والنجباء وسائر الأولياء بل والملائكة والجن أيضًا . . ولم يقصروا الحضور على الأحياء فقط بل جعلوا الحضور للأموات أيضًا .
من يحضر الديوان:(1/137)
زعموا أن الرسول يحضر معهم : قال ) أي الدباغ ) : " وفي بعض الأحيان يحضره النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أحضر عليه السلام جلس في موضع الغوث وجلس الغوث في موضع الوكيل للصف، وإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاءت معه الأنوار التي لا تطاق دائمًا وهي أنوار محرقة مفزعة قاتله لحينها، وهي أنوار المهابة والجلالة والعظمة حتى إننا لو فرضنا أربعين رجلًا بلغوا في الشجاعة مبلغًا لا مزيد عليه ثم فجؤوا بهذه الأنوار فإنهم يصعقون لحينهم إلا أن الله تعالى يرزق أولياءه القوة على تلقيها ومع ذلك فإنه قليل منهم هو الذي يضبط الأمور والتي صدرت في ساعة حضوره صلى الله عليه وسلم . قال وكلامه صلى الله عليه وسلم مع الغوث قال وكذلك الغوث إذا غاب صلى الله عليه وسلم تكون له أنوار الخارقة حتى لا يستطيع أهل الديوان أن يقربوا منه بل يجلسون منه على بعد فالأمر الذي ينزل من عند الله تعالى لا تطيقه ذات إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم وإذا خرج من عنده صلى الله عليه وسلم فلا تطيقه ذات إلا ذات الغوث ومن ذات الغوث يتفرق على الأقطاب السبعة ومن الأقطاب السبعة تفرق على أهل الديوان " ا . هـ منه بلفظه ) الإبريز ص164 ) .
ويستمر السلجماسي في خيالاته الشيطانية فيقول : " وسألته رضي الله عنه هل يحضر الديوان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى وغيرهما من الرسل على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام فقال رضي الله عنه يحضرونه في ليلة واحدة في العام قلت فما هي قال في ليلة القدر فيحضره في تلك الليلة الأنبياء والمرسلون ويحضره الملأ الأعلى من الملائكة المقربين وغيرهم ويحضره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ويحضر معه أزواجه الطاهرات وأكابر صحابته الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين " انتهى بلفظه ) الإبريز ) .
ساعة انعقاد الديوان:(1/138)
ساعة الديوان سبق الكلام عليها وإنها هي الساعة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم وإنها هي ساعة الاستجابة من ثلث الليل الأخير التي وردت بها الأحاديث كحديث : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له . . . الحديث . قلت ومن أراد أن يظفر بهذه الساعة فليقرأ عند إرادة النوم { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلًا . . ) [الكهف: 107: 110 ]. إلى آخر السورة ويطلب من الله تعالى أن يوقظه في الساعة المذكورة فإنه يفيق فيها ذكره الشيخ عبد الرحمن الثعالبي رضي الله عنه وقد جربناه ما لا يحصي وجربه غيرنا حتى إنه وقع لجماعة غير مأمورة أن يقرأوا الآية المذكورة ويطلبوا من الله تعالى الإفاقة في الساعة المذكورة كل منهم يفعل ذلك في خاصة نفسه من غير أن يعلم به صاحبه وإذا أفاقوا أفاقوا جميعًا في وقت واحد " انتهى منه بلفظه ) الإبريز ص164 ) .
لغة أهل الديوان:
يقول أحمد بن مبارك : " سمعته رضي الله عنه يقول إن لغة أهل الديوان رضي الله عنهم هي السريانية لاختصارها وجمعها المعاني الكثيرة ولأن الديوان يحضر الأرواح والملائكة والسريانية هي لغتهم ولا يتكلمون العربية إلا إذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم أدبًا معه " ا . هـ ) الإبريز ص168 ) . ولست أدري لماذا يجمع المتصوفة تقريبًا على اختيار اللغة السريانية لغة للديوان، ولمعاني الحروف، وللأذكار فإما للتلبيس على الناس لأنها لغة منقرضة لا توجد إلا في قرية واحدة الآن من قرى سوريا ولا يتكلمها إلا نحو خمسمائة شخص فقط، أو لأن هذه اللغة كانت لغة أقوام اشتهروا بعبادة الجن والأوثان وهذا الذي يبدو فإن هذه اللغة كانت لأقوام وثنيين من عبدة الجن والكواكب وما يزال كثير من هذه القرية التي يتكلم أصحابها بهذه اللغة مهجورًا مسكونًا بالجن .
الديوان يعقد في صحراء السودان أحيانًا:(1/139)
الصحراء السودانية مكان آخر لانعقاد الديوان يقول السلجماسي :" وسألته رضي الله عنه هل يكون الديوان في موضع آخر غير غار حراء فقال رضي الله عنه نعم يكون في موضع آخر مرة في العام لا غير وهذا الموضع يقال له زاوية أَسَا بفتح الهمزة والسين بعدها ألف خارج أرض سوس بينها وبين أرض غرب السودان فيحضر أولياء السودان ومنهم من لا يحضر الديوان إلا في تلك الليلة ويأذن الله تعالى ويسوق أهل آفاق تلك الأراضي ويجتمعون بالوضع المذكور قبل تلك الليلة بيوم أو يومين وبعدها كذلك يجتمع في ذلك السوق من التبر ما لا يحصى فقلت وهل ثم مع آخر في غير هذين الموضعين فقال نعم يجتمعون ولكن لا يجتمع نحو العشرة منهم في موضع قط إلا في الموضعين السابقين لأن الأرض لا تطيقهم لأنه تعالى أراد تفرقهم في الأرض وفي الخلق والله تعالى أعلم " ا . هـ منه بلفظه ) الإبريز ص73 ) .
ماذا لو غاب الغوث :(1/140)
يقول السلجماسي أيضًا : " وسمعته رضي الله عنه يقول قد يغيب الغوث عن الديوان فلا يحضر فيحصل بين أولياء الله تعالى من أهل الديوان ما يوجب اختلافهم فيقع منهم التصرف الموجب لأن يقتل بعضهم بعضًا فإن غالبهم اختار أمرًا وخالف الأقل في ذلك فإن الأقل يحصل فيهم التصرف السابق فيموتون جميعًا وقد اختلفوا ذات يوم في أمر فقال طائفة منهم قليلة إن يكن لكم ذلك الأمر فلتمت فقالت الطائفة الكثيرة فموتوا إن شئتم فماتت الطائفة القليلة قال رضي الله عنه فإن تكافأ الفريقان إن حصل التصرف فيهم معًا فقلت فإنهم أهل بصيرة وكشف فلم يحصل بينهم النزاع وهم يشاهدون مراد الله تعالى ببصيرتهم فقال رضي الله عنه إذا كان الأقل هو المخالف فإن الله يحجبهم عن المراد حتى ينفذ ما فيهم وإذا تكافأ الفريقان فإن مراد الحق سبحانه يخفى على الجميع لأن قلوب الأولياء الأوفياء مظاهر الأقدار وقد اختلفت وتكافأت فقلت فما سبب غيبة الغوث رضي الله عنه عن الديوان فقال رضي الله عنه سببه أحد أمرين إما غيبته في مشاهدة الحق سبحانه فلهذا لا يحضر في الديوان وإما كونه في بداية توليته كما إذا كان بقرب موت الغوث الذي قبله فإنه قد لا يحضر في بداية الأمر حتى تتأنس ذاته شيئًا فشيئًا قال رضي الله عنه وقد يحضر سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في غيبة الغوث فيحصل لأهل الديوان من الخوف والجزع من حيث إنهم يجهلون العاقبة في حضوره صلى الله عليه وسلم ما يخرجهم عن جناسهم حتى إنه لو طال ذلك أيامًا لانهدم العوالم " ) الإبريز ص168 ) .
أولياء ينظرون في اللوح المحفوظ:
يقولون ليس كل من يحضر الديوان من الأولياء يقدر على النظر في اللوح المحفوظ بل منهم من يقدر على النظر فيه ومنهم من يتوجه إليه ببصيرته ويعرف ما فيه ومنهم من لا يتوجه إليه لعلمه بأنه ليس من أهل النظر إليه قال ابن عربي كالهلال فإن رؤية الناس إليه مخالفة " ا . هـ .
لماذا يجتمع أهل الديوان :(1/141)
لماذا يجتمع أهل الديوان ؟ يقول السلجماسي : " وسمعته رضي الله عنه يقول أن أهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد فهم رضي الله عنهم يتكلمون في قضاء الله عز وجل في اليوم المستقبل والليلة التي تليه قال رضي الله عنه، ولهم التَّصوف في العوالم كلها السفلية والعلوية وحتى في الحجب السبعين وحتى في عالم الرقا ) بالراء وتشديد القاف ) وهو ما فوق الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهمس به ضمائرهم فلا يهمس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف رضي الله عنهم أجمعين وإذا كان هذا في عالم الرقا الذي هو فوق الحجب السبعين التي هي فوق العرش فما ظنك بغير من العوالم " ) الإبريز ص169 ) . .
الشريعة الصوفية
الشريعة الصوفية ونعني بها العمل الظاهر، والمنهج العملي الذي سلكه رجال التَّصوف تضليلًا للعامة، ووصولًا إلى العقيدة الباطنية، وتظاهرًا بالتمسك بالإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وسيعلم القارئ كيف أن الظاهر الصوفي والشريعة الخاصة الصوفية لا تكاد تخرج عن البدعة والفسق والكفر والشرك . ولنبدأ بأخص أمورهم وأشهرها، التي جعلوها دائمًا المدخل إلى الطريق الصوفي ألا وهو الذكر .
السماع والذكر الصوفي:(1/142)
لقد كان أوائل الصوفية كانوا يحضرون مجلس )السماع) وهو الاجتماع في مكان معين لسماع منشد صاحب صوت حسن مع استعمال الإيقاع الموسيقي, ينشد قصائد الزهد وترقيق القلوب, ثم تطوروا إلى إنشاد قصائد الغزل وذكر )ليلى) و)سعدى) ويقولون نحن نقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذه القصائد التي تهيج الحب المطلق, الحب غير المعين, فكلٌ يأخذه حسب هواه وما يعتلج في قلبه من حب الأوطان أو حب النساء. وقد أباح لهم هذا السماع أبو حامد الغزالي وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم, واحتجوا بأشياء واهية ضعيفة, وليس هذا موضوع مناقشة حكم الإسلام في الغناء, فقد رد عليهم العلماء مثل ابن الجوزي وأجاد ابن القيم في مناقضة هذا الموضوع في كتابه )إغاثة اللهفان), وتبقى الحقيقة أن الأمة المسلمة أمة جادة ولا يحلل هذا الغناء إلا من لا يفقه الإسلام حق الفقه.
ولم يقتصر الأمر على هذه القصائد بل تطور إلى ذكر الله بالرقص والدف والغناء, وعندما تقام الحضرة.)(1) تبدأ التراتيل بذكر اسم الله المفرد )الله) بصوت واحد, ولكن عندما يشتد الرقص ويلعب الشيطان برؤوسهم يرفعون عقيرتهم أكثر ويتحول اسم الله إلى )هو) ثم لا تسمع بعدها إلا همهمة, وقد يجتمع مع هذا الصراخ والقفز في الهواء أخلاط الناس من النساء والأولاد لرؤية هذا)التراث الشعبي), حقاً إنها مهزلة اتبعوا فيها سنن الذين من قبلنا فقد جاء في مزامير العهد القديم عن اليهود:"ليبتهج بنو صهيون بملكهم, ليسبحوا اسمه برقص, بدف وعود, سبحوه برباب, سبحوه بصنوج الهتاف".)(2)
__________
(1) مصطلح عند الصوفية يعني الاجتماع على ذكر الله بالرقص على شكل حلقة يكون الشيخ في وسطها وكأنه قائد أوركسترا.
(2) هذه هي الصوفية ص 143.(1/143)
جاء في)ترتيب المدارك) للقاضي عياض:"قال التنيسي:كنا عند مالك بن أنس وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين:عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد, ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك:أصبيان هم؟ فقال:لا. قال:أمجانين هم؟ قال:لا هم مشايخ وعقلاء. قال:ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا".)(1)
وقد يكون من أسباب فعلتهم هذه هو أن النفس ترى أن تغطي شهواتها باسم الدين والذكر والحضرة. ولو كشفت بصراحة عن نوازعها لكان الخطب أهون, لأنها عندئذ تبقى في دائرة المعصية وهي أقل خطراً من البدعة. والله سبحانه وتعالى وصف الذاكرين له باطمئنان قلوبهم وخشوعهم وإخباتهم, وقد كان السلف إذا سمعوا القرآن خافوا وبكوا واقشعرت جلودهم, وهذا عكس الرقص والطرب, ولم يأمر الله سبحانه حين أمر الناس بالعبادة–أن يأكلوا أكل البهائم ثم يقوموا للرقص, بل هذا الرقص الذي يسمونه )ذكراً) وما يرافقه من منكرات مستقبح ديناً وعقلاً, هو وصمة عار أن يكون في المسلمين من يفعل هذا.
كيفية تتلقى الأذكار عند الصوفية
__________
(1) ترتيب المدارك 4/5 ط . المغرب وقد حاو ل صاحب الكتاب ( حقائق عن التصوف ) محاولة سمجة للاستشهاد بالإمام مالك والإمام الشافعي على أنهما يمدحان الصوفية وهؤلاء الأئمة أعقل وأكبر من هذا .(1/144)
يخطئ من يظن أن الصوفية أتباع للرسول صلى الله عليه وسلم في هديه في الذكر حيث شرع لنا صلى الله عليه وسلم أن نذكر الله سبحانه وتعالى بأذكار مخصوصة في أوقات معلومة، والنبي عندما أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن من قال كذا وكذا فله كذا وكذا من الأجر إنما يتكلم بالوحي لأن الأجر أمر غيبي يقدره الله ويعلمه، ولكن مشايخ الصوفية أراد كل منهم أن ينصب من نفسه مشرعًا لمجموعة من المريدين، وإلهًا يعبده الأتباع الجاهلون، وكان باب الأذكار هو الباب الذي دخل منه هؤلاء للتشريع للأتباع والمريدين فوضع كل منهم لأتباع طريقته منهجًا خاصًا بالذكر، وأذكارًا مخصوصة وكان لكل واحد منهم أن يضفي على ذكره الخاص هالة من التقديس، وأن يحاول جذب المريدين إليه بشتى الطرق والوسائل فمنهم من زعم أن ذكره الخاص قد أخذه من الرسول منامًا، ومنهم من ادعى أنه أخذه من الرسول يقظة، ومنهم من زعم أن الخضر الذي أوحى له بالذكر، ومنهم من تنازل فنسب ذكره إلى شيخ طريقة ميت، ومنهم من تنازل عن ذلك فأخبر أتباعه أنه جمع لهم هذا الذكر من آيات القرآن، وأحاديث الرسول وتأليفاته، وأنه مجرب وأن من فعله حصل له كذا وكذا من الخير . فقد فعله فلان فحصل له كذا وكذا، وفعله فلان فحصل له كذا وكذا . . وإليك أنماطًا من هذه الافتراءات والأكاذيب والخزعبلات لا يصدقها إلا من طمست بصائره.
ذكر الله تعالى باسمه المفرد(الله):(1/145)
لا شك في بدعية ذكر الله تعالى باسمه المفرد-الله- وأشد منه ذكره باسمه المضمر(هو) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:وأما الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً: فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحدٌ مِن سلف الأمة، ولا شَرعَ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالاً نافعاً، وإنما يعطيه تصوراً مطلقاً لا يُحكم عليه بنفي ولا إثبات فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة، والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره. وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع مِن الاتحاد كما قد بسط في غير هذا الموضع. وما يُذكر عن بعض الشيوخ مِن أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات ! : حالٌ لا يقتدي فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا اله الله، وقال:"مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، ولو كان ما ذكره محذوراً لم يلقَّن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتاً غير محمودٍ بل كان يلقَّن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنَّة، وأدخل في البدعة، وأقرب إلى إضلال الشيطان فإن من قال:"يا هو يا هو" أو:"هو هو" ونحو ذلك: لم يكن الضمير عائداً إلا إلى ما يصوِّره قلبُه والقلب قد يهتدي وقد يضل.(1/146)
ثم كثيراً ما يَذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل:"الله" بقوله:)قل الله ثم ذرهم) ويظن أنّ الله أمر نبيَّه بأن يقول الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم فإن قوله:{قل الله} معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وهو جواب لقوله تعالى: )قل مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعُلِّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله) أي:الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، ردَّ بذلك قول من قال " ما أنزل الله على بشر من شيء " فقال: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ؟ ثم قال: قل الله أنزله ثم ذر هؤلاء المكذبين في خوضهم يلعبون.
وممَّا يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاما لا يحكون به ما كان قولاً فالقول لا يحكى به إلا كلام تام أو جملة اسمية أو فعلية ولهذا يكسرون " أن " إذا جاءت بعد القول فالقول لا يحكى به اسم والله تعالى لا يأمر أحداً بذكر اسم مفرد ولا شرع للمسلمين اسماً مفرداً مجرداً، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام ولا يؤمر به في شيء من العبادات ولا في شيء من المخاطبات.)مجموع الفتاوى 10/229-226).(1/147)
وقال رحمه الله أيضاً: فأما الاسم المفرد مظهرا مثل " الله، الله " أو مضمراً مثل "هو، هو":فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنَّة ولا هو مأثور أيضاً عن أحد مِن سلف الأمة ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين. وربما اتبعوا فيه حالَ شيخ مغلوب فيه مثلما يروى عن الشبلي أنه كان يقول:"الله، الله" فقيل له: لم لا تقول لا إله إلا الله ؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات . وهذه مِن زلات الشبلي التي تُغفر له لصدق إيمانه وقوة وجْده وغلبة الحال عليه؛ فإنه كان ربما يجنُّ، ويُذهب به إلى المارستان، ويَحلق لحيته، وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها وإن كان معذوراً أو مأجوراً فإن العبد لو أراد أن يقول لا إله إلا الله ومات قبل كمالها لم يضره ذلك شيئاً إذ الأعمال بالنيات بل يكتب له ما نواه .
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة،
وربما قال بعضهم " لا إله إلا الله " للمؤمنين، و "الله" للعارفين، و "هو" للمحققين، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على " الله الله الله "، أو على " هو "، أو " يا هو "، أو " لا هو إلا هو.
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك واستدل عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب كما يروي بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لقَّن عليَّ بن أبى طالب أن يقول " الله الله الله " فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ثم أمَر عليّاً فقالها ثلاثا، وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.(1/148)
وإنما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذكر المأثور عنه، ورأس الذكر لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي عرضها على عمِّه أبي طالب حين الموت، وقال: " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله " وقال: " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبدٌ عند الموت إلا وجد روحه لها روحاً "، وقال: " مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " ، وقال : " مَن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " ، وقال " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " ، والأحاديث كثيرة في هذا المعنى . ) مجموع الفتاوى 10/ 556-558 )
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: قد دلت الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن النبي أن أفضل الكلام كلمة التوحيد: وهي لا إله إلا الله، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: )الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله). وقال عليه الصلاة والسلام: )أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر(1/149)
وقد ذكر الله في كتابه العظيم هذه الكلمة في مواضع كثيرة؛ منها: قوله سبحانه:)شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ). وقوله عز وجل:)فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ). والمشروع للمسلمين جميعا أن يذكروا الله بهذا اللفظ: لا إله إلا الله، ويضاف إلى ذلك:سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله - كل هذا من الكلام الطيب المشروع. وقول الصوفية: ) الله الله )، أو ) هو هو )، فهذا من البدع، ولا يجوز التقيد بذلك. لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فصار بدعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: )من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وقوله عليه الصلاة والسلام:)من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم فهو رد أي فهو مردود ولا يجوز العمل به ولا يقبل. فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتعبدوا بشيء لم يشرعه الله؛ للأحاديث المذكورة. وما جاء في معناها؛ لقول الله سبحانه منكرا على المشركين:)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ).
عقيدة التلقي من القبور:
وهذه قصة تبين طريقة أخرى لتلقي الأذكار، إنها مخاطبة الموتى والأخذ عنهم حتى لو كان الذكر كلامًا لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة ! !(1/150)
ذكر أحمد بن المبارك السلجماسي المتوفي سنة 1155هـ قال : " قص علينا بعض أصحابنا من أخيار أهل تلمسان، فأخبرني أنه سمع بعض من حج بيت الله الحرام يقول إنه زار قبر سيدي إبراهيم الدسوقي ( نفعنا الله به ) ! ! فوقف عليه الشيخ سيدي إبراهيم الدسوقي نفعنا الله به وعلمه دعاء وهذا هو : بسم الله الخالق، يلجمه بلجام قدرته . أحمى حميثاً أطمى طميثاً وكان الله قويًا عزيزًا . حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ( الإبريز ) .(1/151)
" فقال له سيدي إبراهيم : ادع بهذا الدعاء ولا تخف من شيء فقال له صاحبنا التلمساني وهو الحاج الأبر التاجر الأطهر سيدي عبد الرحمن بن إبراهيم من أولاد إبراهيم القاطنين بتلمسان : إن أخي الحاج محمد بن إبراهيم استشكل معنى هاتين الكلمتين وهما ( أحمى حميثًا وأطمى طميثًا ) امتنع من هذا الدعاء وقال : لا أدري ما معناها ولعل أن يكون فيهما ما أكره، فسألني عن معنى الكلمتين . فسألت شيخنا رضي الله عنه عن معناهما، فقال رضي الله عنه بديهة لا يتكلم أحد اليوم على وجه الأرض بهاتين الكلمتين فمن أين لك بهما ؟ ! . . فحكيت له الحكاية، فقال رضي الله عنه : نعم سيدي إبراهيم الدسوقي من أكابر الصالحين ومن أهل الفتح الكبير وهو وأمثاله الذين يتكلمون بهاتين الكلمتين . ثمَّ قال رضي الله تعالى عنه: هما كلمتان باللغة السريانية : أما أحمى فمعناه يا مالك الأسرار يا مالك الأنوار يا مالك الليل والنهار يا مالك الحساب المدرار، يا مالك الشموس والأقمار، يا مالك العطا والنفع، يا مالك الخفض والرفع، يا مالك كل حي، يا مالك كل شيء، وفي هذا الاسم سر عجيب لا يطيق القلم ولا العبارة تبلغه أبدًا . . وأما قوله ( أطمى ) فهو بمنزلة من يصفه تعالى بالعظمة والكبرياء والقهر والغلبة والعز والانفراد في ذلك كله وكأنه يقول : يا عالم كل شيء يا قادرًا على كل شيء يا مكون كل شيء ويا مدبر كل شيء ويا قاهر كل شيء ويا من لا يتطرق إليه عجز ولا يتوهم في تصرفه نقص . .(وطميثاً ) إشارة إلى الأشياء التي يتصرف فيها، وإلى الممكنات التي يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه لا إله إلا هو . وفي هذا الاسم سر عجيب لا يطيق القلم تبليغه أبدًا والله أعلم " ) الإبريز ) .(1/152)
فانظر كيف أن إسناد هذه القصة مجهول عن مجهول عن ميت وكلمات الذكر لا معنى لها في أي لغة قديمة أو حديثة، وكلمة السريانية هي لا تعني اللغة السريانية البائدة المعروفة وإنما يفسرها الصوفية بأنها لغة الأرواح ! ! ومع كل هذه الجهالة في الإسناد والحديث عن موتى يعلمون الناس الأذكار من قبورهم إلا أن كل ذلك طرق معتمدة عند الصوفية لتلقي العلم . .
ونقول (العلم ) هنا تجوزًا والحق أنه تلقى هذه الضلالات من أفواه الشياطين الذين يخاطبونهم من هذه القبور ويلبسون عليهم دينهم ويصرفونهم عن الذكر الطيب الذي نطق به فم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبدلًا من أن يذكر المسلم الله قائلًا : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وأمثال هذه الكلمات الطيبات النافعات يقول : ( سقفاطيس، سقاطيم، آمون، فاق آدم حم، هأ آمين، كد كد، كردد، ده،بها بهيا بهيا، لمقفتجل يا أرض خُذيهم ) ! !
والعجيب بعد كل هذا أنهم إذا سئلوا من أين لكم بهذه الخزعبلات التي تسمونها أذكارًا يقولون كما قال أبو الحسن الشاذلي عن نفسه وقد سئل عن شيخه الذي أخذ عنه العلم فقال : " أما فيما مضى فكان سيدي عبد السلام بن مشيش . وأما الآن فأستقي من عشرة أبحر خمسة سماوية وخمسة أرضية، أما السماوية فجبريل وميكائيل، وإسرافيل وعزرائيل والروح وأما الأرضية فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والنبي صلى الله عليه وسلم " .(أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص210 ) .(1/153)
وأما سيده عبد السلام بن مشيش هذا فهو الذي يقول في صلاته المشهورة عن الرسول : " اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكرع بها من موارد الفضل واحملني على سبيله إلى حضرتك حملًا محفوفًا بنصرتك واقذف بي على الباطل فأدمغه وزج في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي وروحه سر حقيقتي وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق الأول يا أول يا آخر يا ظاهر، يا باطن اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا وانصرني بك لك وأيدني بك لك واجمع بيني وبينك " .(الحزب الكبير للدسوقي ) .
وفي هذا الدعاء من الكفر والهذيان شيء عظيم لا يخفى على من عنده أي إلمام بشيء من علوم الدين قوله ) وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة ) تصريح واضح لعقيدة ابن مشيش ومن على شاكلته من أهل وحدة الوجود الذين يسمون عقيدة التوحيد أوحالًا ! ! وأما قوله ) واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي ) فيعني بالحجاب الرسول صلى الله عليه وسلم أي أن صورة الرسول صورة الله كما مضى بيان ذلك في كلام عبد الكريم الجيلي، والعجيب من قول الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر والإمام الأكبر " كان ابن مشيش متمسكًا بالكتاب والسنة عاملًا بها ملتزمًا لهما " ( أبو الحسن الشاذلي ص21 ) .
وقوله أيضًا عن ابن مشيش " ولتأمل القارئ في مدى انغماس ( سيده ) سيدنا ابن مشيش في النور وما وصل إليه من الفضل الإلهي " .(1/154)
بل إن الشيخ عبد الحليم محمود يدون في كتابه عن الشاذلي ما هو أدهى وأمر من ذلك وأضل فيقول : " ولقد بهر ابن مشيش أبا الحسن الشاذلي، بهره بعلمه المشيد على الكتاب والسنة وبهره بولايته وكرامته، يقول أبو الحسن، كما يروي صاحب كتاب درة الأسرار : ورأيت له خرق عادات كثيرة، فمنها أنني كنت يومًا جالسًا بين يديه، وفي حجره ابن له صغير يلاعبه، فخطر ببالي أن أسأله عن اسم الله الأعظم، قال فقام إلى الولد، ورمى بيده في طوقي وهزني وقال : ) يا أبا الحسن، أنت أردت أن تسأل الشيخ عن اسم الله الأعظم ليس الشأن أن تسأل عن اسم الله الأعظم، إنما الشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم ) ! ! يعني أن سر الله مودع في قلبك . قال فتبسم الشيخ وقال لي : جاوبك فلان عني " .
ومن ذلك الزعم بأن أوراد الطريقة الشاذلية التي تلقاها ابن إدريس وأخذها عن شيخه قد تعلمها ابن إدريس هذا مشافهة من النبي حال اليقظة لا حال المنام . وقد رأينا نماذج من هذه الأوراد ونماذج الرجال الذين يزعمون أن رسول الله تنزل عليهم، وحضر إليهم ليخصهم بهذه الكرامات وبهذه الأوراد والأذكار، وحرم من ذلك أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة وجاء بعد ستة قرون من الزمان ليعلم هؤلاء أن يقول أحدهم " اللهم انشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحار الوحدة " .(1/155)
ويقول أيضًا : " بكهيعص كفيت بحمعسق حميت فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم اللهم أمنا من كل خوف وهم وغم وكرب كد كد كردد كرده ده ده ده ده الله رب العزة كتب اسمه على كل شيء أعزه خضع كل شيء لعظمة سلطانه اللهم أخضع لي جميع من يراني من الجن والإنس والطير والوحوش والهوام " ! ! " طهور بدعق محببة صورة سقفاطيس سقاطيم آحون ق أدُّمَّ حم هأ يا هو يا غوثاه يا من ليس للراجي سواه بما في اللوح من اسم خفي وبالذكر الحكيم وما تلاه وبالقبر الشريف وزائريه وبالقدس العلي وما حواه تقبل ربنا منا دعانا " ! !..ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ) [ فصلت : 29 ] { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا ) [ الأحزاب : 25 ] . بها بها بها بهيا بهيا بهيا بهيهات بهيهات بهيهات القديم الأزلي يخضع لي جميع من يراني لمقننجل يا أرض خذيهم قل كونوا حجارة أو حديدًا " ! !
هذه نماذج من الأدعية التي يزعمون أنهم يتلقونها من الغيب وأن الرسول جاء ليعلمها لهم والحال أن جميعها من وضع الشياطين وتلبيس الأباليس ومن التمويه على العامة والسذج بأن هؤلاء المشايخ عندهم أسرار ويتكلمون بكلام من الغيب العجيب كل العجب أن يجعل أمثال هؤلاء الذين يصرفون الناس عن القرآن الحكيم والسنة النبوية المطهرة التي ظاهرها كباطنها أن يجعلوا أئمة للناس يقتدي بهم في هذا الدجل والشعوذة والكذب على الله ورسوله .
فضائل مكذوبة للأذكار الصوفية:(1/156)
لو كان هؤلاء الصوفية عندما يؤلفون أذكارهم الركيكة التي شاهدنا نماذج منها آنفًا لا يتقولون بذلك على الله وعلى رسوله، ولا يزعمون أنهم كتبوها من الرسول حرفًا حرفًا وكلمة كلمة لهان الخطب وقلنا إن الأمر لا يتعدى البدعة فقد اخترعوا من عند أنفسهم أدعية وأذكارًا يتعبدون الله بها وتركوا ما هو أفضل من ذلك مما علمناه إياه رسول الله وثبت عنه بنقل الصحابة الصادقين والتابعين لهم بإحسان وما دونه أئمة الهدى من المسلمين في كتبهم كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن، والمسانيد . ولكن هؤلاء المتصوفة المتقولين على الله لم ينسبوا هذه الأذكار والأدعية إلى أنفسهم وإنما نسبوها إلى الله وإلى الرسول وزعموا أنه جاء بها إليهم الوحي والإلهام أو أملاها الرسول عليهم حال يقظتهم لا حال نومهم . وليتهم إذا فعلوا ذلك أيضًا جعلوا لأذكارهم هذه من الفضل ما كان يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته للأذكار من الفضل فقالوا مثلًا من قال هذا الذكر كان كمن أعتق عشرة رقاب أو كان كمن أهدى بدنه أو لم يأت يوم القيامة رجل بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل مثله أو زاد، أو بنى الله له بيتًا في الجنة على نحو ما كان يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا فضائل الأذكار التي يعلمها لأصحابه، ولكن هؤلاء جعلوا لأذكارهم المفتراة المكذوبة من الفضل والأجر شيئًا لا يبلغه الحد والوصف، وبالغ كل منهم في بيان فضل الذكر الذي يزعم أن رسول الله اختصه وجماعته به مبالغة عظيمة. فهذا مثلًا أحمد التجاني رأس الطريقة التجانية يزعم أن ذكره الذي يسميه صلاة الفاتح : القراءة الواحدة له تعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة ! !(1/157)
قال مؤلف جواهر المعاني على حرازم في الجزء الأول صفحة ( 94 ) : " وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق الخ، فقد سمعت شيخنا يقول : كنت مشتغلًا بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب وقد ذكر صاحب الوردة أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطبًا، قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي:( اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلامًا يعدل سلامهم ) لما رأيت فيها من كثر الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولًا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيًا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيحة وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار " انتهى بلفظه ) جواهر المعاني ص94 ) . .
فمعنى هذا أن قولهم ( والخاتم لما سبق ) ليس مقصودًا به النبوة والوحي لأن صلاة الفاتح المزعومة نفسها وحي أكمل القرآن بل على قولهم هذا أكمل نزولًا من القرآن لأنها نزلت مكتوبة من السماء والقرآن نزل مشافهة وسماعًا، ومعلوم أن المكتوب أعظم من المسموع في الإثبات بدليل امتنان الله على موسى بإنزال التوراة مكتوبة كما قال تعالى: )وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ)الأعراف:145.(1/158)
وهم يزعمون هنا أن صلاة الفاتح نزلت من السماء مكتوبة ولذا جاز عندهم تفضيل قراءتها على القرآن وإن أجر قراءة القرآن كله ستة آلاف مرة فأي كذب على الله أكبر من هذا . ونحن نقول لهؤلاء الكاذبين أكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يزعمون أنه هو الذي خص أحمد التجاني وجماعته بهذه الفضيلة وقال له ( خبأتها لك يا أحمد ) ! ! أكان يجوز له أن يخفي شيئًا مثل هذا عن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أصحابه القائمون بأمره الحارسون لدينه الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل نصرته . . ليعطي مثل هذه الفضيلة إلى أحمد التجاني وأعوانه الذين كانوا وما زالوا أعظم أعوان الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا بل في كل القارة الأفريقية وهم الذين مهدوا السبيل أمام الجيوش الفرنسية في معظم أنحاء القارة . أكان يجوز للرسول إخفاء صلاة الفاتح التي يزعمون أنها أعظم من القرآن بستة آلاف مرة لإعطائها مجموعة من خدم الاستعمار والكفار .
الشطح الصوفي:
فسّر أبو نصر السراج الطوسي الشطح الصوفي بأنّه:" عبارة مستغرقة في وصف وجد فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته".( (1) وقد لجأ المتصوفة إلى هذا التعريف لتبرير الكفر والزندقة الذي فاضت به كتب القوم وتواتر عنهم معتذرين أن ما قالوه قد قالوه في حالة سكر بما تجلى لهم من حقائق وبما عاينوا من علوم وزعموا أنها أسكرتهم، وأطارت صوابهم، وجعلتهم يتكلمون بمثل هذه العبارات وهذا التبرير السمج الذي لجأ إليه الصوفية لا يغير من الحقائق شيئًا وهو أن ما قالوه كفر واضح ظاهر وافتراء على الشريعة .
__________
(1) - اللمع ص453 .(1/159)
ويذكر السيد الشريف الجرجاني في كتابه تعريفاته:"أن الشطح هو عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، تصدر من أهل المعرفة (الصوفية) باضطرار، وهو زلات المحققين فانه دعوى حق يفصح بها العارف لكن من غير إذن الهي". أو هو:"عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته". من خلال هذه التعريفات وغيرها للشطح إذن، يمكن القول بأنه تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية، فتدرك أن الله هي وهي هو )تبادل الأدوار).
والشطح الصوفي يأتي نتيجة وجد عنيف لا يستطيع صاحبه كتمانه، فينطلق بالإفصاح عنه لسانه:سقوني وقالوا: لا تغن ولو سقوا جبال حنين ماسقوني لغنّت! ويحاول السراج الطوسي أن يحلل )الشطح) تحليلا لغويا حيث يرد كلمة )الشطح) لغويا إلى معنى الحركة فيقول: "أن الشطح في لغة العرب هو الحركة، يقال شطح يشطح: إذا تحرك...فالشطح لفظة مأخوذة من الحركة، لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوى وجدهم فعبروا عن وجدهم ذلك بعبارة يستغرب سامعها".وهكذا فإنّ ظاهرة الشطح تنجم عن اتحاد بين العبد ومعبوده يترتب عليه وجد عنيف، ولذا كانت حال الشطح تتميز بالاضطراب والانفعال الجامح والحركة.فكأن الشطح إذن ينطوي من خلال شدة الوجد على حال من الاضطراب والحركة والانفعال الجامح. ولقد ميز الصوفية بين نوعين من )الواجدين): الواجد الساكن والواجد المتحرك، وأخذوا يفاضلون بينهما، ويكاد يتفق معظمهم على أن الحركة قرينة الوجد العنيف، ومع ذلك فقد قال "قوم ان السكون والتمكن أفضل وأعلى من الحركة والانزعاج".(1/160)
ولعل تلك الآفات المتعددة التي لحقت بالتَّصوف كان مردها فيما أرى الى غياب دور العقل الذي يعصم المرء من الشطط مع التسليم بقصوره في بعض المجالات الإدراكية، إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يترك الصوفية العقل ويخلفوه وراءهم ظهريا. ولعله من بين تلك الآفات التي لحقت بالتَّصوف نجد ظاهرة )الشطح) التي تأتي غريبة ومقحمة على سياق التجربة الصوفية وان كانت لازمة عنها ومترتبة عليها.
ويذهب الصوفية الى أنه لما كانت درجة الشوق تتناسب مع مكانة الموضوع المشتاق إليه، فأي شوق يمكن أن يعادل أو يكون أقوى من الشوق الى الاتحاد بالله لدى الصوفي، ولعل ذلك مما يزيد في فوران الوجد عندهم. إنه إذن وجد غايته الاتحاد بالله والصوفية الذين يذهبون الى مثل ذلك الاتحاد بالله يعنون اللفظ والمفهوم تماما )الاتحاد) أي أن يصير المحب والمحبوب شيئا واحدا فعلا: سواء في الجوهر والفعل، أي في الطبيعة والمشيئة والفعل الصادر منها، فتكون الإشارة الى الواحد عين الإشارة الى الأخر، ثم تختفي الإشارة لانعدام المشير، فلا يصير ثمت غير واحد أحد هو الكل في الكل.
ويذهب الدكتور بدوي الى أن درجات الشطح تتناسب طرديا مع درجات الاتحاد أو الحلول، ونقول الاتحاد أو الحلول لان كليهما صالح لإيجاد ظاهرة الشطح.ونلاحظ أن لفكرة الاتحاد أهمية كبيرة في تكوين أو تكييف عملية الشطح، خاصة في مجال تفسير الشطحات التي تعبر عن تساوي الأديان كلها _سماوية وغير سماوية بالنسبة للصوفي. فيرجع تساوي الأديان لدى الصوفي الى كون الوجود واحدا، والوجود هو الله، فكلها إذن من الله، وبالنسبة الى الله تنتفي كل تفرقة حيث أن )الكل في واحد).
ونذكر طائفة يسيرة من عباراتهم التي اعتذروا عنها بأنها من الشطح وأن قائليها معذورون فيما قالوه لأنهم بزعمهم كانوا سكارى غائبين عن وعيهم عند ذكرهم لهذه العبارات :-(1/161)
* فقد تواتر ونقل الناس عن أبي يزيد البسطامي أنه قال " رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك ! ! فقلت : زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا : رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا " . ) اللمع ص461 )
* وذكر عنه كذلك أنه قال " أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت طيرًا جسمه من الأحدية، وجناحاه من الديمومة فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية، فرأيت فيها شجرة الأحدية " ) اللمع الطوسي ص461 ) ، ونقل عنه أيضًا أنه قال : " سبحاني سبحاني " وقال أيضًا " ضربت خيمتي بإزاء العرش " ) اللمع ص464 ) ، ومر يومًا بمقبرة للمسلمين فقال " مغرورون " و . . لليهود فقال: " معذورون " ! ! ) اللمع ص463 ) .
* وأما الشبلي فهو أحد مقدميهم وقادتهم واسمه دلف بن جحدر فقد قيل له يومًا : يا أبا بكر أخبرنا عن التوحيد فقال : للسائل : " ويحك ! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن هم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ومن ظن أنه قريب فهو بعيد ومن تواجد فهو فاقد، وكلما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم محدث مصنوع مثلكم " .
وعندما سئل الشبلي عن أبي يزيد البسطامي وعرض عليه بعض ما قاله البسطامي مما نقلناه آنفًا قال الشبلي : " لو كان أبو يزيد ها هنا لأسلم على يد بعض صبياننا وقال : لو أن أحدًا يفهم ما أقول لشددت الزنانير " ) اللمع ص50 ) .(1/162)
وكان هذا الشبلي أيضًا يقول : " لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة كنت مشركًا " ) اللمع ص479 ومعنى شددت الزنانير جمع زنار وهو ما كان يضعه أهل الذمة على وسطهم تميزًا لهم عن المسلمين ) . وذكر عنه أيضًا أنه سمع قارئًا يقرأ هذه الآية:)قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) )المؤمنون:108). فقال الشبلي ليتني كنت واحدًا منهم . وذكر عنه كذلك أنه قال : " إن لله عبادًا لو بزقوا على جهنم لأطفأوها ".
* وثبت عن أبي الحسين النوري أنه قال:أنا أعشق الله..وهو يعشقني، وشهدوا عليه أيضًا أنه سمع المؤذن فقال : طعنه وشم الموت ! ! وسمع نباح كلب فقال : " لبيك وسعديك " ! !
*وكان أبو حمزة الصوفي إذا سمع صوت هبوب الريح وخرير الماء، وصياح الطيور يصيح ويقول : لبيك ! ! . ودخل دار الحارث المحاسبي فسمع شاه مرغيًا : فقال : " لبيك يا سيدي " ! ! . ) اللمع ص492-490- ) .
وأما قولهم إن هذا شطح، وغلبة حال وغلبة سكر، ونحو هذا من الأقوال فالرد عليها ما يأتي :
1ـ لا نسلم أن قائلي هذه العبارات قد قالوها كما زعموا وهم في حالة هذيان وغيبة عقل، وذلك أن هذه العبارات لها لمعان محدودة، وهي نسيج مؤلف مركب قصد بها صاحبها أن يدل على عقيدة عنده، ولم يقلها كلامًا غير منضبط ككلام السكران والغائب عن الوعي .(1/163)
2ـ إن هذه العبارات قد تلقاها تلاميذ التَّصوف بالقبول واعتقدوا ما فيها بل وشرحوا العقيدة التي تشير هذه العبارات إليها في كتب كاملة . . والعقيدة هذه هي أن الأديان جميعًا دين واحد، وأن الخلق جميعًا هم عين الخالق وأنه لا موجود إلا الله ! ! وأن هذا الخنزير الذي كان يمر به أحدهم فيقول له عم صباحًا ! ! هم مظهر من مظاهر الخالق ـ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ـ ونستغفر الله من كتابة أقوالهم وإعادتها وكذلك هذه الشاة التي ترغي فيقول لها أحدهم لبيك يا سيدي، ما قال ذلك في غلبة السكر، وفي رؤيته للنار أو النعيم، ولا لتذكره لآية من كتاب الله وإنما قال ذلك لأنه سمع ثغاء شاة، أو نباح كلب، ومثل هذه الأصوات لا تخلق في المسلم ) حالة ) ولا تجعل عنده وجدًا يحمله على الغياب عن الوعي حتى يقول مجيبًا له " لبيك يا سيدي " ! !
وأيضًا ما الذي يبعثه نداء المؤذن في قلب الصوفي حتى يرد عليه قائلًا . . ضربه وشم الموت ! ! ، هل سماع المؤذن يؤدي إلى حالة وجد وغياب عن الوعي حتى يقول سامع المؤذن : ضربك أيها المؤذن وشم الموت ! ! نعم هي حالة حقيقية للزنديق عند سماع المؤذن لأنه لا يريد لصوت الداعي إلى الله أن يعلو . . لأنه يكفر بالإسلام والصلاة ويريد لأصوات الكلاب والخنازير أن يقبلها المسلم بقولهم: لبيك يا سيدي " ! ! . .(1/164)
* وفي كتاب اللمع للطوسي قوله: " وأخذوا عليه ) يعني أبا الحسن النووي ) أنه سمع أذان المؤذن فقال : طعنه وشم الموت، وسمع نباح الكلب فقال : لبيك وسعديك " . ومثله تمامًا ما نقلناه آنفًا عن أبي يزيد أنه اجتاز بمقبرة لليهود : فقال : معذورون . وبمقبرة للمسلمين فقال : مغرورون ! ! فأي غلبة حال وسكر، وهذيان غلبت على هؤلاء حتى قالوا ما قالوا . . وأليست هذه عقيدة زنديقية واحدة . . ثم ما هذا المربي - زعموا - الذي رأى مريده يقتل قملة فقال له : قاتلك الله شفيت غيظك بقتل قملة ! ! وهذا الشيخ نفسه يمر على الخنزير فيقول له : عم صباحًا ! !(1/165)
3- ثم إننا نسأل إذا كان مثل هذه العبارات يسميها الصوفية شطحًا وهذيانًا، فلماذا يعمدون إلى تأويلها وتفسيرها، وإخراج درر معانيها، بل وجعلها من مناقب قائليها ووصولهم إلى الحقيقة ؟ ! فقد فسروا كلام من أجاب الشاة بقوله : لبيك يا سيدي بأنه علم أن كل شيء يسبح بحمد الله، وأن ثغاء الشاة تسبيح ولذلك أجابها . . فإذا كان كلامهم هذا شطحًا فلماذا فسروه وأخرجوا معانيه الغالية ! ! ودرره الثمينة . . وتقول لهم جعل الشاة في موضوع السيادة ليس تعظيمًا للخالق ! ! والسلام ليس موضوعًا ليلقي على الخنازير والكلاب بل ولا على غير المسلم أيضًا لأن السلام تحية خاصة بالمسلمين فقط فإلقاؤها على الكلاب والخنازير مروق من الدين، وخروج عن حقيقة الشريعة المطهرة وظاهرها . وأما تفسيرهم لقول النوري الذي دعا على المؤذن بالموت عندما سمع نداءه، بأنه خشي أن يكون هذا المؤذن مرائيًا أو يأخذ أجرًا على أذانه كما زعموا فليس هذا طريق الإنكار على المؤذن وإنما النوري أنكر على الأذان وليس على المؤذن . وكان يجب لو كان يؤمن بالإسلام حقًا، وبالأذان صدقًا أن يقول كما يقول وأن يصلي بعد ذلك على الرسول ويطلب له الوسيلة والفضيلة ثم يسارع إلى المسجد ويشهد الصلاة مع المسلمين ثم ينكر على المؤذن أخذه للأجرة لو شاء . . ولكن هؤلاء كما أسلفنا ينشرون عقيدة معلومة لديهم تلقوها عن الزنادقة والملاحدة، وهذا الذي يسمونه شطحًا ما هو إلا تأسيس لهذه العقيدة .(1/166)
4- والأمر الرابع نسألهم : هذا السكران بحب الله كما زعمتم . . وبرؤية الجلال الإلهي أو الجمال كما تزعمون هل يجلس ليؤلف كتبًا كاملة في هذا الهذيان والسكر وغلبة الحال كما تقولون . . أو يكفيه عبارة أو عبارتان، جملة أو جملتان . . أعني لو كانوا صادقين أن هذا الكلام الخارج عن موازين الشريعة هذيان وشطح حقًا لكان شيئًا قليلًا ولكن الحاصل والموجود أن هناك عشرات بل مئات بل آلاف الكتب قد شحنت بهذا الكفر والزندقة فكتاب يزعم صاحبه أنه تلقاه من الغيب بالوحي الإلهي ولا يترك كفرًا إلا ويضعه فيه كالحكم ببراءة قوم نوح من الشرك، وجهل نوح لأنه دعاهم إلى التوحد، والحكم بإيمان فرعون، وجهل هارون لأنه نهى قومه عن عبادة العجل، والعجل هذا في زعم مؤلف كتاب ) الفصوص ) هو مظهر من مظاهر الله -تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا- وكذلك تبرئة إبليس والحكم بنجاته، بل والحكم بأن أهل النار منعمون فهم في عذوبة لا عذاب وأنه وأنه .
* وآخر وهو عبد الكريم الجيلي يكتب كتابًا يقع في أكثر من مائتي صفحة من القطع المتوسط يسميه ) الإنسان الكامل ) لا يترك كفرًا في الأرض إلا ويجعله فيه؛ من ذلك أنه يصف رحلة مزعومة له من الأرض إلى السماء الدنيا، حيث يصف ما فيها وأنه قابل فيها فلانًا وفلانًا من الأنبياء وناقشهم واستفاد منهم، ثم السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة والسادسة والسابعة وإلى الكرسي والعرش والحجب السبعين ! ! ويصف ما رآه هناك ثم يعود ليهبط إلى الأرض الأولى فالثانية فالثالثة، فالرابعة وحتى السابعة ويقابل فيها أولياء وروحانيين وفلاسفة وحكماء و . . ويدعي أن من لم يصدق هذا فهو كافر ! !(1/167)
* إسماعيل بن عبد الله السوداني يكتب كتابًا يسميه) مشارق شموس الأنوار ومقارب حسها في معنى عيون العلوم والأسرار سنة 1262هـ): فيصف كذلك مشاهداته الحسية للسماوات السبع العلى، وللأرضين السبع ويجد القارئ فصولًا من هذيانه وتخليطه في باب ) المعراج الصوفي ) من هذا الكتاب . . وغير هذا . . وهذا شيء يصعب إحصاؤه واستقصاؤه وإن جئت تناقش بعض المدافعين عن هذا الهذيان يقولون لك تارة هذا شطح، وتارة هذه كرامة، وتارة هذا فتح، وهذا تناقض منهم وسنناقش دعوى الفتح والكرامة في موطن آخر من الكتاب والمهم هنا أن نرد على دعواهم أن مثل هذا من الشطح، فيقول كيف يكتب كاتب كتابًا يقسم أبوابه ويضع فصوله ويقول للناس هذا من عند الله وتدعون أنتم أنه شطح وهذيان وأن قائله معذور لأنه قاله في غلبة حال وضياع عقل ! ! أليس قولكم هذا تلبيسًا على الناس، واستهزاء بعقولهم ! ! الشطح لا يكون كتبًا كاملة مؤلفة منسقة منفصلة ! ! وإنما هذه عقيدة ودين باطني يريد أربابه به صرف المسلمين عن عقيدة الكتاب والسنة إلى الكفر والإلحاد والزندقة .
5ـ ثم نقول لهؤلاء إثباتكم أن الصوفية يشطحون ويقولون ما لا يريدونه، ولا يقصدونه في أقل أحواله إثبات لأحوال غريبة وبدعة منكرة ما كان عليها أحد من سلف الأمة الصادقين كالصحابة والأئمة فهل سمعتم أن أبا بكر وعمر والخلفاء والصحابة شطحوا ! ! وهل وجد في التابعين لهم بإحسان من عرف عنه شيء من ذلك، وهل كان الأئمة الأربعة من أهل الشطح أليس الشطح الصوفي دليلًا على الابتداع والخروج عن الدين القويم . . ؟(1/168)
أليس الإمام الشافعي قد قال وقد صدق والله فيما قال : " لا أرى شخصًا يتصوف في أول النهار، إلا وأصبح أحمق في آخره ! ! " أليست هذه كلمات من نور الإمام الشافعي الذي رأى بعينه بدايات التَّصوف وأخبر أن يومًا واحدًا في التَّصوف يكفي لجعل الشخص أحمق . فأنتم باعترافكم أن هذا شطح إنما تسجلون على أنفسكم الحماقة والبدعة والخروج عن نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ورضي الله عن الشافعي الذي يقول أيضًا " ما لزم أحد الصوفية أربعين يومًا فعاد عقله إليه أبدًا " ) تلبيس إبليس ) .
إن هذا الشطح الذي يأتي مما يسمونه بالحال ما هو إلا وخز شيطاني وتحريك إبليسي، هذا عند الصادقين منهم، وأما الكاذبون فإنهم يفتعلون ما يفعلون لإيهام العامة والسذج بأنهم من أهل الأحوال ومن المشاهدين لما يسمونه بحضرة الجلال أو الجمال ! ! وذلك كله من الرياء والنفاق، وسوء الأخلاق . ومخالفته هدي سلفنا الصالح، والخروج على مناهج الأنبياء عليهم السلام.
قواعد التربية في المنهج الصوفي:
وضع المتصوفة لهم قواعد خاصة للتربية حسب منهجهم الصوفي فحددوا أهدافًا خاصة للتربية ووضعوا شروطًا في المريد ( وهو اسم أطلقوه على الطالب أو المبتدئ ) وشروطًا خاصة بشيخ الطريق، ومنازل يسير فيها السالك في دربهم . وقد بدأ وضع ملامح هذا المنهج منذ بدأ الفكر الصوفي في الظهور في أواخر القرن الثاني الهجري، وبلغ هذا المنهج الغاية تقريبًا مع نهاية القرن الرابع الهجري حيث أسست الخانات والأماكن الخاصة التي يتجمع فيها الصوفية وكانوا يسمون بالفقراء أولًا .(1/169)
وكانت لهم في هذا الوقت مشاعر خاصة، كالسماع والذكر الخاص، ورسوم وإشارات وملابس خاصة، ولم يكن لهؤلاء الفقراء أو المتصوفة في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع شيخ خاص بكل فريق وإنما كانوا يتربون على ما يسمعونه ويتناقلونه من كلام مشايخهم بوجه عام . ولكن منذ أواسط القرن الرابع بدأ التربي على الشيخ الخاص وأن يكون لكل جماعة شيخ معلوم لا يتجاوزونه إلى غيره ثم يرثه بعد ذلك شيخ على منهجه وطريقته . وهكذا ومنذ ذلك الوقت عرف ما يسمى بالطريقة الخاصة . ثم تدرج الأمر وتحولت وراثة الطريق إلى وراثة النسب فكان الأبناء يرثون آباءهم في الطريق وأحيانًا ما كانت الزوجات هن اللائي يرثن الأزواج وهن اللائي يسلكن المريدين ويعطين العهود . . باختصار تحولت الطريقة الصوفية في أواخر عهودها وخاصة بعد القرن العاشر الهجري إلى طرق وراثية، وإمارات خاصة وإقطاعيات دينية يرث فيها الأبناء جمهور الطريق والرعية التي كانت لآبائهم من قبل .
وعلى مر هذه العصور وضع المتصوفة لهم آدابًا خاصة في التربية وشروطا خاصة في المريد وها نحن نذكر لك بالتفصيل هذه الآداب والقواعد التي دونها علماء التَّصوف في كتبهم لينشأ لهم في النهاية الجيل الصوفي الذي يريدون .
أولا: اتخاذ الشيخ:
أول ما يجب على مريد الطريق الصوفي أن يتخذ شيخًا له ليدله على الطريق . يقول عبد الكريم القشيري: " ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان " (1) ، وهذا النص قد كتبه سنة 387هـ وهو يدلك على أن قضية وجوب اتخاذ الشيخ قضية قديمة، واتخاذ الشيخ قد تفسر بأن لها سندًا من الكتاب والسنة في أن الرسول علم أصحابه والأصحاب علموا التابعين وهكذا، ولكن هذا استدلال من لا يعلم ماذا يعني الشيخ في الطريق الصوفي ! إن الشيخ يعني شيئًا آخر تمامًا كما ستأتي مواصفات الشيخ والشروط والآداب التي يجب مراعاتها معه .
__________
(1) - القشيرية ص181.(1/170)
والمهم أنّ نعلم أن كون من لم يتخذ شيخًا لا يفلح أبدًا ليس بصحيح فمن الممكن أن يهتدي المسلم بسماعه للقرآن وقراءته للحديث من شيخ أو طالب علم، أو كتاب ولا يشترط في الهداية الالتزام بشيخ معين بل لو سمع المسلم من عشرات الشيوخ لكان هذا أحكم له وأعلم وهكذا كان سلفنا الصالح يسمعون الحديث النبوي من أهله، والفقه من أهله، والقواعد العربية من أهلها، والتفسير من أهله وهكذا . . وأما في الطريق الصوفي فيجب عليك أن تتخذ شيخًا واحدًا لا تحيد عن هولا تلتفت إلى غيره بل لا يجوز أيضًا طلب العلم من غير أهل التَّصوف مطلقًا .
يقول القشيري بعد أن قرر في زعمه أن طائفة التَّصوف هم أهل الحق وأن علومهم أشرف العلوم : " فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول ومشايخهم أكبر الناس وعلماؤهم أعلم الناس فالمريد الذي له إيمان بهم إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة " .(1/171)
وقد قرر شيوخ التَّصوف من أهل الطرق الحديثة أن من ترك طريقتهم إلى طريقة غيرهم ابتلي بسوء الخاتمة . وهكذا فقد كان رجال التَّصوف قديمًا يأمرون فقط بمجرد الانتساب والسلوك في الطريق الصوفي أيًا كان الشيخ أو الطريقة، المهم أن يكون السالك ) الموفق ) حسب زعمهم سائرًا في هذا الطريق غير ملتفت إلى غيره من مذاهب العلماء والفقهاء الذين يصفهم المتصوفة دائمًا بأنهم علماء رسوم وطلاب دنيا، وتجار . . الخ الأوصاف التي يطلقونها على علماء الشريعة لتنفير الناس منهم . وانظر مثلًا إلى ما يقول القشيري في التنفير من سماع المريد إلى كلام غير كلام المتصوفة : " ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين سوى طريقة الصوفية إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب والناس إما أصحاب النقل والأثر وإما أرباب العقل والفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف ومقصود فلهم من الحق سبحانه موجود فهم من أهل الوصال ) أي مع الله في زعمه ) والناس أهل الاستدلال وهم كما قال القائل :
ليلي بوجهك مشرق وظلامه في الناس ساري
فالناس في صدف الظلام ونحن في ضوء النهار(1/172)
وها أنت ترى هنا أنه يقسم علماء الإسلام إلى ثلاثة أقسام : علماء النقل والأثر، وهم حملة القرآن والحديث والسير وعمل الصحابة والقسم الثاني من سماهم بأرباب العقل والفكر ويعني بهم الفلاسفة والمتكلمين كالمعتزلة والأشاعرة ونحوهم والفريق الثالث المتصوفة ومدح هؤلاء ويقول إن حججهم أظهر وقواعدهم أقوى وأن ما هو غيب عند الآخرين هو شهادة عند المتصوفة يعني أن المتصوفة يشاهدون الله والجنة والنار عيانًا ولا يحتاجون إلى الاستدلال بالقرآن والسنة كما هو شأن علماء الأثر، ولا بالأدلة العقلية كما هو حال علماء الكلام والمنطق والجدل . أقول : كان الشأن في أول التَّصوف هو إلحاق المريد بركب المتصوفة أيًا كانوا وكيفما كانوا، ولكن في العصور الحديثة أصبح التَّصوف دولًا، وإمارات خاصة، وإقطاعات دينية مستقلة، فالطريقة تدر على أصحابها وأربابها أرباحًا وفيرة ولذلك فلا بد من الاستحواذ على المريدين، وإدخالهم في سلك الطريقة الخاصة وعدم السماح لواحد منهم بتاتًا أن ينفلت من القيد الذي يوضع في رجليه والمقود الذي يوضع في رأسه وإلا ارتد عن دينه وعوقب بسوء الخاتمة . فالشيخ في الطريقة الصوفية ليس هو بتاتًا ما يعنيه الكتاب والسنة من اتخاذ المرشد والهادي والداعي إلى الله، وإنما هو التزام أبدي بطريقة خاصة ورجل خاص يقدسه حيًا وميتًا . فشتان بين اتخاذ شيخ وإمام في دين الإسلام الصحيح واتخاذ شيخ صوفي ليكون رائدًا للطريقة .
ثانيًا:مواصفات الشيخ(1/173)
ليس كل شيخ يصلح أن يكون شيخًا في الطريق الصوفي بل لا بد أن يمر بمراحل الطريق من أولها إلى نهايتها، أو على الأقل أن يكون قد أخذ العهد من شيخ سابق أو والد له وقد أذن له الشيخ أو الأب بتسليك المريدين، وإدخالهم في الطريق وتلقينهم الأذكار الخاصة . . الخ . وحتى تكون المشيخة الصوفية مشيخة معتبرة فقد اخترع المتصوفة قديمًا شيئًا سموه السلسلة الصوفية وهذه السلسلة المزعومة هي عبارة عن سند مزعوم يتناقله الخلف عن أسلافهم زاعمين أن هذه السلسلة تنتهي بالجنيد الذي يسمونه سيد الطائفة وأن هذا الجنيد قد أخذها عن سري السقطي، والسقطي عن معروف، ومعروف عن داود الطائي، وداود الطائي عن حبيب العجمي، والعجمي هذا عن الحسن البصري، والحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
يقول ابن عربي في فتوحاته : اعلم أنه قد صح وثبت بحكم النقل عند المشايخ - هذه الطريقة المتصوفة في الإسناد فلا ذكر لشيوخ النقل ولا كيف نقلوا - ، أن عليًا أمير المؤمنين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، دلني على أقرب الطرق وأفضلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك يا علي، بما نلت ببركة النبوة . فقال علي : ما هذا يا رسول الله : قال عليه السلام : ذكر الله تعالى . . قال علي : يا رسول الله، هكذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون . قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه يا علي، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : الله . الله ، ثم قال : أحصيت، يا علي، حتى أنا أقوله ثلاث مرات وأنت تسمع مني فإذا أمسكت فقل أنت حتى أنا أسمع منك . هكذا لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا، ثم لقن علي عليه السلام الحسن البصري، ثم لقن الحسن حبيبًا العجمي، ثم لقن داود معروفًا الكرخي، ولقن معروف سري السقطي، وهو لقن أبا القاسم : الجنيد محمد بن البغدادي وعلى هذه السلسلة باقي المشايخ رحمهم الله " . ) الفتوحات المكية ) .(1/174)
والمهم أن الشيخ في الطريق الصوفي يزعم أن له إسنادًا متصلًا، وأنه قد أخذ عهدًا عن شيوخ سابقين وأن شيوخه عن شيوخ وهكذا إلى الجنيد إلى الرسول . . ومن هؤلاء الشيوخ أهل التسليك من يقنع بأن يكون مجرد شيخ في الطريقة، ومنهم من ينفصل عن طريقته السابقة ويؤسس له طريقة خاصة باسمه ويؤلف ويبتدع لها من ثم أذكارًا خاصة ومشاعر خاصة . . ولكنه لا يقر طبعًا بالتأليف، والابتداع وإنما يزعم لأتباعه ومريديه أنه قد أخذ هذه الأذكار من الحضرة الإلهية هكذا أو من حضرة الرسول، أو من الخضر . . المهم أنه لا بد أن يكون للذكر الخاص صلة بالوحي الخاص والإلهام . وأن يكون للذكر الخاص هذا فضل عظيم لم ينله الأولون ويستحيل أن يناله الآخرون.
ثالثًا: آداب المريد:
قد وضع المتصوفة آدابًا أوجبوها على المريد والسالك في الطريق الصوفي وهذه أهم هذه الآداب نقول تجاوزًا آداب وإنما هي في الحقيقة جهل وانحلال وعبودية وإذلال :-
1-لا تخالف الشيخ مطلقًا فيما يأمرك به هذا هو المبدأ الأول والشرط الأول والأدب الأول للمريد، وأن تكون موافقة الشيخ بالقلب والجوارح فلا إنكار ولا مخالفة لشيء مما يقوله مطلقًا ولا اعتراض عليه بلسان أو بقلب وشعارهم دائمًا : " كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل " ! ! يقول القشيري في بيان ما يجب على المريد : " وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه لأن الخلاف للمريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره " ويقول أيضًا : " ومن شروطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه " .
ومن الأقوال يقصد بها بالطبع إماتة القلب واستسلامه للدواهي والمصائب التي سيتلقاها المريد في طريقه الصوفي . وإليك طائفة من الأقوال والحكايات الصوفية التي يراد من ورائها في النهاية استسلام المريد لشيخه ليعبث بعقله وقلبه كيف شاء .(1/175)
2 - لا يجوز الإنكار على شيوخ التَّصوف أبدًا ولو مع المنكر دليل . يقول أحمد بن مبارك السلجماسي فيما يرويه عن شيخه الجاهل الأمي عبد العزيز الدباغ :" واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب . ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين ! ! ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته ويقال إنه خالف مذهب فلان في كذا، إذا سمعت هذا فمن أراد أن ينكر على الولي المفتوح عليه لا يخلو إما أن يكون جاهلًا بالشريعة كما هو الواقع غالبا من أهل الإنكار وهذا لا يليق به الإنكار والأعمى لا ينكر على البصير أبدًا " . وهذا داهية الدواهي لأنه زعم أن الشيخ له مذهبه الخاص الذي يتلقاه من النبي رأسًا ولا حاجة عنده إلى التلقي من أي مذهب فقهي لأي إمام مجتهد فلا تعترض أيها المريد على شيخك لأنه يتلقى الوحي غضًا طريًا، وهؤلاء العلماء عميان وهو مبصر ! !
ويقول أيضًا شارحاً القصيدة الرائية في آداب المريد :
فذو العقل لا يرضى سواه وإن نأى....عن الحق نأي الليل عن واضح الفجر.
والمعنى أن من له عقل سليم وطبع مستقيم لا يرضي سوى شيخه ويدور معه حيثما دار وإن بعد الشيخ في ظاهر الأمر عن الحق بعدًا بينًا كبعد الليل من الفجر ويقول إن للشيخ في ذلك وجهًا مستقيمًا عسى أن يطلعني عليه " .) (1) وهذا ظاهر في أنه لا يجوز الإنكار على الشيخ والخروج عنه، ولو خرج الشيخ عن الحق وظهر ذلك للمريد ظهور الفجر من الليل . وليس هذا فقط هو المدى السيء الذي يريد المتصوفة جر المريد إليه بل هناك ما هو أشد من ذلك وأضل.
__________
(1) - الإبريز ص203 .(1/176)
3- يقول أحمد بن المبارك : " ) ومنها ) أني سمعت الشيخ رضي الله عنه يقول جاء بعض المريدين لشيخ عارف فقال له يا سيدي القبول لله عز وجل . نعم، ثم أمره بالمقام عنده والعكوف على خدمته وأعطاه مسّاحة في رأسها كورة حديد زائدة لا نفع فيها إلا تثقيل المساحة وكان المريد هو وارث الشيخ بشرط أن لا ينتبه لكورة الحديد المذكورة فإن انتبه وقال ما فائدتها، ولأي شيء تصلح، ولا معنى لها إلا التثقيل فإنه لا يرث شيئًا . قال رضي الله عنه فبقي في خدمته سبع سنين وهو يخدم بالفأس ولا يتحرك له عرق وسواس ولا هزته عواصف رياح الشيطان وصارت الكورة المذكورة بمنزلة العدم الذي لا يرى ولا يسمع فهذه مسألة الصادقين الموفقين رضي الله عنهم والله تعالى الموفق " .)(1)
فانظر كيف يكون المريد ) الصادق ) في زعمهم مع شيخه . إنه الذي ينفذ ما يأمره به الشيخ ولا يسأله عنه بتاتًا ولو كان شيئًا غير معقول المعنى ولا فائدة أصلًا منه . ككرة الحديد هذه التي كانت في رأسها المساحة ) الفأس ) . وقد جعلوا صدق المريد عدم سؤال شيخه عن هذه ) الكورة ) التي لا تقع منها .
__________
(1) - الإبريز ص178 .(1/177)
4- الاعتقاد أن للشيخ شريعته الخاصة، ودينه المستقل فله أن يشرب الخمر، أو يزني وليس لمريده أن يسأل عن شيء من ذلك . يقول السلجماسي أيضًا : " قال محيي الدين العربي رضي الله عنه:ومن شروط المريد أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ولا يزن أحواله بمسيرته أنه فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن والحقيقة يجب التسليم وكم من رجل كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه وقلبه الله في فيه عسلًا والناظر يراه شرب خمرا وهو ما شرب إلا عسلًا ومثل هذا كثير وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه ولو رأيناه فلا يفعل كذا وهو عن ذلك الفعل بمعزل وهذه كانت أحوال أبي عبد الله المصلي المعروف بقضيب البان وقد رأينا هذا مرارًا في أشخاص " .)(1)
انظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة حتى لو رأوهم على المعصية جهارًا نهارًا، وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين كلامًا وكفرًا وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس .
5- وحتى يتم تذليل المريد تذليلًا كاملًا ويلغي عقله إلغاءً تاما فإن شيخه يأمره بأوامر في غاية الغرابة بل فيها المعصية الواضحة والكفر الصريح امتحانًا لطاعته، ومعرفة من الشيخ هل بقي من المريد مسكة عقل، أو أثارة علم، أو بقية غيرة أو دين غير الدين الصوفي الباطني فبعضهم يأمرون مريدهم بإحضار زوجاتهم لشيوخهم ليختلي بهن فإن تلكأ أو شك في عفة الشيخ علم أنه غير صادق وشيخ آخر يأمر تلاميذه ومريديه بما هو أقبح من ذلك وهذه بعض حكاياتهم في هذا الصدد .
__________
(1) - الإبريز ص202 .(1/178)
ولكن الأمر يختلف تمامًا عند مشايخ التَّصوف إذ العلوم والأسرار التي يجب على المريد أن يتلقاها من شيخه بالغة مبلغها في القبح والنكارة وما لم يكن المريد متهيئًا لقبول هذه الدواهي فإنه حتمًا سينفر ويخرج من الطريق ولذلك فلا بد من تهيئته تهيئة كاملة . وتوطئته لتحمل العقيدة الصوفية . . إذ كيف سيفاجئ الشيخ مريده عندما يطلب منهل المريد السر الصوفي كيف سيقول له يا بني اعلم أنه ليس هناك إله غيري وغيرك فما هذا العالم الذي نعيش فيه إلا الله بكل مظاهره ومصنوعاته فهو عالم قد خلق نفسه بنفسه لنفسه فليس ثم غير . . كيف سيستطيع المريد تقبل ذلك كله إلا أن يكون الشيخ الصوفي قد تمكن من عقل مريده عن آخره من دينه إلى نهايته ومن أخلاقه وشرفه حتى لا يبقى من ذلك شيئًا إلا عبادة شيخه والتصديق أنه وساطته إلى الله وأنه لا نجاة له ولا فلاح له، إلا أن يكون هذا الشيخ هو كل شيء في حياته . . هذه هي الغاية التي يسعى إليها الفكر الصوفي من التربية وهي نقل هذه الأفكار الفلسفية الخبيثة إلى أذهان أبناء الإسلام ولذلك فلا بد من سلخهم أولًا من الدين حتى يكونوا بعد ذلك مطية سهلة لهؤلاء الشيوخ يغرسون في أذهانهم ما شاءوا من الخرافات والخزعبلات والهذيان الذي لم تعرف البشرية في كل عصورها مثالًا له .
لا حركة ولا سكون للمريد إلا بإذن الشيخ:(1/179)
من آداب المريد الصوفي مع شيخه أنه لا يجوز له أن يتحرك أو يسكن، أو يتصرف في نفسه أو ماله أو زوجته، أو سفره أو إقامته إلا بإذن شيخه، وأنه لا يجوز أن يجلس في مجلسه إلا بإذنه وأن يظهر قدمه أمام شيخه، أو يرفع صوته، أو يسأله من عند نفسه لأن الشيخ أعلم بما في نفس مريده فلا يجوز أن يبدأ بالسؤال، أو يستفسر عن إشكال وإنما ينتظر في كل ذلك ما يجود به شيخه . . لأنه في زعمهم هو أعلم بحاله . . وليس وراء ذلك عبودية في الأرض . . والعجيب أنّ المتصوفة قد أخذوا كل الحقوق والخصوصيات التي جعلها الله لرسوله فجعلوها حقًا أيضًا للشيوخ. فانظر مثلًا ما يقوله صاحب الرائية وما يشرح به أحمد بن مبارك :
ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته......ولا تجهروا كجهر الذي هو في قفر
يقول السلجماسي : والله أعلم لا ترفعوا أيها المريدون أصواتكم فوق صوت الشيخ فإن ذلك يخل بالأدب ولا تجهروا له بالقول كجهر سكان القفار والبوادي الذين معهم جفاء وجلافة ولكن عظموه وفخموه وقولوه يا سيدي ويا أستاذي ويا ولي الله ونحو ذلك وأصل هذا الكلام الآية الشريفة:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ). الحجرات:2. قال السهروردي في العوارف:ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الحجرات:2.)(1)
__________
(1) - الإبريز ص213.(1/180)
وقال أيضًا من الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو دنياه لا يعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ بالهجوم عليه حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه فكما أن للدعاء أوقاتًا وآدابًا وشروطًا لأنه مخاطبة لله تعالى فللقول مع الشيخ أيضًا آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى ) ! ! ) ويسأل الله قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يجب من الآداب ".)(1)
فجعلوا الشيخ هنا بمنزلة الله سبحانه وتعالى فكما أن لدعاء الله شروطًا وآدابًا وأوقاتًا . . فكذلك يجب أن يكون الكلام مع الشيخ . . وانظر قوله:" أي لأن معاملة الشيخ من معاملة الله تعالى "، فأي عبودية في الأرض أعظم من هذه ؟
كتمان شيء من الأسرار عن الشيخ:
إن شيوخ التَّصوف قد فرضوا على المريد أن لا يحجب شيئًا من أسراره عن شيخه سواء كانت هذه الأسرار معاصي ارتكبها فإن الشيخ يتحملها عنه إذا أفضى بها إليه، وهذا نظير صكوك الغفران عند النصارى أو كانت في زعمهم مكاشفات وأنوارًا وعلومًا إلهية ) لدنية ) فإن شيخه سيفرح بذلك ويطلب له المزيد .
__________
(1) - الإبريز ص256 .(1/181)
فهذا أحمد بن المبارك يصف حال المريد مع شيخه..وينقل كلام شيخه عبد العزيز الدباغ لهم فيقول : " وكان رضي الله عنه يقول : لا تكتموا عني شيئًا من الأمور التي تنزل بكم في الدين والدنيا وأخبرونا حتى بالمعاصي التي تقع لكم وإن لن تخبروني أخبركم فإنه لا خير في صحبة يستر معها شيء من أحوال المتصاحبين وكان رضي الله عنه يقول أما أنا فلا أكتم عنكم شيئًا من أموري ثم يشرح لنا رضي الله عنه حاله حتى بلغ ذلك ويذكر لنا جميع ما وقع له من العاديات وغيرها، ويقول لنا رضي الله عنه إن لم أخبركم ولم أطلعكم على أحوالي فإن الله يعاقبني ويحاسبني لأنكم تظنون بي الخير فاصبروا حتى أذكر لكم الأمور الباطنية التي لم تطلعوا عليها فمن شاء منكم بعد ذلك أن يبقى معي فليبق وحينئذ يحل لي أكل طعامه وقبول هديته ومن شاء أن يذهب فليذهب فإن سكوتي عن ذكر تلك الأمور غش لكم وما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة محضة يشفع لهم في زلاتهم ويتكفل لهم بنوائبهم ويتحلل لهم ما يخشون عاقبته ويهتم لأمرهم أكثر مما يهتم لأموره . وقال لي رضي الله عنه ذات يوم الرجل الذي لا يشاطر صاحبه في سيئاته ما هو بصاحب له وقال إن لم تكن الصحبة إلا على الحسنات فما هي بصحبة . وبالجملة فما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة مرسلة من الله عز وجل فعلى مثله يبكي الباكون ولو رمنا تفصيل أعيان الجزئيات الواقعة لنا معه ولغيرنا في هذا الباب لطال الكلام " .)(1)
ترك العهد الصوفي كفر وردة:-
__________
(1) - الإبريز ص212 .(1/182)
وبعد فقد يظن أن المريد الذي يلقى مثل هذه الأهوال في طريق التَّصوف يمكنه أن ينفلت في النهاية فيما لو استيقظ فكره، أو صحا ضميره وهذا ظن بعيد ولكن من أجل هذه اليقظة المحتملة أيضًا قفل مشايخ التَّصوف الطريق نهائيًا أمام المريد حتى لا يحاول النكال من ربقته؛ فقد جعلوا الخروج من عهد الشيخ خروجًا من الإسلام . والعهد الصوفي يؤخذ على المبتدئ والمريد في أول الطريق بأن يلتزم بالدين ويتوب مما كان عليه ويقول : تبت إلى الله على يد الشيخ فلان، وعاهدت الله أن ألتزم طريقته وأن لا أبوح بسره إلا بإذن من الشيخ.
وفي هذا الأمر يقل عبد الكريم القشيري مبينًا الوقت الذي يعطي في المريد العهد، وأنه يجب عليه التزام الطريق مهما حدث له من المشقات، يقول : " وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئًا من الأذكار بل يجب أن يقدم التجربة له فإذا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عليه أن يرضى بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضر والذل والفقر والأسقام والآلام وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ويترخص عن هجوم الفاقات وحصول الضرورات ولا يؤثر الدعة ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شرّ من فترته والفرق بني الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها والوقفة سكون عن السير باستجلاء حالات الكسل وكل مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء فإذا جربه شيخه فيأمر أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ثم يأمره أن يسوي بقلبه مع لسانه ثم يقول له : اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبدًا بقلبك ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك " .(1)
الفناء الصوفي
__________
(1) - الرسالة القشيرية:عبد الكريم القشيري ص182 .(1/183)
الفناء كلمة مبهمة مجملة قد تعني وجهاً باطلاً بل كفراً وهو ما يسمونه (الفناء عن وجود السوّي) أي ليس موجوداً إلا الله سبحانه وكل ما عداه ليس له وجود حقيقي, وهذه هي وحدة الوجود التي سنتكلم عليها في المبحث القادم إن شاء الله.
الفناء لغة:مصدر فني فناءً إذا اضمحل وتلاشى وعدم، وقد يطلق على من تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه، كما قال الفقهاء: لا يقتل في المعركة شيخٌ فان.
وقال تعالى:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) الرحمن 26، أي:هالك ذاهب.(1) وهذا ليس هو المعنى الذي أراده الصوفية، لذلك قال الشعبي: إذا قرأت (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فلا تسكت حتى تقرأ (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن27، إذ المراد الإخبار بفناء من عليها مع بقاء وجهه سبحانه وتعالى.(2)
ويقابل الفناء البقاء، والفناء والبقاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنت فانياً عن شيء، فأنت لابد باقٍ بغيره؛ أو إذا كنت باقياً في شيء فأنت، لا محالة، فانٍ عن سواه.
والبقاء على لسان العلم ومقتضى اللغة ثلاثة أنواع:-
الأول: بقاء طرفه الأول في الفناء وطرفه الآخر في الفناء مثاله هذه الدنيا التي لم تكن موجودة في الابتداء، ولا تكون موجودة في الانتهاء، وموجودة الآن.
الثاني:بقاء لم يكن موجوداً قط ووجد، ولا يفنى أبداً، وذلك هو الجنة والنار والآخرة وأهلها.
الثالث:بقاء لا يمكن أبداً أنه لم يكن، ولا يمكن أنه لا يكون، وذلك بقاء الحق وصفاته جل جلاله، لم يزل ولا يزال، وهو قديم مع صفاته، والمراد من بقائه دوام وجوده، ولا مشاركة لأحد معه في أوصافه.(3)
__________
(1) - التحفة المهمدية شرح الرسالة التدمرية، فالح بن مهدي آل فالح ط1 دار الوطن الرياض 1414هـ ص423.
(2) - مدارج السالكين 3/318.
(3) - كشف المحجوب للهجويري دراسة د. إسعاد عبد الهادي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر 1395هـ-1975م، 2/481.(1/184)
الفناء اصطلاحا: هو اسم لاضمحلال ما دون الحق علماً، أو هو ذهاب القلب من هذا العالم، وتعلقه بالعلي الكبير الذي له البقاء(1). أو هو أن يغيب المرء عن الناس والخلق، ولا يشهد سوى الله، ويقع في الغيبوبة، ويغيب حتى عن العبادة, وقد يتوهم أنه صار هو والإله شيئاً واحداً، ويظن أنه تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته".(2)
والفناء ينقسم إلى ثلاث درجات:الأولى:فناء أهل العلم المتحققين به. والثانية: فناء أهل السلوك والإرادة. والثالثة: فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق سبحانه. وقد يسمونه:الجمع أو السُكر وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطاً في ذلك وأن الرب رب والعبد عب.
وقد تعني هذه الكلمة ما هو جائز شرعاً: وهو ما يسمونه (الفناء عن إرادة السوى) أي لا يحب إلا الله، ولا يوالي إلا فيه ولا يبغض إلا فيه, فهذا صحيح وإن كان لا يسلم لهم بالتعبير بالفناء لأنّ فيه كما قلنا غموض واشتباه, وأما الفناء الذي يسمونه فناء النفس عن التشاغل بما سوى الله فلا يسلم لهم أيضاً "بل أمرنا الله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها".(3)
وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية الفناء كما يلي:-
__________
(1) - مدارج السالكين 3/369-370.
(2) - البقاعي: تنبيه الغبي ص 81.
(3) سير أعلام النبلاء: الذهبي 15/393.(1/185)
النوع الأول من الفناء: ويسميه الفناء الديني الشرعي الذي دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب.(1) وهو الفناء عن عبادة السوي وهذا حال النبيين عليهم السلام وأتباعهم.(2) وهو الفناء عن إرادة ما سوى الله تعالى، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره؛ وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال:"أريد أن لا أريد إلاّ ما يريد "أي المراد المحبوب المرضي؛ وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله تعالى ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين. وهذا معنى قوله تعالى:(إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قالوا:هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله…(3) وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه.(4)
ولعلَّ هذا المعنى الذي أشار إليه أبو القاسم عبد الكريم القشيري (376-465هـ) بقوله:"الفناء سقوط الأوصاف الذميمة وبروز الأوصاف المحمودة، وذلك أيضاً ما ذهب إليه الجرجاني.(5)
وقد أشار أبو حامد الغزالي في تهذيب الأخلاق إلى هذا النوع من الفناء بقوله: كما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها، فإن كانت بالحرارة فبالبرودة وإن كانت برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها، فيعالج مرض الجاهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكبر بالتواضع".(6)
__________
(1) - الرسالة التدمرية لابن تيمية:المكتب الإسلامي، ط2، 1391هـ، ص137.
(2) - مجموع الفتاوى 2/314.
(3) - السابق 10/218.
(4) - السابق 2/314، التدمرية ص137.
(5) - الرسالة القشيرية ص67، التعريفات للجرجاني ص169.
(6) - الإحياء للغزالي 3/61.(1/186)
ويوضح ذلك علي بن عثمان الهجويري رحمه الله بقوله:"حين يفنى الجهل فلا محالة أن يبقى العلم، وحين تفنى المعصية تبقى الطاعة، وعندما يحصل للعبد العلم والطاعة فإن الغفلة تفنى أيضاً ببقاء الذكر.(1)
والنوع الثاني من الفناء: وهو الفناء عن شهود السوي، وهو الذي يحكى عن كثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله تعالى وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، ولا يخطر بقلوبهم غير الله، بل ولا يشعرون كما قيل في قوله تعالى:(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) القصص:10، قالوا فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى وهذا كثير يعرض لمن فقه أمر من الأمور إما حب، وإما خوف، وإما رجاء يبقى قلبه منصرفاً عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه؛ بحيث يكون عند استغراقه لا يشعر بغيره. فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجود عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المبعدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود الرب وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه. فقد يظن أنه هو محبوبه كما يذكر أن رجلاً ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي قال:غبت بك عني فظننت أنك أني.(2)
__________
(1) - كشف المحجوب للهجويري 2/481.
(2) - الفتاوى 10/219، 2 /313،ا نظر التدمرية، ص137.(1/187)
أما النوع الثالث من الفناء:وهو الفناء عن وجود السوي، بحيث أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين وهو قول أهل الإلحاد والاتحاد الذين هم من أضل العباد.(1) وأهل هذا المقام يشهدون الحق قبل شهود الخلق، بمعنى أنهم لا يرون الخلق أصلاً، إذ لا ثبوت له عندهم لأنهم لسكرتهم غائبون عن الواسطة…وفي هذا المقام قال بعضهم:ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه.(2)
يقول أحد مشايخ الطرق في هذا المعنى:
ففي فنائي فناء فنائي ... ... وفي فنائي وجدتُ أنتَ
محوت اسمي ورسم جسدي ... ... سئلتَ عني فقلت أنت(3)
وهذا الفناء هو غاية الصوفية، وهو نهاية ما تصبو إليه، وتطمئن له قلوبهم ومسامعهم.(4)
ونستطيع أن نجمل ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما يلي:-
1- فناء الصفات والإرادة:بحيث يجعل الصوفي فناء صفاته الذميمة ليبقى بصفاته الحميدة، فيفنى عن الجهل ليحصل له العلم، ويفنى عن الشرك ليحصل له التوحيد، ويفنى عن الكبر ليحصل له التواضع، ويفنى عن المعصية لتحصل له الطاعة.
وهذا النوع من الفناء موافق لما جاءت به الرسل عليهم السلام، لأن كلمة التوحيد فيها التخلي قبل التحلي، والبراء قبل الولاء، لا إله إلا الله، فلا إله براءة من جميع الآلهة وتخلي عنها، إلا الله الولاء لله وحده والعبادة له وحده سبحانه.
2- فناء الشهود:وهو أن يفنى العبد عن شهود الخلق، ويبقى شاهداً للحق سبحانه، فهو لانسيابه واستمراره في ذكر الله على لسانه وعلى فكره فيشهد الله عز وجل ويغيب عن الخلق.
__________
(1) - الرسالة التذمرية ص138، وانظر مجموع الفتاوى 2/10، 313/323.
(2) - التصوف حياة وسلوك:محمد الفقي، تقديم عبد الحميد محمود-القاهرة، 1399هـ- 1979م، ص58-59.
(3) - ديوان الحلاج ص 31.
(4) - التصوف حياة وسلوك، ص391.(1/188)
وفي هذه الحالة يفقد الصوفي التمييز بين المخلوقات لغيابه في فنائه عن شهودها، وليس هذا هو الكمال، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكمل البشر على الإطلاق، كان يميز بين المخلوقات وكان صلى الله عليه وسلم أعظم ذكراً وفكراً من غيره وأكثر استغراقاً أيضاً.
3- فناء الوجود:وهو أن يفنى الصوفي عن وجود ذاته ليبقى بذات ربه عز وجل وهذا هو عين القول بالحلول وبوحدة الوجود، وهذا هو قول الملاحدة والفلاسفة القدماء، وهذا النوع هو غاية ما يصبو إليه غلاة الصوفية.
وإذا قال الصوفي:"لا أرى شيئاً غير الله"، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال:"لا أرى شيئاً إلا وأرى الله فيه"، فهو في حال وحدة وجود. ولعل هذا أوجز تبسيط ممكن لهذين الاصطلاحين اللذين يختزلان التجربة الصوفية في كل أبعادها. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء.
يقول ابن عجيبة:"إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء، وتغيبك عن كل شيء، سوى الواحد الذي "ليس كمثله شيء"، وليس معه شيء، أو تقول:هو شهود حق بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق...فمن عرف الحق شهده في كل شيء، ولم يرَ معه شيئاً، لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم المُلك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فني به، وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء ولم يثبت مع الله شيئاً".(1))
الرد على القائلين بالفناء:
__________
(1) - إيقاظ الهمم في شرح الحكم: أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، ط 2، مصر 1972، ص 296.(1/189)
1- القول بالفناء يرجع إلى أصول غريبة، فهو يشبه مذهب النسطورية من الروم النصارى، وهو أنهم يقولون بأن مريم فنيت عن كل أوصاف الناسوت بالمجاهدة، واتصل بها بقاء اللاهوت، وأدركت البقاء بذلك، حتى بقيت ببقاء الله، وكان عيسى نتيجة ذلك، ولم يكن تركيب عيسى من أصل إنساني، لأن بقاءه تحقيق لبقاء الإلهية، فهو وأمه والله باقون ببقاء واحد هو القديم، وصفة الحق".(1)
2- القول بالفناء يجعل المحدث محل للقديم والقديم محل للمحدث ولا يمكن أن يكون المحدث محل للقديم، والقديم محل للمحدث، وكيف يكون للقديم وصف محدث، وللحديث وصف قديم؟ وجواز هذا هو مذهب الدهرية…ولو جاز أن تحل صفة القديم في المحدث، أو صفة المحدث في القديم، لجاز أن يقال للمحدث صانع، وللصانع محدث، وهذا ضلال، ولأنه لو جاز ذلك لكان حكم الشيئين سواء وهذا محال".(2)
3- لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام الصحابة والتابعين مدح لفظ الفناء ولا ذمه، ولا استعملوا لفظه في هذا المعنى البتة، ولا ذكره مشايخ الطرق المتقدمون ولا جعلوه غاية أو مقاماً. بل هو مذكور في كلام القدماء قبل الإسلام بمئات السنين، في فلسفة الهند والصين واليونان. وابن القيم رحمه الله قال:إن القول بالفناء فيه تفصيل، وقد تقدم تفصيل ذلك، وإذا كنا نعيب على الصوفية قولهم بالفناء، فنحن لا نقصد فناء الصفات والإرادة بمعنى ترك الصفات الذميمة والاتصاف بالصفات الحميدة وجعل إرادة الإنسان متعلقة بما يريده الله إرادة شرعية وبما يأمر به ويحبه، بل نعيب عليهم عدم التمييز أو القول بما يشبه قول الملاحدة والاتحادية والحلولية.
__________
(1) - كشف المحجوب / للهجويري 2/484.
(2) - السابق 2/484-485.(1/190)
4- إن العبد حين يفنى عن حسه وشعوره وتحصل له غيبة عن نفسه وحضور مع الله، لا يكون على الكمال، بل الذي يعبد الله مع إحساسه بذاته، وشعوره بذاته وما حوله أكمل قال ابن القيم:"فتأمل حال عبدين في خدمة سيدهما، أحدهما يؤدي حقوق خدمته، في حال غيبته عن نفسه وعن خدمته لاستغراقه بمشاهدة سيده، والآخر يؤديها في حال كمال حضوره وتمييزه وإشعار نفسه بخدمة السيد وابتهاجها بذلك فرحاً بخدمته وسروراً والتذاذاً منه، واستحضاراً لتفاصيل الخدمة ومنازلها وهو مع ذلك عامل على مراد سيده منه لا على مراده من سيده فأي العبدين أكمل؟" بلا شك أن من عبد الله مستحضراً فكره وشعوره وإحساسه أكمل. فإن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماوات العلا ورأي من آيات ربه الكبرى، لم تعرض له هذه الحال أي حال الفناء بل كان كما وصفه الله تعالى:(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) النجم 17-18، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.(1)
5- يزعم بعضهم أن الفناء هو اصطلاح اصطلحه القوم ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذا الكلام لا يصح ولا يقبل لأن هذا الاصطلاح ترتب عليه فساد ففيه مشاحة لأنه هو الأساس الذي بنى عليه القوم مذهبهم في القول بوحدة الوجود، وما لزم منه الباطل فهو باطل.(2)
__________
(1) - انظر:التحفة المهدية شرح التدمرية:فالح بن مهدي آل فالح، ط1، 1414هـ، دار الوطن، ص424-425.
(2) - انظر:مجلة البحوث الإسلامية، عدد 41، إدارة البحوث في الرياض، سنة 1414 – 1415، ص215.(1/191)
وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله:إن أكابر غلاة الصوفية لما تكلموا في مسألة المحو والفناء كان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر حتى ضاهى بعضهم المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة ثم غلا بعضهم فعذر الكفار ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود.(1) والحقيقة أن كل هذا أوهام, والإسلام يحث على حفظ العقل, فكيف يسعى مسلم لزوال عقله, والصوفي عندما يتحدث عن أسرار الربوبية يحاول شيئاً لا يطيقه الإنسان, لذلك سيصل إلى كارثة وحدة الوجود التي هي كفر, ويفقد فيها الاتزان النفسي, وهي نزعة خفية عند الإنسان الذي لا يخضع للوحي وهي نزعة التكبر والتأله, ويحاول أن يأت بها عن طريق وحدة الوجود وهي نزعة فرعونية عندما قال:"أنا ربكم الأعلى".
إنَّ فكرة الفناء موجودة في الديانة البوذية وتسمى عندهم(نرفانا) وربما أخذها الصوفية عنهم.
الطرق الصوفية
نشأتها:
__________
(1) فتح الباري، دار الفكر ببيروت، أشرف على طبعه محب الدين الخطيب13/348(1/192)
يمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من إيران إلى المشرق الإسلامي، فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة 561ه، وقد رزق بتسعة وأربعين ولداً، حمل أحد عشر منهم تعاليمه ونشروها في العالم الإسلامي، ويزعم أتباعه أنه أخذ الخرقة والتَّصوف عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما رغم عدم لقائه بالحسن البصري، كما نسبوا إليه من الأمور العظيمة فيما لا يقدر عليها إلا الله تعالى من معرفة الغيب، وإحياء الموتى، وتصرفه في الكون حياً أو ميتاً، بالإضافة إلى مجموعة من الأذكار والأوراد والأقوال الشنيعة. ومن هذه الأقوال أنه قال مرة في أحد مجالسه:"قدمي هذه على رقبة كل ولي لله"، وكان يقول:"من استغاث بي في كربة كشفت عنه، ومن ناداني في شدة فرجت عنه، ومن توسل بي في حاجة قضيت له"، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الشرك وادعاء الربوبية
يقول السيد محمد رشيد رضا:"يُنقل عن الشيخ الجيلاني من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره، والنقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها".(1)
__________
(1) - دائرة المعارف الإسلامية11/171.(1/193)
كما ظهرت الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس أحمد بن الحسين الرفاعي ت 540ه ويطلق عليها البطائحية نسبة إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق، وينسج حوله كتَّاب الصوفية – كدأبهم مع من ينتسبون إليهم – الأساطير والخرافات، بل ويرفعونه إلى مقام الربوبية. ومن هذه الأقوال:"كان قطب الأقطاب في الأرض، ثم انتقل إلى قطبية السماوات، ثم صارت السماوات السبع في رجله كالخلخال".(1) وقد تزوج الرفاعي العديد من النساء ولكنه لم يعقب، ولذلك خلفه على المشيخة من بعده علي بن عثمان ت584ه ثم خلفه عبد الرحيم بن عثمان ت604ه، ولأتباعه أحوال وأمور غريبة ذكرها الحافظ الذهبي ثمَّ قال:"لكن أصحابه فيهم الجيد والرديء".
وفي هذا القرن ظهرت شطحات وزندقة السهروردي شهاب الدين أبو الفتوح محيي الدين بن حسن 549-587ه ثم خلفه عبد الرحيم بن عثمان ت604ه، صاحب مدرسة الإشراق الفلسفية التي أساسها الجمع بين آراء مستمدة من ديانات الفرس القديمة ومذاهبها في ثنائية الوجود وبين الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية الحديثة ومذهبها في الفيض أو الظهور المستمر، ولذلك اتهمه علماء حلب بالزندقة والتعطيل والقول بالفلسفة الإشراقية، ممّا حدا بهم أن يكتبوا إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي محضراً بكفره وزندقته فأمر بقتله ردة، وإليه تنسب الطريقة السهروردية ومذاهبها في الفيض أو الظهور المستمر. ومن كتبه: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، والمقامات. وتحت تأثير تراكمات مدارس الصوفية في القرون السالفة أعاد ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، عقيدة الحلاج، وذي النون المصري، والسهروردي.
__________
(1) - طبقات الشعراني ص141، قلادة الجواهرص42.(1/194)
وفي القرن السابع الهجري دخل التَّصوف الأندلس وأصبح ابن عربي الطائي الأندلسي أحد رؤوس الصوفية حتى لُقب بالشيخ الأكبر.ثم أبو الحسن الشاذلي 593-656ه: صاحب ابن عربي مراحل الطلب -طلب العلم- ولكنهما افترقا حيث فضّل أبو الحسن مدرسة الغزالي في الكشف بينما فضل ابن عربي مدرسة الحلاج وذي النون المصري، وقد أصبح لكلتا المدرستين أنصارهما إلى الآن داخل طرق الصوفية، مع ما قد تختلط عند بعضهم المفاهيم فيهما، ومن أشهر تلاميذ مدرسة أبي الحسن الشاذلي ت656ه أبو العباس ت686ه، وإبراهيم الدسوقي، وأحمد البدوي تـ675ه. ويلاحظ على أصحاب هذه المدرسة إلى اليوم كثرة اعتذارها وتأويلها لكلام ابن عربي ومدرسته.
وفي القرن السابع ظهر أيضاً جلال الدين الرومي صاحب الطريقة المولوية بتركيا ت672ه. وأصبح القرن الثامن والتاسع الهجري ما هو إلا تفريع وشرح لكتب ابن عربي وابن الفارض وغيرهما، ولم تظهر فيه نظريات جديدة في التَّصوف. ومن أبرز سمات القرن التاسع هو اختلاط أفكار كلتا المدرستين. وفي هذا القرن ظهر محمد بهاء الدين النقشبندي مؤسس الطريقة النقشبندية ت791هـ. وكذلك القرن العاشر ما كان إلا شرحاً أو دفاعاً عن كتب ابن عربي، فزاد الاهتمام فيه بتراجم أعلام التَّصوف، والتي اتسمت بالمبالغة الشديدة. ومن كتب تراجم الصوفية في هذا القرن: عبد الوهاب الشعراني ت 973ه صاحب الطبقات الصغرى والكبرى.
وفي القرون التالية اختلط الأمر على الصوفية، وانتشرت الفوضى بينهم، واختلطت فيهم أفكار كلتا المدرستين وبدأت مرحلة الدراوي.(1/195)
ومن أهم ما تتميز به القرون المتأخرة ظهور ألقاب شيخ السجادة، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، والخليفة والبيوت الصوفية التي هي أقسام فرعية من الطرق نفسها مع وجود شيء من الاستقلال الذاتي يمارس بمعرفة الخلفاء، كما ظهرت فيها التنظيمات والتشريعات المنظمة للطرق تحت مجلس وإدارة واحدة الذي بدأ بفرمان أصدره محمد علي باشا والي مصر يقضي بتعيين محمد البكري خلفاً لوالده شيخاً للسجادة البكرية وتفويضه في الإشراف على جميع الطرق والتكايا والزوايا والمساجد التي بها أضرحة كما له الحق في وضع مناهج التعليم التي تعطى فيها. وذلك كله في محاولة لتقويض سلطة شيخ الأزهر وعلمائه، وقد تطورت نظمه وتشريعاته ليعزف فيما بعد بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر.
ومن أشهر رموز القرون المتأخرة:عبد الغني النابلسي 1050-1287ه. وأبو السعود البكري المتوفى 1812م، وهو أول من عرف بشيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر بشكل غير رسمي. وأبو الهدى الصيادي الرفاعي 1220-1287هـ.
والتيجاني ت1281ه، ومما يحسن ذكره له أنه اهتم بنشر الإسلام بين الوثنيين، وكون لذلك جيشاً، وخاض به حروباً مع الوثنيين. ومن مؤلفاته: سيوف السعيد، سفينة السعادة، رماح حزب الرحيم على نحو حزب الرجيم.
معنى الطريقة الصوفية:(1/196)
الطريقة الصوفية تعني أولًا النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التَّصوف والوصول إلى رتبة الشيخ المربي . ويدعي لنفسه بالطبع رتبة صوفية من مراتب الأولياء عند الصوفية كالقطب والغوث والوتد والبدل . . الخ . ولا بد أن يكون من أهل الكرامات والمكاشفات، ويكون له بالطبع ذكر خاص به، يزعم كل واحد منهم أنه تلقاه من الغيب إما من الله رأسًا، أو نزل منه سبحانه مكتوبًا، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو في المنام، أو من الخضر عليه السلام . . المهم لا بد أن يكون له ذكر خاص ينفرد به عن سائر الطرق، ولا بد أن يكون لهذا الذكر الخاص ميزة خاصة وفضل خاص أكبر من الموجود في القرآن والسنة، وأفضل مما عند الطرق الأخرى وهذا بالطبع لجلب ) الزبائن ) لهذا الطريق الخاص . ثم لا بد أن يكون لكل طريق مشاعر خاصة فلون العلم والخرقة لون مميز، وطريقة الذكر الصوفي مميزة، ونظام الخلوة مميز، وهكذا؛ والطرق الحديثة غالبًا ما يتوارثها الأبناء عن الآباء وذلك أن الطريقة التي تستطيع جلب عدد كبير من المريدين والتابعين والأنصار تصبح بعد مدة يسيرة إقطاعية دينية عظيمة تفد الوفود إلى رئيسها ) شيخها ) من كل ناحية، وتأتيه الإتاوات والصدقات والهبات والبركات من كل حدب وصوب وحيثما حل الشيخ في مكان ذبحت الطيور والخرفان وأقيمت الموائد الحسان، ولذلك فإن أصحاب هذه الطرق يقاتلون اليوم عنها بالسيف والسنان . وعامة الذين يؤسسون الطرق بل جميعهم يصلون نسبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلون أنفسهم من آل بيته .
موقف أئمة الإسلام من التَّصوف:
عرفنا أنه لم تعرف كلمة التَّصوف قط في عصر الصحابة ولا التابعين، ولم يكن هناك بتاتًا من يسمى بالمتصوف، ولذلك فالتَّصوف بدعة منكرة لم تظهر إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، ولذلك لم يدركها الإمامان أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما. وممن تكلم فيهم من الأئمة:-(1/197)
1-الإمام الشافعي : وأما الإمام الشافعي فقد أدرك بدايات التَّصوف وكان من أكثر العلماء والأئمة إنكارًا عليهم . وقد كان مما قاله في هذا الصدد : " لو أن رجلًا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق " . وقال أيضًا : " ما لزم أحد الصوفيين أربعين يومًا فعاد عقله أبدًا، وأنشد : ودعوا الذين إذا أتوك تنسكو وإذا خلوا كانوا ذئاب خفاف ) تلبيس إبليس ص371 ) . وقال أيضًا عندما سافر إلى مصر : " تركت ببغداد وقد أحدث الزنادقة شيئًا يسمونه السماع ". يعني الغناء والرقص الذي ابتدعه الصوفية في القرن الثاني وما زال مسلكهم إلى اليوم .
2- الإمام أحمد بن حنبل : وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد كان لهم بالمرصاد فقد قال فيما بدأ الحارث المحاسبي يتكلم فيه وهو الوساوس والخطرات . قال أحمد : " ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون " . وحذّر من مجالسة الحارث المحاسبي وقال لصاحب له : " لا أرى لك أن تجالسهم " . وذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال : " حذروا من الحارث أشد التحذير ! ! الحارث أصل البلبلة-يعني في حوادث كلام جهم-ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام . حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس ! ! " ( تلبيس إبليس 166ـ167 ) .
وهذا الكلام من الإمام أحمد يكشف فيه القناع أيضًا عن أن الحارث المحاسبي الذي تسربل ظاهرًا بالزهد والورع والكلام في محاسبة النفس على الخطرات والوساوس كان هو المأوى والملاذ لأتباع جهم بن صفوان المنحرفين في مسائل الأسماء والصفات والنافين لها، وهكذا كان التَّصوف دائمًا هو الظاهر الخادع للحركات والأفكار الباطنية . ولذلك وقف الإمام أحمد لهؤلاء الأشرار الظاهرين منهم والمتخفين بالزهد والورع وأمر بهجر الحارث المحاسبي وشدد النكير عليه فاختفى الحارث إلى أن مات . (1) )
__________
(1) - تلبيس إبليس:ابن الجوزي ص167.(1/198)
3 - الإمام أبو زرعة الدمشقي: وجاء بعد الإمام أحمد بن حنبل الإمام أبو زرعة رحمه الله فقال أيضًا عن كتب الحارث المحاسبي وقد سأله سائل عنها : " إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات . عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب . قيل له : في هذه الكتب عبرة . بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء ( يعني الصوفية ) قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق البلخي ثم قال : ما أسرع الناس إلى البدع " . (1)
4- الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد الكريم البزودي ت 478هـ ببخارى : قال في كتابه أصول الدين عند التعريف بالتَّصوف : " وأما الصوفية فأكثرهم من أهل السنة والجماعة . وفيهم من يكون صاحب الكرامة، إلا أنه قد ظهر فيهم مذاهب ردية أكثرها ضلال وبدعة .
__________
(1) - المصدر السابق ص166-167 .(1/199)
5 - الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي ت597هـ: فقد كتب كتابًا فريدًا سماه ) تلبيس إبليس ) خص الصوفية بمعظم فصوله وبين تلبيس الشيطان عليه وكان مما ذكره هذه الصفحات : " وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات . فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم . وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع . وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة . وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري . ثم جاء أقوام يتكلمون لهم في الجوع والفقر الوساوس والحظوات، وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي . وجاء آخرون فهذبوا مذهب التَّصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيف وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة . ثم مازال الأمر ينمى، والأشياخ يضعون لهم أوضاعًا ويتكلمون بواقعاتهم . ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر . ومنهم هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد . وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننًا... ".(1)
- 6الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية:
__________
(1) - تلبيس إبليس ص 167-163 .(1/200)
لقد كان ابن تيمية من أعظم الناس بيانًا لحقيقة التَّصوف، وتتبعًا لأقوال الزنادقة والملحدين منهم وخاصة ابن عربي، والتلمساني، وابن سبعين . فتعقب أقوالهم وفضح باطنهم وحذر الأمة من شرورهم وذلك في كتبه ومؤلفاته الكثيرة وفي فتاويه، وكذلك تتبع أقوال المخلطين منهم الذين خلطوا بين القول الطيب والقول الخبيث كالترمذي صاحب كتاب ) ختم الولاية ) والغزالي صاحب إحياء علوم الدين . ولا شك أنّ من أعظم ما ألف الإمام ابن تيمية في هذا الصدد هو كتابة ) الفرقان بين أولياء الرحمة وأولياء الشيطان ) فقد فصل فيه القول في الولاية الرحمانية وبيان صفاتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وفرق بين ذلك والولاية الشيطانية الصوفية التي تعتمد على الشعبذات والدجل، والكذب، وأكل أموال الناس بالباطل، والسماع والغناء والرقص والبدع المنكرة في الدين، والتظاهر بالصلاح والتقوى.
ولقد أجاد الإمام ابن تيمية رحمه الله أيما إجادة في بيان الكرامة الرحمانية التي هي حق لولي الله، والكرامة الشيطانية التي تجري أحيانًا على أيدي هؤلاء كتظاهرهم بالدخول في النيران وزعمهم أنها لا تضرهم، وحملهم الحيات والثعابين، وضربهم أنفسهم بالسيوف والسهام وغير ذلك من أنواع المخاريق التي يزعمون أنَّها من كراماتهم، وقد قام ابن تيمية نفسه بتحدي هؤلاء الصوفية الذي يزعمون هذه الكرامات، بأن يدخل معهم النار التي يزعمون دخولها، وأنها تحرقهم إن شاء الله ولا تحرقه، شريطة أن يغسلوا أنفسهم أولًا بالخل لإزالة دهن الضفادع الذي يدهنون به أنفسهم حتى لا تؤثر فيهم النار . فلما كشف حيلهم وتحداهم وكان ذلك بمحضر السلطان تراجعوا عن ذلك وظهر كذبهم ومخاريقهم، وكان هؤلاء الصوفية من أتباع الرفاعي البطائحي.(1) )
7-الإمام برهان الدين البقاعي المتوفي سنة 885هـ:
__________
(1) - انظر مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية الفتاوي الكبرى من ص445ـ476(1/201)
ألف هذا الإمام الجليل كتابًا فذًا فريدًا سماه ( تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي ) ، قال في خطبة هذا الكتاب :" وبعد : فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التَّصوف، الموسوم عند أهل الحق بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرًا، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآله ومآبه، امتثالاً لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "..وفي رواية عن عبد الله بن مسعود : "وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل "، وما أحضر من النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه .
أقوال أهل العلم في كتاب إحياء علوم الدِّين لأبي حَامد الغزالي:
قال ابن تيمية في نقد كتاب إحياء علوم الدِّين لأبي حَامد الغزالي:"الإحياء فيه فوائد كثيرة, كلن فيه مواد مذمومة فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد, وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا:أمرضه الشفاء, يعنون (كتاب الشفاء) لابن سينا في الفلسفة, وفي الإحياء أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة: كثيرة, وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم, وفيه مع ذلك من كلام المشايخة الصوفية المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة, وأما ما فيه من الكلام في (المهلكات) مثل الكلام على الكبر والعجب والحسد فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في(الرعاية), ومنه ما هو مقبول وما هو مردود".(1)
__________
(1) الفتاوى:10/551.(1/202)
وقال ابن الجوزي:"وإني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة, كيف يحل القيام على الرأس طول الليل, وكيف يحل إضاعة المال, وكيف يحل السؤال لمن يقدر على الكسب فما أرخص ما باع أبو حامد الفقه بالتَّصوف وسبحان من أخرجه من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء".(1)
وقال أبو بكر الطرطوشي:"شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا".(2)
وقال الذهبي:"فيه من الأحاديث الباطلة جملة, وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومخرف الصوفية".(3)
الباب الثاني
الفلسفة الإسلامية
الفصل التمهيدي
المبحث الأول
التباين بين الفلسفة والعقيدة الإسلامية
إنّ أوجه الخلاف والتباين الجوهرية بين الدين والفلسفة تكون موجودة بين الدين السماوي المنزل من الله عز وجل وبين الفلسفة التي هي ابتكار إنساني وصنعة بشرية.
__________
(1) تلبيس إبليس ص 353.
(2) - عبد اللطيف آل الشيخ: الرسائل 3/137.
(3) - المصدر السابق 3/140.(1/203)
1- العقيدة الإسلامية ربانية في مصدرها، فهي من عند الله المتصف بالكمال المطلق، خالق الكون والإنسان"، فهي تصور اعتقادي موحى به من الله سبحانه ومحصورة في هذا المصدر لا يستمد من غيره..وذلك تمييزاً عن التصورات الفلسفية التي ينشئها الفكر البشري حول الحقيقة الإلهية، أو الحقيقة الكونية، أو الحقيقة الإنسانية، والارتباطات القائمة بين هذه الحقائق وتمييزاً له كذلك من المعتقدات الوثنية، التي تنشئها المشاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية".(1) ومادامت ربانية متكاملة شاملة، فإنّ الخير والبركة وكذا السعادة ووفرة الإنتاج من بركات الالتزام بها، وما دامت ربانية من عند الله عز وجل وتلبي أشواق الروح البشرية فإنّها مبرأة من النقص وخالية من العيوب، وبعيدة عن الظلم وبالتالي فإنّها وحدها تشبع الفطرة الإنسانية.
بينما الفلسفة بشرية في مصدرها؛ أي هي من تفكير العقل البشري وحده، مع اعتماده على الخيال الذهني والتفكير المجرد، وهي أيضاً صدىً ً كبيراً للبيئة التي يعيش فيها الفيلسوف إذ يتأثّر بها إلى حد كبير، لذا فإن هذه الفلسفة تعيش في أذهانهم فقط، أي لم تتفاعل مع مشاعر الناس ونفوسهم، ولم تترك آثاراً إيجابية في سلوك الناس وحياتهم ولكون الفلسفة بشرية فإن النقص والاضطراب وعدم الشمول من سماتها وميزاتها الجوهرية، ولكونها بشرية لم تنفع البشرية، ولن تتقدم بها خطوة واحدة إلى الأمام.
__________
(1) - خصائص التصور الإسلامي سيد قطب ص.7 -6(1/204)
2- العقيدة الإسلامية ثابتة بثبات مصدرها، وثبات مبادئها وثبات غايتها، قال تعالى:"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَل ْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلمون". سورة الروم: 30 ، وقال تعالى"لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه".، وثبات العقيدة لكونها من عند الله، ولقد انقطع الوحي بالتحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وبقيت نصوص الدين ثابتة إلى يوم الدين، وإذا كان الإنسان يتحرك ويتطور وينمو، وتتبدل حاجاته ومتطلباته وتتغير، فإنّ ذلك يكون داخل إطار العقيدة الثابتة التي تتسع لحركة الإنسان وتطوره.
أمّا الفلسفة فإنّ أنماطها مختلفة ومتغيرة ومتطورة أو كل فيلسوف تختلف فلسفته عن غيره، كما أن فلسفة فترة زمنية معينة تختلف عن فلسفة الفترة التي سبقتها أو التي تليها.
3 - العقيدة الإسلامية يرتضيها العقل ، ويطمئنّ لها القلب وتستقر في الوجدان وتتفاعل مع المشاعر والأحاسيس البشرية، وبالتالي تنعكس على سلوك الإنسان وتصرفاته في واقع الحياة ؛وتاريخنا الإسلامي يشهد كيف غيّرت العقيدة حياة الناس و أنماط سلوكهم وواقعهم الاجتماعي والخلقي والثقافي، فلقد أحدثت العقيدة نقلة كبيرة وتغيراً شاملاً في حياة الإنسانية، وبدراسة واقع المجتمع الجاهلي ثم واقع المجتمع الإسلامي ندرك ذلك ببساطة وبكل وضوح.
إنّ هناك ً فرقا شاسعاً ً وكبيرا بين من يعبد الله ) الإله )الخالق المتصف بصفات الكمال المتصرف في الوجود كله، وبين من يعبد إلهاً مجرداً عن الصفات ليس له صلة بالعالم، وفرق بين التصور الاعتقادي الرباني المستمد من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه و سلم –وبين التصور الفلسفي الذي يقوم على التخيلات والأوهام والذي يعتمد على مناهج التفكير الوثني اليوناني .(1/205)
-4 إنّ الدّين كمال مطلق ويمتاز بالثبات في أصوله ومبادئه، والصدق في أحكامه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما الفلسفة في كل صورها ومذاهبها على اختلاف الدهور والعصور هي نتاج العقل الإنساني المحدود القاصر القابل للتغيير والتبديل والتحول، وقد يقترب من الحق، وقد لا يقاربه أبداً .ولذا فإنّ التخالف والتعارض والتفاوت من سمات المذاهب الفلسفية، التي هي فبمجموعها فروض وتقديرات وآراء واجتهادات تدور في فلك الإمكان والاحتمال، وقد تقترب من دائرة الأسطورة والخيال كما في الفلسفة الهندية والصينية واليونانية القديمة .
-5 ومن أوجه التباين بين الفلسفة والدين : الاختلاف في طبيعة المنهج : فمنهج الدين مبني على الإيمان والتسليم، والمتابعة والانقياد لجملة أصوله وأركانه،والتطبيق العملي لتشريعاته وأحكامه .أما الفلسفة فبحث عقلي صرف قوامه الحجة والمنطق والاستدلال سواء أدى إلى إثبات جملة من قضايا الفطرة – ومنها مبادئ أساسية أثبتها الدين – أم أدى إلى إنكار جملة ما ثبت من الدين بالضرورة، فالفلسفة عبر تاريخها شهدت مذاهب مؤمنة بوجود الإله الخالق البارئ، ومذاهب ملحدة تنكره وتنكر ما وراء المادة كالروح والبعث.
6 - إن العقيدة الإسلامية تعتمد في تقريرها على الأدلة السمعية والعقلية المأخوذة من القرآن والسنة، وهي أدلة قطعية الثبوت والدلالة توصل إلى المطلوب بيسر وسهولة، وهي شفاء لما في الصدور، شفاء من ألوان الشبه والشكوك والشبهات، قال تعالى :(يا أيها النَّاسُ قدْ جَاءَتْكم مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَِ) سورة يونس: 57 ، وقال تعالى: (وَنُنزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِين) سورة الإسراء:.82(1/206)
بينما تعتمد الفلسفة في تصوراتها على الآراء العقلية البشرية القاصرة، كما تعتمد على المصطلحات الغامضة والقضايا الذهنية المجردة التي يصعب فهمهما، وإن تيسّر فهمهما للبعض فإنّها لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، لا تفيد علماً ولا عملاً، لا توصل من يدرسها إلى الحق واليقين، ولن تسلمه من الشكوك والشبهات والأهواء، بل جعلتهم محلاً للطعن والإسقاط، وأدت ببعضهم إلى الضلال، لقد استطاع الشيطان أن يتطاول على الفلاسفة وأن يتخذهم مطية إلى الضلال والإضلال من جهة إفرادهم بمعتقداتهم ومعقولاتهم، وقولهم بالظن، واعتمادهم على الخيال الذهني في مجال العقيدة دون التفات منهم إلى مسلك الأنبياء وأتباعهم في إثبات العقيدة وتقريرها.
إنّ الحجج والبراهين التي تسوقها العقيدة الإسلامية يستفيد منها جميع الناس:عامهم وعلمائهم، بينما براهين وحجج الفلسفة فإنّ فهمها مقصور على طائفة معينة من الناس وهي قليلة، وهي تكلِّف العقل البشري العنت والمشقة، فلا تكاد تخلو من التعقيد والتكليف والتطويل، لذا فإنّها ولَّدت لبعض الناس أمراض الشبه المفسدة للعلم، والمفسدة للإدراك والتصور.(1/207)
7- الواقعية: العقيدة الإسلامية تمتاز بالواقعية، فهي تصور يتعامل مع الحقائق الموضوعية ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي. لا كالفلسفة التي تتعامل مع تصورات عقلية مجردة، أو مع مثاليات لا مقابل لها في عالم الواقع، أو لا وجود لها في عالم الواقع. ثمّ إن التصميم الذي تضعه العقيدة للحياة البشرية يحمل طابع الواقعية، لأنه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه. ولا يضرب العقل البشري في التيه كما في الفلسفة ليتمثلها على هواه، في سلسلة من القضايا المنطقية المجردة على طريقة "الميتا فيزيقا" التي لا تفيد شيئاً، لا علما ولا إيماناً.
المبحث الثاني:الفائدة من دراسة الفلسفة الإسلامية:
... يقول علي حسين صاحب أبجد العلوم:إنّ العلم وإن كان مذموماً في نفسه كما زعموا فلا يخلوا تحصيله من فائدة:أقلها ردّ القائلين به، والنظر والمطالعة في علوم الفلسفة يحل بشرطين: أحدهما أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية، بل يكون قوياً في ذهنه راسخاً على الشريعة الإسلامية، والثاني أن لا يتجاوز مسائل الفلاسفة المخالفة للشريعة، وإن تجاوز فإنّما يطالعها للردّ لا غير، هذا لمن ساعده الذهن والسن والوقت.(1)
وفي نظرنا أنّ دراسة الفلسفة من قبل الباحثين فيها بعض الفوائد ومنها:
1 - توضيح القضايا الدينية التي تناولها فلاسفة الإسلام بالبحث والدرس، وتبين المنهج الذي سلكوه في دراسة هذه القضايا،؟ وتبين طريقتهم فيما سموه توفيقاً بين الإسلام وبين ما أنتجه العقل الإنساني من تصورات في مسائل الألوهية والعالم.
__________
(1) - أبجد العلوم.243 /3(1/208)
2 - دراسة الفلسفة الإسلامية تهيئ لنا الفرصة للإطلاع على مشاكلها ومسائلها، ومدى تأثرها بالفلسفات الدخيلة، تلك التي اعتمد عليها كثير من علماء الكلام في شروحهم لمسائل العقيدة الإسلامية، مما أدى إلى تفرقهم أحزاباً متنازعة، وإلى تعصب كل فريق لرأيه بإزاء شرح المسائل الإلهية، ومن ذلك موقف الفرق الإسلامية إزاء مسألة صفات الله ...وغيرها من القضايا الاعتقادية التي احتدم الخلاف فيها بين فرق المسلمين.(1)
3- دراسة الفلسفة الإسلامية تمكّن العلماء المسلمين من الرد على انحرافات وضلالات الفلاسفة الإسلاميين وكشف زيوفهم، وإبعاد تأثيراتها السيئة عن أبناء الإسلام، وتخليص العقيدة الإسلامية من أدران الفلسفة وركامها.
4 - دراسة الفلسفة تمكّن الباحث المسلم من معرفة أوجه التباين والاختلاف بين الدين الحق والفلسفة.
-5 يتعرف منها على بيان المبرّرات الشرعية التي جعلت علماء الإسلام يحكمون بتضليل وتكفير وإلحاد الفلاسفة.
دخول الفلسفة اليونانية بلاد المسلمين:
... يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنّ أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفاً بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنّما ظهر في الإسلام لما عربّت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبا منها.)(2)
__________
(1) - انظر في الفلسفة الإسلامية:محمد السيد نعيم ص.171 -169
(2) - مجموع الفتاوى 241 /9 ، وانظر .84 /2(1/209)
ذكر السيوطي قصة دخول الفلسفة اليونانية إلى المسلمين، فقال:إن يحي بن خالد البرمكي- وهو من الفرس الذين كانت لهم صولة ودولة في حكم العباسيين - هو الذي جلب كتب الفلسفة اليونانية إلى أرض الإسلام من بلاد الروم، حيث أرسل البرمكي إلى ملك الروم يطلب منه هذه الكتب، وكان الملك يخاف على الروم أن ينظروا في كتب اليونان فيتركون دين النصرانية ويرجعون إلى الوثنية ديانة اليونانية، ومن ثمّ تتفرق كلمتهم وجمعهم، فجمع الكتب اليونانية ووضعها في بئر وأغلق عليها بالحجر والجص، فلما علم يحي بن خالد البرمكي بها أرسل لملك الروم في طلبها، ولقد فرح ملك الروم لهذا الطلب، فجمع بطارقته وقال لهم:ما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلاّ أفسدتها وأوقعت بين علمائها، وإنّ القوم الذين يطالعون هذه الكتب سيهلك دينهم وستبدد جماعتهم، وأنا أرى أن نرسلها للمسلمين حتى يبلتون بها ونسلم نحن من شّرها، وإنّي لا آمن أن يأتي من بعدي من يخرجها للنّاس فيقعوا فيما أخاف منه، فقات البطارقة نعم الرأي أيّها الملك فأرسلها للمسلمين الذين طلبوها، فبعث الكتب اليونانية إلى يحي بن خالد البرمكي، فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف. وبدأ التعريب والنقل على يد البرمكي، وأكمل ذلك الخليفة العباسي المأمون، ويقال أنّ أول بدأ بتعريب الكتب اليونانية هو خالد بن يزيد بن معاوية لما أولع بكتب الكيميا.(1) ومن المسلم به أنّ فلسفة أرسطو نُقلت إلى العربية، إ مّا مباشرة من اليونانية، وهذا هو شأن كتاب المقولات الذي نقله حنين بن إسحاق(2)
__________
(1) - انظر صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام لجلال الدين السيوطي، تعليق د.علي سامي النشار دار الكتب العلمية، بيروت ص.9 -7
(2) - وهو معرف بأبو زيد طبيب ومترجم، وترجم عن اليونانية إلي السريانية والعربية، اتصل بالخليفة المتوكل وخدمه بالطب، عين له المتوكل كتابا للترجمة، يترجمون ويراجع هو ترجماتهم، ذكر القفطي كتبه المؤلفة والمترجمة في كتاب ) أخبار العلماء بأخبار الحكماء.(1/210)
، وإمّا عن طريق السريانية التي طبعتها أساليب اليونان في التعبير.وكانوا يؤثرون الترجمة الحرفية باعتبارها تمثل الأسلوب العلمي الصحيح للنقل، كما كانت معرفة هؤلاء المترجمين بالعربية غير متينة، بل كانت ً أحيانا لا تتجاوز معرفة العامية، وأمّا معرفتهم بال فلسفة، فلم تكن حقاً معرفة المختصين، ولم تكن مقصودة لذاتها، بل كانت عندهم وسيلة لإتقان الترجمة، وربّما اكتسبوها عن طريق التمرس على نقل النصوص الفلسفية. وهؤلاء المترجمين كانوا في غالبيتهم على دين النصارى، ومنهم من هو على دين الصابئة، وليس فيهم مسلم واحد، م مّا تر تّب عليه أ نّهم تركوا تعاطي الاحتكاك بالنص القرآني.فكانت الترجمة الحرفية، والنقص في إجادة العربية الفصحى، والضعف في التكوين الفلسفي، و سيطرة المعتقد غير الإسلامي، ممّا أدي إلى وضع لغوي جداً معقد لا تفيد معه معرفة قواعد اللسان العربي ولا أساليب الكتابة العربية. كما أدى إلى دخول العقائد الكفرية إلى الفكر الإسلامي.
المبحث الثالث:التوفيق بين الفلسفة والدين عند بعض فلاسفة الإسلام:(1/211)
حاول الفلاسفة الإسلاميون التوفيق بين الدّين والفلسفة، وذلك لاعتقادهم أنّ الدّين والفلسفة يساند كلّ منهما الآخر في كلّ المسائل الجوهريّة.وإنْ بدا بينهما تعارض فإنّه ليس حقيقيًا، وإنّما نشأ نتيجة لسوء فهم كليهما، و نودّ أن نشير هنا إلى أنّ عملية التوفيق بين الدين والفلسفة لم يبتدعها الفلاسفة الإسلاميون، بل سبقهم إليها فلاسفة ينتسبون إلى الديانتين اليهودية والنصرانية. ومن هؤلاء:فيلون اليهودي 20) ق.م- 50 م) الذي افتتن بالفلسفة اليونانية، وجعل هدفه في الحياة التوفيق بين الكتاب المقدّس عند اليهود والفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلاطون.(1) ومنهم:كليمنتس الأسكندري النصراني(70- 150م) الذي زعم أنّ الفلسفة في ذاتها ليست شراً، وأن المعرفة نوعان، الأولى: عن طريق الوحي، وبدأت في العهد القديم، واكتملت في العهد الجديد، والثانية:عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان.(2) ومنهم:أوريجنس254 –185 م وهو أوّل نصراني يرسم الحدود بين العقل والوحي، وحاول جاهداً أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية ، فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى.(3)
__________
(1) - انظر تاريخ الفلسفة اليونانية :يوسف كرم ص 251 -25 ، تاريخ الفلسفة العربية :جميل صليبا ص
(2) - انظر تاريخ الفلسفة اليونانية:يوسف كرم ص 271 -270 ، تاريخ الفلسفة العربية :حنا الفاخوري، وخليل الجر .105 -104 /1
(3) - انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 275 ، تاريخ الفلسفة العربية :جميل صليبا ص .456(1/212)
وأمّا بالنسبة للفلاسفة الإسلاميين:فلقد احتلت ظاهرة التوفيق بين الفلسفة والدين مكانة هامة بالنسبة لفلاسفة المشرق غير أنّها كانت أكثر أهمية بالنسبة لفلاسفة المغرب، ولعل هذا يظهر بالخصوص في أنّ فلاسفة المشرق لم يفرد منهم أحد هذه المسألة بكتاب خاص في حين أننا نجد من فلاسفة المغرب كابن طفيل الذي أفرد لهذا الموضوع كتاباً خاصاً هو قصته المشهورة "حي بن يقظان" كما خصص ابن رشد لنفس الموضوع كتابين هما:(فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) ويضاف إلى هذا ما أورده في كتابه(تهافت التهافت) وفي بعض شروحه لكتب أرسطو. ولقد أ دّت محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء إلى زيادة تحريف للدين والعقيدة التي جاء بها رسل الله تعالى، وكانت سبباً قوياً في تسرب الإلحاد إلى أتباعها. وفلاسفة الإسلام شغلوا بهذا التوفيق، وقد بدأه الكندي، لأنّه أولّ الفلاسفة وتبعه غيره من فلاسفة المشرق كالفارابي وابن سينا وغيرهما، وكذلك فلاسفة المغرب اهتموا بهذا الموضوع ً اهتماما ً كبيرا وفي مقدمتهم ابن طفيل وابن رشد . لقد بدأت عملية التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة مع حركة النقل والترجمة للكتب الفلسفية اليونانية، فقد ترجمت كتب كثيرة من المنطق والفلسفة من السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية، وكان أكثرها لأرسطو، وكان لترجمتها إلى العربية الأثر الأكبر في زعزعة عقائد بعض أهل البدع، وإدخال الفكر الدخيل في حياة المسلمين الفكرية.
ومن الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين:
1 - الكندي:(1/213)
هو أبو يوسف يعقوب بن اسحق سمي بالكندي نسبه إلي بلدته كندة من بني كهلان ببلاد اليمن، وهو فيلسوف العرب وأول من فلسف منهم آخذ بمذهب المشاءين وتأثر بفلسفة أرسطو مصطبغة بالأفلاطونية المحدثة، ولد ونشأ بالكوفة وكان أبوه أميراً عليها، درس وتع لّم في البصرة، ثم بغداد علوم الدين واللغة والأدب بدأ حياته العقلية متكلما ً، وشارك المعتزلة في بحوثهم المتعلقة بالعدل والتوحيد والاستطاعة والنبوة، وله فيها رسائل يذكرها القفطي في ) أخبار الحكماء)، وابن أبي أصيبعة في )طبقات الأطباء)، وكان عالماً في الطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والجغرافيا والموسيقي، ولكنّ أكثر علمه في الفلسفة، كانت وفاته سنة 252 هـ. وهو أوّل فيلسوف حاول التوفيق بين الفلسفة والدين، وجمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات، وأتخذ من التأويل منهجا للتوفيق بين الوحي والعقل وقد مهد الكندي بمصنفاته ونظرياته مجال البحث لمن جاء بعده من الفلاسفة والعلماء. وأحرز مكانة عند الخلفاء العباسين -المأمون والمعتصم والمتوكل - من أشهر مؤلفاته في الفلسفة كتب الفلسفة الأولي، الفلسفة الداخلة، المسائل المنطقية، البحث في تعليم الفلسفة، مسائل في المنطق .(1/214)
... أكدّ الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله وحدة الغاية بين عمل الفلسفة وما يأتي عن طريق الأنبياء والرسل؛ فقال: لأنّ في علم الأشياء بحقائقها: علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع، والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار، والاحتراس منه واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه؛ فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده. المجردة والكلية؛ لأنها موجهة إلى الخاصة.ولذا هاجم الكندي وخصوم وأعداء الفلسفة، ودافع عن الفلسفة دفاعاً شديدا ً، فيقول:"إنّ عداء هؤلاء للفلسفة إمّا لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وإمّا لدرانة الحسد المتمكن من نفوسهم البهيمية، أو هو ناشئ عن سوء قصد منهم، إ نّهم غرباء عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق...إنّهم يعادون الفلسفة دفاعاً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، .. ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفراً.(1) وهكذا يعتقد الكندي بوجود الاتفاق بين الفلسفة والدين ويجمع بينهما على أهداف وحقائق واحدة، ويرى أنّ غرض الفيلسوف في عمله إصابة الحق وفي عمله العمل بالحقّ، وأنّ الفلسفة أشرف صناعة، ودراستها واجبة على من أقرها ومن أنكرها، وهي تسير في ركاب الدين خادمة له. )(2)
2 ـ الفارابي:
__________
(1) - انظر رسالة الكندي إلى المعتصم بالله ص .82 -81
(2) الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي: د. محمد البهي ص 207.(1/215)
هو أبو نصر محمَّد بن محمَّد طرخان أوزلغ الفارابي الفارسي الأصل، ويُعرف بالمعلم الثاني .ولد في مقاطعة فاراب من بلاد الترك سنة 259 هـ، ونشأ في بلدته، وحصل فيها على مبادئ العلوم، رحل إلى إيران فتعلّم اللغة الفارسية، وانتقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، فتعلّم فيها اللغة العربية، ولما دخلها كان بها أبو بشر متى بن يونس الفيلسوف المشهور، فحضر حلقة درسه درس الرياضيات، والطب، والفلسفة، رحل إلى مدينة حرّان، وفيها يوحنا بن حيلان الفيلسوف النصراني، فاستفاد منه، وأخذ عنه .كان يحسن اللغة اليونانية، وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. تناول جميع كتب أرسطو، ومهر باستخراج معانيها، والوقوف على أغراضه فيها، وكان من أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه، وأبو علي بن سينا انتفع من تصانيفه وتتلمذ عليها. له مؤلفات كثيرة، بلغت أكثر من مئة مؤلف منها، الفصوص، آراء أصول المدينة الفاضلة، إحصاء الإيقاعات، المدخل إلى صناعة الموسيقى، والآداب الملوكية، مبادئ الموجودات، إبطال أحكام النجوم، أغراض ما بعد الطبيعة، السياسة المدنية، جوامع السياسة، النواميس، الخطابة، حركة الفلك سرمدية، فيلسوف العرب، كتاب التعليقات، إحصاء العلوم، رسالة في العقل وغيرها.(1)
__________
(1) -انظر ترجمته عيون الأنباء، 224 -223 /3 ، البداية والنهاية .237 /11(1/216)
يرى الفارابي أنّ الدين الإسلامي لا يناقض الفلسفة اليونانية، وإن كانت هناك فروق ومتناقضات ففي الظواهر لا في البواطن، ويكفي لإزالة الفروق أن نعمد إلى التأويل الفلسفي ونطلب الحقيقة المجردة من وراء الرموز والاستعارات المختلفة. فالدين والفلسفة يصدران عن أصل واحد هو العقل الفعال،(1) ومن ثمّ فلا فرق بينهما، ولا خلاف بين الحكماء والأنبياء وبين أرسطو ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وحاول أن يثبت أن لا خلاف بين الفلسفة اليونانية، وبين عقائد الشريعة الإسلامية، وعنده أنّ الفلسفة والدين أمران متفقان، لأنّ كلا منهما حق، والحق لا يخالف الحق.(2)
__________
(1) - العقل الفعال:هو الوحي كما يتصوره الفلاسفة، وسيأتي توضيحه في مبحث كلام الله عند السلف.
(2) - انظر التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية:د.عبد الرحمن بدوى ص 80 -.78 تاريخ الفلسفة العربية :حنا الفاخوري وخليل الجسر ص .106(1/217)
وكذلك آمن الفارابي بوحدة الحقيقة مما حدا به إلى التوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو كخطوة أولى في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل، على أساس أنّ كلا من النبي والفيلسوف يستمد الحقيقة من العقل الفعال واهب الصور، وأنّ الاختلاف بينهما إ نّما هو اختلاف في طريقة الوصول، وكيفية عرض هذه الحقائق؛ ذلك أنّ النّبي بحكم ما عنده من قوة المخيلة يتصل اتصالاً مباشراً بالعقل الفعال؛ فتفيض عليه الصور والحقائق بدون عناء، وتعرض هذه الحقائق في قالب مبسط ومشخص ً تقريبا للأذهان؛ لأنها موجهة إلى عامة الناس وجمهورهم في حين أن الفيلسوف بحكم ما عنده من القوة العاقلة، وبتدخل من العقل الفعال يدرك الحقائق في صورها. لذلك نجد عند الفارابي"أن النبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع، والحقيقة النبوية و الحقيقة الفلسفية هما على السواء نتيجة من نتائج الوحي، وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان".(1)
بل يذهب الفارابي إلى أبعد من ذلك حين يقدر أن موضوعات الدين وموضوعات الفلسفة واحدة، يقول في كتابه )تحصيل السعادة )فالملة محاكية للفلسفة...وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلاهما تعطي المبادئ القصوى للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان، وهي السعادة القصوى، والغاية القصوى، وكل ما بين الدين والفلسفة من فرق عند الفارابي هو أن الفلسفة تعطينا الأدلة والبراهين العقلية والدين يعطينا الأدلة والبراهين الإقناعية.(2)
__________
(1) - في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه: د.إبراهيم مدكور.96 /1
(2) - كتاب تحصيل السعادة: الفارابي ص 41 -40 ، طبعة مصرية .(1/218)
مما سبق يتبين أنّ الفارابي يرى أنّ الدين والفلسفة يرميان إلى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق، وعمل الخير وأن موضوعاتهما واحدة، والمعارف كلها صادرة عن واجب الوجود بواسطة العقل الفعال وحياً كانت تلك المعرفة أم غير وحي، فلا فرق بين الفلسفة والدين من جهة غايتهما، ولا من جهة مصادرهما.
3 - ابن سينا: الفيلسوف ابن سينا:هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ينتمي إلى الطائفة الإسماعيلية ذكر يحي بن أحمد الكاشي قول ابن سينا عن نفسه فقال:" وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانوا ربّما تذاكروا ذلك وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي وابتدءوا يدعونني إليه".(1) كان ابن سينا عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام،ولد ابن سينا في قرية (أفشنة) الفارسية في صفر من سنة 370 هـ. ثم انتقل به أهله إلى بخارى، وفيها تعمّق في العلوم المتنوعة من فقه وفلسفة وطب، وبقي في تلك المدينة حتى بلوغه العشرين. ثم انتقل إلى خوارزم، حيث مكث نحواً من عشر سنوات(392-402 هـ)، ومنها إلى جرجان، فإلى الرّي. وبعد ذلك رحل إلى همذان وبقي فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في خدمة علاء الدولة بأصفهان. وهكذا أمضى حياته متنقلاً حتى وفاته في همذان، في شهر شعبان سنة 428هـ.
__________
(1) - في رسالته: نكت في أحوال الشيخ الرئيس ابن سينا، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، منشورات المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة 1952م ص10.(1/219)
ومن أساتذته: أبو بكر أحمد بن محمد البرقي الخوارزمي، وقد تلقى على يديه علوم اللغة، ودرس الفقه على يد أستاذه إسماعيل الزاهد، وعلوم الفلسفة والمنطق على أبي عبد الله الناتلي، وتتلمذ ابن سينا على كتب الفيلسوف أبي نصر الفارابي، وكتب الفيلسوف اليوناني أرسطو.
أمّا مؤلفاته فكثيرة، ومنها: 1- الشفاء في أربعة أقسام هي: المنطق، الرياضيات، الطبيعيات، الإلهيات. 2- النجاة 3- الإشارات والتنبيهات. 4- القانون في الطب. 4-منطق المشرفين. 5- رسالة في ماهية العشق. 6- أسباب حدوث الحروف.
7- مجموعة من الرسائل منها: رسالة في الحدود، رسالة في أقسام العلوم العقلية، رسالة في إثبات النبوات. 8- رسالة حي بن يقظان. 9-رسالة أضحوية في أمر المعاد.
وقد كفّر جمع من أهل العلم ابن سينا، بل حكم عليه بعضهم بالزندقة والإلحاد، ومن هؤلاء: أبو حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لقوله بعدة عقائد فاسدة منها: قدم العالم، وعدم علم الله تعالى بالجزئيات، وإنكاره البعث الجسماني.(1)
__________
(1) - انظر ترجمته: عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة، مكتبة الحياة- بيروت- 1965م ص437-459، تاريخ الحكماء: ابن القفطي، طبعة ليبزج، ألمانيا 1903م ص وما بعدها 413، ظهير الدين البيهقي: تاريخ حكماء الإسلام، تحقيق محمد كرد علي، المجمع العلمي العربي- دمشق- مطبعة الترقي 1946م ص52-72.(1/220)
وأمّا أصل فلسفته: فيقول ابن تيمية: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنّما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي، الذي كان هو أهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطون الكفر المحض".)(1) ويقول: "وابن سينا لمّا عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقّاه عن الملاحدة، وعمّن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء، وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركّب من كلام سلفه ومما أحدثه، مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات... فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح،حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض".)(2)
ويقول عبد الرحمن بن خلدون:" ثمّ كان بعده- أرسطو- في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين.. تصفّحها كثير من أهل الملة)الإسلام) وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم:أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا".)(3)
__________
(1) - الرد على المنطقيين: أحمد ابن تيمية، إدارة ترجمان السنة-لاهور، باكستان- 1396ه-1976م، ص141-142 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم، مكتبة النهضة الحديثة- مكة 9/133.
(2) - الردّ على المنطقيين ص144-145.
(3) - مقدمة ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي_ بيروت- ص515.(1/221)
يرى ابن سينا ما رآه أستاذه الفارابي من قبل من أنّ الفلسفة متآخية مع الدين ومؤدية إلى ما يؤدي إليه، فنجده في مجموع رسائله)في الحكمة والطبيعيات).( (1) يقول:"ومبادئ هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة ".وفي رسالته )في أقسام العلوم العقلية ) بعد أن تكلم عن أقسام الحكمة يقول:" فقد دللت على أقسام الحكمة )أي الفلسفة )، وظهر أنه ليس شيء منها يشتمل على ما يخالف الشرع، فإنّ الذين يدعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع إنّما يضلون من تلقاء أنفسهم، ومن عجزهم وتقصيرهم، لا أنّ الصناعة نفسها توجبه فإنّها بريئة منهم.( (2)
4 ـ ابن رشد:
هو محمدُ بن أحمدَ بن محمد القرطبي، يعرف بالحفيد تميزاً عن جدِّه الفقيه الذي يحمل اللقبَ َ ذاتهُ. ولد بقرطبةَ سنة 520 هجريَّة) 1126 ميلاديَّة )ونشأ بها ودرس الفقهَ والأصولَ وعلمَ الكلامِ، وكان ينشد التوفيق بين الفلسفة والدين، وعُنِىَ بكلامِ أرسطو وترجمه إلى العربيَّة وزاد عليه .كان طبيباً وفيلسوفاً يميل إلى علوم الفلاسفة فكانت له الإمامةُ.يقال عنه أنه ما ترك الاشتغال بالعلم سوى ليلتين: ليلة موتِ أبيه وليلة عرسِه.تُوفى بمراكش سنة 595 هجريَّة 1198 ميلاديَّة.)(3)
__________
(1) - ص 3 طبع هندية بمصر، سنة1908 م
(2) - تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات ص .118
(3) - انظر حياته وثقافته: النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد:د.عاطف العراقي، الطبعة الخامسة، ومقدمة الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد: للدكتور محمود قاسم.(1/222)
لقد استفاد ابن رشد من محاولة الفلسفة الذين سبقوه في التوفيق بين الفلسفة والدين أمثال ابن سينا والفارابي وابن طفيل، وكان توفيق ابن رشد يقصد به البرهنة على أنّ طبيعة الدين تتلاءم مع طبيعة الفلسفة، ومعنى ذلك أنه كان يهدف إلى إظهار العلاقة القوية بين الدين والفلسفة، أو الحكمة والشريعة-على حد تعبيره- وقد خصص لهذه الغاية كتابيه ) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال )و)الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) ذلك بالإضافة إلى معالجاته لهذا الموضوع في كتابه )تهافت التهافت) في مناسبات مختلفة ومواضع متعددة.فابتداءً انّه يقرّ بكون الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، ً معترفا بأنّها قد تدرك ما تبحث عنه، وقد لا تدركه، الأمر الذي يعول فيه على الشرع.)(1)
وقد صنّف ً كتابا لموضوع التوفيق )فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ص )2 ومما قال فيه: "الفلسفة والمنطق والشريعة، هل أوجب الشرع الفلسفة؟ فإنّ الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب ".ويرى ابن رشد أنّ العلاقة بين الدين والفلسفة نابعة من الشرع ذاته، حيث يرى أنّ الشرع قد حث على دراسة الفلسفة، عن طريق دعوته إلى النظر العقلي في الموجودات، وأنّ النظر الصحيح لا يمكن أن يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع، بل يقطع بذلك قطعاً.
__________
(1) - انظر تهافت التهافت، طبعة بيروت ص .503(1/223)
يقول ابن رشد :"إذا كانت هذه الشريعة حقاً وداعيةً إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحقّ، فإنّا معشر المسلمين نعلم على القطع أ نّه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنّ الحقّ لا يضاد الحقّ بل يوافقه ويشهد له .. وإنّ النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأنّ من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية -فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله و باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة".(1) وقال أيضا:"إنّ الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة فالإذاية ممن ينسب إليها أشدّ الإذاية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة".(2) والحق أنّ ابن رشد أخذ يوافق بين الفلسفة والنصوص الشرعية، بضروب شتى من التأويل المتكلف. ومن المعلوم أنّ موقفه من الفلسفة ومحاولته التوفيق بينها وبين الشريعة الإسلامية قد سببت له ً كثيرا من المتاعب والمحن.
هل يمكن التوفيق بين الفلسفة والإسلام؟
__________
(1) - فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ص 32 -31
(2) - المرجع السابق ص .67(1/224)
يعتبر التوفيق بين الفلسفة اليونانية من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى ً تعبيرا قوياً عن قبول فلاسفة الإسلام للفلسفة اليونانية وإيمانهم بها، فمحاولة الفلاسفة الإسلاميين دفع التعارض بين الدين والفلسفة يدلّ على تمسّ كهم بالفلسفة تم سكاً يزيد عن تمسكهم بالإسلام، وعن قوة منزلتها في نفوسهم، ولو لم يكونوا من المؤمنين بها لضحّوا بالرأي الفلسفي الذي يتعارض مع مبادئ الإسلام، ولم يلجئوا إلى ردم الهوة السحيقة بينهما، ومحاولة التوفيق بين الحق والباطل، على حساب الدين وتحريف نصوصه الشرعية.)(1) إنّ المحاولة الفكرية التي قام بها الفلاسفة الإسلاميون من أجل التوفيق بين قضايا العقيدة الإسلامي ة والفكر اليوناني الذي انتهى إليهم كانت محاولة تنمّ عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف العقيدة الإسلامية ومنابعها الأصيلة ". فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثني مشحون بالأساطير، فلقد استمدت جذورها من الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية والأسطورية قط، فكان من السذاجة والعبث محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس التوحيد المطلق العميق التجريد.)(2) ولذلك فإنّ هذه الفلسفة صارت لا تع بّر عن فلسفة إسلامية حقة )(3).ذلك أنّ التراث الفكري المتمثل فيما كتبه الفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم، قليل الصلة بالإسلام كعقيدة وتصوّر روحي له خصائصه ومميزاته، إذ على الرغم من كل الجهود التوفيقية التي بذلها هؤلاء المتفلسفة من أجل تقريب الفلسفة اليونانية، أو الشرقية التي آمنوا بها واستسلموا لقيادها، تلك الجهود التي تمثل
__________
(1) - الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي د.محمد البهي ص.207
(2) - خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: سيد قطب ص.21
(3) - الفلسفة الإسلامية ونقد - دراسة :– د .عرفان عبد الحميد ص .26(1/225)
عنصر الطرافة والجدة في التراث الفلسفي نقول:رغم تلك الجهود بقيت هذه الفلسفة غريبة عن التصور الإسلامي، بعيدة عن هذا الدين، رغم ما اتشحت به من رداء مستورد، لقد نظر هؤلاء إلى الإسلام من خلال الفلسفة اليونانية، كما يقول المفكر الهندي محمد إقبال:" ولو أنهم عكسوا الآية لانتهت جهودهم بفكر أفضل وتراث أقرب إلى روح الإسلام وعقيدته في الوجود والإنسان".)(1) ) يقول الدكتور راجح الكردي في كتابه )نظرية المعرفة بين القرآن والسنة ):" إنّ قضية التوفيق في حد ذاتها قضية لا يحتملها الدين، وليست من منهجه ، لأنّه جاء ومهمته الأساسية تغيير كل التصورات والعقائد البشرية التي شكلها الناس بمنهج العقل والتقليد والهوى، بعيداً عن دائرة الدين . فلا يمكن أن يجعل الدين الحق في خليط من عقائده الربانية والفلسفة البشرية، لأنّ حقائق الدين هي الحقائق البديلة فهي الحق وغيرها الباطل، والحق أحق أن يتبع . ولا يفهم من هذا أن حقائق الدين تتعارض معها العقول، ولكن العقل السليم إنما هو مخلوق لله، وقد جعل الله في منهجه ما يستطيع هذا العقل أن يفهمه ويتجاوب معه ويسلم بوجوده من خلال قوانين العقل في عالم الشهادة .وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه، لأنّ العقل والدين كلاهما من الله سبحانه وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأنّ العقل والدين كلاهما من الله سبحانه. وإذا كان الإسلام ناسخاً للديانات السابقة، وهي في أصلها من عند الله أفلا ينسخ الفلسفات البشرية التي شكلتها مدارس بعيدة عن هدى الله ومنهجه ". ويقول الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه ) فقه الفلسفة - الفلسفة والترجمة )إذا بطل أن يكون التوفيق بين الفلسفة والشريعة الذي جاء به الفلاسفة)المتأغرقون)تجديدا مقبولا في الفلسفة كما هو مقبول ذلكم التجديد الذي أتى به بعض علماء المسلمين بشأنه، وجب إذن أن يكون تلفيقا ً مردودا أو ً ابتداعا مذموماً، وبيان ذلك من الوجوه
__________
(1) - المصدر السابق ص.32(1/226)
الآتية:-
أ -إنّ حفظ الفلسفة على مقتضاها اليوناني، مجتمعا إلى حفظ الشريعة على مقتضاها الإسلامي، هو كالجمع بين نقيضين كلاهما جلي وحقيقي، إذ ما يثبت في حق الأولى، ينتفي عن الثانية، والعكس بالعكس، ولا أدلّ على ذلك من تمسك الأولى بالانفصال عن المعرفة التي لا تستند إلى "العقل النظري "، وتشبث الثانية بالاتصال بالمعرفة المستندة إلى"العقل الديني " كما يتجلى في نصوص الوحي، فلا يكون الجمع بينهما من الوصل في شيء، إذ هو أشبه ما يكون بحشد لمتباينات يحتفظ كل منها باستقلاله، ولا يَقوى على الارتباط مع غيره في الحشد الذي دخل فيه.
ب -إنّ محاولة توفيق الفلسفة اليونانية مع الشريعة الإسلامية، هو كالجمع بين نقيضين أحدهما جلي، والآخر خفي؛ إذ تَلبَس فيه بعض معاني وأحكام الشريعة رداء المقولات والتصديقات الفلسفية اليونانية الوثنية.
ج -إنّ حفظ الفلسفة على مقتضى اليونان، مجتمعا إلى تأويل الشريعة على هذا المقتضى، هو كالجمع بين نقيضين أحدهما حقيقي والآخر مجازي، إذ تصير المعاني والأحكام الشرعية التي يكون ظاهرها ً مخالفا للمقتضى اليوناني مجرد مجازات أو مثالات
ينبغي صرفها إلى معان غير المعاني الموضوعة إزاء ألفاظها، وهذا الصرف المجازي لا يمكن قبوله .مع العلم بأنّ ما يتعبد به أهل الشريعة هو الظاهر، وليس هذا البديل بوجهه المجازي، وبما أنّ ظاهر الفلسفة وظاهر الشريعة متناقضان، فحمل الشريعة على المجاز يوجب أن تكون معانيها المجازية عند هؤلاء نقائض لمعانيها الحقيقية، حتى تحصل موافقتها للمعاني الحقيقية للفلسفة.)(1)
أسباب اهتمام المسلمين بالفلسفة اليونانية وتأثرهم بها:-
__________
(1) - فقه الفلسفة -الفلسفة والترجمة) مبحث وجوه التلفيق في الجمع بين الفلسفة والشريعة (:د.طه عبد الرحمن، انظر موقع الموسوعة الإسلامية على ) الإنترنت ((1/227)
الأول: دخول الفلسفة اليونانية عن طريق الروايات التي نسبت كذباً وزوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دخلت هذه الفلسفة –بالروايات -عن طريق المسلمين الذين كانوا من أهل الكتاب، ومن تأثر بهم من المسلمين؛ فمن هذه الفلسفة التي شكلت بعد ذلك عقائد عند المسلمين، ولدخول المرويات اليهودية والنصرانية-وهي نسخة من الفلسفة اليونانية .
الثاني: المكائد المدبرة للمسلمين من قبل أهل الكتاب لنسف عائد الإسلام وتمرير عقائدهم المحرفة المنسوخة من فلسفة اليونان والإغريق، بمعنى أنّ هناك كيد من قبل أهل الكتاب لتمرير عقائدهم، وهذا واضح من الاستقراء التاريخي، ويؤيده قوله جل وعلا:)كُلَّمَا ْ أَوْقَدُوا ً نَارا لِّلحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفسدين )المائدة .64
الثالث: الانبهار بما عند أهل الكتاب: قد انبهر المسلمون بما عند أهل الكتاب منذ فترة متقدمة جداً، وقد لمع هذا الانبهار في فترة جمع الروايات، مما دخل الكم الهائل منها في كتب السنة عند المسلمين.
الرابع: محاولة الدفاع عن عقائد المسلمين ضد العقائد الوافدة سواء مباشرة من خلال أطروحات اليهود والنصارى العقائدية، أو من خلال الروايات المدسوسة، ولمّا كانت في حقيقتها هي صدى للفلسفة اليونانية لزم أن يستخدم نفس المنهج في الردّ عليهم، إلا أنّ هذا العمل كرّس في الوقت نفسه الانبهار والتأثر بالفلسفة اليونانية إلى حد الأخذ بكثير من مفاسدها وضلالاتها.
المبحث الرابع:موقف أئمة وعلماء الإسلام من الفلسفة:(1/228)
إنّه من خلال الترجمة والنقل من اللاّتينية والهندية والصينية والفارسية، عرف علماء الإسلام الفلسفة، وشكّل دخول الفلسفة اليونانية إلى الفكر الإسلامي، حدثاً فكرياً هائلا، جُوبِهَ بردود فعل متفاوتة من علماء المسلمين. لأنّ تلك الفلسفة حملت آراء ونظريات متعارضة مع الفكر الإسلامي، لاسيّما في مجال العقيدة، مع أنّها رفدت الفكر الإسلامي بمنهج جديد حول طرق الاستدلال والبرهان.
ولقد هاجم علماء وأئمة الإسلام الفلسفة اليونانية كما هاجموا ما يسمى بالفلسفة الإسلامية، وذهبوا إلى تحريم الاشتغال بها وتعلمها وتعليمها، وحكموا بضلال أو بكفر وإلحاد رؤسائها أمثال: الفارابي وابن سينا، ومن سلك نهجهم. ومن هؤلاء العلماء: الإمام الشافعي، وأبو حامد الغزالي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن تيمي ة، وتلميذه ابن القيم، والذهبي والإمام النووي، والسيوطي، وعبد الرحمن بن خلدون وغيرهم كثير.ونذكر هنا نماذج من تلك المواقف.
1- يقول الإمام الشافعي: ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب إلى لسان أرسطاطاليس.)(1)
2 - وقال الإمام الذهبي:"ذم علماء السلف النظر في علم الأوائل فإن علم الكلام مولد من علم الحكماء الدهرية فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام وبين علم الفلاسفة بذكائه لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا ولم يتحذلق ولا عمق فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا فقد سلك طريق السلف الصالح وسلم له دينه ويقينه نسأل الله السلامة في الدين.)(2)
__________
(1) - صون المنطق والكلم عن فن المنطق والكلام:جلال الدين السيوطي، تعليق د .علي سامي النشار، دار الكتب العربية، بيروت ص .15
(2) - لسان الميزان في نقد الذهبي الرجال.242 /4(1/229)
3 - أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي:ألّف الغزالي كتابين في مهاجمة الفلسفة والفلاسفة،وهما ) مقاصد الفلاسفة،وتهافت الفلاسفة )، أبان في"مقاصد الفلاسفة" آراءهم وكلامهم، وقد حكى الغزالي قصة هذا الكتاب في مقدمته،حيث يقول:"أما بعد فإنّي التمست كلاماً شافياً في الكشف عن تهافت الفلاسفة، وتناقض آرائهم، ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذهبهم وإعلامك معتقده...من غير تطويل بذكر ما يجري الحشو والزوائد الخارجة عن المقاص...وأورده على سبيل الاقتصاص والحكاية، مقروناً بما اعتقدوه أدلة لهم، ومقصود الكتاب حكاية مقاصد الفلاسفة" )(1).ثمّ يذكر الغزالي أوجه الانحراف والزلل والمخالفة من الفلاسفة للدين فيقول:"إنّ مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة من ها، وتبعيدهم في سبعة عشر، ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتاب التهافت.)(2) حيث يرى الغزالي في)تهافت الفلاسفة) أنّ الفلسفة ابتعدت كثيرا عن حقيقة النص الشرعي، فوقع الفلاسفة الإسلاميون في مغالطات جوهرية لعقائد الإسلام، وأخذ أبو حامد الغزالي يتتبع هذه المغالطات ويرد عليها واحدة واحدة، بداية قدم العالم وحقيقة الألوهية، وعلم الله تعالى، وانتهاء بالنفس الإنسانية، والبعث وحشر الأجساد.
أما المسائل الثلاث التي خالفوا فيها كافة المسلمين وهي:-
أ- إن الأجساد لا تحشر، وإنما الثواب والعقاب يكون فقط الأرواح المجردة من
الجسمية، فالثواب والعقاب إذن روحاني لاجسماني.
ب- إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات.
ج-القول بقدم العالم ووجوده مع الباري أزلاً.
__________
(1) - مقاصد الفلاسفة للغزالي -المقدمة - تحقيق سليمان دنيا، المنقذ من الضلال للغزالي- تحقيق د .جميل صليبا ود .كامل عياد، طبعة1410 هـ، ص.95- 94
(2) - المنقذ من الضلال للغزالي ص .106(1/230)
4- ابن الصلاح الشهر زوري تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن577) هـ، 1181 م-643 هـ، 1245 م )ذهب رحمه الله إلى أنّ: الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال،ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليماً ً وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان، وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال به مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة والمجتهدين والسلف الصالح، والواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء الفلاسفة، ويخرجهم من المدارس، ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام.)(1)
__________
(1) - فتاي ورسائل ابن الصلاح، تحقيق:د.عبد المعطي أمين قلعجي، دار المعرفة- بيروت - ط1406 هـ1/ 209-211، ونقلها الذهبي في سير أعلام النبلاء.143 /23(1/231)
5- الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ: كشف ابن الجوزي عن تلبيس عدو الله إبليس عل ى الفلاسفة من جهة أنّهم انفردوا بآرائهم ومعقولاتهم، وتكلموا بمقتضى الظنون من غير التفا ت إلى ما جاء به الأنبياء. يقول في كتابه)تلبيس إبليس):"وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملّتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم، فأراهم أنّ الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة". وذهب ابن الجوزي إلى أنّ اليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلّت عليها المعجزات، والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر في الأدلة، وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأنّ الفلاسفة كانوا حكماء أتراهم ما علموا أنّ الأنبياء كانوا حكماء وزيادة " ويبين ابن الجوزي ما يؤدي إليه مذهب الفلاسفة من ضلال فيقول:"وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير فلا هم يعملون بمقتضاه، ولا بمقتضى الإسلام، بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي، ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق، وعلى النبوات، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد".)(1)
6 -وذهب الإمام النووي: إلى تكفير الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وإنكارهم صفات الباري عز وجل )(2).
7- الإمام ابن تيمية)(3)
__________
(1) - تلبيس إبليس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1368 هـ، ص51.
(2) - انظر الروضة للنووي.64 /10
(3) - ابن تيمية:هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني الدمشقي الحنبلي،
المعروف بابن تيمية.ولد في ربيع الأول سنة 661 هـ، وتوفي وهو سجين في قلعة دمشق سنة 728 هـ، امتحن وأوذي مرات عديدة، له إلمام تام بالفقه والحديث والتاريخ، والملل والنحل والأصول والكلام، له تصانيف كثيرة نافعة، من كبار أئمة السلف، انظر ترجمته:البداية والنهاية 139 -135 /14 ، شذرات الذهب6/ .86 -80(1/232)
يعد ابن تيمية من أكثر العلماء نكيراً على الفلاسفة، وقد بدا هذا واضحاً في مؤلفاته، ولا سيما: الردّ على المنطقيين، ونصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، وكتاب نقض المنطق " وقد اتجه في هذه المؤلفات كلها إلى تحريم لاشتغال بالفلسفة والمنطق، بل حكم على الفارابي وابن سينا بالكفر والزندقة والإلحاد، ويسميهم ملحدة الفلاسفة لاعتقاداتهم الدخيلة على الإسلام، ومنها: زعمهم بأنّ العقول العشرة قديمة أزلية، وأن العقل رب كل ما سوى الرب، وأن العقل الفعال مبدع لما تحت فلك القمر، وقد ذكر هذا الاعتقاد عنهم ثم قال:" وهذا أيضاً كفر لم يصل إليه أحد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب.)(1) ومنها: قولهم بأنّ الله لا يعلم الجزئيات، ومنها إنكارهم البعث والحشر الجسماني. ومنها:قولهم بقدم العالم، وإنكار صفات الرب وأسمائه ووصفه بالنقائض. وعن ابن سينا يقول ابن تيمية: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد، والشرائع، ولم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي".)(2) ) الذي كان هو وأهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض، وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتباً كباراً وصغاراً.)(3)
__________
(1) - الرد على المنطقيين ص.102
(2) - الحاكم العبيدي:منصور بن نزار بن معد، أبو علي، الملقب بالحاكم بأمر الله 410- 375). هـ (، باطني خبيث، ادعى الألوهية وهو الإله عند الطائفة الدرزية.انظر: ترجمته الأعلام.619 /2
(3) - الرد على المنطقيين ص.142 -141(1/233)
ويضيف:"إنّ ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته- أباه وأخاه- كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنّه يسمعهم يذكرون العقل والنفس".)(1)
وأيضاً: "وابن سينا لما عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركب من كلام سلفه ومما أحدثه..وابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح، حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض".)(2)
-8 وقد سلك ابن قيم الجوزية سلك مسلك أستاذه ابن تيمية في عدائه للفلسفة، وتحريم الاشتغال بها، والحكم على أساطينها بالضلال والإلحاد، وخاصة الفارابي وابن سينا.
فعن الفارابي يقول ابن القيم:"ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق، وبسطها وشرح فلسفة أرسطو وهذبها، وبالغ في ذلك، وكان على طريقة سلفه:من الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر".)(3) وعن ابن سينا يقول:" إنّ ابن سينا من ملاحدة الفلاسفة المنتسبين إلى الملل".)(4) "كان ابن سينا، كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى".)(5). وابن سينا قرّب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قرّبه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم".)(6)
__________
(1) - المصدر السابق ص.143
(2) - المصدر السابق ص 145-144.
(3) - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان- دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1407 هـ.. 1987،279 / 2.
(4) - انظر:المصدر السابق .286 / 2
(5) - المصدر السابق نفسه.
(6) - المصدر السابق .280 / 2(1/234)
ووصم ابن القيم الفلاسفة الإسلاميين بالكفر، ونسبهم إلى الزندقة والإلحاد..فقال ولعلّ الجاهل يقول: إنّا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله...وليس هذا من جهله بمقالات القوم، وجهله بحقائق الإسلام ببعيد )(1).
9- ابن خلدون: تحدث رحمه الله عن أتباع أرسطو من الفلاسفة الإسلاميين فقال:"ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها راية حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أنّ كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذهبهم من أضله الله تعالى من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها، واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا".)(2). ويضيف:" وضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها وذلك أنّ قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أنّ الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها، وعلل بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنّها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة".)(3)
__________
(1) - المصدر السابق .279 / 2
(2) - مقدمة ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي، بيروت ص .515 /1
(3) - المصدر السابق .415 /1(1/235)
10-الحافظ ابن كثير:"أبو نصر الفارابي التركي الفيلسوف وكان من أعلم الناس بالموسيقى بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم وكان حاذقاً في الفلسفة ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجسماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنه ربّ العالمين..ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته".)(1)
11- قال أبو عبد الله الذهبي: كان ابن سينا آية في الذكاء، وهو رأس الفلاسفة الإسلاميين الذين مشوا خلف العقول، وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم.)(2) وقال في شأن الفارابي: "له تصانيف مشهورة من ابتغى الهدى منها ضلّ وحار، منها تخرج ابن سينا، نسأل الله التوفيق".)(3) وقال :من ابتغى الهدى فكتب الفلاسفة أمثال الفارابي أضله الله تعالى".)(4)
المبحث الخامس:أسباب رفض المسلمين الفلسفة اليونانية:
قد يظنّ أنّ المسلمين رفضوا الفلسفة اليونانية لمجرد اشتغال الأمم الكافرة بها وهذا ظنّ خاطئ لأنّه يستلزم أن يرفض المسلمون كل ما أتى من غيرهم من علوم صحيحة كالطب والحساب والهندسة ونحوها.وإنّما رفض المسلمون الفلسفة اليونانية لأسباب شرعية وعقلية، نذكر منها:-
أولا:الأسباب الشرعية لرفض الفلسفة اليونانية)(5)
__________
(1) - البداية والنهاية .24 /11
(2) - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة : جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي ص 73
(3) - سير أعلام النبلاء .416 /15
(4) - العبر في خبر من غبر .257 /2
(5) - استفدت في كتابة هذا المبحث من كتاب:منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد:لأخينا الفاضل الدكتور عثمان بن علي بن حسن، مكتبة الرشد، الرياض بالسعودية، الطبعة الأولى 1412 ه. 1992 م، .617 -611 /2(1/236)
1- إنّه لم يؤثر عن الصحابة والتابعين الاشتغال بالفلسفة، ثم إنّ الشريعة الإسلامية ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلاً،)(1) وإن كانت طريقاً صحيحاً، فكيف إذا كانت فاسدة أو متضمنة للفساد، بل متضمنة الكفر والإلحاد .
2- إنّ الفلسفة نشأت في بيئة وثنية، كان أصحابها أهل شرك وإلحاد، بل ما عند مشرك ي العرب من الكفر والشرك خير مما عند الفلاسفة )(2) .قال ابن تيمية في الفلاسفة: "وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس، ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة". )(3)ولهذا كان أبو القاسم السهيلي وغيره يقول:" نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي".)(4)
3- قصور البرهان الفلسفي عن الوصول بالإنسان إلى اليقين، وذلك عند تطبيقه في الإلهيات، يقول الغزالي:"لهم نوع من الظلم في هذا العلم، وهو أ نّهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل".)(5)
4- لقد سببت الفلسفة اليونانية التفرق والاختلاف والتنابذ، وما زال أهلها والمشتغلون بها على هذه الحال، بل لا تكاد تجد اثنين منهم يتفقان على مسألة، حتى في البديهيات أو اليقينيات )(6). وقد صدق الملك النصراني على قبرص -زمن الدولة العباسية لمّا طلب من العباسي المأمون كتب الفلاسفة -عندما قال: فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلاّ أفسدتها، وأوقعت بين علمائها.)(7)
__________
(1) - انظر:الرد على المنطقيين ص .258
(2) - انظر:الرد على المنطقيين ص 101 ، 535 وما بعدها.
(3) - الرد على المنطقيين ص .200
(4) - الرد على المنطقيين ص 482.
(5) -المنقذ من الضلال ص .93
(6) - انظر الرد على المنطقيين ص 334 وما بعدها .
(7) - صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت ص .9(1/237)
5- يلزم عن الاشتغال بالفلسفة عدة لوازم فاسدة، تناقض العلم والإيمان، وتفضي إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال.)(1) ومن ذلك:-
أ -القول بقدم العالم، وذلك لأن الإله لا يسبق العالم في الوجود الزمني، وإن كان يسبقه في الوجود الفكري، مثلما تسبق المقدمة النتيجة في الوجود الفكري)(2)وهذا مما أنكره الغزالي على الفلاسفة وكفرهم به في كتابه: تهافت الفلاسفة.)(3)
ب- إنكار هم الصفات الثبوتية لله تعالى، بل يصفونه بالسلوب المحض، أو بما لا يتضمن إلا السلب، ولهذا قالوا:الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، لأنّه لو صدر عنه اثنان لكان ذلك ً مخالفا للوحدة، وبهذا نفوا أن يكون الله فاعلاً مختاراً فنفوا الصفات عن الله تعالى هروباً من تشبيهه بالنفوس الفلكية أو الإنسانية، ثم شبهوه بالجمادات.)(4)
ج - إنكار علم الله تعالى بالجزئيات، وهذا هو المشهور عنهم، وهو مما أنكره عليهم العلماء، ومنهم الغزالي في بعض كتبه.)(5) وذلك لأنّ هذه الجزئيات في تغير، فلو تعلق علم الله تعالى بها للزمه التغير بتغير المعلوم، فيلزم من ذلك التغير في ذات الله تعالى، وهو الواحد الأحد.)(6) وهذا تكذيب للقرآن الكريم و لصريح العقل، وفيه فتح لباب الزندقة،والخروج على الشريعة جملة وتفصيلاً، وأعظم منه إساءة الظن برب العالمين .ومن المعلوم أن من يعتقد عدم علم الله بالجزيئات فقد أضاف إلى إليه تعالى معرفة ناقصة بالعالم، وأبطل عنايته وتدبيره بأفراد المخلوقات والموجودات.
__________
(1) -انظر الرد على المنطقيين ص .198
(2) - انظر الغزو الفكري في المناهج الدراسية:للأستاذ علي لبن ص –32 دار الوفاء الطبعة الأولى.
(3) - انظر ص 88 وما بعدها تحقيق د .سليمان دنيا، دار المعارف -الطبعة الرابعة-1966 م-1385هـ.
(4) - انظر الرد على المنطقيين ص 214 وما بعدها.
(5) - تهافت الفلاسفة ص 506 ، فيصل التفرقة للغزالي ص 192.
(6) -انظر موقف ابن سينا من صفة العلم في هذا الكتاب.(1/238)
د- إنكار الوحي والنبوة ومعجزات الأنبياء:لمّا رأى الفلاسفة اشتراك النفوس في كثير من الأحوال عادة، جعلوا ذلك أمراً عاماً وكلياً وملزماً لكل النفوس، ورأوا لبعض النفوس قوة حدسية، وتأثيراً في بعض الأمور، وأموراً متخيلة، فلما بلغهم من أمر الأنبياء كالمعجزات ونزول الوحي ورؤية الملائكة وغير ذلك، جعلوا ما يحدث للأنبياء على نحو ما يكون لتلك النفوس، فليست النبوة هبة الله، ومنته على بعض عباده، بل هي أمر مكتسب تستعد له النفوس بأنواع الرياضات، والمجاهدة.)(1)
هـ- إنكارهم عالم الغيب مثل: الحشر والنشر، والصراط والميزان، والجنة وما فيها من نعيم مقيم، والنّار وما فيها من عذاب وشقاء مقيم، حيث يعدونها رموزا وأخيلة، بغرض تفهيم العوام وتقريب الأمر الروحي إلى الأذهان بضرب الأمثلة من المحسوسات.
ثانيا:الأسباب العقلية لرفض الفلسفة اليونانية:
1- الفلسفة اليونانية تجريدية، لا صلة لها بالواقع، فهي تبحث في عالم الكليات، وهذا العالم ليس له وجود في الخارج، بل وجوده في الذهن، فالفلسفة تتجاهل البحث في الجزئيات والأعيان المشخصة )(2).
__________
(1) - الرد على المنطقيين ص 277 ،-.302-301 ، 475، 474.
(2) -انظر مقدمة ابن خلدون ص 484 -483، والمنطق الحديث لمحمود قاسم ص .8(1/239)
2- أننا نرى ً كثيرا من العلوم - كالهندسة والطب والفلك - تتقدم تقـ دماً ً كبيرا دون أن يكون كبار الباحثين فيها ممن تخرجوا على الفلسفة اليونانية،)(1) يقول ابن تيمية :" إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم وصار ً إماما فيه بفضل الفلسفة، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة الفلسفة، وقد صنف في الإسلام علوم النحو والعروض والفقه وأصوله وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى الفلسفة، بل عامتهم كانوا قبل أن تُعرَف الفلسفة اليونانية.)(2) وإخفاق الفلسفة راجع لجهلهم بالدين والوحي الإلهي الذي يمدنا بحقائق عالم الغيب التي تريح العقل عنت ومؤنة تكلف البحث فيها، وتبعده عن الخرافات والأساطير.
3- إنّ هذه الفلسفة كان لها أكبر الأثر في تخلف اليونان عن ركب المدنية، حيث انزوت بالفكر والجهود العلمية نحو عالم الميتافيزيقا-عالم ما وراء الطبيعة -معرضةً عن الحياة المدنية، والعلوم التطبيقية الواقعية. يقول الأستاذ علي أبو لبن:"يكاد يتفق مؤرخو الفلسفة على أن العلم لم ينهض في مطلع العصر الأوربي الحديث إلا بعد الثورة المزدوجة على السلطة العلمية ممثلة في المنطق الأرسطي، والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة".)(3)
__________
(1) - المنطق الحديث لمحمود قاسم ص5، .6
(2) - نقض المنطق ص 168.
(3) - الغزو الفكري ص 42 ، وانظر :منهج البحث لعلي النشار ص .90(1/240)
4- طرق هؤلاء الفلاسفة فيها فساد كثير من جهة المقاصد والوسائل:أمّا المقاصد:فإنّ الحاصل منها بعد التعب والمشقة خير قليل، فهي "كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل".)(1) "وأما الوسائل: فطريقها كثير المقدمات، طويلة المسالك، يتكلفون فيها العبارات البعيدة والطرق الوعرة، وليس فيها من فائدة سوى تضييع الأزمان وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان".)(2)
الفصل الأول
منهج الفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى
المبحث الأول:تصور الفلاسفة للوجود
إنّ الدارس لمؤلفات الفارابي وابن سينا يلحظ بكل وضوح أنّ هذين الفيلسوفين من أصحاب مذهب ثنائية الوجود، فكلاهما نظر إلى الوجود نظرة واحدة. ونعني بمذهب ثنائية الوجود أن أصحاب هذا المذهب يعتمدون على النظر العقلي المنطقي في تقسيم الوجود إلى نوعين اثنين: واجب الوجود، وممكن الوجود.)(3)
__________
(1) - قطعة من حديث أم زرع، في صحيح مسلم 896 /4 كتاب فضائل الصحابة- باب ذكر حديث أم زرع-حديث رقم.2448
(2) - انظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 22 /2 ، والرد على المنطقيين ص .31
(3) - انظر الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي د.محمد البهي، ص 382 ، 456 ، فلاسفة الإسلام د .فتح الله خليف ص 47 ، 48 ، المنهج النقدي في فلسفة ابن رشد للدكتور محمد عاطف العراقي، ص 207 ،الفلسفة الإسلامية في المشرق للدكتور فيصل بدير عون ص 239 - 238 ، 318 ، .319(1/241)
وواجب الوجود عند أصحاب هذا المذهب ينقسم بدوره إلى ضربين اثنين:الواجب بغيره، والواجب بذاته، والملاحظ أنّ كتابات ابن سينا أكثر توضيحاً وبسطاً لفكرة الوجود هذه من كتابات الفارابي التي جاءت موجزة مجملة .وننقل من نصوص مؤلفاتهما ما يوضح تصورهما للوجود. يقول الفارابي:"إنّ الموجودات على ضربين، أحدهما: إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده، ويسمى ممكن الوجود .والثاني:إذا اعتبر ذاته وجب وجوده، ويسمى واجب الوجود. وإذا كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم منه محال، ولا غنى بوجوده عن علة، وإذا وجب صار واجب الوجود بغيره. فيلزم من هذا أ نّه كان مما لم يزل ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بغيره" )(1).
ويقول ابن سينا:"إنّ واجب الوجود هو الموجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال، وإنّ ممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود أو موجود لم يعرض منه محال. والواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه، أي لا في وجوده ولا عدمه".)(2) لقد وضح من خلال ما نقلناه عن الفارابي وابن سينا أنهما ينظران إلى الوجود نظرة ثنائية، كما أشرنا من قبل.وقلنا:إنهما قسما الوجود إلى ضربين اثنين: واجب الوجود، وممكن الوجود. وإنهما قسما الواجب الوجود نفسه إلى نوعين، أحدهما: الواجب بذاته، وثانيهما الواجب بغيره . وإذا أردنا أن نعرف ما المراد عندهما من كل قسم، فلابد من العودة إلى النصوص السابقة التي نقلناها عن الفارابي وابن سينا، وكذلك إلى نصوص أخرى وردت في مؤلفاتهما.
__________
(1) - عيون المسائل للفارابي ص 4 ، وانظر :نصاً ً قريبا منه في" رسالة زينون" للفارابي أيضاً ص .4 -3
(2) - النجاة لابن سينا ط 1331 هـ ص 366.(1/242)
1- فالواجب بذاته : المراد به ماله الوجود من ذاته لا من غيره، ووجوده مخالف لوجود غيره، وهو واحد، وهو واجب الوجود لذاته، وهو عند الفارابي وابن سينا: الله عز وجل . يقول ابن سينا:" ونحن نعرف في الأول أنه واجب الوجود بذاته، معرفة أولية من غير اكتساب، فإنا نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن، ثمّ نعرف أنّ واجب الوجود بذاته يجب أن يكون واحداً حتى يكون نوع وجوده مخالفا لنوع وجود آخر، ونعرف وحدانيته بواسطة لازم يلزمه، ألا وهو أنه واجب الوجود".)(1)
2- أما الواجب بغيره : فهو الممكن إذا فرض موجوداً باقترانه بشرط علته، فوجوبه إذاً من
غيره لا من ذاته، وإلا صار واجب الوجود لذاته.)(2)
3- وأما الممكن الوجود: فهو كما عرفه الفارابي الماهية المعلولة، والماهية المعلولة هي ما:
"لا يمتنع في ذاتها وجودها، وإلا لم توجد، ولا يجب وجودها بذاتها، وإلا لم تكن معلولة.
فهي في حد ذاتها ممكنة الوجود، وتجب بشرط مبدئها، وتمتنع بشرط لا مبدئها، فهي في حد
ذاتها هالكة، ومن الجهة المنسوبة إلى مبدئها واجبة ضرورة".)(3)
ويعرّفه ابن سينا فيقول: كلّ ما يكون لوجوده سبب فهو ممكن الوجود. والممكن الوجود، هو أن يكون جائزاً أن يكون وأن لا يكون.فأمّا وجوده بعد العدم فهو ضروري. فإنّه ليس بجائز وجوده إلا بعد العدم".)(4) "والممكن الوجود هو الواجب بغيره، إذا وجب وجوده، وهو في نفس الوقت الممكن الوجود بذاته، ولكن باعتبار ذاته لم يجب وجوده".)(5) وهو عند الفلاسفة الإسلاميين الضروري القديم الأزلي.)(6)
المناقشة: -
__________
(1) - التعليقات لابن سينا، ص .35
(2) - انظر:النجاة، ص - 366 ط 1331 هـ، الإشارات والتنبيهات 19 / 3 ، .20
(3) - مجموعة رسائل الفارابي - فصوص الحكم -ص .3
(4) - التعليقات ص .36
(5) - انظر:عيون المسائل ص 4 ، الإشارات والتنبيهات .20 /3
(6) - يلاحظ القارئ أن في تعريفات الفلاسفة ً تناقضا واضطراباً، وهذا ما سيظهر بوضوح عند المناقشة.(1/243)
إنّ تقسيم الوجود إلى الواجب والممكن كما ذهب إليه الفارابي وابن سينا وأتباعهما من الفلاسفة الإسلاميين هو تقسيم مبتدع في الفلسفة، إذ لم يعرفه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه. حيث يرى ابن رشد ومعه ابن تيمية أنّ أ وّل من نقله إلى الفلسفة إنّما هو ابن سينا الذي ركّب كلامه من كلام المتكلمين، وخاصة المعتزلة، وكلام سلفه من الفلاسفة.)(1) ولكن يمكننا القول إنّ الفارابي أستاذ ابن سينا ذهب إلى هذا التقسيم كما رأينا من خلال النصوص التي نقلناها عنه، والفارابي كما هو معلوم أسبق ً زمانا من ابن سينا، و لعلّ شهرة التلميذ طغت على شهرة أستاذه، بالإضافة إلى أنّ ابن سينا كان أكثر ً بيانا ً وتفصيلا ً وبسطا من الفارابي في هذا الجانب، لعل هذا هو ما دفع ابن رشد وابن تيمية إلى أن يقولا إنّ ابن سينا أول من أحدث هذا التقسيم في الفلسفة.
__________
(1) - انظر:تهافت التهافت 444 /2 ، 445 ، مجموع الفتاوى 49 /1 ، .168 /13(1/244)
ويرى ابن تيمية أنّ غرض ابن سينا من هذا التقسيم القول بأنّ الفلك ممكن الوجود مع قدمه، وهو بذلك مخالف لعامة الفلاسفة، كما هو مناقض لنفسه، إذ ذكر في كتابه:المنطق).)(1) أنّ الممكن لا يكون إلا حادثاً، وهذا موافق لما ذ كره أرسطو وأتباعه من أنّ الممكن لا يكون موجوداً، و إن ّما يمكن وجوده وعدمه، وما يمكن وجوده وعدمه فهو حادث.)(2) ويلزم من قول ابن سينا:"بأنّ الممكن هو الموجود القديم الأزلي" أن لا يكون للحوادث فاعل، وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعل.)(3) وأيضا لا يمكن لهذا الممكن الذي يزعمونه أن يقبل العدم بحال فلا يكون ممكناً، لأن الممكن لا يكون ممكنا إن لم يكن ً معدوما في الماضي أو المستقبل.)(4) وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وهذا يعقل فيما يكون معدوماً، ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فيستمر عدمه، وما لم يزل ً موجودا بغيره لا يمكن أن يقال فيه:إنّه ممكن الوجود والعدم، ولا يقال فيه :إنه يقبل الوجود والعدم.)(5) وقد اعترض الفيلسوف ابن رشد على تفريق ابن سينا بين نوعين من الممكنات، وهو الممكن باعتبار ذاته، والممكن في ذاته، واعتبر هذا التفريق في غاية السقوط، لأن الممكن في ذاته وفي جوهره ليس يمكن أن يعود ضروريا من قبل فاعله، إلا إذا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري، وعلى هذا فإن كلام ابن سينا في الممكن مضطرب غاية الاضطراب.) )(6)
__________
(1) - انظر:تعريف ابن سينا للممكن في النجاة ص 19 ، الإشارات والتنبيهات 320 -317 /3 ، وأرسطو في منطق أرسطو .143 -142 /1
(2) - انظر: :مجموع الفتاوى 49 /1 ، 155 /12 ، 168 /13 ، درء تعارض العقل والنقل 130 /3 ، 140 ، 256 الرد على المنطقين ص .304
(3) - انظر: درء التعارض.191 -190 /6
(4) - انظر: نفس المصدر.355 /3
(5) - انظر: نفس المصدر ص.248
(6) - انظر: الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ص 58 ، ودرء التعارض .16 /9(1/245)
المبحث الثاني:أدلتهم في إثبات وجود الله تعالى
الدليل الأول:دليل الممكن والواجب:
أولاً:مكانة الدليل عند الفلاسفة الإسلاميين:
يزعم ابن سينا أن طريقته في الاستدلال على وجود الله هي الطريقة الأفضل، وهي طريقة الصديقين، وقد استشهد على صحة زعمه بالقرآن الكريم، وذلك من باب محاولته في التوفيق بين الفلسفة والدين، وهي المحاولة التي يقصد من ورائها التضليل باسم التوفيق.يقول ابن سينا في ذلك : "تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته، وبراءته عن الصفات، إلى تأمل لغير نفس الوجود ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً عليه .لكنّ هذا الباب أو ثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود، يشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود، وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الكريم )سنريهم آيَاتِنَا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنفسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) سورة فصلت 53 ، أقول :إن هذا حكم لقوم، ثم يقول:)أَوَلَمْ يَكف بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سورة فصلت: 53 أقول :إنّ هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه".)(1)
__________
(1) - الإشارات والتنبيهات.55 - 54 /3(1/246)
وأمّا بالنسبة لمصدر الدليل، فإنّ الفلسفة قبل الفارابي وابن سينا لم تعرف هذا الدليل، فالدليل أحدثه هذان الفيلسوفان، وقد أخذا أساس فكرته من الفكر المعتزلي، إذ أنّ المعتزلة قسمت الوجود إلى محدث وقديم، وبنوا على ذلك إثبات وجود الله تعالى، وركّب الفارابي وابن سينا طريقتهما من كلام الفلاسفة اليونانيين ومن طريقة المتكلمين.)(1) يقول ابن تيمية: "ولكنّ ابن سينا إنما أخذ هذه الطريقة التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام، وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية، ليصير كلامه في الإلهيات ً مقاربا لجنس كلام متكلمي الإسلام، وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية..)(2)" )(3).
ثالثا:عرض دليل الواجب والممكن:
عرفنا فيما سبق أن الفارابي وابن سينا يستدلان على وجود الله تعالى عن طريق الوجود نفسه، وعرفنا ً أيضا أنهما ينظران إلى الوجود ً نظرة واحدة، فالوجود إما ممكن وإما واجب، فإن كان واجبا فقد صح وجود الواجب الوجود، وهو الله تعالى الذي أبدع العالم، وهذا ما يرمي الفيلسوفان إلى إثباته، وإن كان ً ممكنا فإن الممكن لابد أن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود، وهو المطلوب )(4).
رابعا: مناقشة الدليل:
__________
(1) - انظر: تهافت التهافت ص 445 -444 ، مجموع الفتاوى49 /1 ، 168 /13 ، درء التعارض267 /3 ، 335 ،131 /8 ، 135 ، 169 ، الصفدية .19 /2
(2) - إخوانه الباطنية:هم الشيعة الإسماعيلية الذين يقولون:إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ولكل تنزيل تأويلاً.وقد أسس دعوة الباطنية بعض الملاحدة منهم عبد الله بن ميمون بن ديصان، ومحمد بن حسين الملقب بدنان، انظر:الفرق بين الفرق ص 22، الملل والنحل:ص.192
(3) - درء التعارض.132 -131 /8
(4) - انظر:النجاة لابن سينا ط 1331 هـ، ص.383(1/247)
تعرّض دليل الفلاسفة لمجموعة من الاعتراضات والانتقادات، ومن أشهر الذي ن اعترضوا عليه الغزالي، وابن رشد، والمكلاتي)(1) ، وابن تيمية، وعلاء الدين الطوسي)(2) وقد أبرز هؤلاء العلماء أوجه الضعف في الدليل، وبيّنوا عدم استطاعة الفلاسفة القائلين به إثبات وجود الله تعالى.
والدليل نفسه يحمل معول هدمه، لاحتوائه على المقدمات الباطلة، ومن المعلوم أنّ الدليل إذا اعتمد على مقدمات باطلة فإنّه لا ينتج الغرض المقصود منه، وأبرز هذه المقدمات الباطلة في هذا الدليل ذلك الممكن الذي انطلق الفلاسفة منه في بيان حاجته إلى العلّة، إذ جعلوه قديما أزلياً، وسوف يتضح فساد هذه المقدمة من خلال اعتراضات العلماء على الدليل نفسه. ونظرا لكثرة الاعتراضات فسنحاول التركيز على أقواها وأشهرها، و أمّا اعتراضات شيخ الإسلام ابن تيمية فسنجعلها وحدها، ذلك أنّ ابن تيمية يمثل موقف السلف من الفلاسفة الإسلاميين، فهو أشهر علماء السلف الذين تصدوا لباطل الفلاسفة فطمسوه، وكشفوا فساد عقائدهم، وزيف أفكارهم.
الموقف الإجمالي من الدليل:-
__________
(1) - المكلاتي هو: أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي، أصله من المغرب، ولقبه الأحدب مع أنه لم يكن أحدباً.ولد بمدينة فاس المغربية سنة 550 هـ تقريباً، وتوفي سنة 626 هـ، فيلسوف ومتكلم.انظر: مقدمة كتابه "لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول " لمحققه د .فوقيه حسين محمود.
(2) - علاء الدين الطوسي هو:علي بن محمد الطوسي التاركاني من أهل سمرقند، توفي سنة 887 هـ فيلسوف وفقيه حنفي، من مؤلفاته:الذخيرة للمحاكمة بين الغزالي والحكماء، حاشية على التلويح للتفتازاني.انظر:الفوائد البهية، ص 145 ، بدائع الزهور 146 /2 ، هدية العارفين 737 /1 ، الأعلام .162 /5(1/248)
1- إن هذا الدليل لا يستقيم للفلاسفة لكونه متناقضاً مع مذهبهم القائل بقدم العالم وأزليته، لأنّ القول بالقدم لا يجِّوز لأصحابه أن يثبتوا أن للعالم صانعاً، فإنّ من يجوز وجود وجودات متعاقبة إلى غير النهاية يلزمه تجويز عدم انتهائها إلى الواجب مع كون كل منها علة للآخر.)(1)
2- وتقسيم الفلاسفة الموجود إلى واجب الوجود من قبل غيره، وممكن من ذاته، ثم جعل الممكن قديما أزليا ليس بصحيح .بل كلامهم في هذا الممكن في غاية الاضطراب، ولا يمكن بحال إقامة الدليل على أقوال فاسدة، ومقدمات باطلة، أو إقامة الدليل الذي يشمل قضايا هي مجرد دعوى بلا برهان.)(2)
4- وعلى فرض أن الممكن قديم- كما ذهب إليه الفلاسفة - وكان محتاجا إلى ما يترجح به أحد طرفيه فلا شبهة في ذلك، ولكن الكلام في الفاعل المفيد للوجود مثلاً وفعل الوجود وإفادته، فهذا يقتضي وقتا يكون الوجود قبله غير حاصل، وهذا مما لا يمكن تصوره في القديم، فبطل الفرض على تقدير ما جاء في دليل الفلاسفة، فلا يستقيم إذا هذا الدليل بتلك لمقدمة الفاسدة.)(3)
__________
(1) - انظر :تهافت الفلاسفة ص 153 ، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول ص 161،163 .الذخيرة للمحاكمة بين الغزالي والحكماء ص .87
(2) - انظر :تهافت التهافت 449 /2 ، 451 ، مناهج الأدلة ص 146 ، لباب العقول ص .167
(3) - الذخيرة ص .87(1/249)
4- وأمّا إذا كان المراد من الممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، كما ذهب إليه ابن سينا، إذ الأفلاك الضرورية-عنده - واجبة الوجود، ويمتنع عدمها أزلاً وأبداً، وهي مع ذلك ممكنة أي معلولة، فهذا الممكن لا يمكن إثبات وجود الله تعالى عن طريقه.وأمّا إذا كان المراد من الممكن ما لا علة له، وهو الممكن الحقيقي الحادث، فإن هذه الممكنات يبطل تسلسل العلل فيها إلا ما لا نهاية.وعلى تقدير هذا الممكن يتم إثبات وجود واجب الوجود )(1).لكن مراد ابن سينا من الممكن ليس هذا، فبطل استدلاله بوجود واجب الوجود كما ذهب إليه.
5- وقد طعن أبو حامد الغزالي في طريقة الفلاسفة من وجهين استحسنهما شيخ الإسلام ابن
تيمية وهم:-
أ- أنّ غاية طريقة الفلاسفة إثبات موجود واجب، ولا يمكن نفي كونه ً جسما من الأجسام، إلا
بطريقتهم في التوحيد، ومضمون توحيد الفلاسفة نفي الصفات، ونفي الصفات مبني على نفي
التركيب، وهذا بَيِّن فساده.)(2) ويلزم الفلاسفة على مذهبهم أن تكون أجسام العالم قديمة، فلا
علة لها.
ب- أن طريقتهم مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها، ويلزمهم عدم قدرتهم إبطال
ذلك لقولهم بوجود حوادث لا نهاية لها.)(3)
يقول الغزالي:" إنّه من يجوز حوادث لا أول لها، وهي صور العناصر الأربعة، فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها، ويخرج من هذا أنّه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال".)(4)
-6 موقف ابن تيمية من دليل الواجب والممكن:
__________
(1) - تهافت التهافت .446 /2
(2) - انظر التوحيد عند الفلاسفة في القسم الثاني من هذا الكتاب .
(3) - انظر تهافت الفلاسفة ص 154 ، 157 ، درء التعارض 156 /8 ، .157
(4) - تهافت الفلاسفة :ص .157(1/250)
أ- إنّ تعيين القديم الواجب، ومعرفة الصانع تعالى أمر فطري ضروري، والطرق المؤدية إلى إثبات وجوده عز وجل كثيرة، ولكن شياطين الجن والإنس أفسدوا فطر بعض الناس، فعرض لهم ما أبعدهم عن هذه الفطرة، وعن التأمل في طرق وجوده تعالى، ولهذا قالت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لأقوامهم:)قَالَت رُسُلُهُم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) سورة إبراهيم .10 وطريقة ابن سينا وأتباعه ليست من هذه الطرق الفطرية الضرورية أو من الطرق العقلية فهي من الطرق الفاسدة التي لا تفيد علماً، وأصحاب الدليل لم يستطيعوا من خلالها إثبات واجب الوجود الذي أبدع العالم، وكل ما أثبتوه مجرد وجود واجب، وإذا فرض أنّهم يقدّرون إثبات واجب الوجود من خلال طريقتهم فإنّهم عاجزون لا محالة عن إثبات أنه مغاير للسماوات والأفلاك.
ب- ولمّا كانت طريقة الفلاسفة تثبت أنّ القديم واجب وممكن، فليس في هذا دليل على إثبات
الواجب الذي أتعبوا أنفسهم في الوصول إليه، فالممكن القديم الأزلي كما أثبتوه ممتنع في بديهة
العقل واتفاق العقلاء، ولا يعلم أنّه مفتقر إلى الفاعل وجمهور العقلاء يقولون: إنه يمتنع أن يكون لهذا الممكن فاعل، ولو قدر أنّ له فاعلاً، لكان هذا مما يعلم بنظر دقيق خفي. ودليل الفلاسفة هذا يؤدي إلى الشك في وجود الواجب لذاته، أو هو يؤدي إلى جحد الخالق. )(1)
__________
(1) - انظر درء التعارض 163 /3 ، 119 /9 ، الفتاوى .169 -168 /13(1/251)
... وإذا كان الدليل يثبت أن في الوجود وجود واجب وهذا مما يق رّه من جحد الخالق أمثال فرعون، والدهرية المحضة من الفلاسفة، والقرامطة ونحوهم، إذ يقول هؤلاء إن هذا الوجود واجب بنفسه لا بغيره )(1).ومن قال أنّ الوجود واحد أمثال ابن عربي )(2)، وابن سبعين، )(3)والقونوي )(4)، وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن، ولا إلى قديم ومحدث فقد وفى بموجب دليل الفلاسفة الذي أثبت وجود واجب لا غير.
__________
(1) - انظر شرح العقيدة الأصفهانية ص.15
(2) - ابن عربي:هو أبو بكر محي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي، يعرف بابن عربي، ملقب عند الصوفية بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، ولد سنة 560 هـ بمرسية بالأندلس وتوفي سنة 638 هـ بدمشق.صوفي مغالي، أول القائلين بوحدة الوجود.من مؤلفاته فصوص الحكم، الفتوحات المكية.انظر:ترجمته:شذرات الذهب 202 -190 /5 ، نفح الطيب 384 -361 /2 ، ميزان الاعتدال 660 -659 /3 ، سير أعلام النبلاء .231 /13
(3) - ابن سبعين:هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الأشبيلي المرسي القرمطي، معروف بابن سبعين، ولد سنة 613 هـ، توفي سنة 669 هـ من الصوفية المغالين القائلين بوحدة الوجود.من مؤلفاته:أسرار الحكمة المشرقية، الحروف الوضعية في الصور الفلكية، رسائل ابن سبعين الفلسفية مطبوع بتحقيق د.عبد الرحمن بدوي.انظر:ترجمته: وفيات الأعيان 274 /1 ، لسان الميزان 392 /3 ، نفح الطيب .406 -395 /2
(4) - القونوي:صدر الدين محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القونوي الرومي، كان شافعياً، صوفي من أصحاب ابن عربي ومن كبار تلاميذه.ولد سنة 573 هـ وتوفي سنة 672 هـ أو سنة 673 هـ له تصانيف في التفسير والحديث والفقه والتصوف.انظر مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة 2 /1 ? 211 /451 طبقات الشافعية للسبكي 45 /8 ، الوافي بالوفيات للصفدي 200 /2 ، الأعلام للزركلي .254 /6(1/252)
د- وقد رد ابن تيمية على الفلاسفة في زعمهم بأنّ الممكن قديم أزلي كما جاء في مقدمة دليلهم. فقال:إنّا نشاهد حدوث كثير من الموجودات، نشاهد حدوثها بعد أن لم تكن، وعدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجبا الوجود، ولا يكون ً قديما أزليا،)(1) فيكون الممكن الذي ابتدعه ابن سينا وأتباعه لا وجود له، ولا يقول بوجوده جمهور العقلاء .ثم إن تقسيم الممكن إلى ممكن حقيقي وهو الحادث، وإلى ممكن قديم معلول، ليس ً بينا بنفسه، ولا دليل عليه، بل الدليل على بطلان هذا التقسيم، وتصح قسمة الوجود إلى واجب وممكن، إذا كان معنى الممكن ما يقبل العدم، وهو الممكن الذي لابد له من واجب.)(2)
ويرى ابن تيمية أنّ الاستدلال بالممكن الذي يقبل العدم هو استدلال بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم، وهذا استدلال بالمحدثات على القديم، لا استدلالاً بالوجود من حيث هو وجود على وجود الواجب، كما ظنّ ابن سينا وأتباعه بأنّ الوجود من حيث هو وجود إذا دلّ على وجود الواجب لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجباً. ))(3)
__________
(1) - انظر :الفتاوى49 /1.
(2) - انظر درء التعارض 176 -174 /5 ، .120 /9
(3) - انظر نفس المصدر .121 -120 /9(1/253)
ويمكن لطريقة الفلاسفة أن تؤدي إلى إثبات وجود الله، لو أنّ أصحاب الدليل فسروا المم كن بالممكن الذي اتفق العقلاء على معناه، وهو ما يكون موجوداً تارة، وما يكون معدوماً ً تارة أخرى .لكن أن يذهب هؤلاء الفلاسفة إلى أنّ الممكن هو القديم الواجب بغيره والحادث المسبوق بالعدم، فلا يمكن لهم إثبات وجود واجب الوجود عن طريقه،)(1) كما لا يمكنهم إبطال مذ هب الفلاسفة الطبيعيين الذين يقولون: إنّ الفلك واجب الوجود بنفسه)(2) وأعظم خطأ وقع فيه هؤلاء الفلاسفة أنهم قالوا: إنّ وجود الممكن في الخارج زائد على ماهيته، و أمّا الواجب فوجوده في الخارج فهو عين ماهيته، وهم بذلك أثبتوا حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج، كما جعلوا الوجود الواجب ً وجودا ً مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود. )(3)
تعديل ابن تيمية طريقة الممكن والواجب عند الفلاسفة بأنواع أخرى من الطرق العقلية:-
يرى ابن تيمية أنّ طريقة الفلاسفة في إثبات وجود الله عز وجل يمكن سلوكها، ولكن بأنواع أخرى من الطرق العقلية الصحيحة الموافقة للفطرة، ومن هذه الطرق التي ذكرها:-
-1 إن ثبوت الموجود المفتقر المحدث أمر معلوم للعيان والحس، فإنّ الإنسان يشهد بعض
الموجودات توجد بعد العدم، وتعدم بعد الوجود، من الحيوانات والنباتات والمعادن وغيرها مما
هو موجود بين السماء والأرض، ً وأيضا يشاهد الإنسان حدوث الليل بعد النهار، وحدوث
النهار بعد الليل، وإذا علم وجود المحدث، علم ً ضروريا أن المحدث لابد له من المحدث، وإذا
كان المحدث لابد أن يكون ممكناً، فالممكن لابد له من واجب.
-2 إنّ الموجود ينقسم إلى مخلوق وإلى غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق لا يتصف
بصفات المخلوق، فثبت بذلك وجود الخالق.
__________
(1) - انظر نفس المصدر .267 /3
(2) - انظر نفس المصدر .156 /8
(3) - انظر الصفدية .120 /2(1/254)
-3 إنّ الموجود ينقسم إلى الغني عما سواه، والفقير المحتاج إلى غيره،وهذا الفقير لا يوجد بنفسه، إنما يوجد بالغني لافتقاره إليه، فثبت وجود الغني بنفسه وهو الله تبارك وتعالى. )(1)
الدليل الثاني:دليل الغائية والعناية:-
يقوم هذا الدليل على ملاحظة عناية الله تعالى بالكون، وما فيه من إحكام وإتقان واستبعاد أن يكون في الكون شيء قد تمّ بمحض الصدفة والاتفاق، وأنّ فكرة الغائية بارزة بوضوح في هذا العالم. فآثار حكمة الله الخالق وبديع صنعه وكمال إتقانه وإحكامه للخلق واضحة في الكون لكل متأمل ومتدبر .وقد سلك هذا الدليل في إثبات وجود الخالق عز وجل معظم الفلاسفة الإسلاميين، وإن تمايزت طريقتهم في الاستدلال به من حيث توضيح العناصر والأفكار الأساسية التي يقوم عليها، وأيضا من جهة الإشادة به وبيان قيمته بين غيره من الأدلة،فالكندي )(2)وابن رشد هما من أبرز هؤلاء الفلاسفة في الاحتفاء بهذا الدليل والاهتمام به. )(3) وأمّا أبو البركات البغدادي فنجده يسمي هذا الدليل بالحكمة العملية )(4)
__________
(1) - انظر:هذه الطرق وغيرها في درء التعارض:266 -265 /3 ، الصفدية .25 -19 /2
(2) - انظر الكندي ورسائله الفلسفية لمحمد عبد الهادي أبو ريدة ص 215 -214 ، 260 -259 ، 309 ، الفلسفة الإسلامية في المشرق لفيصل بدير عون ص 123 -122 ، والكندي هو :أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن الصباح بن عمران الكندي الكوفي، ولد سنة 186 هـ وتوفي سنة 255 هـ، يعرف بفيلسوف العرب والإسلام وهو عالم بالطب والفلسفة والمنطق وعلم الفلك والحساب والهندسة، تولى والده الإمارة للخليفتين العباسيين المهدي والرشيد .انظر :عيون الأنباء -ص 293 -285 ، طبقات الأطباء ص 74 -73 ، الفهرست لابن النديم261 -255 ، أخبار الحكماء للقفطي .378 -366
(3) - انظر مناهج الأدلة في عقائد الملة - ص 150 ، النزعة النقدية في فلسفة ابن رشد ص .273 -270
(4) - انظر المعتبر في الحكمة :136 -135 /3 ، المذهب الإشراقي بين الفلسفة والدين في التفكير الإسلامي للدكتور محمد جلال أبو الفتوح شرف ص .74 -73(1/255)
وأمّا ابن طفيل فإنّه يبرهن على وجود الله تعالى بعدد من الأدلة دون أن يحدد لها أسماء معينة، ودون أن يفصل بين دليل وآخر.)(1)
وقد لاحظ بعض الباحثين المحدثين )(2) اعتماد ابن طفيل على فكرتي الغائية والنظام كدليل على وجود الله عز وجل، ورسالة "حي بن يقظان " لابن طفيل تحتوي على كثير من النصوص التي تشهد بالاستنتاج الذي ذهب إليه هؤلاء الباحثين .
وإذا كان الكندي وابن رشد من أبرز الفلاسفة الإسلاميين في الاحتفاء بهذا الدليل كما أشرنا قبل قليل، فإنّا سنركز عليهما في بيان قيمة هذا الدليل وتقريره عند هؤلاء الفلاسفة.فأمّا الكندي فهو يردّد في معظم رسائله القول بعظم قدرة الله تعالى، وسعة حكمته، وكمال عنايته وإتقانه، وحسن تدبيره وتنظيمه، وأن الكون بما فيه من المخلوقات لأوضح الدلالة على هذا كله، وقد ظهر للعقل والحس أن هناك مدبراً عظيما وخالقا حكيما من وراء هذا التدبير والعناية والإتقان.ففي رسالة ) الإبانة عن العلّة الفاعلة القريبة للكون والفساد )(3) يشير الكندي إلى هذا الموضوع بقوله: إن الظاهرات للحواس -أظهر الله لك الخفيات-لأوضح الدلالة على تدبير مدبر أول .أعني مدبراً لكل مدبر، وفاعلاً لكل فاعل، ً ومكونا لكل مكون، وأَوّل لكل أَوَّل، وعلة لكل علة، لمن كانت حواسه الآلية موصولة بأضواء عقله، وكانت مطالبه وجدان الحق، وخواصه الحق، وغرضه الإسناد للحق واستنباطه والحكم عليه، والمزكي عنده في كل أمر من شجر بينه وبين نفسه العقل.
__________
(1) - انظر رسالة "حي بن يقظان "تقديم أحمد أمين ص 98 ، الميتافيزيقا في فلسفة ابن طفيل للدكتور محمد عاطف العرااقي ص 130 هامش نفس الصفحة .
(2) - الدكتور محمد عاطف العراقي، انظر كتابه السابق ص 140 -137 ، ود .محمد جلال أبو الفتوح شرف، انظر كتابه السابق ص .142
(3) -الكندي ورسائله الفلسفية ص .214(1/256)
ويقول أيضا:"فإنّ في نظم هذا العالم وترتيبه، وفعل بعضه في بعض، وانقياد بعضه لبعض، وتسخير بعضه لبعض، وإتقان هيئته على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد، وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل، لأعظم دلالة على أتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم، لأن هذه ً جميعا من المضاف." )(1)
وفي رسالة "ماهية النوم والرؤيا" )(2) يحدّثنا الكندي عن بديع النظام في حياة الحيوان فيقول:"فإن بارئ الكل جل ثناؤه صيَّر للحيوان ً زمانا للراحة، وعمل الآلات والقوى التي للغذاء النامي لجسم الحي".
وأمّا في رسالة) الإبانة عن سجود الجرم الأقصى) فإنا نجده يلفت الأنظار إلى عظيم قدرة الله تعالى وسعة جوده، وإتقان تدبيره، ويذكر ً عددا من المخلوقات التي تتجلى فيها عجائب قدرة الله تعالى الشاملة .)(3)
__________
(1) - المصدر السابق ص .215
(2) - المصدر السابق ص .309
(3) - انظر :المصدر السابق ص .260 -259(1/257)
وأمّا ابن رشد فإنّه يقيم دليل العناية على أصلين اثنين: أحدهما:أن جميع المخلوقات موافقة لوجود الإنسان، وثانيهما:أنّ هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ من المستحيل أن تحصل هذه الموافقة جزافا .)(1) ثمّ يضرب أم ثلة من المخلوقات التي جعلت موافقة لخلق الإنسان ووجوده، كالشمس والقمر، والليل والنهار والأرض والسماء، والفصول الأربعة، والأمطار والأنهار والبحار، وكذلك أعضاء بدن الإنسان خلقت موافقة لوجوده، وتظهر فيها العناية الإلهية .ويبين ابن رشد كيف خلقت بعض الموجودات موافقة لوجود الإنسان، فالشمس مثلاً لو كانت أعظم ً جرما مما هي عليه، أو أقرب مكانا لهلك النبات والحيوان، ولهلك الإنسان نفسه من شدة الحرارة، ولو كانت أصغر جرماً، أو أبعد مما هي عليه لهلك الحيوان والنبات، والإنسان نفسه من شدة البرودة .والقمر لو خلقه الله تعالى أعظم مما هو عليه أو أصغر، أو كان أبعد أو أقرب، أو لم يكن نوره مستفاداً من الشمس لما كان له هذا الفعل في حياة الإنسان . إنّ عناية الله تعالى تشمل المخلوقات جميعا )(2)، ويستشهد ابن رشد على ذلك بعدد من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى:)?أَلَمْ نجْعَلْ الَأرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) سورة النبأ.6: وقوله:)?تبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيراً) سورة الفرقان: 6 ، وقوله:?)فَلْيَنْظرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) سورة عبس )(3) .24
__________
(1) - انظر :مناهج الأدلة ص .150
(2) - انظر المصدر السابق ص 151 -150 ، تفسير ما بعد الطبيعة ص .171 -167
(3) - انظر مناهج الأدلة ص .152(1/258)
ونجد ابن رشد في أحد كتبه)(1) يجعل دليل العناية مسلكا للناس جميعا من العوام والعلماء، بينما نجده في كتاب آخر له)(2) يجعله مسلكاً خاصا للفلاسفة الحكماء. ولعلّ ابن رشد في كتابه الثاني كان متأثراً بنزعته الأرسطية، إذ أن أرسطو قد ذهب إلى اعتماد هذا المسلك، ولكن بنزعة فلسفية بحتة، وخاصة إذا ما علمنا أن هذا الكتاب هو تلخيص لكتاب أرسطو"تفسير ما بعد الطبيعة". وفي نظرنا أن ابن رشد عندما خص هذا المسلك بالفلاسفة إنما كان يقصد أن يجعل لأستاذه أرسطو مكانةً خاصة في سلوك هذا الدليل .
ولعلّ الفلاسفة الإسلاميين الذين اعتمدوا هذا الدليل في إثبات وجود الله عز وجل إنما أخذوه من الفلاسفة اليونانيين أمثال أفلاطون وتلميذه أرسطو، إذ اعتمده كليهما في إثبات وجود الصانع. فأفلاطون مثلاً يبين أن النظام في العالم لا يمكن أن يكون نتيجة للمصادفة، فالعالم من خلق مدبر رتَّب كل شيء عن قصد، وليس عن المصادفة والاتفاق كما أن فلاسفة العصر الوسيط اعتمدوا دليل الغائية والنظام في إثبات وجود الخالق .فأوغسطين)(3) مثلاً لديه مثل هذا الدليل.
وممن سبق الفلاسفة الإسلاميين في اعتماد مسلك الغائية والنظام المعتزلة والأشاعرة )(4) وغيرهم من علماء السلف.
__________
(1) - انظر المصدر السابق ص .153
(2) - تفسير ما بعد الطبيعة /1 ، وانظر :النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ص .270
(3) - أوغسطين :فيلسوف نصراني ولد من أب وثني وأم نصرانية، جمع بين الثقافة اليونانية والعقيدة النصرانية، توفي سنة 430 هـ، انظر :الموسوعة العربية الميسرة .266 /1
(4) - انظر النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ص .274(1/259)
ويرى أحد الباحثين المعاصرين)(1) أنّ ابن رشد قد تأثر في مسلكه هذا بالذين سبقوه ممن تحدثوا عن هذا الدليل في مؤلفاتهم، ويرى هذا الباحث أن ابن رشد قد ربط بين آرائه في ضرورة تلازم الأسباب بالمسببات وبين قوله بالغائية ً ربطا أدق من الذي نجده عند ممن سبقوه من الفلاسفة والمفكرين، وكذلك ربطه القول بالغائية والقول بالاختراع.)(2)
المناقشة:-
إنّ دليل الغائية والعناية من الأدلة القوية في إثبات وجود الخالق عز وجل. فالكون كما لاحظه أصحاب الدليل لم يخلقه الله تعالى مصادفة واتفاقاً، إن الله تعالى أودع الكون سننه التي يسير عليها، وجميع المخلوقات تسير وفق نظام متكامل لا مجال فيه للفوضى أو الاضطراب، ولا مجال فيه للعبث أو الاتفاق فالإتقان الكامل، والعناية الشاملة لكل الموجودات تشهدان أن لهذا الكون خالقا ومدبراً حكيماً، نَظَّم الكون وربط بين أجزائه المختلفة بحيث يكمل بعضها بعضا .وقَدَّر الخالق عز وجل كل شيء في هذا الكون تقديرا .
__________
(1) - الدكتور محمد عاطف العراقي في كتابه " النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد " ص 273 ، .277 -276
(2) - انظر: ربط ابن رشد بين دليلي العناية والاختراع في مناهج الأدلة، ص .135 -125(1/260)
وقد حفل القرآن الكريم بكثير من الآيات الكريمة التي تحدثت عن عناية الله عز وجل وإتقانه لهذا الكون الواسع، ومن هذه الآيات قوله تعالى:) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لعَلَّهُمْ يَهْتدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )?سورة الأنبياء: 33 -31 ، وقوله)والْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لكمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لسْتمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خزَائِنُهُ وَمَا نُنزله إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكمُوهُ وَمَا أَنْتمْ له بِخازِنِين )سورة الحجر :. )1)(1) .22 -19
__________
(1) - انظر :دعوة التوحيد في القرآن الكريم، للدكتور محمد أحمد ملكاوي، ص .148 -147(1/261)
وفي نظرنا أنّ دليل العناية والنظام هو الدليل الوحيد من أدلة الفلاسفة الإسلاميين الذي سلم من الانتقادات والاعتراضات، وذلك أنه من الأدلة الشرعية التي جاءت في القرآن الكريم .وهو الدليل القوي الذي يبطل مزاعم القائلين بالصدفة والاتفاق سواء كانوا من الملاحدة القدامى أم من المحدثين، وقد لاحظ الدكتور محمد عاطف العراقي مدى قوة الدليل في إبطال هذه المزاعم يقول :" ويجدر بنا القول بأنّ خير ما في هذا الدليل نقده لفكرة الإمكان والاتفاق، ورده كل شيء في الكون إلى أسبابه الضرورية المحددة، فما أبعد الفرق إذاً بين الركائز التي يستند إليها هذا الدليل، وبين مناداة المتكلمين بالجواز والإمكان، أو قول ابن سينا بأن وجود العالم ممكن.)(1)
ولعلّ مما يؤخذ على الفلاسفة الذين اعتمدوا هذا الدليل أنهم أثبتوا العناية والغائية بطريقة فلسفية، اللهم إلا ابن رشد الذي استشهد بالقرآن الكريم في إبراز عناية الله تعالى وبديع خلقه وترتيبه وإتقانه .وقد بين ابن رشد مدى أهمية هذا الدليل ومكانته بين أدلة الفلاسفة والمتكلمين، فهو عنده من الأدلة المضادة لاستدلال الأشعرية في إثبات وجود الله، وخاصة زعمهم بأن دلالة الموجودات على الله تعالى ليس من أجل حكمة فيها تقتضي العناية، ولكن من قبل ما يظهر في الموجودات أنه جائز في العقل أن يكون بهذه الصفة أو ضدها )(2).
ولقد لفت ابن رشد الأنظار إلى أنّ هذا الدليل من أدلة القرآن الكريم في إثبات وجود الله عز وجل، حتى إنه غالي فيه إذا جعل الأدلة القرآنية منحصرة في هذا الدليل بالإضافة إلى دليل الاختراع. )(3)
__________
(1) - في كتابه النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ص .273
(2) - انظر :مناهج الأدلة ص .199 -198
(3) - انظر :المصدر السابق ص .152(1/262)
وقد اعترض شيخ الإسلام ابن تيمية على مغالاة ابن رشد هذه بقوله:"إنّه لم يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فإن القرآن اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق، وأكمل الطرق". )(1)وفي اعتقادنا أنّ نقد ابن تيمية لابن رشد يعتبر نقداً قويا صائباً، فإنّ من تأمل القرآن الكريم وتدبر آياته الشريفة يجد فيها من الأدلة الكثيرة المتنوعة التي غابت عن ذهن ابن رشد، وليس من المعقول أن كتاب الله تعالى قد انحصر طرقه في الدلالة على وجود الخالق المدبر فيما ذكره ابن رشد .
ونوضح هذا الدليل بقولنا:-
1- إنّ دليل العناية من الأدلة الشرعية التي أشار إليها القرآن الكريم، وعناية الله وحكمته
ظاهرة في مخلوقاته، وليس من المعقول أن يخلق الله تعالى الكون وما فيه من المخلوقات دون
غايات أو حكم، قد يظهر الله عز وجل بعضها للناس لحكمة أيضا يريدها الله عز وجل.
والقائلون بهذا الدليل يعرفون الفرق بين صفات الإنسان المخلوق، وصفات الله الخالق، وإن
كنا لا نجاريهم في إطلاق لفظ الصانع على الله عز وجل، لأنّ الصناعة تختلف عن الخلق،
كما أننا ننزه الله تعالى عن كثير من الصفات التي لا تليق بجلالة وعظمته مما جاءت على
ألسنة كثير من الفلاسفة الإسلاميين. والنقد يمكن توجيهه لمصطلحات الفلاسفة ولأقوالهم
الفلسفية التي جاءت نتيجة تأثرهم بالفكر اليوناني الوثني .والدليل نفسه لا علاقة له بأفكار
هؤلاء الفلاسفة التي لا يقرهم الإسلام عليها .والفلاسفة المنتقدون يستخدمون من المصطلحات
والكلمات التي ننزه الخالق عز وجل عنها لأنهم أنفسهم بعيدون عن هدى القرآن الكريم الذي
جاء بصفات الكمال التي تجب لله عز وجل .
2- إنّ أيّ إنسان إذا تجرد عن أهوائه وأغراضه الشخصية واستخدم عقله في التدبر والتفكر
في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وتعرف على عجائب هذا الكون الشاسع أدرك لا
__________
(1) - درء تعارض العقل والنقل .333 /3(1/263)
محالة العناية الإلهية لهذا الكون، ولا مجال للقول بأن دليل الغائية دليل شخصي، فالقرآن
الكريم إنما يخاطب أصحاب العقول وأولي الألباب، ومعظم الناس يقرون بوجود الخالق
سبحانه وتعالى، و لكنّ الغبش والركام إنما في تصوراتهم، وما ينبغي له من الصفات، وما
يجب له من الإخلاص في الطاعة والعبودية.
الدليل الثالث:دليل الحركة:-
يقوم هذا الدليل على ضرورة الوصول من الحركة إلى المحرك الأول، إذ يرى أصحابه أنّ موجودات الكون متحركة، وأن النظر في الحركة الموجودة في الكون تؤدي إلى تصور المحرك المبدأ لهذه الحركة، لأنّ الموجودات من المستحيل أن تتحرك من ذاتها. فمثلاً المادة الموضوعة للنجار وهي الخشب، لا يمكن أن تحرك نفسها ما لم يحركها النجار، والأرض لا يمكن أن تخرج نباتها ما لم يحركها البذر. )(1) وإذا كانت الموجودات مفتقرة إلى شيء آخر يحركها، فإنّه لابد لها ما دامت متحركة إلى محرك يكون غيرها، ولا يمكن أن يتسلسل الأمر إلى غير نهاية، إذ لابد أن تنتهي المتحركات إلى المحرك الأول الذي لا يتحرك بأي نوع من أنواع الحركة، وهذا المحرك الأول هو مبدأ جميع الحركات. )(2)
__________
(1) - انظر تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد .1570 /3
(2) - انظر ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي ص .181 -180(1/264)
وقد أطلق البعض على هذا الدليل اسم)برهان القهر بالدوران)، إذ أنّ كلّ ما يرى بالعين مقهور بالدوران، وكذلك جميع الكواكب والأفلاك فهي مقهورة، ودائرة حول محاورها .قال تعالى:)?كلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) سورة الأنبياء 33 ، وكذلك المياه والنباتات والحيوانات فهي أيضا مقهورة، وكل مقهور مفتقر إلى القاهر، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله:)?وهُوَ ا لقاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )?سورة الأنعام )(1).18 وقد أخذ بدليل الحركة بعض الفلاسفة الإسلاميين أمثال ابن رشد، وابن طفيل، وابن مسكوية. )(2)
والحقيقة أنّ طريق الحركة في إثبات وجود الله تعالى ترجع إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو فهو أوّل من سلك هذا الطريق، و أمّا الفلاسفة الإسلاميون القائلون بهذا الدليل فهم عيال فيه على هذا الفيلسوف، حيث سلكوا نفس مسلكه، وجاء تقريرهم للدليل صورة مكررة إلى حد كبير فيما ذهب إليه أرسطو. )(3)
مناقشة الدليل:
__________
(1) - انظر دلائل التوحيد لمحمد جمال الدين القاسمي ص .44
(2) - انظر تهافت التهافت لابن رشد 640 /2 ، الميتافيزيقا في فلسفة بن طفيل، د .محمد عاطف العراقي ص135 ، الفوز الأصغر لابن مسكويه ص .23 – 22 وابن مسكوية :هو أحمد بن محمد بن يعقوب مسكوية، أبو علي، المعروف بابن مسكويه سكن أصفهان وتوفي بها سنة 421 هـ، مؤرخ وأديب وفيلسوف من مؤلفاته :تجارب الأمم وتعاقب الهمم، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، الفوز الأصغر، ترتيب السعادات، انظر ترجمته تاريخ الحكماء، ص 217 ، عيون الأنباء 331 ، الأعلام .205 -204 /1
(3) -انظر درء التعارض 221 /1 ، ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي ص 181 ، النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ص 283 ، 287 ، الميتافيزيقا في فلسفة ابن طفيل، ص .135(1/265)
يعدّ كلّ من ابن سينا وأبي البركات البغدادي من أبرز الفلاسفة الإسلاميين الذين وقفوا من دليل الحركة ً موقفا لا يخلو من الاستنكار والتهكم والنقد المرير، كما يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من أبرز علماء السنة والجماعة الذين وجهوا سهام النقد والتجريح لهذا الدليل .وإذا كان نقد الفلاسفة الإسلاميين لإخوانهم من الفلاسفة القائلين بهذا الدليل جاء بطريقة موجزة لا تفي بالغرض من حيث إسقاط الدليل وعدم اعتباره، خاصة وأن ابن سينا من القائلين بقدم العالم، والحركة عنده لا تتناهي، إذ هي قديمة لا بداية ولا أولية لها .فإنا نجد نقد ابن تيمية لدليل الحركة جاء بطريقة شمولية، حيث تتبع الدليل كلمة كلمة وعمل على إسقاطه كلية من خلال بيان ما يعتريه من أوجه الضعف والبطلان، وقد أسهب ابن تيمية في بيان هذا النقد وخاصة في كتابه الشامل) درء تعارض العقل والنقل).
ومن أبرز وجوه الضعف في الدليل كما لاحظه المنتقدون لهذا الدليل ما جاء فيه من أنّ الآمر بالحركة إنما أمره لها بمعنى كونه متشبها بها محبوبا لها، أي أن الآمر محبوب معشوق يتشبه به الفلك. فطبيعة الحركة لا تفسر أكثر من معنى العشق والشوق، وبهذا المعنى لم يستطع أصحاب الدليل إثبات المبدع المحدث للحركة. )(1)
__________
(1) - انظر المعتبر في الحكمة لأبي البركات البغدادي 132 /3 ، درء التعارض 139 /8 ، 217 ، الصفدية ص 86 - 85 ، وقد لاحظ ابن تيمية أن ابن سينا يشارك أرسطو وأتباعه في الزعم بأن الفلك إنما يتحرك للتشبه بالعلّة الآمرة بالحركة كما يتحرك العاشق للمعشوق .انظر: درء التعارض .127 /1(1/266)
ولقد أجمع المنتقدون لهذا الدليل على أنّ طريق الحركة في إثبات وجود الله تعالى غير مستقيم، وهو بين الفساد، بالإضافة إلى كونه طريق العاجزين. )(1)وقد أشار ابن سينا إلى قبح هذا الطريق الذي سلكه الفلاسفة بقوله:"قبيح أن يصار إلى الحقّ الأول من طريق الحركة، ومن طريق أنه مبدأ الحركة، وتكلف من هذا أن يُجعل مبدأ للذوات، فإنّ القوم لم يوردوا أكثر من إثبات أنه محرك، ليس أنه مبدأ للموجود .واعجزاه ! أن تكون الحركة هي السبيل إلى إثبات الأحد الحق الذي هو مبدأ كل موجود" )(2).
وفي بيان بطلان الدليل يقول ابن تيمية:" إنّ كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة، و أنّ الحركة عليه بل هو باطل". )(3)ويقول:"إثبات واجب الوجود بطريق الحركة، وأن الحركة لابد لها من محرك، والمحرك هو المحبوب الذي يجب التشبه به لا تحب ذاته، وأن المحرك لا يتحرك .هذا الكلام بين الفساد". )(4)
الدليل الرابع:دليل الاختراع:
__________
(1) - انظر الانتصاف لابن سينا ضمن كتاب ) أرسطو عند العرب (ص 23 ، المعتبر في الحكمة 132 /3 ، 133 ،درء التعارض 140 /8 ، 217 ، .220
(2) - كتاب الانتصاف ) ضمن كتاب أرسطو عند العرب (ص .23
(3) - درء التعارض .140 /8
(4) - المصدر السابق ص .220(1/267)
يعتمد هذا الدليل على توجيه الإنسان للتعرف على خالق الموجودات من خلال ملاحظة الكون وما فيه من الخلق، فالإنسان عندما يرى المخلوقات التي يزخر بها الكون الواسع لابد أن يصل إلى نتيجة مفادها أن هذه المخلوقات لابد لها من خالق خلقها، والإنسان يدرك بداهة أنه من المستحيل أن تكون هذه الموجودات قد وجدت من غير خالق خلقها وأوجدها على هذا النحو الذي هي عليه .وقد أخذ بدليل الاختراع الفيلسوف ابن رشد، ولم نرَ غيره من الفلاسفة الإسلاميين قد ذهب إلى اعتماده .وهو يرى أنه من الأدلة الشرعية التي نبّه عليها القرآن الكريم . وهذا الدليل. كما ذهب إليه ابن رشد يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجمادات، والإدراكات الحسية والعقل في الإنسان، وخلق السماوات والأرض وما بينهما من الإنسان والحيوان والنبات، ودلالة الاختراع تنبني -كما يرى ابن رشد - على أصلين موجودين في فطرة الإنسان وهما -:
-1 أن جميع الموجودات مخترعة .
-2 أن كل مخترع لابد من مخترع . )(1) وهذان الأصلان يدلان على أن الموجود لابد له من فاعل مخترع .
__________
(1) - انظر:الكشف عن مناهج الأدلة :ص .67 -66(1/268)
ويستدلّ ابن رشد بالقرآن الكريم على صحة هذا الدليل وهو هنا يستدلّ بالآيات التي أشارت إلى خلق الله عز وجل للإنسان والحيوان والنبات والسماوات والأرض، وكذلك الآيات التي تحث الإنسان إلى النظر فيما خلق الله تعالى .ومن هذه الآيات قوله تعالى:)فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، وقوله:)أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خلِقتْ )? سورة الغاشية :17 ، وقوله):?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاسْتمِعُوا لهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لنْ يَخلُقُوا ذ ُبَابًا وَلَوْ اجْتمَعُوا له) سورة الحج 73: ، وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام:)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) سورة الأنعام )(1).79ويرى ابن رشد أنّ الآيات القرآنية التي أشارت إلى أدلة وجود الله عز وجل منحصرة في دليل الاختراع هذا، ودليل العناية، ويرى أيضا أن هناك من الآيات التي تشير إلى دليل العناية وحده، وهناك ما يشير إلى دليل الاختراع وحده .وأن هناك من الآيات ما يشير إلى هذين الدليلين معا. )(2)
المناقشة-:
إنّ هذا الدليل من الأدلة التي أشار إليها القرآن الكريم كما ذكر ابن رشد، ولكنا نرى أن تسميته بدليل الخلق أولى وأجدر من تسميته بدليل الاختراع، خاصة وأن القرآن الكريم استعمل لفظة الخلق لا الاختراع، والآيات التي استشهد به ابن رشد كما يتبين للقارئ تشير إلى لفظة الخلق، والإنسان يصح أن نطلق عليه صفة الاختراع، أما صفة الخلق فمستحيلة في حقه، والبشر جميعا يقرون بذلك .فيقال فلان اخترع الشيء، أي الأمر الذي لم يعرفه الناس، كآلة، أو أداة، أو دواء ونحوه، ولا يقال خلقه، فالخلق يكون من العدم، وهو للخالق عز وجل لا للإنسان المخلوق .
__________
(1) - انظر المصدر السابق :ص .68
(2) - انظر المصدر السابق - ص 67 ، .69(1/269)
ولقد أقر المشركون بخلق الله تعالى للسماوات والأرض وخلق أنفسهم، أي هو يؤمنون بدليل الخلق من حيث دلالته على ربوبية الله عز وجل، و لكنّ إنكارهم إنّما كان لتوحيد الألوهية، وقد سجّ ل القرآن الكريم اعترافهم بوجود الله الخالق .قال تعالى):وَلَئِنْ سَأَلْت َهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُول ُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ) سورة العنكبوت: 61، وقال تعالى:)وَلَئِنْ سَأَلْت َهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُول ُنَّ اللَّهُ ق ُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكثرُهُمْ لَا يَعْقِل ُونَ )?سورة العنكبوت: .63وقال تعالى:)وَلَئِنْ سَأَلْت َهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولنَّ اللَّهُ) سورة لقمان.25
وقد ردّ ابن تيمية على ما ذهب إليه ابن رشد من أنّ بعض الآيات تشير إلى دل يل العناية فحسب، وبعضها يشير إلى دليل الاختراع وحده، قال ابن تيمية :"قوله إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع فيه نظر، فإنّه كلما دل على العناية دل على الاختراع". )(1)
وقد سبق في مناقشة دليل العناية عند ابن رشد ذكرنا رد ابن تيمية على ما زعمه ابن رشد من أن القرآن الكريم تنحصر أدلته في وجود الله عز وجل على دليلي العناية والاختراع.
الدليل الخامس:دليل استحالة كون العالم علة ذاته:
يقوم هذا الدليل على مبدأ عقلي وهو:عدم إمكان أن يكون الشيء الحادث علة ذاته، وتقريره، إما أن يكون العالم أحدث ذاته أو حدث من إحداث غيره وبدون أن يحدث هو بنفسه. ومن المعلوم بطلان أن يكون هو أحدث نفسه، وإلا كان علة لنفسه، وبذا يكون ً متقدما على نفسه، وهو محال، لأن العلّة تسبق المعلول. )(2)
__________
(1) - درء تعارض العقل والنقل.331 /3
(2) - انظر:دلائل التوحيد لمحمد جمال القاسمي ص .56(1/270)
وقد سلك هذا الدليل الفيلسوف أبو يوسف يعقوب الكندي )(1)، وقد برهن على صحة الدليل، وذلك بحصر الفروض والاحتمالات الممكنة في كون الشيء علة ذاته، ثمّ أبطل هذه الفروض ليخلص له في النهاية صحة الدليل وهو:استحالة كون الشيء علة نفسه.والاحتمالات التي حصرها الكندي هي:-
-1 إذا كان الشيء معدوماً، وذاته معدومة أيضاً، فمعنى ذلك لا علة ولا معلول، لأن العّلة والمعلول إنما يطلقان على شيء موجود لا معدوم. وحسب هذا الفرض لا يكون الشيء علة ذاته، لأن الشيء وذاته لا وجود لهما .
-2 إذا كان الشيء معدوما وذاته موجودة .فالشيء حسب هذا الفرض لا يكون علة ولا معلولاً لأنه معدوم غير موجود .فهو إذاً لا يكون علة ذاته، لأنه لو كان علة ذاته وهو معدوم لكان عين وجود ذاته، وفي نفس الوقت ً مغايرا لذاته، وهو محال .
-3 إذا كان الشيء موجوداً، وذاته معدومة، فحسب هذا الفرض لا يكون الشيء علة ذاته، لأن الذات هنا هي غيره لكونها معدومة، ويستحيل أن يكون الشيء علة لذات غير موجودة .
-4 إذا كان الشيء موجوداً، وذاته موجودة، هي هو علة ومعلول، والعلّة - كما هو معلوم -غير المعلول، فلا يكون الشيء علة لذاته، وإلا حصل التناقض. )(2)وإذا بطلت الاحتمالات الأربعة كلها ثبت إذاً أن الشيء علة لغيره، وأن هذا الغير هو الذي أوجده وأحدثه .فثبت وجود الله الخالق عز وجل.
__________
(1) - انظر الكندي ورسائله الفلسفية 124 -123 ، مقدمة الكتاب نفسه ص 78 -77 ، الفلسفة الإسلامية في المشرق، ص .125 -123
(2) - انظر الكندي ورسائله الفلسفية ص 124 -123 ، وقد لخّص المحقق الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة هذا الدليل في مقدمة الكتاب ص 79 ، وانظر: الفلسفة الإسلامية في المشرق للدكتور فيصل بدير عون ص -123(1/271)
وقد عقَّب الدكتور محمد أبو ريدة على دليل الكندي هذا بقوله:"إن استدلال الكندي يدور حول اعتبارات ذهنية لاحتمالات كلها باطلة، نظرا لفساد الفرض الأساسي الذي تتفرع عنه .والاستدلال يستند ً ضمنا إلى مبدأ العلّة الكافية التي لابد منها لتعليل كون الشيء هو ما هو عليه، وهو مبدأ يفضي العقل به، وهو مبني على مبدأين عقليين آخرين، أحدهما:مبدأ الذاتية، وهو:أن يكون وجود الشيء هو ذاته في الاعتبار العقلي .وثانيهما:مبدأ التناقض وهو : أنه لا يمكن أن يكون الشيء هو ذاته، وأن يكون في نفس الوقت غير ذاته، وهو ما سيكون لو أنه كان علة ذاته". )(1)
المناقشة:-
يعتبر هذا الدليل من الأدلة الصحيحة في إثبات وجود الله عز وجل .فإنّ العقل يقرر أنّ العالم الحادث مستحيل أن يحدث نفسه، لأنه لا يمكن أن يكون ً حادثا ً ومحدثا في نفس الوقت .فالمخلوق لا يخلق نفسه، ولا يخلق غيره، إذ هو بحاجة إلى من يوجده بعد أن لم يكن.
وممّا يلاحظ أن تقرير هذا الدليل كما هو عند الكندي فيه شيء من المشقة والعسر، لكون الكندي اعتمد على العقل وحده، مع لجوئه لاستخدام المصطلحات الفلسفية الغامضة التي يصعب فهمها على جمهور المسلمين .ومن هذه المصطلحات:الأيس وهو الوجود، والليس وهو العدم أو عدم الوجود .وكان بوسع الكندي أن يرجع إلى كتاب الله عز وجل في بيان هذا ?الدليل العقلي .فالقرآن الكريم أشار إلى عدم خلق الإنسان لنفسه أو غيره. يقول الله تعالى:)أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ) سورة الطور: 36 -35 ، إنّ الآية الأولى تضع الإنسان أمام أمور ثلاثة، الأول والثاني باطلان وهذه الأمور هي- :
-1 إما أنّ الناس قد خلقوا من غير شيء، فلا خالق لهم، أي وجدوا من غير موجد، وهذا باطل.
__________
(1) - المصدر السابق – بتصرف ص .79(1/272)
-2 أو أنهم الخالقون لأنفسهم، وهذا الأمر باطل أيضاً، لأنه لا يتصور في العقل أن يوجد الإنسان نفسه، أو أن يوجد الشيء ذاته .
-3 إذا بطل كون الإنسان ً خالقا لنفسه، أو كونه وجد من غير خالق، تعين أن هناك خالقا خلقه، وهو الله عز وجل. )(1)
الفصل الثاني
قدم العالم عند الفلاسفة
المبحث الأول:قول الفلاسفة بقدم العالم:
ذهب جمهور الفلاسفة الإسلاميين إلى القول بقدم العالم ووجوده أزلاً مع خالقه عز وجل، فلا بداية عندهم لوجوده، وإذا كان الله تعالى، ً أزليا ً قديما بحسب الزمان، فإنّ العالم وجد أزلاً مع الله تعالى، ولم يسبق العدم وجوده، وهو ليس بحادث في وقت ما، أي بحسب الزمان، وفكرة قدم العالم أخذها الفلاسفة الإسلاميون عن أساتذتهم من الفلاسفة اليونانيين، وخاصة أرسطو الذي يعد من أوائل القائلين بها، وتابعه عليها أمثال ثامسطيوس )(2)والإسكندر الإفريدوي )(3) وبرقلس).)(4)
__________
(1) - انظر :تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي
.196 -195 /7
(2) - ثامسطيوس :فيلسوف يوناني ولد سنة 317 م، وتوفي سنة 388 م، كان من شراح كتب أرسطو مع أنه من زعماء المدرسة الأفلاطونية الجديدة، عاش في القسطنطينية، أيد الإمبراطور جوليان في بعثه للوثنية .انظر ترجمته في:الفهرست لابن النديم، ص 366 ، تاريخ الحكماء لابن القفطي، ص 107 ، الملل والنحل، ص409 -408، ونشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي رسالة ضمن كتابه: أرسطو عند العرب ط .دار الفكر.
(3) - الإسكندر الأفريدوي:فيلسوف يوناني ولد في أفروديسيا من أعمال آسيا الوسطى، يعد من أعظم شراحفلسفة أرسطو، درس فلسفة أرسطو في أثينا ما بين عامي 211 -198 م .انظر ترجمته :عيون الأنبياء في طبقات الأطباء -ص 107 -106 ، الفهرست لابن النديم ص 253 -252 ، الملل والنحل ص 410 -409 ، نشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي رسالة ضمن كتابه )أرسطو عند العرب (.
(4) - برقلس :هو ديدوخس برقلس، فيلسوف يوناني من زعماء مدرسة الإسكندرية الفلسفية، ومن فلاسفة المدرسة الأفلاطونية الجديدة .ولد بالقسطنطينية سنة 412 م، وتوفي سنة 485 م وهو من أشهر فلاسفة عصره في القول بقدم العالم .انظر :ترجمته وآراءه :الفهرست، ص 353 ، الملل والنحل، ص 408 -404 ، ونشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي رسالة في قدم العالم – ضمن كتابه ) الأفلاطونية المحدثة عند العرب (.(1/273)
(1)
ولعلّ الذي دفع هؤلاء الفلاسفة إلى القول بقدم العالم هو ظنهم بأن ّهم ينزهون الله تعالى عن التعطيل إذ لم يستطيعوا أن يتصوروا وجود ذات واجبة الوجود معطّلة عن الفعل. و لكنّ ظنهم باطل وكذلك تصورهم، لأنّه يمكن إثبات ذات فاعلة وهو نقيض تصورهم. )(2) وفي ذلك تنزيه لله تعالى دون الوقوع في مخالفة خطيرة للنصوص الدينية، أو مناقضة للعقل الصريح . ومن أشهر الفلاسفة الإسلاميين القائلين بالقدم الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل والسهروردي المقتول .فالفارابي يبين في كثير من رسائله أن ما يوجد عن الله تعالى غير متأخر عنه بالزمان، وإنما يتأخر عنه بالذات والرتبة. يقول: "فلذلك صار وجود سائر ما يوجد عنه غير متأخر عنه بالزمان أصلاً، إنما يتأخر عنه سائر أنحاء التأخر". )(3) ويقول:"مثل إرادة الله وكون الشيء بالذات، فإنّهما يكونان ً معا لا يتأخر كون الشيء عن إرادة الله في الزمان، لكنه يتأخر حقيقة الذات، لأنك تقول أراد الله فكان الشيء، ولا تقول كان الشيء فأراد الله". )(4) ويبين الفارابي أن الله تعالى خلق العالم لكن لا في زمان، إذ لم يسبق العالم زمان لم يكن العالم فيه، وأن وجود العالم كان بعد وجود الله تعالى بالذات. )(5)
__________
(1) - انظر :الفتاوى لابن تيمية 539 /5 ، 143 /12 ، 351 /17 ، درء تعارض النقل لابن تيمية ً أيضا 167 /2 ، . 286 / 8
(2) - انظر الصفدية لابن تيمية .50 /1
(3) - رسالته السياسات المدنية - من المجموع ص .19
(4) - رسالته فصوص الحكم من المجموع - ص .21
(5) - انظر رسالته الدعاوى القلبية -من المجموع - ص .7(1/274)
وأمّا ابن سينا فهو يوضح فكرة القدم بأسلوب يقارب فيه أسلوب أستاذه الفارابي يقول:"العالم محدث الذات، قديم بحسب الزمان خلاف الملاحدة الذين زعموا أنه قديم الذات، وخلاف زعم المتكلمين وغيرهم من أنه محدث بحسب الزمان، فهؤلاء هم المعطلة، إذ جعلوا قبل العالم زماناً ممتدا لم يخلق الله فيه، ثم بعد انقضائه خلق العالم". . )(1) ويقول:" والله يتقدم على العالم بالذات والشرف والطبع والمعلولية لا بالزمان، فإنّه لم يبدع في زمان سابق، ولا يجوز أن يتأخر وجود العالم عن الله بالزمان". )(2) ويقول:" ولكل ممكن الوجود بذاته علة في وجوده أقدم منه، لأن كل علة أقدم من وجود الذات من المعلول، وإن لم يكن في الزمان..وأيضا فإنّ ما يجب بغيره فوجوده بالذات متأخر عن وجود ذلك الغير، ومتوقف عليه". )(3)
وأمّا ابن رشد فإنّه ينتقد المتكلمين القائلين بالحدوث، ويقف مع خصومهم الفلاسفة أصحاب القول بالقدم .وكتابه " تهافت التهافت " ألّفه في الرد على الغزالي الذي رد على الفلاسفة، وأبطل ً كثيرا من معتقداتهم ومنها عقيدة قدم العالم، وفي هذا الكتاب نجد ابن رشد ينتصر لمذهب الفلاسفة في القدم، ويحاول ً جاهدا إبطال رأي القائلين بالحدوث.
__________
(1) - الهداية ص .164
(2) - الإشارات والتنبيهات .225 /3
(3) - النجاة، ط 1331 هـ ص .370(1/275)
وقد لاحظ أحد الباحثين المعاصرين )(1)في تراث ابن رشد الفلسفي أنّ ابن رشد كان صريحا في القول بقدم العالم، ويبرِّر هذا الباحث رأيه بما لاحظه من موقف ابن رشد الهجومي من الغزالي الذي فنّد أدلة الفلاسفة القائلين بالقدم، بالإضافة إلى دفاع ابن رشد الشديد عن هؤلاء الفلاسفة. ويمكن أن يضاف إلى ذلك اجتهاده في تقرير أدلة الفلاسفة في القدم مع بسطها، وحل الإشكاليات عنها. )(2) وقد أدى به اجتهاده إلى القول الصريح بقدم العالم، وذلك عندما أنكر تقدم الخالق تعالى على العالم ً تقدما زمنياً، لأن المعلول لا يتأخر عن علته متى استوفت شروط العلّة )(3). وأيضا زعمه أن في القرآن الكريم ما يدل على أن وجود العالم والزمان مستمر من الطرفين غير منقطع، وأن قول المتكلمين بالحدوث ليس على ظاهر الشرع، بل هم متأولون، وليس في الشرع إن الله تعالى كان ً موجودا مع العدم المحض، ولا يوجد في هذا الموضوع نص واحد. )(4)
وقد قرّر شيخ الإسلام ابن تيمية أن ابن رشد من الفلاسفة القائلين بالقدم وابن تيمية معروف باطلاعه الواسع على التراث الذي تركه ابن رشد وغيره من الفلاسفة. )(5)
وأمّا السهروردي المقتول ف إنّا نجده يعلل رأيه في قدم العالم بقوله: إذا كان المرجح دائما لوجوب وجوده فيدوم الترجيح، فتكون الممكنات موجودة ً قديما بقدمه ويضرب مثالاً بالشمس فإن شعاعها دائم بدوامها..)(6)
__________
(1) - هو الدكتور محمد عاطف العراقي في كتابه ) النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد (ص 190 .137
(2) - انظر المنهج النقدي في فلسفة ابن رشد للدكتور محمد عاطف العراقي ص 5 وما بعدها .
(3) - انظر تهافت التهافت لابن رشد .141 /1
(4) - انظر فصل المقال لابن رشد ص 13 ، 14 ، ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي للدكتور عبد الفتاح أحمد فؤاد ص .198
(5) - انظر منهاج السنة النبوية 252 /1 ، درء تعارض العقل والنقل .267 /6
(6) - انظر:هياكل النور للسهروردي ص .67 -66(1/276)
وأمّا ابن طفيل فإنّه يتابع الفارابي وابن سينا في قولهما بالقدم، وهو يذكر أن العالم كله بما فيه من السماوات والأرض والأفلاك هو من خلق الله تعالى وفعله لكنه متأخر عنه لا بحسب الزمان.ويؤيد مذهبه بقوله:إذا أخذت في قبضتك جسما من الأجسام ثم حرّكت يدك، فإنّ ذلك الجسم لا محالة يتحرك ً تابعا لحركة يدك، متأخرة عن حركة يدك ً تأخرا بالذات، لا بحسب الزمان فابتداؤهما معا. والعالم كذلك، فهو معلول للفاعل بغير الزمان. )(1)
وإذا كان الفلاسفة يستخدمون لفظة الحدوث ليطلقوها على العالم، فيقولون:العالم محدث، فإنّا نجد هؤلاء الفلاسفة أنفسهم يبينون المراد من الحدوث عندهم، فالفارابي يوضح لنا أنّ المراد بأن العالم حادث أي كونه ً مخلوقا ً وأثرا عن خالقه الله تعالى، ولكن بلا زمان، أي أنّه قديم لم يسبق بعدم، وقد أوجده الله تعالى، ووجود العالم مقارن لوجوده تعالى، فليس الحدوث عنده بمعنى أنه حدث أي كان بعد أن لم يكن. )(2)
ويوضح لنا هؤلاء الفلاسفة معنى الإبداع والإيجاد، وهو معنى لا يخرج عن فكرة القدم التي آمنوا بها .فالإبداع والإيجاد ليس معناه الإيجاد من العدم بل معناه: حفظ إدامة وجود الشيء إدامةً لا تتصل بشيء من العلل، غير ذات المبدع تبارك وتعالى. )(3)
__________
(1) - انظر رسالة حي بن يقظان تحقيق وتعليق أحمد أمين ص .91 -90
(2) - انظر عيون المسائل للفارابي ص .6
(3) - انظر عيون المسائل - ص 6 ، النجاة لابن سينا ص .213(1/277)
وإذا كان الفلاسفة يقولون بتقدم الله تعالى على العالم، وتأخر العالم عن الله تعالى فإنّ التقدم والتأخر له معنى خاص عندهم، وهو:التقدم والتأخر بالرتبة والشرف والذات والعلية، وليس المراد من ذلك التقدم والتأخر الزماني المرتبط بفكرة حدوث العالم.فالأب مثلاً يتقدم على الابن بالشرف والرتبة، والابن يتأخر عن الأب في ذلك، إذ هو تال له، وكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى والعالم. )(1)
المبحث الثاني:أدلة الفلاسفة على قدم العالم ومناقشتهم في ذلك:
لعلّ أشهر الأدلة التي اعتمدها الفلاسفة في قولهم بقدم العالم هي-:
-1 دليل العلّة التامة .
-2 دليل قدم الزمان .
-3 دليل قدم الإمكان والهيولي .
-4 دليل الجود الإلهي .
وقد وردت هذه الأدلة مفصلة وموضحة في مؤلفات ابن سينا، بينما ذكرت عند غيره
من الفلاسفة بإيجاز وإجمال وقد اهتم بعرضها وبيانها كثير من العلماء الذين انتقدوا فكرة القدم
وأبطلوا حجج الفلاسفة في الاستدلال لها، ونحن بدورنا نعرض هذه الأدلة من مؤلفات ابن
سينا خاصة، ونستعين في توضيحها بعرض المتكلمين وابن تيمية لها، لأن أسلوب ابن سينا
يكتنفه الغموض والتعقيد والتطويل وكثرة الاستطرادات.
الدليل الأول:العلّة التامة:
__________
(1) - انظر رسالة السياسات المدنية من المجموع للفارابي ص 19 ، الإشارات والتنبيهات لابن سينا 88-84 /3(1/278)
هذا الدليل من أقوى أدلة الفلاسفة وأعظمها حجة في قدم العالم )(1) وقد اهتم به ابن سينا إذ ردده في معظم مؤلفاته وبصيغ مختلفة . ويعرض الفارابي دليل العلّة التامة بإيجاز هكذا:"الماهية المعلولة لها عن ذاتها أنها ليست، ولها عن غيرها أنها توجد، والأمر الذي عن الذات، قبل الأمر الذي ليس عن الذات وللماهية المعلولة أ لّا توجد، بالقياس إليها قبل ألا توجد فهي محدثة، لا بزمان متقدم". )(2) وهو في مؤلف آخر نجده يبين أن المعلول لا يتأخر بحال عن علته، ما دامت العّلة استجمعت شروط كونها علة تامة .فالعالم الذي هو معلول مستحيل أن يتأخر بالزمان عن الله العّلة التامة. )(3)
في حين أن ابن سينا يعرض الدليل بصورة أوضح من الفارابي ففي كتابه )النجاة )يوضح أن شروط إيجاد المعلول عن العلّة موجودة أزلاً، فالله تعالى مريد للإيجاد أزلاً، وعالم بإيجاده أزلاً، وقادر على الإيجاد أزلاً، يقول:"إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود بجميع جهاته...إن الواجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر، بل كلّ ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة". )(4)"إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وأنه لا يجوز أن تستأنف له حالة لم تكن...إن العلّة لذاتها تكون موجبة للمعلول، فإن دامت أوجبت المعلول دائما". )(5)
ولقد أقام ابن سينا دليل العلّة على مقدمتين اثنتين، وهما -:
__________
(1) - انظر تهافت الفلاسفة للغزالي ص 96 ، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي ص 95 ، مجموع الفتاوى 333 /6 ، الصفدية 10 /1 ، مجموعة الرسائل الكبرى 328 /1 ، الذخيرة للمحاكمة بينالغزالي والحكماء لعلاء الدين الطوسي ص .14
(2) - فصوص الحكم ص 3.
(3) - آراء أهل المدينة الفاضلة ص 19.
(4) -النجاة ص 228-229.
(5) - المصدر السابق ص .252(1/279)
-1 أنّ ترجيح الممكن لابد له من مرجح تام، لأن الترجيح بلا مرجح، والحدوث بلا سبب
باطل.
-2 أنّ الترجيح لو حدث لزم عنه التسلسل في الحوادث .
وقد قرّر هاتين المقدمتين من خلال عرضه للدليل على النحو التالي: إنّ العلّة متى استجمعت شروط كونها علة تامة أزلا وجد عنها معلولها أزلا، لأن العلّة التامة لا يتأخر عنها معلولها .وإذا تأخر المعلول عن علته بحسب الزمان، لزم أن يكون حادثاً، ومعنى كونه ً حادثا أي تجدد له سبب، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، أو حدث الحادث بلا سبب وهذا باطل، وإذا قيل بوجود السبب أو ا لمرجّح وجب أن يكون حادثاً، وهذا الحادث يقتضي حادثاً، وعندها يحدث التسلسل في الحوادث لأن القول في هذا الحادث كالقول في الحادث الأول، وبذلك يكون العالم قديما لا حادثا. )(1)
ولكي يوضح ابن سينا فكرة قدم العالم وكونه ً موجودا أزلاً مع الله تعالى جاء بمثال ظن أنه يقرب للذهن ما أراده في تقرير هذه الفكرة، يقول: "فما استحق هذا الوجود إلا والآخر حصل له الوجود، ووصل إليه الحصول..وهذا مثل ما تقول: حركت يدي فتحرك المفتاح، أو ثم تحرك المفتاح، ولا تقول تحرك المفتاح فتحركت يدي، أو ثم تحركت يدي، وإن كان معا في الزمان فهذه بعدية بالذات". )(2)
المناقشة:
__________
(1) - انظر النجاة ص 255 -254 ، الإشارات 110 -109 /3 ، مجموع الفتاوى لابن تيمية 216 /12 ، مجموعة الرسائل الكبرى 328 /1 ، الصفدية لابن تيمية10 /1 ، .50
(2) - الإشارات والتنبيهات .88 -85 /3(1/280)
ونبدأ الآن بعرض مناقشات ابن تيمية لدليل العلّة التامة، وأول ما يناقشه في الدليل ذلك المبدأ الذي يقوم عليه، وهو زعم الفلاسفة:أنّ العلّة التامة يقارنها معلولها بالزمان. يرى ابن تيمية أنّ العقل الصريح ينكر أن يكون في الخارج مفعول معين يقارن فاعله في الزمان، فالذهن يقدِّر هذا كما يقدِّر الممتنعات.وينكر العقل أيضا وجود معلول صدر عن علة وكان زمانهما واحداً، بينما العقل يقر بصدور المفعول عن الفاعل، والمعلول عن العلّة مع الاختلاف في الزمان.ثم يذكر ابن تيمية الأقوال الثلاثة في علاقة العلّة التامة بالمعلول، أو المؤثر التام بالأثر من حيث الزمان، وينتصر للرأي الصواب منها .فالفلاسفة يقولون: إنّ الباري كان في الأزل ً مؤثرا تاماً، ويجب أن يقارنه أثره في الزمان، فالعلّة التامة يكون معها معلولها ويقارنها في الزمان )(1) وهذا باطل لأنه يؤدي إلى أن كل حادث يجب أن يحدث مع حدوثه حوادث مقترنة في الزمان لا يسبق بعضها ً بعضا ولا نهاية لها وهذا يعني وجود علل لا نهاية لها، وقد اتفق العقلاء على بطلان ذلك ولا فرق بين امتناع ذلك في ذات العّلة أو شرط من شروطها فكما يمتنع أن يحدث عند كل حادث ذات علل لا تتناهى في آن واحد، فكذلك يمتنع شروط العلّة وتمامها فإنّها إحدى جزئي العّلة، فلا يجوز وجود ما لا يتناهى في آن واحد لا في ذات العلّة ولا في شروطها.وأيضا فإن هذا يخالف الفاعل عند جميع العقلاء، وعند الفلاسفة أنفسهم، فالفاعل هو الذي يفعل ً شيئا فيحدثه، فمفعوله لا يقارنه بل يجب تأخر كلّ مفعولاته عنه.) )(2)والمتكلمون يرون:أن الله عز وجل كان في الأزل مؤثراً تاماً، وبجب أن يتراخى عنه أثره، وهذا باطل أيضا لأنه يؤدي إلى تعطيل الخالق تعالى، وأنه كان فاعلاً بعد أن لم يكن، وأنه لم يكن في الأزل فاعلاً .
__________
(1) - انظر درء تعارض العقل والنقل .269 /8
(2) - بتصرف- مجموع الفتاوى- 335 - 334 /6.(1/281)
وأمّا السلف فقد ذهبوا إلى أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه، لا معه مقارنا له كما تزعم الفلاسفة، ولا ً متراخيا عنه كما يزعم المتكلمون. يقال كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، إن وقوع الطلاق والعتق، وكسر الإناء وقطع الحبل ليس ً مقارنا لنفس الإعتاق والتطليق والانكسار والانقطاع بحيث يكون معه، ولا هو ً متراخيا عنه، بل يكون عقبه متصلاً به، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة والعقول الصريحة على أنّ المؤثر التام يقتضي وقوع أثره عقب تأثيره التام .ومما يدلّ على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى:)?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لهُ كنْ فيَكُون )?سورة النحل: 40 ، وقوله تعالى)?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لهُ كنْ فَيَكُونُ) سورة يس : 82 فواضح من القرآن الكريم أن كون الشيء يكون عقب تكوين الله تعالى له، فلا يكون مع تكوينه ً مقارنا له، ولا ً متراخيا عنه، وإن قيل :إن الشيء يكون مع تكوينه، فالمراد : أنه يتعقبه لا يتراخى عنه . وهذا يدل على أن كل ما سوى الله تعالى حادث مسبوق بالعدم. )(1)
وفي بيان فساد المبدأ الذي تمسكت به الفلاسفة:العلّة التامة أزلا تقتضي معها معلولها أزلا..يقول ابن تيمية عدة أمور منها -:
__________
(1) - انظر درء تعارض العقل والنقل 64 -62 /3 ، 68 -67 ، 271 -270 /8 ، مجموع الفتاوى .282 /9(1/282)
-1 إذا كانت العلّة التامة تستلزم معلولها فإنّه لا يجوز أن يتأخر شيء من معلولها. ولكنا نجد كثيرا من الحوادث في العالم، ووجود الحوادث المتعاقبة دليل على امتناع وجودها عن علة تامة أزلية موجبة لمعلولها، لأن العلّة يمتنع أن يتأخر عنها شيء من معلولها، وقدم شيء من العالم يقتضي كونه علة تامة في الأزل وكونه علة تامة في الأزل يقتضي أن لا تحدث عنه أيّ شيء بواسطة أو بغير واسطة، لأنّ الحادث يلزم أن لا يحدث عن العلّة التامة الأزلية، إذ العلّة التامة لا يتخلف عنها معلولها .فحدوث الحوادث في العالم دليل على أنّ محدثها ليس بعلة تامة أزلية، وإذا انتفت العلّة أزلاً بطل القول بقدم شيء من العالم. )(1)
-2 إنّ العقل الصريح يعلم أن الحوادث لابد لها من محدث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها لم يكن في العالم شيء من الحوادث، ولكن هذا خلاف المشاهد. ولم يكن شيء من الحوادث قد حدث عن سبب اقتضى حدوثه، فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث. )(2)
__________
(1) - انظر منهاج السنة النبوية 126 /100 /1 ، 230 ، مجموعة الرسائل الكبرى .329 /1
(2) - انظر مجموع الفتاوى .335 /6(1/283)
3- إنّ الدليل الفلسفي يقوم على كونه تعالى فاعلاً أزلا، وأنه يمتنع أن يكون فاعلاً بعد أن لم يكن، وهو ما يعرف بـ)قدم الفاعلية )ولنقض البناء الفلسفي للدليل فإن ابن تيمية يوضح أنّه يلزم القائلين به الاعتقاد بأنّ لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، وهذا مخالف للسمع والعقل والحس واتفاق جميع الناس .لأن الفاعل كما يقتضي العقل هو الذي يفعل شيئا فيحدثه، وبهذا المعنى يمتنع أن يقارنه المفعول بحسب الزمان بل يقتضي وجوب تأخره عنه، وبالتالي فليس شيء من مفعولات الفاعل قديما بقدمه، ولو كان معنى الفاعل الذي زعمه الفلاسفة يقتضي مقارنته لمفعوله بالزمان لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، لأنّ المعلول وهو الحوادث يقارن علته الفاعلية بالزمان. )(1)
4- إنّ قول الفلاسفة بمؤثر تام لا يتأخر عنه أثره ويقارنه أزلا، يعتبر باطلاً لمناقضته صريح
المعقول من وجهين -:
أحدهما:أنّ المؤثر إذا أمكن تأخر أثره أمكن حدوث العالم وتأخر الفعل عن الفاعل وإن لم يجز تأخر أثره عنه لزم عدم الحوادث، أو قدمها، أو حدوثها بدون محدث، والكل باطل. )(2)
وثانيهما:أنّ ذلك يصح في الصفة اللازمة للموصوف، فإن الذات مستلزمة للصفة، والصفة تتبع الذات ولا تنفك عنها، ولا يقال:إن الذات مبدعه للصفة لأن المبدع وهو الفاعل يمتنع أن يقارن المفعول بالزمان.
وإذا كان ذات المؤثر موجودة قبل حدوث الحادث فلابد من كمال وجود التأثير عند وجود الأثر، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، وبالتالي تخلف المعلول عن علته التامة، ووجد الممكن بدون المرجح التام، وهذا باطل فامتنع أن يكون ً مؤثرا لشيء من الحوادث في الأزل، وامتنع أن يكون مؤثراً في الأزل فيما يستلزم الحوادث، لأن وجود الملزوم وهو الأثر بدون اللازم وهو المؤثر محال: فامتنع أن يكون المفعول المستلزم للحوادث قديما. )(3)
__________
(1) - انظر المصدر نفسه .335 /6
(2) - انظر الصفدية .132 /1
(3) - انظر مجموع الفتاوى.148 /12(1/284)
5 -من خلال ما سبق من نقض للدليل الفلسفي يلاحظ أن مذهب الفلاسفة القائل: إن الله تعالى مؤثر تام في الأزل تترتب عليه عدة لوازم يجزم العقل الصريح ببطلانها، وبطلان اللوازم
يقتضي فساد قولهم.ومن هذه اللوازم: -
أ -أن لا يحدث شيء في العالم، بل يكون كل ممكن ً قديما ً أزليا.
ب -أنّ كل حادث حدث بدون مؤثر أو سبب يقتضي حدوثه، أو فاعل يوجب وجوده.
ج -التفريق بين أثر وأثر، وليس للفلاسفة أن يقولوا: إن بعض الآثار يقارن المؤثر التام،
وبعضها يتراخى عنه.
د -أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناه ى في آن واحد، لأنهم يقولون: لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته، وهذا متفق على استحالته عند جميع العقلاء وهو تسلسل العلل والمعلولات، أو تمام علة ومعلولات حادثة لا نهاية لها. )(1)
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى 281 /9 ، 147 /12 ، درء تعارض العقل والنقل 151 /2 ،. 63 -62 /3 الصفدية /1 22، .28(1/285)
وأخيرا فإنّ ابن تيمية يناقش الفلاسفة في مثالهم الذي ذكروه لبيان مقارنة المعلول مع علته التامة أزلاً وهو:مقارنة حركة المفتاح أو الكم أو الخاتم لحركة اليد، ومقارنة الشعاع للشمس أو النّار.فيبين ابن تيمية لهم أن هذا المثال لا يدل على قولهم، لأن حركة اليد ليست العلّة التامة ولا الفاعل لحركة المفتاح أو الخاتم، إنما هي شرط له، والشرط والمشروط قد يتلازمان.أمّا التلازم والمقارنة بحسب الزمان بين الفاعل والمفعول أو بين العلّة والمعلول فغير متصور بأي حال )(1) وأيضا فإنّ القول بأن حركة اليد هي العلّة لحركة الخاتم حجة على الفلاسفة لا لهم، وذلك لأنّ الخاتم مع الإصبع كالإصبع مع الكف، فالخاتم متصل بالإصبع والإصبع متصلة بالكف، لكن الخاتم يمكن نزعها بلا ألم بخلاف الإصبع، وقد يعرض بين الإصبع والخاتم خلو يسير بخلاف أبعاض الكف .ولكنّ حركة الإصبع شرط في حركة الخاتم، كما أنّ حركة الكف شرط في حركة الإصبع، أعني في الحركة المعينة التي مبدؤها من اليد، بخلاف الحركة التي تكون للخاتم أو للإصبع ابتداء، فإنّ هذه متصلة منها إلى القلب كمن يجر إصبع غيره فيجر معه كفه". )(2)
الدليل الثاني:قدم الزمان:
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى .145 /2
(2) - منهاج السنة النبوية.170 /1.(1/286)
إنّ من الأدلة التي يستند إليها الفلاسفة في إثبات مذهبهم القائل بقدم العالم ما يعرف بدليل)قدم الزمان)، فالقول بحدوث الزمان و أنّ له بداية وأول مستحيل في نظرهم، وإذا وجب قدم الزمان، فقد وجب قدم الحركة، لأن الزمان عبارة عن مقدار الحركة.والزمان حدث حدوث إبداع، لا حدوث بعد عدم لأنّ ه ما من عدم إلا والزمان موجود فيه، والباري تعالى محدث الزمان لا يتقدم عليه، لأن الزمان لو وجد بعد أن لم يكن، لكان هناك زمان متقدم عليه، فلا يتصور وجود زمان إلا وقد سبقه زمان، وإذا كان الزمان قديماً، فإن العالم ً أيضا قديم، لأنه لا يتصور قدم الزمان دون قدم العالم الذي يعتبر الزمان منه. )(1)
يلاحظ أنّ الدليل الفلسفي كما قرره ابن سينا يكتنفه الغموض و الصعوبة، و إنّا لنعجب كيف يقضي نفر من المسلمين جزءاً من أعمارهم في دراسة الضلال الفلسفي وتدريسه. )(2)
__________
(1) - انظر النجاة لابن سينا ص 190 ، تهافت الفلاسفة للغزالي ص .110
(2) - لقد كانت- مع الأسف -كتب ابن سينا ضمن المقررات الدراسية في قسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف، كما أشار بذلك الدكتور سليمان دنيا في مقدمته كتاب " تهافت الفلاسفة للغزالي "ص .26(1/287)
إنّ غموض الفلسفة على جمهور المسلمين من الأدلة على عدم فائدتها، وانعدام الحاجة إليها في تقرير العقيدة أو الدفاع عنها .ونظرا لصعوبة فهم الدليل على غير المتخصصين في دراسة الفلسفة فإنا نلجأ لأحد تلاميذ ابن سينا ممن شرحوا أقواله بتوضيحها وتبسيطها، ألا وهو فخر الدين الرازي الذي يعرض دليل قدم الزمان على النحو التالي" قالوا كل محدث فإنّه لابد وأن يكون عدمه قبل وجوده، ولا يجوز أن تكون القبلية نفس ذلك العدم، لأنّ العدم الحاصل قبل والعدم الحاصل بعد يتشاركان في كونهما عدماً، ولا يتشاركان في معنى القبلية والبعدية، فإذاً المفهوم من القبلية أمر زائد على ذات العدم، وذلك الزائد لابد وأن يكون أمراً موجودا ثم ذلك الزائد محدث، فيكون ً مسبوقا بقبل آخر، ً فإذا لكل قبل قبل لا إلى نهاية، وما ذلك إلا الزمان، فإذا الزمان قديم، وثبت في أصول الحكمة أنّ الزمان من لواحق الحركة، والحركة من لواحق الجسم، فيلزم من قدم الزمان قدم الحركة، ومن قدم الحركة قدم الجسم. )(1)
المناقشة:
__________
(1) - الأربعين في أصول الدين ص 50 ، وانظر ً قريبا منه " المحصل " للرازي ص .129(1/288)
لقد تعرض هذا الدليل إلى النقد من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية، حي ث ذهب إلى أنه لا يدل على مقصودهم في إثبات قدم شيء من الأجسام أو الأفلاك، ولا قدم شيء بعينه من الحركات وزمانها )(1) ومن أقواله في ذلك:"وأما الحجة التي احتجوا بها على أنه لم تزل الحركة موجودة والزمان موجوداً، وأنه يمتنع حدوث هذا الجنس.....فيقال لهم: هذه لا تدل على قدم شيء بعينه من الحركات وزمانها، ولا من المتحركات، فلا تدل على مطلوبهم:وهو قدم الفلك وحركته وزمانه، بل تدل على نقيض قولهم وذلك أن الحركة لابد لها من محرك، فجميع الحركات تنتهي إلى محرك أول .وهم يسلمون هذا، فذلك المحرك الأول الذي صدر عنه حركة سواء:إمّا أن يكون متحركاً، وإ مّا أن لا يكون، فإن لم يكن متحركا لزم صدور الحركة عن غير متحرك، وهذا مخالف للحس والعقل، فإن المعلول إنما يكون مناسبا لعلته، فإذا كان المعلول يحدث ً شيئا بعد شيء امتنع أن تكون علته باقية على حال واحدة". )(2)
وقد غلط أساطين الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو وأتباعه عندما ظنوا أنه لا زمان إلا قدر حركة الفلك، وأنه لا حركة فوق الفلك ولا قبله، ثم استدلوا على ذلك بأن حركته أزلية .وكذلك تعرض دليل الفلاسفة إلى انتقاد شديد من قبل الباحثين المعاصرين فالدكتور يوسف كرم يرى أن استدلال ابن سينا جدير بأن يسمى مصادرات لا ً حججا ولا أدلة )(3).
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى 302 – 301 / 6 ، 336 ، .337
(2) - انظر المصدر السابق ص .337 -336
(3) - انظر ابن سينا بين الدين والفلسفة -حاشية - ص .191(1/289)
بينما ذهب الدكتور حمودة غرابة إلى اعتبار الاستدلال بقدم الزمان على قدم الحركة استدلال متهافتاً، لأنّه يجوز أن يكون هناك عدم محض ثم وجدت الحركة ومقدارها وهو الزمان بعد ذلك، فيكونان محدثين لا غير، كما أنّ اعتبار ابن سين ا القبلية أمرا ً وجوديا مقيساً إلى الزمان باعتبار مقدار الحركة ليس ً مسلما له، لأن القبلية هي أمر اعتباري مقيسا إلى الزمان على أنه أمر وهمي .وهذا لا يستلزم سبق الزمان بمعنى أنه مقدار الحركة. )(1)
الدليل الثالث:قدم الإمكان:
المراد بالإمكان:إمكان وجود الممكن، والمراد بكونه قديماً:أنّ إمكان الممكن لا أول له .والإمكان أمر معنوي مقرّر في الذهن لا وجود له في الخارج، إذ قبل وجود الممكن يكون ممكنا أن يوجد، وإمكانه في الذهن لا في الواقع الخارجي، والفلاسفة يستدلون بقدم الإمكان، أي قدم إمكان الممكن على ضرورة افتقاره إلى مادة يقوم بها لأنّه لا يتصور قيام الإمكان بنفسه، إذاً لابد له من موضوع يقوم به ويضاف إليه، وهذا الموضوع هو المادة، وينتهي الفلاسفة من قدم الإمكان إلى قدم المادة التي هي المحل الذي يفتقر إليه، ومن ثم يقررون القول بقدم العالم.
نص الدليل:
__________
(1) - انظر المصدر السابق ص .191(1/290)
يقول ابن سينا:إن ّهم يريدون أن يبينوا أن كل حادث مسبوق بموضوع أي مادة. وهم يقررون الدليل هكذا:أن كل حادث فهو قبل وجوده: إمّا ممتنع الوجود، و إ مّا ممكن الوجود .وكونه ممتنع الوجود محال، فإذا كان الحادث ممكن الوجود فإن له إمكان وجود، قبل أن يوجد، وليس إمكان وجوده هو قدرة القادر عليه، لأن المحال غير مقدور عليه لكونه غير ممكن في نفسه . وهذا الإمكان ليس ً شيئا معقولاً بنفسه، لأنّه لا سبيل لقيامه بنفسه، بل هو أمر إضافي، أي لابد له من مادة يقوم بها ويضاف إليها، وكونه ً محتاجا لمادة لأنه عرض، والعرض لا يتصور وجوده إلا في مادة يقوم بها .فإذاً المادة قديمة لقدم إمكان الممكن، )(1)وإذا كانت المادة قديمة ً إذا العالم قديم .
وفي كتابه)النجاة) يعرض ابن سينا دليل قدم الإمكان بصورة أوضح وأكثر تفصيلاً )(2) ومما جاء في سياق تقريره لهذا الدليل:"إن كل حادث فإنّه قبل حدوثه إما أن يكون في نفسه ممكنا أن يوجد، أو محالاً أن يوجد. والمحال أن يوجد لا يوجد. والممكن أن يوجد قد سبق إمكان وجوده، فلا يخلو إمكان وجوده من أن يكون معنى ً معدوما أو معنى موجوداً، ومحال أن يكون معنى معدوماً، وإلا فلم يسبقه إمكان وجوده، فهو إذاً معنى موجود، وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع، أو قائم في موضوع .وكل ما هو قائم لا في موضوع، فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً .وإمكان الوجود إنما هو ما هو بالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له، فليس إمكان الوجود ً جوهرا لا في موضوع، فهو إذاً معني في موضوع، وعارض لموضوع، ونحن نسمي إمكان الوجود قوة الوجود، ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعا وهيولي ومادة، وغير ذلك، فإذا كل حادث فقد تقدمته المادة". )(3)
المناقشة:-
__________
(1) - انظر:الإشارات والتنبيهات.79 -78 /3
(2) - انظر المصدر السابق: الصفحات من. 358 -356
(3) -النجاة ص .358 -357(1/291)
عرض المتكلمون هذا الدليل في مؤلفاتهم بكل أمانة وموضوعية وكأنّهم أصحاب الدليل لا خصومه، ثم قاموا بمناقشته وانتقاده بقولهم:
-1 إنّ الإمكان ليس أمراً وجودياً أو حقيقة ذاتية يمكن أن تتحقق في الواقع الخارجي، إنّما هو وصف يقدره الذهن فحسب، وكونه أمراً ذهنيا لا يستدعي مادة يضاف إليها أو يقوم بها كما ذهبت إليه الفلاسفة. )(1)فالبياض مثلاً في نفسه ليس ممكناً، وليس له نعت الإمكان .و إن ّما الممكن هو الجسم،والإمكان مضاف إليه، وعندما نسأل :ما حكم نفس السواد في ذاته أهو ممكن، أو واجب، أو ممتنع ؟ فالجواب:أنه ممكن. فدلّ ذلك على أنّ الإمكان وصف عقلي لا يحتاج إلى مادة يقوم بها أو لا يفتقر إلى وضع ذات موجودة يضاف إليها الإمكان. )(2)
-2 إنّ الإمكان لو كان صفة موجودة، لكانت قائمة بالشيء الممكن الوجود قبل حدوثه، أو قائمة بغيره، ومن المحال أن تكون قائمة به لأنّه قبل حدوثه معدوم، ً وأيضا من المحال أن يقوم بغيره، لأنه صفة الشيء لا تقوم إلا به، فالإمكان ً إذا صفة ليست موجودة. )(3)
-3 إنّ اتصاف الماهية بإمكان الوجود سابق على اتصافها بالوجود، فلو كان الإمكان صفة موجودة، لزم أن يكون اتصاف الماهية بوجود شيء آخر سابقا على اتصافها بوجود نفسها، وهذا غير متصور. )(4)
-4 لو كان الإمكان صفة موجودة لكان ثابتا حال العدم، لأنّ الذوات المعدومة يمتنع عليها التغير والخروج عن الذاتية، ولما لم تكن كذلك فلا يمكن أن يكون الإمكان صفة لها )(5).
__________
(1) - انظر تهافت الفلاسفة ص 120 ، الأربعين في أصول الدين ص 52 ، المحصل ص 57 ، نهاية الإقدام ص 34 ، غاية المرام، 272 ، الذخيرة ص .56
(2) - انظر تهافت الفلاسفة ص .100
(3) - انظر الأربعين في أصول الدين ص .52
(4) - انظر المصدر السابق نفسه.
(5) - انظر المحصل ص 57 ، وهامش ص .58(1/292)
ويلاحظ ممّا سبق سواء من عرضنا لدليل الفلاسفة أم من مناقشة المتكلمين له أنّ النزاع بين الفريقين منحصر في الإمكان، هل هو صفة وجودية لابد لتحققها في الواقع من محل تقوم به، أو هو وصف عقلي مفتقر إلى الذهن البشري فحسب الذي يقدره ويحكم به .وفي اعتقادنا أن الفريقين قد أخطأوا في تحديد معنى الإمكان وبيان أنواعه، وفي بيان ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والتحقيق أنه نوعان)(1): فالإمكان الذهني وهو تجويز الشيء أو عدم العلم بامتناعه محله الذهن، والإمكان الخارجي المتعلق بالفاعل أو المحل، مثل:أن تقول يمكن القادر أن يفعل، والمحل: مثل أن تقول هذه الأرض يمكن أن تزرع، وهذه المرأة يمكن أن تحبل، وهذا لابد له من محل خارجي .فإذا قيل عن ا لربّ يمكن أن يخلق، فمعناه:أنه يقدر على ذلك ويتمكن منه، وهذه صفة قائمة به، وإذا قيل يمكن أن يحدث حادث، فإن قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث فهو ممتنع، وإذا كان الحدوث لابد له من سبب حادث، فذاك السبب إن كان ً قائما بذات الرب فذاته قديمة أزلية..فلا يحدث حادث مباين إلا مسبوقا بحادث مباين له فالحدوث مسبوق بإمكانه ولابد لإمكانه من محل، ولهذا لم يذكر الله قط أنه أحدث ً شيئا إلا من شيء. )(2)
الدليل الرابع:الجود الإلهي:
يرى الفلاسفة أنّ الجود صفة كمال، وهي تجب لله تعالى أزلاً، والقول بأنّ العالم حادث، أي خلق بعد أن لم يكن، يعني أنّ الله لم يكن جواداً، لأنّه وجدت مدة زمنية غير متناهية لم يكن فيها تعالى خالقاً، وأما القول بأزلية العالم وقدمه، أي بوجوده مع خالقه أزلاً، فيتضمن أن الخالق عز وجل جواد أزلاً.
__________
(1) - الضمير في ) أنه (عائد للإمكان ويدل عليه سياق الكلام.
(2) - النبوات ص .63 -62(1/293)
ويمكن عرض الدليل الفلسفي بصورة أخرى وهي: أنّ الجواد هو الذي يخلق، ولو كان العالم ً حادثا لم يكن الله جواداً، لتركه الجود مدة غير متناهية، وهي المدة التي لم يكن العالم فيها موجوداً .فالقول بأن ّه تعالى جواد أزلاً يقتضي إثبات قدم العالم وأزليته.
يلاحظ أنّ الفلاسفة قد ربطوا بين الجود والخلق. فالله تعالى عندهم جواد لأنّه منح الموجودات وجوداً دون أن يستفيد من إيجاده لها كمالاً .وإذا كانت صفاته أزلية، ومنها صفة الجود، فهذا يعني أنه منح الموجودات ً وجودا منذ الأزل، فالعالم إذا قديم. )(1)
المناقشة:
يبدأ المتكلمون مناقشتهم هذا الدليل ببيان معنى الجود. فالجود كما يرون ليس صفة ذاتية زائدة على الذات، بل هو صفة فعلية، وهو كونه تعالى موجداً وفاعلاً لا لغرض أو منفعة تعود إليه. )(2) والجود صفة إضافية على مذهب الفلاسفة في الصفات، كصفة المبدئ والعلّة الأولى، ولا فرق بين معنى الجود ومعنى المبدئ، فمعناها عند الفلاسفة الفاعل الصانع،فكأن ّهم قالوا: صانع لذاته، وهذا محل الخلاف، وهو مصادرة على المطلوب لأن خصومهم المتكلمين لا يسلمون كونه فاعلاً لذاته، وفعله ليس قديما. )(3)
__________
(1) - انظر دليل الجود الإلهي عند الفلاسفة في المصادر التالية: النجاة لابن سينا، ص 257 ، ط 1938 م،الإشارات والتنبيهات 547 /3 ، الأربعين في أصول الدين ص 50 ، نهاية الإقدام ص 48 -45 ، غاية المرام للآمدي ص 266 ، الذخيرة ص 52 -51 ، ابن سينا بين الدين والفلسفة د .حمودة غرابة ص .133 -130
(2) - انظر نهاية الإقدام ص 46 ، غاية المرام ص .270
(3) - انظر المصدر السابق ص .46(1/294)
ثمّ يقال للفلاسفة: إنّكم جعلتم معنى كونه جواداً متوقفا على كونه خلق العالم أزلاً، وبذلك جعلتم الله تعالى قد استفاد صفة الجود من غيره، أي أن كماله ليس بذاتي، وهذا لا يوافقكم عليه أحد من العقلاء، وإذا كان الله كماله بذاته لا من غيره بطل قولكم بأن معنى الجود يقتضي قدم العالم. )(1)
وإذا كان الفلاسفة يرون أنّ الإيجاد إحسان وجود، وهذا يقتضي أن يكون العالم موجوداً في الأزل، وإلا لكان ً تاركا للجود والإحسان، فإنّ الرازي يردّ عليهم هذا الزعم بقوله:إن هذا منتقص بإيجاد الصور والأعراض الحادثة، وإيجاد هذه جود، ولا يقتضي القول بقدم العالم )(2). ويمكن أن نضيف أن هذا منتقص ً أيضا بقولهم أن النفوس البشرية حادثة .وممّا يردّ به على الفلاسفة أن يقال: إنّ الله تعالى موصوف ب أنّه خالق قبل أن يوجد مخلوق، )(3)وإذا كان متصفا بذلك أزلاً، فلم لا يكون الله عز وجل جواداً أزلاً، ولا يترتّب على ذلك القول بقدم العالم .
المبحث الثالث:أدلة السلف على حدوث العالم:
وقد استدل أئمة السلف وعلماؤهم على صحة مذهب الحدوث بأدلة شرعية وعقلية
كثيرة .ومن هذه الأدلة:-
-1 لقد أجمع الرسل عليهم السلام على أن كل م ا سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم
يكن، وأنه عز وجل خلق جميع الموجودات وأحدثها بعد أن لم تكن، وأخبرت الكتب السماوية
جميعها بذلك. )(4) ومما نص عليه القرآن الكريم في هذا الأمر ما يلي:-
__________
(1) - انظر المصدر السابق ص 49 -48 ، غاية المرام ص .270
(2) - الأربعين في أصول الدين ص.53
(3) - انظر شرح العقيدة الطحاوية .116 /1
(4) - انظر الصفدية 14 /1 ، مجموع الفتاوى 281 /9 ، درء التعارض 123 /1 ، 280 /8 ، منهاج السنة النبوية. 137 /1(1/295)
- قوله تعالى):?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لهُ كُن فَيَكُون )سورة يس: .82 فهذه الآية تشير إلى أنّ الله يكون ما يشاء تكوينه، فإذا كونه، فإنّه يكون عقب تكوينه متصلاً به لا يكون مع تكوينه في الزمان، ولا يكون ً متراخيا عن تكوينه بينهما فصل في الزمان، بل يكون متصلاً بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض، وهذا دليل على أنّ كل ما سوى الله حادث بعد أن لم يكن. )(1)وقوله تعالى:)?وَقدْ خَلَقتكَ مِنْ قبْلُ وَلمْ تك شَيْئًا) سورة مريم:9 تدل هذه الآية على أنه تعالى خلق الإنسان وأوجده بعد أن لم يكن، وإذا كان ً مخلوقا ً محدثا فلا يقارن خالقه بالزمان. )(2)
وقوله:)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) سورة هود7، هذه الآية صريحة في إثبات حدوث السماوات والأرض، لأنّ القديم الأزلي لا يكون خلقه في أيام، وقد أشارت الكتب السماوية إلى ما أشار إليه القرآن الكريم من خلق السماوات والأرض في ستة أيام )(3).
-2 لقد استقر في فطر الناس أن السماوات مخلوقة مفعولة، وقد أحدثها خالقها بعد أن لم تكن . ولم يخطر بالفطرة السليمة أنها معلولة لفاعل قديمة معه، والفطرة تقر ً أيضا أن الشيء
المفعول المخلوق معناه: أنه كائن بعد أن لم يكن، وهي تنكر أن السماوات والأرض قد خلقتا
مع الله أزلاً. )(4)
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى .282 /9
(2) - انظر مجموع الفتاوى 46 /12 ، درء التعارض 280 /8 ، منهاج السنة النبوية .100 /1
(3) - انظر منهاج السنة 101 -100 /1 ، درء التعارض 280 /8 ، مجموع الفتاوى .281 /9
(4) - انظر مجموع الفتاوى 146 /12 ، .226 /18(1/296)
-3 لقد أجمع أهل الملل والأديان على أنّ كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن .ولم يثبت أنّ أهل ملة أو دين زعم قدم شيء من العالم لا الملائكة، ولا الأفلاك، ولا السماوات، ولا الأرض، ولا شيء مما خلقه الله تعالى، فالمسلمون واليهود والنصارى والمجوس، والهندوس، والصابئة الحنفاء )(1)، يقرّون ً جميعا بأنّ العالم مخلوق محدث.)(2)
-4 لقد أجمع العقلاء من جميع الطوائف بما فيهم أساطين الفلاسفة قبل أرسطو على أنّ العالم حادث .وأما القول بقدم العالم فلم يعرف قبل أرسطو، وهو أ وّل الفلاسفة الذين ابتدعوا هذا المذهب، واشتهر في العالم الإسلامي من قبل شرذمة من الفلاسفة أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد. )(3)
__________
(1) - المجوس :هم عبدة النّار الذين يقولون أن للعالم مدبرين اثنين، يقتسمان الخير والشر، النفع والضر، الصلاح والفساد، يسمون أحدهما النور، والثاني الظلمة، النور قديم أزلي والظلمة محدثة، انظر :الملل والنحل، ط دار الفكر ص 237 -233 ، الهندوس :أتباع الديانة الهندوسية، وتسمى الهندوكية، المنتشرة في بلاد الهند، وهم يعبدون آلهة شتي، ومحور الديانة في العصر الحاضر يقوم على آلهة ثلاثة: شيفا وفيشنو وبراهما .ويقدس الهندوس الحيوانات منها البقر والأفاعي.الصابئة الحنفاء:هم الموحدون الذين أثنى الله تعالى عليهم في القرآن الكريم بقوله:(إِنَّ اَّلذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِالَّلهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَاخوْفٌ عَليْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَن ُونَ) سورة المائدة 69: ، ويوجد أيضاً الصابئة. المشركة.انظر:عقائدهم في الملل والنحل، ص. 262 -259 .130
(2) - انظر الصفدية.10 /1
(3) - مصارعة الفلاسفة للشهرستاني ص 97 ، نهاية الإقدام ص 5 ، الصفدية 10 /1 ، 130 ، 237 -236 ،إغاثة اللهفان 276 /2 ، لباب العقول للمكلاتي ص .61(1/297)
-5 إنّ العقل الصريح يستدل به على حدوث العالم، ومن الأدلة العقلية في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "من الطرق التي يعلم بها حدوث كل ما سوى الله هي أن يقال:لو كان سوى الله شيء قديم لكان صادرا عن علة تامة، موجبة بذاتها مستلزمة لمعلولها، سواء ثبت له مشيئة أو اختيار، أو لم يثبت، فإن القديم الأزلي الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا يتصور وجوده إن لم يكن له في الأزل مقتضى تام يستلزم ثبوته". ويضيف:"إنه لو كان شيء مما سوى الله أزليا للزم أن يكون له مؤثر تام مستلزم له في الأزل سواء سمي علة تامة، أو موجبا بالذات..وإذا كان كذلك فنقول: ثبوت علة تامة أزلية ممتنع". )(1) ثمّ يبين ابن تيمية أنه إذا امتنع ثبوت العلّة التامة الأزلية، ثبت أنه لم يكن شيء قديماً، وأن هذا يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى. )(2)
ومن الأدلة العقلية على حدوث العالم أن يقال: إنّما ثبت قدمه امتنع عدمه، فما جاز عدمه امتنع قدمه، فإنّه لو كان قديماً لامتنع عدمه، والتقدير أنه جائز العدم فيمتنع قدمه وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه، بل جاز عدمه وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه، لأنه لو كان ً قديما لم يجز عدمه بل امتنع عدمه)(3) وإذا بطل القول بقدم العالم لأنّ قدمه يمنع عدمه، وقد ثبت أنّه سيعدم، فإنّ القول بحدوث العالم هو الحق الذي يقول به العقل الصريح .
__________
(1) -مجموع الفتاوى.221 /12
(2) - انظر المصدر السابق ص.222 -221
(3) - منهاج السنة .138 /1(1/298)
ويردّ على الفلاسفة الذين يستدلون بالعقل على مذهبهم في قدم العالم فيقول:بأن العقل الصريح لا يخالف ً شيئا من نصوص الأنبياء التي أثبتت حدوث العالم، وكلّ ما ذكرتموه من أدلة لا يدلّ على قدم شيء بعينه من العالم، لا قدم فعل معين ولا قدم مفعول معين، وغاية ما يدل عليه قدم نوع الفعل، وهذا لا يستلزم قدم العالم، وما استدل به العقلاء على أن كل مفعول محدث كائن بعد أن لم يكن، وكل ما سوى الله حادث لا يناقض ذلك. )(1)
الفصل الثالث
منهج الفلاسفة في إثبات وحدانية الله تعالى
المبحث الأول:معنى التوحيد عند الفلاسفة:
قبل بيان معرفة التوحيد عند الفلاسفة، نذكر معنى التوحيد لغة.
معنى التوحيد لغة:
التوحيد مصدر وحّد يوحّد، ومعناه: العلم بأن الشيء واحد، ويقال: وحّد د يحدّ وحادةً ووحوداً، ووحودةً، ووحداً، ووحدةً. وحدةٌ:بقي مفرداً، ووحّده توحيداً:جعله واحداً، والواحد هو المنفرد، يقول الراغب الأصفهاني:"الوحدة الانفراد، والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة .ثم يطلق على كل موجود، حتى إ نّه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به .فيقال:عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد. وإذا وصف الله تعالى بالواحد، فمعناه:هو الذي لا يصح عليه التجزي، ولا التكثر، )(2)ولصعوبة هذه الوَحْدَة قال تعالى:)وَإِذَا ذ ُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِال ْآخِرَةِ) سورة الزمر).45
__________
(1) - انظر :الصفدية 14 /1 ، 59 ، .131 -130
(2) - قول الراغب:إذا وصف الله تعالى بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزي ولا التكثر.موضع نظر، إذ هو ما ذهب إليه الفلاسفة.(1/299)
والوَحَدُ :المفرد، ويوصف به غير الله . كقول الشاعر: على مُسْتَأْنِسٍ وَحَد .وأَحَدٌ مطلقاً لا يوصف به غير الله تعالى.)(1)وجاء في تهذيب اللغة ولسان العرب تحت مادة :وحد ما يلي : قال ابن سيده :والله الأحد والمتوحد وذو الوحدانية، ومن صفاته الأحد .وقيل الواحد المنفرد بالذات في عدم النظير والمثل .والأحد المنفرد بالمعنى . وقيل:الواحد هو الذي لا يتجزأ ولا يثني ولا يقبل الانقسام ولا نظير له ولا مثل، ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله تعالى.
والواحد في صفة الله تعالى معناه أنه لا ثاني له، ولا يجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد، فأما أحد فلا يوصف به غير الله لخصوص هذا الاسم الشريف له عز وجل . ويقال:أحَّدْتُ الله وَوَحَّدْته، وهو الأحد الواحد. )(2) قال ابن الأثير:في أسماء الله تعالى الواحد، قال : وهو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. )(3)
من خلال ما نقلناه سابقاً عن م صادر اللغة يمكن أن نستنتج أن مادة ) وَحَدَ )تدور حول
انفراد الشيء بذاته وعدم وجود النظير والمثل له فيما هو واحد فيه، وأنه إذا عدي بالتضعيف، فقيل:وَحَّدَ الشيء توحيداً أي جعله واحداً، أو اعتقده واحداً .قال تعالى مخبراً عن المشركين) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) سورة ص )(4) .5
معنى التوحيد اصطلاحا:-
إذا أردنا معرفة معنى التوحيد عند الفلاسفة الإسلاميين فلابد أولاً من معرفة معاني الوحدة والواحد عندهم، لارتباط هذه المعاني بمعنى التوحيد.
-1معنى الوحدة:
__________
(1) - المفردات في غريب القرآن - ص 514 ، ذكر الراغب الأصفهاني خمسة أوجه فقط ولم يشر للسادس،مع أنه قال في البداية "يستعمل على ستة أوجه ".
(2) - انظر:تهذيب اللغة 200 -192 /5 ، لسان العرب لابن منظور .451 -446 /3
(3) - النهاية في غريب الحديث 159 /5 ، لسان العرب .451 /3
(4) - انظر :دعوة التوحيد لمحمد خليل هراس ص .11(1/300)
ذهب الفلاسفة إلى أن وحدة واجب الوجود لها معنيان:-
الأول:وحدة واجب الوجود في واقع الأمر:-
وتتحقق هذه الوحدة بأن يمنع العقل أن يكون لواجب الوجود ند أو ضد، أي واحد في ذاته، لا شريك له في النوع .يقول الفارابي: "وأنّ أحد معاني الوحدة هو الوجود الخاص الذي به ينحاز كل موجود عما سواه، وهي التي بها يقال لكل موجود واحد من جهة ما هو موجود الوجود الذي يخصه، وهذا المعنى من معاني الواحد يساوق الموجود الأول، فالأول أيضاً بهذا الوجه واحد، وأحق من كل واحد سواه باسم الواحد ومعناه". )(1)
الثاني:وحدة واجب الوجود في التصور الذهني:
والوحدة هنا معناها بساطته في التصور الذهني، وعدم تركبه من أجزاء، فلا كثرة في ذاته، لأنه واحد بسيط من جميع الوجوه، فالكثير الذي يقبل التركب والانقسام لا يعتبر واحداً، ولا يقال: له وحدة في ذاته إلا بنفي جميع أنواع الكثرة عنه، فواجب الوجود تتحقق له الوحدة في ذاته بنفي أوجه الكثرة عنه.
ولقد أسهب الفلاسفة في بيان وتوضيح هذا المعنى لوحدة واجب الوجود، ذلك أن توحيدهم يكاد يكون كله حول بيان هذا الأمر .يوضّح الفارابي هذه الوحدة معللاً إياها فيقول:"واجب الوجود لا ينقسم بأجزاء القوام )(2)مقدارياً كان أو معنوياً، وإلا لكان كل جزء من أجزائه إما واجب الوجود فكثر واجب الوجود، وإما غير واجب الوجود، وهي أقدم بالذات من الجملة، فتكون الجملة أبعد من الوجود". )(3)
__________
(1) - آراء أهل المدينة الفاضلة ص .9
(2) - القوام :القوام بالكسر :نظام الأمر وعماده وملاكه، وقوام الجسم :تمامه وقوام كل شيء ما استقام به .انظر تهذيب اللغة للأزهري مادة قوم 360 /9 ، تاج العروس للزبيدي مادة قوم .36 /9
(3) - فصوص الحكم ص .4(1/301)
يتضح من هذا القول للفارابي أنّ ذات واجب الوجود لا تنقسم إلى أجزاء، إذ هي بسيطة غير مركبة، إذ لو كان مركباً من أجزاء تقومه، لكان وجوده لا يتم إلا بأجزائه، ولكان كل جزء منها واجب الوجود، وبالتالي تعدد واجب الوجود بذاته، ولارتفع عنه كونه واجب الوجود بذاته. وفي "النجاة )(1)" يفصّل ابن سينا ما أجمله في " الإشارات "فيقول:"إنّ واجب الوجود، لا يجوز أن يكون لذاته مبادئ تجتمع فيقوم منها واجب الوجود لا أجزاء الكمية، ولا أجزاء الحد والقول، سواء كانت كالمادة والصورة،أو كانت على وجه آخر، بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه، فيدل كل واحد منها على شيء هو الوجود غير الآخر بذاته، وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر، ولا ذات المجتمع .".ويضيف:" فقد اتضح من هذا أن واجب الوجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة لا في الكم، ولا في المبادئ، ولا في القول الشارح، فهو واحد من هذه الجهات الثلاث". )(2)ويمكننا أن نجمل معاني وحدة واجب الوجود في كلمات قليلة فنقول :إنّه واحد من جميع الجهات، واحد في الواقع الخارجي، وفي التصور الذهني، وأية ناحية يلحظها العقل فيه يحكم بوحدته .فمن جهة الواقع الخارجي : لا ند له ولا ضد له، ولا شريك له .ومن جهة التصور الذهني :لا تركيب في ذاته، ولا اشتراك لغيره معه فيها ولا جنس له ولا نوع، ولا فصل، وهو متفرد في ماهيته وفي وجوده. )(3)
المناقشة:-
__________
(1) - ص .227
(2) - النجاة ص .228
(3) - الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص .540(1/302)
لقد شرح الفلاسفة الإسلاميون وحدة واجب الوجود على نحو ما شرح فلاسفة الإغريق هذه الوحدة، ولم يلتفتوا –أثناء شرحهم - إلى مخالفتهم للتصور الإسلامي، لأنّ الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها ذاته بعيدة عن مفهوم واجب الوجود كما شرحه هؤلاء الفلاسفة، فإثبات هذه الصفات يؤدي إلى كثرة في ذاته، والكثرة تنافي بساطة الواجب. )(1) إنّهم في تصورهم للوحدة جعلوا واجب الوجود مجرداً من صفة تجعل له وجوداً خارج الذهن وخارج التصور العقلي )(2) ، وبالتالي فلا وجود لهذا الواجب، بل هو والعدم سواء، لأن الواجب الموجود يجب أن يتصف بصفات الكمال والعظمة التي تجب للخالق المالك الأحد المتفرد بربويته وألوهيته .ثمّ إنّ الفلاسفة ل مّا شرحوا وحدة الواجب بذاته بمعنى نفي الند والضد والشريك عنه، لم يذهبوا في تصورهم لوحدانية الله تعالى إلى تفسير الوحدة بمعنى نفي الشريك له في العبادة والطاعة، )(3)بل ذهبوا في تفسيرها بمعنى أ نّه المبدأ الأول والعلّة الأولى، وأنّ ما عداه فمعلول لا يساوي المبدأ الواجب الوجود بذاته .
-2 معنى الواحد:-
__________
(1) - المصدر السابق ص .542 -540
(2) - انظر الإمام ابن تيمية وقضية التأويل د .محمد السيد الجليند ص .166
(3) - انظر المصدر السابق نفسه.(1/303)
كما أسهب الفلاسفة في بيان معنى الوحدة أسهبوا أيضاً في بيان معنى الواحد، والدارس للنصوص الفلسفية في هذا الموضوع يجد أن المعنيين سواء، فالفلاسفة يشرحون معنى الواحد بما لا يخرج البتة عن شرحهم لمعنى الوحدة. وننقل بعض النصوص الفلسفية من مؤلفات الكندي والفارابي وابن سينا لنبين ذلك الأمر .فالكندي في رسالته إلى المعتصم)(1) يذكر المعاني التي يمكن أن تطلق على لفظ الواحد، ثم يبين المعنى الحق الذي يجب لله الواحد الحق. يقول في ذلك: إذا كان الواحد يطلق ويراد به العدد، فالواحد الحق ليس عدداً، لأنّ العدد في حقيقته أنه من المضاف، وأنه لا يمكن أن يكون بالمثل واحداً هيولانياً، لأنّ الهيولي مر كّبة، والمركب يمكن حله، والواحد الحق لا يمكن حله، ولا يقصد بالواحد الحق ماله كمية ما أو كيفية ما، أو ماله جنس أو نوع، ولا هو صورة مؤتلفة من جنس ونوع، ولا هو حركة، ولا نفس، ولا عقل، ولا أسماء مترادفة، ولا واحد باشتباه الاسم .والله تعالى -عند الكندي - واحد أزلي، فريد في وجوده، ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، ولا ند ولا ضد له، ولا يقبل التكثر في ذاته، ولا ينقسم بنوع من الأنواع، لا من جهة ذاته، ولا من جهة غيره، ولا هو شيء من المعقولات، ولا موصوف بشيء من باقي المعقولات، ولا هو ذو خاصة، ولا ذو عرض عام، ولا هو زمان ولا مكان. )(2)
وأما الفارابي فهو يقول:" وهو واحد بمعنى أن الحقيقة التي له ليست لشيء غيره، وواحد بمعنى أنه لا يقبل التجزي كما تكون الأشياء التي لها عظم وكمية، وإذن ليس يقال عليه كم، ولا متى ولا أين، وليس بجسم، وهو واحد بمعنى أن ذاته ليست من أشياء غيره كان منها وجوده، ولا حصلت ذاته من معان مثل الصورة والمادة والجنس والفصل، ولا ضد له". )(3)
__________
(1) - انظر رسائل الكندي الفلسفية ص 162 -147 ، .184 -182
(2) - نفس المصدر السابق .
(3) - عيون المسائل ص 5 ، وانظر: مثله تماما رسالة الدعاوي القلبية من المجموع - ص .3(1/304)
وأمّا ابن سينا فهو يوضح معنى الواحد الذي يطلق ويراد به واجب الوجود بذاته في كثير من مؤلفاته. )(1) ويكفي أن ننقل ما جاء في كتابه النجاة فتحت فصل بعنوان )فصل في أنه واحد من وجوه شتى) )(2) يقول:" وأيضاً فهو تام الوجود، لأنّ نوعه له فقط، فليس من نوعه شيء خارج عنه، وأحد وجوه الواحد أن يكون تاماً، فإنّ الكثير والزائد لا يكونان واحدين .فهو واحد من جهة تمامية وجوده، وواحد من جهة أن حدّه له، وواحد من جهة أنه لا ينقسم، لا بالكم، ولا بالمبادئ المقومة له، ولا بأجزاء الحد، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة تخصه وبها كمال حقيقته الذاتية، وأيضاً هو واحد من جهة أخرى وتلك الجهة هي أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له".
وفي موضع آخر يقول:"إن واجب الوجود غير داخل في جنس، أو واقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف، والماهية والأين والمتى، والحركة، لا ند له، وشريك وضد، وأنه واحد من جميع الوجوه" .
ويمكن أن يقال هنا أنّ الفلاسفة الإسلاميين قد أخذوا من الفكر اليوناني أفكارهم حول معاني الواحد، كما أشرنا من قبل إلى أخذهم أفكارهم حول معاني الوحدة من الفكر اليوناني نفسه، فالفكر اليوناني يرى أن الإله هو:الواحد المحض من جميع الجهات، وهو مجرد عن صفات المعاني متصف بالصفات السلبية، )(3)وبذلك يكون هو الواحد الذي لا وجود له في الخارج، بل وجوده في الذهن فقط، لأن الإله الموجود في الخارج متعين، وتعينه بسبب الصفات الثبوتية التي يتصف بها )(4).
خلاصة القول في التوحيد عند الفلاسفة:-
__________
(1) - انظر مثلاً النجاة ص 230 ، الهداية 263 -262 ، عيون الحكمة ص 59 – 58 ، إلهيات الشفاء .344 /2
(2) - النجاة ص .230
(3) - انظر الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 356 -348 ، 532 ، 541 -539 ، .548 -547
(4) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان .280 /2(1/305)
من خلال أقوال ابن سينا هذه، وما سبق عرضه لمعاني الوحدة والواحد عند ابن سينا وغيره من الفلاسفة يمكن لنا أن نستنتج معنى التوحيد عند الفلاسفة كالآتي:
التوحيد:هو الإقرار والاعتقاد بأن الله واحد لا ضد له ولا ند، ولا شريك له في النوع، وأنه واحد بسيط مجرد عن علائق الزمان والمكان، والوضع والتغير، لا يتكثر ولا يتعدد، لا ينقسم ولا يتجزأ، ولا يتبعض، وأنه وحده واجب الوجود بذاته، لا يشاركه في مرتبة وجوده وجود .
يقول ابن سينا: التوحيد هو: امتناع مشاركة موجود لواجب الوجود في مرتبة وجوده، فهو وحده واجب بذاته ووجوب غيره واجب به". )(1) وهو يرى أنّ صحة توحيد المرء تتوقف على الإقرار بالصانع موحداً منزهاً عن الكم والكيف، والزمان، والوضع والتغير، حتى يصير الاعتقاد بأنه ذات واحدة، لا شريك له في النوع، ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق السماوات ولا مستو على العرش. )(2)
المناقشة:
وفي اعتقادنا أن التوحيد بهذا المعنى الفلسفي بعيد عن معنى التوحيد الذي بعث الله تعالى به رسله، وأنزله في كتبه، وبينه أئمة المسلمين من السلف الصالح فالتوحيد الذي جاء به الإسلام هو:الإقرار والاعتقاد بأن الله واحد لا شريك له في الخلق والملك والتدبير والرزق، وأنه المستحق وحده الطاعة والعبادة، المتصف بصفات العظمة والجلال والكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.)(3) والكتاب الكريم والسنة الشريفة تشهد بصحة هذا المعنى للتوحيد.
__________
(1) - تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات - الرسالة الخامسة - ص .77
(2) - انظر رسالة أضحوية في أمر المعاد ص .45 -44
(3) - انظر معنى التوحيد عند السلف من هذا البحث.(1/306)
أما التوحيد الفلسفي فغايته إنكار الصفات الثبوتية الواجبة لله تعالى، إذ هو ذات مجردة عن صفات المعاني، كما أن هذا التوحيد لا يقرر الإيمان بأن الله هو الخالق الرازق الذي تدين المخلوقات بربويته، ويؤمن العباد بألوهيته وحاكميته، فنفي الضد والند لا يعني عند الفلاسفة نفي الشريك له في الطاعة والعبادة، بل مقصودهم منه نفي المثل والكفء والمساوي له في وجوب الوجود، لأن وجوب وجوده من ذاته، ووجوب وجود غيره منه، وهذا لا يفيد المرء ولا ينجيه إذا أقر به، ولا يبعده عن الشرك إذا لم يصاحبه إخلاص لله في العبادة والطاعة، وإيمان بصفات الكمال الواجبة له .يقول ابن تيمية رحمه الله:إنّ غاية التوحيد عند الفلاسفة نفي جميع الصفات الثبوتية، وأنهم زادوا في ذلك على المعتزلة حتى إنهم يقولون ليس له إلا صفة سلبية، )(1)أو إضافية، )(2)أو مركبة منهما.)(3)..)(4)
المبحث الثاني:أنواع التوحيد عندهم:
__________
(1) - الصفة السلبية:مثل قولهم:ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا مداخل له.انظر:رسالة أضحوية في أمر المعاد، ص 45 ، النجاة لابن سينا،ص 251 ، الرسالة التدميرية ص 12 ، .35
(2) - الصفة الإضافية:هي الصفة التي لا تعرف إلا بإضافاتها إلى غيرها، مثل قولهم:محرك الفلك، ومرادهم أنه لولا الفلك ما كان موجوداً، وقولهم علة الموجودات ومبدأ الكائنات، انظر:المصادر السابقة، الرسالة النيروزية لابن سينا ص.93
(3) - الصفة المركبة منهما :مثل قولهم :عقل وعاقل ومعقول ومريد، وجواد، انظر :النجاة ص 251 ،ويأتي معنا مراد الفلاسفة من الصفات السلبية والإضافية والمركبة منهما
(4) - انظر:نقض المنطق ص 256 ، بيان تلبيس الجهمية .465 /1(1/307)
من خلال عرضنا السابق لبيان معاني الواحد والوحدة والتوحيد عند الفلاسفة يتبين لنا أن التوحيد عندهم ينحصر في نوعين اثنين هما:توحيد الوجوب وتوحيد الذات. )(1)
-1توحيد الوجوب:
ويتحقق هذا النوع من التوحيد عند الفلاسفة بإثبات أن الله واحد لا شريك له من نوعه، وأنه لا ضد له ولا ند، وخصوصية هذا التوحيد هي وجوب الوجود بالذات، وأنه لا واجب وجود غيره، وأن وجوده غير مستفاد عن وجود غيره، حيث لا واجب الوجود لذاته سواه. يقول الفارابي:"إنه واحد بمعنى أنه لا يمكن أن يكون لشيء آخر وجود مثل وجوده فيكونان واجبي الوجود". )(2)
ويقول ابن سينا:"إنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع". ويقول:" وإنّه واحد من حيث هو غير مشارك ألبتة في وجوده الذي له". )(3)
المناقشة:-
__________
(1) - توحيد الوجوب وتوحيد الذات اصطلاحان استنتجناهما، إذ لم نر أحداً قال بهما، وهو استنتاج وصلنا إليه من خلال دراستنا للفكر الفلسفي حول واجب الوجود بذاته .
(2) - رسالة الدعاوي القلبية ص .3
(3) - النجاة ص .251(1/308)
إنّ القرآن الكريم قد ورد فيه نفي الند وال شريك لله تعالى، والآيات الشريفة في هذا الأمر كثيرة، منها قوله تعالى:)فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتمْ تَعْلَمُون) سورة البقرة:22، وقوله:)لا شرِيكَ لهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) سورة الأنعام: 163، وقوله: )وَقلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ ْ يَتَّخِذ وَلَدًا وَلمْ يَكنْ لهُ شَرِيكٌ فِي ِ الْمُلْك)الإسراء.111 وقوله:)وَلمْ يَكنْ له ُ كُفُوًا أَحدٌ). سورة الإخلاص:4، والقرآن الكريم حينما ينفي الند والشريك لله تعالى فإنّه في الوقت نفسه يقرر توحيد الألوهية لله تعالى، وذلك بوجوب عبادته وطاعته والإخلاص له، وعدم صرف شيء من العبادة للشركاء أو الأنداد، ويبين القرآن الكريم أن التوحيد الحق هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً فقد وحده تعالى، ومن عبد من دونه شيئاً فهو مشرك به، وليس بموحد مخلص دينه لله، ولن ينفعه أن يقول بلسانه: لا شريك لله ولا ضد ولا ند، وأنه واجب الوجوب بذاته، دون أن يتوجه بالعبادة كلها لله، خالصة له عز وجل لا شريك له.)(1)
__________
(1) - انظر بيان تلبيس الجهمية 133 /1 ، 134 ، .478(1/309)
والتوحيد الذي بينه القرآن الكريم لم يتعرض له الفلاسفة ألبته، وسبب ذلك أن الفلاسفة لم يعرفوا حقيقة التوحيد التي جاءت به رسل الله تعالى، وأنزله الله في كتبه، واتفق عليه سلف الأمة، وهو التوحيد الذي تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له.قال تعالى:)وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ ُ الرَّحِيم) سورة البقرة:163 وقال:)وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فإياي َفَارْهَبُونِي )سورة النحل : 51 ، وقال تعالى :)تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقّ ِفَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا ل َهُ الدِّين، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْن َهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ ٌ كَفَّار). سورة الزمر:3 -1 كما أن الشرك الذي حاربه القرآن الكريم وتوعد صاحبه بالهلاك والخسران هو عبادة غير الله من المخلوقات، كعبادة الملائكة أو الكواكب، أو الشمس أو القمر، أو غير ذلك من المعبودات البشرية والحجرية. )(1)
__________
(1) - انظر التسعينية لابن تيمية ص.208(1/310)
وثمّة سبب آخر في عدم تعرض الفلاسفة للتوحيد الحق ألا وهو إعراضهم عن المنهج الرباني في دراسة العقيدة وتقريرها، وإقبالهم على المناهج الفلسفية اليونانية الوثنية، التي أعمت أبصارهم وبصائرهم. إنّ توحيد الفلاسفة لا يغني من الحق شيئاً، فلقد كان مشركو العرب مقرين بتوحيد الربوبية، الذي هو خير من توحيد هؤلاء الفلاسفة، كانوا يؤمنون بأنّ الخالق كُنتُم والملك، المدبر هو الله عز وجل، ولم يعتقدوا بوجود شريك له في الخلق والتدبير والرزق ولقد أخبر الله تعالى عن اعتقادهم هذا بقوله:)قلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ تَعْلَمُونَ، سَيَقولونَ لِلَّهِ قلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقولونَ لِلَّهِ قلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوت كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَليْهِ إِنْ كُنتمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولونَ لِلَّهِ قلْ فَأَنَّا تسْحَرُونَ ) سورة المؤمنون: 89-.84 )وَلَئِنْ سَأَلْت َهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولنَّ اللَّه):وبقوله سورة العنكبوت :61 ، ومع أن هؤلاء كانو ا معتقدين بربوبية الله للسماوات والأرض ومن فيهن فإن اعتقادهم هذا لم ينفعهم، فما زالوا مشركين قال تعالى:)وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشرِكُونَ) سورة يوسف:.106 أمّا الفلاسفة فيقولون بوجوب نفي الند والشريك لله، وفي الوقت نفسه يجعلون كثيرا من المخلوقات خلقاً لغير الله تعالى، مثل قولهم :إن الحوادث تحدث بسبب حركات الأفلاك، وأن العقل الفعال يصل العالم العلوي بالعالم السفلي، وأنه يدبر ما تحت فلك القمر، وقولهم :إن الملائكة معلولة متولدة عن الله تعالى، لم يخلقها هو بمشيئته وقدرته .)(1)
__________
(1) -انظر الصفدية 9 -7 /1 ، مجموع الفتاوى .76 -75 / 7(1/311)
إنه لم يعرف أن أحداً من الطوائف قال بوجود الهين متماثلين من كل وجه، )(1)أو قال بوجودين واجبين بذاتيهما، وبذلك يكون توحيد الفلاسفة شراً من توحيد المشركين والنصارى الذين اتفقوا أن الخالق لهذا العالم وما فيه واحد لا شريك له. وأخيراً فإنّ غاية توحيد الوجوب عند الفلاسفة هو إثبات وجود واجب ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود، والمطلق لا يوجد إلا في الذهن، ولا وجود له في الواقع الخارجي، لأنّ الذي في الخارج هو الموجود المتعين بصفاته الواجبة له )(2).
-2 توحيد الذات:
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى 97 -96 /3 ، 75 /7 ، شرح العقيدة الطحاوية .27 /1
(2) - انظر الصفدية 120 /1 ، منهاج السنة 542 /3 ، درء تعارض العقل والنقل 395 -392 /3 مجموع الفتاوى .453 /16(1/312)
ومعناه عندهم نفي الكثرة عن ذات واجب الوجود، ونفي التركيب في ذاته خارجاً وعقلاً، فذاته لا تتكثر ولا تنقسم بأي نوع من أنواع التكثر أو الانقسام، ولا تتجزأ، ولا تتعدد، ولا يلحقها أي شيء من علائق المادة من الكيف والكم والزمان والمكان والوضع والتغير. )(1) ويدخل في مسمى هذا النوع من التوحيد نفي الصفات، وهو قريب من توحيد المعتزلة، فالمعتزلة يرون أن الله ذات غير مركبة، وأن القول بوجود صفات لله يؤدي إلى التعدد والتكثر في ذاته، وهذا يتنافى مع وحدانية الله تعالى وكل من المعتزلة والفلاسفة يسمون نفيهم للصفات توحيداً ويطلقون على أنفسهم أهل التوحيد فالله تعالى عند الفلاسفة وجود محض وهو واجب الوجود لذاته، ويسمون مثل هذا توحيداً )(2).
__________
(1) - انظر عيون المسائل ص 5 ، فصوص الحكم ص 4 ، الإشارات والتنبيهات 45 -44 /3 الهداية ص363 -362 ، عيون الحكمة ص 59 -58 ، النجاة ص 228 -227 ، 230 ، حكمة الإشراق للسهروردي ص .105
(2) - انظر بيان تلبيس الجهمية 482 /1 ، درء التعارض 224 /1 ، ابن رشد وفلسفته الدينية د .محمود قاسم ص 122 ، 137 ، فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية :د .محمد صالح الزركان ص .218(1/313)
ويذكر الشهرستاني عن الفلاسفة أنّهم زعموا أنّ ذات الله تعالى واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، وأن الصفات ليست معاني قائمة بذاته تعالى بل هي ذاته. )(1)أي أنّ مفهوم الفلاسفة للوحدانية جعلهم ينكرون الصفات الثابتة لله تعالى التي جاءت في الكتاب والسنة، لأن الصفات في نظرهم تؤدي إلى كثرة اعتبارية في ذات واجب الوجود، وقد فرض أنه واحد من جميع الجهات .ومن خلال دراستنا للفكر الفلسفي نجد أصحابه يشرحون ذات الله–وهي ذات واجب الوجود- بما لا يخرج عن كونها عقلاً وعلماً .ويشرحون كل الصفات الواجبة له بمعنى يرجع إلى العلم والإدراك، فالصفات في نظرهم لا يتطلبها واجب الوجود بذاته الذي فرض أنه واحد بسيط مجرد عن المادة. )(2)
ويدخل في مسمى هذا النوع من التوحيد-عند الفلاسفة- اعتقادهم أنّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد .قالوا :لو سلمنا أنّ الواحد تصدر عنه كثرة لأدى ذلك إلى كثرة وتعدد في الذات الإلهية والله واحد بسيط من جميع الجهات ولا تكثر في ذاته، وما دام واحداً بسيطاً–لا تكثر في ذاته- فلا يصدر عنه إلا واحد، والواحد الذي يصدر عن واجب الوجود هو العقل الأول، ووحدانية هذا العقل لا ترقى إلى وحدانية الله المبدأ الأول. )(3)
وفي الصفحات التالية نعرض بالتفصيل لتوحيد الذات القائم على نفي الصفات الإلهية، والاعتقاد بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
المبحث الثالث:موقف الفلاسفة من الصفات الإلهية:
__________
(1) - انظر نهاية الإقدام ص 127.
(2) - انظر النجاة ص 249-250، الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 541-542.
(3) - انظر آراء أهل المدينة الفاضلة ص 18-20، عيون المسائل ص 5، السياسات المدنية ص 17-19، النجاة ص 275-278، الهداية ص 274-275، تاريخ الفلسفة لدي بور ص 255-256.(1/314)
لقد اعتقد الفلاسفة بساطة المبدأ الأول وتجرده، ونفوا عنه كل الصفات الوجودية الثابتة له، ولم يثبتوا له إلاّ السلوب والإضافات، وأثبتوا له صفات ابتدعوها من أنفسهم، فقالوا:هو عقل وعاقل ومعقول. وعشق وعاشق ومعشوق، وغير ذلك من الصفات التي يجب تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بها، وهي صفات لا برهان عليها من الكتاب والسنة.
ونتناول تحت عنوان:"نفي الفلاسفة للصفات" المطالب التالية:-
1 -القول بنفي الصفات.
2 - موقفهم من الصفات التي وردت في الكتاب والسنة.
3- إثباتهم صفات لم يرد بها الشرع، ولم يدل عليها العقل
4- دراسة لموقف الفلاسفة من صفتي العلم والكلام.
5-القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
أولاً -القول بنفي الصفات:(1/315)
ذهب الفلاسفة إلى القول بأنّ ذات الله تعالى واحدة لا كثرة فيها ولا تتعدد، ولا تركب بوجه من الوجوه، وأن الصفات ليست معاني قائمة بذاته بل هي ذاته وإثبات هذه الصفات يؤدي إلى إثبات ذوات قديمة متعددة في ذاته تعالى، وهذا يوجب التكثر في ذاته، كما يوجب أن تكون ذاته مركبة، والتكثر والتركيب في حقه مستحيل وقد دل الدليل على كونه عالماً قادراً حياً، ولم يدل على العلم والقدرة والحياة.وقد شرح هؤلاء الفلاسفة ذات الله تعالى بما لا يخرج عن كونه عقلاً وعلماً، وقد أدى بهم بحثهم في موضوع الذات وعلاقة الصفات بها إلى أن يقرروا أن الله تعالى هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، حيث جردوه من كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختياري، وسموا نفي الصفات توحيداً مثلما سمت المعتزلة نفيها للصفات توحيداً. )(1)
ونذكر هنا بعض أقوال الفلاسفة التي توضح إنكارهم لصفات الكمال الواجبة لله. يقول الفارابي: "فهو ينال الكل من ذاته، فعلمه بالكل بعد ذاته، وعلمه نفس ذاته، فيكثر علمه بالكل كثرة بعد ذاته، ويتحد الكل بالنسبة إلى ذاته، فهو الكل وحده، فهو الحق". )(2) ويقول:" ليس علمه بذاته مفارقاً لذاته بل هو ذاته وعلمه بالكل صفة لذاته ليست هي ذاته بل لازمة لذاته وفيها الكثرة الغير متناهية بحسب كثرة المعلومات الغير متناهية". )(3)
__________
(1) - انظر فصوص الحكم ص 21 ، النجاة - ص 230 ، 250 ، رسالة أضحوية في أمر المعاد ص44- 49 ، التعليقات ص 51 ، الإشارات والتنبيهات 285 -281 /3 ، لباب الإشارات للرازي ص 95 -93 ،110.درء التعارض 224 /1 ، 21 /5 ، مجموع الفتاوى 150 /4 ، 231 /12 ، شرح العقيدة الأصفهانية 51 ، إغاثة اللهفان 280 -279 /2 ، شرح القصيدة النونية، د .محمد خليل هراس 443 /2 ، إخوان الصفا، د .جبور عبد النور ص .35
(2) - فصوص الحكم ص.5
(3) - المصدر السابق ص.21(1/316)
ويقول ابن سينا: "فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود إنه إنْ وموجود، ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع السلب، وليس ولا واحد منها موجباً في ذاته كثرة ألبته ولا مغايرة .وإذا قيل:عقل وعاقل ومعقول لم يعن بالحقيقة إلا أن هذا الوجود مسلوباً عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما .ويقول:" ثم من المعلوم الواضح: أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحداً مقدساً عن: الكم والكيف، والأين، والمتى، والوضع، والتغير، حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع، أو أن يكون لها جزء وجودي:كمي أو معنوي، ولا يمكن أن يكون خارج عن العالم ولا داخله، ولا بحيث تصح الإشارة إليه أنها هناك".)(1) ولقد عقّب شيخ الإسلام ابن تيمية على قول ابن سينا هذا فقال:"فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى، ومراده أنه ليس لله علم ولا قدرة، ولا إرادة، ولا كلام، ولا محبة، وأنه لا يرى، ولا يباين المخلوقات". )(2)
ويقول ابن مسكويه: إنّ الله تعالى ليس له وصف ذاتي ولا غير ذاتي، ولا يمكن أن يبرهن عليه بطريق الإيجاب بالبرهان المستقيم، ولكن ببرهان السلب الذي هو أليق الأشياء بالأمور الإلهية، وأشبهها بأن تستعمل فيها .وإذا قلنا: هو عالم وليس كالعالمين، وقادر وليس كالقادرين، ونحن مضطرون إلى حرف السلب لمباينته تعالى مباينة تامة لجميع الخلق عن أي نوع من أنواع الاشتراك. )(3)
__________
(1) - رسالة أضحوية في أمر المعاد ص.45 -44
(2) - درء التعارض.87 /5
(3) - الفوز الأصغر-بتصرف- ص 31-32(1/317)
ويقول إخوان الصفا: إنّ الله لا يتصف بالصفات الثبوتية لأن العقل البشري قاصر عن الإحاطة بأمرها، فالإنسان لا يقدر إلاّ على ذكر صفات الكائنات المؤلفة من المادة والصورة، والخالق يتنزه عن الأمور الجسمية.وإذا نسبت إليه بعض الصفات فما ذلك إلا عن طريق التقريب والمجاز ليتقرر وجوده في عقول الجسمانيين .والله منزه عن الكم والكيف والمكان والزمان واللم )(1) )(2).
تلك هي بعض أقوال الفلاسفة التي يصرحون فيها بإنكار الصفات بزعم أنها تؤدي إلى التكثر والتركيب في ذات الله، وهو منزه عن التكثر والتركيب.
المناقشة:-
-1إنّ في نفي الفلاسفة للصفات جحوداً ً ونكرانا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه رد لما جاءت به الرسل عليهم السلام من الله عز وجل، ولما علَّموه لأممهم.
-2 وأيضاً هو إلحاد في أسماء الله وآياته، وتمثيل له تعالى بالمعدوم والموات الذي لا صفة له.
-3 إنّ التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتضمن شيئاً من هذا النفي، بل هو يتضمن إثبات ألوهية الله وحده، وإثبات صفات الكمال لله عز وجل، فصات العلم القدرة والحياة والسمع والبصر والكلام ونحوها صفات كمال، والله عز وجل يجب أن يتصف بكل كمال، وهو أحقّ به.
__________
(1) - اللم :معناه السؤال بلم .
(2) - إخوان الصفا – بتصرف- للدكتور جبور عبد النور، ص .35(1/318)
-4 كما أنّ شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. )(1) وإذا كانت الفلاسفة نفت عن واجب الوجود كل صفات الكمال التي جاء بها السمع والعقل، وزعمت أنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق .فإنّه يقال لهم إن الموجود المطلق يستحيل وجوده في الخارج، بل هو أمر يقدَّره الذهن فحسب، لأن الموجود في الخارج يجب أن يكون متعينا. )(2)ولا يتم تعينه إلا بصفاته الواجبة له .
-5 ويبين ابن تيمية أنّ نفي صفات الكمال عن الله هو انتقاص لحقه تعالى، ودليل على جهلهم بالله عز وجل وما يستحقه من الكمال، كما أنّه يؤدي إلى وصفه بالنقائص التي يأبى العقلاء أن تطلق على من هو أقل منه رتبة ومنزلة، فكيف بالله تعالى صاحب العظمة والجلال .يقول رحمه الله:" فمن لم يتصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغير ذلك، فإما أن يكون قابلاً للاتصاف بذلك ولم يتصف به، أو غير قابل للاتصاف به، فإن قبله ولم يتصف به كان موصوفاً بصفات النقص كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء...وإن قيل : إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها .فالحيوان الذي يكون تارة ً سميعا وتارة أصم، وتارة بصيراً وتارة أعمى وتارة متكلماً وتارة أخرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا .فمن لم يصفه بصفات الكمال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص".)(3)
__________
(1) - انظر: مجموع الفتاوى 356 /12 ، درء التعارض .224 /1
(2) - انظر: الرسالة التدمرية 81 ، إغاثة اللهفان 280 -279 /2 ، شرح القصيدة النونية .436 -433 /2
(3) - مجموع الفتاوى .357 -356 /12(1/319)
إنّ نفي صفات الكمال الواجبة لله تعالى هو في الحقيقة تعطيل للرب، وتفضيل للمخلوق على الخالق، والفلاسفة بذلك يبرهنون على أنهم أضل من اليهود والنصارى ومشركي العرب. )(1)فمشركو العرب مثلاً كانوا يؤمنون بوجود الله الخالق الحي الرازق القادر، وهؤلاء الفلاسفة يثبتون واجب الوجود ويقولون هو الوجود المطلق، وليس له صفة ولا نعت، ولا فعل يقوم به. .)(2) وإله الفلاسفة هذا الذي أطلقوا عليه اصطلاح الواحد، وسمّوا نفي صفاته توحيداً–يستحيل وجوده، لأنّه لا وجود لإله لا سمع له ، ولا كلام ولا مشيئة له ولا اختيار، ولا حياة له ، ولا قدرة . يقول ابن القيم:"وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده، فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله:)وَإِلَهُكمْ إِلَهٌ وَاحِد) سورة البقرة: 163 ، وقوله : )?وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)? سورة المائدة: 73 ، نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي، وقالوا :لو كان له صفة أو كلام، أو مشيئة، أو علم، أو حياة، أو قدرة، أو سمع، أو بصر، لم يكن واحداً .وكان مركباً مؤلفاً .فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء، وهو التوحيد، وسموا أصلح الأشياء وأحقها بالثبوت، وصف صفات الرب بأقبح الأسماء، وهو التركيب والتأليف، فتولد من هذه التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقائق أسماء الرب وصفاته، بل وجحد ماهيته وذاته، وتكذيب رسله، ونشأ من نشأ على اصطلاحه، مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي، فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه فجعلوه أصلاً لدينه. فلما رأى أن ما جاءت به الرسل يعارضه قال: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل". )(3)
__________
(1) - انظر الرد على المنطقيين ص.526- 524
(2) - انظر إغاثة اللهفان .288 /2
(3) - مختصر الصواعق.170 -169 /1(1/320)
-6 لقد شرح الفلاسفة الإسلاميون وحدانية الله تعالى بما شرح به أفلوطين، وغيره من فلاسفة الإغريق وحدة واجب الوجود، ونقل هؤلاء الفلاسفة في شرحهم خصائص واجب الوجود الإغريقية، وطبقوها على مفهوم الوحدانية لله، وقد اضطرتهم المحافظة على مفهوم الوحدة بخصائص واجب الوجود الإغريقية إلى نفي صفات الرب عز وجل. فالفيلسوف أفلوطين يرى أنه لا يجوز إطلاق صفة من الصفات على واجب الوجود، لأن في ذلك ً تشبيها له بالأفراد. )(1)
يقول الدكتور راجح الكردي: "أما فلاسفة المسلمين فقد سلَّموا للفلسفة الإغريقية بنفس الحماس الذي سلموا به للدين–إن لم يكن أكثر- وهم حاولوا أن يوفقوا بين خصائص واجب الوجود الإغريقية وبين مفهوم الوحدانية في الإسلام مع صحة إجراء الصفات على الله تعالى، مما جعلهم يثيرون هذه القضية العقلية )(2) التي لا علاقة لها بطبيعة الدين، ولا يترتب عليها إيمان بهذا الدين أو عمل" .
-7 وأخيراً إنّ توحيد هؤلاء الفلاسفة يقوم على الاعتقاد ببساطة الذات الإلهية وتجردها من الصفات، والشرك عندهم هو إثبات صفات الكمال للذات، وهذا يقتضي-كما يزعمون -وجود ثلاثة أشياء متغايرة هي : الذات، والصفات، والوجود .وذلك يؤدي إلى الكثرة ويصطدم مع مفهوم البساطة من كل وجه، ولذا نفت الفلاسفة الذات والصفات، ولم يبقوا إلا الوجود من غير إضافة شيء إليه حتى لا يصير وجوداً ممكنا .وقد أدى بهم هذا إلى القول بالوجود المطلق بشرط الإطلاق، وغاية هذا القول عدم وجود إله في الواقع الخارجي لأنّ المطلق- كما سبق بيانه-أمر كلي لا يوجد إلا في الذهن فقط .لأن الإله الذي في الخارج متعين متصف بصفات الكمال، وهذا لا يؤمنون بوجوده. )(3)
__________
(1) - انظر علاقة ذات الله بصفاته للدكتور راجح الكردي ص 111 ، الإمام ابن تيمية وقضية التأويل ص .179 -178
(2) - يقصد بقولهم :بساطة واجب الوجود، ونفي الكثرة عن ذاته.
(3) - شرح القصيدة النونية- بتصرف .436 /2(1/321)
ثانيا:موقفهم من الصفات الواردة في الكتاب والسنة:
عرفنا فيما سبق أن الفلاسفة ينكرون صفات الكمال اللازمة لله عز وجل بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى التكثر والتركيب في ذاته تعالى، والتكثر والتركيب محال في ذاته تعالى، وقد ناقشنا حجتهم وبينّا بطلانها وفسادها.
وإذا كان الفلاسفة ينفون الصفات، فالسؤال الذي يطرح نفسه:ما موقفهم من الصفات الواردة في الكتاب والسنة ؟ .وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنّ الفلاسفة لهم موقف من هذه الصفات بحسب معناها .فالصفات الذاتية- وهي الملازمة للذات الإلهية ولا تنفك عنه-إنْ كانت سمعية عقلية كالقدرة والإرادة والحياة والسمع والعلم، فإن الفلاسفة يردونها تارة إلى صفتي الإرادة والعلم، وتارة إلى صفة العلم، ثم يقولون علمه هو ذاته، وتارة يقولون:الصفة هي عين الصفة الأخرى، وليست صفته سوى جوهره، وهو جوهر واحد وذات واحدة .
وأمّا إذا كانت صفاته سمعية فقط كاليدين والوجه والعين والساق، فإنّهم يزعمون أن هذه الصفات جاءت في القرآن الكريم على سبيل المجاز والاستعارة وأن ظاهرها غير مراد، لأن ظاهرها التشبيه، والله منزه عن التشبيه والجسمية.
وأمّا الصفات الفعلية- وهي المتعلقة بإرادته تعالى ومشيئته، التي يفعلها متى شاء، وإذا شاء، وكيف شاء، فإن كانت سمعية عقلية كالرزق والإعطاء والمنع والكلام، فإنّهم يؤولونها تأويلاً ً غريبا هو أقرب إلى النفي من الإثبات، وأما إذا كانت سمعية فقط كالنزول والاستواء والمجيء، فإنّهم يزعمون أنها جاءت في القرآن الكريم على سبيل الحقيقة لا المجاز، ولكن لا يؤمنون بها، لأن إثباتها يؤدي إلى التكثر والتركيب في ذاته تعالى، والله واحد من جميع الجهات فلا يتكثر لأجل تكثر صفاته، فإثباتها ينافي وحدته
المحضة.(1/322)
ذلك إجمال موقف الفلاسفة من الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة، وفي الصفحات التالية نعرض ذلك بشيء من التفصيل كما جاء في مؤلفاتهم ومؤلفات غيرهم من المطلعين على مؤلفات الفلاسفة والعارفين بحقيقة مذهبهم. ثم نتناول موقف الفلاسفة بالمناقشة والنقد.
أ-زعم الفلاسفة أنّ الصفة عين الأخرى:
يقول ابن سينا:" الأول لا يتكثر لأجل تكثر صفاته، لأن كل واحد من صفاته إذا حقق تكون الصفة الأخرى بالقياس إليه، فتكون قدرته حياته، وحياته قدرته، وتكونان واحدة، فهو حي من حيث هو قادر، وقادر من حيث هو حي، وكذلك سائر صفاته". )(1)
ب- زعم الفلاسفة أن الصفة هي نفس الذات:
ذهب الفلاسفة إلى أنّ الصفة هي الموصوف، فكونه تعالى حياً أي الحياة نفسها ذاته، قالوا:وإذا قلنا هو قادر، فمرادنا أن القدرة هي ذاته، فالصفة هي عين الذات. )(2) وليست الصفات-عندهم-معاني زائدة على الذات أو مستقلة، وقد اتبع الفارابي وغيره من الفلاسفة الإسلاميين الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي قال: إنّ الله عقل محض، وأنه يفكر في ذاته. )(3)
يقول ابن سينا:" بل هو ) أي واجب الوجود ) ذات، وهو الوجود المحض والحق المحض، والخير المحض، والعلم المحض، والقدرة المحضة، والحياة المحضة من غير أن يدل بكل واحد من هذه الألفاظ على معنى مفرد على حدة، بل المفهوم منها عند الحكماء معنى وذات واحدة". )(4)
وقد نقل ابن تيمية عن الفلاسفة أنهم يزعمون أن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، فالعلم والعالم شيء واحد، والإرادة والمريد شيء واحد فالصفات هي الموصوف. )(5)
المناقشة:
__________
(1) - التعليقات ص .49
(2) - انظر المصدر السابق ص .19
(3) - انظر ابن رشد وفلسفته الدينية للدكتور محمود قاسم ص .137
(4) - رسائل ابن سينا في الحكمة والطبيعيات- الرسالة النيروزية ص .93
(5) - انظر :الرسالة التدمرية ص 12 ، مجموع الفتاوى 596 / 12 ، الصفدية128 -127/1 ، منهاج السنة .545 / 3(1/323)
وقد ناقش ابن تيمية هذا الزعم، وبين مخالفته لصريح العقل، وأن أصحابه الفلاسفة من أعظم الناس جهلاً وكذباً وسفسطة، وأنهم قد ضاهوا النصارى في جهلهم. فإذا كان النصارى متناقضين في التوحيد، فالفلاسفة أعظم منهم تناقضاً، وقولهم في التوحيد شر من أقوال النصارى .فالنصارى يقولون الله أحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم، )(1) وجعلوا الأقنوم هو الذات الموصوفة بالصفات الثلاثة)(2).
ويقول ابن تيمية:إن التفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم، وأن من جعل أحدهما هو الآخر فقد أتى من السفسطة بما لا يخفى على كل عاقل .ولهذا كان منتهى أقوال الفلاسفة السفسطة في العقليات والقرمطة )(3)في السمعيات. )(4)
__________
(1) - الأقنوم: كلمة سريانية، عربت، تجمع على أقانيم .ومعناها :الجوهر والأصل، والشخص، وتستعمل عند النصارى للدلالة على الأب أو الابن أو الروح القدس .انظر:المعجم الكبير- من منشورات مجمع اللغة العربية بمصر 384 /1 ، والمعجم الوسيط- منشورات نفس المجمع .22 /1
(2) - انظر :الصفدية 128 -127 /1 ، درء التعارض .285 /1
(3) -القرمطة:نسبة إلى القرامطة، وهي فرقة باطنية ينتسبون إلى رجل من سواد الكوفة اسمه حمدان بن الأشعث، الذي كان يلقب بقرمط لقرمطة في خطه أو في خطوه، تتلمذ على الداعية الإسماعيلي حسين الأهوازي رسول عبيد الله بن ميمون القداح، وقد قويت شوكة القرامطة في عهد خلفاء بني العباس وخاصة المعتضد بالله، فأخافوا السبيل، وقطعوا الطريق على الحج، واستولوا على بلاد كثيرة.انظر:تاريخ الطبري 338 -337 /11 ، الكامل لابن الأثير حوادث سنة 278 هـ وفيات الأعيان 409 /1 ،اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 79 ، الفرق بين الفرق -ص 282 ، مروج الذهب .280 /4ومقصود ابن تيمية من مصطلح القرمطة: التأويل الباطني المنحرف للقرآن الكريم.
(4) - انظر :درء التعارض .286 -285 /1(1/324)
وذهب ابن رشد إلى أن القول بأن العلم هو العالم، وجعل أحدهما هو الآخر .هو من البدع التي تضلل جمهور المسلمين، وأن الفلاسفة ليس معهم برهان أو دليل يثبت صحة ما ذهبوا إليه .وقال:إنهم زلَّوا كالنصارى الذين أرجعوا الصفات إلى صفتي العلم والحياة، وقالوا إن الإله ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وهو واحد من جهة أن مجموعها شيء واحد. )(1)
ج -رد الفلاسفة الصفات الذاتية إلى صفة العلم:
أرجع الفلاسفة الصفات الذاتية السمعية العقلية كالإرادة والقدرة والحياة والحكمة إلى صفة العلم. )(2)وقد شرحوا هذه الصفات بمعنى يؤول إلى صفة العلم، لأن هذه الصفات-في نظرهم- لا يتطلبها واجب الوجود الذي يؤم ن به هؤلاء الفلاسفة نقلاً عن الفكر اليوناني. )(3)
فعن صفة الحياة، يقول الفارابي:" وكذلك في أنه حي وأنه حياة، فليس يدل بهذين على ذاتين بل على ذات واحدة، فإن معنى الحي أنه يعقل أفضل معقول بأفضل عقل، أو يعلم أفضل معلوم بأفضل علم، كما أنه إنما يقال لنا أحياء أو لا إذا كنا ندرك أحسن المدركات بأحسن إدراك". )(4)
ونودّ أن نضيف هنا أن ابن سينا ابتدع للباري عز وجل صفات من تلقاء نفسه وحسب ما أملاه عليه هواه، واتباعاً منه لفلاسفة اليونان، ومن هذه الصفات:عاقل ومعقول وعقل، ثم قام بإرجاع هذه الصفات إلى صفة العلم، كشأنه في إرجاع جميع الصفات الذاتية إلى العلم. )(5)
المناقشة:
__________
(1) - انظر :مناهج الأدلة في عقائد الملة ص .167 -166
(2) - انظر :التعليقات ص .20 -19
(3) - انظر :الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 542 -539 ، ابن سينا بين الدين والفلسفة186 -184
(4) - آراء أهل المدينة الفاضلة ص .12
(5) - انظر :الهداية ص .264(1/325)
وللردّ على زعم الفلاسفة نقول: إن العقل يجزم بوقوع التغاير في معاني الصفات، وكل أحد يعلم أن صفة القدرة ليست هي صفة العلم، وأن صفة الحياة ليست هي صفة العلم، فقد يوصف الشيء بالحياة ولا يوصف بالعلم، وقد يوصف بالعلم ولا يوصف بالقدرة، وأقوال الفلاسفة–في ردهم الصفات الذاتية للعلم - يردها القرآن الكريم والفطرة والبديهة، وينقضها سائر أصحاب العقول، فأقوالهم ليست سوى مغالطات وسفسطة .فالقرآن الكريم-على سبيل المثال- أثبت في أكثر من آية أن الله يفعل ما يشاء ويختار، ومن هذه الآيات قوله تعالى :)?وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشاءُ ُ وَيَخْتَار) سورة القصص :68
وقوله:)?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لهُ كنْ فيَكُونُ) ?سورة النحل: 40 وقوله:)?وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا )سورة الإنسان: 28 ، وقوله) وَلوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنت ْتَكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )سورة يونس: 99 ، ومن المعلوم أنّ الإرادة غير العلم .
وقد اعترف ابن رشد أحد حذاق الفلاسفة بأن ردِّ الصفات المتعددة إلى معنى واحد هو من الأمور التي يصعب فهمها جداً.) )(1)
د -زعم الفلاسفة أنّ الصفات الخبرية وردت على سبيل المجاز لا الحقيقة: وأن ظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم، وهو غير مراد، وأن القرآن الكريم ذكرها على سبيل التفهيم للجمهور ليتقرر وجوده في عقولهم، ولم يذكرها من أجل الاعتقاد بظاهرها. )(2)
__________
(1) - انظر :مناهج الأدلة ص .166
(2) - انظر :رسالة أضحوية في أمر المعاد، ص 50 -44 ، إخوان الصفا للدكتور جبور عبد النور،ص 36 -35 ، درء التعارض العقل والنقل 14 -11 /5 ، مختصر الصواعق المرسلة 80 /1 ، تاريخ الفلسفةفي الإسلام لدي بور، ص 209 ، المذهب الإشراقي بين الفلسفة والدين في التفكير الفلسفي ص .144(1/326)
مناقشة دعوى المجاز في صفات الله التي جاءت في القرآن والسنة:
لقد ناقش كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم دعوى المجاز في القرآن الكريم فيما يتعلق بصفات الله وأسمائه، )(1)وبَيَّنا أ نّه لا مجاز في القرآن الكريم. وأنّ تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز اصطلاح مبتدع لم يعرفه أهل القرون الثلاثة المفضلة.
ونذكر هنا بعض ردود ومناقشات شيخ الإسلام وتلميذه على هذه الدعوى:
1- إنّ تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز اصطلاح محدث مبتدع، لم يرد في كلام أهل القرون الثلاثة الأولى من الصحابة والتابعين، ولم يتكلم به أئمة السلف، ولا الأئمة الأربعة المشهورون، )(2)وهذا التقسيم مصدره نفاة الصفات من المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم. )(3)
2- إنّ تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز اصطلاح خاص بمن ابتدعه وأحدثه في اللغة، إذ
لم يكن اصطلاحاً لغوياً، فهو لم يرد عن أحد من أئمة اللغة والنحو المشهورين.
3- إنّ أصحاب هذا الاصطلاح ومناصري دعوى المجاز لم يستطع أحد منهم أن يبين الفروق الدقيقة بين كلّ من الحقيقة والمجاز، حيث أنّ كل معنى خصَّوا به اسم الحقيقة وجد فيما سموه المجاز. فعلى هذا يكون التقسيم مجانبًا للصواب وغير صحيح.
__________
(1) - لابن تيمية بحث بعنوان " الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز "ضمن مجموع الفتاوى 374 -351 /6 ، وبحث بعنوان "الحقيقة والمجاز "ضمن مجموع الفتاوى 499 -400 /20 ، ولابن القيم بحث بعنوان " كسر الطاغوت الثالث وهو طاغوت المجاز "في مختصر الصواعق المرسلة .76 -2 /2
(2) - الأئمة الأربعة المشهورون هم :أبو حنيفة النعمان بن ثابت، مالك بن أنس الأصبحي، محمد بن إدريس الشافعي، أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى ً جميعا .
(3) - انظر مجموع الفتاوى .453 -451 /20(1/327)
4- إنّ دعوى المجاز في القرآن الكريم توهم المعاني الفاسدة للألفاظ التي زعم فيها إرادة المجاز، كما تؤدي إلى نفي ما أثبته الله عز وجل من المعاني الثابتة، والقول بالمجاز فيه تعطيل لصفات الله عز وجل، والحاد في آياته وأسمائه. )(1)
5- إنّ صرف الصفات الواردة في الكتاب والسنة عن ظاهرها وحقيقتها المفهومة منها
إلى المجاز المراد لابد له من أربعة أشياء:-
أحدها:أنّ ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى، لأنّ الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي .ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب أو خلاف الألسنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن لكل مبطل أن يفسر أيّ لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني:أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المعنى المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلابد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف .وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلابد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث:إنّه لابد من أن يسلم ذلك الدليل- الصارف- عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصاً قاطعاً لم يلتفت إلى نقيضه. وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح .
__________
(1) - انظر المصدر السابق ص 458 -451 ، الإيمان لابن تيمية ص 103 -92 ، مختصر الصواعق المرسلة .8 -5 /2(1/328)
الرابع:إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه لاسيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنّه سبحانه وتعالى جعل القرآن نوراً وهدىً ً وبيانا للناس وشفاءً لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ويحسن هنا أن ننقل بعضاً من كلام ابن سينا الذي يتعلق بموضوع الصفات ثم نأتي بمناقشة وردود ابن تيمية عليه:-
يقول ابن سينا:إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ما هو الحق في نفسه من معرفة الله وتوحيده. وإنما ذكر ذلك على سبيل التخييل والإيهام كي ينتفع به جمهور الناس لأنه مناسب لمستواهم العقلي. )(1)
رد ابن تيمية عليه:-
__________
(1) - انظر :رسالة أضحوية في أمر المعاد ص .46 -44(1/329)
إنّ قول ابن سينا زعم باطل، فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد هدى الخلق وبين لهم الحق فيما يجب عليهم من العلم بالله وتوحيده وعبادته. وأنه عليه الصلاة والسلام أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام، ومن هذه الآيات قوله تعالى:)?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كّلِهِ) سورة التوبة: 33 ، وقوله):كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ِلتخرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذنِ رَبِّهِمْ) سورة إبراهيم:1، وقوله:)?قدْ جَاءَكمْ مِنْ اللَّهِ نورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانُه سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة المائدة 16 -15: ، وقوله :)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نشاءُ مِنْ عِبَادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) سورة الشورى : 53 -52 ، وقوله: )?آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) سورة البقرة : 2 -1 ، وقوله :)?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكلِّ شيء) سورة النحل 89: وقوله تعالى:)وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كلِّ شيْءٍ) سورة يوسف:111. وقوله:) قدْ جَاءَكمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكمْ نُورًا مُبِينًا) سورة النساء: 174 وقوله: )?فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ) سورة الأعراف: 157 ،(1/330)
وقوله:)وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُون) سورة التوبة )(1) .115
وأيضاً: إنّ من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس، ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس، بل كل من كان به أخص وبحالة أعرف، كان أعظم موافقة له وتصديقاً له على ما أظهره وبينه، فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره، للزم:إمّا أن يكون جاهلاً به، أو كاتماً له عن الخاصة والعامة، ومظهر خلافه للخاصة والعامة. وكلّ من كان عارفاً بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة )(2) عن علي رضي الله عنه أنه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر. )(3)
__________
(1) - انظر درء التعارض .25 -24 /5
(2) - الرافضة :تسمية تطلق على الشيعة الذين قالوا بإمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً ووصية، وهي ثابتة في ذريته، ولا تخرج منهم إلا تقية من عندهم، أو بظلم من غيرهم. وسموا رافضة لكونهم رفضوا إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أو لكونهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين عندما أراد الخروج على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، لأن زيداً ترحّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقالوا له رفضناك، فقال لهم :رفضتموني، فسمّوا رافضة .انظر :الملل والنحل، ص 146 مقالات الإسلاميين 89 -88 /1 ، التبصير في الدين ص 18 /17 ، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين -ص 52 ، منهاج السنة النبوية .35 -34 /1
(3) - المصدر السابق ص . 25(1/331)
2- يقول ابن سينا:"إنّ في القرآن الكريم من الألفاظ مالا يحتمل إلا معنى واحداً ولا يمكن فيها استعمال المجاز والاستعارة، مثل قوله تعالى:)?هَلْ يَنظرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ) سورة البقرة 210: ، وقوله:)?هَلْ يَنظرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكة أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ )سورة الأنعام: 158" )(1) .
رد ابن تيمية:-
إنّ ابن سينا يعترف هنا أنّ المجاز والاستعارة غير واردة هنا، بل المعنى المطلوب هو حقيقته الظاهرة من اللفظ الوارد في الآية، وهذا الاعتراض حجة عليه وعلى أمثاله من نفاة الصفات، وموافقة النفاة له لا تنفعهم ولا تنفعه، فإن ذلك حجة جدلية وليست علمية، وإذا ثبت أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح دل هذا على فساد قوله وقولهم. )(2)
3- زعم ابن سينا أن القرآن الكريم لم ترد فيه إشارة إلى التوحيد. )(3)
رد ابن تيمية:-
إنّ هذا كلام صحيح فالقرآن الكريم ليس فيه إشارة إلى توحيد ابن سينا وإخوانه من نفاة الصفات، وهذا دليل على بطلان توحيدهم وفساده، وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال. )(4)
4 - يقول ابن سينا:" ثمّ هب أنّ هذه كلها) أي النصوص ) مأخوذة على الاستعارة، فأين النصوص المشيرة إلى التصريح بالتوحيد المحض، الذي يدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة". )(5)
رد ابن تيمية-
__________
(1) - انظر رسالة أضحوية في أمر المعاد ص .47
(2) - درء التعارض – بتصرف - .31 -30 /5
(3) - انظر رسالة أضحوية في أمر المعاد ص .45
(4) - درء التعارض – بتصرف - .30 /5
(5) - رسالة أضحوية في أمر المعاد ص .48(1/332)
"كلام صحيح، لو كان ما قالته النفاة حقاً، فإنّه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد بيّن أصلاً، وهذا ممتنع، وهو أضل منهم حيث زعم أن الرسل أيضاً لم تبين التوحيد، بل ذكروا ما يناقض التوحيد، لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم". )(1) ويضيف:"إن توحيد ابن سينا وأمثاله من أفسد الأقوال التي يعلم بصريح العقل فساده" )(2).
ويمكن أن نردّ على ابن سينا بقولنا: إن التوحيد المحض الذي يقوم على تجريد الذات الإلهية من صفات الكمال الواجبة لها، هو توحيد الفلاسفة الوثنيين من أهل اليونان وغيرهم وهو توحيد الفلاسفة أمثالك. وهذا التوحيد لم تتعرض الكتب السماوية إلى الإشارة إليه، لأنه لا صلة بين الوثنية التي جاءت بالتوحيد المحض، والكتب السماوية التي جاءت بالتوحيد الحق الذي من أنواعه توحيد الأسماء والصفات. وهذا التوحيد لا يتحقق إلا بإثبات الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تحريف.
5 -يقول ابن سينا:" وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المستندة إلى علم التوحيد، مثل: إنه عالم بالذات، أو عالم بعلم، قادر بالذات، أو قادر بقدرة، واحد على كثرة الأوصاف، أو قابل لكثرة، تعالى الله عن ذلك بوجه من الوجوه، متحيِّز بالذات، أو منزَّه عن الجهات". )(3)
رد ابن تيمية:
تضمن رد ابن تيمية على قول ابن سينا النقاط التالية:
__________
(1) - درء التعارض .31 /5
(2) - المصدر السابق – بتصرف -.
(3) - رسالة أضحوية في أمر المعاد ص .49 -48(1/333)
أ- إنّ خطاب ابن سينا الذي بدأ به قوله السابق هو لمن وافقه على إلحاده وضلاله من نفاة الصفات، حيث ظن أن تعطيل الصفات هو التوحيد، وأن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة، ولا إرادة، ولا أي صفة من الصفات الثبوتية. وأمّا أهل الإثبات فإنّهم يعلمون أنّ القرآن الكريم بين دقائق التوحيد الذي بعث الله به رسله عليهم السلام وأنزله في كتبه المقدسة.ففي القرآن كثير من الآيات التي أخبرت عن صفات الكمال اللازمة لله، فصفة العلم مثلاً ذكرها الله في أكثر من آية. فقال تعالى:)?وَلَا يُحِيط ُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )سورة البقرة: 255 ، وقال:)أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) سورة النساء : 166 ، وقال :)?وَمَا تخرُجُ مِنْ ثمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تضَعُ إِلَّا بِعِلْمهِِ) سورة فصلت:47 . وأخبر الله تعالى عن قوته بقوله:)هُوَ ُ الرَّزَّاق ذُو القوة الْمَتِينُ) سورة الذاريات: 58 ، وقال تعالى : )?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) سورة الذاريات: 47 ، والأيد هي القوة ، وقال تعالى :)?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قوَّةً) سورة فصلت 15: ، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اللهمّ إنّي استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك"..)(1) )(2)
__________
(1) - الحديث رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه البخاري 70 /2 ، في التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى 101 /8 ، في الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، 145 /9 ، كتاب التوحيد باب قول الله تعالى "قل هو القادر ".
(2) - درء التعارض- بتصرف.33 /5(1/334)
ب- إذا كان يظن ابن سينا أن قوله: عالم بالذات أو عالم بعلم، معناه أن الذات التي لا تكون إلا عالمة قادرة، يمكن وجودها مجردة عن صفتي العلم والقدرة كما يزعم النفاة، فإن قوله هذا قول ضال متناقض، لأن إثبات عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، وحي بلا حياة، وسميع بلا سمع، أي إثبات موصوف بلا صفة، مما يعلم فساده بالضرورة سمعا وعقلاً. )(1) وإذا كان العقل والسمع لا يدلان على فساده وبطلانه فإنّه لا طريق إلى معرفة الحق من الباطن .وأما إذا كان يظن ابن سينا أن قوله السابق معناه وجود ذات مجردة عن العلم، وأن صفة العلم زائدة عليها، فهذا ظن فاسد، لأن الذات المجردة عن الصفات لا وجود لها إلا في الذهن لا حقيقة لها في الأعيان، لأن الذي في الخارج ذات لها صفات.)(2)
ج -وأمّا قول ابن سينا: "واحد على كثرة الأوصاف، أو قابل لكثرة، تعالى الله عن ذلك بوجه من الوجوه "..فإنّه يرد عليه بأن القرآن الكريم مملوء بالآيات التي تثبت الصفات لله تعالى، ولم ينازع اثنان من العقلاء أن النصوص القرآنية ليست دالة على نفي الصفات،
بل النصوص دالة على إثباتها، وغاية ما يزعمه الفلاسفة نفاة الصفات أن ظاهر هذه
النصوص غير مراد، وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض لهذا الظاهر. )(3)
__________
(1) - المصدر السابق نفسه – بتصرف.
(2) - المصدر السابق - بتصرف -ص .34
(3) - المصدر السابق - بتصرف -ص .50(1/335)
إنّ العلم بإثبات الصفات لله تعالى علم ضروري دلت عليه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وهذا العلم أبلغ وأوضح من العلم بكثير من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة، مثل ميراث الجدة، وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وسجود السهو، والعلم بإثبات صفاته تعالى هو من العلم العام الذي يشترك فيه الخاصة والعامة، وأن نفاة الصفات لا يعتمدون في التدليل على مذهبهم على الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، وأقوال أئمة المسلمين، وإنما ينقلون أقوالهم في النفي عن أصحاب البدع وأهل التقليد أو المعروفين بإلحادهم وفساد معتقداتهم. )(1)
__________
(1) - المصدر السابق – بتصرف- ص .52 -51(1/336)
د- وأمّا قول ابن سينا:" أو قابل لكثرة تعالى الله عن ذلك بوجه من الوجوه" فيرد عليه ابن تيمية بقوله:إنّ كان يقصد كثرة صفاته تعالى التي دلت عليها آيات القرآن وأسماء الله تعالى، فإنّ تنزيه ابن سينا وإخوانه الفلاسفة الله عنها مثل تنزيه المشركين لله أن يدعى ويعبد بدون واسطة، أو تنزيههم له أن يرسل رسولاً من البشر، أو تنزيههم له عن أن يكون إلهاً واحدا.ً)(1) وأيضًا:إن الذات المجردة عن الصفات لا وجود لها إلا في الذهن، ولفظ ذات تأنيث ذو، ولا تستعمل إلا مضافة، و)ذات )معناها:صاحبة، قال تعالى:)?إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) سورة آل عمران: 119 ، وقال:)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ) سورة الأنفال:1 ، ثمّ استعمله أهل الكلام بالتعريف فقالوا:)الذات )أي الصاحبة، والمعنى صاحبة الصفات .وعلى هذا فيكون تقدير الذات المستلزم لإضافة الصفات دون إضافتها ممتنع، وهذا ما أثبته ابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة، الذين جعلوه وجوداً مطلقاً إما بشرط النفي، وإما بشرط الإطلاق، ومن المعلوم إن المطلق بشرط الإطلاق موجود في الأذهان فقط ولا وجود له في الخارج، فكيف بالمطلق المشروط بالنفي ؟ إنه أبعد في الوجود من المطلق بشرط الإطلاق )(2).
__________
(1) - المصدر السابق – بتصرف- ص .52
(2) - المصدر السابق – بتصرف- ص .54-55.(1/337)
هـ –وأما قوله: "متحيز بالذات أو منزه عن الجهات" فيرد عليه ابن تيمية بقوله: هذا من الحجج على نفاة الصفات، فالكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية، ولم تنف أن يكون الله فوق العالم كما يزعم نفاة الصفات. فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تبين علو الله على خلقه واستواءه على عرشه، ومن هذه الآيات قوله تعالى:)?وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الْكَبِيرُ) سورة الحج:62 ، وقوله):?لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) سورة الشورى: 4 ، وقوله ):?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفعُهُ) سورة فاطر:10 ، وقوله:)?تعْرُجُ الْمَلَائِكة وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقداره خمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) سورة المعارج 4 :، وقوله:)?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالحَق) وقوله:)إِنَّا نحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لهُ َ لَحَافِظُون)، سورة الحجر:9 ، وقوله:)?وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزلَ )سورة الإسراء: 105 ، وقوله :?)وَيَوْمَ ُ تَشَقَّق السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزِّلَ الْمَلَائِكة تَنزِيلًا) سورة الفرقان:. 25 وقوله:)طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشقَى، إِلَّا تَذكِرَةً لِمَنْ يَخشَى، تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَا، الرَّحْمَانُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) سورة طه: 5 -1 ، هذه الآيات وغيرها في القرآن كثير تثبت أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأنّ الملائكة والروح تعرج إليه، وأن القرآن الكريم منه منزل، والملائكة تنزل من عنده، وأنّه مستو على عرشه بائن من خلقه .فالقرآن الكريم بيّن علوه تعالى ومباينته لخلقه أتم بيان وأوضحه )(1).
__________
(1) - درء التعارض 5/55.(1/338)
ثالثا:إثباتهم صفات لم يرد بها الشرع ولم يدل عليها العقل:
لقد أطلق الفلاسفة على الله عز وجل صفات من تلقاء أنفسهم، لم يصف الله تعالى بها نفسه في كتابه العزيز، ولا وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد على لسان أحد من الصحابة والتابعين، ولم يقل بها أحد من الأئمة والعلماء. وتبدو هذه الصفات -وبصورة واضحة - أنها مشعرة بالضعف والنقص، والعقلاء من الناس ينزهون أنفسهم عن الاتصاف بكثير من هذه الصفات.
ومن هذه الصفات:
أ -البساطة : ويريدون بها عدم تركبه من أي معنى من معاني التركيب، فلا يتركب من الأجزاء، ولا من جنس أو فصل، ولا من مادة أو صورة، وليس هو جسم ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، وهو مقدّس عن الكم والكيف والمكان والزمان، والتغيير والوضع. )(1)
ب -تام وليس له حالة منتظرة:
__________
(1) - انظر :آراء هذه المدينة الفاضلة ص 3 ، النجاة - ص 228 -227 ، الهداية ص 264 -263 ، الفوز الأصغر لابن مسكويه ص 32 ، درء التعارض 284 -283 /1 ، فلاسفة الإسلام د .فتح الله خليف ص .51(1/339)
ومراد الفلاسفة من ذلك أنه كمال كله، وهو تام كامل، وفعله ليس ناقصاً.ولا مقوِّم له، ولا موضوع، ولا عوارض له، وهو الكل وحده )(1) .وفي كتاب النجاة وتحت عنوان) فصل في إنّ الواجب تام وليس له حالة منتظرة ). )(2) يقول ابن سينا": إن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر، بل ك لّ ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة." أي أن ابن سينا يرى أن صفات الله تعالى ثابتة له أزلاً، وكل ماله دفعه واحدة، فإرادته فعلت كل ما يريد أزلا، وكذلك علمه تم له في الأزل، فلا إرادة له متجددة، ولا علم له متجدد، ولا صفة من صفاته متجددة أو حادثة. )(3)
ج -عقل وعاقل ومعقول:
ذهب الفلاسفة إلى أنّ هذه الصفات ثابتة له لأنه واجب الوجود، ولأنه خلو من الإمكان، أي خلو من المادة وعلائقها وهو غير محتاج إليها ألبتة.يقول ابن سينا: "مادام واجب الوجود خلواً من المادة فهو عقل صرف، وإذا كان عقلاً بالفعل فهو عاقل ومعقول، هو عاقل لأن من طبيعة العقل أن يكون عاقلاً، وهو معقول لأنه يعقل ذاته. وهذه المعاني كلها فيه بمعنى واحد، وذات واحدة وجوهر واحد )(4).
د -عشق وعاشق ومعشوق:
__________
(1) - انظر:فصوص الحكم للفارابي ص .5 -4
(2) - كتاب النجاة: ابن سينا ص .229 -228
(3) - انظر فلاسفة الإسلام ص.52
(4) - انظر آراء أهل المدينة الفاضلة ص 10 ، عيون المسائل ص 24 -23 ، السياسة المدنية ص 35 ، النجاة ص 245 ، الهداية، ص 264 -263 ، عيون الحكمة ص 58 ، فلاسفة الإسلام ص 54 ، ثورة العقل في الفلسفة الإسلامية ص .102 -101(1/340)
قالت الفلاسفة الله عشق، والعشق هو صريح الذات والوجود، وليس هو صفة زائدة على الذات وليس صفة متكثرة ولا متغايرة، والله عاشق من حيث كونه عاقلاً لذاته. )(1)ولابن سينا رسالة بعنوان)رسالة في العشق) )(2)يشرح فيها معنى العشق، ويبين الفرق بين العشق الغريزي الموجود في الإنسان والعشق الذي هو صفة لله تعالى. )(3)
هـ -ملتذ ولذيذ ولاذ: ومن صفاته عند الفلاسفة أنه لذيذ بذاته، واللّذة- عندهم- هي إدراك الخير الملائم، ولذته ليست انفعالية بل لذة فعلية كمالية. )(4)
تلك هي الصفات التي ابتدعها الفلاسفة لواجب الوجود، وهذه الصفات وغيرها هي ووجوده تعالى شيء واحد، بل هي نفس وجوده مع إضافة أو سلب، أو إضافة وسلب معاً، فليست صفات ثبوتية زائدة على الذات، أو شيئاً غير الذات وصفاتهم السلبية مثل قولهم:ليس بجسم ولا متحيز، وليس بمحدث ولا متحرك، ولا بمتكثر. وغير ذلك من الصفات المسبوقة بحرف السلب. )(5) والملاحظ كثرة صفات السلب عند الفلاسفة، وقد زعموا أن حرف السلب أليق الأشياء بالأمور الإلهية، وأشبهها بأن تستعمل فيها )(6)وهم في ذلك كالمعتزلة الذين نفوا الصفات وزعموا أن هذا هو التوحيد الحق.
__________
(1) - انظر آراء أهل المدينة الفاضلة ص18، عيون المسائل ص 24 -23 ، الهداية ص 265 -264 ،النجاة -ص 245 ، ثورة العقل في الفلسفة الإسلامية ص .105
(2) - ضمن رسائل ابن سينا في أسرار الحكمة المشرقية.27 -1 /3
(3) - انظر رسالة في العشق ص 27 -18 ، الهداية: ابن سينا، الحاشية - ص .264
(4) -انظر النجاة: ابن سينا ص 245-246، الهداية ص 264.
(5) - انظر عيون المسائل ص 5 ، النجاة ص 228 ، نهاية الإقدام للشهرستاني ص 128 ، الرسالة التدمرية ص 12 ، درء التعارض 284 -283 /1 ، مجموع الفتاوى 351 /12 ، شرح القصيدة النونية لهراس 2/433.
(6) - انظر الفوز الأصغر ص.32(1/341)
وأمّا صفاته على سبيل الإضافة مثل قولهم: إنّه مبدأ الكائنات وعلة الموجودات، وأما صفاته المركبة من السلب والإضافة مثل قولهم:عقل وعاقل ومعقول. ومنتهى قول الفلاسفة في الصفات:أن وجود الله تعالى مشروط بسلب كل أمر ثبوتي، أي هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
المناقشة:
أ- إنّ الصفات التي ابتدعها الفلاسفة الإسلاميون لله عز وجل. إنما جاءوا بها من الفكر الفلسفي اليوناني الذي يدينون له بالتبعية والولاء. وهذا يدل على أن التصور الإسلامي لدى هؤلاء الفلاسفة-مع كونهم منتسبين للإسلام- ليس خاطئاً فحسب بل هو تصور مليء بالأوهام والأكدار.
وفي اعتقادنا أنّ الفلاسفة الإسلاميين لم يخوضوا في أسماء الله وصفاته عن جهل بما يستحقه الله عز وجل من التقديس والكمالات، إنما جاء خوضهم نتيجة انتمائهم لمذاهب فاسدة بعيدة عن هدى الإسلام، فابن سينا مثلاً ينتمي للمذهب الإسماعيلي الباطني الذي ما فتئ يكيد للإسلام عن طريق تشويه العقائد الإسلامية وإثارة الشبهات الإلحادية فيها.
ب- إنّ المسلم يؤمن بأنّ أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، وليست خاضعة للأهواء والتخيل، ولا مجال فيها للاختراع والابتداع، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نطبق ما في الفكر الوثني سواء كان يونانياً أم عربياً على عقائدنا الإسلامية .يقول الله عز وجل:)وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُل ْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلون) سورة الأعراف: 180 ، وقد وردت أسماء الله وصفاته في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتزيد على هذين المصدرين في تحديد الأسماء والصفات أمر لا يقره الدين الإسلامي .(1/342)
ج- إنّ إطلاق الفلاسفة صفات السلوب على الله عز وجل التي تتضمن نفي الصفات المماثلة للمخلوقين مع كثرة هذه الصفات يخالف طريقة الكتاب والسنة .فإن الكتاب والسنة جاء فيهما النفي بصورة إجمالية، وإنما جاء التفصيل في إثبات الصفات لله عز وجل .وقد سلك سلف الأمة هذا المنهج، فأثبتوا الصفات ً إثباتا مفصلاً، ونفوا نفياً مجملاً مما لا يليق بالله عز وجل من الصفات. )(1)
إنّ الصفات السلبية التي أطلقها الفلاسفة على الله مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا هو جسم، ولا هو في جهة وغيرها هي من صفات الممتنع التي تستلزم عدم وجود الموصوف بهذه الصفات وأمثالها، والفطرة السليمة والعقل الصريح يعلم أن هذه الصفات لا يوصف بها الموجود بل هي صفات المعدوم الممتنع وجوده )(2).
__________
(1) - انظر الرسالة التدمرية ص.11 /8
(2) - انظر مجموع الفتاوى 150 -149 /13 ، مجموع الرسائل الكبرى - رسالة الفرقان -ص .116(1/343)
إنّ وصف الله عز وجل بالصفات السلبية والإضافية وحدها فيه تكذيب ببعض ما جاء به الرسل عليهم السلام، وفيه أيضاً موافقة لصنيع فرعون زعيم الكفار الذي أنكر وجود الله عزّ وجل، لأنّ نفي الصفات الثبوتية اللازمة لله تعالى مع وصفه بالسلوب والإضافات معناه في النهاية إنكار وجوده تعالى. فالفلاسفة موافقون لفرعون الذي كذب موسى عليه السلام في أنّ الله عز وجل فوق السماوات .قال تعالى:)?وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا هامان ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرعون سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تبَابٍ )سورة غافر:-37-36، إنّ وصف الله تعالى بالبساطة وأنه تام، وليس له حالة منتظرة، أخذه الفلاسفة من أرسطو وأفلوطين وأتباعهما من الفلاسفة اليونانيين فالله عند أرسطو فعل محض، ولا تخالطه قوة، لأن القوة دليل النقص، والله كله كمال وكله فعل. )(1) ووصف الله بالسلوب والإضافات مع نفي الصفات الثبوتية عنه انتهى بالفلاسفة إلى أن جعلوه وجوداً مطلقاً لا تعين له في الخارج، فقالوا هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وهذا الموجود المطلق لا يمكن وجوده في الخارج، لأن الذي في الخارج لا يكون إلا ً متعينا بالصفات، أي لا وجود له إلا في الذهن فقط. )(2)
__________
(1) - انظر شرح القصيدة النونية 433 /2 ، فلاسفة الإسلام ص .52
(2) - انظر التدمرية ص 12 ، شرح القصيدة النونية 433 /2 ، 436 ، درء التعارض 288 -286 /1 ،شرح العقيدة الأصفهانية ص .51(1/344)
د- إنّ ابتداع الفلاسفة صفات من تلقاء أنفسهم وإثباتها لله تعالى يوقعهم في التركيب الذي فروا منه بنفيهم للصفات الثبوتية، فهم نفوا العلم والإرادة والقدرة وغيرها، لأنها تستلزم التعدد والتكثر في ذات الله، ولكونها تقتضي التركيب، ثم أثبتوا صفات أخرى مثل العقل والعاقل والمعقول، والعشق والعاشق والمعشوق، واللذيذ والملتذ، فيقال لهم: إثباتكم لهذه الصفات يستلزم التركيب الذي فررتم منه، لكونها صفات متعددة متغايرة. )(1)
وإنّ لفظ العشق والعقل واللّذة الذي أطلقه الفلاسفة على الله فيه من التّشبيه بالمخلوق، واحتمال النقص والضعف مالا يخفى على عاقل، وإن هذه الصفات لم تأت بها الكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام. )(2) ومعاني هذه الألفاظ في اللغة العربية قد نفاه الشرع والعقل، لأن معانيها تدل على باطل في حق الله عز وجل، وتنزيه الله عز وجل وتعظيمه أمر مطلوب شرعاً وعقلاً، فلفظ العقل مثلاً معناه في اللغة يدل على عرض، إمّا مسمي مصدر عقل يعقل عقلاً، وإمّا قوة يكون لها العقل، وهي الغريزة والفلاسفة يريدون به غير ذلك، فالعقل عندهم جوهر مجرد قائم بذاته .والقائم بذاته ليس هو القائم بغيره، وليس هو العرض. )(3)
__________
(1) - انظر التدمرية ص.28 -27
(2) - انظر درء التعارض.82 /5
(3) - انظر درء التعارض 223 -222 /1 ، .285(1/345)
وما ذهب إليه الفلاسفة من أنّ العقل والعاقل والمعقول بمعنى واحد وهو عين ذاته، هو من الأمور الباطلة لغة وعقلا .فلفظ العقل مصدر، ولفظ العاقل اسم فاعل، ولفظ المعقول اسم مفعول، وكذلك بالنسبة للعشق والعاشق والمعشوق، والتمييز بين معاني هذه الألفاظ أمر معروف في لغات الأمم جميعاً ويدركه أصحاب الفطر السليمة .فالعقل مسمى مصدر، والعاقل مسمى الفاعل، والمعقول مسمى المفعول )(1).والفلاسفة أنفسهم يرون أن استعمال هذه الألفاظ فيه من البشاعة ما يجب تنزيه الله عنه. )(2)وإذا كانوا يقر ون بذلك فكيف يلجئون لاستعمالها في حق الله عز وجل، ثم يزعمون أن هذا هو التوحيد على الحقيقة.
رابعاً -دراسة لموقف الفلاسفة من صفتي العلم والكلام:
لقد اخترنا الحديث عن موقف الفلاسفة من صفتي العلم والكلام لأن الفلاسفة ردّوا جميع الصفات إلى صفة العلم، وتفرع عنها قولهم: إن الله لا يعلم الجزئيات وأما صفة الكلام فلعلاقتها بالقرآن الكريم المصدر التشريعي الأول.
أ -صفة العلم عند الفلاسفة:
عرفنا فيما سبق أن الفلاسفة ينفون الصفات الثبوتية الواجبة لله عز وجل، ومن هذه الصفات صفة العلم، وإذا وردت في مؤلفاتهم صفة العلم فليس مرادهم به أنه صفة قائمة بذاته تعالى، وليس صفة زائدة عليه، بل علمه تعالى هو عين ذاته .فالصفة هي الموصوف فالعلم هو العالم، ويتحقق علمه تعالى عن طريق تعقله لذاته وللأشياء ولنظام الخير الصادر عنه.
__________
(1) - انظر :المصدر السابق ص .286 -285
(2) - انظر: النجاة لابن سينا ص.245(1/346)
ويفرّق الفارابي بين علم الله بذاته، وعلمه بالكل، فعلمه بذاته ليس مفارقاً لذاته بل هو ذاته، وأما علمه بالكل فهو صفة لذاته، وليست هي ذاته، بل لازمة لذاته، وهذه الصفة فيها الكثرة غير المتناهية بحسب كثرة المعلومات غير المتناهية. )(1)وقد قصد إلى هذا التفريق فجعل علمه تعالى بالكل ليس هو ذاته، لوجود الكثرة فيه، فلو كان علمه بالكل هو ذاته كعلمه بذاته لحدثت في ذاته كثرة، والكثرة في ذاته محال.
وذهب كلُّ من الفارابي وابن سينا إلى أن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، لأنّ علمه بالكون علم كلي لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل، وهو يعلم الجزئيات بنوع كلي )(2) فالله عز وجل لا يعلم دعاءنا ولا دعاءه، ولا يسمع نداءنا ولا نداءه، ولا يعرف زيداً منا، إذ نحن من الجزئيات، ولكن يعرف الإنسان بشكل كلي، أما أشخاصه فلان وفلان فلا، لأن فلان جزئي، وفلان جزئي. )(3)
ويقول ابن سينا:"فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علماً زمانياً، حتى يدخل فيه: الآن، والماضي، والمستقبل. فيعرض لصفة ذاته أن تتغير، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدس العالي عن الزمان والدهر". )(4)
__________
(1) - فصوص الحكم ص .21
(2) - انظر السياسة المدنية للفارابي ص 34 ، الهداية لابن سينا ص 267 -266 ، تهافت الفلاسفة
ص 206 ، الرد على المنطقيين ص 104 ، 138 ، 464 -463 ، الصفدية 7 /1 ، منهاج السنة 546 /2 ، ابن سينا بين الدين والفلسفة ص 183 ، ثورة العقل في الفلسفة الإسلامية ص 102 ، 103 مقدمة منهاج الأدلة ص .55
(3) - انظر الرد على المنطقيين ص .104
(4) - الإشارات والتنبيهات.296 -295 /3(1/347)
ويرى ابن سينا أنّ الجزئي الذي يعلمه الله تعالى هو كل جزئي بنوع كلي، أمّا الجزئي المعين المخصص بالإشارة إليه فلا يعلمه. فمثلاً لو قيل هل يعلم الله تعالى جلوس زيد هذا في هذا الوقت المعين، فإنّه عند ابن سينا لا يعلم ذلك لأنّه جزئي مشار إليه، أو مستند إلى مشار إليه. )(1)
حجة الفلاسفة في إنكارهم علم الله بالجزئيات:
تعتبر حجة التغير عمدة الفلاسفة في القول بعدم علم الله بالجزئيات وملخص هذه الحجة:إن العلم بالجزئيات يتغير بتغيرها، لأن العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأنه قد كان، والتغير في واجب الوجود محال، لأنه علمه هو ذاته )(2).
ويذكر ابن سينا عدة أمثلة توضح مذهبه، ومن أشهر هذه الأمثلة: مثال الكسوف الذي يتكرر في معظم مؤلفاته. )(3)إن ابن سينا في مثاله هذا يريد أن يقول:إن علم الله تعالى بالكون علم كلي فالكسوف يعلم وقوعه، بسبب توافر أسبابه الجزئية، وعلمه بالوقوع علم كلي يتناول ظاهرة الكسوف بشكل عام، أما الكسوف المعين المشار إليه في زمان معين مشار إليه فلا يحيط الله علماً بوقوعه .فعلم الله عند ابن سينا شامل لظاهرة الكسوف بمعناها وأسبابها، أي علمه تعالى الكلي قاصر على معرفة القوانين العامة والأسباب التي تخضع لها والأحداث الكونية، أمّا حصول الأمور الجزئية في أوقاتها وما يطرأ عليها من تغيرات وأحوال مرتبطة بالزمان فلا يعلمه الله عز وجل. )(4)
__________
(1) - انظر المصدر السابق نفسه، التعليقات - ص .14 -13
(2) - انظر مصارعة الفلاسفة للشهرستاني ص 95 -83 ، الرد على المنطقيين ص .464
(3) - انظر الإشارات 296 -295 /3 ، التعليقات ص 14 -13 ، النجاة ص 249 -248 ، الهداية ص 267 ،. 268
(4) - انظر الهداية - هامش -ص 266 ، وهو من كلام المحقق .(1/348)
ويوضّح ابن سينا مذهبه بمثال آخر : إن الله لا يعلم أن زيداً من الناس بشخصه يكون في هذا الوقت غير موجود، وغداً يكون نفسه موجوداً .لأنّ علمه به في هذا الوقت غير موجود، وعلمه به غداً موجود، قد تغير لتغير المعلوم، وهو وجود زيد. أي أن جزئيات المخلوقات لا يعلمها، أما المخلوقات بوجه كلي فهو يعلمها. )(1) ولقد أشار الفخر الرازي إلى نحو هذا المثال فقال :" واحتجوا بأنه لو علم كون زيد جالساً في هذا المكان فبعد خروج زيد عن هذا المكان، إن بقي ذلك العلم فهو الجهل، وإن لم يبق فهو التغير". )(2)
فإذاً على مذهب الفلاسفة لا يعلم الله الأشياء الموجودة في العالم بأعيانها، فلا يعلم ما يطرأ على هذه الأعيان من الأحوال والتغيرات، فلا يعلم أعداد الأفلاك والنجوم، ولا منازل الشمس والقمر، ولا يعلم أشخاص الناس، ولا أحوالهم على التفصيل الذي يتناول جزئيات حياتهم وأمور معاشهم، ولا يعلم الأوراق المتساقطة من الأشجار، لأن هذه الأمور وأمثالها من الجزئيات المتغيرة، التي لو علمها الله تعالى لكان علمه متغيراً. )(3)
المناقشة:
1 - إنّ لفظ التغير الوارد في حجة الفلاسفة لفظ مجمل، واستخدام الفلاسفة له يوهم السامع لهم أن الله يتغير ويستحيل من حال إلى حال، كالإنسان الذي تطرأ على حالته تغيرات بفعل مرض وغيره، أو كالشمس إذا أصفر لونها والحقيقة أن الفلاسفة يستعملون لفظ التغير في غير محله، فهم يزعمون أن سخط الله على العصاة تغيّر، وسماع دعاء عباده يسمى تغيراً، وهكذا بالنسبة لأمثال هذه الأمور. )(4)
__________
(1) - انظر التعليقات ص .14 -13
(2) - أصول الدين ص .51
(3) - انظر شرح القصيدة النونية .435 -434 /2
(4) - انظر منهاج السنة النبوية .547 -546 /2(1/349)
2- وقول الفلاسفة إن الله لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، دليل على جهلهم بالله تعالى خالق كل شيء وموجده، فالعقل يوجب أن خالق الأشياء كلها وواضع سننها هو العالم بها )(1). ثمّ إنّ الموجودات في الخارج موجودة على وجه معين جزئي، فالأفلاك والعقول والنفوس التي يثبتونها، والعناصر والمولدات التي يؤمنون بوجودها كلها توجد في الواقع الخارجي بشكل معين جزئي، وإذا كان الله تعالى لا يعلم هذه الموجودات وأمثالها إلاّ على وجه كلي- كما يقول الفلاسفة- فإنّه بالتالي لا يعلم نفسه، لأنه تعالى موجود واجب معين بصفاته الثبوتية، ولا يعلم شيئاً من الموجودات الصادرة عنه .وهذا دليل على تناقض هذا القول مع مذهبهم الذي يقرر علم الله بذاته وبغيره الصادر عنه. )(2)
-3 وأيضاً فإن هذا القول دليل على عدم التعظيم لله عز وجل، وسلب الكمال عنه فجهله بالجزئيات والمتغيرات، واقتصار علمه على الأمور الكلية في الكون صفة ضعف ونقص لا صفة كمال. )(3)
-4 إن القول بعدم علمه بالأمور الجزئية يتناقض ً تماما مع موضوع الثواب والعقاب. فالإنسان سيثاب أو يعاقب يوم القيامة بناء على أفعاله في الحياة الدنيا فكيف يحاسب الله تعالى الإنسان ما لم يكن عالماً بسلوكه وأعماله، وهي تصرفات جزئية، ومنها أمور دقيقة جداً لا يعلمها إلا من يعلم السر وأخفى. )(4)
__________
(1) - انظر أصول الدين للرازي ص 51 ، مقدمة مناهج الأدلة ص .56 -55
(2) - انظر الصفدية 8 -7 /1 ، الرد على المنطقيين ص 126 -125 ، 138 ، مجموع الفتاوى -595 /12. 596
(3) - انظر أصول الدين ص .51
(4) - انظر ثورة العقل في الفلسفة الإسلامية ص 103 ، الفلسفة الإسلامية في المشرق :د .فيصل بدير عون ص .330(1/350)
وذهب ابن رشد إلى أن قول الفلاسفة بعدم علم الله بالجزئيات من البدع المستحدثة التي نحن في غنى عنها، وأن الفلاسفة وقعوا في هذا الخطأ الشنيع لأنهم قارنوا بين العلم الإلهي والعلم الإنساني، وأرادوا تطبيق علم الإنسان المحدود بمدركات محدودة على علم الله الشامل الغير محدود. )(1) وإذا كان الفلاسفة قد أنكروا علم الله بالجزئيات المتغيرة، لأن تغير المعلوم يوجب تغير العلم، فإنّه يلزمهم إما أن يقولوا: أن تكثر المعلوم يوجب تكثر العلم حتى يلزم أن تتكثر الذات بتكثر المعلومات، أو يقولوا إنّ معلومه واحد.
__________
(1) - انظر: تهافت التهافت 700 /2 ، مقدمة مناهج الأدلة ص .56 -55(1/351)
5 - إنّ علمه تعالى ليس بزماني، فهو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، والزمان بالنسبة لعلمه سواء، فهو يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، دون أن يقيد هذا العلم بالزمان كما توهم الفلاسفة، وما دام علمه تعالى غير زماني فلا يتغير بتغيّر الزمان .وإذا كان هناك سؤال عن علمه تعالى:أهو كلي أم جزئي ؟ فإنّ الجواب:أن يقال: إنّ علم الله عز وجل فوق القسمين وأعلى من الوجهين، وأنّ الكليات والجزئيات والأزمنة المتغيرة والأمكنة المختلفة نسبتها ً جميعا إلى علمه نسبة واحدة .وعلمه عز وجل يختلف عن علم الإنسان، فهو محيط شامل لكل جزئية في هذا الكون، والعقل لا يجوز بحال من الأحوال أن لا يعلم الله الأشياء الذي هو خلقها وأصل وجودها، قال تعالى:)?أَلَا يَعْلمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِيرُ) سورة الملك: 14 ، ومن الأولى للمسلم أن يعدل عن التقسيمات والتفريعات، وعن الجدل والشبهات، وعن التأويل والتخييل، وغير ذلك مما يثيره الفلاسفة ومن شاكلهم من أهل الكلام، لأن علم الله الخالق أجل من أن يحيط به المخلوق الذي علمه يختلف ً تماما عن علم خالقه، ويكفي أن يؤمن المرء بأن الله تعالى يحيط بكل شيء علما، وأنه يعلم الجهر والسر وأخفى، ولا يعزب عن علمه شيء في السماوات أو في الأرض، وهو اللطيف الخبير. )(1)
__________
(1) - انظر مناهج الأدلة - المقدمة للمحقق ص.56 -55(1/352)
ويردّ على زعم الفلاسفة السابق بأن القرآن الكريم أخبر في كثير من الآيات بأن الله عز وجل يعلم ما كان وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون كقوله تعالى :)?وَلوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ) سورة الأنعام: 28 ، والقرآن الكريم لم يذكر الجزئيات إلا مقترنة بالزمان سواء في الحاضر أو الماضي أو المستقبل، فالأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود ولوط كانوا ثم أهلكوا، والرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين يخاطبهم الله تعالى بما ينبئ عن علمه بحضورهم وقت خطابهم .ومن أخبار المستقبل التي حكاها القرآن الكريم: )سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر )سورة القمر:.45 وقوله:)فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون) سورة الروم: )(1) 3- 2 ولقد قدّر الله عزّ وجل مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، وعلم ما سيخلقه علماً يتناول جزئيات ما كتب وما خلق .
__________
(1) - انظر الرد على المنطقيين ص 466 -465 ، درء التعارض 186 /3 ، ابن سينا بين الدين والفلسفة ص .183(1/353)
ومن الآيات الدالة على علمه بالأمور الجزئية الواقعة في الكون قوله تعالى:)وَعِندَهُ مَفاتِحُ الْغيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)? سورة الأنعام:59 .وقوله : )اللَّهَ يَعْلمُ مَات َحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا ت َغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقدَارٍ، عَالِمُ الْغيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي) سورة الرعد: 9-8 ، وقوله :)?لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون ) سورة النحل 23 :، وقوله :)?يَعْلَمُ َ خَائِنَة الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) سورة غافر: 19 ، وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن إحاطة علمه بكل صغيرة وكبيرة )(1).
ب -صفة الكلام:
ذهب الفلاسفة إلى أنّ كلام الله تعالى ليس صفة قائمة بذاته تعالى، وليس له وجود خارج نفوس العباد، فليس لله كلام أنزله بواسطة جبريل عليه السلام على أنبيائه الذين اصطفاهم برسالاته.
__________
(1) -انظر درء التعرض 3/186.(1/354)
وزعم الفلاسفة أنّ الكلام هو ما يفيض على نفس النبي من العقل الفعَّال، أو من غيره، وأنّ الله تعالى لم يكلم موسى عليه السلام تكليماً، إنما كلمه من سماء عقله بما- أحدثه في نفسه من كلام، لم يسمعه موسى عليه السلام من خارج نفسه .فالمتكلم عندهم -حقيقة هو النبي، أما الله تعالى فهو متكلم مجازاً بما خلقه في نفس النبي من ألفاظ .فالله لم يتكلم بصوت يسمعه النبي من خارج نفسه، أي لا حقيقة لكلام الله في الخارج. )(1)
ولتوضيح معنى كلام الله عند الفلاسفة ننقل بعض أقوالهم التي جاءت في مؤلفاتهم ومؤلفات العلماء المطلعين على المذهب الفلسفي.
__________
(1) - انظر الرسالة العرشية - ابن سينا -ص 12 ، رسالة في النبوات له ص 75 ، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 84 ، نهاية الإقدام للشهرستاني ص 293 ، مجموع الفتاوى 14 /12 ، 23 ، 163 ، 353 ، منهاج السنة النبوية 359 /2 ، الصفدية 204 -201 /1 ، مجموع الرسائل والمسائل 38 /3 ، إغاثة اللهفان لابن القيم 281 /2 ، مختصر الصواعق له 288 /2 ، 329 ، شرح القصيدة النونية131 /1 ، شرح العقيدة الطحاوية 2/ 403-402(1/355)
يقول ابن سينا:" فوصفه بكونه متكلما لا يرجع إلى ترديد العبارات، ولا إلى أحاديث النفس والفكر المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل عليها، بل فيضان العلوم منه على لوح قلب النبي بواسطة القلم النقَّاش الذي يعبّر عنه بالعقل الفعال والملك المقرب هو كلامه .فالنبي يتلقى علم الغيب من الحق بواسطة الملك، وقوة التخيل تتلقى تلك وتتصورها بصورة الحروف والأشكال المختلفة، وتجد لوح النفس فارغاً فتنقش تلك العبارات والصور فيه فيسمع منها كلاماً منظوماً، ويرى شخصاً بشرياً فذلك هو الوحي، لأنه إلقاء الشيء إلى النبي بِلا زَمان، فيتصور في نفسه الصافية المُلَقِّي المُلْقَى، كما يتصور في المرآة المجلوة صورة المقابل، فتارة يعبر عن ذلك المنتقش بعبارة العبرية، وتارة بعبارة العرب، فالمصدر واحد والمظهر متعدد، فذلك هو سماع كلام الملائكة ورؤيتها. )(1)
يتضح لقارئ أقوال ابن سينا أنه ينكر صفة الكلام لله تعالى كما جاءت في الكتاب والسنة، وهو أنه تعالى قد تكلم بصوت وحرف مسموع، وأنّ ابن سينا يرجع الوحي والنبوة إلى قوة التخيل لدى النبي، وأن الرسول يسمع أصواتاً من داخل نفسه لا يتكلم الله عز وجل له مشافهة كتكليمه لموسى عليه السلام، ولا بواسطة الملك جبريل الذي ينزل بكلامه تعالى على المختار لرسالته، كما حصل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. )(2)
وجاء في رسالة)النبوات)لابن سينا:" أن إفاضة العقل الكلي على نفس النبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضات العلوم منه على لوح قلب النبي بواسطة العقل الفعال والملك المقرب، هو كلامه". )(3)
__________
(1) - الرسالة العرشية ص.12
(2) - انظر النبوات لابن تيمية ص 170 ، ابن تيمية السلفي للدكتور محمد خليل هراس ص .114
(3) - انظر رسائل في الحكمة والطبيعات- رسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم -ص 85 -84(1/356)
ويصوّر ابن قيم الجوزية مذهب الفلاسفة في كلام الله تعالى فيقول: مذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو- وهم الذين يحكي ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم:إنّ كلام الله فيض فاض من العقل الفعَّال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها، فأوجب لها ذلك الفيض من تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه، ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى، قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير .فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عنه غيرها، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس، فتتصور المعقول صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الأذن، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية. قالوا:وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها، وتشكيل تلك الصور العقلية لعين الرائي، فيرى الملائكة ويسمع خطابهم، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج". )(1)
حجة الفلاسفة في نفي صفة الكلام:
استدلّ الفلاسفة على نفي صفة الكلام بحجة داحضة وهي:أنّ إثبات صفة الكلام لله تعالى يوجب إما أن يكون كلامه من جنس كلام البشر، أو لا يكون من جنس كلامهم، فإذا كان من جنس كلام البشر كان مشاركاً له من جهة الإمكان والعرضية، أي كونه ممكنا ومحلاً للأعراض، وهذا متعذر في حقه تعالى، ويلزم أن يكون الله تعالى جرماً لأن الكلام غير متصور دون حروف وأصوات، والحروف عبارة عن تقطيع الأصوات، وهذا لا يكون إلا للجرم، والصوت لا يكون إلا عن احتكاكات الأجرام .وإذا كان كلامه ليس من جنس كلام البشر فهو غير معقول، وغير المعقول محال. )(2)
__________
(1) - مختصر الصواعق المرسلة.288 /2
(2) - غاية المرام في علم الكلام للآمدي- بتصرف - ص .92(1/357)
وإذا قيل للفلاسفة إنّ نفي صفة الكلام يقتضي إنكار أمره ونهيه عز وجل، وهذا يؤدي إلى عدم تحقيق معنى الطاعة له تعالى، وعدم صحة الرسالة.قالوا:إن معنى الطاعة لا يتحقق عن طريق الأمر والنهي، بل تستند إلى التسخير على وجه الطواعية والإذعان على وفق الإرادة والاختيار، وأن تسخيره تعالى للمخلوقات وإبداعه للكائنات دون آلات وأدوات، وتقليبه الخلائق بين المرغبات والمنفرات على وجه الطواعية حالة تنزل منزل القول بالأمر والنهي وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله:)?ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين) سورة: فصلت11، فخطابه للسماء والأرض متعذر وكذلك قولهما، وليس ذلك منهما إلا على سبيل الانقياد والتسخير. )(1)
المناقشة:-
تتضمن المناقشة النقاط التالية:
أولاً:إثبات صفة الكلام لله عز وجل:
الكلام من صفات الكمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كمن يعلم ويسمع فهو أكمل ممن ليس كذلك، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً لذاته، ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة واختيار .والكلام يكون صفة كمال للمتكلم إذا كان الكلام قائماً به، صادراً عنه بمشيئته وقدرته، لا كونه أمراً مباينا له منفصلاً عنه. )(2)
__________
(1) - المصدر السابق- بتصرف - ص .94 -93
(2) -ا نظر شرح العقيدة الأصفهانية ص 73 ، مجموعة الرسائل والمسائل .45 -44 /3(1/358)
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تقرر صفة الكلام لله، وتثبت أنه متكلم حقيقة بكلام حقيقي هو صفة له، وهذه النصوص لا يملك المسلم أمامها إلا الإيمان بما أثبتته دون تأويل أو تكييف أو تمثيل، ولا يستطيع أن يعطلها أو يحرفها، وإلا دخل إيمانه ما يشوبه ويكدره، والقرآن الكريم زاخر بالآيات التي تثبت أنه تعالى تكلَّم ويتكَّلم، وكلَّم ويُكَلِّم وقال ويقول، ونادى وينادي، وأخبر وأنبأ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل صراحةً على أنه تعالى متكلم بكلام حقيقي. )(1) ومن هذه الآيات قوله تعالى:)?وَكلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكْلِيمًا) ?سورة النساء: 164، وقوله:)?وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْك) سورة الأعراف:143 وقوله:)قَالَ يا موسى إِنِّي اصْطَفَيْتكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلامِي) الأعراف:144، وقوله:)?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) سورة التوبة:6، وقوله:)وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفةً) سورة البقرة:30، وقوله): وَإِذ قَالَ اللهُ يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) سورة المائدة: 116 ، وقول :)وَإِذ قُلْنَا لِلْمَلَائِكةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) سورة البقرة 34 ، وقوله):?ْ وَإِذ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ َ فقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَر) سورة البقرة: 60 ، وقوله:) وَإِذ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقوْمَ َ الظَّالِمِين) سورة الشعراء: 10 ، وقوله :)?وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقتَ الرُّؤْيَا) سورة الصافات:105 -104، وقوله:)قلْ
__________
(1) - انظر :ابن حزم وموقفه من الإلهيات للدكتور أحمد ناصر الحمد ص 258 -257 ، القائد إلى تصحيح العقائد لعبد الرحمن المعلمي ص .220(1/359)
لا تعْتَذِرُوا لنْ نؤْمِنَ لكمْ قدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكم) سورة التوبة943 ، وقوله):إِلَى رَبِّكمْ مَرْجِعُكمْ فيُنبِّئُكُمْ بِمَا كنْتمْ تَعْمَلونَ) سورة: الزمر.7
ومن الأحاديث الشريفة:ما رواه عدي بن حاتم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه ترجمان.)(1) ومن ها: ما رواه عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان". )(2)
ثانيا :مناقشة حجة الفلاسفة:
__________
(1) - رواه البخاري 140 /8 ، في الرقاق - باب من نوقش الحساب عذب، ونحوه 34 /2 ، في الزكاة -باب الصدقة قبل الرد، ونحوه 181 /9 ، في التوحيد، باب كلام الرب يوم القيامة ومسلم نحوه رقم 1016 ، 704 -703 /1 في الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشقِّ تمره
(2) - رواه البخاري1/29، في العلم، باب الخروج في طلب العلم، 9/72، في التوحيد باب قول الله تعالى:" ولا تنفع الشفاعة عنده".(1/360)
إنّ صفة الكلام من صفات الكمال التي يجب إثباتها لله تعالى على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله، ولا يعني بالضرورة أن إثباتها يقتضي أن يكون من جنس كلام البشر، فالقرآن الكريم والسنة جاء فيهما إثبات الكلام والنطق لبعض المخلوقات والجمادات، ومن المعلوم أن كلام هذه المخلوقات ليس من جنس كلام البشر، فليس لها آلات ولا أدوات قال تعالى مخبراً عن قول جهنم يوم القيامة)?يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سورة ق : 30 ، وأخبر عن السماء والأرض أنهما قالتا ، قال تعالى :)?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) سورة فصلت 11 ، وأخبر عن نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة، شاهدةً على أعمال صاحبه قال تعالى")حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَليْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فصلت: 20-21.(1/361)
وجاء في السنّة أنّه عليه الصلاة والسلام كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه،وهو بمكة المكرمة. )(1)وسمع أصحابه تسبيح الحصى بين يديه. )(2)وبهذه الأخبار وغيرها أصبح معلوماً لدى الناس أن الكلام والتكلم بالحرف والصوت ليس موقوفا على الأدوات والآلات التي يتكلم بها الإنسان، بل قد يتكلم المخلوق بدونها فكيف بالخالق عز وجل الذي لا يماثله المخلوق، فلا يلزم إذاً أن يكون الله تعالى جرماً إذا اتصف بالكلام كما زعم الفلاسفة. )(3)
__________
(1) - انظر ما رواه مسلم، رقم 2277 ، 1782 /4 ، في الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم -وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، وما رواه الترمذي، رقم 3628 ، 246 /9 ، 246 /9 في المناقب، باب في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به، قال الترمذي .هذا حديث حسن غريب، رقم 363 ، 247 /9 ، في المناقب، باب الشجر والحجر يسلمان على النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) انظر ما رواه البزار في كشف الأستار للهيثمي، رقم 2413 ، 136 -135 /3 ، في علامات النبوة، باب تسبيح الحصى - قال الهيثمي: رواه البزار باسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف،299 /8 ، وذكر رواية في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 179 /5 ، ثم عقَّب عليها بقوله :وله طريق أحسن من هذا في علامات النبوة، وإسناده صحيح، وانظر :دلائل النبوة لأبي نعيم 370 -369 ، وشرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة للالكائي .407 -406 /4
(3) - انظر شرح العقيدة الطحاوية 176 -175 /1 ، قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر لصديق حسن خان ص 80 -79 ، القائد إلى تصحيح العقائد ص .220(1/362)
وأمّا ما جاء في الدليل من الزعم بأن الكلام إذا كان من غير جنس كلام البشر فغير معقول، وغير المعقول محال .فيرد عليه بأن كلام الله لا يماثل كلام البشر، وغير المعقول أن يكون من جنس كلام البشر، إذ لو كان من جنسه لدخل الله تعالى تحت جنس البشر وهذا محال .فذاته تعالى لا تماثل ذات أحد من المخلوقات لا بشر ولا غيرهم، وكذلك صفاته تعالى، وإذا كان الفلاسفة لا يتصورون كلاما من غير جنس البشر فهذا راجع لقصور عقولهم، وعدم إيمانهم بالقرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية التي أثبتت كلاماً للجمادات .وأهل الإيمان لا يلزمهم التسليم بكل ما يقرره من يلحد في أسماء الله وصفاته .
وأمّا ما زعموه من معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فإنّ الآمدي يبين بطلانه بقوله :وأما ما أشاروا إليه في معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فتمويه لا حاصل له، وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء ما أمراً وتركه نهياً، وأن يكون الانقياد إلى ذلك التسخير طاعة، كان ذلك في نفسه عبادة أو معصية .ولا يخفي ما في طي ذلك من المحال، فإنّه ليس كل ما يسخر به مأموراً، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله يكون طاعةً، على ما لا يخفي .وإذا كان الأمر على هذه المثابة لم يصح معنى التبليغ والرسالة عن الله. )(1)
ثالثا :مناقشة معنى كلام الله عندهم :
وأمّا قول الفلاسفة بأن كلام الله عبارة عن فيض من العقل الفعّال على نفس النبي فيرد عليه بالآتي :-
1- لو كان كلام الله هو ما يفيض به العقل الفَعَّال على نفس النبي، لكان آحاد الناس مشاركاً للنبي في هذا الأمر، فمن الناس من يرى في المنام أن الملائكة تخاطبه وتكلمه، وأنه في السماوات.
__________
(1) - غاية المرام في علم الكلام ص .101(1/363)
2- لو كان كلام الله ليس له وجود في الخارج، إنما يسمعه الرسول من نفسه بما يفيض فيها من العقال الفَعَّال، لما عاندت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبته في دعواه أنه رسول من رب العالمين أنزل الله عليه القرآن، ليكون للناس هادياً ومبشراً ونذيراً )(1).
3-قال تعالى:)وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى:51، وقال تعالى:)وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)النساء:164.
وقال:)وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)الشورى:51، وقال تعالى: )تلك الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ ُ اللَّه) سورة البقرة :253 ، وهذه الآيات ونحوها أثبتت كلام الله تعالى لبعض رسله تكليما، وتكليم الله لبعض عباده تكليماً خارجاً عن جنس الفيض -الذي زعمه الفلاسفة - الذي هو ضرب من الإيحاء العام. )(2)
4-قال الله تعالى:)وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)الأنعام:114، أثبتت الآية الكريمة التنزيل صفةً للكتاب الذي هو كلام الله، والمنزل من الله تعالى لا يكون فيضاً من العقل الفعال على نفس النبي عليه السلام. )(3)
خامساً:الواحد لا يصدر عنه إلا واحد:
__________
(1) - انظر الصفدية .201 /1
(2) - انظر المصدر السابق .205 -204 /1
(3) - انظر مجموع الفتاوى.120 /12(1/364)
ويدخل في مسمى التوحيد عند الفلاسفة ما زعموه: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.ذلك أن الله تعالى- في نظرهم - واحد محض بسيط من جميع الوجوه وصدور الكثرة عنه يوجب في ذاته تعدداً وتكثراً، وهذا ينافي وحدته، ولذا لابد من القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، لتسلم له الوحدة من كل وجه.
ولبيان كيف صدر العالم المتكثر بما فيه من مخلوقات كثيرة متعددة، لجأ الفلاسفة الإسلاميون إلى نظرية الفيض التي تقوم على فكرة الوساطة .
نظرية الفيض عند الفلاسفة الإسلاميين :
نظرية الفيض يونانية المنشأ، فصاحبها الفيلسوف أفلوطين .ولقد ظن بعض الفلاسفة أنّ صاحب هذه النظرية الفيلسوف أرسطو، والذي أوقعهم في هذا الظنّ اعتقادهم أنّ كتاب "الربوبية" أو "أثولوجيا" الذي جاءت فيه هذه النظرية هو من تأليف أرسطو وقد أثبتت الدراسات الحديثة حول الكتاب أنه منحول على أرسطو، وأنّ صاحبه الحقيقي هو أفلوطين. )(1)
__________
(1) - انظر أفلوطين عند العرب للدكتور عبد الرحمن بدوي – المقدمة ص 2 وما بعده .(1/365)
ويبدو أنّ المتأثرين بهذه النظرية الأفلوطينية من الفلاسفة الإسلاميين هم: الفارابي )(1) وابن سينا )(2)وإخوان الصفا )(3)وابن مسكويه .)(4)ودعاة الإسماعيلية مثل حميد الدين الكرماني، )(5)والسهروردي ، )(6)أما الكندي فإن رسائله المطبوعة تظهر بعده
__________
(1) - انظر آراء أهل المدينة الفاضلة ص 24 ، 25 ، عيون المسائل ص 8 -7 ، السياسة المدنية .19 -17
(2) - انظر مثلاً النجاة ص 278 -276 ، الهداية - ص 279 -274 ، الرسالة النيروزية ص 94 -93 ، التعليقات ص 48 ، .176 -100 -94 -93
(3) - انظر رسائل إخوان الصفا 208 -178 /3 ، وإخوان الصفا هم :جماعة من الشيعة الإسماعيلية الباطنية، عاشوا بالبصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ألفوا عدة رسائل يشرحون فيها اعتقادهم الباطني الخبيث، بلغت إحدى وخمسين رسالة، عرفت برسائل إخوان الصفا .وقد مزجوا في رسائلهم بين الإسلام والفلسفة الوثنية اليونانية، انظر تاريخ الحكماء لابن القفطي 88 -82 ، المقابسات لابن حيان التوحيد، ص 48 -46 ، رسالة جامعة الجامعة لإخوان الصفا وخلان الوفاة تحقيق عارف تامر، ص 557 ، الموسوعة العربية الميسرة .66 /1
(4) - انظر الفوز الأصغر ص 28 /27 ، 33 -32 ، 57 ، 73 -71 ، .87
(5) - انظر راحة العقل – المقدمة -ص .26 وحميد الدين الكرماني هو :أحمد بن عبد الله الكرماني، حميد الدين، يلقب بحجة العارفين، ولد في القاهرة سنة 352 هـ وتوفي في إيران بعد سنة 412 هـ، من دعاة الشيعة الإسماعيلية وكتابهم، وكان داعي الدعاة للحاكم الفاطمي في مصر، ألف عدة رسائل يشرح فيها مذهبه الباطني الخبيث .انظر :الأعلام للزركلي 149 /1 ، معجم المؤلفين 298 -297 /1 ، مقدمة كتابا لكرماني :الرياض في الحكم بين الصادين صاحبي الإصلاح والنصرة " تحقيق وتقديم عارف تامر،تاريخ الدعوة الإسماعيلية ص .172 -169
(6) - انظر :تاريخ الفلسفة في الإسلام لدى بور ص 138 ، الله والعالم والإنسان للدكتور محمد جلال شرف ص 9(1/366)
عن التأثر بهذه النظرية )(1) ، ولا ندري كيف ذهب بعض الباحثين إلى أن الكندي قد تأثر بهذه النظرية كغيره من الفلاسفة الإسلاميين. )(2)
وملخص نظرية الفيض عند أفلوطين :أنّ الموجودات صدرت عن الأول على هيئة فيض بتوسط العقل الأول الصادر عنه مع بقية العقول التي صدرت بعضها عن بعض .وأن الأول – الذي هو الواحد الحق يفعل بعض أفعاله بذاته وبعضها بتوسط أشياء وأن هناك خمس مراتب للموجودات وهي:-
1-الأول الواحد : من كل جهة، وهو واحد محض بسيط لا كثرة فيه، وهو فوق التمام والكمال.
2-العقل : وهو من إبداع الأول الواحد، وقد صدر عنه من غير توسط، وبعد أن أبدع الأول العقل التفت هذا العقل إلى الأول مبدعه، فوقع بصره عليه فامتلأ منه نوراً وبهاءً، فأفاض عليه الأول الواحد المحض قوى كثيرة عظيمة .ثم صدرت عن الأول جميع الأشياء التي في العالم العلوي والسفلي، ولكن بتوسط العقل – الصادر عنه من غير توسط -والعالم العقلي .
-3النفس الكلية : وقد صدرت عن العقل الأول لما صار قوة عظيمة . وهي أقل مرتبة من العقل، لأنها مبدعة عنه، وفي الإبداع نقصان .
- 4 الطبيعة : وقد صدرت عن النفس الكلية لما تحركت علواً نحو علتها فامتلأت نوراً وقوةً، وتحركت سفلاً، فكان صدور الطبيعة عنها .
__________
(1) - انظر حكمة الإشراق ص 138 وما بعدها.
(2) - انظر رسائل الكندي الفلسفية – المقدمة للمحقق الدكتور محمد أبو ريدة ص 62 ، تاريخ الفلسفة في الإسلام لدي بور –الهامش للمحقق الدكتور محمد أبو ريدة ص 212 ، ثورة العقل في الإسلام :د .محمد عاطف العراقي ص 110.(1/367)
-5 الأشياء الواقعة تحت الكون والفساد : وهي العالم السفلي بما فيه من النبات والحيوان والجماد وهي آخر الأشياء صدوراً وأدناها مرتبة، وقد صدرت بتوسط الطبيعة. )(1)وإذا كان الفلاسفة الإسلاميون قد تأثروا بنظرية الفيض الأفلوطينية فإنّهم لم يأخذوا بكل تفصيلاتها، فمراتب الموجودات مثلاً في نظرية أفلوطين خمسة، وعند الفارابي وأتباعه ستة، ثم إن نظام صدور الموجودات عن بعضها فيه بعض الاختلاف .وقد لاحظ الدكتور محمد البهي أنّ الفارابي في نظريته أقرب شبهاً بالفيلسوف برقلس منه بأفلوطين. )(2)
وإذا كان العالم قد فاض عن الله تعالى بتوسط العقل الأول – حسب ما تقرره نظرية الفيض -فهل يستفيد الله تعالى من فيض الموجودات ؟ وهل يزيده فيضها عنه كمالاً بالإضافة إلى كماله ؟ يجيب الفارابي عن هذا السؤال فيقول:"والأول هو الذي عنه وجد، ومتى وجد للأول الوجود الذي هو له لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره". )(3)
وأقسام الموجودات كما جاء في نظرية الفيض التي ابتدعها الفلاسفة الإسلاميون كما
يلي:-
أولاً :الله الواحد المطلق : وهو الأول، واجب الوجود بذاته، واحد لا كثرة في ذاته ولا تعدد، مبدع المبدعات ومنشئ الكل .
__________
(1) - انظر أفلوطين عند العرب، الميمر الأول ص 6 ، الميمر العاشر ص 134 وما بعدها، ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي ص .188 -187
(2) - انظر الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص .421 -420
(3) - يقصد أن وجود الأشياء عن الله تعالى لا بإرادته ومشيئته كما تصدر بعض الموجودات عن الإنسان بإرادته واختياره، كصدور الحركات والكلام ونحوه .(1/368)
ثانيا :العقل الأول : وهو أول المبدعات التي تفيض عن الأول، وهو جوهر غير متجسّم أصلاً، ولا هو في مادة، وهو ممكن الوجود في ذاته، ويعقل ذاته الممكنة، وبتعقله لذاته يلزم عنه فلك ذو جرم، ونفس هي صورة الفلك، وهو يعقل وجوبه عن الأول، وبتعقله هذا يلزم عنه العقل الثاني.
ثالثا:العقول الثمانية: وهو العقول التي تصدر عن العقل الأول، فالعقل الثاني منها هو أيضاً جوهر، لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبتعقله لذاته يلزم عنه فلك ذو جرم، ونفس هي صورته، وبتعقله للأول يلزم عنه عقل ثالث. وهكذا بالنسبة لبقية العقول الأخرى، فهي تصدر تباعاً بعضها عن بعض، وكل عقل منها تصدر عنه ثلاثة أشياء عقل، وجسم هو جرم الفلك، ونفس هي صورته .والعقل لا يستطيع تحريك الجسم بغير واسطة، والنفس هي الواسطة التي تؤثر العقل في الجسم بتوسطها .والعقول التسعة)(1)مجتمعة هي التي تسمى ملائكة السماء .
رابعاً :العقل الفعَّال : وهو آخر العقول، وهو يلزم ) يصدر )عن العقل التاسع، ووجوده لا في مادة أيضاً، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، لكن عنده تنتهي العقول والمعقولات، أي ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً . وعن هذا العقل تصدر مادة الأشياء الأرضية، والصور الجنسية، والنفوس الإنسانية .وهو يدبر هذه الأمور كلها، ويصل العالم العلوي بالعالم السفلي وهو المسمى بروح القدس أو بالروح الأمين، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم .
__________
(1) - العقول التسعة عند الفلاسفة هي العقل الأول زائد العقول الثمانية، ويلاحظ أن عدد العقول عندهم تسعة، وربما يكون هذا نتيجة فهمهم لقوله تعالى: "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية". سورة الحاقة : 17 فأضافوا إليها العقل الأول الذي زعموه .(1/369)
خامساً :الأفلاك التسعة :وهي الأفلاك التي تصدر عن العقول التسعة، وكل فلك منها يدبره ويحركه عقل من هذه العقول .وهي لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر. والفلك التاسع من هذه الأفلاك هو العرش الذي جاء ذكره في قوله تعالى:)وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) الحاقة:17، وهو نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية السماوية.
سادساً :النفوس السماوية : وهي النفوس التي صدرت عن العقول التسعة، وبواسطة كل نفس منها يحرك العقل الفلك الذي صدر مع النفس عنه .وإذا أردنا ترتيب الموجودات من الأعلى إلى الأدنى كما جاءت في نظرية الفيض، فتكون على الترتيب الآتي:-
أولاً :المراتب العقلية -:
الأولى :الله الواحد المطلق، مبدع المبدعات ومنشئ الكل .
الثانية :العقول التسعة .
الثالثة :العقل الفعال.
الرابعة :النفس .والعقل الفعَّال والنفس يتكثران بتكثّر أفراد الإنسان.
الخامسة :الصورة .
السادسة :المادة .
وهذه المراتب ليست أجساماً، ولكنها تلابس الأجسام .(1/370)
ثانيا :المراتب الجسمية : بعد المراتب الستة السابقة تأتي أجناس الأجسام الستة التي منشؤها القوة المتخيلة في العقل .وهي :الأجسام السماوية، والحيوان الناطق، والحيوان غير الناطق، وأجسام النبات، والمعادن، والأركان الأربعة :الماء والهواء والنّار والتراب. )(1)
وإذا كانت نظرية الفيض تقرر صدور ثلاثة أشياء عن العقل الأول وهي العقل الثاني، ومادة الفلك الأقصى)السماء الأولى) ، والنفس وتعتبر هذه الأشياء كثرة فإن الفلاسفة يرون بأنها كثرة حصلت بعد وجوده الحقيقي، وبسبب ما فيه من كثرة اعتبارية فقط، فالعقل الأول واحد بالذات، ومتكثّر بالاعتبار فقط، وسبب الكثرة الاعتبارية راجع إلى اعتبار وجوده مرة، وإلى اعتبار علمه مرة أخرى. )(2)
مناقشة نظرية الفيض:
1- إنّ زعم الفلاسفة بأن الواحد لا يصدر عن ه إلا واحد، وما ترتب عليه من القول بنظرية الفيض باطل شرعاً وعقلاً، فلا يدل عليه نص شرعي أو دليل عقلي، بل جاء الشرع والعقل بخلافه.
__________
(1) - انظر نظرية الفيض الفلسفية في المصادر التالية :آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، ص -2425 ، عيون المسائل له ص 8 -7 ، النجاة لابن سينا ص 278 -274 ، الهداية له ص 278 -274 ،الرسالة النيروزية له ص 94 -93 ، المعتبر في الحكمة الإلهية للبغدادي 151 -148 /3 ، تهافت الفلاسفة للغزالي 146 -143 ، تهافت التهافت 305 -288 /1 ، تاريخ الفلسفة الإسلامية لدي بور ص 215 -210 ، 256 ، الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي للدكتور محمد البهي - ص 429 وما بعدها، ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي للدكتور عبد الفتاح أحمد فؤاد ص .190 -187
(2) - انظر :الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص .430 -429(1/371)
2- إنّ في زعم الفلاسفة بأن العقول والنفوس قد صدرت عن الله تعالى موافقة لزعم الكفرة والمشركين من أهل مكة الذين خرقوا لله تعالى بنين وبنات بغير علم، بل مشركو مكة أفضل حالاً من الفلاسفة، فالمشركون لم يجعلوا شيئاً مما خرقوه مُبْدِعاً لما سواه من المخلوقات، والفلاسفة جعلوا العقل الأول مبدعاً لكل ما سواه، وجعلوا العقل كالذكر، والنفس كالأنثى والمشركون من العرب كانوا يقرون بربوبية الله للسماوات والأرض، ولم يكونوا يقولون ما قالته الفلاسفة . وقد ردّ الله عز وجل على المشركين زعمهم وبين ضلالهم وانحرافهم، قال تعالى :)?وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون َبَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأنعام: 12-101.)(1)
__________
(1) - انظر الرد على المنطقيين ص 219 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص 54 ، الصفدية 215/1 – 216.(1/372)
–3 لقد ضاهى الفلاسفة في كفرهم النصارى، فالنصارى زعموا أن المسيح- وهو حادث – تولد عن الله تعالى، وهؤلاء الفلاسفة يزعمون أن العقول والنفوس متولدة عن الله تولداً قديماً وأزلياً لذاته، وأن العالم متولد عن ذلك أزلاً وقديماً .فنفت الفلاسفة عن الله تعالى المشيئة والاختيار والإرادة، ونفت ربوبيته لكل ما سواه، وأثبتوا الربوبية للعقل الأول، فهم في ذلك أشد ضلالاً وأعظم كفراً من النصارى واليهود، وقد رد الله تعالى على ضلال اليهود والنصارى في كثير من آيات الكتاب العزيز، ومن ذلك قوله):أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )سورة الأنعام: .101وقوله:)?قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الإخلاص.)(1)
4- إنّ المخلوقات المعلومات صدرت عن اثنين، وأما واحد وحده فإنّه لا يصدر عنه شيء، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى :)وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذريات:49. وقال: )سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا ُ تُنْبِت الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلمون) سورة يس: )(2) .36
__________
(1) - انظر العقيدة الأصفهانية ص 54 ، الصفدية 216 -215 /1 ، مجموع الفتاوى 291 -290 /17 ،دراسات في الفلسفة الإسلامية د .محمود قاسم ص 221 ، الغزو الفكري في المناهج الدراسية لعلي لبن ص .66 .
(2) - انظر الصفدية 216 /21 ، مجموع الفتاوى .290 -289 /17(1/373)
يقول ابن تيمية: "ليس في الوجود واحد يصدر عنه واحد، بل كل صادر في الوجود فهو عن اثنين فصاعداً، فلا حادث من المخلوقات إلا عن أصلين كالولد بين أبوين، والتسخين والتدبير والإحراق والإغراق وغير ذلك، لابد فيه من اثنين، والشعاع المنبسط لابد فيه من اثنين، فإذا لم يكن في الوجود واحد لا يصدر عنه واحد، كان قول القائل :ليس كل واحد يصدر عنه إلا واحد أصح في العقل والقياس من قولهم، بل لو قال :الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء أصلاً لكان قوله أصح في العقل والقياس من قولهم، وكذلك إذا قيل :الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء إلا م ع غيره لكان قوله أصح من قولهم" )(1).
__________
(1) - شرح العقيدة الأصفهانية ص .54(1/374)
وأمّا ما ذكروه من أنّ الشمس يصدر عنها الشعاع، والنّار يصدر عنها الإحراق وأن الحرارة تصدر عن الحار، والبرودة تصدر عن البارد، وغير ذلك من الأمثلة، فإن هذا الصدور صدور أعراض لا صدور أعيان، ومع ذلك فلابد من وجود أصلين اثنين .فالإحراق مثلاً لا يصدر عن النّار وحدها، بل لابد من محل قابل للإحراق، فالإحراق مثلاً لا يصدر عن النّار في السمندل والياقوت، )(1)ونحوهما من الأجسام التي لا تقبل الإحراق كما أن الإحراق له موانع تمنعه فهو موقوف على وجود الشرط وانتفاء المانع، وهذه أمور غير النّار، وكذلك الحال بالنسبة للشمس مع الشعاع، فإنّه لابد من أصلين اثنين، وهما الشمس التي تجري مجرى الأب، والأرض التي تجري مجرى الأم القابلة وإن حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، ثم إن هذا يختلف عمّا زعموه من صدور العقول والنفوس والأفلاك، التي هي في نظرهم جواهر قائمة بنفسها صدرت عن جوهر واحد بسيط، فأين إذاً التوافق بين صدور الأعيان عن الأعيان، وصدور الأعراض عن الأعيان. )(2)
__________
(1) - السمندل :طائر لا يحترق بالنّار، وقيل :إذا انقطع نسله وهرم ألقى نفسه في الجمر فيعود إلى شبابه، انظر تهذيب اللغة للأزهري 159 /13 ، لسان العرب لابن منظور 348 /11 ، الياقوت من الأحجار الكريمة، وهو معروف.
(2) انظر مجموع الفتاوى 290 -289 /17 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص 53 ، الرسالة التدمرية ص 132 ، الإسلام والمذاهب الفلسفية د .مصطفى حلمي ص 143 نقلاً عن الغزو الفكري في المناهج الدراسية .(1/375)
إنّ قول الفلاسفة : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد دعوى كلية ليس معهم برهان أو دليل يثبتها، ولا يعلم أصلاً وجود حجه تدل عليها.)(1) فإنّ عَلَّلَ الفلاسفة ذلك بقولهم:باستقراء الآحاد، أو بقياس بعضها إلى بعض. قيل لهم : هذا استقراء ناقص، وهو تمثيل، ولا يفيد عندكم اليقين .وقياس التمثيل قد يكون من أفسد القياس لأنّه يقتضي تشبيه الله تعالى بخلقه. )(2)
5- لقد زعم الفلاسفة أنّ العقل الأول هو المبدع لكل ما سوى الله، وأن العقل الفعَّال هو المبدع لكل ما تحت فلك القمر من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن، وهذا الزعم مردود بالدليل الذي يثبت أن الحوادث تصدر عن حركات حي مختار، وهي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء عليهم السلام، وليست الملائكة هي العقول التي جاءت في نظرية الفيض الفلسفية .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى .288 /17
(2) - انظر المصدر السابق .244 /12(1/376)
ثمّ إ نّه من المعلوم بالاضطرار من دين الرسل عليهم الإسلام أنه لا أحد غير الله تعالى خلق جميع الكائنات والمبدعات، ولم يثبت أنّ أحداً من الملائكة أبدع ما تحت السماء لا العقل الفعَّال ولا غيره .والملائكة عباد الله المكرمون ليسوا متولدين عنه، وليس فيهم من هو مستقل بإحداث جميع الحوادث، فضلاً أن يكون مبدعاً لكل ما سوى الله وسواه، والملائكة لا يتصرفون إلا بإذن الله .ولا يسبقونه بالقول، وهم يفعلون ما يؤمرون .يقول الله تعالى في وصف الملائكة:)وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء:28-26. ويقول:)لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)النساء:172. )وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)النحل:49-50. )?وكل مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شفاعتهم شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)? سورة النجم :26 ، إنّ هذه الصفات التي ذكرها الله تعالى للملائكة تخالف الصورة التي رسمتها نظرية الفيض للعقول المبدعة )(1).
__________
(1) - الصفدية – بتصرف -157 -156 /1 ، .214(1/377)
إنّ الموجودات التي فاضت عن الله تعالى بواسطة العقل الأول، وهي العقول والأفلاك والأنفس، ليس مع الفلاسفة دليل شرعي أو عقلي على حصرها وبيان وصفها وعملها، وكل ما معهم هو من الظن، والظن لا يغني عن الحق شيئا.ً )(1)
لقد زعمت نظرية الفيض أنّ العقول العشرة متولدة عن الله أزلاً وهي قديمة لازمة لذاته تعالى، ويردّ على هذا الزعم بالقول :كيف نفسر حدوث الحوادث؟ ذلك أن الحوادث لابد لها من محدث، ولا يمكن أن يكون واحد من العقول العشرة محدثاً، لأنها قديمة أزلية ومعلولها يقارنها أزلاً، فلا حوادث تحدث عنها، وبذلك يمتنع أن يكون شيء من الحوادث قد صدر عن واجب الوجود بواسطة أو بغير واسطة، فتكون الحوادث ولا محدث لها، وهذا باطل. )(2)
إنّ الواحد الذي قرره الفلاسفة، وزعموا أنّه لا يصدر عنه إلا واحد إ نّما يوجد في الأذهان لا في الخارج، لأنّهم قالوا : إنّه وجود مطلق، والمطلق لا يوجد إلا في الذهن، فلا يوجد في الأعيان ألبته. )(3)
إنّ الواحد الذي قرروه وزعموا أ نّه يلزم من كونه واحداً أن يصدر عن ه واحد فقط، لابد أن يكون ما صدر عن معلوله)العقل الأول) واحد أيضاً، وكذلك عن هذا الواحد واحد، وهلمَّ جرا، وهذا يوجب عدم وقوع الكثرة في المعلولات والعالم، ولكن ما نراه أن نظرية الفيض الفلسفية تقول بوقوع الكثرة عن كل معلول، كما أن تكثر الموجودات وتعددها مما يشهد به الواقع ويكذب رأي الفلاسفة الذي هو ضحكة وسخرية العقلاء وأولى الألباب. )(4)
__________
(1) - مجموع الفتاوى 545 /6 وما بعده، لابن تيمية بحث بعنوان ) الرسالة العرشية (ضمن مجموع الفتاوى 484 -545 /6 يرد فيه على مزاعم الفلاسفة في هذا الموضوع .
(2) - انظر الصفدية .158 -157 /1
(3) - المصدر السابق ص .159
(4) - انظر غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 208 ، الصفدية 159 /1 ، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم .282 /2(1/378)
... "إنّ صدور الكثرة عن المعلول ) العقل الأول ) إما أن تكون وهو متحد أو متكثر، فإن كان واحداً فقد ناقض قولكم إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فهلا قلتم بصدور الكثرة عن واجب الوجود، وإن كان واحداً، كما قلتم بصدور الكثرة عما صدر عنه واحد .وإن قلتم :إن ما صدر عنه الكثرة متكثر، فقد قلتم بصدور الكثرة عن واجب الوجود،وأفسدتم ما ظننتم إحكامه، وما رمتم إتقانه، وذلك سخف القول والفعال". )(1)
إنّ ابن رشد أحد أساطين الفلسفة قد أنكر القول :أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وذهب إلى أنّه أمر مبتدع في الفلسفة، حيث لم يقل به الفلاسفة القدماء، فالفارابي وابن سينا هما أوّل من قال به . وهذا القول من الخرافات والأقاويل الضعيفة، والدخيلة على الفلسفة، وليست جارية على أصول الفلاسفة، ولا تبلغ مرتبة الإقناع الخطابي فضلاً عن الإقناع الجدلي، وهو يعجب كيف خفي هذا على الفارابي وابن سينا )(2).
وممّا يدل على فساد نظرية الفيض التي قال بها الفارابي وابن سينا، أن متأخري الفلاسفة -من أتباعهم - اضطربت أقوالهم فيها، فأبو البركات البغدادي جعل منها مادة للسخرية والتهكم، وابن رشد رأى أنها أضاعت هيبة الفلاسفة، وهي من الخرافات ، )(3)وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى اضطراب أقوال الفلاسفة المتأخرين فقال رحمه الله :"ولهذا اضطرب متأخروهم، فأبو البركات صاحب المعتبر أبطل هذا القول ورده غاية الرد". )(4)
__________
(1) غاية المرام ص .208
(2) - انظر تهافت التهافت 397 /1 ، 398 ، 402 ، 403 ، 407 ، وانظر:نقده لنظرية الفيض: المصدر السابق ص306-421.
(3) - انظر الغزو الفكري في المناهج الدراسية ص .67
(4) انظر المعتبر في الحكمة الإلهية .166 -156 /3(1/379)
وابن رشد الحفيد زعم أن الفلك بما فيه صادر عن الأول. )(1) والطوسي وزير الملاحدة يقرب من هذا، فجعل الأول شرطاً في الثاني، والثاني شرطاً في الثالث، وهم مشتركون في الضلال، وهو إثبات جواهر قائمة بنفسها أزلية مع الرب لم تزل ولا تزال معه، لم تكن مسبوقة بعدم، وجعل الفلك أيضاً أزلياً، وهذا وحده فيه من مخالفة المعقول،والكفر بما جاءت به الرسل ما فيه كفاية، فكيف إذا ضم إليه غيره، ذلك من أقاويلهم المخالفة للعقل والنقل. )(2)
إنّ نظرية الفيض دخيلة على الفكر الإسلامي، فالإسلام يقرر بوضوح أن الخالق للعالم وما فيه من موجودات هو الله عز وجل، بينما تقرر هذه النظرية أنّ ثمّة خالقاً مع الله تعالى يشاركه في الخلق، كحركات الكواكب والأفلاك، والعقول التسعة، والعقل الفعال الذي أسندت إليه كل ما في عالم الكون والفساد من الصور والأعراض .
ويرى بعض الباحثين أنّ نظرية الفيض ترجع إلى مصدرين اثنين:-
أحدهما:مدرسة أفلوطين التي قالت بصدور الموجودات عن الأول على هيئة فيض من العقول الصادر بعضها عن بعض صدوراً يتفق ونظام الأفلاك عند بطليموس، ونظرية الفيض عند أفلوطين تعبر عن الجاهلية الوثنية، هذه الجاهلية التي أضفت الحياة والعقل على الكواكب، وهذا الإضفاء فكرة وثنية جاءت من مذهب الصابئة عبدة الكواكب .
ثانيهما:المعلمون النصارى الذين تتلمذ عليهم الفارابي، ويؤكد هذا الأمر التقسيم الثلاثي الذي قامت عليه النظرية، وتسمية العقل الفعال بالروح القدس، والقول بتولد العقول العشرة، وهو شبيه زعم النصارى بتولد الكلمة عن الذات. )(3)
__________
(1) - انظر تهافت التهافت .709 /2
(2) - مجموع الفتاوى .289 /17
(3) - انظر الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 215 ، جوانب من التراث الفلسفي في الإسلام،د محمد عبد الفضيل القوصي ص67 – 66 ، الغزو الفكري في المناهج الدراسية ص 104 –103(1/380)
ولقد حدّثنا الفارابي نفسه عن التأثير الأفلوطيني والنصراني في فلسفته، فقال : انتقل التعليم بعد ظهور الإسلام من الإسكندرية إلى إنطاكية، )(1)وبقي بها زمناً طويلاً إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من حران، )(2)والآخر من أهل مرو، )(3)وكانت مرو عاصمة خراسان فأم الذي من أهل مرو فتعلم منه رجلان، أحدهما إبراهيم المروزي، )(4)والآخر يوحنا بن حيلان، )(5)وتعلم من الحراني إسرائيل الأسقف، )(6)وقويري، )(7)
__________
(1) - أنطاكية :مدينة كانت من الثغور الشامية، بينها وبين حلب مسيرة يوم وليلة، انظر معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للبكري 1216 /4 ، معجم البلدان لياقوت الحموي .112/ /5
(2) حران :مدينة على طريق الموصل والشام، كانت منازل الصابئة الحرانيين، فتحت في أيام خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ينسب إليها كثير من أهل العلم .انظر :معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع 435 /2 ، معجم البلدان 236 -235 /2
(3) - مرو :من أشهر مدن خرسان ببلاد فارس، انظر :معجم ما استعجم 1216 /4 ، ومعجم البلدان. 112 / 5
(4) -إبراهيم المروزي :أبو يحيى، فيلسوف وطبيب سرياني، كان أستاذاً لمتى بن يونس وابن كرنيب، وكل مصنفاته في المنطق وغيره بالسريانية، كان حياً في الربع الأول من القرن الرابع الهجري .انظر:الفهرست ص 368 ، عيون الأنباء ص 317 ، تاريخ الحكماء ص 435 ، التنبيه والإشراف ص .105
(5) - يوحنا بن حيلان :فيلسوف ومنطقي نصراني أصله من حران، أخذ عنه المنطق أبو نصر الفارابي، توفي بمدينة بغداد في أيام خلافة المقتدر العباسي .انظر :التنبيه والإشراف للمسعودي ص 105 ،طبقات الأمم لصاعد الأندلسي ص .72
(6) - إسرائيل الأسقف :لم تذكر المصادر المتوافرة بين أيدينا ً شيئا عنه، ويظهر لي أنه منطقي وفيلسوف وراهب نصراني .
(7) - قويري :هو أبو إسحاق، إبراهيم قويري، فيلسوف، قرأ عليه متى بن يونس، كان حياً سنة 328هـ، من مصنفاته :تفسير كتاب قاطيغورياس، وكتاب بارير مييناس، وكتاب أنا لوطيقا .انظر :الفهرست ص367 ، عيون الأنباء ص 317 -316 ، تاريخ الحكماء ص 77 ، التنبيه والإشراف ص .105(1/381)
وساروا إلى بغداد فتشاغل إسرائيل أيضاً بدينه، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها، وتعلم المروزي من متى بن يونان، )(1)وتعلمت )(2) من يوحنا بن حيلان، وقرأت عليه إلى آخر كتاب البراهين التحليلات الثانية. )(3)
... وقد ذكر المسعودي أن ~انتقال تعاليم فلسفة مدرسة الإسكندرية إلى أنطاكية كان في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ثم انتقلت إلى حران في فترة خلافة المتوكل العباسي، وانتهت في أيام الخليفة المعتضد، إلى قويري ويوحنا بن حيلان ثم إلى إبراهيم المروزي، ثم إلى محمد بن كرنيب، )(4)وأبي بشر متى يونس تلميذي إبراهيم المروزي، ثم إلى الفارابي تلميذ يوحنا بن حيلان. )(5)
__________
(1) متى بن يونان :هو متى بن يونس، أبو بشر من أهل ديرقني، قرأ على قويري، ودوفيل، وبنيامين، وابن كرنيب، توفي في بغداد في خلافة الراضي بعد سنة 320 هـ وقبل سنة 330 هـ، وانتهت إليه رياسة المنطقيين اليونان في عصره .له مصنفات في المنطق وغيره، انظر الفهرست :ص369 -368 ، عيون الأنباء ص 317 ، التنبيه والإشراف ص 105 ، تاريخ الحكماء ص .323
(2) - يعني الفارابي نفسه .
(3) - عيون الأنباء في طبقة الأطباء - بتصرف – لابن أبي أصيبعة ص .605 -604
(4) - محمد بن كرنيب :أخطأ المسعودي في اسمه ولقبه، حيث ذكر أنه محمد أبو محمد بن كرنيب، والصواب ما ذكرته المصادر الأخرى، فهو الحسين بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد أو زيد الكاتب، أبو الحسن، وقيل أبو أحمد، المعروف بابن كرنيب، متكلم وفيلسوف بغدادي يذهب مذهب الفلاسفة الطبيعيين، قرأ عليه متى بن يونس، وتتلمذ على إبراهيم المروزي كان حياً في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، له كتاب الأجناس وكتاب الرد على ثابت بن قرة، انظر :عيون الأنباء ص 317 ، تاريخ الحكماء ص 169 الفهرست ص 367 ، التنبيه والإشراف ص .105
(5) - التنبيه والإشراف ص 106 -105 للمسعودي .(1/382)
وأخيراً فلقد تركت نظرية الفيض الفلسفية آثاراً سيئة في الفكر الإسلامي، يقول الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي :"وربما كانت هذه النظرية التي وضع الفارابي أسسها فيما يتعلق بالعقول وإناطة التأثير في عالمنا الأرضي بآخر هذه العقول هبوطاً، وهو العقل العاشر، وهي السر في انزلاق الفلسفة الإسلامية وعلم الفلك معها إلى صناعة التنجيم بالمعنى الذي جعل من بعض الأفلاك مصدراً للسعادة، ومن بعضها الآخر مصدراً للنحوسة .ولع لّها أيضاً إحدى الأسباب الهامة التي انزلقت بالعلم الطبيعي الإسلامي إلى علم في تأثيرات الأفلاك والبروج ومعرفة المطالع، إلى غير ذلك مما راج لدى جمهرة المسلمين ونأى بها رويداً رويداً عن الموضوعية العلمية التي كان ينبغي أن تسير فيها أشواطاً بعيدة المدى". )(1)
وممّا يؤسف له أنّ نظرية الفيض وغيرها من الأفكار الفلسفية تدرس لتلاميذ الثانوية العامة في مصر بشكل تقريري، دون أيّ نقد يفندها، ويبين مدى انحرافها وضلال أصحابها. )(2)
الفصل الرابع
مسلكهم في إثبات التوحيد
سلك الفلاسفة الإسلاميون في إثبات وحدانية الله تعالى مسلكين:أحدهما:شرعي مستمد من القرآن الكريم، وثانيهما:عقلي مستمد من الفكر الفلسفي.
المبحث الأول:المسلك الشرعي:
يعتبر ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي عني بالشرع في الاستدلال على وحدانية الله عز وجل، إذ أن غيره من الفلاسفة اعتمد على العقل فحسب في هذا المجال، وابن رشد في مسلكه الشرعي يلجأ إلى القرآن الكريم الذي تقرر آياته الشريفة وحدانية الله تعالى وتنفي الإلهية عما سواه )(3)، ومن الآيات:
__________
(1) - جوانب من التراث الفلسفي في الإسلام ص .106
(2) - انظر الغزو الفكري في المناهج الدراسية ص .69 -68
(3) - انظر مناهج الأدلة ص 155 ، .159(1/383)
الدليل الأول :قوله تعالى:"لو كان فِيهِمَا ٌ آلِهَة إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا"?سورة الأنبياء:آية .22 ودلالة هذه الآية على وحدانية الله تعالى مغروزة في فطر النفوس، وهي حقيقة بديهية تشهد الملاحظة بصدقها )(1)، ووجه الاستدلال بهذه الآية على الوحدانية يوضحه ابن رشد بقوله:"إنّه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه، أنه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا معاً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكون أحدهما يفعل ويبقى الآخر عطلاً، وذلك منتف في صفة الآلهة . فإنّه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة " )(2).وأيضاً فإنّ معنى الآية:أنّا لو فرضنا وجود آلهة متعددة أو أكثر من إله لفسد العالم في الآن، ولمّا يكن العالم فاسداً، وجب ألا يكون هناك إلا إله واحد. )(3)
المناقشة :-
إنّ الآية القرآني ة واضحة الدلالة في إثبات وحدانيته عز وجل، فالآية يمكن أن يؤخذ منها دليل عدم فساد الكون )(4).فانتظام أمر الكون بما فيه من المخلوقات المختلفة المتعددة دليل على أن الإله المدبر واحد، لأنه لو كان مدبر الكون أكثر من إله واحد لدخله الفساد والخلل كما أشارت الآية الكريمة، وما دام الكون ً منتظما تمام الانتظام فالعقل يجزم أن الإله المدبر المتصرف فيه المستحق العبادة دون سواه إله واحد لا شريك له .وإذا كانت الآية تدل على توحيد الربوبية فهي تدل أيضاً على توحيد الإلهية إذ يقال في معناها :إنه لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لها العبادة سوى الله تعالى الذي خلق كل شيء لفسدت السماوات والأرض. )(5)
__________
(1) - انظر المصدر السابق ص 155 ، المقدمة للمحقق ص .34
(2) مناهج الأدلة ص 156- .155
(3) - انظر المصدر السابق ص .159
(4) - انظر عقيدة التوحيد في القرآن الكريم :د .محمد أحمد ملكاوي ص.272
(5) - انظر نفس المصدر السابق .(1/384)
يقول ابن تيمية معقباً على الآية السابقة - )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الأنبياء:22: "فإنّ قوامهما )(1) بأن تأله الإله الحق فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الله لا سمي له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية". )(2) ويقول ":فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له" )(3).وممّا يؤخذ على ابن رشد أنه استدل بالآية على توحيد الربوبية فحسب، ولم يستدل بها على وحدانية الإلهية إذ الآية تدل عليهما معاً، كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية وغيره )(4).
الدليل الثاني :قوله تعالى :مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا َكانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - )سورة المؤمنون آية 9. يبيّن ابن رشد وجه الاستدلال بهذه الآية في إثبات وحدانية الله تعالى فيقول "فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يلزم في الآلهة المختلفة الأفعال، التي لا يكون بعضها مطيعاً لبعض، لا يكون عنها موجود واحد ولما كان العالم واحداً وجب ألا يكون موجوداً عن آلهة متفننة الأفعال. )(5)
المناقشة-:
__________
(1) - فإنّ قوامهما :أي السماوات والأرض .
(2) - انظر مجمع الفتاوى .24 /1
(3) - انظر المصدر السابق ص .55
(4) - انظر اقتضاء الصراط المستقيم846 /2 ، درء التعارض 334 -343 /9 ،مفتاح السعادة لابن القيم 1 206/ ،274، عقيدة التوحيد في القرآن الكريم ص .273
(5) - مناهج الأدلة :ص .156(1/385)
الآية الكريمة التي استدل بها ابن رشد من الأدلة القرآنية في إثبات وحدانية الله عز وجل، كما أنّ فيها رداً على الذين يزعمون أنّ الله اتخذ له ولداً، أو له شريك في الملك والتصرف، وهي تثبت وحدانية الله عن طريق انتظام الوجود واتساقه وارتباط بعضه ببعض، وكما تدل الآية الكريمة على ربوبية الله الشاملة للوجود كله، فهي تدل أيضاً على تفرده في الإلهية والعبادة، وكان من الواجب على ابن رشد أن يبين تقرير الآية لتوحيد الإلهية كما استدل بها على توحيد الربوبية.
الدليل الثالث: قوله تعالى:)قُلْ لوْ َكانَ مَعَهُ ٌ آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلا) سورة الإسراء: .42 ذهب ابن رشد إلى أن هذه الآية كآية سورة الأنبياء، برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد، وذكر وجه استدلاله بالآية في إثبات الوحدانية فقال:" ومعنى هذه الآية أنه لو كان فيهما آلهة قادرة على إيجاد العالم وخلقه غير الإله الموجود، حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له، لوجب أن يكون على العرش معه فكان يوجد موجودان متماثلان ينسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإنّ المثلين لا ينسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، لأنه إذا اتحدت النسبة اتحد المنسوب". )(1)
يقصد ابن رشد أن وجود آلهة أخرى مع الإله الحق يوجب أن يكونوا جميعاً على العرش، وهذا متعذر لأن العرش واحد، وكون العرش واحداً، يدل على وجود الإله الواحد الذي ينسب إلى المحل الواحد.
المناقشة:
__________
(1) - انظر تفسير ابن كثير .255 /3(1/386)
يلاحظ أنّ ابن رشد استدل بالآية الكريمة على إثبات توحيد الربوبية، والصواب أنّ الآية في إثبات توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، فك فار مكة الذين نزلت الآية في كشف زيف معتقدهم وفساد شركهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وما عرف عنهم الجدال والمخاصمة فيه، والذي كانوا ينكرونه هو توحيد الإلهية، وهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأنزل الله تعالى به الكتب، وأيضاً فإن المعنى المستفاد من الآية ليس هو ما ذهب إليه ابن رشد، فالمعنى الصحيح هو المنقول عن السلف، كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره شيخ المفسرين ابن جرير الطبري والإمام ابن كثير. )(1)
يقول ابن كثير في تفسيره للآية: "يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفا، لو كان الأمر كما يقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه،
ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنّه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبياءه". )(2)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس حول هذه الآية، بيّن فيه فساد تفسير ابن رشد لها، وذكر التفسير الصحيح الذي تدعمه آيات القرآن الكريم، يقول رحمه الله:"والآية فيها قولان معروفان للمفسرين -:
أحدهما:أن قوله:) إذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً )سورة الإسراء42: ، أي بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له.
__________
(1) - مناهج الأدلة ص .156
(2) - شرح العقيدة الطحاوية.41 /1(1/387)
الثاني:بالممانعة والمغالبة.والأول هو الصحيح، فإنّه قال:لَوْ كانَ مَعَهُ ٌ آلِهَة كَمَا يَقولونَ - ?سورة الإسراء: 42 ، و هم لم يكونوا يقولون:إن آلهتهم تمانعه وتغالبه . بخلاف: "وَمَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) سورة المؤمنون: .91 فهذا في الآلهة المنفية، ليس فيها أنها تعلوا على الله، وأن المشركين يقولون ذلك .وأيضاً فقوله: )لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) يدل على ذلك، فإنّه تعالى قال:)?إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَة فمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) سورة المزمل:19 .والمراد به اتخاذ السبيل إلى عبادته وطاعته بخلاف العكس، فإنّه قال:)فإِنْ أَطَعْنَكمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)?سورة النساء: 34 ، ولم يقل إليهن سبيلا .وأيضاً فاتخاذ السبيل إليه مأمور به،كقوله:)وَابْتغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)?سورة المائدة 35: وقوله:) قلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشفَ الضُّرِّ عَنكمْ وَلا تَحْوِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافونَ عَذابَهُ) سورة الإسراء: .57- 56 فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة - فهذا مناسب لقوله:لوْ كانَ مَعَهُ ٌ آلِهَة كَمَا يَقولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) سورة الإسراء:42.?? )(1)
المبحث الثاني:المسلك العقلي:
__________
(1) - تفسير ابن كثير 42 /3 ، وانظر :نفس هذا المعنى في تفسير الطبري 91 /15 ، منهاج السنة النبوية331 / 3 -.332(1/388)
اعتمد الفلاسفة الإسلاميون على العقل في إثبات وحدانية الله تعالى كعادتهم في تقرير العقيد-ولهم في إثبات وحدانية الله تعالى دليلان عقليان. وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك فقال":وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم الذي هو تعطيل محض)(1). في الحقيقة-حجتان، )(2)ودليلا الفلاسفة هما:الاشتراك في العلية، والاشتراك والامتياز.)(3)ونذكر هذين الدليلين كما وردا في مؤلفات الفلاسفة ومؤلفات غيرهم من العلماء المطلعين على المذهب الفلسفي.
الدليل الأول:الاشتراك في العلية:
يقول الفارابي في بيان هذا الدليل:" ويجب أن يكون واحداً، إذ كل اثنين فالواحد متقدم والثاني متأخر، وهذا تقدم طبيعي، وهو تقدم الواحد على الاثنين، وإذا كانا معاً: فإمّا أن يشتركا في جميع الأشياء، فإن اشتركا لم يكن بينهما إثنينية وإن اختلفا فلابد أن يكون أحدهما سبباً والآخر مسبباً، لأن أحدهما واجب الوجود، فإن كان الآخر أيضاً واجب الوجود لم يتخصص أحدهما، ولم يتعين الوجود الواجب بل يتخصص بشيء آخر، ولا محالة من أن يتخصص ما وجوده واحد في مفهوم ماهيته بوجوب الوجود". )(4)يذكر ابن سينا هذا الدليل في كثير من مؤلفاته، فذكره في بعضها على وجه التفصيل، )(5) وذكره في بعضها على وجه الإيجاز. )(6)
__________
(1) - درء تعارض العقل والنقل.351 - 350 / 9
(2) - منهاج السنة النبوية.298 / 3
(3) - تسمية الدليل الأول توصلنا إليه من خلال دراستنا للدليل نفسه، فالاشتراك في العلية هو المحور الذي يقوم الدليل على أساسه، وأما الدليل الثاني فقد سماه بهذه الاسم الدكتور محمد صالح الزركان، انظر:كتابه " فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية " ص.237
(4) - رسالة زينون- المجموع ص.5
(5) - انظر:النجاة ص.334 - 230 -227
(6) - انظر:الهداية ص 262 - 261 ، الإشارات والتنبيهات-36 /3 44، التعليقات ص 35، 37 70،133،.184(1/389)
جاء في "الإشارات والتنبيهات " ذكر الدليل في الفصل الثامن عشر من قسم الإلهيات، يقول: " إشارة:واجب الوجود المتعين: إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود، فلا واجب وجود غيره، وإن لم يكن تعينه لذلك، بل لأمر آخر فهو معلول، لأنّه إذا كان وجود واجب الوجود لازماً لتعينه كان الوجود لازماً لماهية غيره، أو صفة، وذلك محال وإن كان عارضاً، فهو أولى بأن يكون لعلة وإن كان ما يتعين به عارضاً لذلك، فهو لعلة.فإن كان ذلك وما يتعين به ماهية واحدة، فتلك العلّة علة لخصوصية ما لذاته يجب وجوده، وهذا محال، وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق، فكلامنا في ذلك السابق وباقي الأقسام محال ".(1/390)
وجاء في كتابه الهداية":)(1)لا يجوز أن يكون وجوب الوجود لشخصين، فقد قيل إن ذلك يوجب أن يكون كل واحد منهما معلولاً من حيث هوهو، ولا يلحق وجوب الوجود لاحق في ذاته يستحيل به، وإلا لتعلق وجوده بعلتي كونه ولا كونه لم ينفك عنهما، وكانا:إما معلولية فيكون علة إحالة نفسه، وهذا محال، أو واجبين معه، فيكثر وجوب الوجود.فواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته ".وقد ذكر كل من الغزالي وابن تيمية وغيرهما )(2)دليل الاشتراك في العلية الذي اعتمده الفلاسفة في إثبات الوحدانية.وتقرير ابن تيمية للدليل أقرب لتقرير ابن سينا له في الإشارات والتنبيهات " على حين جاء تقرير الغزالي له بمعناه، وهو أيسر فهماً، حيث لا يحتاج إلى إعمال عقل في فهمه، ومعرفة مقصوده، وسبب ذلك أن ابن تيمية لخص الدليل من كتاب "الإشارات والتنبيهات " وما عليه من شروح للطوسي والرازي )(3) ، وقد أشار هو إلى ذلك )(4) على حين لخصه الغزالي-كما نرى-من فهمه للدليل من مجموعة مؤلفات ابن سينا وغيره، فجاء تقريره للدليل بالمعنى .
ولبيان ذلك نذكر الدليل كما جاء عند الغزالي وابن تيمية.
1- تقرير الغزالي للدليل":لو كانا اثنين، لكان نوع وجوب الوجود مقولاً على كل واحد منهما، وما قيل عليه:إنه واجب الوجود فلا يخلو:إما أن يكون وجوب وجوده لذاته، فلا يتصور أن يكون لغيره، أو وجوب الوجود له لعلة، فتكون ذات واجب الوجود معلولاً، وقد اقتضت علة له وجوب الوجود، ونحن لا نريد بواجب الوجود، إلاّ ما لا ارتباط لوجوده بعلة، بجهة من الجهات.
__________
(1) - ص 261-262.
(2) - تهافت الفلاسفة ص 160 ، منهاج السنة النبوية 299 - 298 / 3 ، مصارعة الفلاسفة للشهرستاني ص.59- 58
(3) - انظر الإشارات والتنبيهات ج 3 هامش ص 39 -36 ، شرح الإشارات للرازي ص301-302
(4) - انظر منهاج السنة النبوية 3/299.(1/391)
... وزعموا أنّ نوع الإنسان مقول على زيد وعلى عمرو، وليس زيد إنساناً لذاته، إذ لو كان إنساناً لذاته لما كان عمرو إنساناً، بل لعلّة جعلته إنساناً، وقد جعلت عمراً أيضاً إنساناً، فتكثرت الإنسانية بتكثر المادة الحاملة لها، وتعلقها بالمادة معلول ليس لذات الإنسانية، فكذلك ثبوت وجوب الوجود لواجب الوجود، إن كان لذاته فلا يكون إلاّ له، وإن كان لعلّة فهو إذن معلول، وليس بواجب الوجود، فقد ظهر بهذا أنّ واجب الوجود لابد أن يكون واحداً. )(1)
وأمّا تقرير ابن تيمية له: "أنهما )(2)إذا اتفقا في الوجوب، وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه، لزم أن يكون المشترك )(3)معلولاً للمختص، كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية، وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص، وهذا باطل هنا، وذلك لأن كلاً من المشترك والمختص:إن كان أحدهما عارضاً للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضاً للواجب، أو معروضاً له، وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب صفة لازمة للواجب، وهذا محال، لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب. وإن كان أحدهما لازماً للآخر، لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص، لأنه حيث وجدت العلّة وجد المعلول، فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك في هذا وهذا، فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا، وما يختص بهذا في هذا، وهذا محال يرفع الاختصاص". )(4)
المناقشة:
تعرّض دليل الاشتراك في العلية لجملة من الردود التي تبين بطلان الدليل وعدم
صحته في الاستدلال على المطلوب ولعل أقوى الردود هو ما وجهه إليه
__________
(1) - تهافت الفلاسفة ص 16، وانظر:لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي ص 187
، حيث ذكر تقرير الغزالي للدليل بتصرف بسيط، وأيضاً الذخيرة للمحاكمة بين الغزالي والحكماء لعلاء الدين الطوسي ص.104.
(2) - أي واجبا الوجود
(3) - المشترك :هو الوجوب الذي يشترك فيه واجبا الوجود .
(4) - منهاج السنة النبوية 299 - 298 /3(1/392)
الغزالي، ويتلخص في بيان عدم صحة تقسيم الفلاسفة نوع واجب الوجود:إلى واجب
الوجود لذاته، وواجب الوجود لعلة، ذلك أن واجب الوجود لعلة لا يمكن أن يكون إلا
معلولاً، والمعلول لا يكون واجباً، وإنما يكون جائزاً، فكيف يكون قسماً ً ثانيا من أقسام
واجب الوجود.
ويرى الغزالي أنّ لفظ )وجوب الوجود) فيه إجمال، وهو يحتمل معنيين، لا يدل واحد منهما على مقصود الفلاسفة، ولا يستقيم الدليل به، أحدهما: أنّ من معاني وجوب الوجود "نفي العلّة"، وبهذا المعنى يكون سياق الدليل هكذا : إنّ الذي لا علة له، لا علة له، لا علة له لذاته أو لسبب، وهذا تقسيم خاطئ، لأنّ نفي العلّة، واستغناء الوجود عن العلّة لا يطلب له علة، وإذا كان كذلك فأيّ معنى للقول:إنّ ما لا علة له، لا علة له إما لذاته أو لعلة.لأنّ قولنا: لا علة له سلب محض، والسلب المحض لا يكون له سبب ولا علة، ولا يقال فيه:إنّه لذاته، أولا لذاته.
وثانيهما:من معاني وجوب الوجود" الوصف الثابت لواجب الوجود"، فيكون واجب الوجود هو الموجود الذي لا علة لوجوده. وهذا معنى غير مفهوم في نفسه فالذي يستفاد من نفي العلّة لوجوده، هو سلب محض. ولا يقال فيه:إنه لذاته أو لعلة. )(1)وبعد أن يبين الغزالي فساد الدليل، يقول:فدلّ أنّ هذا برهان من خرف لا أصل له". )(2)
__________
(1) - تهافت الفلاسفة – بتصرف-ص 161 - 160 ، لباب العقول للمكلاتي ص 191-188 ، الذخيرة للطوسي ص105 - 104
(2) - تهافت الفلاسفة ص.188(1/393)
ويكشف الشهرستاني عن أوجه التناقض في الدليل من جهة الرسم والحد، ومن جهة المادة الموضوعة للاستدلال. فمن جهة الحد والرسم يظهر التناقض في أقوال ابن سينا التي تتعلق ببيان معنى واجب الوجود وإطلاقاته، فتارة يقول:إنّ واجب الوجود لا يقال على كثيرين، وتارة يقول:ولا يجوز أن يكون نوع واجب الو جود لغير ذاته، فلفظ " النوع " هنا لا يقال إلا على كثيرين، فكيف يطلق ابن سينا لفظ "النوع " على واجب الوجود، وواجب الوجود لا يقال إلا على ذات وموجود لا يشاركه في الاسم غيره ؟ )(1)
وأما التناقض الثاني:فهو أن ابن سينا أخذ الوجود مطلقاً وجعله موضوعاً للعلم الإلهي، وتكلم في لوازمه، ثم جعل واجب الوجود من أقسامه ولواحقه، ثمّ تكلم في لوازم واجب الوجود مطلقاً، وذكر من لوازمه أنّه حق، وأنّه تام، وأنّه علة ومبدأ، ثم أخذ في البرهنة عليه وإثباته، وهذا دليل على أنّه جعل واجب الوجود نوعاً، فالسؤال فكيف تجعله نوعاً، ثم تأخذ في البرهنة على وحدانيته ؟ !وكيف يؤخذ واجب الوجود بإطلاق أو على شكل كلي ثم يبرهن على وحدانيته ؟!إنّ المطلق أو الكلي لا يوجد في الخارج، لأنّ الذي في الخارج هو المعين فحسب. )(2)
__________
(1) - مصارعة الفلاسفة- بتصرف - ص 61
(2) - المصدر السابق- بتصرف- ص62 - 61(1/394)
وأمّا ابن رشد فيرى أنّ مسلك ابن سينا وأتباعه في التوحيد، لم يكن مسلكاً لأحد من قدماء الفلاسفة، وأنه مؤلف من مقدمات عامة، تكاد تكون معانيها مقولة باشتراك، وبسبب ذلك ترد عليها المعاندة كثيراً، ويذهب إلى أن تفصيل المعاني ومعرفة المقصود منها يقرب المسلك من الأقاويل البرهانية. )(1)ثمّ يصحح ابن رشد هذا الدليل بتلاقي نقاط الضعف فيه، ويأتي بدليل غيره يدل على وحدانية الله تعالى يقول ابن رشد ": وبرهان ابن سينا يتم على هذا الوجه :واجب الوجود إن كان اثنين، فلا يخلو أن تكون المغايرة التي بينهما :بالعدد أو بالنوع . أو بالتقديم والتأخير فإن كانت المغايرة التي بينهما بالعدد كانا متفقين بالنوع، وإن كان التغاير بالنوع، كانا متفقين بالجنس.
وعلى هذين النوعين يلزم أن يكون واجب الوجود مركباً. وإن كان التغاير الذي بينهما بالتقديم والتأخير، وجب أن يكون واجب الوجود واحداً، وهو العلّة لجميعها، وهذا هو الصحيح، فواجب الوجود إذن واحد، إذ لم يكن ههنا غير هذه الثلاثة أقسام، بطل منها الاثنان، وصح القسم الذي يوجب انفراد الوجود بالوحدانية. )(2)
إنّ دليل ابن رشد الذي قرره من خلال تصحيح دليل ابن سينا، أيسر فهما على العقل من دليل الفلاسفة، ولكنه دليل فلسفي لا يمكن إثبات عقيدة التوحيد به، لأن العقيدة الإسلامية لا تحتاج إلى الأدلة الفلسفية المجردة لكي يستدل على تقريرها وإثباتها، وإذا كانت عقيدة التوحيد بدهية فطرية فإن الأدلة التي تناسبها هي الأدلة التي تخاطب النفس البشرية مباشرة، فتنفذ إلى أعماقها بكل يسر وسهولة دون الحاجة إلى استخدام المصطلحات الفلسفية التي يجهلها أكثر الناس.
__________
(1) - انظر:تهافت التهافت.463 / 2.
(2) - المصدر السابق ص .468(1/395)
ثمّ إنّ دليل ابن رشد يثبت وحدانية واجب الوجود، دون أن يثبت وحدانية الله تعالى في الربوبية والإلهية، وما جاءت رسل الله تعالى إلا لتذكير الناس بما استقر في فطرهم من الإقرار بربوبيته عز وجل، ووجوب الإقرار له بالإلهية والعبودية، مع عدم صرف أي شيء من العبادة لغيره تعالى من الشركاء والأنداد.
وكان الأجدر بابن رشد أن يكتفي بالأدلة الشرعية المستقاة من القرآن الكريم فهي أدلة سمعية وعقلية في نفس الوقت، وقد استدل ابن رشد نفسه بأدلة القرآن الكريم في إثبات وجوده تعالى، ولم يلتفت إلى سواها من الأدلة، وقد ذهب إلى اعتبار تلك الأدلة أدلة بدهية فطرية، وأنّ ما دونها لا يصل إلى مرتبة اليقين والبرهان. )(1)
الدليل الثاني:دليل الاشتراك والامتياز:-
__________
(1) -:مناهج الأدلة ص155، المقدمة للمحقق د.محمود قاسم ص.34(1/396)
يعود دليل الاشتراك والامتياز إلى أبي يعقوب الكندي، وعلى أساسه جرى كل من الفارابي وابن سينا وأتباعه من الفلاسفة في إثبات وحدانية واجب الوجود، )(1)وقد أخذ به بعض المتكلمين المتأخرين كالفخر الرازي، )(2)وابن حزم الظاهري، )(3) وشمس الدين محمد بن الأصفهاني )(4)، وقد أشار إلى هذا الدليل منسوباً للفلاسفة الغزالي، وابن تيمية، )(5) والمكلاتي، )(6)وعلاء الدين الطوسي، )(7)والإيجي، )(8)ونذكر هذا الدليل من كتب الفلاسفة وكتب غيرهم من العلماء.
__________
(1) - انظر:الكندي ورسائله الفلسفية - المقدمة - ص (4 ) 80 ، 207 من الرسائل، وانظر :الدليل عند الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة " ص 5- 4 ، والتعليقات لابن سينا ص183 - 182 ، حكمة الإشراق للسهروردي ص122 - 121 ، الفوز الأصغر لابن مسكويه ص .27
(2) - انظر:لباب الإشارات ص 94- 93 ، معالم أصول الدين ص76 -75 ، الفخر الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية للزركان ص .237
(3) - انظر:الفصل في الملل والأهواء والنحل 107 -106 / 1 ، المحلى .5 / 1
(4) - انظر:شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص 4 -3 ، 19 -18 ، وشمس الدين محمد بن الأصفهاني هو :محمد بن محمود بن محمد بن عياد السلماني، أبو عبد الله شمس الدين الأصفهاني، ولد بأصبهان سنة616 هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 688 هـ، قاضي وفقيه شافعي .من مؤلفاته:متن العقيدة الأصفهانية التي شرحها ابن تيمية، شرح المحصول للرازي، القواعد- وهو في أصول الدين والفقه والمنطق والجدل. انظر:شذرات الذهب 406/5 ، فوات الوفيات 524- 523 / 2 ، طبقات الشافعية 103 -100 / 8 ،الفوائد البهية 198 –197 ، البداية والنهاية لابن كثير .315 /13
(5) - انظر: منهاج السنة النبوية 299 /3 ، مجموع الفتاوى 232–230 /12 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص .23
(6) - انظر: لباب العقول ص192 -191.
(7) - انظر:الذخيرة ص.100
(8) - انظر:المواقف ص .278(1/397)
يقول الكندي:لو كان الإله أكثر من واحد، لكانوا جميعا مشتركين في شيء يعمهم جميعاً، وهو كونهم فاعلين مبدعين، ولكانوا مختلفين ومنفصلين بحال ما، فإذن يكون كل واحد منهم مركباً من العام الذي يشتركون فيه، ومن الخاص المختلفين به، والمركب لابد له بحكم العقل من مركب فإذاً لابد للفاعل من فاعل، ويستحيل أن يسير ذلك إلى غير نهاية، فلابد إذن من فاعل أول واحد غير متكثر ولا مركب، سبحانه وتعالى عن صفات الملحدين علواً كبيراً، ولا يشبه خلقه بحال فهو مبدع وهم مبدعون، وهو دائم وهم غير دائمين. )(1)
ويذكر دي بور )(2)الدليل منسوباً إلى الفارابي بصورة موجزة واضحة سهلة الفهم، فيقول:" فلو كان ثَمَّ موجودان، كل منهما واجب الوجود، لكانا متفقين من وجه ومتباينين من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحداً بالذات، وإذن فالموجود الذي له غاية الكمال يجب أن يكون واحداً.)(3)
وقد ذكر ابن مسكويه دليل الاشتراك والامتياز بطريقة موجزة واضحة، وقد جاء دليله قريب الشبه بدليل الكندي، ذلك أن الكندي جعل الشيء الذي يشترك فيه أكثر من إله هو كونهم فاعلين أو مبدعين، وهذا ما ذهب إليه ابن مسكويه، بينما الفارابي وابن سينا جعلا الشيء المشترك هو الوجود الواجب.
__________
(1) - انظر:الكندي ورسائله المقدمة الفلسفية ص 80(4)،.207
انظر::تهافت الفلاسفة ص .162 -161
(2) - دي بور:مستشرق هولندي توفي عام 1942 م، متخصص في الفلسفة الإسلامية وضع كتابه(تاريخ الفلسفة في الإسلام) بالألمانية، ثم ترجم إلى العربية، انظر:الموسوعة العربية الميسرة .825-824 /1
(3) - تاريخ الفلسفة في الإسلام ص.208(1/398)
يقول ابن مسكويه: "إنّه لو كان الفاعلون أكثر من واحد، للزم أن يكونوا مركبين، وذلك أنّهم اشتركوا في أنهم فاعلون، واختلفوا في الذوات، ولابد من أن يكون الشيء الذي به خالف أحدهم الآخر غير ما وافقه به، فيجب أن يكون كل واحد منهم مركباً من جوهر وفصل، والتركيب حركة، لأنه أثر، ولابد له من مؤثر...فيجب من ذلك أن يكون للفاعل فاعل، وهذا يمر بلا نهاية، فبالضرورة يرتقي إلى فاعل واحد". )(1)
ويوضح أبو حامد دليل الفلاسفة في إثبات الوحدانية فيقول: " قالوا:لو فرضنا واجبي الوجود، لكانا متماثلين من كل وجه أو مختلفين، فإن كانا متماثلين من كل وجه، فلا يعقل التعدد والإثنينية...وإذا استحال التماثل من كل وجه، ولابد من الاختلاف، ولم يكن بالزمان ولا بالمكان، فلا يبقى إلا الاختلاف في الذات. ومهما اختلفا في شيء، فلا يخلو، إما أن يشتركا في شيء أو لا يشتركا في شيء، فإن لم يشتركا في شيء فهو محال، إذ يلزم أن لا يشتركا في الوجود، ولا في وجوب الوجود، ولا في كون كل واحد قائماً بنفسه لا في موضوع.فإذا اشتركا في شيء، واختلفا في شيء، كان ما فيه الاشتراك غير ما فيه الاختلاف، فيكون ثم تركيب وانقسام بالقول، وواجب الوجود لا تركيب فيه، وكما لا ينقسم بالكمية، فلا ينقسم أيضاً بالقول الشارح، إذ لا تتركب ذاته من أمور يدل القول الشارح على تعددها، كدلالة الحيوان والناطق على ما تقوم به ماهية الإنسان..وهذا لا يتصور في واجب الوجود، ودون هذا لا تتصور الإثنينية. )(2)
__________
(1) - الفوز الأصغر ص.27
(2) - تهافت الفلاسفة ص.162-161 وانظر لباب العقول: للمكلاتي ص 191-193.(1/399)
وقد لخصّ شيخ الإسلام ابن تيمية دليل الاشتراك والامتياز، وقد جاء تلخيصه قريبا من تقرير الغزالي له، ولا يكاد يختلف عنه، إلا في كون تقرير الغزالي أكثر تبسيطاً، وتوضيحاً للتركيب المنفي عن واجب الوجود، وهو التركيب اللازم بفرض أن واجب الوجود أكثر من واحد.يقول ابن تيمية في تلخيصه لهذا الدليل:لو كان واجب الوجود أكثر من واحد، لاشتركا في الوجوب، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو التعيين، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فيلزم أن يكون واجب الوجود مركباً في نفسه، وقد فرضناه فرداً، وهذا خلف، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه. )(1)
المناقشة:-
إنّ دليل الاشتراك والامتياز الذي اعتمد عليه الفلاسفة في إثبات وحدانية الله عز وجل هو نفسه:الأصل الذي بنوا عليه نفي الصفا ت عنه تعالى، وعندما يقولون: إنّ الواجب لا يكون إلا واحداً، فإن مرادهم به أنه واحد مجرد من العلم والقدرة والحياة، وليست له صفة تقوم به، لأنّه في زعمهم لو كان متصفاً بالصفات القائمة به لكان مركباً، والمركب لا يكون واحدا.ً)(2)
وأهم الردود التي قيلت في نقده وإبطاله ما يلي:
__________
(1) - انظر:منهاج السنة 298/3 ، مجموع الفتاوى 230/12 ، 232 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص23 .
(2) - انظر:مجموع الفتاوى 230 / 12 ، .232(1/400)
1- لقد زعم الفلاسفة أن واجب الوجود لو كان أكثر من واحد لتباينا في التعيين الذي يخصه، والصواب:"أن المتباينين قد تباينا في جوهريهما من غير أن يتفقا في شيء إلا في اللفظ فقط، وذلك إذا لم يكونا متفقين في جنس أصلاً، لا قريب ولا بعيد، مثل اسم الجسم عند الفلاسفة، المقول على الجسم السماوي، والجسم الفاسد، ومثل اسم العقل المقول على عقل الإنسان وعلى العقول المفارقة، ومثل اسم الموجود المقول على الأمور الكائنة الفاسدة، والأزلية.فإن أشباه هذه الألفاظ هي أشبه أن تدخل في الأسماء المشتركة منها في الأسماء المتواطئة .فإذن ليس يلزم في الموجودات المتباينة أن تكون مركبة". )(1)
2- إنّ المشترك المطلق الكلي سواء كان الوجوب أو غيره- أمر اعتباري لا وجود له إلا في العقل، فليس له تحقق في الخارج، لأنّ الذي في الخارج متعين خاص، وإذا كان الأمر كذلك فليس في أحدهما شيء يشاركه الآخر فيه في الخارج، فإنّ الشيئين الموجودين في الخارج، سواء كانا واجبين أو ممكنين، وسواء قدر التقسيم في موجودين، أو جوهرين، أو جسمين، أو حيوانين، أو إنسانين، لم يشارك أحدهما الآخر في الخارج في شيء من خصائصه، لا في الوجوب ولا في الوجود، ولا في الماهية، إنما يشابهه في ذلك، وإذا كان الاشتراك ليس إلا في الذهن لم يكن أحدهما مركباً من مشترك ومميز، بل يكون كل منهما موصوفاً بصفة تخصه، لا يشابهه الآخر فيها، وبصفة يشابهه الآخر فيها، وهذا لا محذور فيه.إن هذا يمكن معارضته بما يلي:
أ–معارضته بالوجود : فالوجود ينقسم إلى واجب وممكن، والواجب والممكن يمتاز وجود كل منهما عن الآخر بما يخصه، فيلزم أن يكون الوجود الواجب مركباً مما به الامتياز ومما به الاشتراك، وأيضاً يلزم أن يكون الوجود الواجب معلولاً.
__________
(1) - تهافت التهافت لابن رشد .471 / 2(1/401)
ب–معارضته بالحقيقة : فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن، والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه، فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص، ويلزم أن تكون الحقيقة الواحدة معلولة.
ج -المعارضة بالماهية: فالماهية تنقسم إلى واجب وممكن، والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه، فيلزم أن تكون الماهية الواجبة مركبة من المشترك والمختص، ويلزم أن تكون الماهية معلولة وإذا أمكن معارضة ما في الدليل ونقضه بالوجود والحقيقة والماهية، دل ذلك على أن الدليل الفلسفي لا يمكن أن يؤدي إلى مقصود أصحابه منه. )(1)
3- لو سلمنا جدلاً أن التركيب المذكور في الدليل كان صحيحاً- وهو قولهم :أن الواجب تركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز-فإن دليل الفلاسفة على نفي التركيب باطل . لأن المعنى الذي نفوه و سموه تركيباً، لازم لكل موجود. )(2)
4- إنّ دليل الامتياز والاشتراك الذي سلكه الفلاسفة في إثبات وحدانية الله تعالى، لا يفهمه إلا قلة من الناس وهو مبني على ألفاظ وعبارات غريبة عن الحس الإسلامي، وطريقتهم لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فهي بعيدة عن طريقة القرآن الكريم، وهي لا
تفيد علماً ولا عملاً، ولا توصل قارئها إلى اليقين، حيث لا تؤدي إلى إثبات وحدانية الله
تعالى، ووجوب عبادته وطاعته وحده لا شريك له.
-5 إنّ طريقة الفلاسفة في إثبات وحدانية الله تعالى تحصر العقل ضمن مفاهيم نظرية فلسفية من صنع الفكر البشري القاصر، ثمّ تحاول تطبيق هذه المفاهيم على عقيدة التوحيد، وبالتالي فإنّها لا تصل إلى التوحيد الحق الذي أرسل الله تعالى رسله من أجل بيانه للناس، ودعوتهم للالتزام بمقتضياته وما توجبه مفاهيمه.
__________
(1) - انظر:منهاج السنة 301 -300 /3 ، مجموع الفتاوى 233 -232 /2 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص. 24
(2) - انظر :مجموع الفتاوى :234 – 233 /12 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص .24(1/402)
6- إنّ الدليل الفلسفي غير ملائم للفطرة البشرية، ولا يمكن أن يخاطب القلب، ولا يهز مشاعر النفس، إنه يكلف قارئه العنت لكثرة ما فيه من قضايا ذهنية مجردة، ومصطلحات غامضة يصعب فهمها بسهولة ويسر.
إنّ الاعتماد على الأدلة السمعية والعقلية المأخوذة من القرآن الكريم خير وأفضل في الوصول إلى اليقين الذي تزول به شبهات المتشككين، ويزداد به إيمان المؤمنين.إنّ القرآن الكريم متضمن للبراهين والدلائل القطعية التي توصل إلى الحق وهو شفاء لما في الصدور من أدواء الشبه والشكوك.قال تعالى:)يا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ) سورة يونس: 57، )وَنُنزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِين)سورة الإسراء82 - وقال:"وبراهين القرآن الكريم أقرب إلى العقول، وأفصح بيانا من غيرها، فلا تكلف فيها ولا تعقيب ولا تطويل. ومن فهم القرآن الكريم وعرف معانيه وتأمل براهينه ودلائله على التوحيد وغيره من قضايا العقيدة أبصر الحق ً عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار. وهي تختلف عن براهين غيره من الفلاسفة والمتكلمين التي ما تكون غالباً عبارة عن ظنون كاذبة، وقضايا ذهنية مجردة يصعب على المرء تحصيلها. )(1)
الفصل الخامس
موقف الفلاسفة من النبوة والأنبياء
__________
(1) - انظر :إغاثة اللهفان لابن القيم .54 /1(1/403)
درس الفلاسفة الإسلاميون الفلسفة اليونانية وتأثروا بها إلى حدّ كبير، بل واعتمدوها موضوعاً ومنهجاً، وتعصّبوا لكبار الفلاسفة اليونان أمثال أرسطو، وأفلاطون، وأفلوطين، واستبدل هؤلاء الفلاسفة الوحي بالعقل المجرد، وزعموا أنّ العقل وحده يعطي حقائق الأشياء، أمّا الوحي فيعطي عنها تخيلاً وتمثيلاً. ولقد حاول هؤلاء الفلاسفة التوفيق بين الفلسفة والدين في المسائل الاعتقادية، ولكنهم لم يستطيعوا، لأنّه يستحيل التوفيق بين العقيدة الربانية الثابتة بالوحي، والفلسفة الوثنية التي تعتمد على التأمل العقلي المجرد والرأي والهوى والخيال، وهي من نتاج الفكر البشري المحدود. ومن هنا وقعوا في مجموع من المتناقضات والأغاليط، لقد أوقعتهم فلسفتهم في الخروج الصريح عن الدين الإسلامي، ممّا جعل جمع من أهل العلم يذهبون إلى تكفيرهم، والحكم عليه بالزندقة والإلحاد.
وفي اعتقادي أنّ المسلم اليوم بحاجة ماسّة إلى تقويم منهج هؤلاء الفلاسفة - ومنهم ابن سينا- وتمحيص أفكارهم، وكشف باطلها وآثارها السلبية. خاصة إذا علمنا أنّ لهؤلاء مكانة في كثير من الجامعات والمعاهد العلمية في بعض دول العالم الإسلامي.وأنّ نتاجهم العلمي ما زال مكان الصدارة في تلك الجامعات والمعاهد.
إنّ عقيدة النبوة من القضايا الاعتقادية التي حاول الفلاسفة الإسلاميون أن يوفق فيها بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي.
المطلب الأول: تعريف الرسول والرسالة:
الرسالة: يعرِّف ابن سينا الرسالة بقوله: "هي ما قُبل من الإفاضة المسماة وحياً على أي عبارة استصوبت لصلاح عالمي البقاء والفساد علماً وسياسة ".(1/404)
الرسول: ويعرِّف الرسول بقوله:هو"المبلغ ما استفاد من الإفاضة المسماة وحياً على عبارة استصوبت ليحصل بآرائه صلاح العالم الحي بالسياسة، والعالم العقلي بالعلم".)(1) والمراد بالإفاضة في قول ابن سينا:ما فاض على نفس النّبي من المعاني من العقل الفعّال،)(2)-وهو الملك جبريل- ثمّ فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لذلك.
المناقشة:
__________
(1) - رسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم – ضمن مجموعة تسع رسائل في الحكمة – لابن سينا – مطبعة هندية- مصر- 1326ه- 1908م، ص124.
(2) - العقل الفعّال عند الفلاسفة: هو جوهر بسيط مجرد من المادة وعلائقها، المخرج لنفوس الآدميين في العلوم من القوة إلى الفعل، ونسبته إلى المعقولات والقوة العاقلة، نسبة الشمس إلى المبصرات والقوة الباصرة، إذ بها يخرج الإبصار من القوة إلى الفعل. انظر معيار العلم: أبو حامد الغزالي: تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف بالقاهرة ص289، المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني – بيروت- الطبعة الأولى 1973م 2/84-85.(1/405)
إنّ الفرق المشهور-عند العلماء- بين النّبي والرسول، أنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنّبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه)(1)، ولكن هذا الفرق لا يسلم من إشكال، لأنّ النّبي مرسل ومأمور بالدعوة والتبليغ، قال تعالى )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة الحج:52، لذا ذهب بعض العلماء إلى أن الرسول: من أوحى إليه بشرع جديد، والنّبي: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنّ الرسول هو من أرسل إلى قوم كفار مكذبين، والنّبي من أرسل إلى قوم مؤمنين بشريعة رسول قبله يعلمهم ويحكم بينهم، كما قال تعالى: )إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) سورة المائدة:44، فأنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام.)(2) وما ذكره ابن سينا مبني على أصوله الفلسفية، التي لا
__________
(1) - انظر شرح العقيدة الطحاوية على بن علي بن أبي العز الدمشقي الحنفي، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه الدكتور عبد الله التركي وشعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى1408 ه-1988م 2 /411-412، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية: محمد بن أحمد السفاريني، المكتب الإسلامي، بيروت، مكتبة أسامة، الرياض، الطبعة الثانية 1405ه-1985م 1/49
(2) - انظر النبوات: ابن تيمية، تحقيق محمد عبد الرحمن عوض، الطبعة الأولى 1405ه- 1985م، دار الكتاب العربي- بيروت- ص 181-182.(1/406)
يسلم بها علماء الإسلام.وهناك مناقشة لابن سينا في معنى الوحي، فيما يأتي من الكتاب.
وأمّا زعمه أنّ ذلك فيض فاض من العقل على نفس النّبي، فيردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: إنّ هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم، لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام، ولا ملائكة تنزل بكلامه، ولا عندهم تمييز بين موسى وهارون عليهما السلام ولا بينهما وبين عدو الله فرعون.)(1) وقد بناه ابن سينا على أصله الفاسد إذ كان لا يرى أنّ الله يسمع كلام عباده، ولا يعلم ما في نفوسهم، ولا يقدر أن يغيّر شيئا من العالم، ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء.)(2) ومن قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنّه يكذب على القرآن الكريم الذي أخبر بأنّ موسى عليه السلام سمع نداء الله تعالى له، وأنّه كلّمه دون واسطة في جبل طور سيناء، )وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) مريم:52، )وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء:16، وإخبار الرسول عن أمور الغيب يدلّ على نبوته،وهو يدلّ على أنّ النّبوة إنباء من الله عز وجل،وليس ذلك مما يقوله ابن سينا من أنّه فيض فاض عليه من العقل الفعّال. وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجرداً، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام علم فساد اللازم الذي زعمه.)(3)
__________
(1) -انظر بغية المرتاد 1/384.
(2) - الصفدية2/288.
(3) - انظر مجموع الفتاوى6/540.(1/407)
إنّ قوله تعالى:) فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة:97، وقوله )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ)الأنعام:من الآية114، يفيد أنّ التنزيل من الله تعالى، وهو يدلّ على بطلان قول ابن سينا الذي يجعل الرسالة فيض فاض على نفس النّبي من العقل الفعّال، وهذا القول من أعظم الكفر والضلال،)(1) وقوله بالفيض يعني عدم إثبات حقيقة الرسالة،والنبوة عنده فيض من جنس المنامات، وهذا الجنس موجود لعموم الناس،ويشترك فيه المسلمون والكفار من المشركين وأهل الكتاب فأي ميزة أو فضل للأنبياء؟؟
المطلب الثاني:معنى الوحي عنده:
والوحي عند ابن سينا مرتبط بمعنى الرسول والنّبي، ويفسِّره بأنّه:" إفاضة العقل الكلي على نفس النّبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضان العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة العقل الفعّال".)(2)
__________
(1) - انظر المصدر السباق 12/120، 15/222.
(2) - المصدر السابق ص123-124.(1/408)
ويعرِِف ابن سينا الوحي- في رسالة له بعنوان) الفعل والانفعال)،)(1) بقوله:" إلقاء الخفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول هذا الإلقاء. إمّا في حالة اليقظة ويسمى الوحي، وإمّا في حالة النوم ويسمى النفث في الروع ". ولإيضاح كيفية الوحي يقول ابن سينا: إنّ النّبي بما له من قوة قدسية يستطيع أن يتصل بالملك، ولأنّ الملك عقل مجرد، والعقل لا يستطيع أن يدرك الأشياء إلاّ مجردة عن الزمان، فإنّ الوحي في هذه الحالة يكون عبارة عن إلقاء الشيء إلى النّبي بلا زمان، وذلك بواسطة الملك، فتأتي قوة المخيلة في النّبي فتتلقى هذا الغيب عن العقل الفعّال، وتتصوره بصورة الحروف والأشكال المختلفة. كما تتصور الملك بصورة بشرية. والنّبي لا يصل إلى هذه الحالة إلا بعد استعداده وصفاء نفسه إلى درجة تجعلها أهلاً لذلك. ولتمييز كون الوحي قرآناً أو سنةً، لابد من التفريق بين العبارة المقارنة لتصور قوة المخيلة- في النّبي- في العلم بصورة الحروف والأشكال، وبين العبارة النقشية التي يصوغها النّبي بعد ذلك يقول ابن سينا في ذلك:" وكلما عبر-أي النّبي- بعبارة قد اقترنت بنفس التصور فذالك هو آيات الكتاب، وكلما عبر عنه بعبارة نقشية فذلك هو إخبار النبوة ".)(2)
__________
(1) - نقل اًعن ابن سينا بين الفلسفة والدين: الدكتور حمودة غرابه، مجمع البحوث الإسلامية-القاهرة-1392ه-1972م هامش ص133.
(2) - الرسالة العرشية: ابن سينا ص12.(1/409)
إنّ ابن سينا يصرّح هنا بأنّ عبارات الوحي ما هي إلا ألفاظ استصوبها الرسول للتعبير بها عمّا أوحي إليه، أي أنّ الرسول قد تلقى بالفيض عن العقل الفعّال معان عبّر عنها بألفاظ من عنده، وهذا الكلام مناقض للنصوص القرآنية، قال الله تعالى:)وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم 3-4.)(1)
... وإذا كان النّبي يرى الملائكة ويسمع كلام الله بواسطتهم، فإنّ ابن سينا يزعم:أنّ الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية، وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الأصوات، وهو بمنزلة ما يراه النائم في منامه.)(2) وسيأتي مزيد إيضاح لأقوال ابن سينا في مسألة كلام الله تعالى والملائكة في بقية هذا البحث.
__________
(1) - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد لابن تيمية – مكتبة العلوم والحكم – الرياض – ط 3، 1415هـ – 1995م – مقدمة المحقق د. موسى الدويش ص 72.
(2) - الرد على المنطقيين ص 277.(1/410)
... ويلاحظ في أقوال ابن سينا السابقة مدى تأثره بنظرية الفيض الأفلاطونية،)(1)ومدى محاولته التوفيق بينها وبين الدين، وهي محاولة لم يكتب لها النجاح كما هو واضح.ونذكر هنا أنّ نظرية الفيض عند ابن سينا تقول بوجود عشرة عقول، آخرها العقل الفعّال)(2): وهو يلزم عن العقل التاسع ووجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته
__________
(1) - وملخص هذه النظرية: أنّ الموجودات صدرت عن الأول على هيئة فيض، بتوسط العقل الأول الصادر عنه مع بقية العقول التي صدرت بعضها عن بعض، وأن الأول –الذي هو الواحد الحق- يفع بعض أفعاله بذاته، وبعضها بتوسط أشياء، وأنّ هناك خمس مراتب للموجودات، وهي: 1- الأول الواحد من كل جهة، وقد واحد محض بسيط لا كثرة فيه، وهو فوق التمام والكمال. 2- العقل: وهو من إبداع الأول، وقد صدر عنه من غير واسطة،وبعد أن أبدع الأول العقل التفت هذا العقل إلى الأول مبدعه، فوقع بصره عليه فامتلأ منه نوراً وبهاءً، فأفاض الأول عليه قوى كثيرة، ثم صدرت عن الأول جميع الأشياء التي في العالم العلوي والسفلي، ولكن بتوسط العقل- الصادر عنه من غير توسط- والعالم العقلي. 3- النفس الكلية: وقد صدرت عن العقل الأول لما صار قوة عظيمة. وهي أقل مرتبة من العقل، لأنها مبدعة عنه، وفي الإبداع نقصان. 4- الطبيعة: وقد صدرت عن النفس الكلية لما تحركت علواً نحو علتها فامتلأت نوراً وقوة، وتحركت سفلاً، فكان صدور الطبيعة عنها. 5- الأشياء الواقعة تحت الكون والفساد: وهي العالم السفلي بما فيه من النبات والحيوان والجماد. وهي آخر الأشياء صدوراً وأدناها مرتبة، وقد صدرت بتوسط الطبيعة. انظر:عبد الحمن بدوي: أفلوطين عند العرب، مكتبة النهضة، الطبعة الثانية 1966م، الميمرالأول ص6، الميمرالعاشر ص134 وما بعدها،عبد الفتاح أحمد فؤاد: ابن تيمية وموقفه من الفكر السلفي،دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع- الإسكندرية- الطبعة الثانية 1987م ص 187-188.
(2) - سبق التعريف به ص 4.(1/411)
ويعقل الأول - الذي هو الواحد الحق- لكن تنتهي عنده العقول والمعقولات، أي ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً، وعن هذا العقل تصدر مادة الأشياء الأرضية، والصور الجنسية، والنفوس الإنسانية، ويصل العالم العلوي بالعالم السفلي، وهو المسمى بالروح القدس أو بالروح الأمين، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء.)(1) وسنتعرض لمناقشة ابن سينا في معنى الوحي الذي ذهب إليه أثناء مناقشتنا لصفة الكلام، وذلك في المطلب السادس.
المطلب الثالث:النبوة ضرورية واواجبة:
يذهب الفلاسفة إلى ضرورة وجود النّبي، وأنّ بعثة النّبي واجبة عقلاً، يقول في ذلك ابن سينا:" فواجب إذاً أن يكون نبي، وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، فيتميز به عنهم، فتكون له المعجزات التي أخبر به".(2) ويقول أيضاً:" إنّ النّبي من عند الله، وبإرسال الله، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنّما هو ما وجب من عند الله أن يسنّه، وإنّما يسنّه من عند الله...".(3)
... ويعدّ الفارابي أول الفلاسفة الإسلاميين القائلين بنظرية النّبوة وضرورة النّبي، وهو يعدّ النّبوة وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، وأنّ النّبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحيتين السياسية والأخلاقية.
__________
(1) - انظر نظرية الفيض التي قال بها ابن سينا في كتبه: النجاة ص 274-278،الهداية ص 274-278، للرسالة النيروزية ص 93-94. أبو البركات البغدادي: المعتبر في الحكمة الإلهية 2/148-151، أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة 143-146. عبد الفتاح أحمد فؤاد: ابن تيمية وموقفه من الفكر السلفي187- 190.
(2) - النجاة لابن سينا، دار الآفاق الجديدة – بيروت- الطبعة الأولى:1405ه- 1985م– تحقيق د. ماجد فخري ص339
(3) - المصدر السابق ص343.(1/412)
... والشروط التي يجب توافرها في النّبي هي نفس الشروط اللازمة لرئيس المدينة الفاضلة، وهي: أن يكون سليم البنية، قوي الأعضاء تامّها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، وسريع البديهة، حسن العبارة، محباً للعلم وللاستفادة، وأن يكون صادقاً أميناً، ناصراً للعدالة، مجتنباً للملذات الحسية، غير شَرِه على المأكول والمشروب والمنكوح، مبتعداً عن اللهو واللعب، وأن تكون أعراض الدنيا هينة عنده. وأن يسمو إلى درجة العقل الفعّال الذي يستمد منه الوحي والإلهام.(1)
... وأمّا ابن سينا فيربط بين العناية الإلهية والنبوة، فيقول:"فلا بدّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدِّل، ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا إنساناً ".(2)
ووجود النّبي – في نظر ابن سينا– أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية فوجوده أشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، ووجود النّبي تقتضيها العناية الإلهية، وليس من المعقول أن تقتضي العناية وجود تلك المنافع وأمثالها التي لا ضرورة لها في البقاء، ولا تقتضي النّبوة التي هي أسُّها، إذ لولا النّبوة لما كان هناك بقاء للنوع الإنساني.(3)
__________
(1) - آراء أهل المدينة الفاضلة: أبو نصر الفارابي، تصحيح عبد الوصيف محمد الكردي، مكتبة الحسين التجارية بمصر، مطبعة حجازي بالقاهرة ص 87 ، 88.
(2) - النجاة: ابن سينا – دار الآفاق الجديدة – بيروت – ط 1، 1405هـ – 1985م ص339.
(3) - انظر المصدر السابق ص 339.(1/413)
... فوجود النبوة واجب، وواجب أن يكون إنساناً، وله من الخصائص ما لغيره من الناس حتّى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، ويجب أن تكون له المعجزات التي أخبرنا بها.(1)
المناقشة:-
... إنّ من الحق الذي ذهب إليه ابن سينا: أنّ وجود النّبي أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية، وأشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، وهذا موافق لما ذكره أئمة أهل السنة في هذا الموضوع، ومن ذلك ما قاله ابن تيمية، قال: فإنّ الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه..".
ثم ذكر ثلاثة أصول وهي:
1-إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهى القصص التي قصّها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.
2- تفصيل الشرائع، والأمر والنهى والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
3- الأيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب. ثمّ قال:"وعلى هذه الأصول الثلاثة، مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإنّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإنّ آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأمّا إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي".(2)
__________
(1) انظر المصدر السابق ص 339 .
(2) - مجموع الفتاوي 19/93-96.(1/414)
ويبيّن ابن قيم الجوزية أنّ الحاجة إلى علوم الرسل أعظم من الحاجة إلى الطب، فيقول: "حاجة النّاس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمّا أهل البدو كلّهم وأهل الكفور كلّهم وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحّ أبداناً وأقوى طبيعةً ممّن هو متقيد بالطبيب، ولعلّ أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل قوم عادةً وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى أنّ كثيراً من أصول الطب إنّما أخذت عن عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم، وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن وتعطل الروح عنه، وأمّا ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبدان، وشتان بين هذا، وهلاك البدن بالموت، فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه وجهاد من خرج عنه، حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسم".(1)
__________
(1) مفتاح دار السعادة، مطبعة صبيح، القاهرة 2/2.(1/415)
ويقال للفلاسفة إنّ قولكم:فوجود النبوة واجب، وأن بعثة النّبي واجبة عقلاً، ممّا لا يقبل في حق الله تعالى، فالعباد لا يجوز لهم أن يوجبوا على الله شيء، أو يحرّموا عليه شيء، فالوجوب يجب أن يعلم بالسمع، والله هو الذي يوجب على نفسه، قال تعالى:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة) الأنعام: من الآية54، وقال:(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم:من الآية47.ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه شيئاً أن يكون فاعلاً بالإيجاب، أي لا اختيار له، لأنّه سبحانه وتعالى أوجبه على نفسه باختياره ومشيئته، وأهل السنة والجماعة متفقون على أنّه تعالى خالق كل شيء وربّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً، لمنافاته مشيئة الله واختياره المطلق في مخلوقاته،ولأنّ في ترك هذا النوع من الواجب إمّا حصول مضرة أو فوات منفعة أو لزوم محال، والله تعالى يتنزه عن هذه كلها، لأنّه لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يتضرر بترك إرسالهم، ولا يلزم من عدم إرسالهم محال بالنسبة إليه سبحانه وتعالى.(1)
__________
(1) انظر الاقتصاد في الاعتقاد: أبو حامد الغزالي، طبعة 1962م ص175.(1/416)
يقول ابن تيمية:" وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين، ومن جوز ذلك: احتج بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة، وبقوله في الحديث القدسي الصحيح إني حرمت الظلم على نفسي الخ...وأمّا الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنّه ما شاء كان، وما شاء لم يكن، وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً،ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنّه كتب على نفسه الرحمة،وحرّم الظلم على نفسه، لا أنّ العبد نفسه مستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسّر لهم الإيمان والعمل الصالح".(1)
ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني:"إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع منّة من الله وفضل، لا واجب عليه ذلك، وإنّما هو على سبيل اللطف بالخلق والفضل عليهم، فبعثة الله جميع الرسل من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين إلى المكلفين لطف من الله بهم ليبلغوهم عنه سبحانه وتعالى أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ويبينوا لهم عنه سبحانه ما يحتاجون إليه من أمور المعاش والمعاد..".(2)
__________
(1) - اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية، مطبعة السنة المحمدية 1369ه ص409-410.
(2) - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية - مصدر سابق- 2/258-295.(1/417)
وبعثة النبي وإرسال الرسل تفضل من الله ورحمة للعباد، قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107،(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) آل عمران: من الآية164، وحتى لا يكون حجة للناس بأنّهم لم يبلغوا منهج الله وقال:(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء:165، وقال:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) طه:134.
ومن المستنكر أن يقال أنّ إرسال الله تعالى رسله لعباده الذي فيه غاية صلاحهم وسعادتهم في الدنيا و الآخرة، ونهيه لهم عمّا فيه هلاكهم وشقاؤهم في الدنيا و الآخرة، واجب عقلاً!.
المطلب الرابع:النبوة مكتسبة:(1/418)
... زعم الفلاسفة أنّ النبوة مكتسبة، فإنّ من راض نفسه، وخلّصها من الأوصاف الذميمة إلى الأوصاف الحميدة، ولازم الخلوة والعبادة، ودوام المراقبة، وإخلاء نفسه من الشواغل العائقة عن المشاهدة.إنّ النّبوة فيض يفيض على نفس النّبي إذا استعدت لذلك.(1) يقول ابن سينا:"ولنفسك أن تنتقش بنفس ذلك العالم– يقصد العالم العقل- بحسب الاستعداد، وزوال الحائل، قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه".(2) ويقول ابن سينا:"وهذه القوة ربّما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي، وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس لشدة الزكاة كما تحصل لأولياء الله الأبرار، والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثمّ يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء أو كرامة من الأولياء، وكلما زكّى المرء نفسه، رقي في هذا الباب، وزاد على مقتضى جبلته إلى أن يبلغ المبلغ الأقصى". (3)
المناقشة:
__________
(1) - انظر الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص277. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية- مصدر سابق- 2/267.
(2) - الإشارات والتنبيهات :ابن سينا، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 3/243.
(3) - المصدر السابق 3/220(1/419)
... إنّ ما ذهب إليه الفلاسفة مخالف لنص القرآن ولإجماع المسلمين، فالله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يشترط في النبوة استعداد ذاتي كما زعم ابن سينا، ولا تنال بمجرد الكسب، وتكلف أنواع العبادات، وتطهير الأخلاق، ورياضة النفس، والله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أن النبوة اصطفاء واختيار واجتباء إلهي، وهي فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده،(1) ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، ومن ذلك :قوله تعالى:(الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) سورة الحج :75، وقوله :(إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) سورة آل عمران:33، وقوله تعالى لنبيه موسى:(قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) سورة الأعراف:144، وقوله تعالى:)واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) سورة ص: 45-47 .
إنّ ادعاء الفلاسفة بأنّ النبوة مكتسبة قد رتّبه على نظرية الفيض التي استمدوها من الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلوطين، وادعاؤه هذا يسقط الفوارق بين الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الناس، فما دامت النبوة مكتسبة فقد يدعيها مدع، ويزعم أنه كالنّبي علماً وحكمة وعملاً، أو أنّه فوق النّبي في مثل هذه الأمور.
وبهذا يتبين أنّ الفلاسفة ما قَدَّر حق قدره، ولا قدّر الأنبياء حق قدرهم، لما ظنّ أنّ الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاضت عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعّال، وأنّ حصول النبوة ليس هو أمر يحدثه الله بمشيئته وقدرته واختياره.)(2)
__________
(1) - انظر لوامع الأنوار البهية-مصدر سابق- /267-277
(2) الصفدية- بتصرف- ابن تيمية 1/229 .(1/420)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أنّ الله يصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه واستعدّ بها لأنّ يخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى:(وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) سورة الزخرف31-32، وقال تعالى:(ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) سورة البقرة:10وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء بقوله:(ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضّلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) سورة الأنعام: 84-87، فأخبر أنّه اجتباهم وهداهم ".(1)
ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني:"وعند التحقيق فلا فرق عندهم- أي الفلاسفة، وابن سينا منهم- بين الفيض على نفس النّبي وسائر النفوس إلا من جهة كونها أصفى وأكمل"، ويقول:" من زعم أنّها مكتسبة فهو زنديق يجب قتله، لأنّه يقتضي كلامه واعتقاده أن لا تنقطع، وهو مخالف للنّص القرآني والأحاديث المتواترة بأنّ نبينا صلى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين عليهم السلام".(2) وقال القاضي عياض:"ونكفر من ادعى النبوة لنفسه، أو جوّز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة الصوفية".(3)
المطلب الخامس:عمدة الفلاسفة في إثبات النبوة:
__________
(1) - منهاج السنة النبوية 2/416-417.
(2) - لوامع الأنوار البهية-مصدر سابق- /268.
(3) -الشفاء:القاضي عياض 2/1070-1071.(1/421)
... إنّ عمدة الفلاسفة في إثبات النبوة هو المنامات. قال إنّ معرفة الأمور الغائبة عن طريق النوم ممكنة، فوجب أيضاً أن تكون كذلك في حالة اليقظة. فالنائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فيحصل لها من العلم الذي يلقيه الله إليها ما لم تحصله في غير هذا الحال. وهكذا يمكن أن يحصل في اليقظة نوع تجرد فتتصل النفس البشرية بالنفس الكلية وتتلقى عنها من العلم ما لم تحصله في غير هذا الحال.)(1)
وفي رأي الفلاسفة أنّ التجربة والبرهان القياسي يشهدان أنّ النّفس الإنسانية تستطيع أثناء النوم الوقوف على المجهول، وإذا كان الأمر كذلك فليس بمستبعد عليها أن تتكشف المجهول حال اليقظة. وأنّ التجربة والقياس يقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبؤا بالمستقبل عن طريق الأحلام. وكذلك العقل حيث نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلية مثبتة في العالم العلوي، ومقيدة في اللوح المحفوظ. وإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى العالم العلوي والوقوف على ما في اللوح المحفوظ عرفت ما فيه، وتنبّأت بالغيب. وإذا كان هناك أشخاص يدركون مثل هذا الغيب عن طريق مخيلتهم أثناء النوم فيحلمون بأشياء كأنّها حقائق مسلمة. فإنّ غيرهم من الأشخاص ممن عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم يدركون ما في علم الغيب حال اليقظة، - كما يدرك غيرهم حال النوم- وهؤلاء هم الأنبياء.(2)
__________
(1) - الإشارات والتنبيهات-مصدر سابق- 4/899-900، الرد على المنطقيين-مصدر سابق- ص 484-486، الصفدية:أحمد بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الثانية 1406ه، 1 /6-7.
(2) - انظر في الفلسفة الإسلامية-منهج وتطبيقه-: مدكور، دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثالثة، 1/101، الجانب الإلهي في فلسفة ابن سينا: الدكتور سالم مرداش، دار قتيبة- دمشق- الطبعة الأولى 1412ه-1992م، ص294.(1/422)
يقول ابن سينا: "التجربة والقياس متطابقان علماً أنّ للنّفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال النوم، فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة، إلّا ما كان إلى زواله سبيل، ولارتفاعه إمكان. أما التجربة فالسماع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرّب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج، نائم قوي التخيل والتذكر،أمَّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات: تنبه: قد علمت فيما سلف أن الجزيئات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلى، ثم قد نبهت لأنّ الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأى جزئي، ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري" )(1).
... ويرى ابن سينا استمرار أفعال اليقظة في الأحلام، وذلك يكون باستمرار بعض الأفعال والأفكار التي تشغل الإنسان أثناء اليقظة، حتى إذا استمرت المتخيلة مشغولة بها، والمتخيلة تحكي أموراً قريباً إليها إرادية، ويحدث هذا عندما تكون في همة لنفس وقت اليقظة شيء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره، فإذا نام لإنسان أخذت المتخيلة تحكي ذلك الشيء وما هو من جنسه، وهذا من بقايا انشغال الفكر في حالة اليقظة )(2).
__________
(1) - الإشارات والتنبيهات-مصدر سابق- ص241-242.
(2) - انظر الشفاء: ابن سينا، تحقيق جورج قنواتي, وسعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1975م-1/338(1/423)
... والأحلام التي أشبه بها النبوات-عند ابن سينا- لا تنشأ عن إحساسات خارجية أو داخلية بدنية، ولا تكون من بقايا اليقظة، وإنما تنشأ عن اتصال النفس بالملكوت (الملائكة أو العقل الفعّال) ويحدث ذلك أثناء النوم وفي بعض حالات اليقظة، فتتلقى النفس من هناك الوحي والإلهام. ويكون ذلك بمثابة الإنذار والإخبار بما سيكون(1). فإذا حدث الاتصال أثناء النوم فهو رؤيا، وإذا حدث ذلك أثناء اليقظة فهو وحي وإلهام، وذلك وظيفة من وظائف القوة المتخيلة عند الإنسان(2).
يقول ابن سينا:" وصنف- أي عن المعجزات-يتعلق بفضيلة التخيل، ذلك أن يؤتي المستعد لذلك ما يقوى به على تخيلات الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات الأمور المستقبلة، فيلقي إليه كثير من الأمور التي تقدم وقوعها بزمن طويل فيخبر عنها، وكثير من الأمور التي تكون في زمان المستقبل يخبر بها، وبالجملة يتحدث عن الغيب فيكون بشيراً ونذيراً.. وقد يكون هذا المعنى لكثير من الناس في النوم ويسمى الرؤيا. وأما الأنبياء عليهم السلام فإنما يكون ذلك لهم في حالة النوم واليقظة معاً".(3)
المناقشة:
إنّ الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدّث المرء به نفسه في اليقظة، فيراه في المنام، وقد ثبت هذا التقسيم في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:" الرؤيا الصالحة بشارة من الله، والتحزين من الشيطان، ومن الرؤيا يحدّث به الرجل نفسه".)(4)
__________
(1) - انظر المصدر السابق 1/336-338، الإشارات والتنبيهات- مصدر سابق- 2/135-137.
(2) - انظر الشفاء-مصدر سابق-1/334.
(3) – رسالة الفيض الإلهي: ابن سينا- صورة موجودة بدار الكتب الأهلية بالقاهرة أخذت عن نسخة محفوظة موجودة بالمتحف البريطاني رقم 394.
(4) - رواه النسائي في السنن الكبرى رقم (765)، 4/390.(1/424)
إنّ كلام ابن سينا في الرؤيا، واتصال النفس بالعالم العلوي أثناء النوم يحتاج إلى توضيح، وبيان ذلك: أن عامة علماء الإسلام يقرون بأنّ الرؤيا الصادقة من الله تعالى، فإنّ ما ادعاه من أنّ الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات فحق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح..."،)(1) وكان في أول الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ثمّ رأى الملك في اليقظة، حكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر.)(2)
... ورؤى الأنبياء وحي معصوم، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له حق، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة:منها:قوله صلى الله عليه وسلم "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "،)(3) وقوله:" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".)(4)
__________
(1) - رواه البخاري رقم(6982)كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة
(2) - فتح الباري شرح صحيح البخاري:ابن حجر العسقلاني تصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز، نشر وتوزيع رئاسة إدارات لبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد –الرياض- 1/27.
(3) - رواه البخاري رقم(6987، 6988)كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
(4) - رواه مسلم رقم (2265) في كتاب الرؤيا في فاتحته.(1/425)
... ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل، ولا يتعلق به هوى لأنه محروس قال الله تعالى:)وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم:3-4، بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنها قد يحضرها الشيطان, وقد وردت في القراَن الكريم أمثلة من الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك الرؤيا التي رآها النّبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقة إلى الحديبية، قال الله تعالى:)لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) سورة الفتح:27، والرؤيا التي رآها إبراهيم عليه السلام. قال تعالى:)يا يبني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك) سورة الصافات: 102.
وكلام ابن سينا عن الرؤيا الصادقة، وهو ما يراه الإنسان نتيجة اتصاله بالعالم العلوي حق، خاصّة وأنه يرى أنّ الأحلام الناشئة عن الإحساسات البدنية كاذبة، ويسميها أضغاث أحلام)(1).ولكن أقواله بالجملة تحتاج إلى تحليل وبيان، حتى لا يلتبس الحق بالباطل، لأنّ رؤيا الأنبياء وحي بخلاف رؤيا غيرهم من الناس، والوحي لا يدخله خلل، ولا يخالطه هوى أو تخيلاّت، وهذا حاصل في رؤيا كثير من الناس، بسبب تلبيس إبليس، أو نتيجة مرض أو هوس، ونحو ذلك. قال ابن بطال:"والرؤيا الصادقة وأن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً، وليس كذلك".)(2) وإذا كان الأنبياء يختصون بآيات يؤيدون بها ليتميزوا بها عمّن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الإلهي، فإنّ رؤاهم كذلك يجب أن يتميزوا بها عمّن ليس مثلهم.
__________
(1) - انظر الشفاء- مصدر سابق- 1/338
(2) - فتح الباري 1/20.(1/426)
قال الخطابي:" قال بعض العلماء:أقام صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة, منها عشر سنين بالمدينة وثلاث عشرة بمكة, وكان قبل ذلك ستة أشهر يرى في المنام الوحي، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً، وقال بعض العلماء:معنى الحديث أي حديث الرؤيا- أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة, لأنّها جزء باق من النبوة ". وأضاف الخطابي: "هذا الحديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها, وقال وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة ".(1/427)
وقال المازري:"ويحتمل أن يكون المراد أنّ المنام فيه إخبار الغيب، وهو إحدى ثمرات النبوة, وهو ليس في حد النبوة ; لأنه يجوز أن يبعث الله تعالى نبياً ليشرع الشرائع, ويبين الأحكام, ولا يخبر بغيب أبدا, ولا يقدح ذلك في نبوته, ولا يؤثر في مقصودها, هذا الجزء من النبوة وهو الإخبار بالغيب إذا وقع لا يكون إلا صدقا ". وأضاف المازري في:" كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا, وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة, لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم...ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال وهذا أشدّ فساداً من الأول لكونه تحكماً لا برهان عليه والانتقاش من صفات الأجسام, وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض, والأعراض لا ينتقش فيها، والصحيح ما عليه أهل السنة أنّ الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنّه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال, ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف, وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسرّ، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضرّ، والعلم عند الله تعالى". وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عمّا جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم, وبيان ذلك: أنّ الرؤيا إنّما هي من إدراكات النفس وقد غيّب عنّا علم حقيقتها أي النفس, وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها, بل كثير ممّا انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنّما نعلم منه أموراً جملية لا تفصيلية ".)(1)
__________
(1) - انظر قول المازري والقرطبي في: فتح الباري 12/352(1/428)
إنّ ما يجعله الله تعالى في النفوس إنّما يكون بعد إعدادها لذلك وتسويتها – لما يلقى فيها – بالعبادة الخالصة ومجاهدة النفس وإلزامها طاعة ربها عز وجل. لكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فالنّبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الملك ويخاطبه بالكلام، وأحياناً يأتيه في الباطن فيكلمه، وأحياناً يتمثل له في صورة الرجل فيكلمه. قال تعالى: ) وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم ) الشورى:42.)(1)
يقول أبو حامد الغزالي في مناقشته لمسلك ابن سينا السابق:"بم تنكرون على من يقول: إن النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرف الغيب، بتعريف الله عز وجل، على سبيل الابتداء، وكذا من يرى في المنام، فإنها يعرفه بتعريف الله تعالى، أو تعريف ملك من الملائكة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكرتموه،فلا دليل في هذا، ولا دليل لكم في ورود الشرع باللوح المحفوظ، والقلم، فإنّ أهل الشرع، لم يفهموا من اللوح والقلم، هذا المعنى قطعاً، فلا متمسك لكم في الشرعيات..وإنّما السبيل فيه أن يتعرف من الشرع، لا من العقل ".)(2)
__________
(1) - انظر الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص485- 486.
(2) - تهافت الفلاسفة: أبو حامد الغزالي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثامنة ص229.(1/429)
... ويقال لابن سينا وإخوانه من الفلاسفة:إنّ الأدلة على إثبات النبوة ليست مقتصرة على ما ذكرتموه، فإنّما تثبت بالمعجزة، وبالاستدلال بأحوال النّبي وصفاته قبل النبوة وبصفاته حال الدعوة، وبعد تمامها، ومن خلال دراسة أخلاقه وأحكامه ومعاملاته مع الناس، ويستدل عليها أيضا بنصرة دينه على أعدائه، وعلى غيره من الأديان، وبهلاك المكذبين له. وتثبت بصدق ما يخبر عن ربه بوقوعه على ما أخبر به. وبإخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته. كما جاء خبر ووصف رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل. وتثبت نبوته من خلال دراسة ما يدعو إليه واتصافه بالواقعية والترابط وعدم التناقض والاضطراب، وكونه مما ترتضيه الفطرة السليمة، والعقل الصريح، وتستريح إليه القلوب والضمائر الحية.)(1)
__________
(1) - انظر المواقف في علم الكلام: عضد الدين عبد الرحمن الإيجي، عالم الكتب- بيروت- ص356-357(1/430)
ومن الباطل في أقوال الفلاسفة أنهم جعلوا إدراك النبي الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات أمور المستقبل يحصل بفضيلة قوى التخيل عند النبي نفسه، ومن المعلوم بالضرورة أنّ هذه لا تدرك إلا بخبر المخبر للإنسان، وأمّا علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس، قال تعالى:)وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) القصص:46، وقال )وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) القصص:44، )ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) )يوسف:102)، وقال )ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)آل عمران:44.)(1).
المطلب السابع:تفضيل الملائكة على الأنبياء:
ذهب الفلاسفة ومنهم ابن سينا إلى تفضيل الملائكة على الأنبياء وإلى هذا الرأي ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة.)(2) واستدلّ الفلاسفة على مذهبهم بأدلة عقلية، منها:
1- الملائكة أرواح مجردة كمالاتها بالفعل، بخلف النفوس البشرية، والتام أكمل من غيره.
__________
(1) - الصفدية 1/142.
(2) - انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: أبو الحسن الأشعري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة – الطبعة الثانية 1398ه- 1969م 1/296. محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين : فخر الدين الرازي، راجعه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة- ص 322. المواقف: عضد الدين الإيجي- مصدر سابق- ص367.(1/431)
2- الملائكة مطهرة من الشهوة والغضب،وهما مبدأ الأخلاق الذميمة،بخلاف الجسمانيات، فهي لا تخلو منها.
3-الملائكة بسائط، غير مركبة بأي نوع من التركيب، وأمّا الأنبياء فأجسام مركبة والبسائط أفضل من المركبات.
4-الملائكة نورانية علوية لطيفة، والأنبياء أجسام كثيفة مركبة من المادة والصورة، والمادة ظلمانية مانعة.
5-الملائكة لها قوة وقدرة على تصريف الأعمال الشاقة، كالزلازل والسحاب ونحوها ولا يلحقها فتور وضعف، بخلاف الجسمانيات.
6-الملائكة أفضل من جهة العلم والعمل، فمن جهة العلم: فلإحاطتها بالأمور الغائبة وإطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية، ومن جهة العمل: فلكونهم عاكفين على العبادة، والتسبيح ليلاً ونهاراً، ولا يفترون عن ذلك. وعلوم الملائكة كلية فعلية آمنة من الغلط، وعلوم الأنبياء غير ذلك تماماً، فهي جزئية كسبية انفعالية، ولا تسلم من الغلط.
7-الملائكة روحانيات متعلقة بالهياكل العلوية النورانية، والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الفاسدة، ونسبة النفوس كنسبة الأجساد.)(1)
المناقشة:-
__________
(1) - انظر محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين-مصدر سابق- ص 221-222.والمواقف للإيجي– مصدر سابق- ص368.(1/432)
يقول القرطبي:اختلف العلماء في التفضيل بين الملائكة وبني آدم على قولين، فذهب قوم إلى أنّ الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب الآخرون إلى أنّ الملأ الأعلى أفضل...وقال بعض العلماء ولا طريق إلى القطع بأنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأنّ الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ها هنا شيء من ذلك.)(1) وأما الأدلة العقلية التي ذكرتها الفلاسفة مبنية على أصولهم الفلسفية التي لا يسلم بها أهل السنة والجماعة.)(2)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين، فإنّهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين، ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصاحين بعد دخول الجنان، ورضى الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على غيرهم من المخلوقين، وإلاّ فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب".)(3)
__________
(1) - تفسير الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي- بتصرف-،دار الكتب المصرية- القاهرة، الطبعة الثالثة 1387ه- 1967م،1/ 289-290.
(2) - انظر المواقف –مصدر سابق- 368.
(3) - مجموع الفتاوي 10/300، وانظر المصدر نفسه11/95.(1/433)
يقول علي ابن أبي العز الحنفي: " فإنّ الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنّبيين، وليس علينا أن نعتقد أيّ الفريقين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجبات، لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم) المائدة:3. )وما كان ربك نسياً)سورة مريم:64، وفي الصحيح –يقصد الحديث الصحيح- " إنّ الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ". فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً أو إثباتاً، والحالة هذه أولى. ولا يقال: إنّ هذه المسألة نظير غيرها من المسألة المستنبطة من الكتاب والسنة، لأنّ الأدلة هنا متكافئة ".)(1) ويضيف: " والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنمّا تدل على الفضل، لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك..".)(2) وفي موضع آخر يقول:" وحاصل الكلام: أنّ هذه من المسألة من فضول المسائل، ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رحمه الله في الجواب عنها".)(3)
المطلب الثامن:أخبار الأنبياء:
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية: بن أبي العز الدمشقي الحنفي- مصدر سابق- 2 /411-412.
(2) - المصدر السابق2 /413.
(3) - المصدر السابق2 /423.(1/434)
... زعم ابن سينا أنّ ما جاءت به الأنبياء نوعان، الأول: الأمور العلمية، ومنها معرفة الله بأسمائه وصفاته والمعاد. وهذه الأمور لم يذكر الأنبياء حقائقها، إنما أخبروا جمهور الناس بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا الحق وهذا من جنس الكذب الجائز لمصلحة الناس، وهم يعلمون هذه المرتبة، فضربوا للناس الأمثال واستعملوا الرموز والإشارات.)(1) يقول ابن سينا تحت عنوان: " في إثبات النبوة وكيفية دعوة النّبي إلى الله والميعاد "،)(2) "بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة، من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنّه لا نظير له ولا شبه ولا شريك.." ويضيف:" وكذلك يجب أن يقرّر عندهم أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممّا يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً…ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات".
__________
(1) - انظر الأضحوية في المعاد: ابن سينا، تحقيق الدكتور حسن عاصي، المؤسسة الجامعية للدراسات النشر والتوزيع- بيروت- الطبعة الثانية 1407ه-1987، ص 97-103، الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص 442، الصفدية- مصدر سابق- 1/202، درء تعارض العقل والنقل: أحمد عبد الحليم بن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض- الطبعة الأولى 1401ه-1971م، 1/8-9.
(2) - في كتابه النجاة- مصدر سابق- ص 340.(1/435)
... وفي رسالته"رسالة في إثبات النبوة وتأويل رموزهم ")(1) يوجب ابن سينا على النّبي أنّ يخاطب الناس بلغة الرموز الإيمائية ، وأن يسلك التمثيل والتخييل في ذلك ، تقريباً لإفهام العامة وترويضاً لعقولهم . وأما خاصة الناس فهم المعنيون بفهم الحقائق وتأويل الرموز وإدراك المعاني الباطنية التي وراء تلك الألفاظ التي استعملها الأنبياء. ومن ذلك قوله:"إن المشترط على النّبي أن يكون كلامه رمزاً وألفاظه إيماءً".
... ولقد كانت الفلاسفة الإسلاميون في ذلك متأثراً بالفلاسفة اليونان. وبخاصة أفلاطون. ولقد اعترف ابن سينا بذلك صراحة فقال:" وكما يذكر أفلاطون في كتابه النواميس أن مَنْ لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهي، وكذلك جلة ابن سينا يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون في كتبهم المراميز والإشارات التي حشَوا فيها أسرارهم كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون…".)(2)
... وأمّا النوع الثاني: فهي الأمور العملية– يقصد الشرائع والطاعات والنواهي – فهذه أخبروا عنها، ويجب طاعتهم فيها والعمل بشرائعهم.)(3) وأنّ الأنبياء عليهم أن يعرفوا الناس العبادات التي تكون بها القربى من الله تعالى كالصلوات والصوم، وعليه أن يبين مصالح أخرى ومنافع دنيوية في تقوية السنة مثل الجهاد والحج، وأن يعين لهم أفعالاً يقدمونها خالصة لله كالذبائح ونحوها.ويجب أن يسن للصلاة سنناً لابد من اتباعها،وهى استعدادات يجريها الإنسان لملاقاة ربه تعالى من الطهارة والنظافة، وقد جرت العادة أن يقوم بها عندما يقابل الرؤساء والملوك، ولابد من الخشوع والسكون،وهذا يتحقق بغض البصر وقبض الأطراف، وترك الالتفات والاضطراب، وعلى النّبي أن يسنّ للإنسان في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة.)(4)
__________
(1) - مصدر سابق ص 124.
(2) - في كتابه النجاة – مصدر سابق- ص124-125.
(3) - النجاة لابن سينا ص 341-343، الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 442.
(4) - انظر النجاة ص 341-342.(1/436)
... ونجد الفلاسفة في أخبار الأنبياء العلمية)الاعتقادية) يسيرون على نفس منهجهم من أنّ جمهور النّاس يعلمون من الأمور ظواهرها، ويجب على عاميتهم اعتقاد الظاهر، والعمل به، كما جاء في الشرع وأمّا الخاصة– وهم الفلاسفة ومن على نحوهم – فينظرون إلى بواطن الأمور لا إلى حقائقها، فالصلاة مثلاً -عند ابن سينا- تنقسم إلى ظاهر وباطن فالظاهر منها: الطهارة والنظافة، والخشوع والسكون، وترك الالتفات والاضطراب، مع القيام والركوع والسجود، وما فيها من سنن وآداب، والباطن منها: المشاهدة الربانية التي تتحقق بمشاهدة الحق بالقلب الصافي، والنفس المجردة المطهرة عن الأماني، فالمشاهدة عنده عقلية، والعبادة عنده هي المحبة الربانية والرؤية الروحانية.)(1)
المناقشة:
- إنّ هذه الأقوال التي ذهب إليها ابن سينا هي نفس ما ذهب إليه الملحدة الباطنية كالإسماعيلية من أمثال إخوان الصفا، وملحدة الصوفية كابن عربي وابن سبعين الذين يرون أن لكل ظاهر باطن وأنّ الأنبياء قصدوا تفهيم الجمهور ظواهر الأمور، وإن كانت مخالفة للحق .
- إنّ اتهام الأنبياء بالكذب على الجمهور هو من المعلوم من الدين بالاضطرار بطلانه بل هو من الكفر الصريح، فابن سينا وأمثاله لم يقدروا الله تعالى حق قدره، ولم يقدِّروا رسوله عليه السلام حق قدره، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل الزنادقة والملحدة لإنكار كل ما جاءت به الأنبياء والمرسلون من العقائد والشرائع بحجة أنّ ظواهرها غير مرادة، وإنما وردت على سبيل التمثيل والتخييل.
__________
(1) - انظر النجاة ص 342، رسالة في الصلاة: ابن سينا – ضمن جامع البدائل – مطبعة السعادة -القاهرة – 1917م.(1/437)
- إنّ مراد ابن سينا من هذه الأقوال الفاسدة الصدّ عن سبيل الله، والصدّ عن فهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه فيما أخبر به. ولقد أخبر الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه بلّغ البلاغ المبين وبين مراد الله تعالى، وفي أقوال الفلاسفة قدح في بيان الله تعالى، وقدح في الرسول الذي بلغ البلاغ الواضح المبين الذي هدى الله تعالى به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرّق الله به بين الحق والباطل، فأوضح به السبيل وأنار به الدليل.)(1)
- إن الفلاسفة يسِّلمون بأنّ الرسل من أعلم الخلق بالحقائق، وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به، وأنهم من أبر الناس وأصدقهم، وما نسبوه إلى الرسل من إخبار جمهور الناس بضروب من التمثيل والتخييل والكذب لمصلحتهم يناقض ذلك، لذا كان الفلاسفة من المتناقضين في أمر النبوات.)(2)
المطلب التاسع:خصائص النبوة:
... ذهب الفلاسفة إلى أنّ النبوة لها ثلاث خصائص، من قامت به فهو نبي، قال:" وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل، ومحصّلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية، وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة، وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاث..وهو يسمع كلام الله ويرى ملائكة الله تعالى، وقد تحولّت على صورة يراها..".(3) والخصائص الثلاث التي يمتاز بها النّبي عن غيره، هي:-
__________
(1) - انظر درء تعارض العقل والنقل- مصدر سابق- 1/10-11، 19-24 .
(2) - الصفدية 1/203 .
(3) - النجاة –مصدر سابق- ص334.(1/438)
الأولى: أن تكون له قوة قدسية، وهي قوة الحَدْس، بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره، وبالتالي يكون له إطلاع على المغيبات الماضية والحاضرة والمستقبلة، وهذا أمر لا يستنكر، فإن من صفت نفسه صفاءً شديداً، وقويت قوة عظيمة بحيث لا تشغلها الحواس عن النظر إلى العالم العقلي فإنّه عند ذلك تستعد استعداداً خاصاً للاتصال بالعقول المفارقة-ومنها العقل الفعّال- بأدنى توجه، ويفيض عليها من علم الغيب ما لا يدرك بالفكر والقياس.
الثانية: قوة التخيل والحسِّ الباطن: وهي التي يتخيّل بها في نفسه ما يعلمه، بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صوراً نورانية هي عند ابن سينا ملائكة الله، ويسمع في نفسه أصواتاً هي عندهم كلام الله، وهذا بأن تقوى نفس النّبي وتتصل في اليقظة بعالم الغيب، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة، فترى في اليقظة وتسمع. وليس هذا بمستنكر أيضاً فإنّه يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في منامه، فالنائم يرى في نومه صوراً تكلمه، ويسمع كلامهم، وذلك موجود في نفسه لا في الخارج، وهذا من جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة من الصوفية، فإنّ من تجردّت نفسه عن الشواغل البدنية سهل عليها أن تنجذب إلى عالم القدس.(1/439)
الثالثة: قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي– مادة– العالم، وذلك بإحداث أمور غريبة، وهي عنده آيات الأنبياء ومعجزاتهم. فالنّبي بذلك تظهر منه من الخوارق للعادة لأنّ هيولي عالم العناصر مطيعة له ومنقادة لتصرفاته مثل انقياد بدنه لنفسه، تماماً كالعائن – الذي يصيب الآخرين بعينه – فإنّ له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين، وإذا كان أمر النّبي كذلك، فلا يبعد أن تقوى نفس النّبي حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل، وكأن يزيل جبل عن مكانه، ويذيب جوهراً فيستحيل ماءً، ويجمد جسماً سائلاً ليستحيل حجراً، وغيرها من الأمور الخارقة للعادة، وهذا أيضاً ليس بمستنكر، فأهل الرياضة من الصوفية ونحوهم تحدث منهم أمور عجيبة.(1)
المناقشة:
أولاً: مناقشة ما ذكروه في الخاصية الأولى:
- إنّ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنّبي، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، يقول الله تعالى حاكياً قول رسول الله عن نفسه:(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّني السوء) الأعراف: 188.
- إنّ الاطلاع على بعض الغيب لا يخصّ النّبي فقط، فالفلاسفة يقولون:إنّ أهل الرياضة والمرضى والنائمين يحصل لهم ذلك، فأي ميزة وخاصية للنّبي إذاً على غيره من آحاد الناس.)(2)
__________
(1) - انظر هذه الخصائص: الإشارات والتنبيهات- مصدر سابق- 4/871، 899-901، النجاة – مصدر سابق-ص334-335، الملل والنحل للشهرستاني- مصدر سابق-3/74-75، المواقف – مصدر سابق- ص 337، 338 الصفدية- مصدر سابق- 1/5-7، مجموع الفتاوى لابن تيمية- مصدر سابق- 11/229، 12/354، درء التعارض لابن تيمية- مصدر سابق- 5/355-356..
(2) - انظر المواقف- مصدر سابق- ص337.(1/440)
- إنّ النّبي عليه السلام لا يعلم الغيب من تلقاء نفسه، ولا باستعداد ذاتي، بل يعلم الغيب بواسطة أمين الوحي جبريل الذي يعلمه ما يأذن به الله عز وجل، وليس للقوة القدسية التي جعلها ابن سينا خاصية للنّبي علاقة بذلك. يقول الله تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) آل عمران:44 ويقول:(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدا) الجن: 26-27.
ثانياً:مناقشة ما ذكروه في الخاصية الثانية:
- إنّ ما قالته الفلاسفة في شأن الملائكة لا يتمشى مع مذهبهم الفلسفي العام واعتقادهم في الملائكة فالملائكة عندهم: إما نفوس مجردة عن المادة في ذواتها، متعلقة بأجرام الأفلاك ويسمونها ملائكة سماوية وإما عقول مجردة ذاتاً وفعلاً، وتسمى بالملأ الأعلى، وليس لها كلام يسمع، لأنّ الكلام عندهم من خواص الأجسام. يقول الإيجي في الردّ على الفلاسفة:" قلنا: هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها، لأنهم لا يقولون بملائكة يرون، بل الملائكة عندهم نفوس مجردة، ولا كلام لهم يسمع، لأنه من خواص الأجسام، ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة، كما للمرضى والمجانين، على ما صرّحوا ".)(1)
__________
(1) - المصدر السابق ص338.(1/441)
- إنّ الأدلة على وجود الملائكة كثيرة جداً، فنصوص الكتاب والسنة في هذا الجانب متواترة وهي تصرّح بما لا يدع مجالاً للإنكار: بأن الملائكة تجيء في صورة البشر، كما جاءت مريم وإبراهيم ولوط عليهم السلام، وتكليمهم للأنبياء إياهم وسماعهم كلامهم ورؤيتهم لهم على وجه الحقيقة، وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل وظهور جبريل حقيقة على صورة الصحابي دحية الكلبي، وقد رآه غير واحد من الصحابة واستمعوا إليه، ثم إنّ أخبار نزول الملائكة لنصرة الأنبياء والأولياء وتأييدهم، وإخبار الله تعالى عنهم بأنهم عباد الله المكرمون وأنهم يسارعون في الخيرات، ولا يستكبرون عن عبادته، وأنهم يحملون عرش الله عز وجل ، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار، وما في القرآن والسنة من ذكر أوصافهم وهيئاتهم وأصنافهم وأعمالهم كله صريح في بيان تهافت أقوال ابن سينا التي تلقّاها عن أسلافه من الفلاسفة الوثنيين.)(1)
- إن أقوالهم تتضمن تكذيباً صريحاً للقرآن الكريم، وهذا من الكفر القبيح، فضلاً عن مخالفته مما يعلم بالاضطرار من دين المرسلين.)(2)
- إنّ عامة الأمم وأهل الأديان يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن، والملائكة التي يثبتها الفلاسفة ويسمونها بالعقول فهي عند التحقيق لا توجد إلا في أذهان من أثبتها لا وجود لها في الأعيان.)(3)
- إنّ زعمهم بأن النّبي صلى الله عليه وسلم يخيل له أنه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فباطل من عدة وجوه، منها:-
__________
(1) - انظر هذه الردود بالتفصيل: الرد على المنطقيين لابن تيمية 490-500.
(2) - انظر الصفدية- مصدر سابق- 1/231.
(3) - انظر المصدر السابق 1/241.(1/442)
أ- إنّ قولهم معناه إنكار الملائكة التي يسمع منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يرسل أمين الوحي جبريل إلى أنبيائه يوحي إليهم بإذن ربه ما يشاء، قال تعالى:)وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء الشورى:51، ففرّق الله سبحانه بين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء وبين الوحي، كما فرّق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى:)إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيين من بعد) إلى قوله تعالى:)وكلّم الله موسى تكليماً) النساء:163-164. ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وتكليمه لموسى عليه السلام، كما فرّق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء.
ب- إنّ ابن سينا يثبت فقط ما هو من جنس الوحي والإلهام عندما يقول بالقوة القدسية التي تفيض على نفس النّبي، بل الوحي والإلهام الذي أثبته الله تعالى فوق القوة القدسية التي يثبتها، والرسل لهم أحوال في السماع خارجة عن قوى النفس، وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك، إذ يسمعون كلام الملك المرسل إليهم، وتدل عليه آية الشورى السابقة، وقوله تعالى:) الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) الحج:175.
ج- لقد أخبر الله تعالى أنّه يكلم البشر من وراء حجاب، وأن يكلِّم موسى عليه السلام تكليماً، وهذا يقتضي أنه يكلم بعض رسله تكليماً خارجاً عن جنس ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها.)(1)
د- يقول الله تعالى في قصة مريم:)فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً) سورة مريم:17-19. وقال تعالى:)ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) سورة التحريم:12.
__________
(1) - المصدر السابق – بتصرف يسير – 1/203-205.(1/443)
... لقد أخبر الله تعالى أنّ هذه الروح تصوّر بصورة بشر سوي، وخاطب مريم ونفخ فيها، ومن المعلوم أنّ القوى النفسانية التي تكون في نفس النّبي وغير النّبي لا يراها الحاضرون، ولا تحدث منها مثل هذه الأحوال والأفعال والأقوال، وعلى هذا يبطل قول ابن سينا أنّ النّبي يخيّل إليه أنّه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فكون الملك تمثل بشراً وخاطب مريم، فأي عاقل يقول أن مريم سمعت كلامه من داخل نفسها وهو أمامها بشري سوي تراه وتسمع كلامه.)(1)
هـ- يقول تعالى في حق جبريل عليه السلام:)إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم ) سورة التكوير:19-25. أخبر الله تعالى أن الذي جاء بالقرآن – وهو من كلام رب العالمين - رسول كريم، ذو قوة عند ذي العرش مكين، وأنه مطاع ثم أمين. ومن المعلوم امتناع أن تكون هذه الأوصاف للمَلَك الرسول صفات أعراض تقوم بنفس البشر سواء كان نبياً أو غيره، وما كان كذلك امتنع أن يكون النّبي قد تخيل في نفسه أنه رآه وسمع منه كلام الله تعالى.
و- إذا كان النّبي لم يسمع كلاماً من خارج نفسه بل هذا تَخَيُّلٌ في نفسه كما زعمت الفلاسفة فهذا معناه أنّ الرسول من جنس آحاد المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السماوات، وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك، ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الكفار.
__________
(1) - انظر المصدر السابق 1/197-198.(1/444)
ز- وإذا كانت الفلاسفة تزعم أن كلام الله هو ما يفيض على نفس النّبي من العقل الفعّال فإن هذا الزعم باطل وبيان ذلك:أن العقل الفعّال لا يمكن أن يتصور في صورة أعرابي ولا دحية الكلبي ولا ضيف إبراهيم ولا لوط، ولا في صورة بشر سوي فنفخ في مريم، ولا يمكن أن يكون كما قال تعالى:)ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثَمَّ أمين) لأنّ غاية العقل الفعّال عند الابن سينا أن يتحرك الفلك الأسفل تشبهاً به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه.
... وأيضاً فلقد أخبر الله تعالى أن النّبي عليه السلام رآه عند سدرة المنتهى ورآه بالأفق المبين مرتين، وجاء في الحديث الصحيح أنّ النّبي عليه الصلاة والسلام رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشرق والمغرب، ومَنْ كانت هذه أوصافه وأحواله استحال أن يكون هو العقل الفعّال كما تزعم الفلاسفة.)(1)
ثالثاً: مناقشة ما زعمه من أن معجزات الأنبياء هي نتيجة تأثيره القوة النفسانية للنّبي:
إنّ كون بعض النفوس أو غيرها من الأعيان قد جعل الله تعالى فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر شرعاً ولا عقلاً، ولكن دعوى ابن سينا بأنّ معجزات الأنبياء هي من هذا الباب فبهتان عظيم وإفك أثيم. وأدلة بطلانه كثيرة جداً نذكر هنا بعضاً منها يفي بالغرض المطلوب:-
-إنّ المؤثر الوحيد في الوجود هو: الله تعالى الذي لا شريك له في ملكه وتدبيره وتصريفه لما في ملكه ولم يثبت شرعاً ولو بدليل ضعيف هذا الكلام الذي زعمته الفلاسفة، ثمّ إنّ المعجزات وخوارق العادات هي: كرامات يظهرها الله تعالى على يد النّبي برهاناً على نبوته وتصديقاً لما جاء به من ربه عز وجل ولو كانت من تأثير نفسه كما تزعم الفلاسفة لما كانت معجزة يتحدى بها الأولين والآخرين من الجن والإنس.
__________
(1) - انظر المصدر السابق 1/201.(1/445)
- لقد أثبتت نصوص القرآن صراحة أنّ الملائكة لها تأثير في العالم بالقول والفعل ولكن بإذن الله تعالى وبمشيئته وقدرته، ومن ذلك تأييدها للأنبياء بالنصر والتأييد وإنزال السكينة، وهذا يبطل قول ابن سينا أن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية، فإنّ الملائكة خارجة عن هذا وهذا.
- إنّ الفلاسفة لم تدلل على مزاعمه بدليل صحيح، فقوله بلا علم ولا دليل، وعامة ما يعتمد عليه التجويز الذهني، والعقائد والمغيبات لا تثبت بمثل ذلك، ولا ريب أنّ معجزات الأنبياء ممّا أجمع النّاس على أنّ قوى النفوس لا تقتضيها، فالنّاس يعلمون بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية حدوث خوارق للعادات كثيرة، ليس لها علاقة بنفوس بني آدم، لا نفوس أنبياء ولا غيرهم، كزلزلة الأرض ونزول المطر من السماء، وأخذ القرى الظالمة.
- إنّ تأثير النفوس في الأجسام لا يختص بالنّبي، فمثلاً الجن تفعل كثيراً من الغرائب والأعاجيب، ومن ذلك حملها لبعض الناس وطيرانها بهم في الهواء، وسرقة أنواع من الأطعمة وإتيانها بها للكهنة وإخبارهم بالأمور الغائبة. وهذا ما يعلمه كثير من الناس والجن ليست قوى نفسانية، فمن الناس من شاهدها، ورآها - أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان-، أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة.
- إنّ الملائكة ثابتة آثارهم وأفعالهم في العالم، وأخبارهم في ذلك متواترة عند أتباع الأنبياء، ومعلومة بالمعاينة والمشاهدة، وهذا من أعظم الأدلة على بطلان دعوى أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية.(1/446)
- إنّ تأثير قوى النفس لا يبلغ مبلغ معجزات الأنبياء، فإنزال ماء الطوفان الذي أغرق أهل الأرض وإرسال الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً التي أهلكت قوم عاد واقتلعت قرى قوم لوط وقلبتها حتى أهلكتهم، وإرسال الطير الأبابيل بحجارة من سجيل لهلاك أبرهة الحبشي وأصحابه عام الفيل وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام، وفلق البحر، وتفجّر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشر عيناً، وانشقاق القمر، واهتزاز العرش، وخروج الناقة العظيمة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء، لا يمكن أن يقول عاقل أنّ هذه وأمثالها من تأثيرات القوى النفسانية عند الأنبياء، بل كلّ عاقل يعلم أنّها من فعل فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته، وبحسب مشيئته وحكمته، وأنّه هو الله رب السماوات والأرض، ورب كلّ شيء ومليكه.
- إنّ الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بأنّ خوارق العادات – المعجزات المؤيدة لدعوى النبوة – ليست في مقدور البشر، فمن زعم أنّها من تأثير قوى النفس كان مكذباً للأنبياء فيما أخبروا به، والأنبياء عليهم السلام أخبروا بوجود الملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست أعراضاً قائمة بغيرها وأخبروا بأنّهم يفعلون أفعالاً خارجة عن قدرة البشر، ومن ذلك مجيء الملائكة إبراهيم عليه السلام في صورة رجال نكرهم ولم يعرفهم حتى ظن أنهم ضيوف، ثم إخبارهم له بأنهم ملائكة وبشروه بإسحاق ثم أخبروه بأنهم ذاهبون إلى قوم لوط من أجل إهلاكهم بأمر الله تعالى. ومن زعم أنّ مثل هذا من قوى النفس فقد كذّب القرآن الكريم وكذّب الأنبياء فيما أخبروه به، وهذا في غاية الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.(1/447)
... ومن معجزات الأنبياء ما لا يكون النّبي شاعراً به، ومنها ما لا يكون مريداً له، وهذا لا يكون من فعل نفسه، ومنها ما يكون قبل وجوده، ووجود قدرته، ومنها ما يكون بعد موته ومفارقته لهذا العالم. ومن المعلوم أن أمثال هذه المعجزات خارجة عن مزاعم ابن سينا في تأثير القوة النفسانية للنّبي.ومن هذه المعجزات: قصة أصحاب الفيل التي حدثت حين مولده صلى الله عليه وسلم، وأخبار الكهان وأهل الكتاب عن نبوته وأخبار الأنبياء السابقين المتقدمين عن نبوته ورسالته، وانتشار دعوته عليه الصلاة والسلام في مشارق الأرض ومغاربها كما أخبر هو عن ذلك، وحفظ الله تعالى للكتاب الذي أنزله عليه، وما جعله الله تعالى في القلوب من محبته وتعظيمه، والعلم بمنزلته وعلو درجته ومكانته، وانتصار أوليائه، وهزيمة أعدائه.)(1)
الفصل السادس
عقيدة البعث عند الفلاسفة
الإيمان بالبعث:
إنّ من أصول العقيدة الإسلامية الإيمان بالبعث وبالحساب والجزاء , وبالخلود في حياة قادمة إمّا في الجنة أبداً , أو في النّار أبداً , وإنّ إنكار البعث كان حجة كفار قريش , كما كان حجة الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين , كفراً برب العالمين , وجهلاً بطلاقة قدرته التي لا تحدها حدود , أو قياسا للقدرة الإلهية بقدرات البشر المحدودة ظلما وعدوانا. وجهلا بمدلول الألوهية الحقة , ومن ثمّ عجز الكافرون عن تصور إمكانية البعث , وما يتبعه من الحساب والجزاء , وفي التشكيك في ذلك، وهذا من صلب الدين الذي جاء به الأنبياء , والمرسلون , وتكامل الحديث عنه فيما جاء به النبي الخاتم والرسول الخاتم صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين .
__________
(1) - انظر هذه المناقشة لمزاعم ابن سينا مع زيادة تفصيل في كتاب الصفدية لابن تيمية 1/163-236.(1/448)
ومن أجل التأكيد علي حقيقة البعث بعد الموت وما يتبعه من حساب وجزاء ابتدأت آيات القرآن الكريم باستنكار تساؤل الكافرين عنه تساؤل المنكر له أو المتشكك في إمكانية وقوعه , وألمحت بالتهديد القاطع لكل منكر أو متشكك في تلك الحقيقة الربانية الحاسمة , ثم أوردت عدداً من البراهين والآيات الدالة علي كمال القدرة الإلهية في إبداع الخلق، لكي تكون شاهدة علي أنّ الخالق المبدع قادر علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه ..!!!, ولذلك أكدّت سورة القرآن الكريم علي حقيقة يوم البعث وأهواله , وسمته بأسماء متعددة.! ثمّ ذكر لنا القرآن الكريم بعض صور العذاب الذي أعده الله تبارك وتعالي للطاغين من الكفار والمشركين من المنكرين لدين الله , والمكذبين بآياته , والغافلين عن حسابه , وذلك بإدخالهم إلي جهنم وبئس المصير، التي تترصد بهم , وتستعد لاستقبالهم وفيها من صور العذاب المهين.
قال بعض العلماء:إن الله تعالى أكثر في ذكر البعث، وأدلته، ومن القرائن التي تدل عليه والمعجزات والآيات والبراهين، وكذلك ما بعده من الجزاء على الأعمال ومن الحشر، والنشر وما إلى ذلك.(1/449)
... ولعلّ الحكمة من المبالغة في ذلك إقناع المشركين، وذلك لأنّ المشركين من العرب كانوا ينكرون أشد الإنكار بعث الأجساد، فضلاً عن حساب عليها أو عذاب، فهم يقولون- مثل ما حكى الله عنهم هم والأولون أيضاً بقوله تعالى:)وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).الأنعام:29، وكذلك حكى الله عنهم قوله تعالى: )إنّهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون). الصافات:69-70، فلما وجدوا آباءهم على هذا الأمر الذي هو إنكار البعث، تبعوهم في ذلك، وحكى الله تعالى عنهم قولهم: )أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون).الصافات:16-18، أي تبعثون وأنتم ذليلون مهينون. ورد الله على ذلك الكافر الذي جاء ومعه عظم ميت يفتته وقد صار رميماً فقال: أتزعم يا محمد؛ أن هذا يبعث بعد أن صار رميماً تراباً؟ قال:)نعم يميتك الله، ثم يحييك ثم يحشرك إلى النّار) فأنزل الله تعالى قوله:)أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين).يس:77، ذكره بخلقه من نطفة، ومع ذلك أصبح خصيماً مبيناً، ثم قال تعالى:)وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه). يس:78، نسي بدء خلقه الذي كان معدوماً، ثم خلق، ثم أوجد، إلى آخر الآيات التي فيها تذكيره بالبعث وبالآيات الدالة عليه بعد البعث.
اختلاف الناس قديما في المعاد:-
فالدهريّة أنكروا البعث، وقالوا: الإنسان ينعدم بموته ولا يكون له عود إلى الوجود. وهؤلاء الذين أشار إليهم القرآن الكريم بقوله:)وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) )الجاثية:24)(1/450)
وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشاءين إلى أنّه روحاني فقط، لأنّ البدن ينعدم بصورته وأعراضه، فلا يعاد، والنفس جوهر باق لا سبيل إليه للفناء، فيعود إلى عالم المجردات لقطع التعلّقات بالموت الطبيعي. ويذهب أكثر الفلاسفة إلى إنكار المعاد بتأويلات بعيدة، فهم يزعمون أنّ المعاد هو أن تلتحق روح الإنسان بعد موته بالملكوت فتكون سعيدة، فتلك هي الجنة، أو تلتحق بالشيطان، فتكون شقية، فتلك هي النّار، أما أن تعاد الأجسام من جديد فذاك في اعتقادهم من المستحيلات، فهم بذلك ينكرون أن الذي يحييها هو الذي أنشأها أول مرة، وهم يتساءلون )وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الإسراء:49.
ويعد أرسطو واحداً من هؤلاء الفلاسفة المشاءين القائلين أن المعاد روحاني وليس جسماني، يتقل الشهرستاني عن أرسطو قوله:"إنّ النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى ووصلت إلى كمالها، وإنّما هذا التشبه بقدر الطاقة، يكون إما بحسب الاستعداد، وإما بحسب الاجتهاد فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين، وانخرط في سلك الملائكة المقربين، ويتم له الالتذاذ والابتهاج، وليس كل اللّذة فهي جسمانية، فإنّ تلك اللذات لذات نفسانية عقلية، وهذه اللّذة الجسمانية تنتهي إلى حد، ويعرض للملتذ سآمة وكلال وضعف وقصور، إن تعدى عن الحد المحدود، بخلاف اللذات العقلية فإنّها حيثما ازدادت ازداد الشوق والحرص والعشق إليها، وكذلك القول في الآلام النفسانية فإنّها تقع بالضّد مما ذكرنا، ولم يحقق المعاد إلا للأنفس، ولم يثبت حشراً ولا نشراً، ولا انحلالاً لهذا الرباط المحسوس من العالم، ولا إبطالاً لنظامه كما ذكره القدماء".)(1)
__________
(1) - الملل والنحل:عبد الكريم الشهرستاني 2/134-135.(1/451)
وكان بعض العرب في الجاهلية يؤمنون بوجود الروح بعد موت الجسد، ولكنهم ينكرون بعث الأجساد وحشرها، ويزعمون إنّ روح المقتول تبقى تنوح على قبره حتى يُؤخَذ بِثَأره، كما هو معروف في أشعارهم،ولعل إلى هؤلاء الإشارة في قوله تعالى:)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) سبأ:7-8.)(1)
وأمّا الفلاسفة الإسلاميون فقد ذهبوا إلى إنكار المعاد الحسّي الأخروي، وقالوا إنّ ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد أمثال مضروبة، لتفهيم المعاد العقلي واللّذة والألم العقليين.)(2) وأخذوا في تأويل نصوص وأخبار وأحوال المعاد من الجنة مثل قصور وأنهار وطيور وثمار في الجنة وزعموا أنها أمور معقولة قد عبر عنها الأنبياء بصورة خيالية جسمانية، من باب ترغيب للعوام بما تميل إليه طباعهم، وأمّا ما في النّار من سلاسل وأغلال وخزي ونكال فترهيبات للعوام بما تنزجر عنه طباعهم، وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية وصور جرمانية.)(3)
وصار هؤلاء الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وينكرون العقوبات واللذائذ الحسية في الجنّة والنّار بظنون وأوهام واستبعادات، من غير أن يكون معهم برهان قاطع، وزعموا أنّ من يعتقدون حشر الأجساد فلقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي الروحاني.)(4)
طوائف المنكرين للبعث:
__________
(1) - انظر: القائد إلى تصحيح العقائد: للشيخ المعلمي ص 155.
(2) - بيان تلبيس الجهمية:ابن تيمية 1/74.
(3) - انظر: الملل والنحل 2/4.
(4) - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد: ابن تيمية 1/335.(1/452)
إنّ إنكار المعاد وعدم الإيمان بالبعث أمر قديم في تاريخ البشرية، ولعلّ الذي جعل هؤلاء الناس ينكرون البعث أنّ عقولهم لم تتصور إعادة الحياة للأجساد بعد تفرقها وتحللها. والناس في إنكارهم للبعث طوائف.
1- الفلاسفة الدهرية والطبائعية: أنكروا المبدأ والمعاد، وزعموا أنّ الأكوان تتصرف بطبيعتها، توجد وتعدم بنفسها، فليس لها رب يتصرف فيها كما يشاء، بل مجرد أرحام تدفع وأرض تبلع.ومن هؤلاء الشيوعيون وغيرهم من الملاحدة، الذين يعتقدون أن لا حياة إلّا الدنيا.
2- طائفة من الدهرية)الدورية): ينكرون الخالق عز وجل، ويزعمون أنّ في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أنّ هذا قد تكرر مرات لا تتناهى.
3- مشركو العرب: هؤلاء أقروا بالرب الخالق المبدىء، ولكنّهم استبعدوا البعث والمعاد، وأن تحشر أجسادهم، وكانوا يقولون):إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) الدخان:35.
4- طائفة الفلاسفة المنتسبة للإسلام: الفارابي وابن سينا وابن رشد ونحوهم. وهؤلاء- كما سيأتي بيانه- يثبتون البعث الروحاني فقط، وينكرون أن يبعث الإنسان بجسده وروحه معاً، وقد حكموا عقولهم القاصرة عن إدراك الغيب والتسليم به، وتركوا الشرع، وأخذوا يتأولون نصوصه، فضلّوا سواء السبيل، وأضلّوا.
5- النصيرية والدروز: وهما من الفرق الباطنية الكافرة، وهؤلاء ينسبون أنفسهم زوراً وبهتاناً للإسلام، وقد أنكرتا البعث والقيامة، وآمنتا بالتناسخ والتقمص، وهو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر،)إنسان أو حيوان)، واعتبرتا ذلك هو المعاد من النعيم أو الحساب والعذاب.)(1)
المطلب الثاني:إنكار الفلاسفة الإسلاميين للبعث الجسماني:
__________
(1) انظر أصناف المنكرين للبعث: معارج القبول بشرح سلّم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد:الشيخ حافظ حكمي،تحقيق سيد عمران وعلي محمد علي، دار الحديث- القاهرة- 1999م-1420هـ 2/159.(1/453)
أنكر الفلاسفة الإسلاميون أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد البعث الجسماني وأثبتوا البعث الروحاني)العقلاني)، واعتبروا أن الأدلة المثبتة للبعث الجسماني ما هي إلا أمثلة ضربت لتفهيم العوام، وهذا كما لو أريد إفهام الصبي أو العنين لذة الجماع، لم يسهل ذلك إلا بأن يمثل للطفل باللعب وللعنين بلذة الأكل الطيب مع شدة الجوع.)(1)
... واعتبروا أنّ:"ما ورد في الشرع، من الصور الحسية فالقصد به ضرب الأمثال لقصور الإفهام عن درك اللذات فمثل لهم ما يفهمون".)(2) استدلّ الفلاسفة بالأدلة السابقة من القرآن والسنة ليثبتوا البعث الروحاني وبالتالي اعتمدوا عليها في إنكار البعث الجسماني، ولذلك ردّ عليهم الإمام الغزالي مبيناً أنّ هذه الأدلة لا تعني عدم وجود البعث الجسماني.
* فاستدلالهم بالآية القرآنية: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ( سورة السجدة:17. ردّ عليه الإمام الغزالي بقوله "أي لا يعلم جميع ذلك".)(3) لأنّ ما أخبرنا الله به من النعيم قليل بالنسبة لما أخفاه سواء كان نعيماً روحانياً أو جسمانياً.
* وأمّا استدلالهم بالحديث "أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ردّ عليه بقوله: " فكذلك وجود هذه الأمور الشريفة، لا يدل على نفي غيرها، بل الجمع بين الأمرين أكمل، والموعود به أكمل الأمور، وهو ممكن، فيجب التصديق به على وفق الشرع".)(4)
ولمّا كان ابن سينا وابن رشد من أكثر الفلاسفة الإسلاميين توضيحاً لنظرية المعاد، التي تتضمن إنكارهم المعاد الجسماني، وقولهم بالمعاد الروحاني العقلي رأينا تخصيصهم بشيء من التفصيل.
__________
(1) انظر: النجاة ص 327، وانظر: رسالة أضحوية ص 50، انظر: تهافت الفلاسفة للغزالي ص 283.
(2) انظر: النجاة ص 305، وانظر: رسالة أضحوية في أمر المعاد ص 50، تهافت الفلاسفة – الغزالي ص 287.
(3) تهافت الفلاسفة ص 289.
(4) المصدر السابق ص 290.(1/454)
1- ابن سينا وعقيدة البعث:
ويعد ابن سينا من الفلاسفة الذين اتبعوا آراء أرسطو في البعث الروحاني وإنكار البعث الجسماني، بل دافع عنها بكل الحجج ليثبت صحتها، وأضاف إليها ما ظنه محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه لم ينجح في هذا التوفيق، إذ وقع في منزلق خطير وهو إنكار البعث الجسماني مما حدا بالعلماء للحكم بكفره وبكفر من أنكر هذا الاعتقاد.
ويعتبر الفلاسفة اللّذة العقلية أقوى كيفية من اللّذة الحسية، وأكثر كمية وأدوم وذلك لأن العقل يصل إلى كنه المعقول ويعقل حقيقته، بينما الحس لا يدرك إلا الأعراض، ولأن الموجودات وهي المعقولة غير متناهية.)(1)
ويضرب ابن سينا مثلاً بأفضلية اللّذة العقلية على اللّذة الجسمانية فيقول:"أليس ألذ ما تصفون من هذا القبيل – اللذات الحسية– هو المنكوحات والمطعومات، وأمور تجري مجراها؟ وأنتم تعلمون أن المتمكن من غلبة ما، ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد، قد يعرض له مطعوم أو منكوح فيرفضه لما يَعْتَاضَهُ من لذة الغلبة الوهمية".)(2)
ويذكر ابن سينا أنّ الشجاع يستحقر هول الموت، ومفاجآت العطب )الخلل) عند مناجزة المبارزين لما يتوقعه من لذة الانتصار ولو بعد الموت، لذلك تقدم اللذات العقلية على الحسية.)(3) ولهذا يزعم ابن سينا أنّ واضعي الشرائع–الأنبياء– اضطروا اضطراراً إلى الترغيب بالثواب والترغيب بالعقاب من خلال ضرب الأمثلة بالثواب الحسي والعقاب الحسي، لأنّ الجمهور لا يفهمون إلا المحسوسات.)(4)
__________
(1) انظر الشفاء – ابن سينا 2/426، النجاة ص 294.
(2) الإشارات والتنبيهات 3/749 - 750
(3) الشفاء 2 /427، النجاة 330، الإشارات والتنبيهات 3/751.
(4) رسالة أضحوية في أمر المعاد ص 97.(1/455)
ومن خلال دراستنا لمؤلفات ابن سينا فإنّا نراه يحاول خلال كتاباته التفرقة بين العامة والخاصة، فيلمح للعامة بالقول بالبعث الجسماني، ويصرح للخاصة بإثبات البعث الروحاني فقط، وقصده من ذلك الوصول إلى نفي البعث الجسماني، وإثبات الروحاني بهدف جر بعض العامة لما يعتقد. ويتضح هذا التفريق وضوحاً جلياً في كتابه "الإشارات والتنبيهات" حيث يعتبر الخاصة عارفين منزهين، وأما العامة فهم عنده بله.
فمّما قال مبالغة منه في الاحتفاء بالخاصة قوله:"والعارفون المنزهون إذا وضع عنهم دور مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتقشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللّذة العليا".)(1)
وممّا يوضح قلّة احتفائه بالعامّة قوله: "وأمّا البله فإنّهم إذا تنزهوا خلصوا إلى سعادة تليق بهم، ولعلّهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعاً لتخيلات لهم".)(2)
الكتب التي يصرح فيها ابن سينا بإنكار البعث الجسماني:
يقول ابن سينا في كتاب النجاة: "فقد قرّرنا أنّ حال المعاد الحقيقي وأثبتنا أنّ السعادة في الآخرة بتنزيه النفس، وتنزيه النفس بتبعيدها عن الهيئات البدنية المضادة لأسباب السعادة، وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات، وهي تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس، وتُديم تذكيرها بالمعدن الذي لها.)(3)
وفي كتاب الشفاء: يرى ابن سينا أنّ المعاد على ضربين:-
الأول:- المعاد المنقول من الشرع وهو المعاد الجسماني، أي حشر الأجساد، وهذا المعاد البدني لا سبيل إلى إثباته إلا عن طريق الشرع، وأمّا العقل فلا يستطيع أن يقيم الدليل عليه.
__________
(1) الإشارات والتنبيهات 3/774
(2) المصدر السابق 3/777- 778
(3) ص 342.(1/456)
الثاني:- المعاد المدرك بالعقل وهو المعاد الروحاني، وهذا المعاد لا تنفيه الشريعة ولا تكذبه بل تصدقه، وهي السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس العقلية.)(1)ويرجح ابن سينا المعاد العقلي-الروحاني- لأنّه يعتبر أن المعاد الجسماني ما هو إلا ضرب أمثلة لتفهيم العوام، وإذا كان ابن سينا وأضرابه ليسوا منهم، بل هم من الخواص الذين لا يحتاجون إلى ضرب أمثلة.)(2)
ولقد زعم ابن سينا أنّ ما جاءت به الأنبياء نوعان:- الأول: الأمور العلمية، ومنها معرفة الله بأسمائه وصفاته والمعاد. وهذه الأمور لم يذكر الأنبياء حقائقها، إنّما أخبروا جمهور الناس بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا الحق، وهذا من جنس الكذب الجائز لمصلحة الناس، وهم يعلمون هذه المرتبة، فضربوا للناس الأمثال واستعملوا الرموز والإشارات.)(3) يقول ابن سينا تحت عنوان:" في إثبات النبوة وكيفية دعوة النّبي إلى الله والميعاد"،)(4) "بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة، من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنّه لا نظير له ولا شبه ولا شريك.." ويضيف:" وكذلك يجب أن يقرّر عندهم أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممّا يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً…ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات".
__________
(1) 2/423، وانظر النجاة ص 326.
(2) انظر النجاة ص 340.
(3) انظر رسالة أضحوية في المعاد: ابن سينا ص 97-103، الرد على المنطقيين- مصدر سابق- ص 442، الصفدية- مصدر سابق- 1/202، درء تعارض العقل والنقل: أحمد عبد الحليم بن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض- الطبعة الأولى 1401ه-1971م،1/8-9.
(4) في كتابه النجاة- مصدر سابق- ص 340.(1/457)
وعن وظيفة النبي يقول: "يجب أن يقرر عندهم -العامة- أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم ويضرب بالسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح منه إلا أمر مجمل، ولا بأس أن يَشتمل خطابه على رموز وإشارات" ويضيف قائلاً: "إن الفلاسفة الإلهيين -الفلاسفة– يرغبون في إصابة السعادة النفسية، بل إنهم لا يلتفتون إلى السعادة الجسمية وإن أعطوها.)(1)
وممّا كتبه للخاصة قوله:"إنّ كمال النفس هو تخلصها من البدن جاء في رسالة أضحوية في أمر المعاد ما يبين إنكاره للبعث الجسماني حيث يعتبر الآيات القرآنية الدالة على البعث الجسماني ما هي إلا أمثلة لتفهيم الجمهور. يقول "ظاهر متن هذا كله أن الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما يفهمونه، مُقرباً ما لا يفهمونه إلى أفهامهم بالتشبيه والتمثيل، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع ألبته".)(2) ويقول أيضاً: "إذا لم يُمثل لهم الثواب والعقاب الحقيقي البعيد عن الأفهام بما يظهر لم يرغبوا ولم يرهبوا، وما لم يبعث أبدانهم لم يترشحوا للأمرين فوجب في حكم السياسة الشرعية تقرير أمر المعاد والحساب والثواب والعقاب على هذه الوجوه..".)(3)
وممّا يؤكد قول ابن سينا بالمعاد للنفس أو الروح فقط: أنّه بعد عرض آرائه استحالة البعث الجسماني، قال:"فليكن هذا كافياً في مناقضة الجاهلين المعاد للبدن وحده، أو للنفس والبدن معاً ".)(4)
__________
(1) الشفاء: 2/423، النجاة ص 340.
(2) ص 103.
(3) رسالة أضحوية في أمر المعاد ص 112.
(4) المرجع السابق ص 114.(1/458)
ويضيف:" فإذا بطل أن يكون المعاد للبدن وحده، وبطل أن يكون للبدن والنفس جميعاً، وبطل أن يكون للنفس على سبيل التناسخ، فالمعاد إذن للنفس وحدها..".)(1) وفي رسالته "في سر القدر" يعرِّف ابن سينا المعاد قائلاً: "هو عود النفوس البشرية إلى عالمها". ويضيف:"لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب على ما يظنّه المتكلمون للزاني مثلاً بوضعه في الأنكال وإحراقه بالنّار مرة بعد أخرى، وإرسال الحيّات والعقارب عليه، فإنّ ذلك فعل من يريد التشفي من عدوه بضرر أو ألم يلحقه بتعديه عليه، وذلك محال في صفة الله تعالى".)(2)
وفي الدعاء يقول ابن سينا:"اسبغن عليها -أي النفس- بالتوبة العايدة بها إلى عالمها السماوي، وعجِّل لها بالأوبة إلى مقامها القدس، وأطلع على ظلماتها شمساً من العقل الفعال".)(3)
2- ابن رشد وعقيدة البعث:-
اتبع ابن رشد ضرب ابن سينا في إنكار البعث الجسماني، وزعم أنّ ما جاء في القرآن والسنة من حديث عن أحوال البعث وما فيه من عذاب ونعيم هي مجرد أمثلة ضربت لتفهيم العوام، ولتقريب الأمور العقلية بذكر الأمور الحسية لأنّ أفهامهم لا تقوى إلا على فهم ذلك، وليس ما ورد منها في الشرع حقائق، وزعم:"أن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وإنّ الظاهر منها فرض الجمهور، وإنّ المؤول هو فرض العلماء، وأمّا الجمهور ففرضهم حمله على ظاهره وترك تأويله، وإنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور.)(4)
__________
(1) المرجع السابق ص 126.
(2) في سر القدر رسالة لابن سينا ضمن كتاب " التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة ابن سينا " تأليف د. حسن عاصي، طباعة بيروت، 1983 م. ص 303 – 305.
(3) في الدعاء رسالة ضمن الكتاب السابق في هامش (1) ص 297.
(4) الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ص 132 – 133.(1/459)
وفي كتابه "تهافت التهافت" رغم أنّه كتبه للجمهور يكشف عن معتقده في البعث فيقول: "وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد منها هو أحثّ على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم– أي الجمهور- بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية".)(1)
ويزعم أنّ أصحاب الشرائع رأوا أنّ التمثيل للجمهور بالأشياء الحسيّة أشد تفهيماً لهم، وأشد تحريكاً من حيث الترغيب والترهيب.)(2) ولذلك يعتبر ابن رشد أنّ حشر الأجساد وأوصاف الجنّة والنّار ليس سوى صور جاء بها الأنبياء للحثّ على العمل الصالح، والتخويف من العمل الطالح فيقول: "فأخبروا)أي الأنبياء)أنّ الله يعيد النفوس السعيدة إلى أجساد تنعم فيها الدهر كله بأشدّ المحسوسات نعيماً وهو مثلاً الجنة وأنه تعالى يعيد النفوس الشقية إلى أجساد تتأذى فيها الدهر كله، بأشد المحسوسات أذىً وهو مثلاً النّار".)(3)
... ثمّ إنّ ابن رشد يذهب إلى أنّ العوام هم الأكثرية المقصود الأول من الشرائع، وقد تمّ تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية لكونهم يفهمون إلاّ ذلك، ولأنّه أكثر تحريكاً لنفوسهم، أما المعاد الروحاني فلا يفهمونه ولا يلاقي عندهم قبولاً، وهو أقلّ تحريكاً لنفوسهم، ولكنّه أكثر قبولاً عند الفلاسفة والمتكلمين من الناس، وهم الأقل.)(4)
ويقول: "والحقّ في هذه المسألة أن فرض كل إنسان هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظراً يفضي إلى إبطال الأصل جملة وهو إنكار الوجود جملة ".)(5)
__________
(1) تهافت التهافت 2/870.
(2) انظر: الكشف عن مناهج الأدلة ص 244.
(3) المصدر السابق ص 244.
(4) الكشف عن مناهج الأدلة ص 244 –245.
(5) المصدر السابق ص 247.(1/460)
وفي بعض كتبه يزعم ابن رشد أنّ مسألة البعث هل هو جسماني وروحاني معا كما أجمع المسلمون، أو هو روحاني فقط كما قالت الفلاسفة هو من المسائل المختلفة، يقول:"ما جاء في صفات المعاد وأحواله " فنقول: أن هذه المسألة الأمر فيها أنها المختلف فيه. وذلك أنا نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: أنّ الواجب حملها على ظاهرها..وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها. وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً...ويشبه أن يكون المخطىء في هذه المسألة من العلماء معذوراً والمصيب مشكوراً أو مأجوراً، وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحواً من أنحاء التأويل، أعنى في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود".)(1)
وينتهي ابن رشد إلى إثبات البعث الروحاني، وإنكار الجسماني. وأنّ الاعتقادات التي وردت بها الشرائع في أمور الآخرة، وإن لم يتناولها البرهان العقلي، والفلاسفة لم يتعرضوا لها، فإنّها أحثّ على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم )أي للنّاس) بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية.
معتمد الفلاسفة في إثباتهم للبعث الروحاني دون الجسماني:-
إنّ إنكار الفلاسفة لبعث الأجساد وسائر أمور المعاد، وقولهم إنّ كلّ ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق لتفهيم الثواب والعقاب الروحانيين، وهما أعلى رتبة من الجسمانية.
__________
(1) فصل المقال ص 10.(1/461)
وأنّهم قالوا: أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمدياً: إمّا في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها، وأمّا في ألم لا يحيط الوصف به لعظمة. ثم قد يكون ذلك الألم مخلداً، وقد ينمي على طول الزمان. ثمّ تتفاوت طبقات الناس في درجات الألم واللّذة تفاوتاً غير محصور، كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية ولذاتها تفاوتاً غير محصور. واللّذة السرمدية للنفوس الكاملة الذكية، والألم السرمدي للنفوس الناقصة الملطخة. والألم المنقضي للنفوس الكاملة الملطخة، فلا تنال السعادة المطلقة إلاّ بالكمال والتزكية والطهارة، والكمال بالعلم، والذكاء بالعمل.
إذاً إنّ إنكار الفلاسفة البعث الجسماني مبني أمرين:-
1- نظرة فلسفية لماهية الإنسان:-
... تقرّر هذه النظرة أنّ الإنسان جسم وروح، وأن الجسم مادة كثيفة مظلمة، أمّا الروح فهي نور، وهمها العلم والمعرفة، والروح في البداية بحاجة إلى الجسم لتساعدها حواسه المتصلة بالكون اتصالاً مباشراً، حيث تنقلها من حالة الاستعداد للمعرفة إلى المعرفة بالفعل، ولكنّ الروح بعد ذلك تصبح في استغناء عن هذا الجسم، وذلك بعد تحصيلها المعرفة والعلم، أي أنّ الروح تصاحب الجسم إلى حد محدود، ثمّ تتخلص منه، وهي ترقى لكونها جوهر لا يتفكك ولا يتحلّل، فهي لا تفنى.)(1)
2- اللّذة العقلية أفضل من اللّذة الجسمانية:-
إنّ الفلاسفة يرفعون من شأن اللّذة العقلية، ويبرهنون على أنها أفضل من اللّذة الجسمانية في الآخرة، ويزعمون أن اللّذة العقلية ليست واضحة في الدنيا لتعلقنا بالبدن وشهواته، بحيث تكون النفس أسيرة البدن، أما إذا انفصلت نفس الإنسان عن البدن فإن النفس تتنبه لكمالها في السعادة بعد أن كانت غير منتبهة لها بسبب انشغالها بالبدن.)(2)
__________
(1) انظر: المصدر السابق 2/139
(2) الشفاء لابن سينا 2/ 427.(1/462)
ويزعم هؤلاء الفلاسفة أنّ كمال الروح الخاص بها هو أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيه صورة الكل والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل، سالكة الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة، ثمّ الروحانية المتعلقة نوعاً ما بالأبدان، ثمّ الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتنقلب عالماً معقولاً.)(1) ويزعم ابن سينا أنّ واضعي الشرائع في الترغيب والترهيب اضطروا أن يقولوا أنّ السعادة الأخروية تكون باللّذة الحسية، والشقاوة الأخروية بالألم الحسي وذلك لتقريب الفهم للناس.)(2)
ويبرّر هؤلاء الفلاسفة موقفهم هذا باعتبار أنّ اللّذات العقلية أشرف من اللذات الجسمانية لسببين:-
أولهما: أنّ حال الملائكة أشرف من حال السباع والخنازير ومن البهائم، وليست لها لذات جسمانية كالجماع والأكل والشرب، وإنما لها لذة الشعور بكمالها وجمالها.
ثانيهما: إن الإنسان قد يؤثر اللذات العقلية على الجسمية، حيث أنّ من يتمكن من غلبه عدوه والشماتة به يهجر في تحصيلها ملاذ الأنكحة والأطعمة وبهذا تكون اللذات العقلية الأخروية أفضل من اللذعات الجسمية والدنيوية.)(3) واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ( سورة السجدة:17. وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".)(4)
أدلة المنكرين البعث الجسماني:-
__________
(1) انظر: الشفاء 2/425 – 426، والنجاة ص 293.
(2) انظر: رسالة أضحوية ص 95 – 97.
(3) انظر: الإشارات والتنبيهات 3/752، وانظر: الشفاء 2/427، وانظر:النجاة ص 294، وانظر:تهافت الفلاسفة ص 283-284.
(4) صحيح مسلم 4/217 - كتاب الجنة حديث رقم 2824.(1/463)
بذل ابن سينا من خلال مؤلفاته جهداً كبيراً كي يثبت أنّ الآلام واللذات التي تحصل للإنسان هي للنفس فقط وأمّا الحسّ فلا علاقة له بها. ويدلل ابن سينا على إنكاره للبعث الجسماني، وخطأ القائلين بالمعاد الجسماني والروحي بعدة أوجه، منها:-
1- أنّ المادة الموجودة للكائنات لا تكفي أشخاص الكائنات الماضية إذا بعثت. "وهو ردّ النفس إلى بدن إنساني من أيّة مادة كانت وأي تراب اتفق محال من وجهين: أحدهما أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعّر فلك القمر لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية، فلا تفي بها، والثاني أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقي تراباً، بل لا بد أن تمتزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة".)(1)
2- أنّ السعادة الحقيقية للإنسان لا تتوفر له عند وجود نفسه في بدنه، كما أنّ اللذات البدنية غير اللذات الحقيقية النفسية العقلية، بحيث إنّ جهل النفس في البدن يعد عقوبة لها، وأنّ الأمور الواردة في الشرائع إذا أخذت على ظاهرها لزمها أمور محالة شنيعة.ومن ذلك عودة المجذوع والمقطوعة يده في الجهاد في سبيل الله تعالى على صورته هذه، وهذا قبيح جداً.
__________
(1) نقلاً موسوعة الحضارة العربية: الجزء الأول: الفلسفة والفلاسفة عند العرب: د. عبد الرحمن بدوي، وانظر موقع الموسوعة الإسلامية على(الإنترنت).(1/464)
3- أنّه لا يجوز القول بالبعث الجسماني، لأنّ الأبدان بعد موتها تصير ترابا، وهذا التراب حرث وزرع، والزرع أخرج مختلف الأطعمة التي أكلت جثث أخرى، واختلطت صور هذا الإنسان بصورة إنسان آخر، وبالتالي يستحيل بحث مادة كانت حاملة لصورتي إنسانين في وقتين مختلفين ،دون أن يكون ذلك البعث لهما معا في وقت واحد وبلا قسمة، ومثل هذا التناسخ الذي يجب إنكاره وعدم القول به.)(1) "وتقدير العود إلى الأبدان لا يعدو ثلاثة أقسام: إمّا أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن والحياة التي هي عرض قائم به، ومعنى الموت انقطاع الحياة، فتنعدم والبدن ينعدم أيضاً. وإمّا أن يقال إنّ النّفس موجود، ويبقى بعد الموت، ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها. وإمّا أن يقال: يرد النفس إلى بدن، سواء كان من تلك الأجزاء أو من غيرها، ويكون العائد هو ذلك الإنسان من حيث إنّ النّفس هي تلك النفس، فأما المادة فلا التفات لها.وهذه الأقسام الثلاثة باطلة: لأنّ الأول إيجاد لمثل ما كان، لا إعادة لعين ما كان. والثاني، وهو تقرير بقاء النفس ورده إلى ذلك البدن بعينه، باطل لأنه لو عاد لكان ذلك عوداً إلى تدبير البدن بعد مفارقته، وهذا محال، لأن بدن الميت ينحل تراباً أو تأكله الديدان والطيور ويستحيل دماً وبخاراً وهواء، ويمتزج بهواء العالم وبخاره ومائه امتزاجاً يبعد انتزاعه واستخلاصه".)(2)
نقض مزاعم المنكرين للبعث الجسماني:
يمكن مناقشة المنكرين للبعث الجسماني من خلال الوجوه التالية:-
__________
(1) انظر رسالة أضحوية في أمر المعاد لابن سينا،تحقيق د. حسن عاصي،الطبعة الثانية 1987م-1407هـ، بيروت، ص 103-107، وانظر الجانب الإلهي عند ابن سينا:د. سالم مرشان، دار قتيبة،دمشق الطبعة الأولى 1982م-1412هـ، ص 318
(2) نقلاً موسوعة الحضارة العربية: الجزء الأول: الفلسفة والفلاسفة عند العرب: د. عبد الرحمن بدوي، وانظر موقع الموسوعة الإسلامية على(الإنترنت).(1/465)
أولاً: بيان فساد المنهج الذي اعتمدوه في إنكار البعث الجسماني، ويتمثل ذلك بما يلي:-
1- اعتمادهم على المنهج العقلي المجرد عن الوحي، وهو منهج المناطقة والفلاسفة في أمور الغيب، ومعلوم أنّ أمور الغيب يجب الاعتماد فيها على الوحي وحده، لأنّه غيب عن الحس والمشاهدة. فحكموا عقولهم القاصرة عن إدراك الغيب والتسليم به، وتركوا الشرع، وأخذوا يتأولون نصوصه، فضلّوا سواء السبيل، وأضلّوا.
2- تجاوزوا المحسوسات وهي مدار حكم العقل إلى الغيبيات، إذ استخدموا العقل في الحكم على الغيبيات، والتي ليست من دائرة اختصاصه، بل وظيفة العقل التدبر والتسليم للوحي.
3- لقد رفعوا العقل فوق مكانة حيث جعلوه يبحث في كل شيء، حتى في الأمور التي يعجز العقل عن البحث فيها، وهي الأمور الغيبية التي لا تقع تحت الحواس، وإنّما يؤكّد إثباتها الوحي الإلهي.
4- جعلوا العقل المنقطع عن الوحي أساساً لفهم القرآن الكريم في أمور لا علاقة له بها، والصواب أن العقل ملزم بأنّ يتبع ما جاء في القرآن والسنة.
5- تأويل نصوص القرآن والسنة بعيداً عن اللسان العربي المبين، وبعيداً عن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح، بل هؤلاء الفلاسفة على الهوى المجرد والخيال الفلسفي الذي حاكوا فيه تفكير وخيال الفلاسفة أساتذتهم من فلاسفة اليونان.(1/466)
5- إنّ قول الفلاسفة بأنّ الظاهر من نصوص المعاد هو خطاب الجمهور والعامة حتى يصل أحدهم إلى معرفة الحقيقة. مناقض لما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤدي إلى أن يسقط المرء عنه طاعة أمره، ويسوغ له تكذيب خبره، ومن المعلوم لعامة المسلمين أنّ قول هؤلاء الفلاسفة الباطنية الذي يتضمن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عليه السلام في المعاد- مثل قولهم قام الدليل العقلي على نفي المعاد مطلقاً، أو نفي الأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك في الجنة ،أو على نفي معاد البدن- معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. ولو لم يكن المعاد حقا لزم إما جحد كون الرسول أخبر به وإما جحد صدقه فيما أخبر وكلاهما ممتنع وإلا فمن علم أن الرسول أخبر به وعلم أنه لا يخبر إلا بحق علم بالضرورة أن المعاد حق.)(1)
إنّ اتهام الأنبياء بالكذب على الجمهور هو من المعلوم من الدين بالاضطرار بطلانه، بل هو من الكفر الصريح، فالفلاسفة لم يقدروا الله تعالى حق قدره، ولم يقدِّروا رسوله عليه السلام حق قدره، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل الزنادقة والملحدة لإنكار كل ما جاءت به الأنبياء والمرسلون من العقائد والشرائع بحجة أنّ ظواهرها غير مرادة، وإنّما وردت على سبيل التمثيل والتخييل.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل لبن تيمية 5/ 301.(1/467)
6- قال الله تعالى:"أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع على الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا إلى قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً "سورة مريم 66 95، ذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد.)(1)
ثانياً: وأما إنكارهم للبعث الجسماني فإنّ فيه تكذيب لصريح القرآن الكريم والسنة النبوية حيث جاء فيهما كثير من النصوص الكريمة التي تدلّ وبكل صراحة على البعث الجسماني، وأن العذاب في الآخرة والنعيم فيها إنّما هو للروح والجسم معاً.
ثالثاً: اتهامهم الأنبياء والمرسلين بأنّهم يلجئون إلى الكذب من أجل تفهيم جمهور المسلمين بما أعدّه الله تعالى لهم من النعيم، وما أعدّه للكفار والمجرمين من الجحيم.يقول ابن تيمية":لا ريب أن هذا الذي ذكره هو من أصول الفلاسفة القرامطة الباطنية في ردهم ما أخبر به الرسول من المعاد وغيره إلى أمثال مضروبة، لكن أهل الملل يعلمون بالاضطرار أن هذا باطل وأن هذا نسبة للأنبياء إلى الكذب الصريح".)(2)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل لبن تيمية 7/387.
(2) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية 1/320.(1/468)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"ومعلوم أنّ هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكّلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا..وصار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنّه أفسد دينهم ودنياهم، وهذا مناقض لقولهم إنّه أعقل الخلق وأكملهم أو من أعقلهم وأكملهم، وأنّه قصد العدل ومصلحة دنياهم، فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد يقولون قولاً مختلفاً يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض فاسد غاية الفساد".)(1)
رابعاً: إنّ في إنكار البعث الجسماني إبطال لعقيدة الثواب والعقاب في الإسلام.
خامساً: إنّ في إنكار البعث الجسماني تكذيب لجملة من أحوال يوم القيامة: كالبعث، والنشر والحشر، والحساب، والصراط، والميزان، والحوض، وكلّ ما أخبر الله تعالى عنه ممّا يكون في يوم القيامة.
سادساً: إنّ أقوال الفلاسفة:إنّ الجنّة والنّار وما فيهما من ألوان النعيم والعذاب هي أمثال ضربت لتقريب الفكرة إلى أذهان العوام ولتفهيمهم لا يحتمل إلاّ الكفر، لكونه تكذيب صريح لعشرات من النصوص الدينية التي وصفت الجنة والنّار-وما فيهما من أنواع النعيم الحسي، وجملةً من أنواع العذاب الحسي- بما لا يحتمل التأويل، وكلّ ما أخبر الله تعالى به فهو داخل في قدرته تعالى، وقد أخبر به عزّ وجل، وإذا أمكن تأويل هذه النصوص مع كثرتها وصريح ألفاظها وعباراتها، وما تدلّ عليه من المعاني فإنّه يمكن تأويل غيرها من الحقائق.
سابعاً: إنّ الأدلة التي ذكرها ابن سينا لإنكار المعاد الجسماني واهية متهافتة لا تصلح للاحتجاج فيما ذهب إليه، ومن أدلته:-
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/240-241.(1/469)
أ-قوله: "أنّ المادة الموجودة للكائنات لا تفي بأشخاص الكائنات الخالية إذا بعثت".)(1)
الجواب: إنّ استدلاله مبني على قوله بقدم العالم وإنكاره وجود حوادث متعاقبة -وقد سبق أن أبطلنا وبينا فساده– ومعلوم عند المسلمين أن العالم حادث، والحوادث فيه متعاقبة. ثمّ يقال لابن سينا: من الذي أحاطك علماً بأن المادة الموجودة للكائنات لا تفي بالأشخاص ؟ ولماذا الحجر على قدرة وإرادة الخالق وحكمته، وهل يعجزه عز وجل أن يخلق ويوجد لكل مادة نفساً، أو لكل نفس مادة، إن النفوس ليست بأكثر من المواد الموجودة.
ب-قوله: "إنّ الفعل الإلهي واحد لا يتبدل عن مجراه المضروب له".)(2)
الجواب: إنّ هذا الدليل كسابقه مبني على اعتقاد قدم العالم. ثم إنّ الفعل الإلهي راجع إلى إرادة الله وقدرته، وفعله عز وجل ومفعوله ليس واحداً لا يتبدل، فلقد أخبرنا عز وجل عن تبدل السماوات والأرض، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ الناس يبعثون شباباً وعلى صورة أبيهم آدم، وأنّ المؤمنين منهم يتنعمون في الجنة بأجسام غير أجسامهم في الدنيا، من حيث أشكالهم وأطوالهم، وأنّ طرق النعيم وكيفياته غير التي في الدنيا.
ج- "إنّ السعادة الحقيقية للإنسان يضادها وجود نفسه في بدنه، وأن اللذات البدنية غير اللذات الحقيقية، وأن النفس في البدن عقوبة له".)(3)
الجواب: هذا القول يتضمن تكذيب الشرع الذي أخبر عن جملة من اللذات الحسية في الجنة، ويتضمن الرجم بالغيب، إذ كيف عرف أنّ النفس إذا فارقت البدن كانت لذتها أكمل، إنّ الشرع لم يخبر بذلك، بل أخبر بخلافه، ولم يجرّب ابن سينا ولا غيره من الفلاسفة السعادتين الدنيوية والأخروية ليحكما بخلاف ذلك، ثمّ إنّ اللّذة النفسية باجتماعها مع اللّذة الجسمية هي الأفضل والأكمل.
__________
(1) رسالة أضحوية في أمر المعاد ص 104.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق ص 105.(1/470)
إنّ تقديس العقل في أمور الغيب ومسائله أمر مستنكر، والمؤمن الصادق يؤمن إيماناً جازماً بعالم الغيب كما أخبر عنه الشرع الحكيم، وعلى عقله أن يسلّم بذلك، وأن لا يخوض فيه، فحدود العقل لا تتجاوز الواقع المشاهد، إلى عالم الغيب إلا بمقدار ما أذن به الشرع، ولقد أخبرنا الشرع بجملة من أحكام الغيب وعوالمه، وعلينا أن لا نخوض فيها، وأن لا نتعمق في بحثها، وإلا فقد تجاوزنا حد التسليم والإيمان.
د- إنّ ما أخبر به الشرع من البعث إذا اخذ على حقيقته وظاهره، لزم منه محال وأمور شنيعة،)(1) وذلك بعث المجذوع والمسلوخ والمقطوع يده في سبيل الله على صورته تلك، وهذا قبيح.)(2)
الجواب: إنّ المحال والشنيع من الأمور إنكار ما أخبر بالشرع من خلال التلاعب بالنصوص تأويلاً وتعطيلاً، ثم إن الله تعالى يعيد الإنسان على أحسن صورة، فلو بترت يد إنسان في سبيل الله فإنّ الله قادر على إعادتها له يوم القيامة، وقد تجلت حكمته على بعث المقطوعة يده في سبيل الله يوم القيامة على هذه الصورة لتكون له وسام شرف وعز، يراه أمام الخلائق جميعاً، وأمّا المتكبرون فيبعثه الله تعالى على صورة الذر، ويطأهم الناس بأقدامهم لإذلالهم والنّكال بهم أمام الخلائق جزاءً وفاقاً لما كانوا عليه في الدنيا.
هـ- وأما زعمه بأنّ الإنسان ستنتقل أجزاؤه عبر تغذي الحيوان والنبات فضل الإنسان وبدنه، وأنه لو أكل إنسان إنساناً فمن الذي سيبعث، وأنّ الأرض ملئت بجثث الموتى، وتغذى منها الأشجار، وعلى الأشجار تغذى الحيوان، وعلى الحيوان تغذى إنسان آخر، فكيف يكون بعث للأبدان؟)(3)
__________
(1) المصدر السابق ص 106.
(2) المصدر السابق ص 107.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/471)
الجواب: إنّ قدرة الله عز وجل لا تقف أمامها العقبات التي ذكرها ابن سينا، ثمّ إنّ الإنسان فيه أجزاء أصلية باقية في أوّل العمر إلى آخره، والمعاد يكون للأجزاء الأصلية الباقية، وهي في الأكل فضل، والإنسان باق مدة عمره، وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه.)(1)وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه ينبت، ويرسل الله ماء الحياة فينبتون فيه نبات الخضر، حتى إذا أخرجت الأجساد أرسل الله الأرواح، وكان كل روح أسرع إلى صاحبه من الطرف، ثم ينفخ في الصور فإذا هم قيام ينظرون" .)(2) )
حكم الإسلام في منكر البعث الجسماني:
__________
(1) المواقف للإيجي ص 373.
(2) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ . ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة . أخرجه البخاري 3322 و370 ومسلم 8210 وابن جرير الطبري 2421 22 ولابن ماجه 4266 منه قوله ليس من الإنسان .(1/472)
... إنّ القرآن الكريم حكم على منكري البعث بالكفر، وحبط العمل والخلود في النّار، قال تعالى:)أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) سورة الكهف:105، وقال تعالى:)وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّار هم فِيهَا خَالِدُونَ) سورة الرعد:5. )زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) التغابن:7.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"يجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد، وينكر العقوبات الحسية في الآخرة، بظنون وأوهام واستبعادات من غير برهان قاطع. فيجب تكفيره قطعاً، إذ لا برهان على استحالة ردّ الأرواح إلى الأجساد،ورد ذلك عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل من تعلق به،وهو مذهب أكثر الفلاسفة".)(1) ويضيف:" وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسية وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل الأمور، فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء، وظاهر ظني والعلم عند الله أن هؤلاء هم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم:"ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة".)(2)
__________
(1) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية 1/335.
(2) المصدر السابق 1/336.(1/473)
إذاً منكرو البعث الجسماني يحكم بكفرهم وزندقتهم، لأنّهم بإنكارهم جسمانية البعث ينكرون الكثير من الآيات القرآنية التي تقرّر وتثبت عقيدة البعث الجسماني، وما بعده من النعيم الحسي في الجنة أو العذاب الحسي في النّار. ومنه الإيمان بالبعث والحشر والحساب ووزن الأعمال. والإيمان بالجنّة بأنّها دار النعيم للمؤمنين خالدين فيها أبداً بأرواحهم وأجسادهم.والإيمان بالنّار بأنها للكافرين خالدين فيها أبداً بأرواحهم وأجسادهم، وهذه من الأمور المعلومة بالدين بالضرورة، التي يعد إنكارها كفراً يخرج صاحبه من الملة. نسأل الله تعالى العفو والعافية.
الفهرست
المقدمة ... 4
المبحث الأول: الصوفية لغة واصطلاحاً ... 4
التَّصوف اصطلاحا ... 5
الرأي الصواب ... 8
المبحث الثاني:نِشأة التَّصوف ... 10
بداية الانحراف ... 12
بداية ظهور مصطلح التَّصوف ... 13
حقيقة وأصل التَّصوف ... 16
عوامل نشأة التَّصوف ... 17
المبحث الثالث: طبقات الصوفية ... 21
المبحث الرابع: مصادر التلقي عند الصوفية ... 24
الفصل الثاني ... 34
العقائد الصوفية ... 34
بطلان عقيدة الحقيقة المحمدية ... 43
أولاً: عقيدة وحدة الوجود ... 47
لوازم مذهب أهل وحدة الوجود ... 59
5-وحدة الأديان ... 60
موقف الإسلام من مذهب وحدة الوجود ... 69
موقف الإسلام من عقيدة الحلول ... 81
الفصل الثالث ... 84
موقف الصوفية من الشعائر الدينية ... 84
1-الشريعة والحقيقة ... 84
2- العبادات ... 85
3- أحكام الحلال والحرام ... 86
-4 اعتقادهم في التربية ... 87
5-الغناء والرقص وضرب الدفوف والتصفيق ... 87
6- درجات السلوك الصوفية ... 89
7- الصوفية وطلب العلوم الشرعية ... 90
وصف ولايتهم الصوفية : ... 98
مراتب الولاية عند الصوفية ... 100
القطب الغوث واحد في الزمان فقط ... 102
وظيفة القطب ... 103
الأبدال السبعة ووظائفهم ... 103
مدة حكم القطب ووظيفته ... 104
ابن عربي القطب الأعظم ... 105(1/474)
ختم الولاية ... 105
ابن عربي وختم الولاية ... 107
ذكر الله تعالى باسمه المفرد(الله) ... 118
عقيدة التلقي من القبور ... 121
فضائل مكذوبة للأذكار الصوفية ... 125
الشطح الصوفي ... 127
قواعد التربية في المنهج الصوفي ... 134
الفناء الصوفي ... 145
الطرق الصوفية ... 152
نشأتها: ... 152
معنى الطريقة الصوفية ... 155
الباب الثاني ... 161
الفلسفة الإسلامية ... 161
الفصل التمهيدي ... 161
المبحث الأول ... 161
التباين بين الفلسفة والعقيدة الإسلامية ... 161
المبحث الثاني:الفائدة من دراسة الفلسفة الإسلامية ... 165
دخول الفلسفة اليونانية بلاد المسلمين ... 166
المبحث الثالث:التوفيق بين الفلسفة والدين عند بعض فلاسفة الإسلام ... 167
المبحث الخامس:أسباب رفض المسلمين الفلسفة اليونانية ... 186
ثانيا:الأسباب العقلية لرفض الفلسفة اليونانية ... 189
الفصل الأول ... 191
منهج الفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى ... 191
المبحث الأول:تصور الفلاسفة للوجود ... 191
المناقشة ... 193
المبحث الثاني:أدلتهم في إثبات وجود الله تعالى ... 194
الدليل الخامس:دليل استحالة كون العالم علة ذاته ... 214
الفصل الثاني ... 217
قدم العالم عند الفلاسفة ... 217
المبحث الأول:قول الفلاسفة بقدم العالم ... 217
المبحث الثاني:أدلة الفلاسفة على قدم العالم ومناقشتهم في ذلك ... 221
الدليل الأول:العلّة التامة ... 222
المناقشة ... 224
الدليل الثاني:قدم الزمان ... 228
المبحث الثالث:أدلة السلف على حدوث العالم ... 235
المبحث الثالث:موقف الفلاسفة من الصفات الإلهية ... 251
أولاً -القول بنفي الصفات ... 251
ثانيا:موقفهم من الصفات الواردة في الكتاب والسنة ... 256
مناقشة دعوى المجاز في صفات الله التي جاءت في القرآن والسنة ... 261
ثالثا:إثباتهم صفات لم يرد بها الشرع ولم يدل عليها العقل ... 270
الفصل الرابع ... 303
مسلكهم في إثبات التوحيد ... 303(1/475)
المطلب الثاني:معنى الوحي عنده ... 323
المطلب الثالث:النبوة ضرورية واواجبة ... 326
المطلب التاسع:خصائص النبوة ... 345
الفصل السادس ... 354
عقيدة البعث عند الفلاسفة ... 354
الإيمان بالبعث: ... 354
المطلب الثاني:إنكار الفلاسفة الإسلاميين للبعث الجسماني ... 358
1- ابن سينا وعقيدة البعث ... 359
معتمد الفلاسفة في إثباتهم للبعث الروحاني دون الجسماني ... 366
أدلة المنكرين البعث الجسماني ... 368
نقض مزاعم المنكرين للبعث الجسماني ... 369
حكم الإسلام في منكر البعث الجسماني ... 374
الفهرست ... 376(1/476)