حقيقة النفاق
وأنواعه
في ضوء الكتاب والسنة
وفهم سلف الأمة
إعداد :
علي رمضان أبو العز
غفر الله له ولولديه ولسائر المسلمين
مقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء و المرسلين ،وعلى آله وصحبه ومن اتبعه إلى يوم الدين وبعد
فإن الإنسان متى ما وفقه الله تعالى وهداه إلى الدخول في الإسلام فإنه قد تخطى بذلك عقبة كؤودا في طريقه إلى رضوان الله تعالى عز وجل حيث قال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)1.
وبعد الدخول في الإسلام، ستكون هناك عقبة أخرى لابد لكل مسلم أن يتجاوزها لكي يتم إيمانه وهى التي جاءت في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)2 ،وهذه العقبة هي عقبة الريبة والشك التي إن توقف عندها المسلم وقع في النفاق دون أن يشعر، ومثله في ذلك كالطالب الذي تم قيده في إحدى كليات الجامعة، فهو منتسب إليها، ولكنه لا يواظب على حضوره فيها، ولا يستعد لاختباراتها فهو وإن كان منتسبا إليها، كان كمن هو خارجها لأنه لا يهتم بأمور دراسته بها، ومن هنا فقد راودتني فكرة تأليف هذا الكتاب منذ سنوات عديدة، عندما لاحظت عدم اهتمام أغلبية المسلمين في هذا الزمان بأمور عقيدتهم عامة وبحقيقة النفاق بصفة خاصة وتربى على ذلك الصغير، وهرم على جهلها الكبير، وسبب ذلك الاكتفاء بالمناهج الدراسية التي لم تتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل اللازمين ، وأود أن أشير إلى أن الإصرار على عدم معرفة الحق وبذل الجهد في سبيل تحصيله يوقع حتما صاحبه في الزلل مصداقا لقول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه …ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه(1/1)
ورضى الله تعالى عن الصحابي الجليل امين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان الذي نبهنا إلى هذه الحقيقة في الحديث المشهور عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتن فقال رضي الله عنه : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى........... الحديث3
وأغلبية المسلمين في هذا العصر: إذا سألتهم عن النفاق والمنافقين قالوا إن النفاق هو إظهار الإسلام واخفاء الكفر، دون إبداء الأسباب الحقيقية لهذا التعريف، وحين نقرأ بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن المنافقين مثل قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)4، وتساءلنا إن كان هؤلاء يخفون الكفر ويظهرون الإسلام فلماذا يأتون إلى الصلاة وهم كسالى ؟ أليس بإمكانهم الإدعاء كذبا أنهم قد صلوا في رحالهم؟.
وإذا قرأنا في سورة المنافقين قوله عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لآ يَفْقَهُونَ)5، علمنا إجابة السؤال السابق، أن المنافقين قد دخلوا في الإسلام حقا ثم كفروا لوقوعهم في إحدى شُعب الكفر التي سيأتي بيانها فيما بعد، وإذاً فإن هناك نوع آخر من النفاق غير الذي نعرفه، وهذه الحقيقة غابت عن بعض مناهج التعليم في هذا العصر لانها مناهج تعتمد في جزء كبير منها على تفسير أمور العقيدة بالرأي والعقل وتأويل اللغة وتنأى عن الاعتماد على كتاب الله عز وجل، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين.(1/2)
هذا، ولقد جمعت ما يسّره الله تعالى لي من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وآثار السلف واجتهاداتهم في المسألة، فوجدتها ولله الحمد والمنة قد تطابقت واتفقت مع ما كنت أرجو من الوصول إلى حقيقة النفاق ، ولست أزعم أن جميع ما في هذه الدراسة صواباً فليس من معصوم إلا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فإذا صح شيء من هذا البحث فبتوفيق من الله عز وجل وما زل منه فمن نفسي ومن الشيطان واسأل الله عز وجل السداد في القول والعمل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل الأول
معنى النفاق في اللغة والشرع
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله تعالي : لفظ النفاق قد قيل ، أنه لم تكن العرب تكلمت به ولكنه مأخوذ من كلامهم فإن نفق يشبه خرج ومنه نفقت الدابة: إذا ماتت -خرجت منها الروح- ، ومنه نافقا واليربوع (حيوان صحراوي يقوم بكتم احد جحريه ويظهر غيره ) ، والنفق في الأرض قال تعالى: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)6 ، فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطنا بعد دخوله فيه ظاهراً، وقيد النفاق بأنه نفاق من الإيمان، ومن الناس من يسمي من خرج عن طاعة الملك نافقا عليه، لكن النفاق الذي في القرآن هو النفاق على الرسول صلى الله عليه وسلم، فخطاب الله ورسوله للناس بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها وهو خطاب مقيد خاص لا مطلق يحتمل أنواعاًً7. انتهى كلامه رحمه الله.(1/3)
والنفق كما هو معلوم في عصرنا الحاضر هو سرب في الارض او الجبل له مدخل ومخرج، والإسلام هو الطريق الذي يسلكه من أسلم وإذا استمر فيه على شرع ومنهاج الله عز وجل ، فإنه يؤدي به إلى الإيمان ، ثم إلي الإحسان ، ثم إلي لقاء الله عز وجل في الجنة ، وهناك من يدخل الإسلام بالشهادتين، وقد يصلي، ويزكي، ويحج بيت الله الحرام ،ويصوم شهر رمضان، ولكنه يخرج من الإسلام عن طريق شُعب الكفر المعروفة في القرآن والسنة النبوية الشريفة ومنها: كفر الشك ،أو كفر الجحود، أو كفر الاستكبار، أو كفر الاستهزاء... إلى آخره، والصنف الأغلب والذي نحن بصدده هو كفر الشك في أحد أركان الإيمان الست وما يتعلق بها وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وهذه حالة النفاق التي وردت بشأنها أغلب الآيات القرآنية التي تحدثت عن النفاق، وأما النفاق الذي سببه التظاهر بالدخول في الإسلام خوفا من القتل أو السبي أو طمعا في مغانم المسلمين فقد وردت بشأنه آيات قليلة بالنظر إلى آيات النفاق كلها وسنستعرضها بالتفصيل في الفصول اللاحقة بإذن الله تعالى والله الموفق.
الفصل الثاني
نفاق الخوف من القتل أو السبي(1/4)
وهذا النوع من النفاق يختص بمعظم المنافقين الذين كانوا يقيمون خارج المدينة فمنهم من أسلم في مكة ولم يهاجر إلى المدينة مع المقدرة على ذلك، ومنهم من أسلم من الأعراب حول المدينة وخارجها وهم الذين أظهروا الإسلام عند لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعوا إلى قبائلهم عادوا الى الكفر، وإنما أظهروه أمام المسلمين خوفا من القتل أو السبي وهؤلاء ، وأولئك نزل فيهم قول الحق تبارك وتعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً. وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا. إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)8، تتحدث الآيات السالفة عن المنافقين خارج المدينة وتنهي المؤمنين عن موالاتهم، أو مصادقتهم حتى يحققوا إيمانهم المزعوم بالهجرة، والجهاد في سبيل الله ،وإذا أعرضوا عن ذلك فقد أمر الله عز وجل المؤمنين أن يأخذوهم ويقتلوهم حيث وجدوهم، ولا يستنصروهم ،ولا يستعينوا بهم حتى ولو بذلوا للمؤمنين الولاية والنصرة ويستثنى من هؤلاء المنافقون الذين يلجأون إلى قوم عاهدوا المسلمين فدخلوا بينهم بالحلف، فحكمهم حكم أولئك في حقن دمائهم، كما يستثنى أيضا من(1/5)
القتل المنافقون الذين ضاقت صدورهم من قتال المسلمين وقتال قومهم من الكفار والمشركين، فهم قوم ليسوا مع المؤمنين ولا عليهم، ومن لطف الله عز وجل بالمؤمنين أن كف أذاهم عن المسلمين، فإن لم يتعرضوا لقتال، وانقادوا أو استسلموا للمسلمين فليس للمسلمين أن يقاتلوهم ما سالموهم، وهذه الآيات ، قال في تفسيرها أبو السعود:هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا أو نكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم9.
وأمثال هؤلاء إذا خرقوا عهدهم للمسلمين ولم يكفوا أيديهم عن قتالهم فان الله عز وجل أباح للمسلمين قتلهم لقيام الحجة الواضحة على غدرهم وخيانتهم.
وهذا النوع من المنافقين هو نوع مؤقت مثله كمثل نفاق الدخول في الإسلام للمنفعة وللكسب المادي، وخاصة بعد قيام دولة الإسلام ،وانتشار الدين فلا إكراه في دخوله لمن لم يدخله حقاً ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه عن هذا الصنف أن هؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطلقاء [الذين أسلموا عند فتح مكة]، وقد يبقى من فساق الملة ومنهم من يصير منافقاً مرتابا،ً10 أي يتحول إلى نفاق الشك والارتياب وهذا النوع الأغلب من النفاق وموضوع هذا البحث والله من وراء القصد.
الفصل الثالث
نفاق الريبة والشك في القرآن الكريم(1/6)
يمثل هذا النوع من النفاق أكثر المنافقين الذين ورد بشأنهم أغلبية الآيات القرآنية الخاصة بالنفاق، وكذلك الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين، وسبب استثناء هذه الفئة بهذا القدر الكبير في الشريعة الإسلامية ، أنها هي الفئة المستمر وجودها إلى يوم الدين، والتي أشرنا في الفصل السابق الى أن الأنواع الأخرى من النفاق يتحول إما إليها، أو إلى الإيمان، أو إلى الفسوق بمرور الزمن، وهذا الصنف هو الذي وردت فيه أول آيات النفاق في القرآن الكريم في سورة البقرة حيث يقول عز من قائل: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ. وَإِذَا لَقُواْ الَّذِين آمَنُواْ قَالُواْآمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ الى شياطينهمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ, أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ(1/7)
عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ . أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)11، ثلاث عشرة آية نزلت في منافقي الريبة والشك وقد نزل قبلها أربع آيات في المؤمنين وآيتان في الكافرين، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على التنبيه إلى عظيم خطر وضرر المنافقين, كما يدل ذلك أيضاً على أن هذا القدر من الآيات لم ينزل في فئة محددة انتهت بانتهاء عصر النبوة، وإنما في فئة يمتد وجودها إلى قيام الساعة وفيما يلي تفسير الكلمات التي تظهر وتبين منافقي الريبة والشك.
1- العمه الوارد في كلمة يعمهون تعني التحير والتردد في الشيء قال الفخر: العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة وهو التردد والتحير، لا يدري أين يتوجه12.
2- قال البيضاوي رحمه الله في تفسير الآيات السالفة: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة، وأبغضهم إلى الله ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم13.(1/8)
وفي الآيات السالفة بيان لجهل المنافقين، فظنهم أن مجرد نطقهم بالشهادتين وادعاء اليقين بالله واليوم الآخر، سيُكتب لهم النجاة كامتحانات الدنيا التي لا يشترط فيها التصديق والإيمان بالإجابة الصحيحة لأسئلة الامتحان، فهم يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك وما علموا أن الله عز وجل لا يخدع لأنه لا تخفى عليه خافية، وفي قوله تبارك وتعالى :(وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) أي لا يحسون بذلك، ولا يفطنون إليه لتماديهم في غفلتهم، ويُستفاد من ذلك أن عدم الشعور بالنفاق لا يعذر صاحبه عند الله عز وجل ، وفي قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ، أي في قلوبهم شك ورجس فزادهم الله رجسا فوق رجسهم وضلالا فوق ضلالهم، قال ابن أسلم هذا مرض في دينهم وليس مرض في الجسد وهو الشك الذي اضلهم في الإسلام فزادهم رجسا وشكا 14.
وفي قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال الفخر الرازي والتشبيه في الآيات في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا، ثم بنفاقهم أبطلوا ذلك النور وأطفأوه، ووقعوا في حيرة عظيمة لأنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لخسران انفسهم أبد الآبدين15.
والمتدبر لقول الله عز وجل : (ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين) ، يتبين له أن الشك الحادث للمنافقين إنما هو حادث في وقوع يوم البعث والحساب ، فإنهم يقرون بوجود الله عز وجل، حالهم في ذلك الكفاروالمشركين الذين قال الله عز وجل فيهم :(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالآرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)16.(1/9)
فالمنافقون يعتقدون وجود الله عز وجل، ويشكون في يوم القيامة، وشكهم ذلك بمثابة النفاق الاعتقادي المؤدي الى الكفر بالله عز وجل ، ولذا كان اليقين باليوم الآخر، والاستعداد له هو الفيصل بين المؤمنين والمنافقين، كما سنفصل فيما بعد إن شاء الله.
وفي سورة آل عمران يقول الله عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)17.
وما زلنا في سياق آيات القرآن الكريم التي تؤكد نوع النفاق القائم على الريبة والشك وتتحدث الآيات سالفة الذكر عن المنافقين الذين دُعوا الى القتال مع المسلمين في غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها بقضاء الله وقدره ليتميز المؤمنون من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين تخاذلوا في يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجعوا، وكانوا نحواً من ثلاثمائة رجل ، فقال لهم المؤمنون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا ، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا ، فقال لهم المنافقون لو نعلم قتالا لاتبعناكم ولكن لا نظن أن يكون هناك قتال، وهذا يرجع إلي شكهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وريبهم في أمر الآخرة، ولذا قال الله عز وجل بعدها مباشرة "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان " أي بقولهم هذا صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان.(1/10)
وفي سورة النساء يقول الله عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُراءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً .مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)18.
تؤكد الآيات سالفة الذكر حال منافقى الريبة والشك المتذبذب، وأن أعمالهم يشوبها التردد وعدم الإتقان، ولذا قال الله عز وجل :(وإذا قاموا للصلاة قاموا كسالى)، أي يصلون وهم متثاقلون متكاسلون، ولم يأت بمعنى أنهم يتظاهرون بأداء الصلاة ، فيدل ذلك على أنهم يصلون فعلا، ولكن لشكهم في الثواب والعقاب، فإنهم يؤدونها بتردد وتكاسل ، كما أنهم يذكرون الله ولكن قليلا للسبب نفسه، ثم جاء قوله تعالى: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا)، أي لا ينتسبون إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين نتيجة لشكهم في الإيمان بالله واليوم الآخر.
وفي سورة التوبة يقول الله عز وجل: (لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)19.
وتؤكد الآيات نفاق الريبة والشك في منافقى المدينة، ومعناها إنما يستأذنك يا محمد في عدم الخروج معك الى غزوة تبوك المنافقون الذين لم يثبت الإيمان في قلوبهم وشكّوا في ثواب الله فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون 20.
الفصل الرابع
نفاق الريبة والشك في السنة النبوية(1/11)
إن اليقين بثوابت الإيمان والعمل بموجبه هو الفيصل بين المؤمنين والمنافقين بل هو الفيصل بين الإيمان والكفر مصداقا لقول الله عز وجل : (قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّماَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ)21،قال ابن كثير رحمه الله: هم شاكون في وقوعها ووجودها.
وقال عز من قائل : (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)22.
ولما كانت السنة النبوية الشريفة قد جاءت مؤكدة ومفصلة لآيات الله عز وجل فإننا سنورد من الأحاديث الصحيحة المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يؤكد ذلك ويرسخه في أذهاننا،قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثةً لا تسأل عنهم رجل ينازع الله إزاره ، وإزاره العز،ورجل في شك من أمر الله والقنوط من رحمة الله 23.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله يرجع ذلك إلى قلب موقن إلا غفر الله له 24.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل المنافق كمثل الشاه العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع 25.
وهذه الأحاديث توضح بجلاء أن المنافق ليس بالضرورة أن يكون كافرا في الاصل ويتظاهر بالإسلام، بل إنه قد دخل الإسلام حقا ،ثم توقف عند الريبة والشك في أحد ثوابته فكان ذلك هو كفره (كفر الشك) فهو غير متيقن أي الفريقين على الحق.(1/12)
قال النبي صلي الله عليه وسلم: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل , فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو محمد رسول الله , جاءنا بالبينات والهدي فأجبنا وأمنا وأتبعنا هو محمد (ثلاثاً) فيُقال له نم صالحاً، قد علمنا أن كنت لموقناً به، وأما المنافق أو المرتاب ،فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته26، وفي حديث أخر بنفس بالمعني ، وفيه زيادة: يقال للرجل الصالح في قبره فيم كنت؟ فيقول كنت في الإسلام، فيقال له من هذا الرجل؟ فيقول محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه، فيقال له :هل رأيت الله ؟ فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله ، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له أنظر إلى ما وقاك الله تعالى ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلي زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك ويقال له علي اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تُبعث إن شاء الله ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشعوفاً فيقال له: فيم كنت فيقول لا أدري فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول سمعت الناس يقولون قولاً فقلته فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: أنظر إلى ما صرف الله عنك ثم يفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال: هذا مقعدك, على الشك كنت،وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يعذب 27.
ومن هذه الأحاديث، وغيرها يتضح أهميه اليقين بالآخرة وما بها من حساب وعقاب، وجنة، ونار، وأن ذلك هو الفيصل بين المؤمن والمنافق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بصلاة المنافق ؟ ان يؤخر العصر حتى اذا كانت الشمس كثرب البقرة - أي على وشك الغروب - صلاها1(1/13)
ويفيد هذا الحديث أن المنافق يصلي ولكن صلاته ينقصها الإتقان والأداء في وقتها مع الجماعة فهي إذن صلاة دون اليقين بجدواها نتيجة لشكه وارتيابه في ثوابت الإيمان.
والاستمرار على ذلك الشك حتى الموت يحول بين صاحبه وبين النطق بكلمة التوحيد عند الوفاة مصداقاً لقول الله عز وجل : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ).2
الفصل الخامس
النفاق مستمر إلى يوم القيامة
يعتقد الكثير من الناس أن النفاق قد زال بزوال عهد النبوة وهؤلاء الذين يفهمون النفاق على أنه الدخول في الإسلام خوفاً من السبي أو القتل أوطمعا في غنائم المسلمين، ولأن الناس في عصرنا الحاضر لا يرون جهادا، أو غزوا في سبيل الله، فإن النفاق الذي يفهمونه قد انتهي إلى يوم القيامة، وغاب عن أذهان هؤلاء أن الشك والريبة هما سببا النفاق المستمر إلى يوم القيامة، و ها نحن نرى في عصرنا الحاضر ما يدل على ذلك من خلال المظاهر التالية:-
1- الاستهزاء والسخرية من اليوم الآخر.
2- الإهمال الشديد في أداء أركان الإسلام مثل الصلاة والزكاة والحج.
3- عدم الاهتمام بأمور الآخرة وتحري الحلال من الحرام.
4- عدم الاستعداد للرحيل من الدنيا، والاغترار بطول البقاء فيها.
5- عدم الاهتمام بعلوم الدين والعقيدة، والاكتفاء بما يدرس من مناهج التعليم.(1/14)
والدليل على استمرار النفاق إلى يوم القيامة هو ما ورد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامات الساعة والفتن التي ستقع قرب يوم القيامة ومنها قوله: فتنة الأحلاس هرب وحرب ، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدم رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني ، وليس مني وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ،ثم فتنة الدهماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة ، فإذا قيل انقضت تمادت ، ويصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافراً حتى يصير الناس إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه ، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه حتى إذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من يومه أو غده)28.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه مؤكداً استمرار النفاق: النفاق أنواع وشُعب كثيرة وليس نوعا واحد كما أن كثيراً من المتأخرين يغفلون عنها، وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد في هذا المقام ، فإن كثيراً من المتأخرين ما بقى في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل وفاسق، وأعرضوا عن حكم المنافقين -ظنا منهم أن عهد النفاق قد انتهي، ومضى زمنه- ،والمنافقون ما زالوا، ولا يزالون إلى يوم القيامة، والنفاق شُعب كثيرة وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم29. وصدق القائل :
مازال فينا ألوف من بني سبأ يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا
مازال لابن سلول شيعة كثروا أضحى النفاق لهم سمتا وعنوانا
الفصل السادس
النفاق درجات(1/15)
يعتقد كثير من الناس خطأ أن المنافقين هم صنف واحد ليس له أي علاقة بالمسلمين المؤمنين ، وهذا ليس صحيحاً علي إطلاقه، فالنفاق درجات، والايمان ايضا، وحينما يصل النفاق إلي أعلي درجة يكون الإيمان في أقل درجة والعكس صحيح، والمسلم قد يكون في قلبه إيمان ونفاق تختلف درجتهما باختلاف الفرد والمنافق المحض هو الذي بلغ النفاق فيه أكبر حد حتى تلاشي الإيمان لديه وانعدم، وهذا النوع من المنافقين الذي قلبه أسود، وهذا الذي يكون في الدرك الأسفل من النار، ولهذا كان الصحابة يخشون علي أنفسهم من النفاق ولم يخافوا التكذيب لله ورسوله، فإن المؤمن يعلم من نفسه أنه لا يُكذب الله ورسوله يقينا وهذا مستند من قال أنا مؤمن حقاً فإنه أراد بذلك ما يعلمه من نفسه من التصديق الجازم، ولكن الإيمان ليس مجرد التصديق بل لابد من أعمال قلبية تستلزم أعمالاًظاهرة كما تقدم فحب الله ورسوله من الإيمان وحب ما أمر الله به وبُغض ما نهي عنه وهذا من أخص الأمور بالإيمان.30
ولذا أخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن في أصحابه اثني عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط31، وهكذا كان فهم الصحابة رضوان الله عليهم، فقد رُوي عن حذيفه رضي الله عنه أنه قال: القلب أربعة، قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح ،وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه سراج يُزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق فمَثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب ومثل النفاق مثل قرصة يمدها قيح ودم فأيهما علا عليه غلب 32.
وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه موافقاً لقول الله عز وجل: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) 33، فقد كان مثل ذلك فيهم نفاق مغلوب فلما كان يوم أحد غلب نفاقهم فصاروا إلي الكفر أقرب.(1/16)
كما رُوى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب فكلما ازداد العبد نفاقاً ازداد القلب سوءاً، حتى إذا استكمل النفاق اسود القلب، وايم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب المنافق والكافر لوجدتموه أسود، وقال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، ولهذا قال يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فعُلم أنه من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخُلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق فهو يعذب في النار علي قدر ما معه من ذلك ثم يخرج من النار.
لهذا فإن واجب كل من دخل في الإسلام الخوف علي نفسه من النفاق أسوة بأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهم من خير البشر، فقد روي عن الحسن رضي الله عنه قوله عن النفاق : ماخافه الا مؤمن ولاأمنه الا منافق، كما قال أيضا : ما مضى مؤمن قط ولا بقى الا وهو من النفاق غير آمن، وما مضى منافق قط، ولا بقى الا وهو من النفاق آمن، وروي البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكه قال أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق علي نفسه ما منهم أحد يقول: إيمانه كإيمان جبريل.
الفصل السابع
الصفات القولية والفعلية للمنافقين
الاول: خُلف العهد مع الله عز وجل:-(1/17)
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: آيه المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان،34 وفي رواية لمسلم وإن صام وصلي، وزعم إنه مسلم وأغلبية الناس يطبّقون هذا الحديث فقط علي معاملات البشر بعضهم لبعض وينسون أن يطبقوه علي علاقة البشر بربهم، وإن من أكبر أنواع الكذب وخُلف الوعد، وخيانة الأمانة هو نقض عهد الله وميثاقه، وعدم الإذعان لأوامره، فإن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، تلزم كل من أتي بها أن ينفذ ما أمره الله ورسوله به، وأن ينتهي عن ما نهي الله ورسوله عنه قال تعالي: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ. وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) 35، قال الفخر الرازي رحمه الله: نبّه الله تعالي علي إنهم إنما يُعرضون متي عَرفوا أن الحق لغيرهم أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الأعراض وأذعنوا ببذل الرضا36، وما النفاق إلا عقاب من الله عز وجل لكل من أخلف عهده معه قال تعالي: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ(1/18)
اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ).37
الثاني: التكاسل عن أداء الصلاة وحضورها مع الجماعة:-
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أثقل الصلاة علي المنافقين صلاه العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حِزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار38.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقي الله غداً مسلماً فليحافظ علي هذه الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي، وإنهن من سنن الهدي، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلي مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.39
الثالث: الاعتماد علي سعة رحمة الله عز وجل دون تقديم العمل الصالح:-(1/19)
قال الله تعالي: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ. يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ،40 قال قتادة: مازال -المنافقون- على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم،41 وقال المفسرون الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإنسان قال تعالي: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً).
الرابع: الإعراض عن الاستغفار والتوبة:-(1/20)
يظن المنافقون أنهم لم يفعلوا ذنوباً تستوجب التوبة والاستغفار منها، وهذا أيضاً من الاغترار والجهل بأسماء الله وصفاته، فكما أنه جل شأنه غفور رحيم، فإنه شديد العقاب لمن استهان بعذابه، ويؤكد ما سبق قول الله عز وجل عنهم: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون)، أي إذا قيل لهؤلاء المنافقين هلموا إلي رسول الله حتى يطلب لكم المغفرة من الله عز وجل حرّكوا رءوسهم استهزاءاً واستكباراً معرضين عما دعوا إليه ،وقال تعالي عنهم أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)،42 وقد رُوي عن عبد الله ابن مسعود أنه قال: (المؤمن يري ذنبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يري ذنبه كذباب وقع علي أنفه فقال به هكذا)،أي ذبّه وطيره بحركة يديه، رواه البخاري.
الخامس: قلة ذكرهم لله عز وجل:-
إن المنافقين يشكّون في جدوى ذكر الله وفي مكانته عند الخالق عز وجل، ولقد قرر رسول الله صلي الله عليه وسلم: أن الدعاء هو العبادة43 في أكثر من حديث صحيح، وأفضل الدعاء الذكر, قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير44.(1/21)
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أفضل الذكر: لا إله إلا الله وأفضل الدعاء: الحمد لله،45 وسبب قلة ذكر المنافقين لله عز وجل أنهم سلموا قيادهم للشيطان، ولأنفسهم الأمارة بالسوء فأوصلهم ذلك إلي نسيان ذكر الله عز وجل قال تعالي عنهم: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)46، أي استولى علي قلوبهم وتملك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم ويستنيروا بشرعه في حياتهم.
السادس: عدم فهمهم للقرآن ،وعدم تدبرهم له:-
إن من نتائج الشك في اليوم الآخر، ونكث عهد الله ورسوله في عدم طاعتهما ،هو أن الله عز وجل قد أنزل عقوبته علي المنافقين فجعلهم في غشاوة مستمرة إلي يوم البعث والحساب، مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالي: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) 47.
إذا فالمنافق يمكن أن يقرأ القرآن أو يُقرأ عليه ولكنه لا يعمل بموجبه بسبب الغشاوة التي تمنعه من فهمه وتطبيقه ، لذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر -المنافق- الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ،ومثل الفاجر -المنافق- الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظله طعمها مر ولا ريح لها 48.(1/22)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إن من المنافقين من يصدق أنه كلام الله وأن الرسول حق ولا يكون مؤمنا،كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وليسوا بمؤمنين، وكذلك إبليس، وفرعون ،وغيرهما، لكن من كان كذلك لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة، فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه لا محالة.
السابع: عدم إيمانهم بقضاء الله وقدره وسقوطهم عند المحن:-
إن الإيمان بالقدر خيره وشره هو أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إيمان المسلم إلا بها،فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لو أن الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ،وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت علي غير هذا لدخلت النار49، والمنافقون يعبدون الله علي حرف ويسقطون من أول محنة يتعرضون لها قال تعالي: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)50 ، قال الحسن رضي الله عنه: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه51، وهذا حال كثير من منافقي هذا الزمان إذ أنهم إذا أنعم الله عليهم بالمال والخير الوفير شكر في الإسلام وأشاد به، وإن أصابته فاقة في المال والولد تهجم علي الدين وأهله، ولجأ إلي معصية الله ورسوله ،فحاله حال من قال الله تعالي فيهم: (فَأَمَّا الاِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)52، وحالهم حال من قال الله تعالي عنهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي(1/23)
اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ. وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) 53.
الثامن: السخرية والاستهزاء بالمؤمنين:
قال تعالي: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزءُونَ. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)54 .
قال الطبري: بينما رسول الله صلي الله عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: انظروا إلي هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت الآية، ثم كشف أمرهم، وفضح حالهم وفي رواية أخرى قال المنافقون: ما رأينا مثل قراؤنا هؤلاء (أي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه) ،أكذب ألسنا ولا أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء، فنزلت الآيات سالفة الذكر والمنافقون في كل زمان ومكان معروفون باستهزائهم بالمؤمنين الملتزمين بشرع الله عز وجل وكذلك استهزاؤهم في ثوابت وأركان الإيمان مثل الجنة والنار لأنهم لا يدركون أن تلك الأركان واقعة لا محالة وأن استهزاءهم بها مسجل عليهم، وستشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يفعلون.
التاسع: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف:-(1/24)
سبق أن ذكرنا بأن المنافقين قد استحوذ عليهم الشيطان وقبلوا سيطرته علي عقولهم، وقلوبهم إتباعا لشهواتهم وتصوروا أن الحدود التي فرضها الدين قيودا علي حرياتهم وتصرفاتهم فانقلبت معايير الأمور لديهم، فأصبح المعروف لديهم منكرا، والمنكر معروفا، قال الله عز وجل فيهم :(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)55، ولأن المنافقين يحبون المنكر، ويكرهون المعروف، فإنهم يكرهون ظهور الحق واستعلائه علي الباطل مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالي: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ).56
العاشر: موالاة الكفار من دون المؤمنين:-(1/25)
إن المنافقين لا يثقون في وعد الله بتمكين المؤمنين في الأرض مصداقاً لقوله تعالي: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)،57 وغالبا يكون المؤمنون الاقل في القوة المادية من أعدائهم ويعتمدون في مواجهاتهم لأعدائهم بعد أخذ الأسباب ،علي تأييد الله عز وجل ونصره لهم، كما يشهد بذلك تاريخ المسلمين منذ الهجرة النبوية الشريفة إلي المديتة المنورة ، إلى انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن المنافقين لا يؤمنون بغير الماديات، وتبهرهم القوة المادية، ولا يقيمون للإيمان بالله تعالي، واليقين بنصره للمؤمنين وزنا مصداقا لقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)58، ولذا فإنهم يوالون الكفارالأقوى ماديا اعتقادا منهم بأن العزة في موالاتهم والانحياز إلي صفوفهم قال عز وجل: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا)59.
الحادي عشر: حرصهم علي المكاسب الدنيوية العاجلة وزهدهم في مكاسب الآخرة:-
قال تعالي: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)60.(1/26)
ذكر الله عز وجل موقف المنافقين المثبطين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ويبين لنا أنه لو كان سفرا قريبا سهلا لخرجوا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ليخرجون لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة، ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ،ولذا اعتذروا عن الخروج وسيحلفون للمؤمنين معتذرين بأعذار كاذبة بأنهم لم يقدروا علي الخروج بسبب هذه الأعذار، ولكن الله عز وجل أبطل دعواهم وفضح كذبهم حيث أنهم كانوا يستطيعون الخروج ولم يخرجوا، ورد الله عز وجل هذا السبب إلي شكهم وترددهم وهذا هو مرضهم الذي لازمهم حتى أوردهم موارد الهلاك61،ومثل هذا الطبع والصفة تتكرر مع المنافقين في كل زمان ومكان، فتجدهم يزهدون اشد الزهد في طاعة الله وبذل الجهد والمال في سبيل الله ، بينما هم لا يفرطون في مكسب مادي سيزول حتما، إما بانقضاء حياتهم الدنيوية،أوبنفاذه كما ينقذ زاد المسافر، ويبذلون من أجله الجهد والعرق وربما يهلكون أنفسهم من أجله، ولقد أكد ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: أثقل الصلاة علي المنافقين صلاه العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا،62فالتقاعس عن الطاعات سمة ملازمة لهم .
الثاني عشر: التحاكم إلي غير شرع الله تعالي:-(1/27)
إن شرع الله عز وجل لا يجامل ولا ينحاز إلي فئة دون فئة، فهو الحكم العدل والميزان الحق، والمنافقون يكرهون التحاكم إلي شرع الله لأنه يتعارض مع أهوائهم، وشهواتهم الدنيوية، وعادةً ما يشككون في جدوى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ويتحججون بكثرة الفساد في المجتمع ،وأنه في حال تطبيق الشريعة الإسلامية، فإن القصاص سينال أغلبية الناس، ونسوا أو تناسوا أن الفوضى العارمة في أغلب المجتمعات، وغياب الأمن والأمان بها، إنما هو بسبب عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ،وذلك بشهادة بعض أعداء الإسلام إذ قال أحدهم: إني أعتقد أن رجلاً كمحمد صلي الله عليه وسلم لو تسلم زمان الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم لتم له النجاح في حكمه وقيادة العالم إلي الخير وحل مشكلاته علي وجه يحقق للعالم كله السلام والسعادة المنشودة، والحق ما شهدت به الأعداء، ويقول الله عز وجل في المنافقين نافيا عنهم الأيمان: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا).63
الثالث عشر: التشكيك في طهارة المجتمع الإسلامي واتهام المؤمنين بالفاحشة:-(1/28)
قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)64 فمن صفات المنافقين أنهم يضمرون كراهية الملتزمين شرع الله، وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم مصداقا لقوله تعالي فيهم: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)65، بل يتعدى كرههم للمؤمنين إلي اتهامهم بالفحشاء حقدا وحسدا علي التزامهم، وليس أدل على ذلك، من اتهامهم لأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها بالفاحشة، قال الفخر الرازي: الإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء فقد أجمع المسلمون علي أن المراد ما أفك به علي عائشة رضي الله عنها وهي زوجة المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.66
وهكذا هو حالهم في كل زمان ومكان بل أن بعضهم ذهب إلى اتهام الصحابة ومنهم أفضل الناس بعد الأنبياء بالكفر والردة وما كان ذلك إلا لتغلغل سرطان النفاق في عقولهم وقلوبهم والله المستعان.
الرابع عشر: حبهم للترف، والرياء، وكراهية الأنفاق في سبيل الله:-(1/29)
إن شك المنافقين في الآخرة جعل الدنيا في نظرهم هي أكبر همهم, لذا فهم يجمعون من أجلها المال ويكرهون الإنفاق في سبيل الله وأداء زكاه أموالهم اعتقادا منهم بأن المال سيضمن لهم طول البقاء في الدنيا ،واذا فعلوا شيئا من أعمال البر فعلوها رياء وسمعة، لذا قال الله تعالي عنهم: (ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم واذا قامو للصلاة قامو كسالى يراءون الناس ولايذكرون الله الا قليلا )،67 وقال عز من قائل: (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)،68 وهذا هو حال المنافقين في كل زمان ومكان، فإنهم يكنزون المال حتى تتراكم ،ويبخلون في أداء حق الله فيه ثم يفاجئهم الله عز وجل بالموت فتنحسر أنفسهم علي ما كنزوه ثم يكون وبالا عليهم يوم القيامة، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب، ولا فضه لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم فيكوي بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنه حتى يقضي بين العباد فيري سبيله اما إلي الجنة واما إلى النار.69(1/30)
الخامس عشر :سهولة الحلف المغلظ ،والحنث فيه:- قال تعالي عن المنافقين: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)70، أي حلف المنافقون بالإيمان المغلظة (لئن أمرتهم ليخرجن) أي للجهاد، قال مقاتل لما بَين الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه (صلي الله عليه وسلم) أتوه فقالوا لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا ،وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت الآية قل لا تقسموا، أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة (طاعة معروفه)، أي طاعتكم لله ورسوله معروفة، فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل،71 وهذا هو حال المنافقين في كل زمان ومكان فهم يحلفون دائما لأرضاء من يستمع إليهم ثم ينكثون عهدهم وقت التنفيذ ويتحججون بحجج واهية للتنصل من الوعود التي قطعوها وأكدوها بأيمانهم المغلظة.(1/31)
السادس عشر: الخوف من الموت أو القتل وكراهية الجهاد في سبيل الله:-سبق أن ذكرنا بأن المنافقين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره ويعتقدون إمكان الفرار من الموت أو القتل لمجرد الهروب منه والتخلف عن ساحات القتال،قال الله تعالى عنهم: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)72، ولذا فإن المنافقين يفزعون دائماً من أي تهديد، قال تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)،73 أي يظنون لجبنهم وهلعهم كل نداء، وكل ضرر أنهم يرادون به، فهم دائماً في خوف، ووجل أن يهتك الله سترهم، ويظهر أسرارهم،قال ابن كثير رحمة الله: كلما وقع أمر أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم،74 لذا فانهم يكرهون الجهاد في سبيل الله ،ويتخلفون عنه كلما دعوا إليه، وفي سورة الأحزاب ما يؤكد ذلك بقوله سبحانه وتعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْه من الموت فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا)75.(1/32)
السابع عشر: نشر التشكيك والأراجيف عن ضعف المسلمين:- لقد تأصلت في المنافقين عادة نشر الأكاذيب والأراجيف لبلبلة الأفكار ونشر أخبار السوء، والإشاعات منذ قديم الزمان وإلى قيام الساعة ومهما مرت بالمسلمين من لحظات ضعف وهوان، فإن الله عز وجل ضمن لهذه الأمة البقاء والنصر في النهاية على أعدائهم, قال الله تعالى: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا)76،قال القرطبي رحمه الله سن الله عز وجل فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل،77 ويستفاد من الآية أن النفاق مرض قديم وكان في عهد الأنبياء قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيستمر إلي يوم القيامة.(1/33)
الثامن عشر: حسدهم للمؤمنين الملتزمين بشرع الله عز وجل:- إن المنافقين يكرهون الخير للمؤمنين، ويتمنون لهم الشر، حسداً وبغضاً لهم وقد نبه الله عز وجل المؤمنين إلي ذلك البغض والحسد كي يكون المؤمنون علي بينة من أمر هؤلاء المنافقين، ولا يتخذونهم أولياء يلقون إليهم بالمودة، قال تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ. هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)78.(1/34)
ويبين الله عز وجل مدى كراهية المنافقين الشديدة للمؤمنين وظهور إمارات العداوة لهم علي ألسنتهم وما يبطنونه للمؤمنين من البغضاء أكثر مما يظهرونه بالرغم من انخداع بعض المؤمنين بالمنافقين، وظنهم بهم خيراً وإذا خلت مجالسهم منكم (أي من المؤمنين) عضوا أطراف أصابعهم من شدة الحنق والغضب لما يرون من ائتلافكم وهو كناية عن شده الغيظ (قل موتوا بغيظكم) وهو دعاء عليهم أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلي أن تموتوا،79 وقوله تعالي (إن تمسسكم حسنه تسؤهم)، أي إن أصابكم ما يسركم من رخاء وغنيمة ونحو ذلك ساءتهم (وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)، أي أن أصابكم ما يضركم من شدة وهزيمة سرهم ذلك (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) ،أي أن صبرتم علي أذاهم واتقيتم الله في أقوالكم وأعمالكم لا يضركم مكرهم وكيدهم (إن الله بما يعملون محيط)، أي هو سبحانه عالم بما يدبرونه لكم من مكائد فيصرف عنكم شرهم ويعاقبهم علي نياتهم الخبيثة80.
التاسع عشر: عدم القناعة برزق الله :-
إن المنافقين في حالة دائمة من النهم وحب الاستزادة من متاع الحياة الدنيا لأنهم يرون أن الدنيا هي نهاية المطاف، فلا يقنعون فيها بما رزقهم الله تعالي من فضله، كما أنهم لا يؤمنوا بأن الأرزاق والآجال مكتوبة منذ الأزل وحتى يرث الله الأرض وما عليها، لذا فإن جل اهتمامهم بما سيكسبونه في هذه الحياة الدنيا فقط، قال تعالي: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ)81، وهكذا هو حال المنافقين في كل زمان ومكان فهم يتسخطون على رزق الله ولا ينظرون لمن هو أدني منهم ولكن ينظرون إلي ما هو أغني منهم فاحتقروا نعمة الله عليهم.(1/35)
العشرون: سهوله التلفظ بكلمات الكفر والفسوق:-
إن المنافقين لا يقدّرون مدي خطورة ما يلفظون به من ألفاظ الإستهانة بالدين والعقيدة فتجدهم كثيراً ما يستسهلون احتقار الدين ،أو تكفير المؤمنين الملتزمين بشرع الله ،وقد يتلفظ المرء بكلمة هي من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً، أو ابعد ما بين المشرق والمغرب ،كما ورد ذلك فيما رُوي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يري بها بأساً، يهوي بها سبعين خريفاً في النار82، وهذا الطبع في المنافقين ذكره الله تعالي في سورة التوبة: (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)83.
الفصل الثامن
موقف المسلم من وساوس الشك والريبة(1/36)
إن تعرض المؤمن لوساوس الشك والريبة أمر وارد ،ولا يوجب الخوف من الوقوع المحظور، إلا إذا توقف عندها ،وبني أفعاله وأقواله علي ذلك الشك، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وكثيرا ما تعرض للمؤمنين شعبة من شعب النفاق ثم يتوب الله عليه، وقد يرد على قلبه ما يوجب النفاق، ويرفعه الله عنه والمؤمن يُبتلي بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قال الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه مالأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم ذاك صريح الإيمان وفي رواية ما يتعاظم أن يتكلم به قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة،84 ومعنى الحديث أن حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهية العظيمة له، ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان كما المجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه فهذا أعظم الجهاد الصريح.
ورُوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي،85 والخوف من عدم قبول العمل الصالح عند الله عز وجل هو من الأمور المندوب إليها، ما لم يصل ذلك الخوف إلى درجة اليأس والقنوط من رحمة الله وذلك مصداقاً لقول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)86، وفي هذا الشأن سألت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يا بنة الصديق بل هو الرجل يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويخاف أن لا يتقبل منه87.
الفصل التاسع
حكم المنافقين في المجتمع الإسلامي(1/37)
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن المنافقين: هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس، ويصومون، ويحجون ،ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم ،ولا نجد ذلك، بل لما مات عبد الله ابن أبي سلول وهو من اشهر الناس بالنفاق، ورثه ابنه عبد الله ،وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم من يورث، ورثوه مع المسلمين، فكان صلى الله عليه وسلم حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثيراً منهم وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه، قال تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)88.(1/38)
وقال الحافظ إبن رجب رحمه الله :بأن حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي قال فيه: أن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة، لها عند الله مكانة، فهي كلمه من قالها صادقاً أدخله الله بها الجنة، ومن قالها كاذباً حقنت ماله ودمه، ولقي الله غداً محاسبه،89 وقد استدل بهذا من يرى قبول توبة الزنديق وهو المنافق إذا أظهر العود إلى الإسلام ولم يٌر مثله بمجرد ظهور نفاقه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين بنفاق بعضهم ، وهذا قول الشافعي، وأحمد في رواية عنه وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء، والله أعلم،3 والمؤمنون مأمورون بالإعراض عمن ظهر نفاقه بالفعل أو بالقول، إعراض مقت واجتناب وعدم إظهار المودة لهم مصداقاً لقول الله عز وجل: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)1، ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم2، وفي اعتزال مجالس المنافقين التي يُستهزأ بآيات الله فيها قال الله سبحانه وتعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)3. 90
الفصل العاشر
طرق الوقاية من النفاق(1/39)
تبين فيما سبق خطورة النفاق ،ومصير كل من يقع فيه يوم القيامة الذي هو مستقبل البشرية، وسائر المخلوقات، وإن لم يتم يتخذ المرء أسباب الوقاية اللازمة من ذلك المرض وأعراضه فلا شك من الوقوع فيه حتماً وخاصة مع ازدياد الغفلة والجهل في الدين واللذين هما في اطراد كبير مع مرور الزمن, وصدق القائل:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
وسنستعرض فيما يلي: الطرق المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم للوقاية من هذا المرض الفتاك:
الاول: قطع الشك باليقين في أركان الإيمان الست وما يمت لها بصلة:(1/40)
فقد علمنا بأن الشك والريبة هما المحركان الرئيسان لمرض النفاق ولا يتم التغلب عليهما إلا بدوام التدبر، والتفكر في عجيب صنع الله في خلقه وليكن قائد المسلم في ذلك هو قول الله عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لاوْلِي الألباب. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)91 ،وفي أكثرمن آيه في كتاب الله الكريم نجد حض المسلم على دوام التدبر في إعجاز الخالق سبحانه وتعالى وتدبر القرآن واستشفاف الإعجاز العلمي واللغوي والتشريعي فيه. وعلى المسلم أن يهتم بجانب اليقين في البعث بعد الموت لأنه مدار الفرق بين المؤمنين والكفار، والمنافقين، ولا تتعجب أخي المسلم بأن السبب الرئيس لخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وهذا الخلق المعجز جعله الله عز وجل سببا لليقين في البعث بعد الموت فقد قال عز من قائل: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)92.(1/41)
وعلى كل من دخل في الإسلام أن يعلم أن سلاح إبليس ضد بني آدم منذ خلقه إلى قيام الساعة هو التشكيك في البعث بعد الموت، حيث قال عز وجل: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)93، وقال تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ. قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُون فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ)94.
ولابد للمسلم أن يعلم أن عدم الإيمان أو الشك في الآخرة هو بمثابة التكذيب لله عز وجل، وهو شعبة من شعب الكفر المخرجة عن ملة الإسلام ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث القدسي: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا.95
وانظر أخي المسلم كيف قرن الله عز وجل ذنب التكذيب باليوم الأخر مع الإدعاء بأن الله عز وجل قد اتخذ ولدا تعالي الله عما يقولون علوا كبيرا.(1/42)
وإن من ثمار اليقين باليوم الأخر والشعور بقربه مصداقا لقول الحق تبارك وتعالي: (انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) ،هو نجاة صاحبه من الوقوع في النفاق، ويكون سببا للخشية من التقصير في عبادة الله، تلك الخشية التي تدفع المؤمنين للاستزادة من العمل الصالح ،وتخوفهم من الوقوع في أي معصية لله وإن صغرت فالعبره ليست بصغر المعصية ولكن العبرة بعظم من يُعصي، والخوف من الله عز وجل في الدنيا هو طوق النجاة من الخوف في يوم البعث ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث القدسي الذي يقول المولي عز وجل فيه: (وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي)96.
إن الدليل علي عدم الشك والارتياب في اليوم الآخر هو الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله بالمعني الشامل للجهاد، فكل طاعة جهاد، وكل إمساك عن معصية جهاد، والبذل بالمال في أوجه الخير والصدقة جهاد،والقتال في سبيل الله جهاد ، وهذا مصداقا لقول الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)97.
الثاني: العلم بأضرار النفاق:-(1/43)
إن النفاق من أهم أسباب إحباط العمل، كما أنه هو السبب الرئيس لعذاب القبر، وشدة الموقف يوم القيامة، والولوج في نار جهنم أعاذنا الله من ذلك فقد، قال الله تعالي : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاِئكةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ. وَلَوْ نَشَاء لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)98.
ولقد علمنا فيما سبق بأن المنافق أو المرتاب حين يسأل في القبر، فيقول ها ها لا أدري كنت سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، ويري مقعده من النار، ثم يعذب، وأما في يوم البعث، فقد علمنا الفصل بين المؤمنين الموقنين ،وبين المنافقين المرتابين بسور له باب باطنه من دونه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ويقع المنافقون في ظلمة حالكة، ويستنجدون بالمؤمنين لانتظارهم والاستبصار بنورهم، فلا يُمكّنهم الله عز وجل من ذلك،والأحاديث والآيات الواردة في عذاب المنافقين في النار معروفة سبق ذكرها.
الثالث: كثرة ذكر الله وقراءة القرآن وتدبره:-(1/44)
إن من أهم صفات المنافقين كما علمنا ،هي قلة ذكرهم لله عز وجل، وعدم تدبرهم للقرآن الكريم قال تعالي: (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً)99، وقال تعالي: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً)،100وفي المقابل جاء تحذير الله عز وجل لعباده المؤمنين من عاقبة الانشغال بمتاع الدنيا عن ذكر الله عز وجل ومن العجيب أن يأتي هذا التحذير في سورة المنافقين مما يفهم منه أنكم أيها المؤمنون إن انشغلتم عن ذكر الله، فإنكم ستقعون في النفاق قال تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)101، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحاً فوائد قراءة القرآن وذكر الرحمن : قراءة القرآن علي الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم وتزيده يقينا، وطمأنينة، وشفاء، قال تعالي: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيد الظالمين إَلاَّ خَسَارًا )102، وقال تعالي: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)103، وقال تعالي: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)104، وذكر الله بمفهومه الأعم يشمل المواظبة علي أذكار الصباح والمساء من أحاديث السنة النبوية الشريفة والمحافظة علي الصلاة في أوقاتها مع الجماعة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة واجتناب المحرمات، وفعل الطاعات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرضا بقضاء الله وقدره ،وحمده علي نعمه ،والدعاء ، والتوبة ،والاستغفار، كل ذلك من ذكر الله عز وجل الذي ينجي صاحبه من عذاب النار، مصداقا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما عمل آدمي عملا أنجي له من عذاب الله من ذكر الله،105 ومن اهم(1/45)
فرائض الذكر القولي والفعلي التي تنجي صاحبها من مرض النفاق المحافظة علي الصلاة مع الجماعة في المسجد وإدراك تكبيرة الإحرام مصداقا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق،106 وما افضل أن يجعل المسلم مضمون هذا الحديث هدفا لحياته فيكون في محاولة مستمرة لإدراك هذه الصلاة، حتى تكتب له البراءتان، فيفوز بدخول الجنة، وذلك هو الفوز العظيم.
الخاتمة
لكل من يهمه أمر هذا الدين أتقدم بهذا الجهد المتواضع مؤكدا بأنني لم آت بشيء جديد فالآيات، والأحاديث النبوية الصحيحة، وما ذكر من أثار الصحابة الموقوفة، والمرفوعة وآراء أهل العلم في موضوع النفاق والواردة في هذا البحث إنما هي موجودة منذ بزوغ شمس البعثة إلى زماننا هذا، وستبقي باذن الله تعالي إلي ما شاء الله بحفظه لهذا الدين مصداقا لقوله جل شأنه :(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) 107.(1/46)
وأني لأهيب بالمخلصين من هذه الأمة ممن ولاّهم الله عز وجل أمانة وضع المناهج الدينية أو البرامج الإعلامية الإسلامية المسموعة والمرئية،والدعاة في سبيل الله ، ان يوضحوا حقيقة النفاق وإزالة غبار الغفلة المتراكم عبر عقود من الزمان مما أدي إلى اندثار هذه الحقيقة, حتى تعرضت أجيال وأجيال للوقوع في هذا المرض المهلك الذي يسبب خسارة الإنسان المسلم لدينه ودنياه, فما لم تحدث صحوة تزيل هذا الغبار كان في الآخرة فئام من هذه الأمة مقولتهم ما ورد في كتاب الله عز وجل :(ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)108، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الذين قالوا (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم علي شيء)109، أي المنافقين وأملنا في الله كبير أن يتم تصحيح مفهوم النفاق في المناهج التعليمية والإعلامية والله الموفق إلي سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفهرس
1- المقدمة..................................................................1
2- معني النفاق في اللغة والشرع...........................................5
3- نفاق الخوف من القتل أو السبي..........................................7
4- نفاق الريبة والشك في القرآن الكريم....................................10
5- نفاق الريبة والشك في السنة النبوية......................................17
6- النفاق مستمر إلي يوم القيامة.............................................21
7- النفاق درجات............................................................23
8- الصفات القولية والفعلية للمنافقين.........................................26(1/47)
9- موقف المسلم من وساوس الشك والريبة.................................47
10- حكم المنافقين في المجتمع الإسلامي....................................49
11- طرق الوقاية من النفاق.................................................52
12- الخاتمة.................................................................62
المراجع
1- صحيح البخاري..............................................للإمام البخاري.
2- صحيح مسلم.....................................................للإمام مسلم.
3- الموطأ...........................................................للإمام مالك.
4- سنن ابن ماجه...............................................للإمام ابن ماجه.
5- سنن أبى داود................................................للإمام أبي داود.
6- سنن الترمذي................................................للإمام الترمذي.
7- مسند الإمام أحمد.......................................للإمام أحمد بن حنبل.
8- كتاب الإيمان........................................لشيخ الإسلام ابن تيمية.
9- جامع العلوم والحكم................................للحافظ ابن رجب الحنبلي.
10-صحيح الجامع الصغير وزيادته.................للشيخ محمد ناصر الألباني.
11- تفسير ابن كثير...........................................للحافظ ابن كثير.
12- تفسير القرطبي.............................................للإمام القرطبي.
13- تفسير الألوسي..............................................للإمام الألوسي.
14- تفسير البيضاوي..........................................للإمام البيضاوي.
15- التفسير الكبير.........................................للإمام الفخر الرازى.
16- صفوة التفاسير.................................للشيخ محمد علي الصابوني.
1 آل عمران 85
2 الحجرات 15(1/48)
1 رواه البخارى.
1 التوبة 54.
2 المنافقون 3
1 الأنعام 35.
2 كتاب الإيمان لابن تيميه.
1 النساء ( 88- 90).
1 مختصر تفسير إبن كثير 1/ 422.
1 كتاب الإيمان.
1 البقرة 8- 20.
1 التفسير الكبير للفخر الرازي.
2 تفسير البيضاوي 1/11.
1 مختصر تفسير ابن كثير.
2 صفوة التفاسير.
1 العنكبوت 61.
2 آل عمران 166- 167.
1 النساء 142- 143.
1 التوبة 44- 45.
2 صفوة التفاسير.
1 النمل 65- 66.
2 الجاثية 32- 33.
1 رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني.
2 رواه أحمد وإبن حبان وحسنه الألباني.
3 رواه مسلم وأحمد وصححه الألباني.
1 متفق عليه
1رواه الدارقطني والحاكم وصححه الالباني.
2 سبأ54
1 رواه أحمد وابو داود وصححه الألباني.
2 كتاب الإيمان لأبن تيميه.
1 كتاب الإيمان لابن تيميه.
2 رواه مسلم وأحمد وصححه الألباني.
3 رواه أحمد وصححه الألباني.
4 آل عمران 167.
1 متفق عليه.
1 النور 47- 51.
2 التفسير الكبير 54/4.
3 التوبة 75-77.
4 متفق عليه.
1 رواه مسلم.
2 الحديد 13-15.
3 تفسير الخازن.
1 النساء 64.
1 رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني.
2 رواه مالك وحسنه الألبانى.
3 رواه الترمذي وابن حبان.
1 المجادلة 19.
2 الإسراء 45-46.
1 صحيح الجامع الصغير 5839.
1رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
2 الحج 11.
3 القرطبي 12-17.
4 الفجر 15-16.
5 العنكبوت 10- 11.
4 التوبة 65- 66.
1 التوبة 67-68.
2 التوبة 48.
1 النور 55.
2 محمد 7.
3 النساء 138-139.
1 التوبة 42.
2 صفوة التفاسير.
1 متفق عليه.
1 النساء65.
2 النور11.
1 النساء 89.
2التفسير الكبير.
1 النساء 142 .
2 التوبة 85.
3 رواه مسلم وأبو داود وصححه الألباني
1 النور 53.
2 تفسير الألوسي.
1 آل عمران 168.
2 المنافقون 4.
3 مختصر تفسير ابن كثير 3/504.
4 الأحزاب 18-19.
1 الأحزاب 60- 63.
2 تفسير القرطبي 14/247.
1 أل عمران 118- 120.
2 تفسير القرطبي (1/183).
1 صفوة التفاسير.
2 التوبه 58- 59.(1/49)
1 رواه الحاكم والترمذى وصححه الألباني.
1 التوبة 74.
1 رواه أحمد 1/ 235 بسند صحيح.
1 صحيح الجامع 675.
2 المؤمنون 60- 61.
3 رواه الترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
1 التوبه 101.
2 رواه البزار عن عياض الأنصاري.
3 جامع العلوم والحكم.
1 التوبة 94-95.
2 رواه أحمد وأبوداود.
3 النساء 140 .
1 آل عمران 190- 191.
2 الرعد 2.
1 سبأ 20- 21.
2 الصافات 51- 61.
3 رواه البخاري 4327.
1 صحيح الجامع 4332.
2 الحجرات 15.
1 محمد 25-30.
1 النساء 142.
2 النساء 82.
3 المنافقون 9.
1 الأسراء 82.
2 البقرة 2.
3 التوبة 124.
4 رواه أحمد وصححه الألباني.
5 رواه الترمذى وحسنه الألباني.
1 الحجر 9.
1الأنعام 23- 24.
2 تفسير القرطبي 17/305.
??
??
??
??
14(1/50)