يا لئيم
أبو جلال محمد جلال القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً }[ الأنعام :من الآية 112]
ويقول الله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }[ الفرقان:31].
المقدمة ، وفيها : هكذا يتكلم بطرس اللعين على سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم :
يتكلم الكذاب اللئيم زكريا بطرس ـ ومثله كثير من النصارى ـ ، بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان شهوانيا لا همَّ له إلا النساء ، تزوج ستة وستين (66) امرأة غير سيدات المتعة(1) .!!
وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستولي على زوجات أصحابه بـ ( العافية ) أو بـ ( المحايلة ) ويعد من هؤلاء ـ الذين استولى عليهم بالعافية أو المحايلة ـ زينب بنت جحش وصفية بنت حيي وجويرة بنت الحارثة والفتاة الفزارية (2) ، ومن وقعت عينه عليها وأعجبته تحرم على زوجها في الحال (3).!!
يقول وقد أخذ تصريحاً بأن يتزوج من يشاء .
__________
(1) في الصميم الحلقة الخامسة عشر. د/24 ، وأسئلة عن الإيمان الحلقة 62 .د/9، وكرر ذات الكلام في الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/6،7 ، والحلقة 9 من برنامج حوار الحق د/ 23 وما بعدها وفي هذه الحلقة تفصيل لكذبه .وكرر ذات الكلام في الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/6،7.
(2) حوار الحق الحلقة التاسعة د/14، والحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/17، 18 ، أسئلة عن الإيمان الحلقة 94 د/14 ، أسئلة عن الإيمان الحلقة 95 بداية الحلقة .
(3) حوار الحق الحلقة التاسعة د/15(1/1)
ويقول إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يطوف على نسائه كلهنَّ في ليلة واحدة (1) ، وكان يحض على النكاح ـ وهو يفسر النكاح بالجماع ـ ويقول النكاح من سنتي(2) ؛ وكان يباشر زوجاته وهن حائضات ـ ويتأفف عند ذلك ـ وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُقَبِّل زوجاته وهو صائم .!!
ويقول بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فناناً(3) ، وأنه يمكن استخراج كتاب جنسي بعنوان ( من أقوال الرسول )(4) ـ قبَّحه الله ـ .
ويقول أنه كان يعجب من الدنيا بثلاثة أشياء ( النساء والطيب والطعام ) ثم يعلق قائلا باللهجة العامية المصرية ( الشيء ولزوم الشيء ، يعني هيجيب طاقة من فين للنساء إلا لمّا يملاها تمام ) .(5)!!
ثم يختم قائلا أن هذا كله قليل من كثير ولكنه سكت عن هذا الكثير لأن ذكره ـ أي الرسول صلى الله عليه وسلم ـ قبيح .!!
قبَّح الله بطرس ومن قال بقول بطرس .
ويقول أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان قتّالا يقتل المعارضين من النساء والرجال .. لا صبر له على المخالف .. أيا كان هذا المخالف رجلا كان أو امرأة ، صغيرا كان أو كبيرا .. يقتل بأبشع الطرق (6) .هكذا يقول هذا الكذوب .
هذه هي الصورة التي يرسمها بطرس للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتَّالٌ للرجال مِزْواج للنساء ، ويسأله المذيع مرة في برنامج أسئلة عن الإيمان : ألم يكن في محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير ؟
فأجاب : بلى . كان فيه خير ، كان يداعب زوجاته ، يغتسل هو وعائشة في ( طشت ) واحد ، ويجري ورائها وتجري ورائه .. يرشها بالماء وترشه بالماء .. !! .
__________
(1) حوار الحق الحلقة التاسعة د/19
(2) حوار الحق الحلقة التاسعة د/ 21:36
(3) حوار الحق الحلقة التاسعة د/ 21:36
(4) حوار الحق الحلقة التاسعة د/21:40
(5) حوار الحق الحلقة التاسعة د/17
(6) الحلقة 37 من أسئلة عن الإيمان د /4 ، وما بعدها ، وكل هذه الحلقة على هذا النحو . وهو كلام يردده كثيرا .(1/2)
هذا هو الخير الذي وجده في سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .!!
( وقفه :
قال أحدهم بعد أن اطلع على ما يقوله بطرس : حقدَ على شخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزع منه كل خير ، ومعلوم بالبديهة أن شخصا أقام أعظم دولة في التاريخ لا زالت موجودة إلى اليوم ، وشخص حظي بكل هذا الحب والهالة من التعظيم والتقدير ، ولا زال أتباعه يحبونه إلى الآن أشد من حبهم لأنفسهم لن يكون بهذه الصورة .فأخو الخنا لا يسوس الناس ولا يقود الجيوش ، ولا يقيم الدول ، والغليظُ القتال ضيقُ الصدرِ لا يحبه الناس.. يهابونه ثم يلعنونه بعد موته ، أما هذا فحبيب لا زال . نفديه بالنفس والأهل والمال .ويكفي هذا للتدليل على كذب بطرس . ولكن نزيد الأمر بياناً حتى نشفى صدور المؤمنين ، ونرد الحاقدين ، ونهدي الحيارى الشّاكين .
( السؤال :أحقا ما قال بطرس ؟
: أبدا ، ولا شيء مما قال بطرس حقٌ .
: من أين له بهذا الكلام إذا ؟
: بالكذب المباشر ، أو بالكذب غير المباشر .. يقطع النص من سياقه العام ويفسره من رأسه ، أو يعتمد الضعيف والشاذ وما لا يصح من الأحاديث وأقوال العلماء .
: وضح كلامك .
: حاضر . أوضحه ولكن دعني أقدم شيئا بين يدي إجابتي عن رسالتي هذه .
( لماذا الكتابة ثانية للرد على بطرس ؟
كان البحث الأول والذي طبع تحت عنوان ( الكذاب اللئيم زكريا بطرس ) يستهدف شخص هذا الآفاك الأثيم ، يبين للناس كذبه ، ثم تبين أن أقواله منشورة في كل مكان ، وإن كان هو مقدمتهم ، ولو أظهرنا كذبه للناس وانصرفوا عنه فلا مانع أن يأتي آخر ويتكلم بذات الكلام ، فنحتاج للرد عليه ثانية ، وهكذا ، لن ينتهي الموضوع ، ولذا عُدتُ ثانية أكتب من جديد .(1/3)
والكذاب اللئيم زكريا بطرس ، يستخدم مفردات الباحثين وهو أبعد الناس من نزاهة البحث العلمي ، فلا مصادر صحيحة ، ومنهج معتدل في التعامل مع النصوص ، ولا أي شيء مما يقره أهل البحث العلمي ، ثم هو يدعي أنه باحث في الكتب الصحيحة ، وأنه وأنه .. الخ .
والحقيقة التي لا تخطئها عين أن هذا الرجل يتعمد إيصال عددٍ المفاهيم إلى الناس ، يلفها في ثوبٍ كثوب البحث العلمي ثم يقدمها للعامة فيغترون بها وبه .. يقولون بحث وباحث ، ومن ثم يقبلونها .
ولذا رأيت أن أكتب هذا البحث أعالج قضاياه ( مفاهيمة ) التي يحاول إيصالها للناس حول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحول الشريعة الإسلامية ؛ أقف على الطرق التي يسلكها بطرس أردُّه من حيث جاء وأكشف للسائرين خلفه بأنهم قد ضلوا الطريق ، حين ساروا وراء هذا الكذاب اللئيم ، وآخذ بأيدهم ـ بحول الله وقوته ـ إلى صراط الله المستقيم . صراط الذين أنعم عليهم من الأولين والآخرين .
كيف تتكون شبهات النصارى ؟
في هذا الفصل :
ـ الكذب الصريح .
ـ بتر النص من سياقه العام ، وتفسيره بمقدمات عقلية أو عرفية .
ـ اعتماد الضعيف والشاذ وما لا يصح من الأقوال .
ـ البعد الجنسي في شبهات النصارى .
ـ نصيحة لكل من يسمع شبهة من شبهات النصارى .
(الطرق التي تكون بها شبهات النصارى .
باستقراء شبهات النصارى التي يتكلمون بها بألسنتهم في البالتوك أو الفضائيات أو في التسجيلات المنتشرة على الشبكة العنكبوتية ، يتضح لنا أن شبهات النصارى تتكون بثلاثِ طرقٍ رئيسية(1) وباقي الطرق فرعٌ على هذه الثلاث :
(الطريقةُ الأولى : الكذبُ الصريحُ .
(الثانية : بتر النص من سياقه العام ـ القولي أو الفعلي ـ ثم استخدامُ مقدماتٍ عقليةٍ أو عرفيةٍ لتفسيره(2) .
__________
(1) هذا ما انتهيت إليه من استقراء شبهات القوم .
(2) والحقيقة أن هذا مذهب عام عند كل أهل الباطل . وليس النصارى وحدهم .(1/4)
(الثالثة : اعتمادُ الضعيفِ والشاذِ وما لا يصح من الحديثِ وأقوالِ العلماءِ ، وتصديرُه للناس على أنه حديثُ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقوالُ علماءِ المسلمين .
هذه هي الطرق الرئيسية التي تتكون بها شبهات النصارى . وبقليل من التمعن .نجد أن الطريقةَ الثانيةَ والثالثةَ ترجع للأولى ... وهي الكذب الصريح . إذ أن بترَ النص من سياقه العام ـ القولي أو الفعلي ـ ثم استخدام مقدماتٍ عقليةٍ أو عرفيةٍ لتفسيره(1) نوع من الكذب . وكذا اعتمادُ الضعيفِ والشاذِ وما لا يصح من الحديثِ وأقوالِ العلماءِ ، وتصديرُه للناس على أنه حديثُ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقوالُ علماءِ المسلمين نوع من الكذب أيضا .
فيمكننا أن نقول في جملة واحدة أن شبهات النصارى تتكون بالكذب . هذا هو طريقها . . الكذب المباشر أو الكذب غير مباشر . وهاك البيان .
(أولا : الكذب الصريح .
وأضرب الأمثال ليتضح المقال ، :
ـ وقَفَتْ إحداهنَّ تتكلمُ بصوتٍ تخنقه العبارات ، تحدث إخوانها عن محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول : إن محمدا ـ وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَم ـ كان يتمنى أن يؤمنَ بعقيدةِ التثليث وكان يصرخُ بأعلى صوته ويقول : ((قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)(2) (الزخرف : 81 ) ولكنه ـ هي تقول ـ للأسف لم يجد من يقنعَه بعقيدة التثليث ولو وجد لآمن من فوره وانتهت المشكلة .!! هذا قولها .
ماذا تريدُ هذه المرأة ؟
تريد أن تقولَ لقومها أن سبب كفرِ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنصرانية هو أنه لم يجدْ من يُحَدِثه بها . !!وأنه كان يجهلُ هذا الأمر ، ولو عرفه لآمن به من فوره . إذًا المشكلة ليست عدم قناعة بالنصرانية ولكن جهلٌ بها .
__________
(1) والحقيقة أن هذا مذهب عام عند كل أهل الباطل . وليس النصارى وحدهم .
(2) كانت تنطق العابدين بالرفع تقول ( العابدون ) ، وما أحببت أن أكتبها مغلوطة .(1/5)
وهي تكذب . ولا شك في هذا . تكذبُ وهي تعلم أنها تكذب . فذاتُ الآيات التي نقلت منها تتكلمُ عن المسيح عيسى بنِ مريمَ عليه السلام وتقررُ أنه عبدُ الله ورسوله بأسلوبٍ صريحٍ لا لبس فيها ولا غموض ، وبأقوى أدوات الحصر ( النفي والاستثناء ) . ( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) (الزخرف : 59 ) .
وأيضا معلومٌ عند كلِّ قساوسة النصارى بل وعامتِهم أن القرآن الكريم نفى أن يكون لله صاحبةً وولدا ، هذا كلام مشهورٌ يعرفه العامة فضلا عن الخاصة ، فكيف يقال أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجهله.
وأيضا : مشهورٌ جدا عند قساوستهم وعامةِ المهتمين منهم أن وفدا من نصارى نجران جاؤوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وناظروه وناظرهم وأبهتهم . ونصارى نجران تكلموا بألوهية المسيح عليه السلام ، واحتجوا بمثل ما يحتج به نصارى اليوم . وهم ـ نصارى اليوم ـ يستدلون ببعض الآيات التي نزلت في نصارى نجران في بعض شبهاتهم . فكيف يقال أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجهل النصرانية ولم يجد من يحدثه عنها .
وأيضا : مشهور ومعلوم جدا أن في القرآن الكريم سورة باسم آل عمران ، ومنهم ـ من آل عمران ـ مريمُ ابنةُ عمران أم المسيح عليه السلام .
وفي سورة آل عمران آيات طوال تتكلم عن المسيح عليه السلام .. عن مولده وعن معجزاته وعن تكذيب بني إسرائيل له. وعن خطأ من اتبعوه ، وقالوا أنه إله من دون الله ، أو إله مع الله ، أو أنه هو الله .
فإذاً لا يمكن أن يقال إلا أن هذه المرأة تكذب وهي تعلم أنها تكذب . فقط لتضل قومها . وقد حاول أحدُ الحضور الرد عليها ولكنها لم تسمع . لماذا ؟
لأنها لا تريد الحقَ ابتداء وإنما فقط تكذب لتضلَّ قومها .
( مثال آخر أبين به أن أحدى الطرق الرئيسية التي تتكون بها شبهات النصارى هي الكذب المباشر .(1/6)
ناهد متولي تدعي أنها كانت مسلمةً ، وأنها كانت تحفظُ القرآن ، وتقيمُ الليل ، وبلغت في الإسلام أعلى الدرجاتِ الروحانية . واسمع ماذا تقول لتعلم أي كذوب هي .
وقفت في إحدى المناظرات تقول : أنا استدل بما ورد في ابن كثير والقرطبي والطبري وكذا وكذا .... ولم أذهب لمصحف مسيلمة وأنقلُ منه ، ولو ذهبت إليه ونقلت منه لرأيتم عجبا عجابا . قرآن مسيلمة ـ الكلام لها ـ وما أدراك ما قرآن مسيلمة ؟! يدحض كلَّ ما جاء به محمدٌ ـ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ـ (1). !!
هذا قولها وهو موجود بصوتها .( في صفحة ردود صوتية على شبهات النصارى بموقع طريق الإسلام ) . وأسألكم بالله : هل سمعتم أن لمسيلمة مصحفا أو قرآنا يتلى ؟!
وإنّ كلَّ من قرأ عن الإسلام ساعة يعلم أنها كذوب .فمسيلمةُ كذابٌ من يوم كان ، ولم تكن له دعوةٌ ولا أتباعٌ بالمعنى المعروف ، وإنما خرج في قبيلته ( بني حنيفة ) وتعصبوا له حميةً ، حتى قال قائلهم ذاتَ مرة وهو يخاطب مسيلمة هذا في وجه ، قال له : أعلم أنك كذاب وأن محمدا صادقٌ ولكن كذابُ ربيعة أحب إلينا من صادق مضر .
والسؤال : هل أمسكت هذه المرأة بمصحفٍ لمسيلمةَ في يدها ؟(2)
أبدا . وإن كان فأين هو ؟ . لم نسمع به من قبل ، ولم تراه عين .
فهي تكذب ، وهي عند نفسها كاذبة . تكذب وهي تعلم أنها تكذب . فقط لتضلَّ قومها .
__________
(1) هذا الكلام في حوار لها شهير مع الشيخ أبي عبد الرحمن الرشيدي ، وهو منشور في صفحة ردود صوتية على شبهات النصارى بموقع طريق الإسلام
(2) بنص الكتاب المقدس يعتبر مسيلمة الكذاب أحد الأدلة على صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعندهم أن الأدعياء الكذبة يموتون قتلى ولا يكتب لهم النصر في هذه الحياة ، وهو ما حدث لمسيلمة الكذاب وغيره من الأدعياء ، أما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد مات على سريره وهو محفود محشود قد دانت له العرب وخافته العجم . صلى الله عليه وسلم(1/7)
ولا تحسب أنها صادقة في أنها استدلت بابن كثير والقرطبي والطبري ، بل كذبت في هذا أيضا ، فهي تبتر النص ، وتأتي بالضعيف والشاذ ومالا يصح وتقول هو قول العلماء ، وما هو بقول العلماء .وسيأتيك في هذا البحث ـ إن شاء الله ـ مزيد بيان.
(مثال رابع يبين كيف أنهم يكذبون كذبا صريحا فيما يتكلمون به .
ـ كبيرهم شنودة وقفَ ذاتَ مرةٍ يُغْمضُ عينيه ، ويعقدُ جبهتَه ، يكسوه قبحُ المعصية ، وقف يخاطب جموع قومه من السذج يقول لهم ـ والمحاضرة مسجلة متداولة ـ إن الإسلام يذم نوعا واحدا من النصارى ، وهم الذين قالوا بان لله ابنا ، ويتلوا عليهم الآيات التي تقول بهذا .مثل قول الله تعالى { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً . أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً . وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] .
أما نحن ـ هو يعني ومن على شاكلته من الأرثوذكس ـ بنص القرآن لسنا على خطأ، لأننا لا نقول بأن الله اتخذ صاحبة ولا ولدا . وإنما نقول بأن المسيح هو عين الله ، وتعالى ربنا وتقدس عما يقول شنودة ومن معه . والمسلمون يعادوننا لأنهم لا يعرفون دينهم . هكذا يتكلم .
أرئيتم كيف يكذب على قومه ؟!(1/8)
القرآن يذم نوعين من النصارى من قالوا بأن لله صاحبة وولدا ، ومن قالوا بأن الله هو المسيح بن مريم . والقرآن صريح في ذلك ، قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة : 72 ). وكِلاهما قد ذم اللهُ في سورة واحدة في آيات متجاورة ، فكيف قرأ شنودة هذه ولم يقرأ تلك ؟؟!!
لا بد أنه قرأهما معا ، وتعمَدَ الكذب ليضل قومه .
لا بد أن من يقرأ هذه الآية يقرأ الأخرى معها . فهما متجاورتان . وذم كل النصرانية معلوم من الدين بالضرورة عند عامة المسلمين وعامة النصارى .
ومحاسبة القائل علي إمكانية علمه بالأمور والمسائل قاعدة ثابته عند كل العقلاء .. وهي ما يقال عنها عند الأصوليين قاعدة إمكانية العلم . والشاهد أن شنودة يكذب وهو يعلم أنه يكذب فقط ليضل قومه .
( مثال خامس على أنهم يتعمدون الكذب المباشر من أجل إضلال الناس :
منهم من راح يبحث في الإسلام عشرين عاما(1) ـ إي والله وكنت أنا من يحاوره ـ وعاد ليقول أن الأمر كلَّه كذب ، فما كان محمدا ، وما وضَعَ القرآنَ إلا الأمويون ، وما حارب القرشيون إلا نكاية في الغسساسنة ورغبة في الاستيلاء على الشام ، وما استُعمل لفظُ المهاجرين إلا في القرن الثاني الهجري .
وأن عمر بن الخطاب سمي بالفاروق لأنه وحد العرب والفرس وقاتل بهم الروم ، فهو فرَّق بين الروم والعرب !!
انظروا إلى هذا الكذوب . إنه باحث . وإنه دكتور في ( الإسلاميات ) .!!
( حديثهم عن مصدر الوحي أمارة على كذبهم
__________
(1) يتواجد هذا الدعي الأفاك في غرفة ( ميكا ) ويدعى د . جون .(1/9)
يقولون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعلم هذا القرآنَ من بحيرى الراهب ، هذا قول النصارى ، واليهود يقولون تعلمه من الحاخام ( ألفونسو ) من بني إسرائيل ، وبعض المستشرقين ممن يسمون باحثين في التراث الإسلامي يقولون بأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعلم القرآن من نساءه وأصحابه . ومن ثم خلط شيئا من النصرانية بشيء من اليهودية بشيء من الوثنية فخرج بالإسلام .
وهذا الكلام كذبٌ محض . كل واحدة من هذه الأقوال كذب في نفسها . وبعضها يكذب بعض .
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التقى بحيرة الراهب وهو ابن سبعِ سنين ولفترةٍ قصيرةٍ جدا ، والحديث بينهما لم يستغرق دقائق معدودة ، وما جلس لورقة بن نوفل إلا دقائق معدودة أيضا وكانت بعد أن نزل عليه الوحي . هذا ما تقوله كل كتب السير والتاريخ الإسلامي . ليس هناك كتابٌ إسلاميٌ يقول بغير هذا الكلام . فكيف يكون قد تعلم كل هذا في لحظات ؟!
بل كيف تعلم أصلا وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[ الشورى:52] { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[ العنكبوت : 48] .
وإن كان تعلمه بلا قراءة ولا كتابه كيف سكت كل هذه المدة . ... حيث أنه لم يتكلم بالوحي إلا بعد أن تجاوز الأربعين من عمره ؟!
وأيضا في القرآن الكريم ذم للنصارى والنصرانية واليهود واليهودية . فمَن كتب هذا بحيرة أم ألفونسو ؟!(1/10)
( طبيعة القرآن الكريم والسنة النبوية تنفي أن يكون ورائها بشر ، حتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ما هية القرآن الكريم والسنة النبوية تؤكد أنها وحي من الله العليم الخبير ، وعلى سبيل المثال نقول : في القرآن الكريم والسنة النبوية إجاباتٌ عن أشياءٍ كانت تحدث ، ورصد لحوارات كانت بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه(1) وبينه وبين أعدائه(2) ، بل إن القرآنَ الكريم كلَّه مرتبط بالحدث ، مثلا ما نزل في أسئلة المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في مكة وإجابته عليها ، وما نزل في أمر الهجرة ، وما نزل في غزوة بدر ، وما نزل في غزوة أحد والأحزاب وخيبر والحديبية وفتح مكة وحنين . ويسعنا أن نقول أن القرآنَ الكريم كلُّه حتى التشريعي منه مرتبط بالحدث ، لم ينزل القرآنُ الكريم جملة واحدة ، بمعنى أن القرآن الكريم كان مع الأحداث ونزل جزءا جزءا . { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً }[ الإسراء : 106] .
__________
(1) {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ . ..يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ .... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ .... يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ .... يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ .. . وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ .
(2) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً }الكهف83
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }طه
105 {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا }النازعات42(1/11)
إمرأةٌ تجادل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمر حدث بينها وبين زوجها .. تجادله سرا لا يسمعها من في البيت ، وينزل القرآن { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ . الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [ المجادلة : 1 ـ 2 ] .
أين بحيرى من هذه ؟
سريّة تذهب في وديان الحجازي(1) ويحدث القتال في ليلة يُشك أنها من الشهر الحرام ، ويرجعون يتساءلون ، فينزل القرآن { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 217 ]
أين بحيرى من هذا ؟!
__________
(1) أعني سرية عبد الله بن جحش إلى ( نخلة ) ـ مكان شمال شرق مكة المكرمة ـ في رجب من العام الثالث للهجرة . أنظر الروض الأُنُف ج3/42 ، وانظر تفسير ابن كثير والطبري للآية 217 من سورة البقرة .(1/12)
والمنافقون يجلسون في ناحية من المسجد يغمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فينزل القرآن يتحدث بحالهم وما تكنه صدورهم . { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[ التوبة :79 ]
أين بحيرى من هذا ؟!
والمنافقون يتناجون سرا " يعدنا فتح فارس والروم وقد حصرنا ها هنا ، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته ؛ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا "فينزل القرآن يكشف أمرهم ويزيع في الناس سرّهم وسوء طويتهم . {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }[ الأحزاب : 12]
أين بحيرى من هذا ؟
وتضيع ناقة النبي فيرسل في طلبها ... يوم تبوك ... ويتغامز المنافقون : ( هذا محمد يخبركم أنه نبي ، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته ) ، يتحدث بها سرا في رحله ، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقول اليهودي وبمكان الناقة : ( إن رجلا يقول وذكر مقالته وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فأتوه بها )(1) .
أين بحيرى من هذا ؟!
عمير بن وهب الجمحي يجلس مع صفوان بن أمية في ناحية المسجد الحرام في مكة على بعد خمس مئة كيلو متر تقريبا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتناجيان سرا ، ويتفقان على قتل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، ويعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، ويُعلم عمير بن وهب (2)
أين بحيرى والفونسو ومن سموا أين هم مِن هذا ؟!
__________
(1) زاد الميعاد ج 3 / 467 ، وانظر سيرة ابن هشام ج2/523
(2) سيرة ابن هشام ج 1 / 661 ، الروض ألأُنُف ج3/113(1/13)
(وأحيانا كان يُسأل النبيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يجيب ومن ذلك {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[ الإسراء : 85 ]، يسكت حتى يأتيه الوحي . وأحيانا كان يفعل ويأتي الوحي يعقب عليه ويصوب له . ومن ذلك {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } [ الكهف : من الآية 23] ، سألوه عن أصحاب الكهف فقال أجيبكم غدا ، فأبطئ عليه الوحي خمسة عشر يوما يؤدبه(1) ويرشده للاستثناء ثانية إن قال ووعد .
ومثال ذلك ما حدث مع الأسرى يوم بدر ، استشار النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ، فقال بعضهم بقتلهم وتكلم آخرون بالفداء بالمال ، وأخذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأرفق الأمرين وهو الفداء ، ونزل القرآن يعاتبه " (2)
__________
(1) هذه لفظة شيخ المفسرين الطبري ، وفي الحديث ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )
(2) وهذا لا ينافي العصمة إذ لم يُشَرَّع لنا إلا الصواب فقط ابتداء أو بعد تصويب كما حدث في بعض الحالات القليلة جدا وهذه ( أسرى بدر ) أحدها . والعصمة هى حفظ الله عز وجل للأنبياء بواطنهم وظواهرهم من التلبس بمنهى عنه، ولو نهى كراهة ولو فى حال الصغر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء . والعصمة التي أوجبها الله تعالى لرسله – عليهم الصلاة والسلام – تتعلق بالاعتقادات، والتبليغ، والأقوال والأفعال، وخُص نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعصمة بدنه الشريف من القتل0 رد الشبهات عن عصمة النبي ـ التمهيد لعماد الشربيني(1/14)
: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{68} فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنفال : 68 ـ 69 ] .
فهل يُعقل أن يكون بحيرى الراهب درى بذلك ورتبه وأعطاه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟
وإن كان فلم كان يسكت حين يسأل ولم كان يفعل ويأتيه التصويب من السماء ؟
بل لِمَ لَمْ يكن بحيرة نفسَه أو ورقةَ أو الفونسو أو من سمّوا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو نساءه لم لم يكونوا أنبياء ويتكلمون هم بأنفسهم ؟!.
وكيف عرفتم ذلك وهو ليس في كتبنا . من أين لكم هذا ؟
لم ينتبه إليه كفار قريش واليهود والنصارى ... نصارى نجران والشام وطيء ( حي من أحياء العرب منهم عدي بن حاتم الطائي وقد التقى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ) .كيف لم ينتبهوا إلى هذا وانتبهتم أنتم إليه ؟
( ثم : النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج السيدة صفية بنت حيي بن أخطب سيد يهود في العام السابع من الهجرة ... في نهايته . أي بعد عشرين عاما من الدعوة . وجاءته ماريةُ القبطية ـ رضي الله عنها ـ أيضا بعد عشرين عاما من الدعوة . فكيف يكون قد تعلم من هذه وتلك ؟
أمر عجيب .
(ومَن من أصحاب النبي كان له علم بالكتاب ؟
يقولون تعلم من صهيب الرومي . ومن سلمان الفارسي . وعبد الله بن سلام اليهودي .
وصهيبٌ رومي . . أعجمي .. لا ينطق العربية .. . بالكاد يُبين . فأنى له بمثل هذا ؟(1/15)
وسلمانٌ فارسي أعجمي أسلم في المدينة ... وما درى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بعد ثلاثة عشر عاما من هجرته صلى الله عليه وسلم . وكذا عبد الله بن سلام اليهودي أسلم في المدينة بعد البعثة بثلاثة عشر عاما ، وكان تابعا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متعلما لا مُعلما .
(وهم يستأنسون بأن القرآن وافق النصرانية واليهودية أو وافق كتابهم بعهديه القديم والحديث في بعض الأمور .
وفي هذا يكذبون أيضا ، فحتى الأشياء التي وافقت فيها الشريعة الإسلامية كتاب النصارى في عهده القديم أو الجديد ، لم توافقها من حيث المضمون .
مثلا القرآن العظيم تكلم عن نوحٍ إبراهيمَ وموسى وعيسى وسليمان وداودَ ولوطٍ عليهم وعلى نبينا صلوات ربي وتسليماته .ولكن هل ما تلكم به القرآن عن أنبياء الله هو هو الذي تكلمت به النصرانية عنهم ؟
كلام القرآن عن الله سبحانه وتعالى الكبير المتعال ، الواحد الماجد الصمد ، هو ككلام كتاب النصارى عن الله ؟
أبدا .
ففي كتابهم النبي يُشرك بالله ، وفي كتابهم النبي يتطاول على ربه ويصارعه ويكاد يصرعه ، وفي كتابهم النبي يمشي بين الناس عريانا لثلاث سنين متتاليات بأمر الرب ، وفي كتابهم الأنبياء ينتحرون ويكذبون ويزنون ببناتهم .(1)!!
وفي كتابهم الربُّ يخطئ ويصحح له البشر ، وفي كتابهم الرب ينزل ضيفا ويأكل الزبد ويشرب اللبن ، وفي كتابهم الرب يصارع يعقوب ـ عليه السلام ـ وبالكاد يتغلب على يعقوب . والرب يتعب ويرتاح ، ويغار من الإنسان ، ويأمر أنبياءه بالزنا وقتل النساء والأطفال . وغير ذلك مما يُستحى من ذكره (2).
فأين هذا من ذاك ؟!
__________
(1) راجع إن شئت الفصل الأخير من كتاب ( الكذاب اللئيم زكريا بطرس ) للكاتب .
(2) المصدر السابق الفصل الأخير أيضا .(1/16)
( ثم إن القرآن العظيم معجز في ذاته وبألفاظه ينادي على الجميع من يوم نزل : فأتوا بمثله ... فأتوا بعشر سور من مثله . . . فأتوا بسورة من مثله ... أي سورة وإن كانت سطرا واحدا . وقد مضى ألفٌ وأربع مئة عام ولم يستطع أحد شيئا .
( المقصود من كل هذا ... هو إلقاء الضوء على أن من تكلم بهذا الكلام إنما تكلم به من رأسه . ليس برأسه سوى أنه يريد أن يضل الناس بغير حق ، فكذب وافترى وقال ما لم ير .
وصدق الله العظيم إذ يقول : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }[ آل عمران : 71] ، { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عمران : 70 ]، { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }[ آل عمران : 98](1)
__________
(1) ويشكل على بعضهم أن القرآن العظيم تكلم بخيرٍ عن التوراة والإنجيل مثل قول الله تعالى عنهما { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49] وقول الله تعالى {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }[ المائدة : 46] ومثل قول الله تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }[ المائدة : 44 ] وقول الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[ الحجر : 9]
يردد النصارى هذه الآيات كثيرا دليلا على القول بعصمة كتابهم وعدم تحريفه من القرآن الكريم ، واستشهادهم هذا لا دليل فيه ، واستشهادهم هذا من تحريف الكلم عن مواضعه .. ومن التدليس على المستمعين ببتر النص من سياقه العام ليتكلم بغير ما أريد له .. وهذا من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه ، وقد نهى الله عن ذلك ، قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[ البقرة من الآية 85]
والذكر في آية الحجر { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[ الحجر : 9]هو القرآن ، والسياق جازم بذلك ، فقبلها بقليل ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر ) [ الحجر الآية :6 ] . والله سبحانه وتعالى ـ استحفظ اليهود والنصارى على كتباهم ولم يتعهد هو بحفظه { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء }[ المائدة :44] .. ولم يحفظوه بل كتبوا فيه بأيديهم وقالوا هو من عند الله وما هو من عند الله { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }[ البقرة :79] ،وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[ آل عمران : 78] وقال تعالى : {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[ المائدة : 13] هذا في اليهود . والنصارى مثلهم قال الله تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[ المائدة : 14] . هذا ما نجده في كتابنا
ولذا خاطبهم القرآن جميعا بقوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }[آل عمران:71]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }[ آل عمران :70]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[ آل عمران : 99]
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }[ المائدة:77]
يقول الدكتور منقذ السقار في مقدمة كتابه ( هل العهد القديم كلمة الله ؟! ) : ( ووضح هذا المعتقد النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ((إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً، فاتبعوه، وتركوا التوراة )). (رواه الدارمي ح480، والطبراني في الأوسط ح5548، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح2832 ).
واستقر هذا المعنى في نفوس الصحابة والمؤمنين بعدهم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً). (رواه البخاري ح7363).
ولا يمنع هذا من صحة بعض مواضع التوراة، لما فيها من آثار الأنبياء، ففي التوراة حق وباطل كما أخبر الله ورسوله، ومن النصوص التي أشارت إلى وجود شيء من الحق في كتبهم ألبسوه بالباطل والزور قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون } (آل عمران: 71)، وكذا قوله: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} (المائدة:43)، وذلك في مسألة رجم الزاني، وهو مذكور في سفر التثنية، حيث يقول: " إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك" (التثنية 22/22-23).
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم )). وعلل سبب عدم التكذيب بوجود حق في كتبهم، حيث قال كما في رواية أبي داود : (( ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه)).
وعليه فنحن نؤمن بتوراة موسى كل الإيمان، ونؤمن بأنها حرفت ولم تحفظ ، وكذا إنجيل عيسى عليه السلام ، وأن القوم أخفوا شيئاً، وكتبوا أشياء، وضاع منهم الكثير، وما بين يديهم لا يخلو من بعض الحق) أ . هـ .(1/17)
( مزيد بيان(1) :
مَن تكلموا في مصدر الوحي قالوا بعدةِ أمور:
ـ منهم من قال أنه تعلم من أصحابه صهيبِ الرومي ، وسلمانِ الفارسي ، وعبدِ الله بن سلام اليهودي ، وزوجتِه صفيةَ بنت حيي ، وسريتِه ماريةَ القبطية . ومنهم من قال بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت به جِنّة ... حالةٌ من الصرع تصيبه ، ويتلبسه شيطانٌ فيوحي إليه بهذا القرآن . ويستدل على هذا الكلام بما كان يصيبُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثناء تلقي الوحي . من ثقلٍ وعرقٍ ونحو ذلك .
ومعلوم أن ما كان يصيبُ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يكن يشبهُ صرعَ المجنونِ لا بكثيرٍ ولا بقليل . وإنما ثقلٌ ونوعٌ من السكونِ والهمودِ ويتصبب الجبينُ حين ذاك عرقا .
والمجنونُ . . أو من تأتيه نوبات الصرع ، يستلقي على الأرض ويتشنج وربما عض لسانَه وانكشفت سوءتُه ، وغاب عن وعيه . فأين هذا من ذاك ؟!
( وأيضا لم يكن الوحيُ يأتي النبيَ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على هذه الحالة فقط ( السكون والهمود التي يصحبها تصبب العرقُ من الجبين ) بل كان أيضا يأتيه على أشكالٍ أخرى(2) .
إحداها: الرؤيا الصادقة وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , من ذلك حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : " أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ ...... الحديث "(3).
__________
(1) وليس هذا من باب الاسترسال ، وإنما طريق آخر أعالج به ذات القضية وهي بيان أنهم يكذبون كذبا صريحا ليضلوا الناس .
(2) زاد المعاد 1/ 18
(3) متفق عليه البخاري كتاب الوحي ح /4 ، ومسلم كتاب الإيمان ح / 231(1/18)
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته (1)".
الثالثة: أنه كان يتمثل له ـ صلى الله عليه وسلم ـ الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا كما في حديث عمر ـ رضي الله عنه (( بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ .... الحديث )) وفي آخره (( أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ )) (2).
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس فيفصم عنه وقد وعى عنه ما قال وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها. (3)
__________
(1) ذكره ابن حجر العسقلاني في شرح حديث عائشة رضي الله عنها ( البخاري /2 ) وقال : أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود .
(2) مسلم / 9
(3) البخاري /2(1/19)
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له صلى الله عليه وسلم مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
قال الله تعالى :"" إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىَ * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَىَ * وَهُوَ بِالاُفُقِ الأعْلَىَ * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّىَ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىَ * فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىَ مَا يَرَىَ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ "" [سورة: النجم - الآيات: 4ـ14]
السادسة: كلام الله تعالى له ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى ابن عمران وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .(1/20)
وأحيانا يكون الوحي في المنام من ذلك حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عند أحمد / 21093 وفيه (( احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ لَا أَدْرِي يَا رَبِّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ لَا أَدْرِي رَبِّ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ وَمَا الْكَفَّارَاتُ قُلْتُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ قَالَ وَمَا الدَّرَجَاتُ قُلْتُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ قَالَ سَلْ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ(1/21)
يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا"
( ومنهم من يقول أن ما كان بمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو حالةٌ من الصفاءِ الذهني نتجت من كثرةِ الخلوةِ والبعدِ عن المعاصي ، وقد أتى بهذا القرآنِ وهذه العلوم من محض خياله .
ونسأل : هل يستطيعُ صفاءُ الذهن أن يأتيَ بأخبار الماضي ، والحاضر ، . . . أن يتكلم عن ما كان وما سيكون ؟!
أن ينبئ عَديً بأن الله سيتم هذا الأمر حتى يصير الراكب لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه(1) ، وأن الله سيفتح الشام واليمن والعراق وأن نفرا من أصحابه سيخروجون إليها ويدعون المدينة(2) ، وأنه إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده (3)، وأن عمار تقتله الفرقة الباغية(4) ، وأن عمر وعثمان شهيدان (5)، وأن أصحابه يقتلون أمية بن خلف(6) ونعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة (7) ونعى جعفرا وزيدا وابن رواحة حين قتلوا في مؤتة ( بالأردن حاليا ) وهو بالمدينة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان يصف المعركة (8) ، وأخبر من أنباء الماضي .. حكى عن مريم وعن موسى وعيسى وأهل مدين والمؤتفكات وقوم تبع وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط ، هذا وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يخرج من بين شعاب مكة . وما حكاه عنهم لا يتوافق في قليل أو كثير مع حكايات كتب النصارى واليهود حتى يقال أنه أخذ منهم ومن شاء فليقرأ هذا وذاك ؟!
__________
(1) البخاري ح / 3595 ، ومسلم 1687
(2) البخاري ح/1875 ، ومسلم 2459
(3) البخاري ح/3120 ، ومسلم ح / 5196
(4) البخاري ح/447 ، ومسلم ح / 5192
(5) البخاري ح /3674 ، ومسلم 4416
(6) البخاري ح / 3950
(7) البخاري ح/ 1245 ومسلم ح / 1580
(8) البخاري /1246(1/22)
هل يستطيع صفاء الذهن أن يأتي بأمور علمية بحته ، لم يكتشفها العلم التجريبي إلا بعد مئات السنين من بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟!
مثل أن الإنسان خُلق من نطفة أمشاج { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }[ الإنسان : 2] ، وأن الجبال أوتاد {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً }[ النبأ : 7 ]، وأن الأرض كفاتا { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً } [ المرسلات: 25 ]، وأنها دُحية { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[ النازعات : 30 ] .وأن الأجرام في فَلك يسبحون { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس:40] ، وأنها تتسع {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }[ الذاريات : 47 ]( وإنا لموسعون ) ، وأن الليل أصلٌ والنهارَ طارئ يُسلخ منه {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ }[ يس : 37]؟!
لا يستطيع صفاء الذهن أن يأتي بأي من هذا .
إنها النبوة ، وحي الله العليم الخبير لرسوله الأمين محمدٍ بن عبد الله ـ عليه أتم الصلاة والتسليم ـ .
وصدق الله العظيم : " وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين "
القرآنُ يعقب بعد ذكر قصة موسى عليه السلام في سورة القصص ، بهذه الآية ( وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا .... )
و( ثاويا ) تعني مقيما ... الثواء هو الإقامة ...قال الشاعر :
آذانتنا ببينها أسماء * * * رب ثاو يمل منه الثواء ....(1/23)
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[ آل عمران:44] ،{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }[ يوسف :102]
فما كان محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقيما في مدين حتى يعلم خبر موسى ، وإنما أخبره العليم الخبير الذي أرسله لنا بشيرا ونذيرا ، وما كان محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لديهم في بيت المقدس وهم يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وإنما أخبره العليم الخبير ، وما كان محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين إخوة يوسف وقد اسروا أمرهم وهم يمكرون بأخيهم يوسف عليه السلام كي يقتلوه أو يخرجوه ليخلوا لهم وجه أبيهم.... وإنما أخبره الذي أرسله إلينا بشيرا ونذيرا .
هو وحي الله إذاً ، وما كان محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم يدري ما الكتاب ولا الإيمان .
( أريد أن أقول أن : هذه أقوال متضادة لا يمكن أن يقول بها فرد واحد . أليس كذلك ؟
من يعتقد بأن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان مجنونا . غير من يعتقد بأن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان ذا خلوة وصفاءٍ ذهني ، غير من يعتقد انه تعلم من أصحابه . أليس كذلك ؟!
المفروض أن يكون الأمر كذلك .(1/24)
ولكن تعجب حين تجد أن المتكلم بهذا الكلام فرد واحد(1) ، أو أن فردا واحدا يتكلم بأكثرِ من واحدةٍ من هذه الحجج ، من هؤلاء مثلا المستشرق الألماني ( كارل بروكلمان ) المتوفي سنة 1956 م (2) ، ومن هؤلاء زكريا بطرس اليوم في حلقة واحدة يقول أن الذي علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو بحيرى الراهب وأن القرآن العظيم ترجم من وثيقه عثر عليها عند بعض الباحثين وتناولتها بالدارسة مائة وأربعين موقعا ويمسكها في يده ويتلوا منها ، وفي ذات الحلقة يقول أن هناك آخرين كانوا يعلموه وكان يتردد عليهم (3)، وفي حلقة أخرى في ذات الموضوع تكلم عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ووجد الدين جاهزا في حركة تسمى ( الحنيفية ) فقط استولى عليها وساس أمرها ثم نسب تعاليمها لنفسه ، وأنه يقلد أحد أفراد هذه الحركة تماما وهو أمية ابن أبي الصلت الذي علمته النصارى (4). وهذا يعكس لك أنها عقليةٌ فقط تبحثُ عن شيء تطفئ به نور الله ، تضلُ به قومها . وهذا ما أدور حوله في هذه الفقرة ، وهو أن الطريق الأول بل الطريق الرئيسي الذي تتكون منه شبهات النصارى هو الكذب المباشر . هو قلب الحقائق .
ـ ولذا أقول أننا لا نواجه شبهات حقيقية ، ولكن نواجه عقول مجرمة آثمة هي التي تفتعل الشبهات وتقلب الحقائق . وسيتضح هذا جليا حين نعرض لشبهاتهم التي يتكلم بها الكذاب اللئيم زكريا بطرس .
__________
(1) وقد مضى مثل ذلك على شخص بطرس الكذاب في الكتاب الأول ( الكذاب اللئيم زكريا بطرس )
(2) ، ومن أراد التفاصيل فليراجع الباب الثاني من رسالة ( رد الشبهات عن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم ) للدكتور عماد السيد الشربيني .
(3) الحلقة الحادية عشر من حلقات ( في الصميم )
(4) الحلقة العاشرة(1/25)
(الطريقة الثانية من الطرق التي تتكون بها شبهات النصارى هي : بَتْرُ النص من سياقه العام ثم استخدام مقدماتٍ عقليةٍ أو عرفيةٍ لتفسيره(1) .
مثال ذلك : ادعائهم أن القرآن ينطق بأن المسيح هو عين الله ـ تعالى ربنا وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ ؛ يستدلون على ذلك بقول الله تعالى : ( ... وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) (النساء : من الآية171 ) . يبترون النص هكذا .
يقولون كلمة الله وروح الله ، تعني أنه هو عين الله أو ابنه المتجسد على حسب مذهب من يتكلم منهم .
أرأيتم ؟!
بتروا النص ثم فسروه بما يحلوا لهم .
ونحن نقول(2) : إن القرآن صريح في أن المسيحَ ـ عليه السلام ـ عبد الله ورسولُه ، فبالنفي والاستثناء ـ وهي أقوى أساليب الحصر والقصر ـ جاء التعبير عن عبودية المسيح لله عز وجل في أكثر من آية في كتاب الله تعالى ، قال الله : ( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) (الزخرف : 59 )
وقال الله تعالى : (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة : 75 )
__________
(1) والحقيقة أن هذا مذهب عام عند كل أهل الباطل . وليس النصارى وحدهم .
(2) الرد على أي شبه للنصارى ولغير والنصارى ـ يأخذ مسلكين الأول : نقض الشبه ذاتها ، والثاني : معارضة الشبهة بقول آخر من ذات المصدر الذي يستدل به . وهذا بحث اكتمل في ذهني وجاري تدوينه وجمع أمثلة أكثر له . وقد بدأت في ردي هذا بمعارضة الشبة ثم ثنيت بنقض الشبهة .(1/26)
وعلى لسان المسيح جاء في القرآن الكريم : (إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (آل عمران : 51 ) (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (مريم : 36 ) (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (الزخرف : 64 )
بل في نفس الآية التي يستدلون بجزء منها يقول الله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ ) (النساء : من الآية 171 ) والآية التي بعدها صريحة في هذا المعنى أيضا ، قال الله تعالى : (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً) (النساء : 172 ) .
ـ وإضافة الصفة إلى الله على نوعين ، إن كانت هذه الصفة ذاتٌ منفصلةٌ لها استقلاليةٌ فيكون ( إضافتها إلى الله تتضمن كونها مخلوقه مملوكة لكن أُضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة . لا لكونها صفة )(1) أي من باب التشريف والرِّفعه مثل بيت الله الحرام ، وسيف الله خالد بن الوليد ، وأسد الله الحمزة بن عبد المطلب و ( ناقة الله ) ف ( روح الله ) و ( كلمة الله ) . لا تعني أبدا أنه جزء من الله .
__________
(1) مجموع الفتاوى 17/149(1/27)
والروح أو ( روح القدس ) عندنا هو جبريل عليه السلام . قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً) (النبأ : 38 ) وقال تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (غافر : 15 ) وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء : 193 ) وقال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل : 102 ) .
فالروح عندنا ملك من الملائكة هو ـ جبريل عليه السلام ـ وليس هو عين الله كما يزعمون هم (1).
فتدبر كيف يتعاملون مع النصوص الشرعية ليخرجوا منها بباطلهم . . . يبترون جزءا من النص ثم يفسروه بما يحلو لهم .
(ومن الأمثلة أيضا : قولهم : أن الإسلام دين عنصرية وظلم لا يعرف العدل مع الآخر ويستدلون على ذلك بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : ( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ) ويسكتون عند هذا .
__________
(1) ويتعلقون بقول الله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 91 )
فمِنْ عند أنفسهم فسَّروا الروح بأنه جزء من الله ثم قالوا جزء من الله حلَّ بمريم ـ عليها السلام ـ فخرج منها المسيح ـ عليه السلام ـ .
والأمر على عكس ذلك : فـ ( روح الله ) أو ( الروح ) هو جبريل عليه السلام ، والفَرْجُ في الآية هو القميص ، نفخ جبريل ـ عليه السلام ـ في كمِّ درعها فأنجبت عبد الله عيسى بن مريم عليه السلام . قدرة الله القدير .(1/28)
ولو أكملوا الحديث لبهتوا وما نطقوا : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ )(1) .
فانظر كيف يبترون النص ، ثم يعلقون عليه بما يحلو لهم .
(من أمثلة ذلك ما ذكره الكذَّاب اللئيم زكريا بطرس في برنامج أسئلة عن الإيمان االحلقة 15 د/10 يقول مستشهدا على عدم تحريف الكتاب المقدس بقول الله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) يقصها هكذا ، يقول ـ موجها الدليل ـ يعرفون التوارة والإنجيل كما يعرفون أبنائهم إذا الكتاب غير محرف .
ألا لعنة الله على الكاذبين بطرس وأمثاله
هكذا بتر النص من سياقه ثم فسره بما يحلو له ، واستشهد به على عكس مراده .
الآية تتكلم عن معرفة أهل الكتاب للقرآن ، وهذه هي الآية كاملة في موضعين من كتاب الله ، قال تعالى في سورة [ البقرة : 146]: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
والشاهد هنا أنه كوَّن الشبهة عن طريق بتر النص من سياقه العام ثم فسره بما يحلو له . وقد مرت أمثلة كثيرة على ذلك في الجزء الأول و ستأتي أمثلة كثيرة جدا على ذلك في هذا البحث إن شاء الله .
(من الأمثلة أيضا :ما ذكره الشيخ الدكتور منقذ السقار ـ حفظه الله ـ في كتابه شبهات النصارى حول الإسلام ، وهو منشور بموقع ابن مريم .
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري كتاب المظالم والغصب حديث رقم 2444 ، وعند أحمد 11511، 12606 ، والترمذي كتاب الفتن 21811 ، ، واللفظ من البخاري(1/29)
ينقل قول وهيب خليل في كتابه " استحالة تحريف الكتاب المقدس " في سياق حديثهِ عن أدلةِ ألوهيةِ المسيحِ في القرآن و السنة . يقول وهيب خليل : "روى البخاري في الجزء الثالث ص107 قائلاً:" لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً " , و في هذا دليلٌ قاطعٌ على ألوهيةِ السيد المسيح، لأن الدينونة لله وحده " .
ينقل نصف الحديث ويغض الطرف عن النصف الآخر . و هذا كذب ولا شك ، وتعمد للكذب ولا شك ....
والحديث بتمامه كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا .
فالأمور المذكورة في تتمة الحديث تدل على بطلان النصرانية ، و أن المسيح سيحطم رمزها (الصليب) ، و أنه سيحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
فتدبر أخي القارئ كيف بَتَرَ جزءا من الحديث ، وفسره بما يحلو له ليدلل على باطله ؟
أسأل : ألم يقرأ الحديث كاملا ؟ !
لا بد أنه قرأه كاملا ، ولا بد أنه قَلَّبَ في صحيح البخاري واطلع على غيره من الأحاديث في ذات الباب تنافي مراده ، ولكن هي نفسية أتت فقط لترجع بكذبه تُضل بها قومها .فما وجدت إلا بتر النص .
هكذا تتكون شبهاتهم ... يبترون ثم يفسرون بما يحلو لهم .(1/30)
( ومن أمثلة بتر النص من سياقه العملي وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يذهب لإمرأةٍ تدعى ( أم حرام بنت ملحان ) وينام في بيتها .
وهذا كذب وتدليس . . يبترون النص من سياقه العملي .
هي خالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويذهب في بيتها وفيه أختها أم سليم ( الغميصاء ) أو ( الرميساء ) وابنها أنس بن مالك ( وهو راوي الحديث كان موجودا يشاهد ويرى ) ، وزوجها عبادة بن الصامت رجل بألف رجل ، وزوج أختها أبو طلحة الأنصاري وأبناءه ، والحي يجتمع عليه ويصفُ ما يحدث ، وبيتها في قباء جنوب غرب المدينة بعيدا عن مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذهب إليه مرة واحدة في كل أسبوع ومعه نفر من أصحابه ، وفي وقت محدد يعلم به الجميع . ويجتمع عليه الحي بمن فيه ، وكانت حين تأتي عليه القيلولة يقيل في بيت خالته أم حرام بنت ملحان هذه التي يتكلمون عليها . ويجلس معها مجلس الرجل مع خالته التي لا تحل له (1).
فانظر كيف يبترون النص من سياقه العام ؟
انظر كيف يكذبون على أنفسهم . وعلى قومهم ؟!!
( الطريقة الثالثة التي يفتعلون بها الشبهات : اعتماد الضعيف والشاذ وغيرِ الصحيح من الحديث وأقوال العلماء ، وتصديره للناس على أنه حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقوالُ علماء المسلمين .
من المعلوم أن كتبَ التاريخ ـ وخاصة ابن كثير في البداية والنهاية ـ تأتي بالروايات الضعيفة وتضعفها ، وكذا تفعل كتب التفسير وكتب شرح الأحاديث .
وهم يأخذون هذه الروايات المحكوم عليها بأنها ( منكرة ) أو ( غريبة جدا ) أو ( لا تصح ) إلخ ويقولون أن هذا موجودٌ في كتب المسلمين الصحيحة ، يقولون : نحن ننقل من كتبكم الصحيحة مثل بن كثير والطبري والقرطبي ... الخ .
__________
(1) عالج هذا الأمر في بحث مستقل بعنوان ( إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان ) الدكتور علي بن عبد الله الصياح ، وهو منشور في مكتبة صيد الفوائد قسم الردود والتعقيبات لمن شاء الرجوع إليه .(1/31)
وهو كذب وخيانة .
مثلا يقولون أن زيد بن حارثةَ استأذن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فخرج إليه عريانا يجر ثوبه واحتضنه وقبله وهو عريان .
وعلماء المسلمين ضعفوا هذا الكلام ، وأوصاف النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في القرآن الكريم والسنة النبوية تنافي ذلك تماما .
ويقولون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ليلة بردانا لا يجد ما يستدفئ به ، فكشفت له عائشة ُعن فخذها وهي حائض فوضع عليه خده وصدره ـ لاحظ خده وصدره ـ ونام .
وأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دخل على أمنا صفية قبل أن تنتهي عدتُها .
وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها متكشفةً فأعجبته ومن ثم سعى في طلاقها من إبنه وتزوجها .
وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطئ امرأة عمه بعد أن دفنها والناس ينظرون ... يقولون وضعها في القبر وهي ميتة .. ثم كشفها في القبر ووطئها والناس ينظرون .!!
امرأة عمه أبي طالب التي تربى في بيتها من الثامنة من عمره . عجوز قد تجاوزت السبعين .. ميتة .. والناس ووقوف .. وهي في القبر ...!!
ومثال ذلك أيضا : ما يردد زكريا بطرس من أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن من غلمان كانوا في مكة ويستدل على ذلك بقول الله تعالى { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[ النحل : 103]
ينطق نصف الآية ثم يقول : يقول ابن كثير هو فلان أو فلان أو فلان وفلان .. الخ .(1/32)
ابن كثير والمفسرون يذكرون الأشخاص الذين سماهم الكفار ، والذين نفى القرآن العظيم في ذات الآية أن يكونوا هم الذين علموا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كونهم عجم لا ينطقون العربية والقرآن العظيم عربي مبين . فانظروا كيف يكذب على العلماء وهو يدعي العلمية ، وهو يعلم أنه كاذب . (1)
والمقصود أن الكتب التي ينقلون منها هي بنفسها تقول أن هذا الكلام لا يصح ، ومع ذلك يصرون على الكذب الصريح .
( البعد الجنسي في شبهات النصارى :
ألفتُ النظرَ إلى نوعية الشبهات التي يلقي بها النصارى ... بإطلالة سريعة على شبهاتهم حول ـ سول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خصوصا والإسلام عموما ، تجد أن جلها يأخذ البعد الجنسي . وهذا من أثر الثقافة التي يُلقيها كتاب النصارى في عقول أتباعه .
فالكتاب المقدس يصف أنبياء الله ورسله بأنهم كانوا زناه ... ليس فقط زناه وإنما أردء أنواع الزنا ... يقولون أن نوحا ـ عليه السلام ـ زنى ببنتيه(2) .وكذا فعل لوط ـ عليه السلام ـ بزعمهم وهم كاذبون(3) ، وعندهم أن داود عليه السلام زنى بحليلة جاره وأنجب منها سليمان(4) ، وأولاده يزني بعضهم ببعض(5) وكذا يفترون على بنات يعقوب عليه السلام(6) . وسليمان ـ عليه السلام ـ يحب النساء حتى أمَلْن ـ من الميلان ـ قلبه وكفر بالله(7)!! ، وشعيب عليه السلام يمشي عريانا بين الناس بأمر الرب ثلاث ، وعندهم نشيد الإنشاد فيه كلام تتعفف عنه البغايا ، وعندهم عاهرات يدعون الرجال لفراشهن (8)
__________
(1) الحلقة الحادية عشر من حلقاته ( في الصميم )
(2) راجع إن شئت سفر التكوين [إصحاح 9 : العدد20ـ 28 ]
(3) راجع إن شئت التكوين [19 : 30ـ 39 ]:
(4) سفر صموئيل الثاني [11 : 2ـ 6 ]
(5) صموئيل الثاني [13 : 21وما بعدها].
(6) راجع إن شئت سفر التكوين [34: 1 ـ 5]. وراجع أيضا سفر التكوين [35 : 21 ـ 23].
(7) الملوك الأول [11: 1ـ 12].
(8) سفر الأمثال [ 7 : 16 ] .(1/33)
فالبعد الجنسي ... المحرم يأخذ كماً ليس بالهين من كتاب النصارى . . ولذا تجده حاضر في كل شبهاتهم تقريبا ، وسيتضح هذا جليا حين نتعرض لبطرس الكذّاب .
( نصيحة لكل من يسمع شبهة من شبهات النصارى
ننصح كل من يسمع شبه من شبهات النصارى أن يفتش عن أمرين :
الأول : المصدر الذي تكونت منه الشبه .
والثاني : الطريقة التي تكونت بها الشبهة .
وبعد قليل من التدبر لن تجد أي شبهة للنصارى ولا لغيرهم بل ستجد أنها كلها افتراءات ومحض كذب . أو أفهاما عليلةً هي التي افتعلت الشبه بجهلها أو حقدها .
( ويسعنا أن نقول : إننا لا نواجه شبهات حقيقة وإنما نواجه عقلية مريضة هي التي تفتعل هذه الشبهات .
وانظر إلى القرآن الكريم كيف يخاطبهم .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }آل عمران70
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }آل عمران71
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }آل عمران98
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }آل عمران99
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }المائدة15
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }المائدة77(1/34)
ويخبر ربنا عما تكن صدورهم فيقول سبحانه وتعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }البقرة146
الفصل الثاني : بطرس يكذب .
من يقرأ هذا العنوان سيرد قائلا .. هذه قديمة .. لم يعد أحد ، فقد مرت شواهد كثيرة ( في البحث الأول ـ الكذاب اللئيم زكريا بطرس ) تبين هذا الأمر تبين هذا الأمر ، ولكني أتكلم الآن عن كذب بطرس في هذا الأمر خصوصا . وسأعرض الآن بعض أكاذيبه ولن أكرر شيئا مما ذكرته من قبل في الكتاب الأول إن شاء الله تعالى ، مع أن كثيرا من الكذبات التي رصدتها هناك ذات صلة بالموضوع هنا ، فكثرة كذبته أغنت عن التكرار . ألا ما أقبح الكذب . وأضرب بعض الأمثال تحت هذا العنوان :
( ( (
(يقول بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ تصريحا بأن يتزوج من يشاء ، من تقع عليها عينه تحرم على زوجها في الحال (1) .
وهذه من عنده ، لم يتكلم بها أحد من المسلمين ، والذي في كتاب ربنا أن الله حرم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء كلَّهم عدا من معه من نسائه التسع ، قال تعالى : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً }[ الأحزاب: 52 ] .
وتعيين تسعةً من النساء للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون غيرهن تضيق على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس توسيعاً كما يتوهم البعض ، فقد قُيِّد بالمعدود لا بالعدد ، له تسعة من النساء بأعيانهن ، وغيره قُيِّد بالعدد لا بالمعدود ، بمعنى أنه يستطيع أن يتزوج أكثر من يشاء من النساء ولكن أربعة بأربعة ، أما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فليس له إلا هذه .والكذبة القادمة تزيد الأمر بيانا .
__________
(1) حوار الحق الحلقة التاسعة د/15(1/35)
( ( (
(يقول على لسان أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا وقد أحل له جميع النساء(1). يستدل بهذا على أن جميع النساء كانوا حلال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويشرح هذا قائلا : من شاء أن يأخذها منهن أخذها حتى لو كانت متزوجة ... حتى ولو كانت مملوكة لغيره ، (2)كما تقدم في مقدمة هذا الفصل .
وهذا الكلام غير صحيح .
الحديث له روايتان . الأولى :: ( عن عائشة رضي الله عنها قالت ما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أحل له النساء )(3) .
والثانية ( ما تُوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء )(4) .
وليس في الروايتان كلمة جميع هذه التي يستدل بها .
وضع كلمة ( جميع ) من عنده ثم راح يستدل بها . وغيَّر المعنى كلية بشرحه الذي أضافه للحديث ، علما بأنه مشهور جدا في السيرة والأحاديث النبوية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن ينظر للنساء أبدا ، ولم يكن يصافح النساء أبدا ، ولم يكن النساء يدخلن عليه ، ولو كانوا حلالا له ما كان هذا شأنه ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله .
__________
(1) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/24
(2) كرر هذا الكذب عدة مرات في الحلقة التاسعة من برنامج حوار الحق .
(3) الترمذي /3140 ، والنسائي 3151، ومسند أحمد / 23007 . النسائي3154 ، والدارمي / 3143 ،
(4) النسائي3154 ، والدارمي / 3143(1/36)
وقصة الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعيش في غرفاتٍ من طين سقفها من الجريد يطاله الرجل بيده ، ويَمُرُّ عليه الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيته نار ، ويمر عليه الثلاثة أيام ولا يجد ما يأكل ، وحين فتح الله عليه خيبر طالب نسائه بتوسعة في المسكن والمأكل ، فأبى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخيرهم بين أن يبقوا معه على هذه الحالة وبين أن يطلقهن ويسرحهن سراحا جميلا ، فاخترن جميعا ـ رضوان الله عليهن ـ البقاء معه على هذه الحالة من الضيق وقلة ذات اليد ، فأكرمهن الله وحرّم على نبيه صلى الله عليه وسلم ـ الزواج من غيرهن كرامةً لهن ـ رضوان الله عليهن ـ وذلك قول الله تعالى : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [ الأحزاب: 52 ] . وهذا فضل من الله ونعمة على نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزاءً لهن بإيثارهن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على متاع الدنيا ، وفيه أمارة على حبهن له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم إن الله أحلَّ لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء بعد ذلك ، وهذا قول أم المؤمنين عائشة في الحديث الذي معنا ( ما تُوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء ) أو ـ الرواية الأخرى ـ ( ما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أحل له النساء ) . وليس في سياق الحديث العملي ، ولا في لفظه الثابت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجميع الروايات ، ولا في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دليل على ما يذهب إليه بطرس الكذاب ، وإنما يضع كلاما من عند نفسه ثم يستدل به ، ويحسب أن أحدا لن يفتش ورائه !!
( ( ((1/37)
( يقول أن واقع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كلامه هو حب النساء يستدل على ذلك بحديث حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ـ هكذا ينقله ثم يعلق قائلا الشيء ولزوم الشيء ، الطيب من أجل الإثارة ..دا كان فنان(1) ، قبّح الله بطرس بكذبه وقلة أدبه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
التعليق :
هنا عدّة كذبات .
الأولى : بَتَرَ النص من سياقه العام مما أدى إلى تغير المعنى ، والحديث بتمامه ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : ( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ )(2) فحذَفَ جملة (وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ) فتغيَّر المعنى . فصار في ذهن المستمع ( أحبُّ شيء إلي في الدنيا النساء والطيب ) وذاد الأمر تأكيدا بإضافاته التي يشرح بها الحديث من عند نفسه .
فكذَبَ حين بَتَرَ النص ، وكذب حين فسره بما يصرفه عن معناه ، وكذب حين لم يذكر لمن يسمعه حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسكنه ، ومأكله ، ومشربه ، وعبادته لربه وطول صلاته بالليل .
__________
(1) في الدقيقة 12 من الحلقة التاسعة من برنامج حوار الحق ، وكرر ذات الكلام في الدقيقة/15، د/22
(2) النسائي /3878 ، أحمد /11845، 12584، 13526،(1/38)
واسمع ماذا يقول الشرّاح في معنى الحديث ، يقول السندي في شرح الحديث عند النسائي : (إنما حُبِبَ إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطلع عليه الرجال من أحواله ويَستحي من ذكره ، وقيل حبب إليه النساء زيادة في الابتلاء في حقه حتى لا يلهو بما حُبب إليه من النساء عما كلف به من أداء الرسالة فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره ، وأما الطيب فكان يحبه لكونه يناجي الملائكة وهم يحبون الطيب وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج وكمال الخلقة ... وقوله ( قرة عيني في الصلاة ) إِشَارَة إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ غَيْر مَا نَعْقِلُهُ [ ما نعرفه ](1) عَنْ كَمَالِ الْمُنَاجَاةِ مَعَ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَلْ هُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَحَبَّة مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ تَعَالَى حَتَّى أَنَّهُ بِمُنَاجَاتِهِ تَقَرُّ عَيْنَاهُ وَلَيْسَ لَهُ قَرِيرَةُ الْعَيْن فِيمَا سِوَاهُ فَمَحَبَّتُهُ الْحَقِيقِيَّة لَيْسَتْ إِلَّا لِخَالِقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا قَالَ لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا أَحَدًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْر وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيل الرَّحْمَن أَوْ كَمَا قَالَ ) انتهى كلام السندي رحمه الله .
__________
(1) ما بين القوسين مني(1/39)
قلت : هذا هو المعنى الذي يُفسر حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحقيقة ؛ حُبِبَ إليه النساء ولم يكن قبل البعثة يبحهم ، كان هادئا وقورا ، قضى شبابه مقيما على عجوزٍ قاربت السبعين من عمرها حين توفت ، وحُبِبَ إليه النساء بلاء فوق البلاء ، وأشد الناس بلاء الأنبياء ، فلم ينشغل بهنَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحُبِبَ إليه النساء ليكون قدوة لنا في بيوتنا مع نسائنا ، فماذا كان سيفعل صاحب الثنتين والثلاث والأربع ؟ . بأبي هو وأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقُرَّة عينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت في الصلاة .. كان يترك نسائه ويقوم يصلي ، يقضي ليله كله في الصلاة وليس في أحضان النساء كما يوهم بطرس الكذاب .
( ( (
يقول الرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان يعجب من الدنيا بثلاثة أشياء الطيب والنساء والطعام ، ويعلق قائلا : ( يعني هيجيب طاقة من فين للنساء إلا لمّا يملاها تمام ) (1) ، وأن ذلك
في صحيح البخاري(2).
وهنا عدة كذبات :
الأولى : الحديث ليس في البخاري وإنما انفرد به أحمد(3) ونصّه ( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ مِنْ الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ الطَّعَامُ وَالنِّسَاءُ وَالطِّيبُ فَأَصَابَ ثِنْتَيْنِ وَلَمْ يُصِبْ وَاحِدَةً أَصَابَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَلَمْ يُصِبْ الطَّعَامَ ) (4).
والثانية : كما ترى حَذَفَ الجزء الأخير من النص ( ولم يصب الطعام ) علما بأنه محل الشاهد في كلامه .
__________
(1) حوار الحق الحلقة التاسعة د/17
(2) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/8
(3) مسند أحمد /23302 ، وليس للحديث مكررات عند أحمد ، ولا روايات أخرى عند غيره . والغالب أنه ينقل عن الطبقات الكبرى لابن سعد ، ويقول أنه عند البخاري هكذا من عند نفسه ثقة بأن احدا لن يفتش وراءه . والحديث في الطبقات الكبرى لابن سعد بذات
(4) مسند أحمد / 23302(1/40)
والكذبة الثالثة هي الإضافة التي أضافها من عند نفسه بعد أن حذف جزءا من الحديث . إذ يقول (يعني هيجيب طاقة من فين للنساء إلا لمّا يملاها تمام ) ، يحاول أن يصور الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقارئ على أنه بطين .. يأكل كثيرا ثم يقوم للنساء ، ونص الحديث عكس ذلك .
أرأيت أخي القارئ كيف يتعامل مع النص الشرعي . يحذف ثم يفسر بما يحلو له ، فيغير المعنى .
( ( (
(يقول بطرس الكذاب يمكن استخراج كتاب جنسي بعنوان ( من أقوال الرسول ) وراح يكتسح السوق(1) .
ونقول هاتوا لنا نصا واحدا يتكلم فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكلام فاحش .. جنسيٍ أو غير جنسي .
كان أعف الناس ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحسنهم خلقا ، في صحيح البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ )(2)
( ( (
(يقول بطرس الكذّاب أن إحداهن ( من نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعني ) كانت إذا حاضت أمرها أن تأتزر ويباشرها ، ويتأفف عند ذلك ، ويتعجب كيف يقرأ المسلمون هذا الكلام وكيف يتبعون هذا النبي الذي هذا حاله .
والعجب من حاله هو ، كيف لا يستحي وهو يكذب كذبا مكشوفا هكذا .
__________
(1) حوار الحق الحلقة التاسعة د/21:40
(2) البخاري /5571(1/41)
الحديث في الصحيحين وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : كَانَ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا قَالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ )(1) وفي بعض روايات الحديث ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر فوق الإزار وهن حيض )(2)
والكذب هنا في تفسير الكلام بغير معناه ، فيوهم المستمع أن المباشرة هي الجماع ، فيفهم المشاهد له أو المستمع لكلامه بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجامع زوجاته في الحيض ، وهذا أمر مقذذ للجميع ، لا يفعله ذو خلق سليم .
__________
(1) البخاري / 291 ، مسلم /441 .
(2) ذكرها النووي في شرحه لحديث عائشة عند مسلم / 441 ، وفوق هنا تعني أعلى السرة مما لا يغطيه الإزار بدليل باقي الروايات ، وسيأتي إن شاء الله .(1/42)
اللإتزار هو ستر السُّرة وما تحتها بثياب يلف على الجسد ، والإزار معروف مشهور .. كالذي يلبسه المُحْرِمُ الذكر في الحج أو العمرة ،والروايات تقول ( أمرها أن تشد إزارها )(1) ولفظة ( تشدّ ) لها ظلال واضحة ، لم يأمرها أن تأتزر ولا أن ترتدي إزارها وإنما أن تشدَّ إزارها ،وشدُّ الإزار دلالة على إحْكامه ، والمباشرة ليست الجماع وإنما ما دون الجماعي(2) ، وجاء هذا صريحا على لسان أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ في رواية أخرى(3) ، وجاء في بعض الروايات عن زيد بن أسلم قال : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا يَحِلُّ لِي مِنْ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلَاهَا ) (4) ، وفي الحديث أن النبي كان أملك الناس لإرْبِهِ ، والإرب هو العضو الذي يستمتع به الرجل ـ كما يقول النووي في شرح حديث مسلم ـ وهذا يعني صراحة أنه لم يكن يجامع ، وأن من لا يملك إِرْبِه لا يباشر في وقت المحيض مخافة أن يقع في الجماع .
ثم بعد ذلك يقول كان يجامع وقت المحيض ويتأفف ؟؟!!.
إنه يكذب .. بل كذّاب .
ولهذه العملية ـ المباشرة وقت المحيض ـ بُعد إنساني ، إذ أن المرأة عندنا ليست نجسة حين تحيض ، تجنس ما لمسته وما لمسها ، ويبعد عنها زوجها وكل عزيز عليها مخافة أن تنجسه كما في الكتاب ( المقدس ) . واسمع :
__________
(1) كما في النسائي 370 ، وابن ماجة /630 ، ومسند أحمد ـ وهو من رواية عائشة أيضا ـ / 24114، والدارمي /1029 وهو من رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ،
(2) وقد تطلق على الجماع ، والسياق هو الحاكم على المعنى ، وهي هنا ما دون الجماع في أعلى الإزار ، بدليل الروايات الأخرى وقد سقت بعضا منها في النص أعلاه .
(3) سنن النسائي / 372 .
(4) الدارمي /1014 .(1/43)
يقول كاتب سفر اللاويين [ 15 : 19 ] (( وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَسَبْعَةَ أَيَّامٍ تَكُونُ فِي طَمْثِهَا، وَكُلُّ مَنْ يَلْمِسُهَا يَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. 20كُلُّ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ حَيْضِهَا أَوْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِساً، 21وَكُلُّ مَنْ يَلْمِسُ فِرَاشَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. 22وَكُلُّ مَنْ مَسَّ مَتَاعاً تَجْلِسُ عَلَيْهِ، يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. 23وَكُلُّ مَنْ يَلَمِسُ شَيْئاً كَانَ مَوْجُوداً عَلَى الْفِرَاشِ أَوْ عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. 24وَإِنْ عَاشَرَهَا رَجُلٌ وَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ طَمْثِهَا، يَكُونُ نَجِساً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَكُلُّ فِرَاشٍ يَنَامُ عَلَيْهِ يُصْبِحُ نَجِساً.
25إِذَا نَزَفَ دَمُ امْرَأَةٍ فَتْرَةً طَوِيلَةً فِي غَيْرِ أَوَانِ طَمْثِهَا، أَوِ اسْتَمَرَّ الْحَيْضُ بَعْدَ مَوْعِدِهِ، تَكُونُ كُلَّ أَيَّامِ نَزْفِهَا نَجِسَةً كَمَا فِي أَثْنَاءِ طَمْثِهَا. 26كُلُّ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ نَزْفِهَا يَكُونُ نَجِساً كَفِرَاشِ طَمْثِهَا، وَكُلُّ مَا تَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ يَكُونُ نَجِساً كَنَجَاسَةِ طَمْثِهَا. 27وَأَيُّ شَخْصٍ يَلْمِسُهُنَّ يَكُونُ نَجِساً، فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ ))[ ترجمة كتاب الحياة ]
وحتى تتطهر من نجاستها هذه ، عليها انتذهب الى الكاهن بفرخي حمام !!
يقول كاتب سفراللاويين ( 15 : 29 ) :(1/44)
((وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ تَأْخُذُ لِنَفْسِهَا يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ وَتَأْتِي بِهِمَا إِلَى الْكَاهِنِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 30فَيَعْمَلُ الْكَاهِنُ الْوَاحِدَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ وَالْآخَرَ مُحْرَقَةً وَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ مِنْ سَيْلِ نَجَاسَتِهَا.))[ ترجمة الفاندايك ]
والمدهش أن هذا الحيض الذى يأتيها من عند الله ، (وهذا تكوين وخَلق الأنثى) تكون خاطئة بسببه وعليها أن تتطهر من ذنبها !!!!
علماً بأن المسيح قد صرح في إنجيل متى [ 5 : 17 ] قائلاً : ((لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْغِيَ الشَّرِيعَةَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأُلْغِيَ، بَلْ لأُكَمِّلَ.))
فلك أن تتخيل المرأة يأتيها الطمث لمدة سبعة أيام تكون فيها نجسة ومنبوذة من الآخرين ثم تستمر فترة نجاستها أسبوعا آخر: أى نصف الشهر وهذا يعنى نصف السنة ونصف عمرها تكون نجسة منبوذة !
وعندنا طاهرة عزيزة لا نفارقها ، وإنما لا ننفر عن شيء منها إلا موطن الدم فقط ، هذا هو صريح القرآن الكريم ، قال تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }[ البقرة : 222] ، وهو صريح فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع نسائه ، وما أوصى به أصحابه ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ .
والمقصود هو بيان كذب بطرس . قبحه الله .
( ( (
(يستحي من نطق كلمة نكاح في الآية ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع )(1)
__________
(1) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/4 ، و د/7 ، وأسئلة عن الإيمان الحلقة 94 د / 23.(1/45)
الكذب هنا هو أنه يفسر النكاح بمعنى الجماع ، ثم يقول أن القرآن والسنة فيهما كلام بذيء ، وهذا من كذبه ، النكاح هو الزواج في هذه الآية وفي الحديث ( النكاح من سنتي ) .
وفي هذا أمارة على فشله في أن يجد كلمة رديئة في القرآن الكريم أو السنة النبوية ، ولذا لجأ للكذب والتلبيس على الناس .
( ( (
(يقول بطرس الكذاب : بعد موت خديجة تزوج صبية عمرها ست سنوات ودخل بها وهي بنت تسع سنوات ، وبين السادسة والتاسعة كان يمارس معها حاجات استحي ـ هو يعني ـ من ذكرها ولكنها موجودة في كل كتب السيرة . بل وفي صحيح البخاري على لسان عائشة(1)
هكذا يتكلم ، وهذا الكلام فضلا عن أنه كذب يتكلم به من رأسه ، فهو أشبه ما يكون بـ ( تحديف الطوب ) .. فعل الصبية ، وأمارة على خسته ، وحقده على شخص الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وشيء من هذا لم يحصل ، ودونكم كتب السيرة ، فليذكر لنا صفحة أو شيء مما كان يفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعائشة على حد زعمه .
ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتزوج عائشة بعد خديجة ـ رضي الله عنها ـ بل تزوج السيدة سودة بنت زمعة ـ رضي الله عنها ـ . كذب على كذب .
( ( (
( يقول دخل في وقت واحد بتسعة(2) ، وكان فيه ساريات زي مارية القبطية وفوقهم نساء وهبهن أنفسهن للرسول وبلغ العدد 66 إمرأة(3).
هذه من عند بطرس .
لم يدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وقت واحد بامرأتين ، فضلا عن تسعة ، ولم يكن عنده سرايا كما يتكلم ، كانت واحدة ، جاءته هديه فعرض عليها الإسلام فأسلمت ، ومن ثمَّ ضمها لنسائه صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/9
(2) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/6
(3) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/6،7(1/46)
ونساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسعة ، وجملة من دخل عليهن إحدى عشر ، كلهم ..كل اللواتي شرفن بالمبيت مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إحدى عشر . هذا ما تقوله كتبنا . مَنْ شرفن بالمبيت مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة عشر ليس إلا . ولم يكن من نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هن على حسب ترتيب الزواج منهن 1 ـ خديجة بنت خويلد ،2ـ سودة بنت زمعه ، 3 ـ عائشة ، 4 ـ حفصه بنت عمر ، 5 ـ زينب بنت خزيمة الهلالية 6ـ أم سلمة 7 ـ زينب بنت جحش 8 ـ جويرة بنت الحارث 9 ـ أم حبيبه بنت أبي سفيان 10 ـ صفية بنت حيي ، 11ـ ميمونة بنت الحارث الهلالية . وكان له أربع من السراري(1) ، ولم يدخل بواحدة وهبت نفسها له .
ولاحظ أخي القارئ أنه يعرض هذا الكلام على أنه استنباط منه خرج به من قراءته لأثنى عشر مرجعا من مراجع السيرة النبوية ، ولك أن تراجع كل ما كتبه المسلمون عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتب السيرة والتفسير والحديث ، لن تجد فيها غير ما ذكرت لك .
( ( (
( يقول زواج المتعة موجود في القرآن العظيم والأحاديث في صحيح البخاري(2) ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استمتع بالنساء هو والصحابة في الحج حتى قال أحدهم استمتع رسول الله واستمتعنا معه(3).وظل هكذا حتى حرمه عمر (4)
__________
(1) ابن القيم زاد الميعاد 1/ 110 ، 111
(2) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/4، 5
(3) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/3:56 ، وهو كلام من عنده لا يسنده لدليل . والمتعة في الحجة هي فصل العمرة عن الحج .
(4) الحلقة 36 من أسئلة عن الإيمان د /26(1/47)
وهذا كله من عنده ، فلم يستمتع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا في الحج ولا في غيره ، ومتعة الحج هي فصل العمرة عن الحج ، وليس معاشرة النساء . وليس في القرآن العظيم آية تدل على إباحة جواز المتعة (1)، وتحريم المتعة كان في غزوة خيبر .. خَبَرُه في ذكر غزوة خيبر في كتب السير وكتب التفسير وكتب الحديث . وبطرس يكذب .
( ( (
(يسأله أحدهم أليس تعدد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزوجات كتعدد سليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم ؟
فيجيب ، لا . محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى بعد عهد النعمة ـ أي العهد الجديد ـ الذي حُرِّمَ فيه التعدد ، ولذا كان عليه أن يتبع عهد النعمة ولا يتبع عهد الناموس .. العهد القديم .
أين الكذب هنا ؟
يكذب على دينه هو . فالنصرانية لا تتنكر للعهد القديم ، وإنما تقره ، والمسيح عليه السلام جاء متمما ولم يأتي ناقضا ، والذي تعدى على الناموس هو بولس وليس المسيح عليه السلام ، ويكذب على دينه حين يقول أن التعدد محرم عندهم .
( ( (
__________
(1) والآية 24 من سورة النساء {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }[ النساء : 24] جمّع المفسرون عندها كل الأدلة الدالة حرمة جواز المتعة ، وأن الاستمتاع هنا ليس هو المقصود عند الشيعة ، فليرجع إلى كتب التفسير من شاء .(1/48)
( يقول ميمونة ـ هكذا بدون أن يسمى أو يذكر مصدرا ـ رمت نفسها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو منصرف من الحج ، وقالت له لك الجمل بما حمل يا رسول الله فأخذها ودخل بها(1)
وهذه أيضا من عنده . فالثابت أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدخل بامرأةٍ واحدةٍ ممن وهبن أنفسهن له (2)
( ( (
( يقول أن أي امرأة مؤمنة يمكن أن تهب نفسها للنبي حتى لو كانت متزوجة(3)
وهذه من عنده أيضا ، والذي نعرفه أن المتزوجة تحرم على كل الرجال حتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
( ( (
(يقول أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يعدل بين نسائه(4)
والسيدة عائشة تقول : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا )(5)
( ( (
انتقم من ثلاثة عشر معارض له اغتيالا بالسيف ، ويعد منهم أبو سفيان بن الحارث ، وكعب بن زهير وهند بنت عتبه بن ربيعة وأن هذا في صحيح مسلم والسيرة النبوية ، ثم يسأل أين الرحمة ؟(6)
وهو كذاب ، فأبو سفيان بن الحارث أسلم ، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ـ وأخوه في الرضاعه ، وأحد أربعة كانوا يشبهون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشكل ، وقصة إسلامه يوم الفتح مشهورة ، وخبره يوم حنين معروف مشهور ، وله ترجمة في كتب السيرة .
__________
(1) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/22
(2) فتح الباري شرح الحديث /4414
(3) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/22
(4) الحلقة 36 من أسئلة عن الإيمان د /25
(5) أبو داود / 1823
(6) الحلقة 37 من أسئلة عن الإيمان د/7 وأكد هذا الكلام في الدقيقة 20(1/49)
وكعب بن زهير أسلم وحسن إسلامه وهو صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها ( بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول ) ، وهند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه وعنها وعن زوجها أبي سفيان . أسلمت وحسن إسلامها .
فانظر كيف يكذب ، وانظر كيف يدلس ويقول في ( صحيح مسلم ) و ( السيرة النبوية )
( ( (
( يقول أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباد قبائل اليهود بالكامل(1)
وهذا من إفكه وكذبه ، فيهود مع أنها غدرت عدة مرات ، وبسطت أيديها بالسوء ، وشاركت في تجميع العرب يوم الأحزاب ، وتجمعت هي بنفسها في خيبر ، في الحصون وتترَّست بالعدد والعتاد والحصون على الجبال إلا أنها مع كل هذا لم تباد . لم يحدث لقبيلة منهم إبادة أبدا ، بنو قينقاع أخرجوا من المدينة بدوابهم يحملون أمتعتهم بعد أن غدورا وتعرضوا للأعراض ، وبنو النضير حاولوا اغتيال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يقتلهم بل أخرجهم بأمتعتهم ودوابهم ، وكذا بنو قريظة مع أنهم غدروا بعهدهم في وقت الشدة واتجهوا ـ حين غدروا ـ للنساء والصبيان ليبدؤوا بهم ثم بالرجال يقتلوهم من خلفهم مع هذا لم يقتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدا منهم سوى المقاتلة فقط وترك النساء والذرية . لم يعاملهم بالمثل ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل هموا بقتل نسائنا وأطفالنا نقتل نسائهم وأطفالهم .. لم يقل هذا ، وإنما قتل من شاروكوا في الغدر فقط ، وأهل خيبر شيَّدوا الحصون في رؤوس الجبال ، ودربوا الرجال ، واشتروا كل ما يعرف من سلاح ، وهموا بالمسير للمدينة لقتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يعرفون أنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومع ذلك حين انهزموا صالحهم وتركهم في أرضهم يثيرون الأرض ويسقون الزرع .ويهود وادي القرى وفَدَك صالحهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أبدوا رغبة في الصلح ، صالحهم وتركهم في ديارهم وأموالهم ونسائهم ، صالحهم والجيش معه ، صالحهم وهو
__________
(1) الحلقة 38 من أسئلة عن الإيمان د/23(1/50)
منتصر قد تملك خيبر بحصونها وعتادها ، صالحهم ولو شاء قتلهم جميعا .
وحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع يهود مشهور في الكتب التي ينقل منها بطرس ، ويعرفه كل من عرف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وليس الأمر كما يقول بطرس . إنه كذّاب .
( ( (
(يقول عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقوى بالغنائم التي استولى عليها من قوافل قريش وبدأ يعد جيشا ويدرب أفرادا ويقاتل الناس كلهم (1)
قلت : الرجل سينمائي .. ويستغل سيطرة الثقافة السينمائية على عامة مستمعيه ؛ يحاول أن يرسم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة أبطال الأفلام والجبابرة الذين يبنون الدول بأسباب دنيوية بحته .
وهذا الكلام من عنده أيضا ، فما غنم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا من قوافل قريش أبدا ، يوم بدر جاءه الجيش وفلتَت منه العير ، ويوم أحد كان القتل في أصحابه ، ويوم الأحزاب تجمعت عليه مضر كلها وما غنم منهم شاة ولا بعيرا ، وفي فتح مكة عفا عنهم وأطلقهم .وكان عدد المسلمين أقل من عدد عدوهم في كل حين ، ولم يتكلم أحد من رواة السير بأنه كان هناك حركة تجنيد وتدريب وإعداد لجيش عظيم يقاتل به الأعداء ... كانت دعوة تركن ظهرها لربها وترفع إليه يدها فيمدها بمدده . وللشريعة الإسلامية خصوصية في معنى النصر والهزيمة لا تعطي للعدد والعتاد أهمية ، وإنما تطالب أصاحبها ببذل الجهد والتوكل على الله ، ومن يتتبع حال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتاله العرب كلهم وخروجه للروم ومراسلته للفرس يأمرهم بالإسلام ويتوعدهم يعلمه أنه نبي مؤيد من عند الله ، إذ من يفعل مثل هذا من البشر ، ومن يثق كل هذه الثقة من البشر ؟ .والمقصود أن ما يقوله بطرس من عنده .. كذبٌ يفتريه .
( ( (
(لأول مرة ينقلب الوضع ضد أهل الكتاب في سورة التوبة آية 29 وقبل ذلك كان مسالما لأهل الكتاب لا يجادلهم ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) .
__________
(1) الحلقة 38 من أسئلة عن الإيمان د/15(1/51)
كلامه هذا في سياق أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان متقلبا ، تتلون أفكاره حسب البيئة التي يعيش فيها ، في مكة مستضعفا فيأخذ بالمسالمة ، وتحاربه قبائل العرب الوثنية فيسالم أهل الكتاب ويتودد لهم . وهذا يشي لمن يسمع بشيء غير حميد ، إذ كيف يمدح الرجل قوما ثم ينقلب عليهم ؟
وكلام بطرس هذا لا يصدقه إلا من لا يعلم شيئا عن سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضح من أول يوم ، وخط الدعوة واضح من أول شبر .. موقفه واضح من أهل الكتاب ، وواضح من عباد الأصنام ، ولم تداهن الدعوة أحدا من الوثنيين ولا من النصارى ولا من يهود ، ومعلوم أن نفرا من نصارى نجران أتوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بمكة وأسلموا بين يديه ، ونزلت فيهم الآيات من سورة القصص َلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 51 ـ 52]، وراسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هرقل والمقوقس وملك الحبشة يأمرهم بالإسلام . فلم تكن مداهنة ثم انقلاب .. لم يكن هذا .. بل كانت بيّنة .. محجة بيضاء ليلها كنهارها لم يزغ عنها إلا هالك . وتم التحرك للأعداء الأولى فالأولى ، وهذه ليست مداهنة وإنما حنكه
( ( (
( يقول أن مشكلة المسلمين التعتيم ، لا يحل لمسلم أن يسأل ، وإن سأل أحدهم يتلون عليه الآية ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسأكم (1)
__________
(1) الحلقة 37 من أسئلة عن الإيمان د/ 23 ، والحلقة 38 من أسئلة عن الإيمان د/21، ويتكرر هذا الكلام كثيرا على لسانه ولسان النصارى . وكأنه هو الذي قرأ وعرف الحقيقة ، ولو أن المسلمين قرأوا مثله لعلموا ما خفي عنهم كما علم هو !! . ألا لعنة الله على الكذّابين .(1/52)
ونقول : رمتني بدائها وانسلت ، القرآن تنزل بناء على الحدث ، يوجه الناس في كل شؤونهم ، والقرآن العظيم رصد كثيرا من سؤال الصحابة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجابته إليهم ، من ذلك ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }[البقرة:186] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا }[ النازعات:42] ، { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ }[ الذاريات :12] ، {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ }[ الأحزاب : من الآية 63] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }[ طه : 105] ،{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[ الإسراء:85] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً }[الكهف:83] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[ الأنفال :1]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ }[ المائدة :4] ، {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ }[ النساء :من الآية 153] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }[ البقرة :222ـ] ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ(1/53)
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[ البقرة :من الآية 220 ] ، { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }[ البقرة : من الآية 219] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ }[ البقرة : 217] ، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ }[ البقرة: من الآية 215] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ }[ البقرة : 189] . وكتب السنة النبوية رصدت كثيرا من المواقف التي يسأل فيها الصحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل أعرابي يسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : دُلني على عملِ إذا عملته دخلت الجنة (1) ، وآخر يسأل : دلني على عمل يعدل الجهاد(2) ، ما الإيمان ؟ ما الإسلام ، ما الإحسان ؟(3) يسألون عن الدعاء ، ويسألون عن الإيمان ويسألون عن المحيض ، وعن القبلة حين الصيام ، ويوم الحساب ، وعن الجنة والنار .. عن كل شيء يسألون .
وفي ديننا نناقش كل متكلم باسم الدين ، لا نعرف كبيرا على النقاش والمراجعة ، وقد ساد بيننا ( كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ) .
أما النصرانية فعندها أسرار لا يتكلم فيها أحد ، وأسرارٌ في صلب العقيدة !
ولك أن تسأل : ما التثليث ؟ ولم يعبد المسيح ؟ وهل قال للناس أعبدوني ؟ وأين قال أنه هو الله أو ابن الله في الإنجيل ؟ أين الدليل على الفداء ؟ وغير ذلك من الأسرار التي احتفظت بها الكنيسة ومما لم نجد له جوابا إلى يومنا هذا .
__________
(1) البخاري 1310
(2) البخاري 2577
(3) البخاري / 48 وانظر البخاري51 .(1/54)
إن قراءة عابرة في حال النصارى تبين بوضوح أن جلَّهم لا يعرفون شيئا عن أصولهم ، ولا يحق لهم السؤال ، وكل هذه الجعجعة تنتهي حين تتجه للكتاب ( المقدس ) لأنها تتصادم بعقليات لا تفهم هي ، أو لا تمتلك إجابة حول كثيرٍ من القضايا الأصولية ، وتنتهي هذه الجعجعة حين تصل الكتاب ( المقدس ) لأنها تصطدم بقول ( بولس ) : في رسالته إلى فيليبي [2 : 14 ] 14" اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ "
وهذا هو واقعهم بالفعل .. لا نقاش ، ولا دمدمة ولا مجادلة . وحقا رمتني بدائها وانسلت .!!
( ( (
(يقول الإسلام لا يغير من الداخل ،وإنما فقط أوامر ونواهي ..أما النصرانية فهي التي تغير من الداخل ، ويضرب مثالا ببولس الذي كان لصا ثم تغير .(1/55)
ولا أريد الرد باستحضار ما قاله جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي وهو يتكلم عن حالهم قبل الإسلام وحالهم بعد الإسلام : ( أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ )(1) .
ولا أريد الرد باستحضار حال عمر بن الخطاب وخالد وغيرهم كشاهد على كذبه . ولا أريد الرد بأن العقل ينافي أن تكون هناك أوامر بلا أخبار ، وأن تكون هناك طاعة وعبادة بلا محبة .
وإنما أريد الوقوف على ما ضربه مثلا ، وهو بولس .
بولس لم يتغير بتعاليم المسيح وإنما غير تعاليم المسيح ، بولس لم يجلس يتعلم قبل أن يتكلم ، وإنما من أول يوم أصبح رسولا للمسيح .
أين تعلم ؟ كيف تكلم وهو لم يتعلم ؟! وكيف غيَّر ؟ وأعجب من ذلك كيف صدقوه واتبعوه ؟!
__________
(1) مسند أحمد 1649 ، والحديث في كتب السير كلها . عند ذكر الهجرة الأولى للحبشة .(1/56)
بولس عندهم كابن السوداء عندنا تماما ، لتوه تكلم بالشهادتين وراح يعدل على كبار الصحابة .. راح يفتي من أم رأسه ، ولكن ابن السوداء اصطدم بصخرة الإسلام القوية فهشمته وإن لطخها بدمه القذر . (1)
والمقصود هنا هو بيان كذبه في ضربه بولس مثلا للتغير بالنصرانية . ولو قال لتغير النصرانية لما علقنا عليه وقلنا صدق ، ولكن حتى في هذه كذب .
( ( (
(يقول عن أم قرفة كانت امرأة حكيمة من حكماء العرب قد تجاوز عمرها المائة والعشرين عاما وعبّرت عن رأيها بحرية فقتلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بربْطها في جملين كل جمل في قدم من أقدامها بعد قلبها على رأسها ثم شقها نصفين يقول : أين الرحمة هنا ؟(2)
وشيء من هذا لم يحدث بطرس كالعادة كذاب ، ولكن ماذا حدث ، ولماذا قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أمر بقتل عدد من مخالفيه ، وفيهم بعض النساء ؟
سنقعد لبيان هذا فصلا كاملا بعنوان ( لهذا قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ) . إن شاء الله وقدر .، والآن نكتفي بهذه الأكاذيب لننتقل إلى مبحث آخر وهو :
ما يخفيه بطرس على مسمعيه .
الفصل الثالث
الفتاة الفزارية وزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الأربع زينب وعائشة وجويرية وصفية
في هذا الفصل :
أولا : زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة زينت رضي الله عنها .
ثانياً : زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها .
ثالثاً : الفتاة الفزارية
رابعاً : زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب ، و السيدة جويرية بنت الحارث .
( أولا : زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش
__________
(1) انظر للكاتب على خطا بولس وابن السوداء ، بالصفحة الخاصة في صيد الفوائد .
(2) الحلقة 37 من أسئلة عن الإيمان د/5 وما بعدها .(1/57)
(ذَكَرَ ـ ويذكرون ـ قصة زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ عدّة مرات ، ويسردها على النحوي التالي :
ـ رأى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب وهي في بيتها فأُعجب بها ، وأخفى حبها في قلبه(1).
ـ علم زيد بالخبر من زوجته ، فذهب لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتريدها يا رسول الله ؟ قال أمسك عليك زوجك(2).
ـ طلّق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب من زيد وتزوجها هو (3).
(الجواب في نقاط :
( هذا الكلام لم يتكلم به غير ( بطرس ) وأمثاله من أعداء الملة ، يعتمدون على رواية لا تصح وهي رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزينب وهي بثياب بيتها .
__________
(1) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/14، أسئلة عن الإيمان الحلقة 94 د /16 ، 17
(2) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/14
(3) مقدمة الحلقة 95 من برنامج أسئلة عن الإيمان . وحين تجمع كلامه في هذه القصة تجد أنه متردد ، فمرة يقول رآها وأعجبته وأبدى أمامه إعجابه بها حين قال ( سبحان مقلب القلوب ) وأخبرت هي زيد ومن ثم عرض زيد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يطلق زينب ثم يتزوجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويقول بأن المشار اليه في قوله تعالى : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) هو حب زينب ، ولا ندري كيف وهو قد أبداه كما يقول ، ومرة يقول بل أمر هو زيد أن يطلق زوجته وأخذها منه ، وهذا التردد في سرد القصة أمارة على الكذب لمن يعقل .(1/58)
( السياق العام الذي جاءت فيه القصة هو: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً . وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً{37} مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً . الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً . مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً . [ الأحزاب :36 ـ40 ]
(ـ زيد ليس ابن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صلبه ، بل ابنه بالتبني ، وقصة تبني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصة تبني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد فريدة من فرائد الأدلة على المروءة وحسن الخلق ، وهي في كل كتب السيرة .
(ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرَ زينبا متفضلة في ثيابها أبدا ، وهذه الرواية لا تصح . من ذكرها ضعفها وشجب عليها .
(ـ والرسول لم يحب زينباً ، ولو كان قد أحبَّها فقد كانت أمامه منذ الصغر ؛ أفيرغبُ فيها بعد أن كبر سنه ، وبعد أن كبر سنها وذاقت غيره من الرجال ؟(1/59)
(ـ زيد كان يشكو دائما من زينب ، وكانت تشكو منه ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يوصيه بأن يتقي الله ويمسك عليه زوجه ، وهذا عكس ما يذهب إليه النصارى إذ يقولون أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي طلق زينب من زيد وتزوجها .
(ـ ( طلق زيدٌ زينباً وهو لا يفكر لا هو ولا زينب فيما سيكون بعد الطلاق .. لم يكن أحد يعلم شيء ، لم ينزل خبر على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن زينب تطلق ويتزوجها هو ، وإنما كان وحيا بالإلهام ، ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخَّرَه ولا حاول تأجيله ، ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه .ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أمامَ إلهامٍٍٍ يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به.
(ـ الحرج كان من زواج مطلقة الابن بالتبني ، وليس من تطليق زينب لزواجها ، وليس من محبة زينب التي تربعت في قلبه وهو يخفيها كما يفتري بطرس وغيره .. إذ كان العرف السائد يومها أن زينب مطلقة زوجة الابن بالتبني ، كان العرف أنها لا تحل لمن تبني مطلقها .. كان هذا العرف سائدا حتى بعد إبطال التبني )(1) .
(ـ وهذا الأمر واضح في الآية نفسها { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } فزيد قضى منها وطره ، وطلقها وهو كاره لعشرتها وهي كارهةٌ لعشرته ثم جاء زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك .
(ـ كان يعلم ـ بالإلهام ـ أن هذا الأمر حادث ، ولم يكن يحبه ، بل كان يخشاه ، يخشى من كلام الناس ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) وهذه أمارة على سلامة الطبع ، وأمارة على عدم الرغبة في الزواج من زينب .
__________
(1) راجع ما كتب الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ عند هذه القصة .(1/60)
(ـ بعد انقضاء عدة زينب ، أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زيدا زوجها السابق إليها ليخطبها عليه (.في الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه قال : ( لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ قَالَ فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهَا فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَنَكَصْتُ عَلَى عَقِبِي فَقُلْتُ يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُكِ قَالَتْ مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ )(1)
.(لم يشتكِ زيد ، ولم تشتكِ زينب ولو كان زيد مكرها على طلاق زينب ، ولو كانت مكرهة على فراقه لتكلم وأسمع ، ولتكلمت وأسمعت ، والذي نجده هو أن الذي خطب زينب هو زيد ، ونجد زيداً لا ينظر إليها إجلالا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كونه فقط ذكرها للزواج ، وزينب تآمر ربها . . إنها نفوس موصولة بالله .
__________
(1) صحيح مسلم / 2567(1/61)
(ـ العلة من هذه القصة مذكورة في ذات السياق الذي يتكلمون به { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] يقول صاحب الظلال : ( وقد شاء الله أن ينتدب لإبطال هذا التقليد من الناحية العملية رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كانت العرب تحرم مطلقة الابن بالتبني حرمة مطلقة الابن من النسب ؛ وما كانت تطيق أن تحل مطلقات الأدعياء عملا ، إلا أن توجد سابقة تقرر هذه القاعدة الجديدة . فانتدب الله رسوله ليحمل هذا العبء فيما يحمل من أعباء الرسالة . وسنرى من موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذه التجربة أنه ما كان سواه قادرا على احتمال هذا العبء الجسيم ، ومواجهة المجتمع بمثل هذه الخارقة لمألوفه العميق ، وسنرى كذلك أن التعقيب على الحادث كان تعقيبا طويلا لربط النفوس بالله ولبيان علاقة المسلمين بالله وعلاقتهم بنبيهم ، ووظيفة النبي بينهم .. كل ذلك لتيسير الأمر على النفوس وتطبيب القلوب لتقبل أمر الله في هذا التنظيم بالرضا والتسليم ) أ .هـ .
( ـ وفي القصة كلها أمارة على صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ـ (( لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ ))(1) نعم لم يكن يكتم شيئا من الوحي ، وما كان يتصرف بغير وحي { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[ النجم :3 ، 4 ]
( فليس في القصة ولا حواليها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي زينب وأعجبته ومن ثم طلّقها هو من زيد ليتزوجها . أبدا .. ليس هذا في القصة ولا في صريح النص محل الاستدلال ، ولا يمكن أن يظن ممن يعرف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وإنما بطرس كذاب .
__________
(1) البخاري / 6870 ، ومسلم /125(1/62)
( ونسأل النصارى لو سلمنا جدلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلق زينب وتزوجها هل يطعن هذا في نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمقاييسكم أنتم ؟ أنت تشهدون على الأنبياء بالزنا .. زنا المحارم ثم تطعنون بما لا يصح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ؟
أمرٌ عجيب . وأعجب منه أن هذه الشبهة ردَّ عليها الأولون ،والآخرون يتكلمون بكلام الأولين دون أن يلتفتوا للردود السابقة والردود الحالية ، مما يعكس أنها فقط نفسية مريضة لا تريد سوى إضلال الناس ولذا تكذب وتفتري .
( ( (
زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة عائشة رضي الله عنها .
ماذا ينقمون ، بطرس وغير بطرس ؟
يقولون : صغيرة .. كيف تتزوج في هذا السن ؟
ويقولون : صغيرة تزوجت من كبير كهل في عمر أبيها ؟
والإجابة في نقاط :
الأولى : نصارى اليوم ، بطرس ومن معه ، هم أول من احتج على زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، فلم يعترض أحد قبلهم على هذا الزواج . وهذه بداهة تصرح بأن الخلل عندهم وليس في الشريعة .
الثانية : زواج الصغيرة ،وزواج الصغيرة من الكبير لا تنكره النصرانية ، بل تقره .. تعرفه .. حدث فيها . !! .
السيدة مريم ـ عليها السلام ـ أنجبت المسيح وهي في الثانية عشر من عمرها ، وهذا يعني أنها حملت به في الحادية عشر ، وكانت قبل ذلك مخطوبة ليوسف النجار . و يوسف النجار يومها فوق الثمانين !!
كانت صغيرة ، وكانت تستعد للدخول على كبير ، على رجل يكبرها بما يزيد على السبعين عاما .وليس كم وأربعين سنة مثل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعائشة .(1/63)
وكتاب النصارى يتكلم بأن داود عليه السلام حين هرم وكبر في السن وذهب عقله زوجوه بفتاة صغيره ، وداود ـ عليه السلام ـ عاش مائة عام أو يقاربها ولو قلنا فتاة هذه تكون في العاشرة ( كما مريم عليها السلام ) فإن الفرق في العمر بينه وبينها يكون ضعف ما كان بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ .
وفي كتابهم أن إبراهيم عليه السلام تزوج بهاجر بعد أن تجاوز الثمانين من عمره ، وهي كانت جارية صغيرة ، والفارق الزمني بينهما ضعف ما كان بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أيضا .
بل في كتابهم بأن فارض بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام ـ تزوج وأنجب ولدين وهو ابن ثمان سنوات . وهذه من عجائب الكتاب المقدس . ومما يرفضه كلُّ عقلٍ صحيحٍ .والقصة في العهد القديم . سفر التكوين .
الثالثة : زواج المرأة في التاسعة من عمرها لم يكن أمرا منكر في هذا الزمان ... لم يبتدئه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد كان من الطبعي جدا أن تخطب البنت وهي في السادسة من عمرها وتتزوج في التاسعة من عمرها . لم يكن عيبا أن تتزوج المرأة الصغيرة بالرجل الكبير .
عبد المطلب تزوج بعد أن تجاوز المائة من عمرة بأخت السيدة آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكان بينهما من العمر ما يزيد عن تسعين عاما .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي في نفس السن تقريبا ، وكان عُمَر يومها قد تجاوز الخامسة والخمسين من عمره .
وكذا عمرو بن العاص تزوج وأنجب من امرأة أصغر منه وهو بن اثنا عشر عاما ، فكم كان عمر زوجته حين تزوجت ؟ لا يزيد بحال عن العاشرة .
والشافعي ـ رحمه الله ـ يقول : أدركتُ جدة في الواحدة والعشرين من عمرها . فمتى تزوجت هذه ، ومتى أنجبت ؟ ومتى تزوجت بنتها أو ابنها ومتى أنجب ؟(1/64)
فزواج الصغيرة لم يكن عيبا ، ولم يكن أمرا شاذا بل كان معمولا به ، في بيئة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي بيئة المسيح عليه السلام ، ومن الإجحاف والظلم أن نحكم بما هو سائد بيننا الآن على ما كان موجودا قبل ألف وأربعمائة عام . حين بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومما يجمل ذكره هنا أن الجيل الذي قبلنا ـــ أبي وأمي ــ كانت البنت ــ في أيامهم ــ تتزوج في الرابعة عشر والخامسة عشر ، أما اليوم فالبنت لا تتزوج قبل أن تنهي الجامعة ، أي بعد الثانية والعشرين ـ
هل هنا اليوم من يزوج بنته وهي في الصف الثالث الإعدادي ... يقول طفلة مع أن أمها ربما قد تزوجت في ذات السن .
وانتشر اليوم على صفحات الإنترنت وجود بعض البنات قد حَمَلْنَ ووضعن وهنَّ في الثانية عشر من عمرهنَّ ، تناقلت المواقع بالصوت والصورة الخبر عن فتيات في ( مصر ) و ( استراليا ) و ( الجزائر ) . هذا ما اطلعتُ عليه وربما كان هناك ما هو أكثر .
أرأيتم أين الخلل ؟
الخلل أننا نحاكم البيئة التي عاش فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أعرافنا التي تسود بيننا اليوم .(1/65)
الرابعة : لم يخطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عائشة ـ رضي الله عنها ـ من تلقاء نفسه ، لم يراها ومن ثمَّ أعجبته فراح وخطبها ، وإنما ـ بأبي هو وأمي وأهلي صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن ماتت زوجته بقي بلا زوجه ، فأشارت عليه خولة بنت حكيم أن يتزوج ورشحت له امرأتان ، سودة بنت زمعة وعائشة رضي الله عنها .. واحدة ثيب لتتناسب مع أولاده وواحدة بكر ، وفي ترشيح خولة أمارة على أن عائشة كانت تصلح للزواج ، فهي امرأة وتعرف النساء جيدا ، فلولا أنها تعرفها جيدا وتعرف أنها تصلح للزواج ما رشحتها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحين ذهبت لخطبتها وجدت أن هنا من تكلم لخطبتها قبل رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ، جبير بن المطعم بن عدي والقصة في بن كثير (1). وغيره . وعائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت تنقل قِرَب الماء على ظهرها يوم أحد .. تسقى الجرحى ، وهذا يدل على أنها كانت إمرأة ..تحمل القِرْبة على ظهرها ، وتحضر القتال تسقي الجرحى ، فهي إمرأة إذا (2) تصلح للنكاح ، وأنها كانت امرأة تصلح تماما للزواج
__________
(1) راجع البداية والنهاية لابن كثير قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من سودة وعائشة رضي الله عنهما.
(2) الحديث عندالبخاري / 2667 ، ومسلم / 3376 ، وفيه ـ من رواية مسلم ـ : (( وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ))(1/66)
الخامسة : لو كان عيبا ما كانت قريش لتسكت عليه وهي التي كانت تفتعل الأكاذيب للنيل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وكذا يهود(1) وهم أشد الناس عداوة لمحمد ــ صلى الله عليه وسلم ـــ ولدين محمد ــ صلى الله عليه وسلم ـــ ولأتباع محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ لو كانوا يرون في هذا الأمر عيبا أكانوا يتركونه ؟
لا والله .
نعم لم يكن الأمر عيبٌ وقتها ، بل كان هو الطبيعي .
السادسة : والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لم يكن هذا العجوز مُحْدَوْدِب الظهر بطيء الخطى ، الذي لا يقوم من مجلسه إلا بغيره ، بل كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يركب الخيل ويقاتل أشد القتال ، ويثبت حين يفر الأبطال . ولم تكن آثار الشيب بادية في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانت شعيرات يعدونها عدّا (2)، وكان النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــ يجامع حتى يكسل(3) ، ومن يجامع حتى يكسل سلوا عنه النساء . و رجل متزوج بهذه المواصفات لامرأة غير متزوجة خير لها من غِرٍّ مثلها ، فللخبرة بالنساء دور ، يعرفه المتزوجون والمتزوجات .
__________
(1) دخل النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في المدينة وكان بالمدينة يومها ثلاثة قبائل من اليهود هم بنو قينقاع ، وبنو النضير وبنو قريظة .
(2) راجع إن شئت وصف النبي صلى الله عليه وسلم تحت عنوان النبي كأنك تراه .
(3) يجامع حتى يكسل أي لا ينزل منية ، يجامع زوجته حتى يمل ولا ينزل . والحديث في صحيح مسلم /527 ، وغيره ، ونصه " عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ "(1/67)
السابعة :معروف أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحب عائشة رضي الله عنها وأنها كانت تحبه ، وتغار عليه ، وأحاديث غيرة عائشة ـ رضي الله عنهاـ كثيرة ومشهورة ،ولو أنه بغيض لها .. اغتصبها كما يقولون ما أحبته هذا الحب وغارت عليه هكذا ـ صلى الله عليه وسلم .
الثامنة : أن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ لم تكن هذه الطفلة الغافلة التي لا تفقه شيئا .. وإنما كانت من خيرة النساء وعقلاء الجيل ، وأنقل بعض ما ورد في فضل عائشة رضي الله عنها ـ من ترجمتها في سير أعلام النبلاء ـ على لسان أئمة المسلمين من التابعين ، لتعلموا أي النساء كانت هذه :
عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الأكابر يسألونها عن الفرائض .
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أَفْقَهَ الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة .
وقال هشام بن عروة، عن أبيه: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة .
وقال أبو بردة بن أبي موسى، عن أبيه: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علمًا .وقال الزهري: لو جُمِعَ علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل .
وفي "الصحيح" عن أبي موسى الأشعري -مرفوعا: فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيدِ على سائر الطعام .
التاسعة : أنه هذه الشبهة مفتعلة من خلال التلبيس والتدليس على الناس ، يقولون لهم بنت صغيرة في التاسعة من عمرها . ورجل عجوز في الخمسين من عمره . وكيف تتزوج هذه الطفلة هذا الرجل العجوز ؟(1/68)
ومن تكلم بهذه الشبهة لا بد أنه قرأ السيرة النبوية ، وهو يدعي ذلك .. يدعي أنه قرأ السيرة جيدا . ولا بد أنه قرأ عن زواج عبد المطلب من امرأة صغيرة في السن وأن عائشة رضي الله عنه كانت مخطوبة أو تكلم لخطبتها أحدهم قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا بد أنه علم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتزوج عائشة رضي الله عنها من تلقاء نفسه ، بعد أن ماتت خديجة جلس عامين بلا زواج ثم تزوج سودة وهي امرأة عجوز ضخمة ثبطه .. بالكاد تمشي ـ رضي الله عنها ، ومن يفعل هذا ليس شهوانيا أبدا .ولابد أنه علم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم كان يسكن في غرفات من طين ، وأنه لم يكن يجد ما يأكله لثلاث أيام ، ولا ما ينام عليه إلا الحصير ، ولم يكن يوقد في بيته نار لثلاثة أهلة . وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي الليل ساجدا وقائما يناجي ربه ، وكان يقول : جعلت قرّة عيني في الصلاة ، والجميع يعرف أن من يحب النساء ينفق عليهن .. يل يلبسهن ويزينهن ، ويسهر معهن .
ولا بد أنه سمع ردنا هذا ، إذ أننا نرد عليه من سنين ، ومع ذلك يكرر كلامه على الناس .
لماذا ؟
العاشرة : لأنها نفسية مريضة ليس لها هدف إلا صد الناس عن دين الله عن طريق الكذب والتدليس ، وافتعال الشبهات كما في هذه الشبهة .
( ( (
( ثالثاً : الفتاة الفزارية (1) .
أكثر من الكلام حول ما يسميها ( الفتاة الفزارية ) يقول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى فتاة فزارية مع الصحابي سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ كان قد أخذها من الأسر ، جميلة فأخذها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه لنفسه ، يدلل بهذا على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يترك جميلة إلا وأخذها . حتى وإن كانت متزوجة من غيره .
__________
(1) حوار الحق الحلقة التاسعة د/14 ، وبرنامج أسئلة عن الإيمان الحلقة 95 مقدمتها.(1/69)
وهذا من الكذب الفاحش ، الفتاة الفزارية لم تكن متزوجة من سلمة رضي الله عنه ، ولم يراها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يفتري بطرس ، ولم يأخذها له ، وإنما أخذها وفدى بها أسرى للمسلمين في مكة (1)
( رابعاً : زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب ، و السيدة جويرية بنت الحارث .
( يقول صفية بنت حيي من بني المصطلق وكانوا يهود وأنهم بعد أن أسروها خرجت في نصيب دحية الكلبي ، قالوا له جميلة تليق بك فأخذها من دحية ، ودخل بها في ذات اليوم الذي قتل فيه زوجها وأبوها وأخوها ، ونفس الشئ تكرر مع جويرة بنت الحارث ـ هذا كلامه هو ـ قال لها راح افكك وأخدك(2) .
يتكلم صراحة بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسطو على الجميلات وإن كانت متزوجات .
وهنا عدة كذبات :
الأولى : أن صفية من بني المصطلق . وأن بني المصطلق كانوا يهودا . هذا الكلام غير صحيح ، بنو المصطلق من خزاعة ، وهي قبيلة عربية من أصول يمنية ( قحطانية ) كانت تسكن ساحل البحر الأحمر عن جدة اليوم . ولم تكن من يهود ، ولم يكن فيها يهود . وصفية رضي الله عنها ليست منهم . هي من بني النضير ، وأسرت في خيبر .
الثانية : النصارى يرددون بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على صفية وهي لم تنته عدتها بعد . وهذا الكلام غير صحيح ، يقول ابن القيم ، وهو فقيه حافظ متفق على إمامته بين المسلمين : ( كانوا يطئونهن بعد الاستبراء وأباح الله لهم ذلك ولم يشترط الإسلام بل قال تعالى : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء 24 ] فأباح وطء ملك اليمين وإن كانت محصنة إذا انقضت عدتها بالاستبراء ) أ .هـ
__________
(1) زاد الميعاد لابن القيم 3/103
(2) الحلقة 39 من أسئلة عن الإيمان د/17، 18 ، و كرر الكلام في أسئلة عن الإيمان الحلقة 94 د /18 ، وبداية الحلقة 95 من برنامج أسئلة عن الإيمان .(1/70)
والحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ ينص على هذا صراحة ، يقول في ترجمة أم المؤمنين صفية ـ رضي الله عنها : (ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما طهرت , تزوجها , وجعل عتقها صداقها )، وحين تركت بعض الكتب ذكر أن الزواج تم بعد استبراء الرحم لأنه أمر بديهي عندنا في الإسلام ، ظنَّ بعضهم أن الزواج تم دون أن تعتد المرأة .
وقد ورد هذا صريحا في السنة النبوية ، وأقرَّ به بطرس(1) ، في الحديث عن حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ قَالَ : غَزَوْنَا الْمَغْرِبَ وَعَلَيْنَا رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ فَافْتَتَحْنَا قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا جَرْبَةُ فَقَامَ فِينَا رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ خَطِيبًا فَقَالَ إِنِّي لَا أَقُومُ فِيكُمْ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا يَوْمَ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحْنَاهَا فَقَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَأْتِيَنَّ شَيْئًا مِنْ السَّبْيِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا)(2)
لا حظ هذا في فتح خيبر ، وباقي الروايات بعضها في حنين وبعضها في مواضع أخرى ، وكأنه كان تنبيه يقال في كل حين ، يعكس حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على استبراء الرحم .
__________
(1) أسئلة عن الإيمان الحلقة 94 د/20
(2) الحدث في الدارمي . كتاب السير / 2366 ، ومثله عند أبي داود . كتاب النكاح /1844 ، وعند أحمد / 16378 ، 16384(1/71)
الثالثة : لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو من أجل النساء ، ولا كان يمرّ بين النساء حين تضع الحرب أوزاها ويختار من جميلة من الجميلات ، وإنما كان صلى الله عليه وسلم ـ يتزوج ليُسْلِم الناس ويدخلون في دين الله أفواجا ، كما حدث مع بني المصطلق حين تزوج منهم أسلموا ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتزوج إلا من تسلم فقط وجاء في أمر صفية بنت حيي ـ أم المؤمنين رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها : إن أقمتِ على دينك لم أكرهك ، ، وإن اخترت الله ورسوله فهو خير لك . قالت أختار الله ورسوله والإسلام . فأعتقني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتزوجني وجعل عتقي مهري )(1) هل سمعت بأفضل من هذا ؟1
وسأفرد فصلا بحول الله وقوته لبيان معنى الجهاد ، والسياق العام الذي جاء في قتل المخالفين واسترقاق الذرية .
الرابعة : جويريرة بن الحارث ـ رضي الله عنها ـ لم تكن زوجه لثابت بن قيس ، بل كانت في قسمه من الغنائم ، واستكتبته ، بمعنى أنها كتبت معه كتابا أن تحضر له مالا ويعتقها مقابل هذا المال ، وذهبت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تستعين به على قضاء دينها ، فطلب منها أن تسلم ويسد عنها ويتزوجها . هذا ما تقوله كتب السيرة ، وما يقوله الحافظ الذهبي في ترجمة أم المؤمنين جويرية بنت الحارث . فلم تكن زوجة لثابت بن قيس ، ورآها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعجبته فأخذها من ثابت بالقوة أو بالحيلة كما يدعي الكذّاب اللئيم بطرس .
__________
(1) المغازي 2/675(1/72)
الخامسة : في قصة جويرية وفي قصة صفية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن ينتقي من الأسرى الجميلات ، وإلا لخرجت كلتاهما ـ رضي الله عنهما ـ في سهمه من البداية ، وإنما كان يقسم الغنائم على أصحابه . وهم كانوا يزوجوه الشريفة في القوم ـ كما في حالة صفية ـ أو يتزوج هو شريفة القوم ـ كما في حالة جويرية ـ طلبا لإسلام قومها ، فالناس كانوا على دين رؤسائهم ، والعربُ تحب أصهارهم ، وهذا ما حدث بالفعل أسلم أبوها ـ أبو جويرة ـ وأعتق قومها ودخلوا في دين الله أفواجا . وهذا هو الحديث كما يرويه الإمام أحمد في مسنده ، وهي ذات الرواية التي يتكلم بها بطرس الكذاب مع إدخال بعض التحريفات عليها ؛ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ وَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَاحَةً لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتُهَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَرَى مِنْهَا مَا رَأَيْتُ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي قَالَ فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ(1/73)
أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ قَالَتْ وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فَقَالَ النَّاسُ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ قَالَتْ فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا )(1) .
وجاء عند البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على السيدة جويرية بنت الحارث وهي صائمة(2) ..تصوم في يوم عرسها .. نفوسٌ مستكينة هذه أم نفوس هائجة ؟
أرأيت ؟!
لم تكن زوجة لثابت بن قيس أبدا كما يدعي الكذّاب اللئيم زكريا بطرس .
وتقول له (وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ ) ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم خبرها إذا .ومع ذلك لم يذهب إليها ابتداءً ، ونظر إليها نظر الخاطب لمن يريد خطبتها ، أو أنها كانت أمة ولا يكره النظر للإماء في الشرع.
ـ الصحابة حين علموا بزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جويرة أعتقوا كل الأسرى من قبيلتها ، وهذا يعكس أثر النسب ( المصاهرة ) في حس العرب .
ـ دخل عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي صائمة في يوم جمعة .. تصوم في يوم عرسها . وصيامها يدل على طول المسافة بين اليوم الذي التقاها فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واليوم الذي دخل عليها فيه ، إذ أنها تعلمت الإسلام وأستقر في قلبها ثم آمنت بعد ذلك بربها .
ـ لم يكن السياق العملي للأحداث غزو وأسر وسبيٌّ وانتقاء الحسناوات وإكراههن على الزواج . أبدا .. كانت دعوة .. وحرص على الإسلام ، وكانت نفوس هادئة .. تصوم في يوم عُرسها .
الفصل الرابع
__________
(1) مسند أحمد 25161
(2) البخاري /1850(1/74)
الفصل :
ما يخفيه زكريا بطرس عن مستمعيه
في هذا المبحث :
ـ أول من آمن به أهل بيته.
ـ يسكن في غرفاتٍ من طين .
ـ مناجاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربه .
لا يعرف التاريخ أحد كُتب عنه ثناءً ومدحاً كالنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يمدحون خُلُقه وخلقته وكل شيء ، ولم يعرف التاريخ أحد أحيط بهالة من التعظيم والتبجيل في حياته وبعد مماته كالنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يعرف أحد مدحه أعدائه كما مدح أعداء رسولِ الله رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا الأمر صنفت فيه مصنفات مشهورة ومعروفه . ولم يعرف التاريخ أحد تطاول على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كهذا الخنزير بطرس . ش
ومدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرفت به المصنفات الكبيرة ، وشرف به المختصون في جميع الفنون والعلوم .
ووالله كلماتي ترد خجلى وهي تحكي عن الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمهما كتبتُ لا أجد نفسي قد وفيت شيئا . ولكن أراعي المقام وأضع خطوطا رئيسية تبين كذب من يتكلم عنه من الحاقدين أمثال بطرس الكذاب .
(النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته .
لماذا النبيُ ـ صلى الله عليه وسلمَ ـ في بيته ؟؟ لماذا ألقي الضوءَ على رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته ؟
الرجل في بيته يكونُ على حقيقته ، لا يتكلفُ أمام أهلهِ وأولادهِ ، فإن تجملَ خارج البيت ، فإنه لا يستطيع أبدا أن يتصنع أمام أهله ، ولذا آثرت أن القي الضوءَ على شيءٍ من حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته ، ليعلمَ من جهل أي الرجال كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وأنه ما كان جبارا ولا كان شهوانيا يقضي الليل مع النساء كما يفترون عليه صلى الله عليه وسلم .
أول من آمن به أهل بيته(1/75)
أول من آمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم أهل بيته ، زوجتُه السيدةُ خديجةُ ـ رضي الله عنها ـ وعلي بن أبي طالبٍ الذي كان في بيته ،وزيدُ بنُ حارثة ، وبناتُه ـ صلى الله عليه وسلم ، وكذا أخصُّ أصحابه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
لم يتخلف أحدٌ من خواص محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل لم يتلكأ منهم أحد ، كلهم آمنوا به وصدقوه فور سماعهم خبرَ نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
يقولُ أحدُهم " إن إيمانَ أهلِ بيت محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهِ دليلٌ على صدقه ، فأعرف الناس بالرجل أهلُ بيته وخاصتُه ".
وصدق . فإن أحدنا قد يُخفي على الناس عيبه ، لا يُظهرُ عيبَه في الشارعِ ولا في المجالس العامة ، ولكنه ينبسط في بيته أمام زوجته وأبناءه ، وينبسط بين خاصّة أصحابه والمقربين منه فتبدوا سريرتُه فلولا أنهم يعرفون منه الخير ما اتبعوه ولاتهموه في خبره وكذبوه وما صدَّقوه .أليس كذلك ؟!
أقول : وأن يحبَ الرجلَ زوجتُه وأبناءُه فهذا أمر طبعي ، أما أن يحبَّه خادمُه وعبدُه الذي يملكُه فهذا لا يكون كثيرا . وأن يفضّل الرجلُ العبوديةَ والغربةَ مع شخصٍ ، على الحريةِ في وطنه مع أبيه وأمه وأعمامه وأخواله وإخوانه ، وهو بعدُ شابا صغيرا ، فهذا لم نسمع به إلا مع النبي محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
كان زيدُ بن حارثةَ حرا أخذته اللصوصُ وهو غلام فباعوه عبدا بالشام ، واشتراه حكيمُ بن حزامٍ من الشام وحملهُ إلى مكةَ وانتهى به المطافُ مولا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ورحل حارثةُ ـ أبو زيد ـ بين أحياء العرب يبحث عن ابنه الذي أخذته اللصوص واسترقُّوه ، وهو حرٌ ذو نسب ... خرج يطوف البلدان وهو يقول :
بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ *** أَحَيّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي وَإِنّي لَسَائِلٌ *** أَغَالَكَ بَعْدِي السّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ(1/76)
ُتذَكّرْنِيهِ الشّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا *** وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ
وَإِنْ هَبّتْ الْأَرْوَاحُ هَيّجْنَ ذِكْرَهُ *** فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا * * * وَلَا أُسْأَمُ التّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيّ مَنِيّتِي * * * فَكُلّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلُ
خرج هذا الأب المفجوع يقطع الصحاري بحرها ، ووجد ولده عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فراح يناشده أن يَبِيعَهُ ولدَه بما شاء . . يعرض على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشتري منه ولده بما يشاء من ثمن . فأجابه النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لم يتوقعه . قال لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ــ يخاطب زيدا ـ إنْ شِئْتَ فَأَقِمْ عِنْدِي ، وَإِنْ شِئْت فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيك ، فأجاب زيد : بَلْ أُقِيمُ عِنْدَك .يقيم عند من ؟
عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . اختار زيدٌ البقاء عبدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على الرجوع حرا مع أبيه . ماذا رأى زيدٌ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم ــ كي يختار العبودية معه في مكة بعيدا عن أهله وداره ، على الحرية مع أبيه وبين أمه وإخوانه وهو بعد صغير السن ؟
لك أن تتخيلَ ما كان من حسن عشرة وطيب خلق جعلت زيدا لا يرحل من دار الغربة والعبودية .إلى أبيه وأمه . واسمع :
قَالَ لَهُ أَبُوهُ : يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ عَلَى الْحُرّيّةِ وَ عَلَى أَبِيك وَأُمّك وَبَلَدِك وَقَوْمِك ؟
فَقَالَ زيدٌ : إنّي قَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا الرّجُلِ شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِاَلّذِي أُفَارِقُهُ أَبَدًا .
وأنشد يقول :
أَحِنّ إلَى أَهْلِي ، وَإِنْ كُنّ نَائِيًا *** بِأَنّي قَعِيدُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ(1/77)
فَكُفّوا مِنْ الْوَجْدِ الّذِي قَدْ شَجَاكُمْ *** وَلَا تُعْمِلُوا فِي الْأَرْضِ نَصّ الْأَبَاعِرِ
َإِنّي بِحَمْدِ اللّهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ *** كِرَامِ مَعَدّ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرِ
لم ينته الأمر عند هذا الحد .
تجمَّل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما هو خيرٌ من ذلك .فأخذ بيدِ زيدٍ وقام إلى الملأ من قريش ينادي فيهم : " اشْهَدُوا أَنّ هَذَا ابْنِي ، وَارِثًا وَمَوْرُوثًا " فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ .ولم ينته الأمر عند ذلك أيضا .بعد أن رحل أبوه تجمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما هو أكثر من ذلك أيضا ، تجمل بما هو أكثر من عتقه ، وبما هو أكبر من تبنيه ، فقد زوجه من بنت عمته زينبَ بنتَ جحشٍ ـ رضي الله عنها ـ . ومن يعرف عادات العرب في الزواج يعرف حجم هذا الكرم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . أرأيتم أكرمَ من هذا ؟!
لا . والله .
فما له لا يؤمن به ، وهذا حاله معه ؟ !
مشهد آخر(1/78)
جاء الْمَلَكُ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غار حراء فأخذه وضمَّه ضما شديدا حتى بلغ منه الجَهَدَ ثم أرسله، وقال له أقرأ والحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجيب ما أنا بقارئ .ثم أخذه ثانية وضمه ضما شديدا حتى بلغ منه الجهد وناداه اقرأ يا محمد ، والحبيب يجيب : ما أنا بقارئ . فأخذه الثالثة وضمه ضما شديدا وناده اقرأ يا محمد ، والحبيب يجيب : ما أنا بقارئ . فقال الملكُ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ .ورَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته يَرْجُفُ فُؤَادُهُ . ودَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها ينادي : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. . . . غطوني بالفراش . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ .وجلس يحدث زوجته بما رأى يقول لها :َ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي . فَقَالَتْ ، وهذا محل الشاهد ، : كَلَّا وَاللَّهِ . . . لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبدا . والله إنك لتصل الرَّحِمَ . . . وتَصْدُقُ الحديث . . . وَتَحْمِلُ الْكَلَّ . . . وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ . . . وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ .
هكذا وصفتهُ زوجتُه وهو بعد لم يوحى إليه ، كريم شهمٌ هينٌ لين ، قريب يجيب .هذا حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تصفه زوجته . وهو بعد لم يوحى إليه .. هذا حاله في الجاهلية .
يا من له الأخلاق ما تهوى * ** العلا منها ويتعشق الكبراء زانتك في الخلق العظيم شمائل * * * يغرى بهن ويولع الكرماء فإذا سخوت بلغت بالجود المدى * * * وفعلت ما لا تفعله الأنواء وإذا رحمت فأنت أم أو أب * * * هذان في الدنيا هم الرحماء وإذا عفوت فقادرا ومقتدرا * * * لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق * * * لا ضغن ولا بغضاء(1/79)
وإذا رضيت فذاك في مرضاته * * * ورضا الكثير تحلم ورياء وإذا بنيت فخير زوج عشرة * * * وإذا ابتنيت فدونك الآباء
وحين أخبر أبا بكر ، وهو صاحبه في الجاهلية بأن الله أوحى إليه ، أسلم ابو بكر من فوره وما نظر ولا تردد . لماذا ؟
أعرف الرجل بالرجل صاحبه . فلولا أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يعرف من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخير ما أقبل هكذا . ولتردد ولقال وأسمع .
وآمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل من كان في بيته ، علي بن أبي طالب وأم أيمن وزوجته وبناته وغلامه زيد بن حارثه لم يتخلف منهم أحد .
الدائرة التي تحيط بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتتعامل معه يوميا هي أول الناس إيمانا به . وكما سبق معنا أن في هذا دِلالة واضحة على صدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهم لو لم يعرفوا منه الصدق ما آمنوا من فروهم هكذا .
بل شهد له من حاربوه بالصدق والأمانة ، ولقبوه بالصادق الأمين ، ولم نسمع أن أحدا ممن عاصره ذكره بسوء . . . لا يوجد أحد ممن رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى من قاتلوه وأخرجوه من داره ، تكلم في خلقه بشيء ، كلُّهم أجمعوا على صدقه وأمانته وحسن خلقه ، وهذه الجعجعة حادثة أتت بعد ألف وأربعمائة عام .
وقفة تَزيد الأمر وضوحا :
اتخذ القرآن من حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجاهلية بين أهله وأصحابه دليلا على صدقه في دعوى النبوة ، فمعلوم أن قريشا كذَّبت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كحال بني إسرائيل مع المسيح ـ عليه السلام ـ ، وكحال كل الأمم التي بعث الله إليها نبيا من أنبياءه .(1/80)
وفي مواجهة هذا التكذيب ، وفي إطار التدليل على صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في دعوى النبوة ، اتخذ القرآنُ الكريم من حال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بين أهله وأصحابه دليلا على صدقه . قال تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }[ الأعراف : 184 ]
وقال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }[ سبأ :46 ] ، وقال تعالى :{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى }[ النجم :2 ] وقال تعالى :{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ } [ التكوير : 22]
ما وجه الدليل في ذلك ؟
يقول أهلُ العلمِ : ذِكرُ لفظِ الصاحب هنا دون غيره ، إذ قال صاحبكم ولم يقل محمد ولا النبي، ليذكرهم بأن هذا صاحبهم ، لازمهم أربعين عاما ، ويعرفوه معرفة الصاحب بصاحبه . جلس بينهم أربعين عاما . لم يخرج النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من مكة ، إلا مرة أو مرتين ، وكان ـ في خروجه هذا ـ بين أهل مكة . فهو إذا لم يتعامل مع غير أهل مكة .
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتخذ من حاله بين قومه دليلا على صدقه في دعوى النبوة ، وقف على الصفا ينادي لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغيرَ عليكم أكنتم مصدقي ؟
قالوا نعم . ما جربنا عليك إلا صدقا . قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . [ هذه رواية البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ]
فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في بيته وبين أهله في الجاهلية . اتخذها القرآنُ دليلا على صدقه صلى الله عليه وسلم .
يسكن في غرفات من طين(1/81)
قالوا : كان جبارا لا همَّ له إلا القتل ، والزواج ، قلنا : لو كان كذلك لاتخذ القصور وجمع الأموال ، وقضى الليل مع النساء ، ولكن ما كان هذا حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
حين هاجر إلى المدينة اتخذ بيتا من طين ( لبن ) سقفه من الجريد يطاله الرجل بيديه . بيت كل واحدة من نسائه عبارة عن غرفة من طين ، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينام على الحصير حتى يؤثرَ في جنبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الترمذي من حديث عبد الله بنِ مسعود رضي الله عنه قال : ( نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً فَقَالَ مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا َكرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) وفي رواية أخرى عند أحمد من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها ) يقول : ثم راح وتركها ، أي أنه لم يمكث حتى يتحول عنه الظل بل قام هو وترك الظل .
ودخلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رضي الله عنه ـ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نائم على حصير قد أثر الحصير في جنبه ، وجالت عينُ عمرٍ في بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ، يقول عمر : فإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ ( حفنة أو حفنتين ) وَقَرَظٍ ( نوع من ورق الشجر يدبغون به الجلود ) فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ .
هذا كل ما في بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصير ينام عليه ، وحفنه من شعير ووسادة معلقة بالجدار .
فبكى عمر مما رأى . وحُقَّ له .(1/82)
وناداه الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟
يقول عمر : فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَالِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ
قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ : أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا ؟
فقال عمر : بَلَى .
هذا هو همّهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآخرة . لا حاجة له في الدنيا .
وعن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( مَا أَمْسَى فِي آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعُ تَمْرٍ وَلَا صَاعُ حَبٍّ . وَإِنَّ عِنْدَهُ يَوْمَئِذٍ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ )(1)
وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ يسأل عن شيء يضيفه به ، ثم أرسل إلى الثانية والثالثة وإلى كل نسائه وكلهم يجيب : والذي بعثك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ .
ليس في بيته إلا الماء .
__________
(1) الترمذي كتاب البيوع / 1136
(2) أعرض لك مشاهد من حال بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لترى أنه ما كان ملكا ظالما ، وما كان جبارا ، وما كانت الدنيا همُّه .(1/83)
وعند البخاري من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ ) ، فقيل لها : ما كَانَ يُعِيشُكُمْ . قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا .
تمر وماء ، والمنحة لبن .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها قالت ـ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ ) .
ومشهور أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (1).
وعند البخاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم مات وما ترك درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمه إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها ، وسلاحه ، وارضا جعلها لابن السبيل صدقة .
أجبارٌ هذا ؟
لا والله .
__________
(1) يرهن درعه عند اليهودي وهو قد أذلهم وكسرهم ، وهذا من عدل الإسلام ورسول الإسلام ، لمن يقول أنه أباد يهود .(1/84)
جاء في قصة إسلام عُدي بن حاتم الطائي ـ رضي الله عنه ـ وكان نصرانيا . أنه دخل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، المسجد فسلم عليه ، ثم قام معه إلى بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يقول عُدي : فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا ; يقول عُدي : فقُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ .
ثُمّ مَضَى بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةً لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ ،فَقَالَ : اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ . قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بَلْ أَنْتَ . يقول عدي : فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ ، قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ .نعم لم يكن ملكا ظالما غشوما ... كان يجلس على الأرض ، ويقف للعجوز طويلا وهو أعظم الناس مسئولية وأكثرهم شغلا . ويسكن في غرفات من طين .
يقول ابن كثير في البداية والنهاية معلقا على ما ورد في البخاري ، من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات وما ترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة يقول ، وقد جعلَهُ عنوانَ بابٍ يقول : فإن الدنيا بحذافيرها كانت أحقر عنده - كما هي عند الله - من أن يسعى لها أو يتركها بعده ميراثا، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين .
ولم يكن ضيق العيش ، وقلة المتاع في بيته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فترة من الزمن فقط ، بل كان هذا حاله حتى توفاه ربه .(1/85)
ولم يكن ضيق العيش وقلة المتاع في بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبراً عنه ، بل باختياره ، فقد كان زاهدا في الدنيا . راغبا عنها . يقول ما لي وما للدنيا .
(لما فتح الله على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيبر ، وأتت الغنائم ، اجتمع حوله نسوتُه يريدون سعةَ في العيش ، فخيرهم بين أن يبقون معه على هذه الحال وأن يطلقهن . ونزل قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً . وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }[ الأحزاب : 29] ، وكلهن اخترن البقاء معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه الحال .
وفي هذا دليل أيضا على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن مضطرا لهذا ، فقد كان عنده سهمه من الغنائم ، ولو شاء لصارت الجبال معه ذهبا ، بل كانت رغية عن الدنيا ، كما قال هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ( مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها ) ،وفي هذه القصة أيضا بيان لمحبة نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنبي وحبهم للبقاء معه على هذه الحال ، كانوا يحبونه أشد من حبهم لآبائهم وأمهاتهم ، عائشة تقول أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله ؟! وحبيبة ترفض أن يجلس أبوها وهو سيد قريش يومها على فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول له أنت مشرك نجس لا تجلس على فراش رسول الله .صلى الله عليه وسلم ـ .(1/86)
( وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقضي ثلث الليل أو نصفه أو يزيد عن ذلك في الصلاة ، يقوم حين يسمع الصارخ .. الديك .. ويصرخ الصارخ في منتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل .. يقف بين يدي ربه يقرأ قرآنه ويسجد له داعيا وشاكرا ، قال الله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ }[ المزمل : من الآية 20 ] .
لم يترك صلاة الليل أبدا .
وعند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ . . . ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا ـ أي متهملا ومُرتلا ـ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ . ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ . فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ، ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ "
وروى الشيخان من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ . قُلْنَا وَمَا هَمَمْتَ ؟ قَالَ هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/87)
يقول بن حجر معلقا على هذا الحديث وقد كان بنُ مسعود ـ رضي الله عنه ـ قويا محافظا على الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما همَّ بالعقود إلا بعد طولٍ ما اعتاد عليه .
وجاء من وصف صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته ليلا : عن الْمُغِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟
يقضي ليله يناجي ربه ، وهذه بعض أقواله :
مناجاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ .سُبْحَانَكَ .أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ . . . . أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ . . . وَلَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْكَ . . . . أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ .
خَشَعَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(1/88)
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ .لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ .لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ .قَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ .اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ لِي غَيْرُكَ .
اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ .
اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفرَ لي وترحمَني ، وإذا أردتَ فتنة قوم فتوفني غير مفتون ، وأسألك حُبَّك ، وحبَّ من يحبُّكَ ، وحب عمل يقربني إلى حبك .
وكان إذا آوى إلى فراشه يقول بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ " .
ينام ذاكرا ويستيقظ ذاكرا .
تقول أمُّ المؤمنين عائشةُ ـ رضي الله عنها ـ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ . . . تبحث عنه بيدها ... تقول .. : فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ [ المصلى ] وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ .
منازلٌ كانت للصلاةِ وللتقى * * * وللصومِ والتطهيرِ والحسناتِ(1/89)
ديارٌ عفاها جورُ كلِّ منابذٍ * * * ولمْ تعفُ للأيام والسنواتِ
إلى الله أشكو لوْعةُ عند ذكرهِمْ * * * سقتني بكأسِ الثكلِ والفظعاتِ
فما العدو إلا حاسدٌ ومكذبٌ * * * ومضغنٌ ذو إحنةٍ وتراتِ
فياربِّ زدني من يقيني بصيرةَ * * * وزدْ حٌبَّهم يا ربِّ في حسناتي
سأذكرهم ما حج لله راكبٌ * * * وما ناحَ قمريٌ على الشجراتِ
كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يضع رأسه في حجر زوجته ويقرأ القرآن ثم يغلبه النوم فينام ورأسه في حجرها ، تدبروا .هذا حال المُجهد الذي ما أن يستكينُ على الأرض حتى يغلبه النعاس وينام . وفي حجر زوجته يقرأ القرآن .
وكان حسن العشرة مع زوجاته يقول ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) . لا يفضل واحدة منهن على الأخرى في القسم ، ويطوف كل يوم عليهن يسأل عن أخبارهن ، ثم يبيت عند التي هو في نوبتها .
متواضعا حليما ، يرقع ثوبه ويخصف نعله ، بساما ضحاكا ، كما تصفه زوجته ، يقول صاحب الرحيق المختوم ، كان أشد الناس حياء وإغضاء ، وإذا كره شيئا عرف في وجهة . وكان لا يُثْبِتْ نظرُه في وجه أحد ، خافض الطرف . نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلا بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول . ( ما بال أقوام يصنعون كذا ) . ، ولَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصفحُ .لا يضرب ولا يسب ، ولا يغضب إلا إن انتهكت حرمة من حرمات الله . ولا يعيب الطعام ... إن اشتهاه أكله وإلا تركه . يستيقظ من نومه جائعا فيسأل عن طعام فلا يجد فينوي الصيام إلى الليل .(1/90)
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه أحمد : " خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ . لَا وَاللَّهِ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ وَلَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلَّا فَعَلْتَهُ .
يقول هند بن أبي هالة ـ رضي الله عنه ـ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت ) انتهى كلامه رضي الله عنه .
أقول : ليس هذا حال من يحب النساء ، فالأنوثة لا تظهر مع التقشف ، والعيش على التمر والماء بين جدران الطين . فمَن لا همَّ له إلا النساء لا يقضي شبابَه كلَّه مع إمرأة واحدة عجوز تكبره بخمسة عشرة سنة ، وقد تزوجت برجلين قبله وأنجبت أكثر من مرة . ليس هذا حال من يعشق النساء . من لا همَّ له إلا النساء لا يتزوج بإمرأة عجوز ثبطة ... ثبطة تعني ثقلية متينة . . بدينة .. تمشي كأنها مقيدة ، أم أولاد يبكون ويصيحون ليل نهار عند رأسه ...ذلكم سودة رضي الله عنها ، ثاني من تزوج الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ماتت خديجة رضي الله عنها وهي قد تجاوزت الستين من عمرها .. بل قاربت السبعين من عمرها ، ثم مكث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعدها لا يفكر في الزواج حتى أشارت عليه إحداهن بأن يتزوج فهو أبٌ عنده بنين وبنات ، وتزوج من ؟
تزوج سودة رضي الله عنها ... إمرأة كبيرة .. بدينة .. بطيئة الحركة تمشي الهوين كأنها مقيدة .. أم أولاد ، وظلت معه وحدها ثلاث سنوات . أي حتى بلغ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سن الثلاثة والخمسين من عمره .(1/91)
من لا همَّ له إلا النساء لا ينخلع من فراش أحب الناس إليه ويطيل السجود لله . يدعو ربه خوفا وطمعا . من لا همَّ له إلا النساء لا ينخلع من فراش أحب الناس إليه ويذهب للمقابر يزور الموتى ويدعوا لهم . من لا هم له إلا النساء .. لا يقوم من الليل حتى ترم قدماه أو ساقاه ، وقد آذنه ربه بالمغفرة على ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ولا ذنب له وإنما هو الشعور بعظمة المعبود وتقصير العبد .
من الصعب جدا أن يقتنع عاقل بأن هذا حال شهوانيٍ يحب النساء ، أو ملكٍ ظلوم سفاك لا همَّ له إلا القتل .
إنها حالة من الوقار ، والسكينة ، والاتصال بالله عز وجل .
إنه قلب معلق بما عند ربه ، وجسم قد أنهكته علو الهمة وسمو الطلب .
كلمني أحدهم ـ من المسلمين ـ بكلام بطرس اللعين ، يقول كان النبي ـ شهوانيا ، وكان وكان ، فأجبته : أنت متزوج ؟ قال نعم ، فقلت كيف بالبيت حين يكون غرفة واحدة ويكون أبنائك كثيرون ومستيقظون ، بل كيف بالبيت إن كان به غير أبنائك .. يضج بالأبناء والضيوف ، وجداره بجدار المسجد ، هل تستطيع أن تأخذ فيه راحتك ؟ قال : أبدا . . أبدا .
قلت هذا حال النبي ، كان بيته كل واحدة من نسائه غرفة ضيقة .. من الطين ... سقفها بالجريد ، ملاصقة للمسجد .. إن أراد أن يسجد وكز زوجته لتوسع له مكانا للسجود ، وإن رفع يديه رفع سقف الغرفة ، وإن خرج من باب الغرفة وجد عددا من الأطفال من أبنائه وأحفاده .
بالله عليك : أهذا بيتٌ يستمتع فيه بالنساء ؟!
أهذا حال من يريد المتعة بالنساء ؟ !
أفي مثل هذا البيت تظهر الأنوثة وتنتعش ؟!
وتابعت : بطرس يكذب ، سله عن بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن ليل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف كان يقضيه ، وعن مطعم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وملبسه ؟
إنه كذّاب لئيم .
فأجاب : حقا إنه كذّاب لئيم .
يبقى يجيش بصدر كثيرين ، ويتكلم به النصارى وكأنه كان شغل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .(1/92)
هذا الشيء هو ما ورد من أخبار صحيحة عن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يواقع من تتزين له من زوجاته حتى ولو على فراش غيرها ، وهي قصة حدثت مرة ، كما جاء في سبب نزول الآيات الأول من سورة التحريم . وأنه صلى الله عليه وسلم ربما طاف على زوجاته في ليلة واحدة .
وكل هذا صحيح .
ولكنه أبدا لم يكن هذا هو السياق العام الذي كان يعيش فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمعنى لم يكن حاله أنه يطوف كل ليله على نسائه ، ولم يكن حاله أن يذهب يبحث عن المتجملة منهن ويواقعها . لم يكن هذا أبدا حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ بل كان حاله كما قدمنا ، زاهدا في الدنيا ، متقشفا في عيشه ، يدعو ربه : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا . اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين .كان حاله أنه لم يتزوج إلا امرأة واحدة عجوز في الأربعين من عمرها وقضى معها ربع قرن من الزمن لم يتزوج عليها ، وبدأ التعدد بعد البعثة بثلاثة عشر عاما أو يزيد ، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجاوز الخمسين من عمره. وكل زواج كان بسبب . فكيف هذا ؟
حبُّ النساء فطرة خلقها الله في الرجال ، كل الرجال إلا المريض نفسيا أو بدنيا ، وهو شاذ لا يقاس عليه . ومعاشرة النساء لها ارتباط قوي برباطة الجأش . . . الشجاعة ، فالضعيف الذي يهتم لأي مشكلة لا يستطيع أن يذهب لأهله ، كلما جاءته مصيبة أو لاحت في الأفق ذهبت بعقله وبات ليلتَه يفكر فيما كان وفيما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، ويذهل عن أهله وإن كانت متجملة متزينة ، أما صاحب الشجاعة والبأس ، فلا تأخذه المشاكل ، وحين يرى امرأتَه متزينة تذهب كل الهموم ، فهي صغيرة في حسه مهما كبرت ، ويجتمع عليه شمله ، ومن ثمَّ ينتفع به أهله .وهذه النوعية من الرجال ورسولنا سيدهم تكون حسنة العشرة في الغالب . لماذا ؟(1/93)
لأن من هذا حاله يستعلي على مشاكل البيت الصغيرة التي تثيرها المرأة . يستعلي على عدد من النقود تنفق هنا أو هناك . ولا يتقصى صغار الأمور . وكما قيل : ما استقصى كريمٌ قط .
وقد رأينا خالدا مثلا يتزوج حيث ينتصر ، وقد قال له أبو بكر مرة حين تزوج من بني حنيفة بعد أن هزمهم وقتل رجالهم : أنت امرؤ فارغ القلب . يتزوج ممن هزمهم ، ولا بد أن عروسه هذه قُتل أبوها أو أخوها . يتزوج ولا يلتفت لهذا كله . يتزوج وهو في دار عدوه لم يرحل بعد . وهذا حال أرباب الحزم والعزم والشجاعة من يوم كانوا ، وسل تعلم .
أما مريض القلب ... الضعيف ، فهو كالطفل تأخذه النظرة كل مأخذ ، وإن ضحكت له امرأة أجلسته عن كل شيء وأخذت بخواطره . وأقامت عنده الخاطرات ولم ترحل .
حال الضعيف أنه لا يذهب لأهله إلا في أوقات محددة ويستعين على ذلك بالدواء ، ويجلس يخطط لذلك أياما . وغالبُ من هذا حاله يكون أمره بيد أهله . فإن غضبت عليه أركبت الهمومَ على ظهره وساقته حيث شاءت . وإن رضيت عنه وتدللت سحبته حيث شاءت ، وأولئك ليسوا من خيار الرجال .ومن هذا حاله ، مع حبه للنساء وأنه لو استطاع لتزوج كل يوم ، تجده مع هذا يتعجب ويتساءل : كيف يجمع الرجل بين امرأتين فضلا عن ثلاث أو أربع أو تسع . كيف يجمع بينهم مع هموم الوظيفة والحياة ؛ يقول لك ، واحدة وتفعل بي كذا وكذا ، فما بال ذي التسعة ؟!
يتعجب . والعجب من حاله هو .
نقول له : لأصحاب العزائم حديث آخر .
حلف البخيل ليأتين بمثله ** * حنثت يمينك يا بخيلُ فكفرِ
الفصل الخامس :
علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالجن
في هذا المبحث نتناول في نسقٍ واحد :
ـ علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالجن .
ـ سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ـ قصة الغرانيق العلا .
ـ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
ـ تسلط الشياطين على المسيح عليه السلام ، وعلى أنبياء العهد القديم .
أولا : علاقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنِّ .(1/94)
يتكلم بطرس ، ويتكلم غيره ، بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت له علاقة خاصة بالشياطين ، وأن مَلك الوحي ، جبريل عليه السلام ، الذي ظهر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار ولازمه بعد ذلك يتنزل عليه بالقرآن كان شيطاناً(1) .!
يدلل على ذلك الكذابُ اللئيم زكريا بطرس بأن للجنِّ سورةً كاملة في القرآن ، وأن الجنَّ ذكروا أكثر من مائة مرة في القرآن العظيم (2)، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى ليلة مع الجنِّ يعرفها علماء المسلمين بـ ( ليلة الجنِّ ) ، وكان له قرين من الجنِّ . وأن شيطانا أبيضاً كان يتصدى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتكلم له على أنه جبريل .
وكلُّه كذب . وقلبٌّ للحقائق . وتدليسٌ على الناس .
أين الخلل ؟
الخلل عند بطرس ومن قال بقوله .فهم الذين قلبوا الحقائق ، وذلك بالكذب المباشر تارة ، وبِبَتر النص من سياقه العام ثم تفسيره بما يحلو لهم تارة أخرى ، وباعتماد الضعيف والشاذ وما لا يصح من الأحاديث تارة ثالثة . وهاأنذا أفند لك آرائهم وأكشف لك قولهم لتعلم أنهم ما صدقوا فلا تتبعهم .
__________
(1) تكلم بهذا زكريا بطرس في الحلقة 19 ، والحقة 20 ، من برنامج في الصميم ، وتكلم به رأفت العماري ـ وهو باحث في الإسلاميات ـ في الحلقة الاولى والثانية من برنامج سؤال جريئ وكانتا عن الوحي .
(2) في حلقات في الصميم ( الحلقة 20 ) قال 114 مرة ، وفي الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان قال 122 ، وكله كذب .(1/95)
ـ يروي اختبار السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ للوحي فيقول : جاء في كتاب (السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص 230): قال ابن إسحاق : "عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله: أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال نعم ، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال رسول الله لخديجة يا خديجة هذا جبريل قد جاءني ، قالت قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى ; فقام رسول الله فجلس عليها، قالت هل تراه؟ قال نعم قالت: فتحول واجلس على فخذي اليمنى; فتحول رسول الله فجلس على فخذها اليمنى. فقالت هل تراه؟ قال نعم. قالت: فتحول واجلس في حجري، فتحول رسول الله فجلس في حجرها. قالت هل تراه؟ قال نعم. [وفي رواية أخرى] أدخلت رسول الله بينها وبين درعها، ثم ألقت خمارها عن وجهها، ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت له هل تراه؟ قال لا، فذهب عند ذلك جبريل. فقالت يا ابن عم: اثبت وأبشر فو الله إنه لملك وما هذا بشيطان )(1)
__________
(1) الحلقة 20 من برنامج في الصميم د/16 وما بعدها . وكرر ذات الكلام في الحلقة 28 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/5 وما بعدها ، والمذكور نص كلامه في برنامج الصميم .(1/96)
هكذا يروي القصة ، ثم يعلق قائلا : ( كان هدف خديجة أن هذا الذي ظهر لمحمد لو كان ملاكا لخجل من فخذيها ودرعها ... إلخ ) ، ويتساءل :( كيف أن ملاكا لا يخجل من أعضاء المرأة: لا فخذها ولا حجرها ولا درعها، ولكنه يخجل من وجهها؟ ، وكيف تُعَلِّمُ إمرأةٌ نبيَّ الله الذي تجلى له الوحي. فَتَعْلَم هي ما لم يعلمه هو؟ ، ثم كيف يؤخذ بشهادة امرأة، والمرأة في الإسلام ناقصة عقل وناقصة دين ؟ ، وكيف اعتبرت شهادة امرأة واحدةٍ شهادةً شرعية ، والشهادة المقبولة في الإسلام امرأتين(1) ورجل؟ ثم كيف تأكدت أنه ملاك وليس بشيطان ، والشيطان يستطيع أن يغير شكله إلى شبه ملاك نور. ويؤكد هذا الرأي ما جاء في ( تفسير الرازي لسورة الحج 52 وسورة التكوير 20 ) " إن الشيطان المُسمَّى الأبيض تصدّى لمحمد وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي)(2) .
هذا نص كلامه .
التعليق :
كذب على مستمعيه حين ادعى أن هذا حديث صحيح ، وهو لا يثبت .
__________
(1) الخطأ اللغوي هنا منه وليس مني ، وإنما أنقل كلامه كما هو .
(2) المصدر السابق(1/97)
وكذب على مَن يسمعه حين ادعى أن السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ كشفت عن فخذيها وحجرها ولم ينصرف الملك إلا حين كشفت عن وجهها ، ليس هذا في النص الذي أورده هو ـ لاحظ ـ ولا في النص الأصلي الذي حذف بعضه ، وإنما قالت له اجلس على فخذي .فقد حذف من النص الذي ينقل عنه هذه الجملة ( فتحسرت وألقت خمارها ) ، والخمار هو غطاء الرأس ، من خمَّرتُ الشيء إذا غطيته(1) ، وهو غير الحجاب(2) ، و ( تَحَسَّرَتْ ) تعني كشفت عن شيء ، وهو ما يغطيه غطاء الرأس ( الخِمَارُ ) ، وكانت بثيابها ترتدي درعا بدليل الرواية الثانية التي أدخلها بطرس في السياق ( فأدخلته في درعها ) ، عندها ذهب الملك ، ذهب من ماذا ؟
من كشف الرأس والرقبة وأعلى الصدر ، وليس كما يقول الكذاب اللئيم بطرس ، أن الملك بقي حين كشفت فخذها ، وحجرها وانصرف حين كشفت وجهها . ليس في النصِّ كشفُ فخذٍ ولا حجرٍ ، وإنما فقط تحسر بإزالة ما تضعه على رأسها رضي الله عنها وأرضاها .
إذا بمقاييسه هو ، هو ملكٌ ، استحى من كشف القليل وانصرف ، وهي ـ رضي الله عنها ـ كانت تظنه ملكا وبالفعل رأته ( علمته ) ملكاً .إذ لو كان شيطانا ما استحى حتى من ما هو أبعد من الرقبة وأعلى الصدر .
__________
(1) تكلم في معنى الخمار والحجاب الشيخ الدكتور بكر أبو زيد فأجاد وأحسن ، وذلك في كتابه القيم ( حراسة الفضيلة ) فليرجع إليه من شاء مزيد بيان .
(2) الحجاب في اللغة والشرع هو الستر ، ويكون بالجدارن ( البيوت ) قال تعالى ( وقرن في بيوتكن ) ، أو بالثياب إذا اضطرت المرأة للخروج من البيت .(1/98)
وكذب على مَنْ يسمعه حين ادعى أن ليس عند المسلمين دليل على الوحي إلا هذه القصة ، أو إلا شهادة السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ في هذه القصة ، فهي قصة في بطون بعض كتب السيرة(1) وليس كل كتب السيرة ، وكتب السيرة عندنا وإن تواطئت على روايةٍ ما فإنا لا نأخذ بها إلا استئناسا حتى يصححها أهلُ الحديث ، وأهلُ الحديث . . . وأهلُ الفقه . . وأهلُ الاعتقاد ..ومن يحاور النصارى اليوم في البالتوك والمنتديات وغيرهما ..بل وكلُّ المسلمين لم يتكلم أحد منهم بأن ما فعلته السيدة خديجة في هذه القصة هو دليل الوحي ، أو هو دليل الوحي الوحيد عندنا ، فعندنا مصنفات في دلائل نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بشارات السابقين وأخبارِ المعاصرين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مسلمين وكافرين ، حتى مقاييس الكذّاب اللئيم زكريا بطرس التي وضعها هو كدليل على النبوة تنطبق تماما على رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ناقشت هذا في الجزء الأول(2) .
ـ وكذب في القول بأن الشيطان قد يتحول إلى شبه ملاك من نور . فمادة الملكِ غير مادة الشيطان ، الملكُ من نور ، والشيطان من نار ، الملك للخير والشيطان للشر .الملك رسول من رب العالمين لعبادة المتقين .. الأنبياء وبعضِ الصاحين ، والشيطان عدو للمتقين والصالحين المصلحين ، وعونٌ للأفَّاكين الكذابين .
__________
(1) لم يذكر هذه القصة سوى ابن هشام .
(2) انظر ـ إن شئت ـ مقاييس النبوة عند زكريا بطرس وكيف أنها تنطبق(1/99)
وكذب وهو ينقل عن الفخر الرازي جاء في ( تفسير الرازي لسورة الحج 52 ، وتفسيره للتكوير20)(1). يَذكر ( بطرس ) أن الفخر الرازي تكلم عن شيطان أبيض كان يأتي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هيئة جبريل ويوحي إليه ، ولا أدري كيف يتجرأ على الكذب هكذا ؟! وكأن تفسير الفخر الرازي في كوكب تاني لن يستطيع أحد أن يذهب إليه ويستوثق منه ؟ وكأن كل من يسمع سيثق بقوله ولن يراجعه فيه ؟
الفخر الرازي في سورة الحج وفي سياقه نفيه الشديد لقصة الغرانيق العلى والرد على كل من قال بها ، في هذا السياق ذكر رواية تقول ( بأن شيطانا يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمات فقرأها ) ثم يعلق الفخر الرازي على هذه الرواية قائلا : ( وهذا القول لا يرغب فيه مسلم البته لأنه يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث )(2) .
وفي سورة ( التكوير ) ، جاء ذكر الشيطان الأبيض في سياق مختلف ، وهو يتكلم عن قوة جبريل ـ عليه السلام ـ يقول : ذكر مقاتل أن شيطانا يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند )(3)
__________
(1) في الصميم الحلقة 20 د/19 ، وأعاد ذات الكلام في الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/ 7
(2) التفسير الكبير 12/47 ط دار الكتب العلمية ـ بيروت .
(3) التفسير الكبير 16 /68(1/100)
ـ ويقول ( ورسول الله جالس في حجرها .. أبو أربعين سنة قاعد في حجرها ) ويشير بيديه ويحرِّك جسده مستخفا ومستهزءاً . ويقول حَراء (1) والمذيع يسأله بتنقيط أم بدون تنقيط ؟! ( خراء )(2) . ويستحضر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يتكلم عن حديث ( ما منكم من أحد إلا وله قرين ) فيفي عبد ومسرحية ( حزّمني يا ) (3) ، ويختم الحلقة ( 142) من برنامج أسئلة عن الإيمان بجملة من السخرية والاستهزاء بـ ( الراكعين والراكعات ) ، وهو حال الأراذل الأوساخ (4).
أقول ولهذا الفعل وهذا الكلام صارخ في القلب لن يهدأ حتى يشفي صدره من بطرس ومن عاونه ، ولن يُنقِص هذا من قدر نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنبينا صلى الله عليه وسلم ـ جبلٌ أشم ، له الكمال في الخِلْقة والخُلٌق . طولا ، وجمالا ، وهيبة .صلى الله عليه وسلم .لم يستهزأ به أحد ممن حضره أو عاصره ، وما واجهه أحد بشيء يكرهه هيبة وإجلالا، وكان تحته تسعة من النساء غير ما قام به من أعظم أثر في حياة الناس ، وغيره لا يستطيع أن يسوس بيته . . فقط بيته بل قد تغلبه امرأته .
__________
(1) هكذا ينطقها بفتح الحاء ، وهي بكسرها
(2) الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/7
(3) الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/9
(4) ومن استهزائه لعنه الله وقبحه تسميته الحلقة 28 برهان الوحي أفخاذ خديجة.(1/101)
ـ وفي إطار تدليله على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت له علاقة خاصة بالجنِّ ، وأن أحدهم هو الذي ظهر له في الغار وكان يتنزل عليه بالقرآن بعد ذلك ، وبالتالي فإن القرآن قول الشياطين ، في هذا الإطار يستحضر ( ليلةَ الجنّ ) مدللا بها على ما يفتريه على الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم ـ قضى ليلة كاملة مع الجن عند غار حراء هذا نص كلامه : ( جاء في (سنن ابن داود كتاب الطهارة حديث 85) "عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب أحد منكم النبي ليلة الجن ؟ قال: ما صحبه منا أحد ، ولكن افتقدناه ذات ليلة وهو بمكة ، ولم نجده، فقلنا: اغتيل، أو استطير، ماذا فُعِلَ به ؟ حتى إذا أصبحنا إذا نحن به آتيا من جهة حراء. فقال لنا: أتاني داعي الجن، فأتيتهم، فقرأت عليهم القرآن. ثم انطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ) (1)
ثم يعلق متسائلا متعجبا ومستدلا : ( ما هو مدلول هذه الحادثة؟ أليس أن محمدا كانت له علاقة بالجن؟
وليس في سنن أبي داود شيء مما ذكر ، تحت هذا الرقم ، ولا في هذا الباب ، ولا في غيره ، والذي عند أبي داود هو : عن علقمة قال قلت لعبد الله بن مسعود من كان منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال : ما كان معه منا أحد " وليس عند أبي داود شيء مما ذكر ، فهو يكذب أو ينقل عن كذّاب آخر . وكله سواء . بل زيادة في القبح إن كان . فهو ناقل وليس باحث كما يدعي .
هذه الأولى .
والثانية ...
دعني أبدأ من الخلف قليلا كي تتضح لك الأمور ، وترى الصورة على حقيقتها ، وسأختصر مقالي وأدلل على قولي ، فلا تعجلني .ولا تستثقلني .
__________
(1) الحلقة 20 من برنامج في الصميم د/18 ، وأفرد لهذا الحديث حلقة خاصة من برنامج أسئلة عن الإيمان الحلقة /142(1/102)
ـ ( كان فاشياً بين العرب في الجاهلية أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .. ثم بات آمنا ! . كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبئون بما يتنبئون . وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة !.ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا !!) (1)
وفي الجاهلية .. قبل البعثة النبوية ، كانت الشياطينُ تصعد قريبا من السماء فتسترق السمع وتوحي به إلى أوليائها من الإنس ، وهم الكهنة والمشعوذون ، وكانوا ( الكهنة والمشعوذون ) منتشرين في الجزيرة العربية معروفين بأعيانهم يقصدهم الناس في بعض شأنهم ، وحين بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وابنُ هشام في السيرة النبوية .. في المجلد الأول . . . في ذات المكان الذي ينقل منه ( بطرس ) عقد بابا أسماه ( قذف الجن بالشهب وآية ذلك على مبعثه صلى الله عليه وسلم )(2) ونص على ذلك البخاري في صحيحه (3).
__________
(1) في ظلال القرآن من مقدمة سورة الجن . بتصرف يسير .
(2) سيرة ابن هشام ج 1 / 205 ، وبطرس يستدل بأشياء قريبة من هذا الموضع ، ولا أدري كيف لم يقرأها .
(3) صحيح البخاري ح/731(1/103)
وحين حيل بين الجن وخبر السماء احتاروا في أمرهم ، وعلموا أن شيئاً ما حدث على الأرض حال بينهم وبين الصعود في السماء ، فطافوا الأرض يلتمسون الخبر ، فوجدوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ القرآن في الصلاة ، فاجتمعوا يسمعون ،وعادوا إلى قومهم يتحدثون ، والقصة في البخاري ومسلم وفي كتب التفسير ، في تفسير سورة الجنِّ .وهذه هي الرواية من صحيح البخاري ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ(1/104)
الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ )(1) .
الجنُّ رأت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلى فكادت تكون عليه لبدا { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }[ الجن : 19] والجنُّ سمعت القرآن فتعجبت ووعَتْ الخطاب ومن ثمَّ آمنت وأسلمت ، وراحت تتكلم عن ما فيه كانت ، عن غفلتها ، وعن ضعفها ، وجهلها بما كان وبما سيكون ، وعن الضالين وقد خافوا منها فستعاذوا بها فزادتهم رهقا ، والسياق آخَّاذ لا يقدر علي صياغته جنٌّ ولا بشر ، واقرأ وتدبر : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً . وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً . وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً . وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً . وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً . وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً . وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً . وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً . وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً . وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً . وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن
__________
(1) صحيح البخاري ح/731 .(1/105)
بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً . وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً . وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً . وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً . وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً . وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً . قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً . قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً . قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً . إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً .حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً . قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً . عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً . لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً][ الجنّ :1ـ 28] .
يقول الكذاب اللئيم زكريا بطرس جعل للجن سورة كاملة من ثمان وعشرين آية (1)، وأن هذا يعكس اهتمام محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجن .!
__________
(1) الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/4 ، وكرر هذا الكلام في الحلقة عشرين من برنامج في الصميم(1/106)
وأقول : هذه هي سورة الجنّ ليس فيها تمجيد للجن كما يدعي الكذاب اللئيم زكريا بطرس ، بل إخبار عن حالهم قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ، وحالِهم بعد أن سمعوا به وبما يتلوه من كتاب ربه ، وهذا خبرٌ لا يعلم به إلا ربهم الذي أرسل إلينا وإليهم محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو من جملة أخبار الغيب الدالة على نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ من كان يعلم هذا عن الجنّ ويخبر به إلا من علَّمه ربه ؟!.
وفي موضع آخر الجن تسمع القرآن وتعود إلى قومها ، وتدبر قولها : ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ . يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ الأحقاف : 29 ـ 32 ]
يقولون الجن توحي إليه ، وها هي الجنُّ تتكلم بلسانها بأنها لم تكن تعلم شيئا عن القرآن حتى سمعته وحين سمعته رحلت مدهوشةً تتحدث بإعجابٍ وتفصيلٍ عن هذا النبأ العظيم ، تدعوا قومها للإيمان به .(1/107)
و ( ليلة الجنّ ) التي يتكلم عنها ( بطرس )(1) نعرفها وخبرها صحيح ، ونصُّه ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ قَالَ فَقَالَ عَلْقَمَةُ أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ قَالَ لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَقُلْنَا اسْتُطِيرَ أَوْ اغْتِيلَ قَالَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَقَالَ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ قَالَ فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ ) (2).
__________
(1) الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/4 ، وكرر هذا الكلام في الحلقة عشرين من برنامج في الصميم
(2) مسلم . كتاب الصلاة / 682(1/108)
ومن كذبه ـ قبَّحه الله ـ أنه يذكر ليلة الجن ، ولم يذكر ما دار فيها بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والجنّ ، سوى أنه أراهم أثار نارهم .ويحيل لرواية أبي داود ، والتي لم تذكر تفصيل ما حدث ، فقط يريد من المستمع أو القارئ أن يعرف أن كانت هناك ليلة للجن ، ثم بعد ذلك يفسر ما حدث هو في تلك الليلة من أمِّ رأسه .
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الجن في ( ليلة الجن ) يقرأ عليهم القرآن ، ويُعلمهم ما لهم وما عليهم ، ما أُحلَّ لهم وما حُرِّم عليهم ، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ ) .
والجن تسأله عن ما أحل لهم من الطعام فيخبرهم بأنه العظم إذا ذكر اسم الله عليه وكلُّ بعرةِ علفٍ ، وهؤلاء هم المؤمنون من الجن ، الذي يأتمرون بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإلا فالعصاة يأكلون مما لم يذكر اسم الله عليه ، ولا يأتون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون .وقد عقد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فصلا بعنوان (بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن )(1) .
__________
(1) الفتاوى 11/303 ، وتكلم شيخ الإسلام في الجزء الثاني من الفتاوى / 39 عن عدم قدرة الجن على صياغة القرآن الكريم وبين أنهم يتنزلون على كل أفاك أثيم . ، وذكر أشياء مما تفعل الشيطان بأوليائها في المجلد 13/91 . لمن أراد المزيد .(1/109)
ويحاول أن يربط بين غارِ حراء وحراء(1) ، غارُ حراء الذي كان يتحنث فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وظهر له فيه جبريل ـ عليه السلام ـ ، وحراء التي التقى فيها الجن في ( ليلة الجن ) ، ليقول أن حراء والجن قرينان ، فكل ما في حراء جنٌّ ، وليس في حراء سوى الجنِّ . وهو كلام بعيد لا تبصره عين في كتاب ولا في واقع ، فالجن لم يكونوا في مكان واحد أبدا ، وجبريل ـ عليه السلام ـ ظهر في حِراء وفي غير ( حراء ) ، فلو كان جنّا ولو كانت حراء للجن والجن لحراء ما أتاه جبريل ثانية في غير حراء .
ونعم لكل واحد منا قرين من الجن ، يأمره بالسوء ، حتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له قرين إلا أن الله أعانه عليه فأسلم . في الحديث ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ )(2)
ولك أن تتعجب من هذا ـ أُكلِّمُ من يقرأ من النصارى ـ وليس لك أن تقول بقول ( بطرس الكذَّاب ) .. ليس لك أن تقول بأن قرين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كان يوحي إليه ويعلمه ، فهذا لا دليل عليه ، ولا نجده في شريعتنا . بل نجد أن القرين يأمر بالسوء ، وقرينَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلمَ فلم يعد يأمره بسوء ، وها هو نص الحديث بين يديك .
وقد كان الكفرة من الجن ( وهم الشياطين ) يكرهون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعادونه كما يعاديه الكفرة من الإنس ، وكانوا في صفّ الكافرين ضد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين . .في كل المواقف كانت الشياطين في صفِّ الكافرين .
__________
(1) الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/7
(2) صحيح مسلم /5043 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .(1/110)
صفُّ المخالفين لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التصور الإسلامي يتكون من الإنس والجن معا ، وهم يجادلون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه ومن تبعه ، وهم يقاتلون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه ومن تبعه ، هذا المعنى صريحٌ في القرآن العظيم ، قال تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام :من121] ، قال تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }[ الأنعام :112] ، وأخبر الله تعالى أن الكافرين اتخذوا الشياطين أولياء { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }[ الأعراف : من 30 ] ، وأن الشياطين تؤزُّ الكافرين { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً }[ مريم : 83] .(1/111)
وفي كل الأحداث الكبرى حضرت الشياطين مع الكافرين ضد المؤمنين ، في يوم ( بيعة العقبة الثانية ) حاول الشيطان إفشال البيعة ونادى قريشاً فتأخرت ولو أنها تعجلت لأفسدت ، و كبيرهم إبليس هو الذي حرَّض قريش وشجعها وما زال بها حتى خرجت يوم بدر تقاتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال الله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال : 48] ، وحضر الشيطان يوم أحد يؤز الكافرين ويخدع المؤمنين وخبره مشهور معروف ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }[ آل عمران :155] .
بل تجرأ أحدهم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يصلي فحاول أن يفسد عليه صلاته ، في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي )(1) .
__________
(1) البخاري /441 كتاب الصلاة ، ومسلم /842 .كتاب المساجد ومواضع الصلاة .(1/112)
والشيطان إذا سمع الآذان ولى هاربا(1) وكذا عند الإقامة(2) ، والشيطان يكره صلاتنا ، يغتاظ منها ويبذل كلَّ جهده كي يصرفنا عنها ويليهنا فيها ، في الحديث ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى )(3) ، ويبذل الشيطان كلَّ جهده ليفسد علينا الصلاة التي هي عماد الدين عندنا ، فيأتي أحدنا ويخيل له وكأن شيئا خرج من دبره حتى ينصرف عن الصلاة(4) ، ونحن نستعيذ بالله من الشيطان حين نقرأ القرآن قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[ النحل : 98]، ونسمي الله على كل شيء كي لا يشاركنا فيه الشيطان حين ندخل البيت لنطرد الشيطان ، ونسمي الله حين نأكل الطعام كي لا يأكل معنا الشيطان ، ونسمي الله حين يخلو أحدنا بزوجته كي لا ينظر إليها ويجامعها معه الشيطان وطلبا للذرية الصالحة(5)
__________
(1) وخبر ذلك في البخاري / 584 . كتاب الصلاة .
(2) وخبر ذلك في مسلم / 582 . كتاب الصلاة
(3) البخاري / 573 . كتاب الصلاة . ومسلم / 585 . كتاب الصلاة .
(4) الحديث متفق عليه . البخاري /1915 ، ومسلم /541 ، وعندنا إذا وجدَ أحدنا حركة ريح في بطنه ( كما في رواية البخاري ومسلم ) أو في دبره ( كما عند أبي داود وأحمد والدارمي ) ، والحركة هنا هي حركة الريح أو ما يخيله الشيطان للمصلي ، أو نفخ الشيطان إذ هو يدخل الجسد ويحدث فيه ريحا وحركا لا يضبطها صاحبها ، وليس أنه يأتي الراكع والساجد فيلعب في دبره كما يتكلم الكذاب اللئيم زكريا بطرس .
(5) البخاري /138 ، ومسلم / 2591(1/113)
، والتسمية عندنا على كل شيء .
وأخبر سبحانه وتعالى أن الكافرين والشياطين لهم نفس المصير بعد الموت ، ولهم نفس الجزاء ، فهي جبهة مشتركة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً }[ مريم:68] ، وقال تعالى مخاطبا إبليس كبير الشياطين :{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص :85 ] ، { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ }[الأعراف: 18] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[ السجدة : 13] وقال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : من الآية119] .
فمن الشياطين الكافر ، ومن الشياطين المؤمن ، وكافرُ الشياطين عدو مبين ، نستعيذ بالله منه ، ونلعنه صباحا ومساءً وفي كل حين ، ومؤمنُ الشياطين متبع لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا أنه هو الذي أوحى لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. هذا ما نعرفه ، وهذا ما تتكلم به كتبنا ، وغير ذلك هو من تدليس المدلسين وكذب الكذّابين .
ـ والاستدلال بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين نزول الوحي عليه ، بأن الذي يأتيه جني أساسه كذبهم في الرواية ، فزكريا بطرس ـ أو من ينقل عنه وجل ما يتكلم به كلامه هو ـ أضاف لهيئة النبي صلى الله عليه وسلم ـ حين نزول الوحي أنه يكون سكرانا .. يرغي ويزبد ويرمى في الأرض حين يتنزل عليه الوحي ، وهذا كلامه هو ، وقد بينت ذلك في الجزء الأول من هذا البحث ، فلم يكن شيء من هذا يحدث لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين نزول الوحي عليه .(1/114)
ويدل على ما سبق من قولي أشياء حدثت في الإسلام وحدثت في النصرانية ، منها :ـ
سحر النبي صلى الله عليه وسلم .
قصة الغرانيق العلى ، وآيات سورة الحج .
اختبار الشيطان للمسيح عليه السلام .
تسلط الشياطين على أنبياء العهد القديم.
أولا : سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
في سحر الشياطين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمارة على ما قدمت لك ، إذ أنه لو كان رسول الشيطان .. لو كان يتكلم بما تملي عليه الشياطين .. لما سحروه وآذوه . أليس كذلك ؟
ألا ترى أنه عجب أن يقال أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول الشيطان ثم يقال سُحِرَ ؟
ليس عجبا فقط ، وإنما أمارة على التخبط والكذب(1).
يقولون نبي مسحور ، ويقولون تسلطت الشياطين عليه فتملكت منه وسحرته ، وكله مبالغات وكذبات كسيحات لا تبرح مكانها فتُفرح حبيبها أو تغيظ عدوها .
__________
(1) راجع الجزء الأول من هذا البحث ( الكذاب اللئيم زكريا بطرس ) فصل يكذبون في كبرى قضاياهم .(1/115)
نعم سُحرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحديث في البخاري ـ وهذا نصّه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ( سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَالَ لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا ثُمَّ دُفِنَتْ الْبِئْرُ )(1)
وكانت مدة سحره أياما وليست شهورا ولا سنين ولا طيلة حياته كما يقولون ، الثابت أنها كانت أياما قليلة ، وأنها لم تَطَلْ جانب الرسالة في شخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما غاية ما حدث أنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله .. يخيل أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، أي يُخيل إليه أنه يستطيع أن يأتي النساء وحين يأتيهن لا يجد قوة على ذلك ، وهذا حال المسحور المعقود عليه ، لا يجد انتشارا حين يقرب النساء .
__________
(1) البخاري / 3028 ، ومسلم /4059 ، واللفظ من البخاري .(1/116)
ولم يطل السحر شيئا من الوحي ، لم يؤثر السحر على الوحي ، فلم يُروَ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم هذي ـ ( من الهذيان ) أو قال شيئا من الوحي ثم اعتذر عنه بعد أن رُفع عنه السحر . فلم يؤثر السحر إلا على بدنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يدرِ أحد بسحره إلا أهل بيته ، بمعنى لم يتوقف تلق الصحابة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعاليمهم ، أو توقف هو عن الصلاة بالناس ، لم يحدث هذا ، كان نوع من المرض ، شعر به أهل بيته ، كما هو حال المربوط اليوم ، لا يدري به إلا أهل بيته .أو كما هو حال المسحور سحرا ما ، فليس كل من سحر يعرف الناس بسحره ، أو يؤثر سحره على سلوكه ؟ يكون السحر لشيء ما .. لمنعه من إتيان أهله ، أو لمنعة من مذاكرة درسه ، أو لمنعه من محبة فلان وجبره على محبة فلان . ولا يعلم به أحد إلا قريب معاشر ، فالسحر لا يعني ذهاب العقل .. نوع من المرض ، وهو ما حدث مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
( وفي سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمارات على النبوة :ـ
ـ منها طريقة الشفاء نفسها . خرَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربّه ساجدا ،يناجي ربه ويسأله الشفاء فشفاه بملكين جاءاه وأخبراه عن مَنْ سَحره وأين دفن سحره وكيف يحل السحر . وهذه أمارة أخرى على نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلجأ إلى ربه ويشفيه ربه ، إذ أنه شُفي من أثر الشيطان بدعاء ربه وليس بشيطانٍ آخر .
ـ ومنها علمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمرٍٍٍٍٍ مغيبٍ عنه ، وهو مَن سحره وأين وضع السحر .
ـ وظهر حسن خلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين دفن البئر ولم ينتقم من ساحره .(1/117)
وهي مشيئة الله أن يبتلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشتى أنواع البلاء من مغالبة الشياطين .. السحر ومن مغالبة الإنس في الحروب والخروج من بلده مهاجرا إلى ربه ، ومن الأمراض التي تصيب الأبدان ، ومن مجانبة الصواب في بعض الأمور أحيانا مثل ـ كما في أسرى بدر ـ ليعلم الناس أنه بشر ، وليزداد ثوابه ، وتعظم منزلته عند الله بما يتحمل في سبيل تبليغ رسالات الله . إلا أن اجتهادات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما يحدث له من العوارض الدالة على بشريته لا تطال الوحي ، فالوحي معصوم . فلا يكبر في صدر أحد من المسلمين أن يصاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء من هذا ، فهو بشر ، وليس إلهاً ، والعصمة للوحي ، لما يبلغ عن ربه .
( وفي قرآن أن موسى عليه السلام خُيِّل إليه من سحر السحر أن عصيهم تسعى قال تعالى : { قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }[طه:66] فها هو موسى أصابه سحر السحرة ـ سحر التخيل ـ فهل قيل أنه مسحور؟ هل يقدح هذا في نبوته ـ عليه السلام ـ ، وأيوب عليه السلام : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }[ص:41]
( والعجب كل العجب من أهل الكتاب وهم يستمسكون بما يفهمونه خطئا من مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سحره ، ويحاولون أن ينفون النبوة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه ؛ أيقدح عندهم في نبوة النبي أن يزني النبي بحليلة جاره وقائد جيشه كما يتكلمون عن داود ـ عليه السلام ـ ؟
أوَ يقدح عندهم في نبوة النبي أن يزني ببناته كما يتكلمون عن نوح ولوط ـ عليهما السلام ؟
أو يقدح عندهم في نبوة النبي أن تتسلط عليه الشياطين ؟! لا يقدح وقد تسلط الشيطان على عدد من الانبياء منهم المسيح وأيوب وغيرهما ـ عليهم السلام ـ ، وسيأتي في نهاية هذا الفصل مزيد بيان .(1/118)
إن ما يتكلمون به ـ على فرض حدوثه جدلا وهو لم يحدث لا نسلم بحدوثه أبدا ولكن من باب التنزل في الخصومة ـ لا ينافي النبوة عندهم في دينهم ، فأمرُّ منه ـ وهو الزنى والعري وغير ذلك ـ لا يذهب بنبوة النبي عندهم . فلا ندري لم يقفون هنا ؟ ولا ندري لم يحاكموننا إلى ما لا يصح في ديننا ؟ ولا ندري لم يتغافلون عن أن مقاييس النبوة التي وضعوها هم تنطبق على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ !(1) ألا ترى أنها نفوس مريضة تبحث عن شيء تصد به الناس عن دين الله ؟
(قصة الغرانيق العلى ؟(2)
يدعي ( بطرس ) أن هذه القصة وضعت القرآن في محنة كبيرة ، وأنها دلت على تحريف القرآن ، بل وكذبه ، ذلك أن القرآن تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[ الإسراء : 88] ،يقول وقد أتى الشيطان بمثله في قصة الغرانيق العلى(3) .!!
ويستدل بالقصة على مداهنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبدة الأوثان من مشركي مكة ، ويستدل بالقصة على تسلط الشياطين على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أنها تتكلم بلسانه ، ويستدل بالقصة على أن القرآن وحي الشيطان وليس وحي الله (4) .!!
ويستدل على القصة بأنها وردت في كل كتب المسلمين ويحكي إجماع الأمة على قصة الغرانيق وأن علماء الإسلام شهدوا بأن الشيطان قد أتى بسورة من القرآن ، يذكر صراحة النسفي والألباني في كتابه ( نصب المجانيق )(5) ، ووالله لا أدري كيف يتجرأ على الكذب هكذا ؟
__________
(1) قد عقدت لذلك فصلا في الجزء الأول من هذا البحث .
(2) أسئلة عن الإيمان الحلقة 28 د/ 17 .
(3) الحلقة 20 من برنامج في الصميم د/6 ، وكرر ذات الكلام في أسئلة عن الإيمان الحلقة 28 د/21
(4) الحلقة 142 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/12
(5) أسئلة عن الإيمان الحلقة 28 د/23:15(1/119)
كتاب الألباني الذي يشير إليه ( نصب المجانيق ) صنفه الشيخ من أجل إثبات عدم صحة قصة الغرانيق ، والشيخ الألباني محدث العصر ، واسم الكتاب كاملا ( نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ) . وعلماء الإسلام الذين نعرفهم والذين يسميهم هو اشتد نكيرهم على القصة متنا وسندا .
أرأيت أكذب من بطرس ؟!
لا يعنيني هنا إثبات كذبه فقد فرغت منه في الجز الأول ، ولكن استوقفتني هذه الجرأة العجيبة على الكذب ، فلم أستطع غض الطرف عنها ، والمرور من جانبها دون الوقوف عليها .
القصة لا تصح لا متنا ولا سندا وقد أكثر علماء المسلمين في التكلم عن عدم صحة هذه القصة أنكروها سندا ، وأنكروها متنا(1).ولم يقل أحد أبدا أن الشياطين تكلمت على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، غير المرتدين والكافرين .
الإشكال يأتي من ضم آية الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج :52] إلى قصة الغرانيق المفتراة هذه .
هم يقولون أن قصة الغرانيق سبب لنزول هذه الآية ، وابن كثير والقرطبي والطبري والشوكاني والشنقيطي وابن حزم والفخر الرازي كلهم ينكرون ، ويشتدون في النكير على من قال بقصة الغرانيق العلى أو قال بأنها سبب لنزول هذه الآية .
وإن سلمنا جدلا أن قصة الغرانيق ثابتة ، وأنها سبب في نزول هذه الآية ، و أن الشيطان ألقى في أمنية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماذا في هذا ؟!
أفي هذا شيء؟ ، أفي هذا دليل على أي شيء مما يستنتجونه ؟!
أبدا .
__________
(1) ومن أراد المزيد يراجع هذا الرابط : http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=91056(1/120)
الإشكال في الفهم الخاطئ لكلمة (أُمْنِيَّتِه ) الواردة في آية الحج ، (أُمْنِيَّتِه ) تعني قراءته ، ولذا تجد من أورد الرواية أورد فيها أن المشركين هم الذين سمعوا هذه الكلمات ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي ) ، أما المسلمون فلم يسمعوها ، فالشيطان يلقي في أسماع أوليائه من المشركين حين يتكلم النبي(1) ـ صلى الله عليه وسلم ـ .وفي هذا دليل بيَّن على عداوة الشيطان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرصه الشديد على النكاية بالدعوة الإسلامية . وفي نسخ ( محو ) ما تكلم به الشيطان في أسماع الكافرين أمارة على أن الدين محفوظ ، وأن شيئا من الخطأ لم يقر . وأن شريعة نقية ؛ وأمارة أخرى على صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يبلغ عن ربه ( فإذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق ، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها : لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) ألا ترى أن الذي يُعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كلَّ ما قاله ولو كان خطأَ فبيان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدلُّ على تحريه للصدق وبراءته من الكذب ، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب )(2)
وأريد أن أقف هنا وقفه تحت هذا العنوان :
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
__________
(1) راجع إن شئت فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية ج 10 /290
(2) الفتاوى 10 /290(1/121)
نصوص الشريعة بعضها مُحكم ، يعرف معناه دون الرجوع لغيره ، وهو الكثير الغالب في القرآن الكريم ، قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ }[ آل عمران : من الآية 7 ] وبعضها متشابه إضافي ( ويقال له أيضا محكم إضافي ) لا يعرف معناه إلا بغيره مثل المطلق مع مقيدة والمجمل مع مفصله والعام مع مخصصه والمنسوخ مع ناسخة ، وبعضها متشابه حقيقي لا سبيل للوصول إلى معناه وهو قليل نادر ، لا يتعلق به حكم شرعي ، وليست فيه أخبار عن السابقين ولا اللاحقين ، مثل الحروف المقطعة في فواتح بعض السور .
وقريب من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)(1) .
فهناك أمور حدثت وأمور شرعت وأخبار تُلِيَتْ متشابه تحتاج لبيان أو لا تتضح مع البيان ، ومنها إلقاء الشيطان في قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعلة في ذلك مذكورة في ذات السياق { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ الحج 53 ـ 54 ] .
__________
(1) متفق عليه . البخاري /50 ، ومسلم /2996(1/122)
أي أن هذا يحدث ليُظهر الله للناس الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم .. الظالمين .. الذين هم في شقاق بعيد .ويحدث هذا ليظهر الله للناس إيمان المؤمنين المخبتين الذين هداهم الله إلى صراطه المستقيم .
وتجد هذه العلة دائرة مع ذكر المتشابه في القرآن الكريم ، في سورة البقرة بعد أن نص على أن من القرآن المحكم ، وأنه أم الكتاب ، وأن منه المتشابه ، أخبر أن الذين في قلوبهم زيغ هم الذين يتبعون المتشابه ، قال تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }[ آل عمران : 7 ] وتلا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية ثم قال ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فإولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم )(1) . فلاحظ أن الذين يتبعون المتشابه هم الذين في قلوبهم مرض ، وسبب ذلك ـ كما تنص الآية ـ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
__________
(1) متفق عليه . البخاري /4183 ، ومسلم /4817 . من حديث عائشة رضي الله عنها .(1/123)
وسألت يهود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن خزنة النار ، يريدون حديثا عن غيب ، كي يعرفوا أنه نبي يوحى إليه ، فأجابهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يوافق ما في أيديهم من الكتاب . ونزل القرآن يهدد الوليد بن المغيرة ـ الذي فكر وقدر وقال إن هذا إلا سحر يؤثر واغتر بالبنين الشهود والمال الممدود ـ ويجيب اليهود: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر . لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ . لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ . عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) { المدثر : من الآية 26 ـ 30}
سمع أبو جهل الآيات فعَمِي عن أنها (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ) ، وعَمِي عن أن العدد بلا تميز ، وهو أسلوب ترهيب وتهويل ، وأخذته الجهالة فظن أنهم بشر مثله ، ونادي في قومه : يا معشر قريش ما يستطيع كل عشرة منكم أن يغلبوا واحدا من خزنة النار وأنتم الدَّهْم(1) ؟ فصاحبكم يحدثكم أن عليها تسعة عشر (2). ؟
وتَحَمَّسَ كِلْدَة الْجُمَحِيّ (أبو الْأَشَدّ ) ، وقال : يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر (3).!!
__________
(1) الدهم الجماعة من الناس . لسان العرب .12/212
(2) تفسير الطبري للآية : 30 من سورة التوبة .
(3) انظر تفسير بن كثير للآية 31 من سورة المدثر .(1/124)
وجاءت الآيات تبين أن ذكر العدد ـ بلا تميز هكذا ـ جاء ليفضح الله به أصحاب القلوب المريضة ، وليستيقن اليهود من أن هذا نبي يوحى إليه ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا . قال الله : {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } [المدثر: 31]
ولم يَرُقْ لمجموعة من المنافقين ذكرُ الذباب والعنكبوت في القرآن الكريم فقالوا متعجبين : ما بال الله يتكلم بهذا الكلام لو كان القرآن من عند الله لما ذكر فيه مثل هذه الأشياء ــ الذباب والعنكبوت ــ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }[ البقرة : 26] .
فذكر الذباب والعنكبوت يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا . ولكن من يُضل ؟ إنهم الفاسقون .
ومثله : {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً }[ الإسراء:60](1/125)
وفي القرآن شواهد كثيرة تبين أن الله سبحانه وتعالى ينزل من الآيات ويشرع من الأحكام ما يُظهر به فساد القلوب الفاسدة أصلا التي لا تظهر إلا بهذه الآيات و تلك الأحكام .
وشيء آخر ، هو أن الذين في قلوبهم مرض ليس فقط يتبعون المتشابه بل يفتعلونه إن لم يجدونه ، فمذهبهم ( الاعتقاد ثم الاستدلال ) ، ويفتعلون المتشابه ، عن طريق بتر النص ، أو بعدم الجمع بين أطراف الأدلة ، أو إهمال الدليل المضاد ، أو استخدام مقدمات عقلية أو عرفيه لفهم النصوص مستغلين في ذلك جهالة المستمع . وهذا بيِّن جدا في الكذاب اللئيم زكريا بطرس ، ومن لفَّ لفه .
لماذا هذا الاسترسال ؟
يضيق صدر بعضهم ببعض الأمور التي لم يأت فيها الشرع ببيان شافٍ ، مثل قصة الغرانيق العلى ، ومثل ( سحر النبي ) ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعض الأحكام في الشريعة ، وود أنها لم تكن ... أن نزل فيها بيانا شافيا ، ونقول لهؤلاء أرح قلبك وعقلك ، ولا عليك سوى بيان الحق للناس ، فالأمر مرده للقلوب لا للنصوص .. الخلل في النفوس وليس في النصوص ، وقد كانت نفس الآيات تتلى على الجمع الواحد فيهتدي بها قوم ويضل بها قوم ، ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) [ التوبة : 124ـ 125 ) .(1/126)
وإذا كان الأمر مرده للقلوب ، وإذا كانت هناك نفوس مريضة لا تزداد على سماع الحق إلا ضلالا وعمى فعلينا أن نبين الحق ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . قال الله "كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [ الأعراف : 2] ، وعلينا أن نشير لكل من جادل في المتشابه أو افتعله ، من الكافرين أو الفاسقين ، بأن الله قد نبأنا من أخبارهم وأنهم هم الذين في قلوبهم زيغ . الذين يجادلون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
ثالثا : أنبياء الله والشيطان في الكتاب المقدس .
هكذا حال الأنبياء مع الشيطان من يوم كان ، فهو عدو مبين لكل المصلحين ، ونجد في الكتاب المقدس ( لوقا : 4 ) أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يَسْلَمْ هو الآخر من كيد الشيطان ، ففي الكتاب ( المقدس ) أن الشيطان تملك من المسيح وصار به أربعين يوما في البرية يصعد به جبالا وينزل به أودية ، ويدخل به ( أورشليم ) ويخرج به للبرية ، ويأمره بالسجود له ( للشيطان ) ويُمَنْيه بممالك العالم ، أربعين يوما ، ولم نجد مثل هذا مع النبي ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ فحين تفلت عليه وأراد أن يقطع عليه الصلاة .. فقط أراد أن يقطع عليه الصلاة أخذه وربطه ، ثم تركه تكرما منه وتفضلا ، وتجملا مع نبي الله سليمان عليه السلام .
فهذا المسيح يتعرض له الشيطان ، ليس فقط للحظات بل يقتادته ويسرح به حيث شاء أربعين يوما أو يزيد ، أسر كامل من الشيطان للمسيح ـ عليه السلام ـ ، ويقولون إله !!.
ونسأل كيف يأمر الشيطان الرب بأن يسجد له ؟
وليس فقط المسيح ـ عليه السلام ـ بل ونفر كثير من أنبياء الله في الكتاب المقدس ، تعرض لهم الشيطان ولم ينتصروا عليه بل أغواهم . على سبيل المثال لا الحصر:(1/127)
دواد عليه السلام : جاء في سفر أخبار الأيام الأولى [ 21 : 1 ] :( وَوَقَفَ الشَّيْطَانُ ضِدَّ إِسْرَائِيلَ، وَأَغْوَى دَاوُدَ لِيُحْصِيَ إِسْرَائِيلَ )
وجاء في سفر أيوب الإصحاح الأول والثاني أمر في منتهى العجب ، الشيطان يفد بين يدي الرب مع عباده ، والرب يسلم أيوب للشيطان ، والنص يقول في العدد 12 من سفر أيوب الإصحاح الأول : ( فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ ) ، وفي الإصحاح الثاني من ذات السفر ـ سفر أيوب ـ العدد الثالث نجد أن الشيطان يهيج الرب على أيوب 3 فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ».
.وفي الفقرة السابعة نجد أن الشيطان يصيب أيوب بمرض من قدمه إلى رأسه اسمع : (7 فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ ) كما يقول كاتب السفر.
وفي سفر زكريا الإصحاح الثالث نقرأ أن الشيطان كان بجوار نبي الله ( يهوشع ) وهو يخاطب الملاك ويقاومه ، يقول كاتب السفر : (1 وَأَرَانِي يَهُوشَعَ الْكَاهِنَ الْعَظِيمَ قَائِمًا قُدَّامَ مَلاَكِ الرَّبِّ، وَالشَّيْطَانُ قَائِمٌ عَنْ يَمِينِهِ لِيُقَاوِمَهُ) .
وهذا بخلاف ما فعله الأنبياء من معاصي ـ بزعم الكتاب ( المقدس ) ـ بإغواء الشيطان لهم من زنى وتطاولٍ على رب العالمين . وغير ذلك مما ذكرتُ في الفصل الأخير من الجزء الأول من هذا البحث .(1/128)
وفي لوقا 22: 3 ، دخل الشيطان في يهوذا الاسخريوطي ، وهو من جملة التلاميذ الإثنى عشر ، وكيف يكون هذا ، وهو ممتلئ بروح القدس ( اقنوم الله الثاني ) هل يستطيع الشيطان ان يطرد الروح القدس ؟
. الفصل : الخامس
لهذا قتلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
( رؤية في تشريع الجهاد )
في هذا المبحث :
ـ الناس فريقان ( ملأ ) و ( عامة ) .
ـ وهذا حالهم فما العمل معهم . ؟
ـ الجهاد في الإسلام وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله ؟
ـ هل نقتل النساء ؟
ـ الرق في الإسلام مظهر من مظاهر الرحمة .
ـ الجزية في الإسلام مظهر من مظاهر الرحمة .
الناس فريقان ، عامة وخاصة ، أو ملأ ( أشراف وسادة ) ومستضعفون ( عامة الناس ) ، أو ( متبوعين ) و ( أتباع ) ، أو ( مستكبرين ) و ( مستضعفين ) كما يسميهم القرآن . أو ( الكَذَبَة ) و ( الغافلين ) كما ينطق لسان الحال ، المجتمع الكافر يتركب من هاذين الفصيلين من خلق الله .
من هم الملأ ؟ ومن هم المستضعفون ؟ ولم هؤلاء غافلون وأولئك كاذبون ؟ وما علاقة ذلك بالرد على بطرس ؟
أولا : من هم الملأ ؟
الملأ في اللغة هم الأشراف من الناس كأنهم ممتلئون شرفا . قال الزجاج سمّوا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه . والملأ أيضا حسن الخلق ومنه الحديث ( أحسنوا الملأ فكلكم سيَرْوى ) خرَّجَهُ مسلم ) (1).
__________
(1) القرطبي في تفسير الآية 60 من سورة الأعراف .(1/129)
والشرع خصص المعنى(1) وجعله دِلالة على نوعية معينة من أشراف القوم وسادتهم وهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، من جحدوا أو عندوا ظلما وعلوا . الذين يتولون الدفاع عن الجاهلية ضد الإسلام وأهله ، وفي التنزيل : ( قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) ( الأعراف :60 ) ، ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ( الأعراف : 66 ) ، ( وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) ( ص : 6 ) وهؤلاء قريش مَن بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عن قتلى المشركين يوم بدر ( أبو جهل ، وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .. ) ( أولئك الملأ )(2) .
هذا الصنف من الناس يعرف الحق جيدا ثم يقلب الحقائق للناس ، يبذل قصارى جَهده ليصد الناس عن دين الله . وهذه بعض المشاهد تصف حالهم .
(المشهد الأول :
الوليد بن المغيرة يسمع القرآن ويصفهُ بأحسن الأوصاف ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه .
يقول هذا في نادي قومِه ، ويحسب القوم أن الوليدَ أسلم ، فمن قبله عدا عمرُ بنُ الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ليقتله وعاد من عنده مسلما .
ولكن الوليد لم يسلم .
ماذا حدث ؟
لمَ يقول الوليد هذا الكلام ؟!
__________
(1) وهذه عادة الشرع مع الألفاظ اللغوية يخصص المعنى غالبا كما الصلاة والآذان والحج والتيمم وغير ذلك . وقد شرحت هذا في مكان آخر ولا داعي للتكرار .
(2) الروض الأنف ج 3 / 93(1/130)
الحج قد قرب ، وستأتي العربُ إلى مكة ويسمعون لكلام محمدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي هذا وصفه ، فاتفقوا على قولةٍ واحدةٍ تقولوها في محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تختلفوا فيظهر كذبِكم . هذا قوله .
جلس هو وأمثالُه من المعاندين المستكبرين الحاقدين على الإسلام والمسلمين ... جلسوا يلفقون تهمة ًللإسلام ولنبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ . . جلسوا يتشاورون .. يتفقون على كذبه يضحكون بها على عوام الناس . ويعرضون آرائهم والوليد كبيرهم في مجلسهم . .. وهو كبير قريش كلِّها يومها ، نقول ساحر .. نقول شاعر .. نقول كاهن .. نقول كاذب .. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردُه . ويُسند إليه الأمر : قُل أنت يا أبا عبد شمس نسمع .
ويصمت الوليد .. يجولُ بفكره .. يحاول أن يجد نقيصة في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو في منهجه ، [ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ]( المدثر : 18-23 ) .
يحاول . . ويحاول .. وأنّى له ؟ ! فالرجل هو الصادق الأمين ، ومنهجه هو هو الذي وصفه منذ قليل بأن له حلاوة وعليه طلاوة ...الخ .
ويعجز الوليد عن أن يأتي بنقيصة في محمد أو في دينه ، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم وردها هو من قبل ، يقول : قولوا ساحر ، ثم يُدَلل على قوله وهو كاذب عند نفسه وعند من يسمعونه : ألا ترون أنه يفرق بين الرجل وزوجه ، والابن وأبيه ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ ) ( المدثر : 24-25 ) (1).
ما ذا يحدث في هذا المجلس ؟
الوليد مقتنعٌ بالقرآن ، وكذا رفقائهُ ، ويجلس هو وهم يلفقون كذبه للرسول وللقرآن كي يصدوا بها عوام الناس عن الدين الإسلامي .
__________
(1) القصة موجودة عند ابن هشام ج1 /270 ، وفي ابن كثير والقرطبي عند آيات المدثر المذكورة هنا .(1/131)
إنهم الملأ .. يعرفون وينكرون .
( المشهد الثاني
يقسم الملأ من قريش أن ما يأتي به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو من عند الغلام الأعجمي الذين يبيع ويشتري عند الصفا ، ثم يُجاء بهذا الغلام فإذا به أعجمي لا يتكلم العربية
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل : 103 ) .
والسؤال : هؤلاء القوم وهم يقسمون على أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتي بالوحي من عند هذا الغلام أليسوا كانوا كاذبين عند أنفسهم ؟
بالطبع . هم كانوا كاذبين عند أنفسهم ، ولكنهم فقط يبحثون عن حجة يطفئون بها نور الله ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .
إنهم الملأ لا همَّ لهم إلا محاربة الدعوة .
( المشهد الثالث :
حاول أبو جهل أن يغتال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد في المسجد الحرام ، فلما أحبط الله كيده ، ورده بغيظه لم ينل خيرا ، فاءَ إلى نفرٍ من سادات قريش كانوا قد وقفوا قريبا منه كي يمنعوه من بني هاشم بعد اغتيال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان بين هؤلاء النفر النضر بن الحارث ، وقف يخاطبهم قائلا : يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها : هزجه ورجزه وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم .(1/132)
فها هم أولاء وقد اجتمعوا على قتله يقرون بأنه ليس شاعرا ولا كاهنا .. ولا أيا شيء مما يرمونه به . فلم يعادونه إذا ؟
إنهم الملأ يعرفون وينكرون .
( المشهد الرابع :
يدخل الملأ من قريش على أبي طالب وهو في مرضه الذي مات فيه ، وينادونه خذ لنا من ابن أخيك وخذ لابن أخيك منا حتى لا تسمع بنا العرب . ويعرضون المال ، والسلطان ، والطب ، وكل ما بأيديهم وما يستطيعونه .ويرفض النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ثم يخرجون للناس يكلمونهم بعكس ما رأوه وسمعوه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفي هذا نزلت الآيات الأُول من سورة ( ص ) ، قال الله : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ . مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ . أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) ( ص : 4ـ8 )(1/133)
هذه الآيات تسرد التقرير الذي قدّمه الملأ لعامة الناس بعد المفاوضات مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دار أبي طالب حين حضرته الوفاة(1)، ويرسم الخيالُ مشهدا . كأن ـ من يتكلم من الملأ ـ يقف على عتبة الدار يصرخ بأعلى صوته ... وكانوا جمعا .. دخل الملأ على أبي طالب يفاوضونه وبقي عامة الناس خارج البيت ينتظرون ما تؤول إليه المفاوضات . . خرج الملأ يستنفرون الناس بالصوت العالي ، وكثيرون لا يتدبرون الخطاب وإنما يسيرون مع الجلبة والصياح ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) ... خرج يصرخ في الناس متعجبا يدلل على باطله بتعجبه : أجعل الآلهة إلها واحدا ؟!
وما العجب في هذا ... بل العجب كل العجب أن جعلتم الله الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم يجمع ليوم الجمع لا ريب فيه فإلى جنة أو نار .. آلهةً أخرى .
وثانية يصرخ متعجا يدلل على باطله وهو كاذب عند نفسه : أأنزل عليه الذكر من بيننا ؟!... وما العجب في هذا . .. ولو كان غيرُه ما تغير القول ...
ثم يصرخ ثالثة يدلل على باطله وهو كاذب عند نفسه ـ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ؟
وهل أتاكم من نذير من قبله ، وهل نزل فيكم كتابا من قبل وكنتم تقرءونه ؟!
ويصرخ رابعة يدلل على باطله وهو كاذبٌ عند نفسه يقلب الحقائق ويتكلم بغير ما رأى من النبي ـ صلى الله عليه وسلم داخل الدار: إن هذا لشيء يراد . أي يريد به محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا ... مالا أو سلطانا ... يكذب على القوم ، يكذب وهو يعلم أنه يكذب فقط ليضل قومه . النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتوه رفض كل هذا .. عرضوا عليه المال والسلطان وكل ما بأيديهم وما يستطيعونه ورفض رفضا قاطعا ، وهذا المتكلم سمع كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتوه ثم يخرج للناس يكذب عليهم .
__________
(1) وسبب النزول مذكور في ابن كثير والطبري عند التحدث عن هذه الآيات .(1/134)
إنهم ( الملأ ) لا همَّ لهم إلا صدِّ الناس عند دين الله .
(و ( الملأ ) موجودون منذ ظهر الشرك في عهدِ نوحٍ ـ عليه السلام ـ . وفي عجالة أعرض على حضراتكم حال الملأ في القرون الأولى ، وغرضي بيان كيف أنهم يعرفون الحق وهم له منكرون .
قوم نوح يجادلون نبيهم عليه السلام فيدحض حجتهم . حتى لا يبقى لهم ما يدافعون به عن باطلهم .الطبيعي بعد هذا هو الإيمان . أليس كذلك ؟
ولكن انظر إلى كلامهم ما أعجبه ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( هود : 32 ) .جودلوا ودحضت حجتُهم ، ولم يؤمنوا ، العذاب ولا الإيمان ، والعياذ بالله .
وقومُ عاد ينادون نبيهم هوداً - عليه السلام - : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) ( الأعراف : 70 )
يفهمون الرجل ، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين ، ثم انظر إلى موقفهم بعد هذا البيان ، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم . ( فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) أما أن يؤمنوا فلا .يرفضون الإيمان ، ويستعجلون العذاب . نعوذ بالله .
وقومُ ثمود يطلبون الآية فتأتيهم ، ثم ماذا ؟ هل آمنوا ؟ أبداً لا بل عقروا الناقة وقالوا قولة مَن قبلهم ( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( الأعراف : 77 ) .
وقوم لوط ( وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ )( الأعراف : 82 )
لِمَ يا قوم ؟ [ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ]( الأعراف : 82 ) . ألهذا ؟ ! ! .
والقائلون بقول قوم لوط اليوم كثر . لا كثرهم الله .(1/135)
وقومُ خليل الله إبراهيم - عليه السلام - : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( العنكبوت : 24 ) .
وإن تعجب فمن أهل مدين قومِ شعيب - عليه السلام - نبي الله شعيب عليه السلام يبلِّغ رسالة ربه فيؤمن بعضهم ، ويكفر بعضهم ، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة : ( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف : 87 ) ، أفي هذا عيْب ؟ ينادي بحرية الاعتقاد ولم يرفع سلاحا ولم يعلن جهادا .
ولكن انظر ما ردّ الملأ :
( قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) ( الأعراف : 88 ) .
الموقف من الدعوة ورجالها هو هو ، نفس المنطق يتكرر ، ولا يكاد يتغير ، يعرفون الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه .
وليت الأمر يبقي على هذا فالبلية به ـ على عظمه ـ خفيفة ، بل يقلبون الحقائق لقومهم ، يكذبون على من ورائهم .و يعلنون أنه لا هوادة ، ولا مقام مع الحق وأهله .
( هذا هو منطق الملأ في كل مكان وزمان ، وفي سورة إبراهيم دليل يقطع بذلك ، في أول السورة تنقل الآيات نبأ الذين من قبلهم ـ من قبل قريش وكفار هذه الأمة ـ قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، فلم تبق منهم أحدا ، تنقل حالهم مع رسلهم وكأنهم نفر واحد في كل الأزمنة والأمكنة ، ثم تنقل الآيات على لسان الكافرين جميعا قولة واحدة ، يقول الله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) ( إبراهيم :من 13 ) مفاصلة تامة .(1/136)
وقد قال الله عنهم في موضع آخر : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ( الأنعام : 123)
(المسألة الثانية : لماذا يكره هؤلاء الدعوة ؟
قضية الملأ هي السلطة لمن ؟
لهم بقوانينهم وأعرافهم ؟ أم لله في شكل شريعته التي يطالب بها النبي والمصلحون ؟
هذه هي قضيتهم الأولى ، ولذا هم لا يقبلون الدعوة أبدا لأنها تنزع من أيديهم السلطة ، وهذا بيِّن جدا في مواقفهم ضد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضد أنبياء الله كلهم .وهذه بعض المشاهد كشواهد .
(المشهد الأول :(1/137)
في كتب السير أن عتبة بن ربيعة قال : ( يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ـ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ـ فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِطَة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الوليد اسمع قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة وررسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم " حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها فلما سمع بها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلفه - أو خلف ظهره - معتمدا عليهما ليسمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها ثم قال سمعت يا أبا الوليد ؟ قال سمعت قال فأنت وذاك ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلسوا إليه قالوا ما(1/138)
وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ) انتهت الرواية .(1)
التعليق : القضية التي تشغل عتبة ليست الإيمان بالله وإنما الظهور والغلبة .. السيادة يقول : ( فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ) .
(المشهد الثاني :
__________
(1) ابن هشام ج 1/293، والروض الأنف ج2 /76 والبداية والنهاية(1/139)
تروي كتب السير ( أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا : لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الأخنس بن شريق ) (1)أ . هـ
التعليق : المشكلة عن أبي جهل هي لمن تكون السيادة والشرف . ( تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه ) .والمشهد القادم يؤكد هذا الاستنباط .
(المشهد الثالث :
__________
(1) ابن هشام ج1/315 ، 316 .(1/140)
في كتب السير أن المغيرة بن شعبة قال : ( إن أول يوم عرفت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي جهل يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى الله فقال أبو جهل يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك فانصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقبل علي فقال والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا : فينا الحجابة فقلنا نعم ثم قالوا فينا السقاية فقلنا نعم ثم قالوا فينا الندوة فقلنا نعم ثم قالوا فينا اللواء فقلنا نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي والله لا أفعل ) .
قضية الشرف والزعامة هي التي تعنيه ، وهي التي تمنعه من إتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ، ولا حظ أنه يكذب ، ولا يستحي من ذلك ، وسأعود إلى هذه بعد ذلك إن شاء الله ونحن نتكلم عن مكر الملأ .
(المشهد الرابع :
تحدث الوليد بن المغيرة يوما وهو بين أصحابه قائلا : ( أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ، ونحن عظيما القريتين فأنزل الله تعالى فيه فيما بلغني : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف: 31 ـ 32} ،وهذا المشهد أيضا يشهد على أن قضية الملأ الأولى هي الزعامة
( المشهد الخامس :(1/141)
في البداية والنهاية لابن كثير ج3/65 أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أبى جهل وأبى سفيان، وهما جالسان، فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس.قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي ! فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل. فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا !.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فأتاهما فقال: " أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للأصل. وأما أنت يا أبا الحكم، فو الله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا " .فقال( أبو جهل ) : بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك.
التعليق : أبو جهل ينسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبني عبد شمس ، ويعجب أن يكون النبي ( المتبوع ) ( الآمر الناهي ) غلام من بين الشيوخ ، وما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاص ببني عبد شمس ، ولكن أبا جهل قد علته العصبية القبلية وهو يجاري بني عبد شمس كلهم كما صرح بذلك في مواقف أخرى ، وأبو جهل يعجب أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غلاما ،وما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غلاما ،كان قد تجاوز الأربعين من عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن أبا جهل حقد عليه إذ لم تكن له الرياسة فراح يرمي بحجة . . أي حجة .
ولاحظ أن أسلوب التصغير المنطوي على الكبر في قول أبي جهل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( يا ابن أخي ) علما بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من عمر أبو جهل(1)
(المشهد السادس :
__________
(1) أبو جهل توفى يوم بدر وهو ابن اربعة وخمسين عاما . أي نفس عمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومها ، انظر ترجمته في البداية والنهاية وفيات سنة 2 من الهجرة .(1/142)
مسيلمة الكذاب حين وفد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل يتكلم في رحله بين قومه قائلا : إن جعل لي محمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) الأمر من بعده تبعته، وكتب بعد ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول له إن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريش قوم لا يعدلون (1).
التعليق : مسيلمة من ( الملأ ) ؛ ( سيد ) من ( سادات ) بني حنيفة ، كل ما يعنيه أن تكون له الإمارة على الناس .. أن يكون هو صاحب الأمر والنهي .( إن جعل لي محمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) الأمر من بعده تبعته ) .
(المشهد السابع :
بعد أن كتب الله الغلبة لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفتح مكة وتوافدت عليه العرب تعلن إسلامها ، شكّل نصارى نجران وفدا من ستين رجلا ، ولما ( وجهوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نجران جلس أبو حارثة ـ أُسقفهم وحَبْرُهُم الأول ـ على بغلة له موجها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى جنبه أخ له يقال له كُرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كُرز تعس الأبعد يريد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست .
فقال كُرز : ولم يا أخي ؟
فقال أبو حارثة : والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره .
فقال له كرز : فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا ؟
فقال أبو حارثة : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى .فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك (2).
__________
(1) القصة في زاد الميعاد 3/534
(2) زاد الميعاد 3 /550(1/143)
القضية عند أبي حارثة هي الشرف وما فيه من نعيم الدنيا . وأبو الحارثة هذا راح يجادل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكذبه في دعوى النبوة ، جادل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واشتد في جداله حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( وددت لو أن بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أروهم ولا يروني ) من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم(1). يجادل وكأنه صاحب حق ، يجادل وهو يعلم أنه كاذب ، يجادل عن باطل . يجادل كي يبقى على ما فيه من نعيم الدنيا .إنه الحرص على الشرف . همُّ الملأ الأول .
(المشهد السابع :
المقوقس ملك مصر قال لحاطب بن بلتعة ـ رضي الله عنه ـ : ( إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى ، وسأنظر ) .
وأخذ كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك )(2) .
وكان تحليل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحال الموقوقس هو ( ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه)(3)
ذاتُ القضية .. المُلك .. السيادة .
( المشهد الثامن:
__________
(1) ذكره الطبري في تفسير الآية 61 من سورة آل عمران .
(2) ابن هشام 2/ 568
(3) زاد الميعاد 3/118(1/144)
هرقل عظيم الروم كان ممن لهم علم بالكتاب ، وكان يعلم أنه قد بقي نبي ، وأنه يخرج في هذا الزمان ، وحين وصله كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ راح يسأل ويستخبر حتى استيقن أنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال لأبي سفيان : ( إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم(1) ولو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي )(2) وحاول بالفعل أن يدعو قومه للإسلام ، فدعاهم وغلّق عليهم الأبواب ثم ناداهم : ( يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه )(3) وحين رأى نفرتهم ( لَحَسَ ) قوله وضنَّ بملكه ، وكفر بما قد علم . فلعنة الله على الكافرين .
( المشهد التاسع :
القائمون على أمر النصارى عموما ، وزكريا بطرس خصوصا من هؤلاء الذين يعرفون الحق وهم له منكرون ، ويستدل على ذلك بكذبه على قومه ، لماذا يكذب ؟ هل اشتبه عليه الأمر ؟ وإن كان ـ وهو بعيد جدا ـ فلم لا يرجع بعد أن بينا له ؟! إنه كالملأ الذين لا همَّ لهم إلا محاربة الدين . إنه كغيره ممن قال الله فيهم : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }[ الفرقان : 31]
( وأخيرا فيما يتعلق بهذه المشاهد :
__________
(1) يعني قريش ، وأخطأ من يقول أن المراد بالضمير في منكم العرب قاطبة ، ذلك أن هرقل كان على علم بالكتاب ، وكتابهم به كثير من الآثار الدالة على أن آخر الأنبياء سيكون من ولد إسماعيل عليه السلام . قاله صاحب فتح الباري في شرح حديث البخاري رقم /4188
(2) البخاري /7
(3) هذا النص عند البخاري . بدء الوحي /7(1/145)
بتتبع حال الملأ مع الأنبياء عليهم السلام ، تجد أن قضية الملأ واحدة لم تتغير ، فرعون وقومه :
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ . فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 45 ـ 47]
القضية عند فرعون وقومه هي لمن يكون السلطان في الأرض ؟ لهما أم لبني إسرائيل ؟
يدل على هذا ما جاء في سورة يونس على لسان فرعون : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }[ يونس : 78] فالكبرياء هنا تعني السلطان(1).
وقوم نوح { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ }[ الشعراء : 111] والمعنى كما يقول القرطبي في تفسير الآية : ( أَنُؤْمِنُ لَك نَحْنُ وَأَتْبَاعك الْأَرْذَلُونَ فَنُعَدّ مِنْهُمْ ) (2)ولم يكن أتباع نوح عليه السلام من الأرذلين ، وإنما هم الملأ يلقون بأي حجة كي لا يتبعون .
يقول القرطبي ـ رحمه الله ـ معللا عدم اتباع الأشراف للرسل ( قلت : الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء ; كما قال هرقل لأبي سفيان : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ; فقال : هم أتباع الرسل . قال علماؤنا : إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف , وصعوبة الانفكاك عنها , والأنفة من الانقياد للغير ; والفقير خلي عن تلك الموانع , فهو سريع إلى الإجابة والانقياد . وهذا غالب أحوال أهل الدنيا )(3)
__________
(1) ذكره الطبري وابن كثير في تفسير الآية 78 من سورة يونس
(2) القرطبي للآية :111 من سورة الشعراء .
(3) تفسير الآية 27 من سورة هود .(1/146)
وفي جملة واحدة يقول بن كثير : ( وَالْغَالِب عَلَى الْأَشْرَاف وَالْكُبَرَاء مُخَالَفَته كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارهمْ مُقْتَدُونَ")(1) .و ( مترفوها ) رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافهمْ . . قَادَتهمْ وَرُءُوسهمْ فِي الشِّرْك(2) .
(المسألة الثالثة : كيف يحارب هؤلاء الدعوة ؟
مما مضى تبين لنا أن الملأ هم حراس النظام ، أو هم المستفيدين من الوضع القائم قبل مجيء الدعوة الإسلامية ، وأن قضيتهم الأولى هي أن تبقى لهم السيادة .. الأمر والنهي .. الطاعة من الناس ، ولذا تجد أن الثابت عند الملأ هو الحفاظ على واقعهم .. نظامهم .. سلطانهم .. وما عدا ذلك متغير يتم تحريكه وإقصائه إن أثَّرَ سلبا على نظامهم ،فهم يستعملون كل ما بأيديهم للحفاظ على واقعهم . . نظامهم ، ولا يثورون إلا على من يسعى لتغيير واقعهم ، ولعل النقطة التالية تبين الأمر :
( حال الجاهلية مع الطيبين :
__________
(1) تفسير الآية 27 من سورة هود
(2) هكذا روى الطبري في تفسير آية الزخرف 23(1/147)
كانت الجاهلية تحب الحبيب محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ؛ تحبه وهو لا يعكف على أصنامهم ، ولا يشهد مشاهدهم ، ولا يستقسم بأزلامهم . . . تحبه وهو يفيض في الحج من عرفة لا المزدلفة مثلهم (1)، تحبه وهو يتعبد الليالي ذوات العدد في غار حراء . و حين قال لهم " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . " قولوا لا إله إلى الله تفلحوا " سَبُّوه وآذوه وفي الشِّعْبِ حاصروه ، ثم أخرجوه وقاتلوه .
و( ورقة بن نوفل ) ، ونفر آخر من الحنفاء كانوا بين ظهرانيهم يتكلمون بأنهم مخطئون لا يتبعون حقا ، ولم يتعرضوا لهم بشيء اللهم ( زيد بن عمرو بن نفيل ) حين أخذ يأمرهم وينهاهم وكلوا به عمه ـ وأخيه لأمه ـ الخطاب بن نفيل ( أبو عمر رضي الله عنه ) فحبسه في إحدى الشعاب كي يكف ( أذاه ) عن قريش(2)
وصالح عليه السلام يناديه قومُه (قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا ) (هود : 62 ) ومعلوم أن صالحا ـ عليه السلام ــ لم يكن مرجوا لمشاكلته قومه وإنما لحسن سيرته بينهم . . . أحبو صدقه وأمانته وحسن فعاله ، وحين تكلم بالرسالة راح رجاءهم وجاء تهديدهم وتكذيبهم .{ َذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ . فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ . أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ }[ القمر : 23 ـ 25] .
__________
(1) كان الحمس ـ قريش ومن كان أخواله من قريش وقد سبق التعريف بهم ـ يقفون يوم عرفة بالمزدلفة ، ويقف باقي العرب بعرفة ، فجاء الإسلام وحرم هذا وأمرهم بأن يقفوا مع الناس بعرفة ، وذلك قول الله تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) . راجع القرطبي وبن كثير عند تفسير الآية 199 من سورة البقرة ، وكذا حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها المتفق عليه ( البخاري كتاب الحج 1665 ومسلم كتاب الحج 2142) .
(2) الروض الأنف 1/391(1/148)
وموسى عليه السلام تربى في قصر فرعون ، وبالطبع لم يكن على دين فرعون ، وما آذاه فرعون ولا سعي في قتله حتى تكلم بالرسالة فكان ما كان .
وهذا حال الأنبياء جميعهم ، فالصحيح عند أهل العلم أن العصمة ثابتة لأنبياء الله قبل وبعد البعثة النبوية (1). ومع ذلك لم تبدأ العداوة بين نبي وقومه إلا بعد أن بدأ يتحرك لتغير واقع الجاهلية.
فالجاهلية ما كانت تعبأ بشخص صالح ، وإنما بشخصٍ مُصلح . بل هي تفرح بالصالحين المنشغلين بأنفسهم . . . تنظر إليهم بعين الاحترام والتوقير ... ترجوهم وتخلع عليهم أرفع الألقاب ــ الصدق والأمانة مثلا ــ أما حين يتحركون لتغير الأوضاع في المجتمع حينها تشتد الجاهلية وتتنكر لكل معروف عندها قبل غيرها . وتبذل كل جهدها في الحفاظ على مجتمعها .
فرعون ينادي في قومه " (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر : 26 ) . والدين هو الحال ُ التي يكون عليها القوم (2) ، يقول بن كثير في تفسير الآية : ( يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلّ مُوسَى النَّاس وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ وَعَادَاتهمْ ) .
فأخشى ما يخشاه فرعون هو أن تتغير عادات القوم وتقاليدهم .
__________
(1) راجع إن شئت ( رد الشبهات عن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم ) لعماد الشربيني ـ التمهيد .
(2) لسان العرب 13/ 170 وأورد في هذا الموطن مستدلا على هذا المعنى قول النضر بن شميل: سأَلت أَعرابيّاً عن شيء فقال: لو لقيتني على دين غير هذه لأَخبرتك . أي على حال غير هذه(1/149)
وتدبر هذا الموقف من قوم نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ حين أراد أن يغير مجتمعهم القذر أنظر بما أجابوه قال الله تعالى :{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 54ــ 56 ]
ونبي الله شعيب لم يحمل سلاحا ولم يعلن جهادا على الكفر وأهله بل أخذ بمبدأ المسالمة والتغيير بالكلمة " وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائفة لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ الأعراف : 87 ] .
ولكن الجاهلية لا تطيق كل محاولات التغيير حتى التي لا تتبنى مبدأ القتال سبيلا للتغير : { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ...} [ الأعراف : 88 ] .
فمنطق الجاهلية مع كل الحركات الإصلاحية الجادة : " لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " هذا هو قول جميعهم كما يحكيه ربنا تبارك وتعالى على لسان كل الجاهليات من يوم كانوا إلى حين نزول القرآن : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ... ) [ إبراهيم : 13] .
هذا هو منطقهم جميعهم ـ قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ـ كما نصت الآية السابقة لهذه الآية . . . لم تستثن الآية أحدا .
أردت أن أقول :(1/150)
ـ إن الجاهلية مجتمع ذو عادات وسلوك ، يقوم عليه نفر من الناس .. من يسميهم القرآن الكريم بـ ( الملأ ) ، وهي تحافظ على مجتمعها وسلوكها ضد كل محاولات التغيير . وهي تتنكر لكل الأعراف والقوانين التي سنتها هي لتسير عليها حين ترى في الأفق بشائر التغيير . وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه لا بد من المواجهة بين الجاهلية وكل حركات التغيير الجادة ، وأن ( القنوات الشرعية ) ضيقة مسدودة لا يمكن الوصول منها إلى المجتمع الصالح الذي يريده الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فالجاهلية تقف غير بعيد تخاطب السائرين في ( القنوات الشرعية ) وغير ( الشرعية ) بما قالته كل الجاهليات من قبل " لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " وحينها إما أن تسييس حركات ( الدعوة السلمية ) التي تسيير في قنوات الجاهلية الشرعية وبالتالي تسلك السبل التي تضلها عن الصراط المستقيم فتتبنى خطابا مَدَنِيّا ، وتراعي حق ( الآخر ) الذي لا يرضى أبدا أن يكون مواطنا من ( الدرجة الثانية ) كما أمر الله ورسوله ، والذي يطالب بمساحة واسعة من حرية إقامة الكنائس و ( التبشير ) بكفره بين أظهر المسلمين . وإما أن تتصادم مع الجاهلية وتقف في وجهها .
( هذا هو ما يقوله تاريخ الصراع بين الحق والباطل منذ تحرك ركب الإيمان ... من نوح إلى محمد عليهما الصلاة والسلام .
والحال اليوم هو هو بأم عينه ، فالصالح في نفسه الذي أغلق عليه باب داره ، وترك مال كسرى لكسرى ومال لله لله ، تحمله الجاهلية على رأسها . و ( المشاكس ) الذي لا تتعدى مشاكسته ( القنوات الشرعية ) تتفهم الجاهلية أحواله ولا تصطدم معه إلا حين يخرج من ( القنوات الشرعية ) كما كان الحال مع الحنفاء ( ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ) ، وفقط يكون صدامها معه من أجل ضبطه وحمله على عدم الخروج من ( القنوات الشرعية ) .(1/151)
بل أحيانا ـ وتدبر معي ـ تكون هذه النوعية من الصالحين في أنفسهم التاركين لغيرهم نوع من الدعامات أو قل من الحُلِي التي تتزين بها الجاهلية ، فهي أحيانا تدعي التسامح والحرية ومراعاة شعور ( الآخر ) وتستدل على ذلك بوجود هذا النوع من الطيبين بين أظهرها .
( يعود السؤال : كيف يحارب الملأ الدعوة ؟
الملأ يستخدمون كل وسيلة للحفاظ على واقعهم ( نظامهم ) ، ولا يتحركون ضد أحد إلا حين يتهدد نظامهم ، وهم يستعملون كل وسيلة لذلك . ويمكن إجمال الطرق التي يستعملها الملأ في محاربة الدعوة في محورين أساسيين :
المحور الأول : محور خاص بالمخالفين ( أتباع الدين الجديد ) الخارجين على نظامهم .وفي هذا المحور وسيلتين يستعملهما الملأ :
محور أمني ( التخويف ) .
ومحور اقتصادي . ( التجويع ) .
التشهير بأهل الحق وإلحاق النقائص بهم ، وهذا يشترك مع ما بعده .
مجادلة بالباطل .. طرح شبهات وتساؤلات حول المذهب الجديد .
المحور الثاني : محور خاص بمن لم يتبعوا الدين الجديد ، مَن لا زالوا على كفرهم . . ( مذهبهم ) . . ( تحت نظامهم ) يأتمرون بأمرهم .
ويأتي على رأس هذه الوسائل ( المكر ) ( الكيد ) ( تزين الباطل ) للأتباع ، وباقي الوسائل المستعملة هناك مع المخالفين حاضرة ، إذْ أنها قائمة لكل من خالف أمرهم ، وخرج على سلطانهم .
أولا : المحور الأول الخاص بمن تمردوا على الملأ ورفضوا سلطانهم ، يستعملون ضدهم التجويع ( الحصار الاقتصادي ) و التخويف ( التهديد الأمني ) و ( التشهير ) بهم وإلصاق النقيصة بشخصهم إن كانوا شرفاء أصحاب جاه بين الناس ، ويقيني بأن الشواهد على هذا حاضرة في ذهن كل من يقرأ كلامي هذا ، فهذا الأمر هو الذي يلحظه كل أحد يقرأ السيرة النبوية ، وهذا هو الذي يتكلم عنه كل من أراد أن يتكلم عن الفترة المكية في البعثة المحمدية ، وأستحضر بعض الشواهد المجملة من باب التذكير .(1/152)
خير شاهد على هذا قَوْلَةَ أبي جهل التي يرويها ابن هشام وغيره ، أن أبا جهل كان ( إذا سمع بالرجل قد أسلم ، له شرف ومنعة أَنّبَهُ وأخزاه وقال له تركت دين أبيك وهو خير منك ، لنسفهن حلمك ، وَلَنُفَيّلَنّ رأيك ، ولنضعنَّ شرفك ؛ وإن كان تاجرا قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك ؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به ) .
وعَقَدَ ابنُ هشام فصلا أسماه ( ذِكْرُ عُدْوَانِ المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة ) وقال تحته : ( ثم إنهم عَدَوْا على من أسلم ، واتبع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ) أ . هـ .
ومشهور ومعلوم في السيرة النبوية أن المشركين كانوا يسخرون من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتصنعون ذلك { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً }[ الفرقان :41] ، ومن أتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولون تبعه العبيد والفقراء وغير ذلك ، وهو دأبهم في كل زمان ومكان {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ }[ الشعراء:111]
ونلاحظُ في تعاملِ الجاهليةِ مع الدعوةِ هو أن الأسلوبَ كان يتصاعدُ مع نمو الدعوةِ ، فقد كان الأمرُ في بدايتهِ إإهمالا .. لم يتلفتوا إليه وهو يتحنث الليالي ذوات العدد في الغار ، ولا حين بدأت الدعوة سرية ، ثم حين جاهرهم كان الرد كلاما ، ومحاولةً للوصولِ إلى حلٍ وسطٍ ، ، وكانوا يراعونَ الأعرافَ القبليةَ ، ثم حين لم يُغنِ هذا طوَّرت الجاهليةُ أساليبها وتنكرتْ لأعرافها ، وعذبت أبنائها بل وقاتلتْهم وقتلتهم ، وهي التي تقول ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ).!!(1/153)
ولستُ هنا معنيا بتتبع الأمثلة وحصرها وإنما ببيان السياق العام الذي تتحرك فيه الجاهلية .. أبين عِلل الأفعال ، وخلفيات النفوس بما يبدوا من تحركات أصحابها .
ثانيا : بخصوص المحور الثاني الخاص بمن لم يتبعوا الدين الجديد ، من لا زالوا على كفرهم ( مذهبهم ) . . يأتمرون بأمرهم ، قلتُ أن أولى الوسائل المستعملة في صدِّ الأتباع عن دين الله هو ( المكر) ( الكيد ) ( الخديعة ) ، يمارسها الملأ في حق أتباعهم ؛ فخطاب الملأ لأتباعهم يأخذ شكل التنظير لباطلهم ، نوع من الحجج والبراهين يلقون بها لأتباعهم كي يبقونهم على ما هم عليه ، ونوع من التشهير والتشويش وإلصاق النقائص بالمخالفين الرافضين كي ينصرف الناسُ عنهم .
يدل على هذا ـ ويوضحه ـ الحوار بين الفريقين حين يلتقيان بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ، وتدبر :
يقول الله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ سبأ : 31 ـ 33 }(1/154)
الآيات تتكلم عن مكر الملأ بأقوامهم ، و( المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة )(1) يحاول الملأ التبرؤ من تهمة صد أتباعهم عن الهدى بعد إذ جاءهم ، ويكون رد العوام .. الذين اتبعوا ... الذين استضعفوا .. ( " بل مكر الليل والنهار " أي بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا وتغرونا وتمنونا وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء ) ويتابع ( إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا " أي نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهاً وأشياءً من المحالِ تضلونا بها ) (2)
ويقول السعدي ـ رحمه الله ـ معلقا على قول الله تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } : ( أي: بل الذي دهانا منكم, ووصل إلينا من إضلالكم , ما دبرتموه من المكر, في الليل والنهار, إذ تحسنون لنا الكفر, وتدعوننا إليه, وتقولون : إنه الحق , وتقدحون في الحق وتهجنونه, وتزعمون أنه الباطل. فما زال مكركم بنا, وكيدكم إيانا, حتى أغويتمونا وفتنتمونا.)(3)
فالملأ بالاحتيال والخديعة يُغرون ويُمَنُّون ويحسنون الكفر ويَدْعون الناس إليه .وهذا ما يعنيني هنا .وهو بيان أن الملأ يكذبون على قومهم ، بيان أن من أساليب الملأ في محاربة الدعوة هو التوجه بخطاب ( فكري ) لأتباعهم يصدونهم به عن الحق . وهذا واضح جدا في كل المشاهد التي يحكيها القرآن عن الأتباع والمتبوعين حين يتواجهون بين يدي الله عز وجل .
__________
(1) القرطبي عند تفسير الآية
(2) ابن كثير عند تفسير الآية :32 من سورة سبأ
(3) انظر تفسير السعدي للآية 32 من سورة سبأ .(1/155)
في سورة ( ص ) يقول الله تعالى : { هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ . قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ . قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ . وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَار . إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}[ ص : 59 ـ 63 ]
فهنا الأتباع يلقون بالتبعة على ( الملأ ) ، ويقولون لهم { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } ( يعنون : أنتم قدمتم لنا سكنى هذا المكان , وصلي النار بإضلالكم إيانا , ودعائكم لنا إلى الكفر بالله , وتكذيب رسله , حتى ضللنا بإتباعكم , فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم )(1)
وفي موضع آخر ، يقول الله تعالى : {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38]
( قالت أخراهم لأولاهم " أي أخراهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعين لأنهم أشد جرما من أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل)(2)
__________
(1) الطبري في تفسير الآية 60 من سورة ص
(2) ابن كثير في تفسير الآية(1/156)
وفي سورة الصافات يقول الله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ . وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون . مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ . بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ . وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ . قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ . قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ . فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ . فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ . فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } [ الصافات :22ـ34]
فهنا يحشر الذين ظلموا وأزواجهم ـ شبهائهم ونظرائهم ـ وما كانوا يعبدون من دون الله ، ويدور الحوار بين الأتباع والمتبوعين ، يقول الأتباع لأسيادهم { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } أي ( من جهة النصح .. مجيء من إذا حلف لنا صدقناه )(1)
أقول : جميع مواقف العتاب بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين في يوم القيامة وفي النار ـ عياذا بالله ـ يتكلم فيها الأتباع عن مكرٍ مكره الملأ عليهم .. عن كيد كادوهم به ، والكلام على حقيقته لا نعلم له صارف .
والقرآنُ يتحدثُ عن أن الملأ يكيدون كيدا ، { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } [ الطارق : 15] .لاحظ يؤكد الفعل بالمفعول المطلق ، ويكيدون كيدا تعني ( يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن )(2)
__________
(1) القرطبي عند تفسير الآية ، وتكلم ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية بكلام طيب صريح في ذات المعنى .
(2) ابن كثير عن تفسير الآية :5 من سورة الطارق(1/157)
والشيطان وهو المتبوع الأول لكل من خالف الحق يقول لأتباعه يوم القيامة { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي }[ إبراهيم : من الآية 22] ، أي ( نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي ، وزينته لكم ، فاستجبتم لي واتباعا لأهوائكم وشهواتكم )(1)
هذا هو حال الملأ في صدهم عن سبيل الله حين يتكلمون إلى متبوعيهم ، ولعل هذا يوضح قول الله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }[ غافر :5]
في كل أمة الكافرون يقاتلون (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) في ذات الوقت الذي يجادلون فيه بالباطل لإزالة ( دحض ) الحق (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ )(2) .
مع المؤمنين قتال ودفع بكل ما في أيديهم ومع قومهم جدال بالتي هي أحسن ،وقد تتداخل الأساليب وتتبدل ، فتجدهم أحيانا يرهبون قومهم ليبقوا على ما هم عليه ، وتجدهم حينا يجادلون المؤمنين ليشككوهم .
(المسألة الرابعة : من هم المستضعفون ؟
__________
(1) السعدي عند تفسير الآية .
(2) انظر ( الحد بين القول والحرب ) للشيخ رفاعي سرور في صفحته الخاصة في صيد الفوائد .(1/158)
هم القسم الثاني من الناس في تركيبة الجاهلية التي واجهها الإسلام ويواجهها كل الدعاة ، هم ( المستضعفون ) . . ( الأتباع ) . . ( أخراهم ) . . وهذه كلها مصطلحات شرعية وصفهم بها القرآن الكريم في الآيات التي مرت بنا ، وهي أوصاف لأحوالٍ مختلفة تبدوا عليهم ، فهم ( مستضعفون ) فيما يبدو لنا ليست بأيديهم أسباب القوة ، وهم ( أتباع ) يُؤمرون فيأتمرون ، ويُنْهون فينتهون ، وهم ( أخراهم ) يدخلون النار بعد أسيادهم ، يتقدمهم أسيادهم وهم يأتون بعدهم متأخرين عنهم . وهم ( العامة ) وهم ( الجماهير ) في مفهوم ( مثقفي ) اليوم.
والمفسرون يفسرون كل واحدة من هذه بالأخرى فعند ذكر المستضعفين ـ مثلا ـ يقولون ( الأتباع ) ؛ وهي أوصاف متعدد تدل على أعيانهم ويفهم منها السامع حالهم والمراد من ذكرهم .
( المسألة الخامسة : لماذا يقبل العامة خطاب الملأ ، ولا يرفضوه كما رفضه من خالف الملأ وجلُّهم من العامة ، إذ أن اتباع الأنبياء من الفقراء والضعفاء ؟
ليس كل العامة لم يقبلوا خطاب الوحي ، وليس كل الملأ لم يقبلوا خطاب الوحي ، فقد أسلم أبو بكر وأسلم عمر وأسلم الحمزة ،وأسلم سعد وأسلم عثمان ، وأسلم كثير من الضعفاء . ولكن فصيل من الملأ لم يقبل وجمهرة من ( العامة ) لم تقبل .والسؤال لماذا لم يقبل من لم يقبل من ( العامة ) خطاب الوحي ؟
الإجابة في الآيات السابقة التي تحكي ما يدور بين ( الأتباع ) و ( المتبوعين ) ، تحديدا في إجابة ( المتبوعين ) ( الملأ ) على هؤلاء الضعفاء ، يقولون لهم : { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } [ سبأ : 32] .(1/159)
( بل كنتم مجرمين ) أي ( مشركين مصرين على الكفر)(1) ( منعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمان من اتباع الهدى ، والإيمان بالله ورسوله )(2) ( خالفتم الأدلة والبراهين والْحُجج التي جاءت بهم الرسل لشهوتكم واختياركم )(3) كنتم (مختارين للإجرام, لستم مقهورين عليه, وإن كنا قد زينا لكم, فما كان لنا عليكم من سلطان )(4).
وفي سورة الصافات : {قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }[ الصافات:29]( تقول القادة من الجن والإنس للأتباع ما الأمر كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر والعصيان .)(5) ؛ ويتضح حالهم من جواب الله لهم حين يدعون بتضعيف العذاب على رؤسائهم في الدنيا بعد أن يتلاوموا وهم في النار ، قال الله { قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف: 38] .
__________
(1) القرطبي عند تفسير الآية .
(2) الطبري عند تفسير الآية
(3) ابن كثير عند تفسير الآية
(4) السعدي عند تفسير الآية
(5) ابن كثير عند تفسير الآية(1/160)
الآية تخبر بأن للأتباع ضِعف من العذاب كما أن للمتبوعين ضعف من العذاب ، وهي مشكلة في عقل كل عجول ، يحلها شيخ الإسلام بن تيمية بقوله ( .. فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه ؛ لكن قدرته بالدعاء والأمر وقدرة الفاعل ( الأتباع )(1) بالاتباع والقبول .... ومن هذا الباب قوله تعالى { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } . فأخبر سبحانه أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } . وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفا من العذاب . ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف . )(2) ، ويقول في موضع آخر ( والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله : إما أن يتبع الظن ؛ وإما أن يتبع هواه وكثيرٌ يتبعهما )(3)
فالذي يتضح من مراجعة أقوال المفسرين وما تكلم به شيخ الإسلام عن المقلدين من الكافرين والمبتدعين ، ومِن تدبر المواقف في السيرة النبوية أن مكر الملأ يصادف هوىً في صدر العامة ، ولذا يتبعوهم ، فبمراجعة السيرة النبوية وتدبر المواقف والأحداث نجد أن العامة هؤلاء أقسام :
…
( المسألة السادسة : كيف يحارب هؤلاء الدعوة ؟
__________
(1) مما بين الأقواس مني وليس من كلام شيخ الإسلام .
(2) الفتاوى 10/722
(3) الفتاوى 4/198(1/161)
الحقيقة أن ( الجماهير ) ـ العامة ـ لا تصارع ولكنها ميدان للصراع بين الحق والباطل .. بين القائمين على الحق والقائمين على الباطل ؛ فمن الثوابت التاريخية أن الجماهير لا تُسطر التاريخ ، ولا تَصنع الحدث ، وإنما يُصنع بها الحدث ، وتُساق الجماهير بالملأ ـ أو النخبة ـ لأمر قد لا تريده هي ، ويكون عكس ما تحركت إليه ، وسَرقة مجهود الجماهير ، أو سياقة الجماهير صناعة يُتقنها كثير من المُغرضين . وقد مرَّ التاريخ بأمثلة كثيرة على ذلك ، وجُلّها من واقعنا المعاصر (1)
فحرب ( العامة ) للدعوة في مهدها الأول كان بتكثير سواد الكافرين ، وبطاعتهم ، هم يطيعون لشهوة في قلوبهم ، لتحقيق أغراض خاصة ، أمنية أو تتعلق بتحصيل الرزق واللذات البدنية ، وهذا أمر ليس بالهين ، فهم الذين يسخرون ، وهم الذين يروجون الشائعات ، وهم الذين تنتشر بهم الفاحشة هنا وهناك ، هم ميدان السباق وأدواته ـ والملأ هم الذين يستعملونهم ـ ؛ قد يكون الفرد من ( العامة ) لا وزن له في مجريات الأحداث ، ولكن جملة العامة وزنهم ثقيل جدا ، ولولاهم ما استطاع الملأ شيئا ، فهم كما يقول ابن القيم ( حميرهم ودوابهم ) وأنى السير الطويل بلا دواب أو حمير ؟
( وهذا حالهم فما العمل معهم ؟
مع وجود هذا الفصيل من الناس لا يمكن أبدا أن تسيرَ الدعوةُ بشكلٍ صحيح ، لا يمكن أبدا أن يفهمَ الناسُ الحق .ذلك لأنهم هم يتكلمون لقومهم بغير الحقيقة .. كما بينّا من قبل . وتكون لهم الغلبة والسيطرة على الناس ، فيمنعون عنهم الدعوة . أو يمنعون الدعوة أن تصل بمفهومها الصحيح للناس ، كما يحدث من بطرس الآن .
أسأل : وهذا حالهم فما العمل معهم ؟
من يتكلمُ بكلامٍ يعرف هو قبلَ غيره كذبه . ما العمل معه ؟
من يتكلمُ بكلامٍ غيرِ معقولٍ ما العمل معه ؟
من يكذب وهو يعلم أنه يكذب ما العمل معه ؟
نحاوره ؟ . . نبين له ؟
__________
(1) انظر للكاتب : الجماهير من يمسك زمامها ؟ بالصفحة الخاصة في صيد الفوائد .(1/162)
هو يعرف أنه كذاب . هو يتعمد الكذب . . هو يعرف وينكر .. . هو يثير الفتنة بين الناس بتساؤلاته . هذا الصنف من الناس لا يريد بيانا أصلا . هذا الفصيل من خلق الله لا دواء له إلا القتل ، ولهذا الفصيل من الناس شرّع الله الجهاد .
السياق العام الذي جاء فيه تشريع الجهاد في الإسلام .. هو إزالة العقبات من طريق الدعوة ... إزاحة الملأ من طريق الناس . ثم يضع الناسَ أمام خيار حقيقي ... يعرض عليهم الصورة كما هي .. لا كما زيفها الملأ الكذابون . يزيح الملأ ثم يخير الناس خيارا حقيقا ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) .وغالبا ما يؤمن الناس .ذلك أن عامة الناس عبيد من غلب . عامة الناس لا تتدبر الخطاب وإنما تتبع أسيادها ومن يترأس فيهم ، أو تبحث عن ثقة وتتبعه . أو تخاف على رزقها فتتبع أسيادها .
فهنا نقطتان :
الأولى : أن هدف الجهاد هو إزالة الملأ من حياة الناس . . إزالة العقبات من طريق الدعوة ثم وضع الناس أمام خيارٍ حقيقي ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . وهذا قول الله تعالى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ، وهذا قول الله تعالى ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
الثانية : أن عامة الناس عبيد من غلب ، عامة الناس لا تتدبر الخطاب الدعوي وإنما هي مع من غلب . لذلك حالَ سيطرة الملأ عليهم ، لا يتدبرون . أو يفقهون ولا يستطيعون أن يتبعون .
(الجهاد وسيلة من وسائل الدعوة
لم يكن الجهاد في الإسلام لشيء .. أي شيء غير الدعوة إلى الله .. غير إزاحة الملأ الذين استكبروا في الأرض بغير الحق ومن ثم عرض الإسلام على الناس ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . وشواهد ذلك من السيرة النبوية كثيرة ، أذكر هنا بعضها .
( النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن غلب سخينة ( قريش ) ماذا فعل بها ؟
منَّ عليهم بالفداء ، لماذا ؟ لأن الإبادة ليست مقصدا أبدا .(1/163)
(والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن هزم هوازن وأخذ نسائهم وأموالهم رد عليهم نساءهم وأموالهم طمعا في إسلامهم وقد أسلموا بالفعل . لماذا ؟ لأن الإبادة ليست مقصداً أبدا.
( والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن هزم بني المصطلق وساقهم إلى المدينة المنورة ، منَّ عليهم بالفداء فأسلموا جميعا .الإبادة ليست مقصد أبدا .
( وثمامة بن أثال ـ سيد من سادات بني حنيفة في نجد ـ بعد أن غلبه وأسره وربطه في المسجد ولو شاء قتله . منَّ عليه بالفداء فأسلم . لماذا ؟ القتل ليس هو المقصد أبدا .
ـ وطيء بعد أن غلبهم وأخذهم ونسائهم وأموالهم وأطفالهم منَّ عليهم بالفداء ، لم ؟
المالُ والنساء ليسوا مقصدا ، والإبادة ليست مقصدا أبدا.
ـ ولمَ أسلمت هذه الشعوب بعد أن غُلِبَت ؟
رأت الأمر على حقيقته .
بنوا طيئ عادوا يقولون جئنا من عند أكرم الناس . صلى الله عليه وسلم . ، وعَدِي حين جلس مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد يقول ما هذا بملك ؟ واستوت عنده الصورة على حقيقتها بعد أن كانت مقلوبة مشوشة .
ويلاحظ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يربط الأسرى بالمسجد أو على باب المسجد ليشاهدوا الصلاة ويسمعوا القرآن . حدث هذا مع ثمامة ، ومع بني المصطلق ، ومع أسارى طيء .وتتبع التاريخ .. تاريخ الفتوحات الإسلامية ، تجد أن الفتوحات الإسلامية ، الجهاد في الإسلام لا يستهدف إبادة الشعوب ، ولا يستهدف قتل العوام وأخذ أموال الناس ونساءهم كما يفتري النصارى وغيرُهم اليوم ، وإنما يستهدف إزالة العقبات التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية . وعامة الناس فقط حين ترى المسلمين المستمسكين بدينهم المجاهدين في سبيله وتعاشرهم ، فإنها تسلم من فورها . تنتهي غفلتها عن هذا الدين ، وينتهي الكذب الذي يمارسه الملأ ليصدوا الناس عن دين الله . فيسلمون لله رب العالمين . والدين متين يتمكن من القلوب حين يعرض عليها .
هذا هو سياق تشريع الجهاد في الإسلام .(1/164)
ونحن المسلمين نعتقد أن الإسلام رسالة يجب أن يسمعَها كلُّ الناس ، يسمعونها سماعا حقيقيا ، وأن الشريعة الإسلامية شريعة حق يجب أن تحكم كلَّ الناس .
(النصارى يدندنون دائما حول أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل بعض الشخصيات دون قومهم .. ابن أبي الحقيق اليهودي .. كعب بن الأشرف اليهودي ، وعصماء بنت مروان .. وأم قرفة .. وعقبة بن معيط الأموي القرشي.. والنضر بن الحارث العبدري القرشي ..ومن أمر بقتلهم يوم الفتح ، من قتل منهم ومن تاب قبل أن يقتل .
نلاحظ أيها الأحبة الكرام ، أن القتل لم يكن هدفا كما قدمنا ، وإنما كانت الدعوة هي الهدف .ولم يصدر أمر بإبادة قبيلة كاملة . .ولم يصدر أمرٌ بقتل النساء والأطفال .. أبدا لم يحدث هذا ، وإنما أفراد ... فقط أفراد . هؤلاء الأفراد اشتهروا بالمحاربة .
والاشتهار بالمحاربة هي العلة التي من أجلها أهدر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ دماءَ تسعة من المشركين في فتح مكة يوم الفتح رغم عفوه عن جميع المشركين . وهي العلة التي من أجلها قتل من قتل من رؤوس المشركين .. النضر ، وعقبة ، وكعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق .
وتتبع الشخصيات التي تم قتلها تجدها من هذه النوعية . ممن اشتهروا بالمحاربة . من الذين يَعرفون ويصدون عن سبيل الله .(1/165)
النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ـ قرشي من بني عبد الدار بن قصي بن كلاب ـ أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم ـ يقول عنه ابن هشام كان مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وكَانَ َمِمّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ . قَدِمَ الْحِيرَةَ (1)، وَتَعَلّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ واسبنديار . وكان النبي ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذا جلس مجلسا يأمر الناس فيه بعبادة الله ويذكرهم بحال من عصوا قبلهم ماذا فعل الله بهم ومن أطاعوا كيف كان حالهم يأتي هذا الشيطان ويجلس بعد النبي وينادي في الناس : أَنَا وَاَللّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ فَهَلُمّو إلَيّ فَأَنَا أُحَدّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ . ما هذا ؟
حرب إعلامية . يذهب إلى فارس يتعلم .. ويجيء يحكي ويشوش إعلاميا على الدعوة ورجالها .
أبو جهل أقسم إن رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسجد بين ظهرانيهم أن يضرب رأسه الشريفة ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجر.. يريد قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد .وهمَّ أبو جهل .. بل عزم وشمر عن ساقه واحتمل حجرا ضخما .وراح ينفذ ما عزم عليه .ثم إن الله منع رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وردَّ الله أبا جهل بغيظه لم ينل خيرا . هنا وقف النضر هذا الشيطان يتكلم بعد محاولة الاغتيال الفاشلة هذه . ماذا قال ؟
__________
(1) عاصمة المناذرة قديمة على الجانب الغربي من الفرات ، والنجف اليوم مكانها .(1/166)
قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْش ٍ ، قَدْ كَانَ مُحَمّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً حَتّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ <300> سَاحِرٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ .وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ .وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ .وَقُلْتُمْ مَجْنُونٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ ) .
يعرف الأمر حقيقة . ويقر بذلك بين أصحابة ، وثلاثةُ عشرة عاما وهو يسمع أيات الله تتلى فيستهزأ بها .ثم يخرج محاربا مع قريش يحمل لوائهم . ما العمل مع هذا ؟
البيان ؟
هو يعرف الحق تماما . ويصد الناس عنه .
قتله هو الدواء ، وهذا ماحدث يوم بدر . قتل صبرا .
(وعقبة بن أبي معيط .. وهو ممن يتكلم عليهم زكريا بطرس .
جارٌ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقريب منه ـ من بني أميه هو ـ وجلس للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلوس المحب ، وسمع منه ، ثم بتحريض من صديق له تفل تجاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ت وآذاه ، واشتد في أذاه . ثم خرج مع قريش مقاتلا ؟
ما الحل مع هذا ؟...البيان ؟
يعرف .وهو يعاند .
انتهى دور البيان .
لذا كان قتله في منتهى الحكمة .
(وبنوا قريظة غدروا حين البأس .. حين القتال . وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهودٌ موثقه . فما العمل معهم ؟ . . .التسامح ؟
يغدرون . . لا يمسكون عهدا ، ويتطواطئون على المسلمين .
القتل هنا للغادرين أمر طبعي جدا ، بل هو العلاج القويم . مع أنه لم يقتل إلا المقاتلة فقط .ويقولون باع نسائهم وذريتهم .!!(1/167)
ونقول : فعل بهم أخف الأمرين إذ لم يقتلهم كما فعل بآباءهم وأزواجهم .أو كما يأمر كتاب النصارى . فعل بهم ما يوصي به كتابهم ففي سفر التثنية : " حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً[19] أي تستأصلها استئصالاً.
مع أن هناك فارق كبير من جهتين ، أن كتاب اليهود يأمرهم بقتل المدن والغدر بها حال القدرة عليها ، بل بالخديعة أيضا ( استدعها للصلح فإن أجابتك ... ) ، ونحن لا نفعل ذلك ، من صالحنا صالحناه ووفينا له ، ومن أبدى لنا العداوة نبذنا له على سواء فإن الله لا يحب الخائنين .
ومن كبر في صدرة ذبح مقاتلة بني قريظة عليه أن يتذكر كيف كان الحال لو أنهم تمكنوا من المسلمين بمساعدة الأحزاب .. اتجهوا بالفعل للنساء والأطفال كي يبدؤوا بهم .
ومن يكثر الكلام من دعاة الإنسانية حول قتل بني قريظة عليه أن يراجع الدساتير الحالية وكيف قولها مع الخائنين لأوطانهم حين البأس .
ومن يقول أسرى وذبحهم كذب ، ليسوا بأسرى ، لم يكونوا مقاتلين بل غادرين .
(حتى من قتل من النساء ، كانت العلة في قتله هو الاشتهار بالمحاربة . وما كان للنساء أن يخرجن من بيوتهن ، ما كان لهن أن يقاتلن كالرجال .
أم قرفة . عندها خمسين فارسا من محارمها ويُضرب بها المثل في المنعة وتجهز رجالها لقتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة ؟ ما العمل معها ؟(1/168)
كان تجهيز سرية لها في منتهى الحكمة على أنه لم يفعل بها ما يردده الأفاك الأثيم زكريا بطرس . من قلبها على رأسها وشقها بجملين . هذا كله مما لا يصح وهو من رأس زكريا بطرس .بل قيل أنها قتلت في حروب الردة . والسرية كانت لرجالها ولم تكن لشخصها ، وهي إمرأة غجرية ثائرة تركت بيتها ووقفت خلف الرجال ، تشحذ الهمم . . تعرضت للسيوف فأخذتها السيوف .
وهند بنت عتبة يوم أحد خلف الرجال تضرب بالدف وتشجع ، وأثناء المعركة تأكل كبد الرجال ، وبعد المعركة على الصخرة ترتجز وتفتخر ،ويوم فتح مكة فرَّ الرجال وخرجت هي تضرب الخيل بخمارها وثيابها !! أي إمرأة هذه ؟! ما العمل معها ؟
ما كان لها أن تقف هذا الموقف ، ومن وقف هذا الموقف وفعل هذا الفعل فقد تعدَّ حاله البيان وطالب بالسنان .
وعصماء بنت مروان ، تولول في بيتها بين رجالها ، وتنظم الشعر تسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحرض قومها على قتلهم ، وتحريض النساء يذهب بعقل الرجال . لك أن تتخيل إمرأة تعير زوجها أو أبنائها بالرجولة ( عدم الرجولة يعني ) ، ماذا سيفعل ؟ ، وسبُّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا نطيقه ، لأننا لا نجد له مبررا ألبته .
هذه النوعية من النساء تؤجج حربا . أشد من الرجال . وقتلهن يريح الناس من شر كثير . فلولا قتل بنت مروان لقتل من حرضتهم على قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وربما انتصر لهم غيرهم وقتل معهم ، ناهيك عما تحدثه مثل هذه الأفعال من بلبلة بين الناس تذهب بالوقت والجهد .
( هل نقتل النساء ؟(1/169)
أبدا ، لا نعرف هذا أبدا . لا النساء ولا الأطفال ولا من لا يقاتل من الرجال . وليس في ديننا أمر بذلك (1) ، في الحديث : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ
__________
(1) بخلاف الكتاب المقدس ، وقد عقدت لذلك مبحثا خاصا(1/170)
ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا )(1)
الحرص على إسلامهم ، لا على قتلهم وأخذ أموالهم ونسائهم .
هل أبادت جيوش المسلمين في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شعبا أو قبيلة ؟
أبدا . ولو كان شيء من ذلك ما كان أحد بين أظهرنا اليوم .
( الرق في الإسلام مظهر من مظاهر الرحمة .
يجمل هنا أن نقف مع قضية الرق في الإسلام ، وهنا نبين أمور :
ـ الرق كان موجودا قبل الإسلام ، وخاصة الرومانية النصرانية وظلَّ موجودا بعد الإسلام وإلى وقت قريب . فلم يبتدعه الإسلام .
ـ كانت أسباب الرق كثيرة ، وأسباب الحرية ـ للرقيق ـ قليلة أو شبه معدومة . في كل العالم ، قبل الإسلام ، فجاء الإسلام وحرم كلَّ أسباب الرّق عدا ما كان من الأسرى في الحرب ، مع الأخذ في الاعتبار أن الحرب في الإسلام وسيلة من وسائل الدعوة ، وليست للإبادة ولا للاسترقاق فهي خيار ثالث بعد الإسلام والجزية ، وشرع عددا من المصارف لتحرير العبيد ، منها المكاتبة وكفارة اليمين وكفارة الظهار ، والتصدق بالعتق بلا سبب . وغير ذلك مما هو موجود في شريعة الإسلام .
ـ الرق في الإسلام مظهر من مظاهر الرحمة في الشريعة الإسلامية . وذلك أن الذي يسترق هو الذي يقتل ، فالرق بديل للقتل . وبهذا تعلم أن وضع الرق رحمة وليس نقمة كما يصورونه .
__________
(1) مسلم / 3261(1/171)
ـ الرقيق في الإسلام ليس كغيره ، ففي الإسلام توصية على الرقيق ، في التنزيل {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }[ النساء : 36] ، وصى بهم بجوار توصيته بعبادة الله وبر الوالدين . وفي الحديث حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ قَالَ سَمِعْتُ (( إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ))(1) . حتى مجرد النطق بالاسم ( عبد أو أمة ) نهى عنه الإسلام ، وعند مسلم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي فَكُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَلَا يَقُلْ الْعَبْدُ رَبِّي وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي )) (2) وتسامح الإسلام مع العبيد ومراعاته لإنسانيتهم مشهورة معروفة .
ففيم الاحتجاج على الرق في الإسلام ؟
__________
(1) البخاري / 2359 . مسلم /3139
(2) مسلم 4178(1/172)
وفيم الاحتجاج على الرق والنصرانية تعرفه ، ولك أن تراجع رسالة بولس أوفسس الاصحاح السادس عدد 5 وهو يأمر العبيد أن يطيعوا أسيادهم كما يطيعون المسيح . جعل السيد للعبد كما المسيح للحر . ، وفي لوقا الإصحاح الثاني عشر ،العدد45 وما بعده كلام شديد عن العبيد منه 47 وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. ) ، وهو مثال ينقله دون أن يذمه .
( الجزية في الإسلام مظهر من مظاهر الرحمة .
ـ الجزية تضرب في الإسلام على من قهرناه ، على من لو شئنا قتلناه ،على من لو شئنا طردناه . ومن نضرب عليه الجزية يكون له ما لنا وعليه ما علينا في بلادنا وخارج بلادنا . وإن لم نستطع أن نحميهم فلا جزية لنا عليهم .
ـ والجزية تفرض على القادر عليها ، وهي مبلغ زهيد مقارنة بما كان يدفعه هؤلاء إلى حكامهم .
وسياقها العام والخاص لا يشي من بعيد ولا من قريب أنها نوع من الظلم والذل لأهل الكتاب .
وغير القادر منهم نتكفل به ، وننفق عليه .فله كفالة اجتماعية بيننا .
ـ ومن قال بأن الجزية للحماية ، وأنهم إن دخلوا في الجيش أو تولوا حماية أنفسهم سقطت عنهم الجزية فقوله لا نعرفه .
ـ ومن أراد أن يناقش الجزية في الوضع الحالي فلا ننصت إليه ، ذلك أن الجزية تأتي في سياق سيطرة الإسلام بمفاهيمه وتصوراته وعسكره .
ـ ومن أراد إسقاط الجزية وجعلها من الموروث الثقافي ، ويدعونا لعدم التحدث فيها إلا من باب التاريخ ، فهذا ليس منا وإن انتسب إلينا .(1/173)
ـ ومن كَبُرَ في صدره أمر الجزية فعليه أن يتذكر حال عباد الصليب حين يَغلبون ، عليه أن يستحضر نصوص كتابهم ( المقدس ) ، وأفعالهم في بيت المقدس والأندلس وفلسطين والعراق وأفغانستان وغير ذلك (1) ويقارنا حالنا حين نغلب وحالهم حين يَغْلبون . عندها سيعلم أننا حقا أصحاب رسالة سماوية .. ملئها الرحمة للبشرية .
الناسخ والمنسوخ بين القرآن الكريم والكتاب ( المقدس )
في هذا الفصل :
ـ النسخ عندنا والنسخ عندهم .
ـ فوائد النسخ في الأحكام .
ـ النسخ في الكتاب ( المقدس )
ـ البداءة .
ـ أحكام متروكة مع عدم وجود علّة للترك .
ـ نسخ تعاليم المسيح ـ عليه السلام ـ .
ـ أحكام من عند أنفسهم لا دليل لهم عليها .
ـ نسخ في الأحكام كالذي عندنا .
ـ نسخ في العقائد .
ـ من يعبد النصارى ؟.
ما معنى النسخ ؟ ولماذا كل هذه الجلَبَة والصياح التي يثيرها بطرس وغيره حول الناسخ والمنسوخ ؟
المراد بالنسخ الذي يتكلمون عنه هو رفع الحكم الشرعي بحكم شرعي أخر . أو تغير الأخبار بأخبار أخرى لاحقة تضادها في المضمون .
قضية الناسخ والمنسوخ قضية تراد لغيرها وليس لذاتها . تثار للقول بأن في القرآن الكريم تغير للأوامر والنواهي ، وبالتالي القول بأن وجود النسخ أمارة على جهل من تكلم بالقرآن ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وبالتالي القرآن ليس كلام الله . هذا ما يدندنون حوله حين يتكلمون عن الناسخ والمنسوخ . ولذلك من الجيد تناول قضية الناسخ والمنسوخ في سياق الدفاع عن القرآن ككل ، ومن الجيد عرض شبهاتهم حول الناسخ والمنسوخ في إطار افترءتهم حول القرآن الكريم .
( في القرآن الكريم :
ـ النسخ لا يكون في الأخبار . ولا يكون في العقائد ، وإنما في بعض الأحكام .
ـ ولا يدخل في الأحكام المؤبدة ( ولا تقبلوا لهما شهادة أبدا ) .
ـ الأحكام التي فيها النسخ لا تتجاوز العشر آيات .
__________
(1) انظر الفصل الأخير من كتاب الكذاب اللئيم زكريا بطرس .(1/174)
ـ والنسخ غير موجود بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له وجود .
ـ والنسخ أمارة من أمارات الإعجاز التشريعي في هذه الشريعة . وأمارة على أن القرآن من لدن حكيم عليم .
الآيات التي فيها نسخ في القرآن لا تتجاوز العشر آيات .
( وفي الكتاب ( المقدس )
ـ النسخ في الأخبار ، فعندهم ما يسمى بالبَدَاءَة ، بمعنى أن يتكلم الله بشيء ثم بعد ذلك يبدوا له أنه أخطأ في كلامه الأول فيتراجع عنه ويتكلم بكلام جديد ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ـ وعندهم أحكام متروكة لا يعملون بها ، مع عدم وجود علّة للترك .
ـ وعندهم نسخ في الأحكام كالذي عندنا.
ـ وعندهم نسخ بعد المسيح عليه السلام . فعلته أيديهم . هم الذين نسخوه .. يدعون بأن الله فوضهم .
ـ وعندهم أحكام من عند أنفسهم لا يوجد لها نص في الكتاب ( المقدس ) .
كل هذا والكذاب اللئيم زكريا بطرس يقول : النسخ لم يرد في الكتاب المقدس ، وينادي على من يدعي ذلك بأن يأتيه بمثال واحد فقط (1)
ويحسب أننا لم نقرأ الكتاب ( المقدس ) . ويحسب أننا لن نرد عليه . ويحسب أن الناس لن تقرأ لنا أو تسمع ، وقد خاب من فترى .
وهاأنذا أعرض على حضراتكم باختصار غير مخلٍ إن شاء الله قضية الناسخ والمنسوخ عندنا وعندهم مستدلا بالصحيح الصريح لتعلموا أن بطرس وأحبار النصارى يكذبون على من يسمعهم ، وأن ما عندهم ليس بتنزيل رب العالمين .
(النسخ في الأحكام
وبعيدا عن سفاهات بطرس وكذبه نقول : النسخ في الأحكام ليس مذموما بل محمودا ، فهو :
لا يقدح في علم الله سبحانه وتعالى ، بل:
يظهر حكمة الله البالغة في تشريعاته ويُظهر أثار أسمائه وصفاته من خلال نسخ الأحكام .
يُظهر فتنة الذين في قلوبهم مرض . فهو نوع من البلاء يميز الله به الخبيث من الطيب .
لا يقدح في علم الله
__________
(1) الحلقة 18 من برنامج أسئلة عن الإيمان د/16(1/175)
الله يعلم بداية أنه يشرع هذا الحكم لفترة محددة ثم بعد ذلك ينسخه بحكم آخر حين يتبدل حال الناس ، فهو لا يتعارض مع علم الله . ومثله أن ( تكلف خادمك بنوع من الأعمال ويكون في نيتك أن يكون على هذا العمل إلى سنة مثلاً ، وبعد السنة ستكلفه بعمل أخر لكن لم تظهر عزمك ونيتك على ما نويته ، فإذا مضت السنة وطلبت منه عمل أخر فهذا بحسب الظاهر عند الخادم وعند غيره تغيير ومخالفة لما طلبته من قبل وأما في الحقيقة وعندك فليس بتغيير.)(1)
وكأنْ يُهمل وَلَدُكَ في دروسه وواجباته ، فتمنعه من الخروج للنزهة ، تُكَلِمه بصيغة نهائية ، ( خلاص ما فيش لعب بعد النهارده ) وفي نيتك أنه إن التزم وأجاد في دروسه سمحت له باللعب ، وبالفعل حين يلتزم تسمح له ، فهذا نسخ للحكم الأول ، يبدوا عند الإبن أنه حكم جديد مضاد للحكم الأول ، ونوع من التراجع ، وأنت قد فعلت لحكمة علتها الإبن وليس الجهل ، فعلت لتحقيق مصلحة خاصة بالابن وليس بك ، فعلت وأنت تعلم بداية الحكم الأول والحكم الثاني )
هكذا النسخ في الأحكام . لا فيه جهل بالحكم الجديد ولا فيه تغير للقول من قديم لجديد ، وإنما هي حكمة الله العليم الحكيم أن يشرع لعباده ما يصلح به شأنهم في كل حين .
والخلل يأتي من قياس علم الله على علم البشر ، يظنون أن الله مثلهم يعلم الأشياء حال وقوعها ، وما دروا أن الصفة تتبع الموصوف فعلم الله ليس كعلم الناس ، وإن سُمِّي الكل علما ، الله يعلم الأشياء قبل وقوعها ، ويعلم أزلا أنه سيكون كذا ثم يتغير بكذا وكذا .
يظهر حكمة الله البالغة في تشريعاته ويُظهر أثار أسمائه وصفاته من خلال نسخ الأحكام .
__________
(1) هذا المثال نقلته من مقال للأستاذ ياسر جبر في أحد المنتديات .(1/176)
مثال ذلك : (1)( المصابرة عند لقاء الكافرين ، قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ] [ الأنفال : 64 ـ 66 ]
هنا أمر من الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعباده الصالحين بالصبر وعدم الانحياز ( الانسحاب ) عند لقاء الكافرين حتى ولو كان عدد الكافرين عشرة أضعاف عدد المؤمنين . وَوَعدهم بالنصر إن هم آمنوا وكانوا متبعين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ( ومن اتبعك من المؤمنين ) .
فهنا أمرٌ وبشارة. . أمرٌ بعدم الفرار ، وبشارة لهم بالنصر إن أتوا بأسبابه الظاهرة من الإيمان واتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ثم نُسخ الحكم ، وهو تحريم الفرار حين يكون عدد الكافرين عشرة أضعاف عدد المؤمنين بعد ذلك ، قال تعالى : [ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 66 ] ، وبقيت البشارة ، بمعنى أنه لو قابل مائة من المؤمنين ألفا من الكافرين ، وصبروا وهم ممن آمن واتبع ، فإن البشارة لهم بالنصر ثابتة لم تتغير ، وإن انحازوا ( انسحبوا ) فلا شيء عليهم .
أليس هذا تخفيف من الله ورحمة ؟!
أليس هذا إظهار لرحمة الله الرحيم بعباده المؤمنين ؟!
لهذا يكون النسخ في الأحكام ... لإظهار رحمة الله بعباده .
__________
(1) من بداية القوس وحتى نهايته .. بعد عدد من الصفحات ) مأخوذ من خطبة للشيخ فوزي السعيد ـ حفظه الله ـ . باختصار وتصرف يسير .(1/177)
مثال آخر : قول الله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ البقرة : 187] .(1/178)
كان الصيام من العشاء إلى مغرب اليوم التالي ، وإذا نام أحدهم قبل المغرب إلى المغرب أو بعده فليس له أن يأكل أو يشرب ، وشقَّ ذلك عليهم . وكاد أحدهم أن يهلك من الجوع والعطش ، وأتى أحدهم إمرأته بعد أن نامت ( وذلك لا يحل ) حيث قال في نفْسه إِنَّها لم تَنَمْ ولكنها تتعلل ؛ غلبته نَفْسُه وشَهْوَتُه على عقله ودينه ، مُبَرِّرةً ومُسَوَّلة ومُطَوِّعة له ذلك بأن الزوجة لم تنم ، فكأن النفس اجتهدت في إخفاء المخالفة على العقل والوازع الديني حتى يوافقها صاحبها ويفعل ما تهواه وتشتهيه ، وهذا هو اختيان النفس ، في قوله تعالى :(( عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ))[ البقرة: 187 ] ، لأن لفظ الخيانة لا يستعمل إلا في المخالفة التي تخفى على المَخُون ، والنفس هنا هي الخائنة ، وصاحبها هو المخون ، والمعني : تختانكم أنفسُكم ، وعبارة القرآن أبلغ ، وهي التي يستعملها الناس في حياتهم ، كالمريض الذي يتناول الممنوعات عليه ويجتهد في التبرير والتهوين وتنويم ضميره ، فيقول له الطبيب : أتخون نفْسَك؟! أو : أَتَغُشُّ نفسك ؟! ، أو : أتضحك على نفسِك ؟! ، وهكذا . والمراد هنا أنَّ الأمر قد شق عليهم حتى وقع بعضُهم في اختيان النفس ، لكن الصحابي الجليل ذهب بعد ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً : يا رسول الله : أعتذر إلى الله من نفسي هذه الخائنة .. وحكى ما حدث منه ، وجاء آخرون أيضًا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكروا مثل ذلك من الأكل أو الشرب أو الجماع ، وكلهم يريد الاعتذار والتوبة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ، لا اعتراضًا على شدة الحكم ، لأن حق الرب الملك الإله أن يَحكم ما يريد ، وأن تُبذل الأموال والأنفس في سبيله . فأنزل الله هذه الآية بهذه الرخصة بإحلال الأكل والشرب والجماع (الرَّفث) إلى الفجر (بدلاً من العشاء) بلا تأثير للنوم في ذلك ، فجاء هذا الحكم ناسخًا(1/179)
ورافعًا للحكم الأول ، ودليل النسخ قوله تعالي :(( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ )) فقبل الآن كان الحكم المنسوخ ، والآن جاء الحكم الناسخ المستقر إلى يوم القيامة .
والسؤال الذي يردده الخبثاء ابتغاء فتنة الجهلاء من المسلمين وغيرهم : هل كان الحكم الأول مُشَدّدًا لتجربة احتمال المسلمين واختبار طاقتهم ، فلما تَبيَّن شدة الحكم ومشقة الأمر عليهم تم نَسْخُه بالحُكْمِ الثاني المُخفَّف ؟ بمعنى : هل بَدَا للمُشرِّع من حال الناس ما كان خافيًا عليه ، ولم يكن باديًا له فاضطر إلى تعديل الأمر ليناسب أحوال الناس ؟
لا . أبدا . لا شيء من هذا إطلاقا . ذلك تخفيف من ربكم ورحمة . هو الملك سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، لا معقب لحكمه . يُشرع ثم يخفف ، ليحمده الناس ، ويعرفون آثار نعمته عليهم .
فعندما يقرأ المسلم آية الصيام في ليالي الصيام وهو يتنعم بالمآكل والمشارب ومباشرة زوجه مع علمه بما كان قبل النسخ ، يلهج لسانه بحمد الله والثناء عليه أن خفف عنه .
وإذا تعرض لظرف طارئٍ شديدٍ في يوم الصيام أو ليله فما أجدره أن يذكر هؤلاء الصادقين ويقتدي بهم ومن ثم يصبر ويستعين بالله .
يُظهر الله به فتنة الذين في قلوبهم مرض . فهو نوع من البلاء يميز الله به الخبيث من الطيب .
في نهاية كلامنا على سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقفنا وقفة تعليلية للمتشابهة من الأحكام والأخبار التي في الشريعة الإسلامية ،وقلنا أن العلة المذكورة في النصوص الشرعية هي أن الله يظهر للناس بهذه الأحكام والأخبار والأحوال من علم الله فتنتهم ، يظهر للناس الذين في قلوبهم مرض ، فلو أن كل الأمور سواسية ما علمنا الصادق من الكاذب ، ولا الشاكر من الجاحد ، ولا المؤمن من المنافق ، والنسخ في الشريعة مما يظهر الله به فتنة الذين في قلوبهم مرض . ودعني أضرب الأمثال ليتضح لك المقال :(1/180)
آية الرَّجْم نسخ لفظها وبقي حكمها ، فرجم النبيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الزاني المحصن (أي الذي سبق له زواج ، وجامع امرأته في نكاح صحيح) ، ورجم الخلفاء بعده ، وما زال حكم الرجم باقيًا إلى يومنا هذا وسيبقى إلى يوم القيامة . في الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وهو عَلَى الْمِنْبَرِ يخطب الناس قال :(( فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ! فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ))
وقد حدث في زماننا هذا ما توقعه عمر ـ رضي الله عنه ـ ووجدنا أناسًا أنكروا الرجم بحجة أنه ليس ثابتًا في القرآن الآن ( لأنه نُسِخ ) ، بل وَجْدنا من يقول بوحشية الرجم موافقًا ومجاريًا ومتأثرًا بكلام المُلْحِدين والدُّعَّار ، فلا حول ولا قوة إلا الله العلي العظيم .
ومعلوم أن الكتاب والسُّنَّة أصْلان عظيمان لا يفترقان ، ولا يُغْني أَحَدُهُما عن الآخر فإذا كان لفظ الآية قد رُفِع ، فإنَّ السُّنَّة القولية والعملية تغني وكذلك الإجماع ، فلا تأثير لرفع لفظ الآية في ثبوت الحكم والعمل به إلى يوم القيامة .والمؤمنون الصادقون لم يزدادوا بهذا النسخ إلا إيمانًا ورسوخًا على سنة نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، والمفتنون ظهرت فتنتهم ، مع وضوح الحكم وثبوته . ولهذا كان النسخ .(1/181)
أبعد هذا يقال أن النسخ أمارة على نقصان العلم ؟ وقدح في الحكمة ؟ ودليل يتخذ على رد الشريعة ؟ وتكذيب من جاء بها صلى الله عليه وسلم ؟
لا . والله . إن النسخ أمارة على علم وحكمة الله العليم الحكيم ، ودليل على أن الشريعة غراء سمحاء أخذت الناس على مهل وأرادت بهم الخير ، ودليل على صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وإن الذين يجادلون في النسخ هم الذين في قلوبهم مرض من الكافرين والمنافقين ) أ . هـ .
( النسخ في الكتاب ( المقدس )
ـ عندهم نسخ في الأخبار ، ما يسمى بالبَدَاءة ، بمعنى أن يتكلم الله بشيء ثم بعد ذلك يبدوا له أنه أخطأ في كلامه الأول فيتراجع عنه ويتكلم بكلام جديد ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ـ وعندهم أحكام متروكة لا يعملون بها ، مع عدم وجود علّة للترك .
ـ وعندهم نسخ بعد المسيح ـ عليه السلام ـ.
ـ عندهم أحكام من عند أنفسهم ليس لهم دليل عليها من كتابهم .
ـ وعندهم نسخ في الأحكام كالذي عندنا.
( البداءة :
كثيرا ما نجد في كتاب النصارى أن ( الرب ) يقر قرارا ، ثم يظهر له خطأه حين التنفيذ أو قبله أو بعده فيتراجع عن هذا القرار ، بل ويندم عليه . وسأكتفي ببعض الأمثلة القليلة ، فلسنا هنا نستقصي وإنما فقط نمثل .
( المثال الأول : جاء في سفر أخبار الأيام الأولى : أن الشيطان أغوى داود عليه السلام كي يحصي بني إسرائيل ، واستجاب داود ـ عليه السلام ـ لإغواء الشيطان ، وراح يعدهم ، فغضب الرب من هذا الفعل وكرر معاقبة داود بإحدى ثلاث ، اختار داود منها واحدة وكانت أن يرسل الله ملكا يُعمل سيفه ثلاثة أيام في أورشليم ، واسمع ماذا جرى ، يقول كاتب السفر :(1/182)
" 15 وَأَرْسَلَ اللهُ مَلاَكًا عَلَى أُورُشَلِيمَ لإِهْلاَكِهَا، وَفِيمَا هُوَ يُهْلِكُ رَأَى الرَّبُّ فَنَدِمَ عَلَى الشَّرِّ، وَقَالَ لِلْمَلاَكِ الْمُهْلِكِ: «كَفَى الآنَ، رُدَّ يَدَكَ». وَكَانَ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَِِنْدَ بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ.
16 وَرَفَعَ دَاوُدُ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ وَمَمْدُودٌ عَلَى أُورُشَلِيمَ. فَسَقَطَ دَاوُدُ وَالشُّيُوخُ عَلَى وُجُوهِهِمْ مُكْتَسِينَ بِالْمُسُوحِ.
17 وَقَالَ دَاوُدُ ِللهِ: «أَلَسْتُ أَنَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الشَّعْبِ؟ وَأَنَا هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ وَأَسَاءَ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ الْخِرَافُ فَمَاذَا عَمِلُوا؟ فَأَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي لاَ عَلَى شَعْبِكَ لِضَرْبِهِمْ».
الشيطان يغوي داود فيستجيب لإغوائه ، ويخطئ ، فيقرر الرب معاقبة الشعب كله ، ويرسل ملاكه ، وحين يرى ( الرب ) فِعل الملك في الناس ، وكأنه لم يكن يعلم ماذا سيحدث ، أو جاهل لا يستطيع تقدير الأمور جيدا ،حين رآه يضربهم ندم وتراجع عن قراره ، وداود يذكره بأنه عاقب من لم يَظلم أو يتعدى ، وأن الحق أن يعاقب داود وحده .. ( واخد بالك من الكلام ).!!
ولاحظ أنني أحكي السفر كاملا مع ذكر النص محل الاستشهاد ذلك لأن النصارى حين يواجهون بهذا الكلام لا تجد لهم حجة سوى أن هذا بتر للنص من سياقه العام ، وأنك لو رجعت وقرأت السفر كالملا ما وجدت شيئا من هذا المعنى ، وهي حجة واهية أردنا أن نقطعها هنا بحكاية قصة السفر كاملة .(1/183)
( المثال الثاني : سفرُ ( صَمُوئِيلُ ) الأول ، فيه عجيبة من العجائب ، ( الرب ) يرسل نبيه صَمُوئِيلُ ليولي ( شاول ) ملكا على شعب إسرائيل ، ويأمره بـ ((3 فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا».
ثم إن شاول قتل الشعب كلَّه النساء والأطفال والرضَّع عدا بعض المواشي ، فغضب ( الرب ) ، وندم أشدَّ الندم يقول كاتب السفر على لسان ( الرب ) : 11 «نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكًا، لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي».
وحين ذهب صَمُوئِيلُ النبي إلى شاول الملك وعرَّفه خطئه، كان الرجل ( شاول ) متأولا إذ أنه أمسك بعض المواشي فلم يقتلهم كي يذبحهم قربانا للرب ، وأعلن توبته ، وتوسل أن تقبل توبته ، ولكن ( الرب ) لم يقبل .!! وأعاد ( الرب ) الكلام مؤكدا ندمه أن جعله ملكا ، يقول كاتب السفر في نهاية سفره على لسان ( الرب ) : 35 وَالرَّبُّ نَدِمَ لأَنَّهُ مَلَّكَ شَاوُلَ عَلَى إِسْرَائِيلَ.
وكأنه لم يكن يعلم أن ( شاول ) متمردا ، والحقيقة أنه لم يتمرد ، وإنما اجتهد ، وحبس كمّا من المواشي ليذبحها ( للرب ) ، ولكن ( الرب ) كان غضوبا ضيق الصدر قاسيا جداً إذ لم يقبل توبة عبده هذا !!
أي ربّ هذا ؟
إنه ( رب ) الكتاب ( المقدس ) !!
(المثال الثالث :في سفر [ حزقيال : 20 : 13 ، 17 ]يقرر ( الربّ ) أن يهلك بني إسرائيل لأنهم تمردوا كما يقول كاتب السفر «13 فَتَمَرَّدَ عَلَيَّ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ فِي الْبَرِّيَّةِ. لَمْ يَسْلُكُوا فِي فَرَائِضِي وَرَفَضُوا أَحْكَامِي الَّتِي إِنْ عَمِلَهَا إِنْسَانٌ يَحْيَا بِهَا، وَنَجَّسُوا سُبُوتِي كَثِيرًا. فَقُلْتُ: إِنِّي أَسْكُبُ رِجْزِي عَلَيْهِمْ فِي الْبَرِّيَّةِ لإِفْنَائِهِمْ .
هذا قرار وحكم من الرب .(1/184)
ثم بعد هذا القرار يتراجع الرب ويقول : " 17 لكِنَّ عَيْنِي أَشْفَقَتْ عَلَيْهِمْ عَنْ إِهْلاَكِهِمْ، فَلَمْ أُفْنِهِمْ فِي الْبَرِّيَّةِ. "
والسبب في تراجع الرب هو أن الرب تبين له أنه إن أفناهم في البرية سوف يتنجس اسمه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ أمام الشعوب الأخرى . كما يقول كاتب السفر في الفقرة "14 لكِنْ صَنَعْتُ لأَجْلِ اسْمِي لِكَيْلاَ يَتَنَجَّسَ أَمَامَ عُيُونِ الأُمَمِ الَّذِينَ أَخْرَجْتُهُمْ أَمَامَ عُيُونِهِمْ."
( المثال الرابع : قرر الرب أن يسيء لبني إسرائيل بذنب آبائهم ثم فكر وتراجع :[زكريا 8 :14 ـ 16 ] 14 «لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: كَمَا أَنِّي فَكَّرْتُ فِي أَنْ أُسِيءَ إِلَيْكُمْ حِينَ أَغْضَبَنِي آبَاؤُكُمْ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، وَلَمْ أَنْدَمْ.
15 هكَذَا عُدْتُ وَفَكَّرْتُ فِي هذِهِ الأَيَّامِ فِي أَنْ أُحْسِنَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَبَيْتَِ يَهُوذَا. لاَ تَخَافُوا.
لاحظ الرب يفكر ، ثم يفكر ... لا بد أنه يجهل . أليس كذلك ؟
( المثال الخامس : في سفر [ إرميا : 33 : 17 ] نجد أن الله يتعهد لداود بدوام الملك في ذريته إذ يقول كاتب السفر : " 17 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لاَ يَنْقَطِعُ لِدَاوُدَ إِنْسَانٌ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ"
ثم بعدها بقريب يذكر كاتب السفر أن الله ينقض عهده مع داود ، يقول كاتب السفر :
21 فَإِنَّ عَهْدِي أَيْضًا مَعَ دَاوُدَ عَبْدِي يُنْقَضُ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ ابْنٌ مَالِكًا عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَمَعَ اللاَّوِيِّينَ الْكَهَنَةِ .(1/185)
( المثال السادس : في سفر [ العدد : 36 :2ـ 7 ] يتكلم كاتب السفر عن أن الله قضى بالميراث للإناث حين يعدم الذكر ، فشكى باقي السبط ( وهم هنا سبط يوسف .أخوات صلفحاد ) أن بهذا الحكم ستتحول الأموال من سبطٍ إلى سبط آخر ، فتنبه الربّ لهذا الخطأ ، وغير قوله . وحرم الميراث على الأنثى إذا تزوجت خارج السبط كي لا يذهب مالُ سبطٍ إلى سبطٍ آخر .
( المثال السابع : ما سبق يناقض و يتنافى مع : سفر العدد ( 23 : 19 ) " 19 لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي؟ "
فلا أدري أيهم يكذب ؟!
من قال بأن ( الرب ) جاهل لا يعرف مآلات الأمور ومن ثم يندم ، وحكى قصصا من ندمه ، أم هذا الأخير الذي ينفي عن ( الرب ) الندم والكذب ؟!
هو الكذب ، وهو التخبط ، يرد بعضه بعضا .
( ثانيا : الأحكام المتروكة مع عدم وجود علّة للترك .
عندهم حدود تجاهلوها بلا سبب ، حصل التجاهل بلا سبب ظاهر . وأعدد قليلا من تلك الحدود التي أهملت عندهم .
( المثال الأول : حد السارق .
في الكتاب ( المقدس ) حدُّ السارق هو القتل . ورد ذلك في أكثر من مكان . منها :
[ الخروج : 22 : 2 ] يقول كاتب السفر : " إِنْ وُجِدَ السَّارِقُ وَهُوَ يَنْقُبُ، فَضُرِبَ وَمَاتَ، فَلَيْسَ لَهُ دَمٌ ".
و[ التثنية :24 : 7 ] يقول كاتب السفر : «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ قَدْ سَرَقَ نَفْسًا مِنْ إِخْوَتِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتَرَقَّهُ وَبَاعَهُ، يَمُوتُ ذلِكَ السَّارِقُ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ."
و[ زكريا : 5 : 3 ] [ فَتَدْخُلُ بَيْتَ السَّارِقِ وَبَيْتَ الْحَالِفِ بِاسْمِي زُورًا، وَتَبِيتُ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَتُفْنِيهِ مَعَ خَشَبِهِ وَحِجَارَتِهِ ]
هذا حد السارق عندهم .. القتل .. ويعترضون على قطع اليد عندنا ، والمراد هنا أن هذا حدُّ متروك ، ولماذا هو متروك ؟(1/186)
لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله . أحلوا لهم الحرام فأحلوه ،وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه .
( المثال الثاني : عقوبة عقوق الوالدين عند النصارى .
في سفر [ التثنية : 21 : 18 ـ 21 ] يقول كاتب السفر :
«إِذَا كَانَ لِرَجُل ابْنٌ مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لاَ يَسْمَعُ لِقَوْلِ أَبِيهِ وَلاَ لِقَوْلِ أُمِّهِ، وَيُؤَدِّبَانِهِ فَلاَ يَسْمَعُ لَهُمَا.
19 يُمْسِكُهُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَيَأْتِيَانِ بِهِ إِلَى شُيُوخِ مَدِينَتِهِ وَإِلَى بَابِ مَكَانِهِ،
20 وَيَقُولاَنِ لِشُيُوخِ مَدِينَتِهِ: ابْنُنَا هذَا مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لاَ يَسْمَعُ لِقَوْلِنَا، وَهُوَ مُسْرِفٌ وَسِكِّيرٌ.
21 فَيَرْجُمُهُ جَمِيعُ رِجَالِ مَدِينَتِهِ بِحِجَارَةٍ حَتَّى يَمُوتَ. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ بَيْنِكُمْ، وَيَسْمَعُ كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَيَخَافُونَ.
لماذا لا يطبقون هذا الحد الآن ؟
لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله . أحلوا لهم الحرام فأحلوه ،وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه .
( المثال الثالث :حد الزاني .
في سفر [ اللاويين : 21 : 9 ] يقول كاتب السفر : " 9 وَإِذَا تَدَنَّسَتِ ابْنَةُ كَاهِنٍ بِالزِّنَى فَقَدْ دَنَّسَتْ أَبَاهَا . بِالنَّارِ تُحْرَقُ."
وفي سفر [ التكوين : 38 ] يحكي كاتب السفر في هذا الإصحاح أن ( يهوذا ) زنى بامرأة لقاء "جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الْغَنَمِ " كما يقول كاتب السفر . وحملت منه ، وفي شهرها الثالث علم جيرانها أنها زانية ، ولم يعلموا أن الذي زنى بها هو يهوذا ، فذهبوا إليه وأخبروه بخبرها فأمر بإحراقها كما يقول كاتب السفر :
24 وَلَمَّا كَانَ نَحْوُ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، أُخْبِرَ يَهُوذَا وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ زَنَتْ ثَامَارُ كَنَّتُكَ، وَهَا هِيَ حُبْلَى أَيْضًا مِنَ الزِّنَا». فَقَالَ يَهُوذَا: «أَخْرِجُوهَا فَتُحْرَقَ».
والسؤال : لماذا تركوا هذا الحد الآن ؟ لم لم يطبقوه ؟(1/187)
لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله . أحلوا لهم الحرام فأحلوه ،وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه .
( المثال الرابع : حد اللعان(1) ( شريعة الغيرة )
1 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً:
12 «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِذَا زَاغَتِ امْرَأَةُ رَجُل وَخَانَتْهُ خِيَانَةً،
13 وَاضْطَجَعَ مَعَهَا رَجُلٌ اضْطِجَاعَ زَرْعٍ، وَأُخْفِيَ ذلِكَ عَنْ عَيْنَيْ رَجُلِهَا، وَاسْتَتَرَتْ وَهِيَ نَجِسَةٌ وَلَيْسَ شَاهِدٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ لَمْ تُؤْخَذْ،
14 فَاعْتَرَاهُ رُوحُ الْغَيْرَةِ وَغَارَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ نَجِسَةٌ، أَوِ اعْتَرَاهُ رُوحُ الْغَيْرَةِ وَغَارَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ لَيْسَتْ نَجِسَةً،
15 يَأْتِي الرَّجُلُ بَامْرَأَتِهِ إِلَى الْكَاهِنِ، وَيَأْتِي بِقُرْبَانِهَا مَعَهَا: عُشْرِ الإِيفَةِ مِنْ طَحِينِ شَعِيرٍ، لاَ يَصُبُّ عَلَيْهِ زَيْتًا وَلاَ يَجْعَلُ عَلَيْهِ لُبَانًا، لأَنَّهُ تَقْدِمَةُ غَيْرَةٍ، تَقْدِمَةُ تَذْكَارٍ تُذَكِّرُ ذَنْبًا.
16 فَيُقَدِّمُهَا الْكَاهِنُ وَيُوقِفُهَا أَمَامَ الرَّبِّ،
17 وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ مَاءً مُقَدَّسًا فِي إِنَاءِ خَزَفٍ، وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ مِنَ الْغُبَارِ الَّذِي فِي أَرْضِ الْمَسْكَنِ وَيَجْعَلُ فِي الْمَاءِ،
18 وَيُوقِفُ الْكَاهِنُ الْمَرْأَةَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَيَكْشِفُ رَأْسَ الْمَرْأَةِ، وَيَجْعَلُ فِي يَدَيْهَا تَقْدِمَةَ التَّذْكَارِ الَّتِي هِيَ تَقْدِمَةُ الْغَيْرَةِ، وَفِي يَدِ الْكَاهِنِ يَكُونُ مَاءُ اللَّعْنَةِ الْمُرُّ.
__________
(1) اللعان نعرفه في شريعتنا ، وهو أن يرمي الرجل زوجته برجل آخر .(1/188)
19 وَيَسْتَحْلِفُ الْكَاهِنُ الْمَرْأَةَ وَيَقُولُ لَهَا: إِنْ كَانَ لَمْ يَضْطَجعْ مَعَكِ رَجُلٌ، وَإِنْ كُنْتِ لَمْ تَزِيغِي إِلَى نَجَاسَةٍ مِنْ تَحْتِ رَجُلِكِ، فَكُونِي بَرِيئَةً مِنْ مَاءِ اللَّعْنَةِ هذَا الْمُرِّ.
20 وَلكِنْ إِنْ كُنْتِ قَدْ زُغْتِ مِنْ تَحْتِ رَجُلِكِ وَتَنَجَّسْتِ، وَجَعَلَ مَعَكِ رَجُلٌ غَيْرُ رَجُلِكِ مَضْجَعَهُ.
21 يَسْتَحْلِفُ الْكَاهِنُ الْمَرْأَةَ بِحَلْفِ اللَّعْنَةِ، وَيَقُولُ الْكَاهِنُ لِلْمَرْأَةِ: يَجْعَلُكِ الرَّبُّ لَعْنَةً وَحَلْفًا بَيْنَ شَعْبِكِ، بِأَنْ يَجْعَلَ الرَّبُّ فَخْذَكِ سَاقِطَةً وَبَطْنَكِ وَارِمًا.
22 وَيَدْخُلُ مَاءُ اللَّعْنَةِ هذَا فِي أَحْشَائِكِ لِوَرَمِ الْبَطْنِ، وَلإِسْقَاطِ الْفَخْذِ. فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: آمِينَ، آمِينَ.
23 وَيَكْتُبُ الْكَاهِنُ هذِهِ اللَّعْنَاتِ فِي الْكِتَابِ ثُمَّ يَمْحُوهَا فِي الْمَاءِ الْمُرِّ،
24 وَيَسْقِي الْمَرْأَةَ مَاءَ اللَّعْنَةِ الْمُرَّ، فَيَدْخُلُ فِيهَا مَاءُ اللَّعْنَةِ لِلْمَرَارَةِ.
25 وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ مِنْ يَدِ الْمَرْأَةِ تَقْدِمَةَ الْغَيْرَةِ، وَيُرَدِّدُ التَّقْدِمَةَ أَمَامَ الرَّبِّ وَيُقَدِّمُهَا إِلَى الْمَذْبَحِ.
26 وَيَقْبِضُ الْكَاهِنُ مِنَ التَّقْدِمَةِ تَذْكَارَهَا وَيُوقِدُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَسْقِي الْمَرْأَةَ الْمَاءَ.
27 وَمَتَى سَقَاهَا الْمَاءَ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنَجَّسَتْ وَخَانَتْ رَجُلَهَا، يَدْخُلُ فِيهَا مَاءُ اللَّعْنَةِ لِلْمَرَارَةِ، فَيَرِمُ بَطْنُهَا وَتَسْقُطُ فَخْذُهَا، فَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ لَعْنَةً فِي وَسَطِ شَعْبِهَا.
28 وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ قَدْ تَنَجَّسَتْ بَلْ كَانَتْ طَاهِرَةً، تَتَبَرَّأُ وَتَحْبَلُ بِزَرْعٍ.(1/189)
29 «هذِهِ شَرِيعَةُ الْغَيْرَةِ، إِذَا زَاغَتِ امْرَأَةٌ مِنْ تَحْتِ رَجُلِهَا وَتَنَجَّسَتْ،
هل يطبق هذا الآن ؟ أو هل تسمع به ؟
هل يوجد نص يبطل هذا النص ؟
لا يوجد ، أو أنهم أدركوا أن هذا نوع من الخرافات فتركوه ، دون أن يتكلموا .
( المثال الخامس : حد القتل .
16 «إِنْ ضَرَبَهُ بِأَدَاةِ حَدِيدٍ فَمَاتَ، فَهُوَ قَاتِلٌ. إِنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ.
17 وَإِنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرِ يَدٍ مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ فَمَاتَ، فَهُوَ قَاتِلٌ. إِنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ.
18 أَوْ ضَرَبَهُ بِأَدَاةِ يَدٍ مِنْ خَشَبٍ مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ، فَهُوَ قَاتِلٌ. إِنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ.
19 وَلِيُّ الدَّمِ يَقْتُلُ الْقَاتِلَ. حِينَ يُصَادِفُهُ يَقْتُلُهُ.
20 وَإِنْ دَفَعَهُ بِبُغْضَةٍ أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ شَيْئًا بِتَعَمُّدٍ فَمَاتَ،
21 أَوْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ بِعَدَاوَةٍ فَمَاتَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الضَّارِبُ لأَنَّهُ قَاتِلٌ. وَلِيُّ الدَّمِ يَقْتُلُ الْقَاتِلَ حِينَ يُصَادِفُهُ.
وفي ذات السياق بعد هذا بقليل :
29 «فَتَكُونُ هذِهِ لَكُمْ فَرِيضَةَ حُكْمٍ إِلَى أَجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ.
لاحظ يقول : فريضة أبدية ، وهم الآن لا يقتلون القاتل . أين النص الذي يبطل هذه الشريعة ؟
لم تركوه ؟
لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله . أحلوا لهم الحرام فأحلوه ،وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه .
( المثال السادس : الثور النطاح .
في سفر [ الخروج : 21 : 28 ] هذا الكلام ، يقول كاتب السفر :
28 «وَإِذَا نَطَحَ ثَوْرٌ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً فَمَاتَ، يُرْجَمُ الثَّوْرُ وَلاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَأَمَّا صَاحِبُ الثَّوْرِ فَيَكُونُ بَرِيئًا.(1/190)
29 وَلكِنْ إِنْ كَانَ ثَوْرًا نَطَّاحًا مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ أُشْهِدَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَضْبِطْهُ، فَقَتَلَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، فَالثَّوْرُ يُرْجَمُ وَصَاحِبُهُ أَيْضًا يُقْتَلُ.
لا أجد ما أعلق به ، غير أن أقول أنه كلام فارغ ، سكتوا عنه وكتموه ، ربما حياءً وخزيا ، مع أنه ( مقدس ) !!
( المثال السابع : تطبيق الشريعة
أوصى العهد القديم بتطبيق الشريعة ،[ الأمثال : 28 : 4 ] " 4 تَارِكُو الشَّرِيعَةِ يَمْدَحُونَ الأَشْرَارَ، وَحَافِظُو الشَّرِيعَةِ يُخَاصِمُونَهُمْ.
في سفر [ التثنية : 29 :29 ] ، وبعد سرد عدد من الشرائع يقول كاتب السفر : 29 السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، وَالْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى الأَبَدِ، لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ.
وهي آخر فقرة في السفر ، وهذا يعني أنه تأكيد على ما مضى من شرائع ، ومعناها عندنا لنا الظاهر والله يتولى السرائر .
وفي سفر [ الملوك الثاني : 17 : 37 ] " وَاحْفَظُوا الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ وَالشَّرِيعَةَ وَالْوَصِيَّةَ الَّتِي كَتَبَهَا لَكُمْ لِتَعْمَلُوا بِهَا كُلَّ الأَيَّامِ، وَلاَ تَتَّقُوا آلِهَةً أُخْرَى."
[ التثنية : 17 :18 ـ 20 ] 18 وَعِنْدَمَا يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ نُسْخَةً مِنْ هذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ الْكَهَنَةِ اللاَّوِيِّينَ.
وفي نهاية الإصحاح يختم قائلا :(1/191)
" 19 فَتَكُونُ مَعَهُ، وَيَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، لِكَيْ يَتَعَلَّمَ أَنْ يَتَّقِيَ الرَّبَّ إِلهَهُ وَيَحْفَظَ جَمِيعَ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ وَهذِهِ الْفَرَائِضَ لِيَعْمَلَ بِهَا."فَتَكُونُ مَعَهُ، وَيَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، لِكَيْ يَتَعَلَّمَ أَنْ يَتَّقِيَ الرَّبَّ إِلهَهُ وَيَحْفَظَ جَمِيعَ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ وَهذِهِ الْفَرَائِضَ لِيَعْمَلَ بِهَا،
20 لِئَلاَّ يَرْتَفِعَ قَلْبُهُ عَلَى إِخْوَتِهِ، وَلِئَلاَّ يَحِيدَ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَمِينًا أَوْ شِمَالاً. لِكَيْ يُطِيلَ الأَيَّامَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ هُوَ وَبَنُوهُ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ.
يأمر من يتولى الملك بتطبيق الشريعة ، ويجعل ذلك سببا في الحفاظ على الملك .
وفي [ الأمثال : 28 ] :نجد هذه الكلمات التي تحض على حفظ الشريعة وتبين مكانة حافظها :
7 اَلْحَافِظُ الشَّرِيعَةَ هُوَ ابْنٌ فَهِيمٌ، وَصَاحِبُ الْمُسْرِفِينَ يُخْجِلُ أَبَاهُ.
9مَنْ يُحَوِّلُ أُذْنَهُ عَنْ سَمَاعِ الشَّرِيعَةِ، فَصَلاَتُهُ أَيْضًا مَكْرَهَةٌ.
وفي [ الأمثال : 29 : 18 ] : 18 أَمَّا حَافِظُ الشَّرِيعَةِ فَطُوبَاهُ.
وفي [ إشعيا : 8 : 20 ] 0 إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ. إِنْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هذَا الْقَوْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ فَجْرٌ!
وفي [ إشعيا : 24 : 5 ] وَالأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا الشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا الْفَرِيضَةَ، نَكَثُوا الْعَهْدَ الأَبَدِيَّ.
وفي [ زكريا 7 : 12 ] 12 بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاسًا لِئَلاَّ يَسْمَعُوا الشَّرِيعَةَ وَالْكَلاَمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ الْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ.(1/192)
وفي [ صفنيا : 3 : 4 ] أَنْبِيَاؤُهَا مُتَفَاخِرُونَ أَهْلُ غُدْرَاتٍ. كَهَنَتُهَا نَجَّسُوا الْقُدْسَ، خَالَفُوا الشَّرِيعَةَ.
وفي [ ملاخي 2 : 9 ] 9 فَأَنَا أَيْضًا صَيَّرْتُكُمْ مُحْتَقَرِينَ وَدَنِيئِينَ عِنْدَ كُلِّ الشَّعْبِ، كَمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَحْفَظُوا طُرُقِي بَلْ حَابَيْتُمْ فِي الشَّرِيعَةِ».
أسأل لِمَ لمْ يحفظو الشريعة ؟
أين النص الناسخ لهذا النص ؟!
ولا نقبل الإجابة بأن هذا في العهد القديم ، فالمسيح يقول في موعظته الشهيرة على الجبل : 17 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ.
18 فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.
19 فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.
20 فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. [ متى : 5 : 17ـ 20 ]
( ثالثا : نسخ تعاليم المسيح عليه السلام !!
(المثال الأول : تحريم الختان
أمر الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالختان ، هو وذريته ، أمراً أبدياً ، كما يقول كاتب سفر التكوين [ 17 : 13] : " يختتن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضّتك فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً".
وبقي هذا الأمر كما هو حتى رفع الله المسيح ـ عليه السلام ـ ثم جاء بولس ونسخ حكم الله الأبدي بالاختتان .. حَرَّمَ عليهم الختان ، في رسالته إلى غلاطية [ 5 : 2،6 ]:(1/193)
2هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ خُتِنْتُمْ، لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئاً. ....
6فَفِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ ، لاَ نَفْعَ لِلْخِتَانِ وَلاَ لِعَدَمِ الْخِتَانِ ، بَلْ لِلإِيمَانِ الْعَامِلِ بِالْمَحَبَّةِ."
( تدرج بولس في تحريم الختان :
أحد العقلاء من العلماء ـ هو الشيخ رفاعي سرور حفظه الله ـ تتبع كلام بولس في الختان محللا ومعلقا ، فخرج بنتيجة مفادها أن العقلية اليهودية تؤمن بأن الذين يرثون الأرض من بعد أهلها هم الذين يختتنون ، لذا تسللوا للنصرانية وما زالوا بها حتى حرموا فيها الختان ، وها هم اليوم يحاولون مع الأمة الإسلامية كي لا تختتن وبالتالي يتخلف عنها وعد الله بالتمكين في الأرض ، هذا هو الطريق العام الذي سار فيه ( بولس ) بالأمس وهو يحرّف في النصرانية ويحرم فيها حكم الله الأبدي بالختان ، وهو ذات الطريق الذي يسير فيه الثائرون على الختان من المُعَمَمِين الغافلين ، والمغرضين الشهوانيين الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، ولاحَظَ الشيخ رفاعي سرور ـ حفظه الله ـ أن بولس تدرج في تحريم الختان ، ولم يحرمه مرة واحدة . ودعني استرسل هنا قليلا ، وأعرض عليك ـ بتصرف بسيط ـ ملاحظات هذا الذكي التقي ـ أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً من خلقه ـ فأنا أحتاج إليها في بحثي هذا فليس ثم خروج عن الموضوع : يقول الشيخ رفاعي سرور ـ حفظه الله ـ :
1ـ في البداية فسر بولس الختان بأنه العهد الذي أعطاه الله لإبراهيم :
ففي رسالته لرومية الإصحاح الرابع ما نصه :
11وَأَخَذَ عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْمًا لِبِرِّ الإِيمَانِ الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ، لِيَكُونَ أَبًا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ، كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضًا الْبِرُّ.(1/194)
12وَأَبًا لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْخِتَانِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي الْغُرْلَةِ.
2ـ ثم غيّر هذا التفسير فقال :
13فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ.
14لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ
3 ـ ثم راح بولس يبرر ختان إبراهيم و المسيح ـ عليهما السلام ـ فقال :
1فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟
2لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِالأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ، وَلكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ) [رومية : 4 : 1 ـ 2 ]
ويفسر ختان المسيح نفسه فيقول في رسالته إلى أهل رومية [ رومية: 8 : 15 ]
15 وَأَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ.
4 ـ ثم كانت الخطوة التي بدأها بولس بعد ذلك للقضاء على الختان هي التسوية بين الختان والغرلة ، يحاول ذلك مستغلا تأخر إبراهيم في الختان ومدعيا أنه كان بارا بغير الختان كما كان بارا بالختان ، يقول في رسالته لأهل رومية الإصحاح الرابع : العدد 9 ، 10 .
9أَفَهذَا التَّطْوِيبُ هُوَ عَلَى الْخِتَانِ فَقَطْ أَمْ عَلَى الْغُرْلَةِ أَيْضًا؟ لأَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الإِيمَانُ بِرًّا
10 فَكَيْفَ حُسِبَ؟ أَوَ هُوَ فِي الْخِتَانِ أَمْ فِي الْغُرْلَةِ ؟ لَيْسَ فِي الْخِتَانِ، بَلْ فِي الْغُرْلَةِ!(1/195)
ـ ثم يغلب حفظ وصايا الناموس على الختان في رسالته إلى كروننيوس الإصحاح السابع ما نصه: 19 : (( لَيْسَ الْخِتَانُ شَيْئًا، وَلَيْسَتِ الْغُرْلَةُ شَيْئًا، بَلْ حِفْظُ وَصَايَا اللهِ ))
ـ ويقول في رسالته إلى أهل رومية الإصحاح الثاني العدد 25 ، وما بعده ما نصه (
25فَإِنَّ الْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِالنَّامُوسِ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ، فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً! 26إِذًا إِنْ كَانَ الأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ النَّامُوسِ، أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَانًا؟
27وَتَكُونُ الْغُرْلَةُ الَّتِي مِنَ الطَّبِيعَةِ، وَهِيَ تُكَمِّلُ النَّامُوسَ، تَدِينُكَ أَنْتَ الَّذِي فِي الْكِتَابِ وَالْخِتَانِ تَتَعَدَّى النَّامُوسَ؟
28لأَنَّ الْيَهُودِيَّ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيًّا، وَلاَ الْخِتَانُ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ فِي اللَّحْمِ خِتَانًا،
29بَلِ الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ، الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ)
6 ـ ثم في مرحلة متطورة إعتبر الختان مجرد صورة جسدية :
[رومية : 28 ـ 29 ] :
28لأَنَّ الْيَهُودِيَّ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيًّا، وَلاَ الْخِتَانُ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ فِي اللَّحْمِ خِتَانًا
29بَلِ الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ، الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ)
ويقول في رسالته إلى أهل أغلاطية [ أغلاطية :6 :12ــ 15 ] :
12 جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ، هؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ.(1/196)
13لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ.
14وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ.
15 لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ.)
7 ـ ثم في مرحلة أخرى تكلم بولس عن ( الختان القلبي)
( يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ! أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ! ) [ أعمال الرسل :52 :7]
8 ـ ثم كان الهجوم على بطرس وبرنابا من أجل الختان الجسدي يقول في رسالته إلى أهل أغلاطية الإصحاح الثاني العدد الثامن وما بعده يقول :
8فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضًا لِلأُمَمِ.
9 فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ، وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ.
10غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ.
11وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا.
12لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ.(1/197)
13 وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!
14 لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ:«إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟»
15نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً، ))
9 ـ ثم كانت الخطوة الأخيرة وهي الهجوم على الختان الجسدي وتحريمه.يقول :
في رسالته إلى أهل أغلاطية الإصحاح الخامس العدد 2 (2 هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا! ) انتهى كلام الشيخ حفظه الله(1) .
( لماذا هذا الاسترسال .. لماذا ذكر تدرج بولس هذا في تحريم الختان ؟
أمر الختان عظيم ، فهو حكم أبدي صريح في العهد القديم ، وقد اختتم الأنبياء كلهم ومنهم المسيح ـ عليه السلام ـ وتحريمه يمثل نقلة قوية للمخاطبين من معتنقي النصرانية ، لن يقبلوها بسهولة ، وربما ثاروا على من تكلم بها ، ولذا كان لابد من التدرج ، حتى يقبل الناس الأمر . وهنا يمكن القول أن كلام بولس المتأخر ناسخ لكلامه المتقدم . أليس كذلك ؟
هو كذلك .
هذه واحدة .
والثانية : أن التدرج في التشريع موجود عندهم .. يعرفوه .. ولا أدري لماذا يعترضون عليه عندنا ؟!
__________
(1) وهذا هو رابط المقال كاملا لمن أراد المزيد ، وهو في صفحة الشيخ الخاصة في صيد الفوائد ، وفي صفحته الخاصة في طريق الإسلام تحت عنوان ( الحرب على الختان ) . http://www.islamway.com/?iw_s=Article&iw_a=view&article_id=2305(1/198)
بولس وهو يغير الشريعة ، راع حال الناس ، فتدرج معهم ، وهدفه النهائي ( تحريم الختان ) كان معلوما عند نفسه من البداية ، ومثل هذا في الشريعة عندنا ، كثير من التشريعات جاءت بالتدريج ، مراعاة لحال الناس ، وليس جهلا من المشرِّع سبحانه وعز وجل .
فلا أدري لم قبلوا تدرج بولس في باطله ، وكرهوا تدرج الشريعة عندنا ؟!
المثال الثاني : إباحة الخمر
الخمر : اللاويين [ 10 :9 ]
9 «خَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكَيْ لاَ تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا فِي أَجْيَالِكُمْ
وبولس يقول في رسالته الأولى إلى تيموثوس [ 5 : 23]
23 لاَ تَكُنْ فِي مَا بَعْدُ شَرَّابَ مَاءٍ، بَلِ اسْتَعْمِلْ خَمْرًا قَلِيلاً مِنْ أَجْلِ مَعِدَتِكَ وَأَسْقَامِكَ الْكَثِيرَةِ.
إباحة أكل الخنزير
بولس هو الذي أباح لحم الخنزير ، وقبله لم يكن لحم الخنزير مباحا . فنصوص الكتاب ( المقدس ) بالعهد القديم تنص بوضوح على تحريم أكل لحم الخنزير يقول كاتب سفر اللاويين [11 : 7 – 8] : " والخنزير . لأنه يشق ظلفاً ويقسمه ظلفين لكنه لا يجتر . فهو نجس لكم . من لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا . إنها نجسة لكم ").
ثم جاء بولس ورفع نجاسة الخنزير ومن ثم أبيح أكله ، يقول في رسالته إلى تيطس [ 1 : 15] " عِنْدَ الطَّاهِرِينَ، كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ. أَمَّا عِنْدَ النَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ طَاهِرٍ، بَلْ إِنَّ عُقُولَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ أَيْضاً قَدْ صَارَتْ نَجِسَةً . "
وفي رسالته الأولى إلى أهل كرونثوس [ 6 : 12 ]، و [ 10 : 23 ] نجد هذه الجملة : «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»،
وفي رسالته إلى أهل كولوسي [ 2 :16 ] 16 فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ"(1/199)
فهذا بولس يحل ويحرم من عند نفسه . وينسخ الأحكام برأيه .
قد يقول قائل أن بولس لا يتكلم من عند نفسه كما تدعي عليه ، وإنما من عند المسيح ، فهو عالم من المسيح كما يصرح في النصَّ أعلاه .
أقول هذا هو ، بولس رفع المسيح إله ونصبَّ نفسه رسولا إليكم ، فهو رسولكم الحقيقي ، وما أنتم عليه هو دين بولس لا دين المسيح عليه السلام ، وقد دخل مع بولس رسل أخرى جاءوا بعد ذلك ، أحلوا وحرموا باسم ( الرب ) . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
(أحكام من عند أنفسهم لا دليل عليها :
ـ ميراث المرأة ليس له وجود في الكتاب المقدس. اللهم التي مرت بنا ونحن نتكلم عن بنات صلفاد ، وليست هي التي يعملون بها اليوم .
ـ والمسيحة اليوم لا تعترف بالتعدد ، وهذه من رأسها ، لا نعرف لها أصلا في الكلام المنسوب للمسيح ـ عليه السلام ـ أو حتى في العهد القديم .
ـ والصيام الذي يصوموه أين دليلهم عليه من الكتاب ( المقدس ) ؟ لا يوجد .
ـ تحريم الزواج على الرهبان .
ـ التثليث ، تحديداً ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ ، والروح القدس ، ظهر أول ما ظهر على يد ترتليان ، في القرن الثالث الهجري ، وأصبح عقيدة رسمية في عام 381 م ، وليس له ذكر حتى في قرارات مجمع نيقية 325 م .
(النسخ في الأحكام
النسخ في الأحكام موجود عند أهل الكتاب في العهد القديم والعهد الجديد ، وهذه بعض الأمثلة.
المثال الأول : إباحة زواج الأخت في أبناء آدم الأُول ثم تحريمه بعد ذلك .
وهو موجود عندنا كما هو موجود عند النصارى أيضا ، ولم يحرم زواج الأخ من الأخت عندهم إلا في عهد موسى عليه السلام ـ بزعمهم ـ فقد تزوج إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أخته سارة ـ ، كما في سفر [ التكوين 20 : 12] يقول كاتب السفر على لسان موسى عليه السلام : " وَهِيَ بِالْحَقِيقَةِ أُخْتِي، ابْنَةُ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ابْنَةَ أُمِّي فَاتَّخَذْتُهَا زَوْجَةً لِي ) .(1/200)
وتم تحريم نكاح الأخت في شريعة موسى عليه السلام فجاء في ( اللاويين 18 : 9 " لاَ تَتَزَوَّجْ أُخْتَكَ بِنْتَ أَبِيكَ، أَوْ بِنْتَ أُمِّكَ، سَوَاءٌ وُلِدَتْ فِي الْبَيْتِ أَمْ بَعِيداً عَنْه)
وجاء في نفس السفر في مكان آخر [ 20 : 17 ] يقول كاتب السفر : " إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ أُخْتَهُ، ابْنَةَ أَبِيهِ أَوِ ابْنَةَ أُمِّهِ، فَذَلِكَ عَارٌ، وَيَجِبُ أَنْ يُسْتَأْصَلاَ عَلَى مَشْهَدٍ مِنْ أَبْنَاءِ شَعْبِهِ،)
المثال الثاني : الجمع بين الأختين كان مباحا عندهم ، وقد تزوج يعقوب عليه السلام ـ وهو إسرائيل ـ من أختين ، جاء ذلك في سفر التكوين [29 : 15- 35] وحرّم بعد ذلك ، كما في سفر اللاويين[ 18 :18 ] ، يقول كاتب السفر : " لاَ تَتَزَوَّجِ امْرَأَةً عَلَى أُخْتِهَا لِتَكُونَ ضَرَّةً مَعَهَا فِي أَثْنَاءِ حَيَاةِ زَوْجَتِكَ.").
المثال الثالث : أباح الله الطلاق في شريعة موسى ـ عليه السلام ـ ، وأباح للمطلقة أن تتزوج . في سفر [ التثنية 24 : 1-3 ] يقول كاتب السفر : " إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْ فَتَاةٍ وَلَمْ تَرُقْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لأَنَّهُ اكْتَشَفَ فِيهَا عَيْباً مَا، وَأَعْطَاهَا كِتَابَ طَلاقٍ وَصَرَفَهَا مِنْ بَيْتِهِ، 2فَتَزَوَّجَتْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ طَلِيقَةً، 3ثُمَّ كَرِهَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَسَلَّمَهَا كِتَابَ طَلاقٍ وَصَرَفَهَا مِنْ بَيْتِهِ"
وقد نسخ السيد المسيح ـ بزعمهم ـ الطلاق إلا بعلّة الزنا ، وأعلن أن من يتزوج مطلقة فقد زنى !! ، هذا وهم يقولون أن المسيح ـ عليه السلام ـ جاء متمم للعهد القديم ، ولم يأت ناقض له .
والشاهد أن هذه حالة من النسخ لشرائع وأحكام العهد القديم .(1/201)
في [ متى 5 : 31ـ 32 ] يقول الكاتب : " وَقِيلَ أَيْضاً: مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، فَلْيُعْطِهَا وَثِيقَةَ طَلاَقٍ. 32أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لِغَيْرِ عِلَّةِ الزِّنَى، فَهُوَ يَجْعَلُهَا تَرْتَكِبُ الزِّنَى. وَمَنْ تَزَوَّجَ بِمُطَلَّقَةٍ، فَهُوَ يَرْتَكِبُ الزِّنَى."
وفي [ متى : 19] يقول الكاتب : " 7فَسَأَلُوهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى بِأَنْ تُعْطَى الزَّوْجَةُ وَثِيقَةَ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟» ,8 أَجَابَ: «بِسَبَبِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ، سَمَحَ لَكُمْ مُوسَى بِتَطْلِيقِ زَوْجَاتِكُمْ. وَلَكِنَّ الأَمْرَ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا مُنْذُ الْبَدْءِ. 9وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ لِغَيْرِ عِلَّةِ الزِّنَى، وَيَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُ الزِّنَى. وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ، يَرْتَكِبُ الزِّنَى». )
ومن النص السابق يتضح أن الطلاق لم يكن موجودا"في البداية , ثم تم إقراره أيام موسى عليه السلام , ثم تم إلغاؤه بأقوال السيد المسيح !!. نسخ على نسخ .
المثال الرابع : لم يدعُ المسيح ـ عليه السلام ـ إلا اليهود فقط ، وكان يقول « لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» ([ متى 15 : 24] ، وأمر المسيح ـ عليه السلام ـ من أرسلهم من الحواريين أن لا يدعوا إلا بني إسرائيل فقال :
" هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6 بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة " [متى 10 : 5 ـ 6 ]
والذين جاءوا من بعده نسبوا إليه القول بأن النصرانية ديانة لجميع الأمم ،وذلك قولهم على لسان متى [ 28 : 19 ] " فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأمم "(1/202)
وما يعنينا هنا هو أن الأحكام تنسخ .. تتغير . وهذا واحد منها .
المثال الخامس : عقوبة من تمسه الشياطين
[ اللاويين : 20 : 27 ] : «وَإِذَا كَانَ فِي رَجُل أَوِ امْرَأَةٍ جَانٌّ أَوْ تَابِعَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. بِالْحِجَارَةِ يَرْجُمُونَهُ. دَمُهُ عَلَيْهِ»."
ما ذنبه ؟ لا أدري ، ولا إخالهم يدرون .
ونجد في العهد الجديد أن يسوع ( المسيح ) نسخ هذا الحكم وكان يخرج الشياطين .
المثال السادس رجم الزاني : في العهد القديم ( شريعة موسى ) أن العهد الزاني المحصن يرجم ، وهم يقولون أن المسيح جاءوا له بامرأة وقالوا له إنها زانية فعفى عنها ولم يقم عليها حد الرجم :
[ يوحنا 8 :4، وما بعدها ]
4 قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ
5 وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» .......َقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» ...... فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».
فهنا نسخ لحكم الله في الزاني المحصن .
وشيء آخر : قد مرّ بنا أن الزاني المحصن يحرق ، وهنا يقولون يرجم ، ولا ندري أنسخ أم لخبطة من الكَتَبَةِ . وكلامهما يشهد بصحة ما نقول وزيادة .هذا ما يعنينا هنا في هذا المقام .
وأختم بهذا المثال ، وبداية أعتذر نيابة عن الكتاب المقدس لما ورد فيه من ( قرف )
المثال السابع : أمر ( الرب ) شعب إسرائيل ومعهم حزقيال النبي ـ عليه السلام ـ بأن يأكلوا خراء الإنسان ثم بعد أن توسل واعتذر حزقيال ـ عليه السلام ـ نسخ ( الرب ) الحكم وأمره بأن يأكل هو ـ دون بني إسرائيل ـ خراء البقر ، وهذا الكلام صريح في سفر حزقيال الإصحاح الرابع ، يقول كاتب السفر :(1/203)
12 وَتَأْكُلُ كَعْكاً مِنَ الشَّعِيرِ. عَلَى الْخُرْءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ تَخْبِزُهُ أَمَامَ عُيُونِهِمْ». 13وَقَالَ الرَّبُّ: هَكَذَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ خُبْزَهُمُ النَّجِسَ بَيْنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَطْرُدُهُمْ إِلَيْهِمْ». 14فَقُلْتُ: آهِ يَا سَيِّدُ الرَّبُّ, هَا نَفْسِي لَمْ تَتَنَجَّسْ. وَمِنْ صِبَايَ إِلَى الآنَ لَمْ آكُلْ مِيتَةً أَوْ فَرِيسَةً, وَلاَ دَخَلَ فَمِي لَحْمٌ نَجِسٌ».
15فَقَالَ لِي: اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ لَكَ خِثْيَ الْبَقَرِ بَدَلَ خُرْءِ الإِنْسَانِ فَتَصْنَعُ خُبْزَكَ عَلَيْهِ».)
وهذا نسخ في الأحكام .
(وهذه جملة أحكام أخرى كانت ثم نسخت :
(ـ أُبيحَ لنوح عليه السلام بعد خروجه من السَّفينة أكل جميع الحيوانات ثم نُسِخ حِلُّ بعضها .
(ـ أُمِرَ إبراهيم بذبح ولده إسماعيل ثم نسخ قبل الفعل .
(ـ كان السبت معظما ، ثم ترك تعظيمه المسيح ـ عليه السلام ـ وعظم النصارى الأحد .
( الأعياد التي في النصرانية ، ومنها عيد ميلاد المسيح لا دليل عليها ، ولا إشارة لها في كتابهم
(قبول شهادة الرجل لنفسه ، وهذا ضد الناموس ، وضد ما تكلم به المسيح ، ومعلوم مشهور أن بولس لم يشهد له أحد ، وإنما تكلم من عند نفسه .
(النسخ في العقائد
وهنا أضرب بعض الأمثلة .
المثال الأول : نسخ العهد القديم :
اشتد المسيح ـ عليه السلام ـ في الأخذ على يد أتباعه أن يحفظوا العهد القديم ولا يضيعوه ، وتكلم في أكثر من مكان بذلك ، منها في [ متى : 5 : 17 ] 17 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ.
ومنها في : [ متى : 23 : 1ـ 3 ] حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ
2 قَائِلاً:«عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ،(1/204)
3 فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ.
ومنها في : لوقا [ 10 : 25 ـ 28 ] :
25 وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟»
26 فَقَالَ لَهُ:«مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟»
27 فَأَجَابَ وَقَالَ:«تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ».
28 فَقَالَ لَهُ:«بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا».
ويأتي بولس ويخالف المسيح ـ عليه السلام ـ ويبطل هذا كله :
في رسالته إلى العبرانيين [ 8 : 13 ]، تكلم في سياق أن الله شرّع لبني إسرائيل ( عهدا جديدا لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ) يقول : 13 فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ.
العبرانيين [ 7 : 18 ] يقول : 18 فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا،
وفي رسالة بولس لأهل رومية [ 7 :6 ] 6 وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ"
وفي العبرانيين [ 10 :9 ] 9 يَنْزِعُ الأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ. ، والأول هنا هو العهد القديم والثاني العهد الجديد .
وبعضهم يبهت حين تواجهه بهذا الكلام ،وبعضهم ( يتفلسف ) ويتكلم من تلقاء نفسه قائلا بأن بولس رفض شرائع العهد القديم فيما يتعلق بالذبائح فقط دون أن يرفضه جملة ؟(1/205)
وهذا الكلام مرفوض ، ذلك أن بولس كما تقدم تطاول على العهد القديم ككل (يَنْزِعُ الأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ ) (وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ") (إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا ) .
وإن سلمنا جدلا بأن بولس فقط رفض شرائع العهد القديم فيما يتعلق بالذبائح ، فهذا أيضا لا يقال ، ذلك لأن المسيح ـ عليه السلام ـ أقر شريعة موسى في الذبائح ، وأمر بها ، في
مرقص [ 1 :44 ]على لسان المسيح عليه السلام : وَقَالَ لَهُ:«انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ».
ورفض الشرائع في حد ذاته تعني التطاول على العهد القديم ، ويعني أن بولس نسخ العهد القديم أو نسخ في العهد القديم ، وهذه وتلك تكفي للدلالة على ما نحن بصدده ، وهو بيان أن عندهم ناسخ ومنسوخ في الأحكام بل وفي العقائد كما هو في هذا المثال .
.
المثال الثاني : رسالة المسيح كانت لبني إسرائيل .
أرسل المسيح عليه السلام ـ فقط لبني إسرائيل ، والذي عمم النصرانية وجعلها لجميع الأمم هو بولس ( شاول ) .
وَرَدَ في أكثر من مكان من الإنجيل على لسان المسيح ـ عليه السلام ـ أنه لم يرسل إلا لخراف بني إسرائيل الضالة . واسمع :
أمر المسيحُ ـ عليه السلام ـ التلاميذَ بأن لا يبشروا إلا في بني إسرائيل فقط ؛ في متى[ 10 : 5 ، 6 ] 5 هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6 بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ.(1/206)
وفي [ متى : 15 : 21 ، 24 ] 21 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. 22 وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً:«ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». 23 فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ:«اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» 24 فَأَجَابَ وَقَالَ:«لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ».
ولاحظ أن هذا من إمرأة من مدينة صور وصيدا ,وهي من أرض الشام ، وليست من بعيد .
وفي [ متى : 1 : 21 ] 21 فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ».
وفي يوحنا [ 1 :11 ] نصٌ آخر صريح : "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ"
ثم جاء بولس بعد ذلك ونسخ هذا الحكم ، وجعلها دعوة للأمم جميعا.
في أعمال الرسل [ 26 : 15 ـ 18 ] ، وهو يحكي قصة ظهور المسيح ـ عليه السلام له ـ وهي قصة مكذوبة(1) ـ يقول :
__________
(1) أمارة كذب هذه القصة هو أن بولس كان في قافلة ، يسير مع أناس ، ولم يشهد أحد منهم لبولس ، وروايات القصة على لسان بولس ومن سمع منه من محبيه ( لوقا تلميذه تحديد ) تبين أن القصة ملفقة ، مرة يقال أن من هول الموقف سجد جميع من في القافلة ، ومرة يقال بل سجد بولس وحده ، ومرة يقال أنه سمع صوتا ولم يرَ شيئا ، ومرة يقول بل رأى المسيح إذ كلمه ، ومرة يقال أن المسيح في هذا الموقف كلفه بما يجب عليه أن يفعل كما في القصة التي في النص أعلاه ، ومرة أخرى يقال بل قال له قم وادخل المدينة ( دمشق ) وهناك يقال لك ماذا ستفعل ، وهذا التضارب شاهد لا يُرد شهادته على كذب القصة .(1/207)
15 فَقُلْتُ أَنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ.
16 وَلكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِمًا وَشَاهِدًا بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ،
17 مُنْقِذًا إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ،
18 لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيبًا مَعَ الْمُقَدَّسِينَ.
.
وهكذا بكل هذه البساطة تحولت المسيحية من ديانة خاصة ببني إسرائيل إلى ديانة لجميع الأمم .
المثال الثالث : النجاة بالأعمال أم بالإيمان ؟
واضح جداً من تعاليم المسيح عليه السلام أن النجاة كانت بالأعمال ، في متى [ 23 :3 ] 3 فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ.
وفي يوحنا [ 5 : 28، 29 ]
28 لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ،
29 فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ.
ومرَّ بنا أن المسيح عليه السلام ـ أمر أحدهم أن يذبح ويفعل ما كان يأمر به الناموس كي يتبرر من إثمه . مرقص [ 1 :44 ]: وَقَالَ لَهُ:«انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ».(1/208)
ثم جاء بولس بعد ذلك وجعل النجاة على الإيمان لا على الأعمال ، في رسالة بولس إلى غلاطية الإصحاح الثالث ، يحاول بولس من تلقاء نفسه بلا دليل ، وبكلام مرسل يبرهن لمن يسمع له أن الناموس تعمل به كلية وإن فرطتَّ في شيء منه لحقتك لعنة ، وحيث أن الكل مفرط فإن كل من هم تحت الناموس ملعونين ، وبالتالي جاء المسيح ـ عليه السلام وصار لعنة من أجلهم ـ قبحه الله بكذبه وافترائه ـ وافتداهم من لعنة الناموس ـ التي تأتي بسبب تفريط في واحدة من أحكامه ـ وبالتالي صار البر والخلاص بالإيمان بيسوع المسيح ـ عليه السلام ـ . هكذا يتكلم بولس . ويختم الإصحاح بهذه النتيجة
24 إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ.
25 وَلكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ، لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ.
وهذا يعني صراحة ً إلغاء الناموس ، وبدء العمل بالإيمان . هذا المعنى صريح جداً .وجاء في السياق جملة خبرية تقريرية صريحة تؤيد هذا المعنى : ( أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ )
وبهذا تحولت النصرانية من ديانة تعبد الناس لله رب العالمين إلى عدد من المفاهيم والتصورات يعتقدها المرء ثم هو من الفائزين يوم القيامة .
هذه هي قضية الرسالة الأولى .. النجاة من النار ، ينسخها بولس ، ويعدل فيها على المسيح .
تعليق على الناسخ والمنسوخ
من يعبد النصارى ؟
…
قضية التحليل والتحريم .. الأمر والنهي .. النسخ والإقرار .. لازم من لوازم الألوهية ، فحق الله على عباده أن يطيعوه ، وحق من خلق ورزق ومن يحي ويميت ويحاسب أن يأمر فيأتمر الناس بأمره ، وينهى فينتهي الناس عما نهاهم عنه . والعبادة المحبة التي تورث الانقياد التام ، العبادة هي الاتباع . العبادة هي التزام الأمر والنهي .(1/209)
حق الله على عباده أن يعرفوه فيحبوه ، ثم يمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه . والعبادة مرحلة من مراحل المحبة ، فمن عرف أحبَّ ـ أو كره ـ ومن أحب سعى في رضا محبوبه ولا بد ، من أحب أحداً أو شيئاً فإنه يحرص على فعل ما يرضيه ، والبعد عن ما يبغضه ، وإلا فهو مدعي للمحبة . وليس محبا على الحقيقة . هذه من بديهيات العقل ، وما أجمل ما قال ابن المبارك .
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه * * * هذا لعمري في الفعال بديعُ
لو كان حبك صادقا لأطعته * * * إن المحب لمن يحب مطيعُ
في كل يوم يبتديك بنعمة منه وأنت لشكر ذاك مضيع
والذي حصل في النصرانية أن المسيح ـ عليه السلام ـ مات ولم يقل للناس اعبدوني من دون الله ، ولم يعبده أحدٌ ممن عاصره وعايشه ، ثم جاء بولس ( الرسول ) وفي قصة تتضارب حولها الآراء ادعى بولس أن المسيح ـ عليه السلام ـ أرسله للناس رسولاً .
رفع بولس المسيح لدرجة الألوهية ، وجعل نفسه رسولاً يتكلم للناس باسم ( رب المجد يسوع ) ، وراح بولس بهذه الدعوى يحل ويحرم ، عدّل تعاليم المسيح كلها ، العقائدية ، والتشريعية ، وأن كل ما في النصرانية هو من بولس ، أقول : جاء بولس بعد المسيح بأيام ، أكان المسيح ـ عليه السلام ـ في حاجة لأن يأتي ببولس يعلم الناس نيابة عنه ؟
لم لم يتكلم هو بهذه التعاليم ؟
ولم تكلم هو وعارضه بولس باسمه ؟
أو دعني أتسائل تنزلا لم غيّر يسوع كلامه الذي تكلم به وهو حي بين الناس على لسان بولس بعد ذلك ؟
فمن يعبد النصارى ؟ من يطيعون ؟ من يحلل ويحرم لهم ؟ من هو الذي يشرع لهم ؟(1/210)
إنهم هم ، يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله ، وهذا صريح عندنا . في كتاب ربنا علام الغيوب سبحانه وتعالى وعز وجل . قال الله : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }[التوبة:31].
وفسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العبادة هنا بأنها الطاعة .. أن يحلو لهم الحرام فيحلونه ، ويحرموا عليهم الحلال فيحرمونه ، والحديث عند أحمد ، وأورده بن كثير في تفسير الآية .
.
1ـ الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية أمارة على حكمة المشرّع ،وأنها من لدن حكيم عليم .
2ـ الله في كتابه أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كل المسلمون على هذا ، أما النصارى فكما رأيت المسيح ينسخ شريعة من قبله ـ وهم يقولون أنه جاء ليتمم لا لينقض ـ وبولس ينسخ أحكام المسيح ـ عليه السلام ـ ، ومَن بعده يتجاهلون ما ورد في الكتاب ( المقدس ) ويشرعون من عند أنفسهم .
3 ـ الآمر الناهي حقيقة في كتب النصارى هو الأحبار والرهبان ( رجال الدين ) ، فالشريعة شريعتهم هم وليست شرع الله ، يشهد على هذا ما سبق من أن كل ما ورد من أحكام إنما مصدره الذين جاءوا بعد المسيح ، ولا زال التشريع .. التحليل والتحريم .. النسخ .. مستمرا ، فنحن نرى اليوم مكسيموس الأول يعترض على الكنيسة ويخرج بحلال وحرام آخر .
4 ـ من هذا العرض يتضح لك كذب بطرس اللئيم ومن يقول بقوله في هجومه على الإسلام . ونقول ما أقبح الكذب . ونقول لهم دونكم كتابكم .
5 ـ تكلمت بالمعلوم المشهور ،وما لايمكن رده لصراحته في الدلالة .
الفصل السابع :
جناية زكريا بطرس على النصرانية
قد جنى بطرس على النصرانية ، نعم قد جنى عليها أكبر جناية في التاريخ كله ، بطرس ومن ساند بطرس ، ودعني أشرح لك .(1/211)
من قريب كانت المواجهة مع النصرانية وخاصة الفكرية مع الكاثوليك منهم ، وباقي ملل النصارى لا يراهم إلا من يدقق النظر وفي أماكن محدودة جداً ، وكانت المواجهة مع النصرانية تأخذ ثلاث محاور .
المحور الأول : ( التبشير ) بالنصرانية في أطراف العالم الإسلامي ، عن طريق إرساليات ( التنصير ) المنتشرة كالجراد في أفريقيا وشرق أسيا ، وكان لهذه الإرساليات وجوداً محدوداً في داخل العالم الإسلامي ، مقارنة بوجودها في أطراف العالم الإسلامي.
المحور الثاني : الحوار مع المسلمين من أجل الوصول إلى ثوابت مشتركة ، يتم فيها الاعتراف بالنصرانية ويتم فيها تعديل الكثير من الثوابت الإسلامية ، وعلى رأسها ( الجهاد ) و ( اعتقاد كفر النصارى ) كي لا يكون الإسلام عدواً للنصرانية .
المحور الثالث : القتال ، أو بالأحرى تكسير عظام المسلمين المتسمسكين بدينهم ، وإجهاض أي محاولة لقيام دولة ذات صبغة إسلامية حتى ولو كانت في أقصى الشرق .
وهو حال الذين كفروا في كل زمانٍ ومكان ، يقاتلون وفي ذات الوقت يجادلون . يحاربون الموحدين على محورين ، محورٌ فكري ومحورٌ عملي ( حركي ) ، قال الله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }[ غافر : 5] ، ولاحظ أن الآية تتكلم عن كل الأمم (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ ) .
ـ كانت المحاور الثلاث مُخْتَبئة ... تتلفع بثيابٍ من ( الشرعية ) ، فكان الحوار يتم مع ( علماء ) المسلمين من الصحويين والرسميين ، وحملات التنصير لا يعرف أخبارها إلا المختصين ، والحرب ترفع شعارات لا دينية ، وإن كانت ضد كل مَن اصطبغ بصبغة إسلامية .(1/212)
حتى جاء بطرس ومن معه ، أو بالأحرى الأرثوذكس .. الأقباط منهم خاصة ، علماً بأن الأرثوذكس اليوم أذلة ، ولولا أن أذن الله بأن يُمدَّ إليهم حبلاً من الناس .. الأمريكان تحديداً ، ما سمعنا صوتاً واحداً منهم لا في مصر ولا في غيرها . ويقينا ستنتهي كل هذه الجعجعة حال انقطاع هذا الحبل ، وربما قبله بأن يطمع الأمريكان ( البروتوستانت ) في شعب الأقباط ويحدث ( تبشير ) داخل القبط أنفسهم أو مساندة للمنشقين كما حدث مع ماكسيموس الأول ، ووقتها لن يجد القبط إلا المسلمين ينقذوهم من بني ملتهم البروتوستانت أو الكاثوليك تماماً كما فعل أسلافهم من قبل .
والمقصود أنه في ظلِّ ظروف سياسية ظهر زكريا بطرس ومن معه من أقباط مصر الأرثوذكس بهذا الكم من الحقد والغل على الإسلام والمسلمين ، فهدموا كل ما فعله الكاثوليك في مائة عام فبعد أن كاد الكاثوليك أن يصلوا إلى ثوابت مشتركة بين ( المسلمين ) و النصارى ، وبعد أن أخذوا اعترافاً من ( علماء ) المسلمين بأن دينهم دين من عند رب العالمين ـ وكذب من قال بهذا ـ وبعد أن تلاقت جهود العلمانيين مع المُنصرين والمنهزمين من ( علماء ) المسلمين في القول بأن الكل ( مؤمن ) والله يفصل بيننا يوم القيامة . خرج على الناس الكذاب اللئيم زكريا بطرس فهدم كلَّ هذا .
ماذا فعل بطرس ؟
1 ـ أعاد المواجهة بين الإسلام والنصرانية إلى مواجهة صريحة ، إما إسلام وإما نصرانية ، فهو يتكلم بأن الإسلام ليس بالدين ، ويتكلم بأن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس برسولٍ من عند رب العالمين ، ويتكلم بأن من لم يقبل المسيح ـ عليه السلام ـ إلى الجحيم ، يصرح بهذا ، ولا مناصفة عنده ، ولا يقبل حتى العلمانيين من أمثال ( هالة سرحان ) ، أو مَن دونها . لا بد عنده من قبول التعميد .(1/213)
2 ـ استحضر العامة للصراع ، وهي مصيبة ، فالملاحظ أن الكذاب اللئيم زكريا بطرس يتكلم للعامة ، فهو لا يتبنى خطاباً علمياً ، وإنما تسطيحاً فكرياً ، ويتوجه بالأساس ـ هو ومن على قوله ـ إلى عامة المسلمين وعامة النصارى . واستحضار العامة للصراع مصيبة قد تأتي على أقباط مصر كلهم ، وخاصة أن زكريا بطرس كذَّاب . وأضرب الأمثال ليتضح المقال.
لو جئت في قرية مثلا من قرى مصر وبها عدد قليل من الأقباط كما هو الحال في أغلب القرى ، وناديت في عامة الناس أو أشعتُ بينهم أنهم ـ أي النصارى ـ يقولون أن موسم الحج يُعقد من أجل الإخصاب والسفاح ، وأن ( مِنَى ) من مَنِيِّ الرجال ، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس ابن أبيه ، وأن القرآن ليس كلام الله ... ماذا سيكون رد العامة ؟
هل سيطلبون الدليل ؟!
وإن أضاف محدثهم بأن هذا الكلام محض كذب ، وبيّن قليلاً من كذب من يتكلم . وأننا رددنا عليهم ووضحنا لهم ولم يرجعوا عن قولهم .. فهي حربٌ إذا على الإسلام . تُرى ماذا ستفعل العامة ؟
كما فعلت ( يوم الإسكندرية ـ 21 رمضان /1427 هـ ) تهيج ولن تسكن حتى تقضي على من تكلم بهذا الكلام .
ظنَّ بطرس أن سيسبقنا للناس ، وأننا غافلون عن بيان كذبه ، وغرّه أن استجاب نفرٌ لقوله ، وفرح بمن التف حوله ممن هم مثله ، واتخذ سكوت المسلمين عنه دليلاً على صحة قوله . وهي سطحية في التحليل ، فالناس سكتوا لأن الخطاب لم يصل للجميع ، إذ ليست كل البيوت تحمل على رأسها ( دش ) ، وأهل العلم ـ من المسلمين ـ لا يصدقون ما يحدث .. يقولون سفيه .. يتكلم بكلام من لا عقل له .. ولن يجد من يسمعه . . فهم ينظرون لأثر الفعل وإن ثم أثر فلن يسكت له أحد ، ولن يرجع الناس عنهم أحد ، فلسنا ممن يقبل التعدي على دينه ،ولسنا ممن يُؤتى من قِبَل دينه ، والتاريخ شاهد على أننا ننتفض حين يمس ديننا ، وحين يرفع الصليب على رأسنا .(1/214)
والمقصود أن استحضار العامة من الكذاب اللئيم بطرس ومن الكنيسة القبطية في غاية الحماقة .
ـ يَرد سؤال على الخاطر : هل يغفل زكريا بطرس عن ذلك ؟ هل يغفل من سكتوا عن الكذاب اللئيم زكريا بطرس وشجعوه في مصر وخارج مصر عن ذلك ؟
يقيناً لا يغفلون عن ذلك ، وهناك تسجيلات بصوت أحد أعضاء المجلس المِلِّي عندهم يتكلم على لسان جميعهم بأنهم خائفون وَجِلُون من ثورة العامة عليهم في مصر وفي الخليج العربي ، ولكن ـ كما يقول هذا المتحدث ـ قد سلكوا طريقا ً يحسبون أنهم سيخدعون الجميع به .
فهم قد أصدروا بياناً بشلح ( عزل ) زكريا بطرس ، واحتفظوا بهذا البيان ،أو وزعوه على نطاقٍ ضيق جداً ، وقرروا الآن أن يقفوا موقفاً محايداً من زكريا بطرس ومن معه من أقباط المهجر وجماعات التنصير بالداخل ، ويبقى دعمهم لهم خفي ، فإن غلب بطرس ومن على شاكلته المسلمين ـ ولن يكون بحول الله وقوته ـ فهم معهم ، وإن غلبهم المسلمون يقولون قد تبرأنا منهم من قبل ، ولا نعرفهم . ويبرزون لنا تلك الورقة التي لم يكد يقرأها أحد سواهم .!!
ويضحكون على أنفسهم .
فلسنا أغبياء ، وكل ناطق صغر أو كبر عقله يعلم أن الساكت المقر كالفاعل ، وهم سكتوا عنه وقد طالبناهم بالوقوف في وجهه ووجه من يقول بقوله ، ونطالبهم الآن بذلك ، أو ببيان موقفهم منه ، وهم أعانوه ، فقد أرسل شنودة الثالث مندوباً على البالتوك يدافع . وبطرس رفض دعوى شلحه علناً في أحد برامجه وصرح بأنه استقال ولم يُشلح . ولم نسمع منهم تكذيباً لهذا الكلام وهو ما يشبه الإقرار .
فما يحدث الآن يسئل عنه الجميع ، وليس بطرس وحده ، ولا أقباط المهجر وحدهم .
3 ـ وجنى بطرس على النصرانية حين دعى الناس إليها ، وطالبهم بالدخول فيها . . . جنى على النصرانية حين عرضها على الناس .(1/215)
نعم تلك جناية وأي جناية . النصرانية لا تصلح للعرض على الناس ، والنصرانية لم تأخذ مرّة الأتباع عن طريق الدعوة منذ جاء الإسلام ، وإنما بعصى السلطان . أو بالمال .. تغري من ابتلاهم الله بالفقر مع الجهل وانقطعت عنهم أسباب الدعوة إلى الله .. وهو بلاء لهم ولمن استطاع أن يصل إليهم وما حاول .
أما النصرانية فلم تقف يوماً جريئة تعرض ما عندها على الناس وتقول هلمّو إليّ هذا هو الدين الصحيح .(1) إلا هذه المرة على يد بطرس الكذاب ، راح يدعو للنصرانية .. يدَّعي أنها هي الدين الصحيح ، وهذه توريطة أخرى للنصرانية .
كيف ؟
أبيّنُ كيف ؟
لا يمكن أبداً عرض النصرانية كدين إلا عن طريق الكذب ، كما فعل بطرس ، أو عن طريق البتر ( القص ) بإبداء القليل وإخفاء الكثير . كما فعل بطرس أيضاً ، فهو خصوصاً وهم عموماً ـ أعني من يواجهوننا اليوم مواجهة مباشرة ـ حين يتكلمون عن دينهم يكذبون ، ويبدون كثيراً ويخفون قليلا .
والجناية على النصرانية هنا تتمثل في أننا سنأتي خلفهم ونبين للناس كذبهم في قولهم ، ونظهر للناس حقيقة النصرانية التي يخفونها عنهم . وقد حدث هذا بالفعل في غرف البالتوك ، وفي المواقع ، وفي الكتب التي صدرت عن مخطوطات الكتاب ( المقدس ) ،وزكريا بطرس ، و( بولس ) ، وهاأنذا ـ بحول الله وقوته ـ أشارك بضرب هذه النماذج الثلاث أختم به هذا البحث .
(النموذج الأول : نبي الله داود بين الكتاب ( المقدس ) والقرآن العظيم .
يقول أن قصة داود ـ عليه السلام ـ الموجودة في العهد القديم هي بأم عينها الموجودة في سورة ص (2) .
__________
(1) حتى قطعان التنصير الذين يتكلمون عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتكلمون عن النصرانية ، وإنما ينقضون الإسلام ثم من بعيد يتكلمون عن النصرانية ،
(2) أسئلة عن الإيمان الحلقة 94 د /7 وما بعدها(1/216)
وما يحكيه الكتاب المقدس عن داود ـ عليه السلام ـ عجبٌ عجاب ، لا يمكن أن يقال عن فاسق فضلا عن نبي من الأنبياء ، ودعونا نبدأ بما اشتهر من قصص داود ـ عليه السلام ـ الجنسية في الكتاب ( المقدس ) ، وهي التي عناها بطرس في قوله السابق .
وقصة داود التي يتكلم عليها الكذاب اللئيم زكريا بطرس هي حسب الكتاب ( المقدس ) أن داود ـ عليه السلام ـ رأى زوجة جُندٍ من جنوده وهي تغتسل فأعجبته فأرسل إليها فجاءت إلى بيته ـ بيت المُلك وزنا بها ، وحملت منه ، وحاول أن يلصق الولد بزوجها ، فقام باستدعائه من جبهة القتال ، وأمره أن يتفقد أهله ويبيت عندهم ، ولكن هذا الجندي لم يفعل ، كان شهماً شريفاً ، أبى أن يبيت مع النساء والحرب دائرة ، فما كان من داود ـ عليه السلام ـ حسب الكتاب ( المقدس ) إلا أن أرسله للقتال وأوصى قائد الجيش أن يجعله في المقدمة ثم ينسحب من ورائه كي يقتله العدو بسهامهم . وقد كان ، وبعد أن قُتل تزوج داود ـ عليه السلام ـ بامرأة هذا الجندي ، وحلّا للمشكلة قبض الله روح هذا الطفل ا يقول كاتب سفر صموئيل الثاني [ 11: 2 ، وما بعدها ] : " 2 وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا. 3 فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». 4 فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. 5 وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى». 6 فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى يُوآبَ يَقُولُ: «أَرْسِلْ إِلَيَّ أُورِيَّا(1/217)
الْحِثِّيَّ». فَأَرْسَلَ يُوآبُ أُورِيَّا إِلَى دَاوُدَ. 7 فَأَتَى أُورِيَّا إِلَيْهِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ عَنْ سَلاَمَةِ يُوآبَ وَسَلاَمَةِ الشَّعْبِ وَنَجَاحِ الْحَرْبِ. 8 وَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «انْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ». فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَخَرَجَتْ وَرَاءَهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ. 9 وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى بَيْتِهِ. 10 فأَخْبَرُوا دَاوُدَ قَائِلِينَ: «لَمْ يَنْزِلْ أُورِيَّا إِلَى بَيْتِهِ». فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَمَا جِئْتَ مِنَ السَّفَرِ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟»
11 فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: «إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ». 12 فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَقِمْ هُنَا الْيَوْمَ أَيْضًا، وَغَدًا أُطْلِقُكَ». فَأَقَامَ أُورِيَّا فِي أُورُشَلِيمَ ذلِكَ الْيَوْمَ وَغَدَهُ. 13 وَدَعَاهُ دَاوُدُ فَأَكَلَ أَمَامَهُ وَشَرِبَ وَأَسْكَرَهُ. وَخَرَجَ عِنْدَ الْمَسَاءِ لِيَضْطَجِعَ فِي مَضْجَعِهِ مَعَ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَإِلَى بَيْتِهِ لَمْ يَنْزِلْ.(1/218)
14 وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبًا إِلَى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيَدِ أُورِيَّا. 15 وَكَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ يَقُولُ: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ، وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ». 16 وَكَانَ فِي مُحَاصَرَةِ يُوآبَ الْمَدِينَةَ أَنَّهُ جَعَلَ أُورِيَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ رِجَالَ الْبَأْسِ فِيهِ.17 فَخَرَجَ رِجَالُ الْمَدِينَةِ وَحَارَبُوا يُوآبَ، فَسَقَطَ بَعْضُ الشَّعْبِ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ، وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا.
26 فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ أُورِيَّا رَجُلُهَا، نَدَبَتْ بَعْلَهَا. 27 وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا. وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ."
هذا هو نص القصة من الكتاب ( المقدس ) كاملاً حتى لا يقول أحد أننا نقطع السياق ونلوي عنقه ونستشهد به على غير ما فيه ، وفي القصة :
1 ـ داود ـ عليه السلام ـ زاني .
2 ـ يحاول إلصاق الولد بغيره .
3 ـ أوريا شهم به مروءة عن داود ـ عليه السلام ـ إذ لم ينم مع زوجته الجميلة مع أنه غائب عنها منذ مدة من الزمن وهو على باب داره كون الحرب مشتعلة والجنود في الصحراء يقاتلون .
4 ـ داود ـ عليه السلام ـ يغدر بأحد جنوده كي يستر سوءته .
5 ـ في الإصحاح التالي لهذا الإصحاح مباشرة نجد أن عقوبة داود ـ عليه السلام ـ كانت كالتالي ، يقول كاتب السفر ، والخطاب في النص لداود ـ عليه السلام ـ على لسان مرسولاً من ( الرب ) :(1/219)
9 لِمَاذَا احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ؟ قَدْ قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ لَكَ امْرَأَةً، وَإِيَّاهُ قَتَلْتَ بِسَيْفِ بَنِي عَمُّونَ. 10 وَالآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ لِتَكُونَ لَكَ امْرَأَةً. 11 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ، وَآخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هذِهِ الشَّمْسِ. 12 لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ».
لا تعليق .
والعجيب أن سليمان ـ عليه السلام ـ أُنجب من هذه المرأة التي تزوجها داود ـ عليه السلام ـ بهذه الطريقة . فنبيٌّ زاني ونبي يولد من زانية .
ومثل ذلك أشياء أخرى ذكرها الكتاب ( المقدس ) عن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ وإليك بعضها .
في ( سفر صموئيل الثاني الإصحاح الثامن عشر ) أن ( شاول ) الملك حين عظم أمر داود ـ عليه السلام ـ أراد أن يزوجه إحدى بناته ، وكان مهرها مائة غُلّفة ( مقدمة الذكر ) من الفلسطينيين ، فماذا فعل داود ـ عليه السلام ـ هجم بمن معه على الفلسطينيين وقتل مائتي رجل وقطع أعضائهما التناسلية ، ثم ذهب بضعف المهر ( مائتي غلفة ) وليس مائة واحدة كما طلب منه .ولك أن تتخيل نبي الله داود ـ عليه السلام ـ وهو يقتل الرجال من أجل أعضائهم التناسلية .. وهو يقطِّعُ الفروج .. وهو يعدها بين يدي أبو زوجته .. شاول الملك الذي نصَّبه ( الرب ) من قبل .(1/220)
وليت الأمر تم . بل . تزوجت غيره وهي مخطوبةٌ له ؛ ثم بعد حين .. حين اشتد بأس داود ـ عليه السلام ـ على أبيها شاول الملك أرسل إليها من أخذها عنوة من زوجها وضمها إليه ..وهي تحت رَجُلٍ آخر . وتجد هذا صريحاً في سفر صموئيل الثاني الإصحاح الثالث .
ـ وكذا كان داود ـ عليه السلام ـ حسب الكتاب ( المقدس ) يرقص ويحتكره نسائه ، يرقص أمام ( الرب ) ،( صموئيل الثاني : الاصحاح السادس ) . ( الرب ) أمامه ، وهو بين يديه يرقص ويلعب ، هو ومن معه ، ليرضى الرب .
ـ وكذا حين شاخ داود ـ عليه السلام ـ كان يبرد ولا يدفأ !!، فاقترح من حوله أن يأتوا له [ بفتاةٍ عذراء ، فلتقف أمامَ الملك ولتكن له حاضنة ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك ] .( الملوك الأول الإصحاح الأول ) .
ـ ولا أريد أن أنصرف من هذا السفر قبل أن أنقل لكم ( تعليمات الرب ) لداود بعد أن تاب عليه من أمر زوجة أوريا الحثي .. أمره بالجهاد ، فماذا فعل داود ـ عليه السلام ـ حين جاهد ، يقول كاتب السفر : " 31 وَأَخْرَجَ الشَّعْبَ الَّذِي فِيهَا وَوَضَعَهُمْ تَحْتَ مَنَاشِيرَ وَنَوَارِجِ حَدِيدٍ وَفُؤُوسِ حَدِيدٍ وَأَمَرَّهُمْ فِي أَتُونِ الآجُرِّ، وَهكَذَا صَنَعَ بِجَمِيعِ مُدُنِ بَنِي عَمُّونَ. ثُمَّ رَجَعَ دَاوُدُ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِلَى أُورُشَلِيمَ."
نَشَرَ الناس .. كل الناس أطفال وصبيان .. بمناشير ، و قطَّعهم بنوارج من حديد وفؤوسٍ من حديد ثم ( شواهم ) في فرن الطوب الأحمر .(1/221)
هذه قصة داود في الكتاب ( المقدس ) . ويقول بطرس : وهي هي بأم عينها في سورة ( ص ) . يقصد قول الله تعالى :{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ{21} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ{22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ{23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ ص : 21 ـ 24 ]
هل فيها أن داود زنى بامرأة .. أي امرأة ؟
ويقول بأن المفسرين أقرَّوا بما ورد في الكتاب ( المقدس ) وإن اختلف في الصيغة ، وهو يكذب على من يسمعه ؛ القرطبي يقول : " قَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَهُنَا قِصَّة أَكْثَرهَا مَأْخُوذ مِنْ الْإِسْرَائِيلِيَّات وَلَمْ يَثْبُت فِيهَا عَنْ الْمَعْصُوم حَدِيث يَجِب اِتِّبَاعه " ، والقصة التي ذكرها المفسرون ويقول عنها القرطبي أنها لا تصح هي أن داود ـ عليه السلام ـ طلب من قائده أن ينزل له عن إمرأته .. أي يطلقها ليتزوجها هو ـ عليه السلام ـ . ولم يقل أحد شيئاً مما هو في كتابهم .
ألا ما أقبح الكذب .
وعفواً لا أريد الانصراف من هنا قبل أن ألقي الضوء على أسرة نبي الله داود في الكتاب ( المقدس ) . هذه الأسرة التي كان ربُّها ـ داود عليه السلام ـ نبيّاً من أنبياء الله ، وأحد أفرادها نبيٌّ آخر من أنبياء الله ، هو سليمان عليه السلام .
أما نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ :(1/222)
ـ كما مرَّ بنا ، أمُّهُ هي زوجة أوريا الحيثي ، تلك التي زنى بها نبي الله داود ـ عليه السلام ـ . زوجة أوريا الحثي .
ـ كان عنده ألف امرأة من النساء ، سبعمائة زوجة ، وثلاثمائة من الجواري .( الملوك الأول : 11 : 2 ) .
ـ كان يدخل على النساء التي أمره الله أن لا يدخل عليهن اتقاء الفتنة ، وعبَدَ الأصنام التي كانت تعبدها نسائه من دون الله وغضب عليه ( الرب ) ومزق ملكه في عهد بنيه .( الملوك الأول : 11 )
ـ وعلى لسان سليمان ـ عليه السلام ـ يوجد سفر كامل في الكتاب ( المقدس ) أشبه ما يكون بكلام الغواني . أستحي والله أن أنقل منه شيئاً هنا ، وعموماً هو نشيد الإنشاد . لمن شاء أن يستزيد .
وإذا كان هذا حال نبي الله داود ـ عليه السلام ـ وابنه نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ فما حال باقي أسرة داود ؟
بالطبع كان أسوء . كان يزني الأخ بأخته . كما يقول مَن كَتَبَ الكتاب ( المقدس ) ، واسمع : كان لداود ـ عليه السلام ـ ولد يدعى ( آمنون ) أحبَّ هذا الولد أخته ( ثامار ) ، وأراد الزنى بها ، فأخبر صديقاً له بما في نفسه تجاه أخته فدبر له حيلة كي يزني بأخته ، فكان أن تمارض ثم دعاها تطعمه في فراشه ، وحين جاءت للفراش تطعمه هبَّ هذا الذئب وأمسك بأخته ثم زنى بها ، ثم أمر عبداً من عبيده فطردها .. كما يفعل الفاسق بالفاجرة .. يأخذ شهوته ويطردها ، ونادته بأنَّ طردها أشرُّ من الزنى بها فلم يسمع لها .!!
ثم درى داود ـ عليه السلام ـ فلم يفعل شيئاً .!!
ثم شرب الخمرَ هذا الابن الزاني ( آمنون ) ، فقتله أخوه ثأراً لأخته ، فغضب نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كما يقول كَتَبَةُ الكتاب ( المقدس ) ، وحاول قتل هذا الولد ثأراً لابنه الزاني ولكنه لم يدركه إذ قد هرب. وهذا كله في سفر [ صموئيل الثاني الإصحاح الثالث عشر ] .(1/223)
وعند النصارى في كتابهم ( المقدس ) أن ابن داو د ـ عليه السلام ـ أراد أن يظهر مخالفته لأبيه ـ داود عليه السلام ـ فماذا فعل ؟
استشار مَن حوله فأشاروا عليه بأن يزني بنساء أبيه على سطح البيت أمام أعين شعب إسرائيل كله ، وفعل . !![ صموئيل الثاني : 16 : 23 ].
أين داود ، وكان حيّاً يُرزق ؟ وكان ملكاً متوجاً تخافه الأرض كلها ؟ !
وأين أبناء دواد ، وكانو شهوداً أولي قوةٍ وأولي بأسٍ شديد ؟!
وأين المروءة ؟ وأين الغيرة على العرض ؟!
وأين شعب إسرائيل يشاهد الزنى ولا ينكر ؟!
إنه الكتاب ( المقدس ) .
وبطرس يقول أن الخلل عندنا ذلك أن حديث الكتاب ( المقدس ) عن الأنبياء عبارة عن نوعٍ من البلاغة في التعبير ، وجهلنا بالبلاغة هو الذي أدى بنا إلى هذا الفهم السيء(1) . !!
ولا تعليق .
( النموذج الثاني : نوح عليه السلام بين الكتاب ( المقدس ) والقرآن
يقول هذا الكذاب أن ما ذكره الكتاب ( المقدس ) عن نوحٍ ـ عليه السلام ـ أكد عليه القرآن في سورة هود [ وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ] (2)
أولاً : ماذا قال الكتاب ( المقدس ) عن نوحٍ ـ عليه السلام ـ وهل ما تكلم به الكتاب ( المقدس ) عن نوحٍ ـ عليه السلام ـ له ذكر في القرآن ؟؟
دعننا ننظر .
__________
(1) أسئلة عن الإيمان الحلقة 96 د/ 6 ، وما بعدها .
(2) أسئلة عن الإيمان الحلقة 95 د / 16(1/224)
كتاب النصارى يتكلم بأن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب الخمر وسكر وتعرى ، ولعن أولاده بعد أن رأوا عورته ، يقول الكاتب في سفر التكوين الإصحاح التاسع ." " 18 وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ. 19 هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. وَمِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ.20 وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. 21 وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. 22 فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. 23 فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا. 24 فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، 25 فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». 26 وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. 27 لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ»."(1/225)
لاحظ أن الكلام بعد الطوفان . وما في القرآن ـ مما أشار له بطرس ـ قبل الطوفان . وهذه هي الآيات التي يستدل يقول بطرس أن فيها ما في كتابه ( المقدس ) . " وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ . وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ . قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ "(1/226)
نوحٌ ـ عليه السلام ـ يتحدث مع أحد أبنائه أن يركب معه ، ولم يركب الإبن .. راح يلتمس سبباً مادياً .. عقلياً يتقي به الماء (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ) . فيتوجه نوحٌ ـ عليه السلام ـ بالدعاء لربه كي ينقذ ابنه .. وكان الله قد وعده بأن ينقذ أهله ، فأجابه الله بقوله " إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " فبادر نوحٌ ـ عليه السلام ـ يستعيذ بالله أن يسأله ما ليس له به علم " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ."
هل هناك شيء مشترك بين قصة نوح عليه السلام في الكتاب ( المقدس ) وقصته ـ عليه السلام ـ في القرآن ؟!
هل في ( القرآن ) أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب الخمر وتعرى وراح يسب ويلعن ؟!
هل في ( القرآن ) أن نبياً من أنبياء الله يفعل مثل هذا ؟
إنهم عندنا معصومون .وإن دعاة النصرانية بطرس ومن غيره يكذبون .
( النموذج الثالث : تعري نبي الله أشعياء
في الكتاب ( المقدس ) ، تحديداً في سفر إشعيا الإصحاح العشرين العدد الثاني وما بعده نجد هذا الكلام : " 2فِي ذلِكَ الْوَقْتِ تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنْ يَدِ إِشَعْيَاءَ بْنِ آمُوصَ قَائِلاً: «اِذْهَبْ وَحُلَّ الْمِسْحَ عَنْ حَقْوَيْكَ وَاخْلَعْ حِذَاءَكَ عَنْ رِجْلَيْكَ». فَفَعَلَ هكَذَا وَمَشَى مُعَرًّى وَحَافِيًا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «كَمَا مَشَى عَبْدِي إِشَعْيَاءُ مُعَرًّى وَحَافِيًا ثَلاَثَ سِنِينٍ، آيَةً وَأُعْجُوبَةً عَلَى مِصْرَ وَعَلَى كُوشَ، 4هكَذَا يَسُوقُ مَلِكُ أَشُّورَ سَبْيَ مِصْرَ وَجَلاَءَ كُوشَ، الْفِتْيَانَ وَالشُّيُوخَ، عُرَاةً وَحُفَاةً وَمَكْشُوفِي الأَسْتَاهِ خِزْيًا لِمِصْرَ "(1/227)
لا حظ أمر الرب إشعيا أن يتعرى وأن يمشي بين الناس عرياناً لمدة ثلاث سنوات ، ثم أمرَ ملك أشور أن يسوق سبي مصر على هيئة أشعياء .. عراة يرى الناس دبرهم ( إستهم ) .. حفاة تأكل الأرض أقدامهم .
ماذا يقول بطرس عن هذا النص ؟
يقول أن " أشعياء تعرى بمعنى خلع ثياب الأنبياء التي كانت تصنع من وبر الإبل (1) " هكذا من عنده ، ولا يقرأ النص أمام المشاهدين ، ذلك أنه لو قرأ النص لما استطاع أن يتكلم . لأن النص صريح كما قدمنا في أن ( الرب ) أمر النبي أن يفك الإزار ( ما يربط على الخاصرة ) ويمشي بين الناس مكشوف السوءة ، والتعبير بالإست قبيح .
والحقيقة أن كثيراً من الأنبياء تعروا وليس فقط أشعياء النبي . وهذه بعض الأمثلة على السريع . ـ نوح عليه السلام تعرى حين سكر ، وزنى ببناته . وقد مرّ بنا من قريب .
ـ وأيوب ـ عليه السلام ـ أراد أن يناجي ربه فماذا فعل ؟
شقَّ ثوبه وقص شعره ليكون كيوم ولدته أمه ، ثم خرَّ ساجداً لربه .!! " 20 فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، 21 وَقَالَ: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا».[ أيوب : 1 : 20 ـ 21 ] .
ـ والمسيح ـ عليه السلام ـ ، يقول كاتب إنجيل يوحنا ( يوحنا 13 : 4 ، وما بعدها ) أنه ليلةَ رُفِعَ للسماء ، كان يغسل رجل التلاميذ بالماء وينشفها بالمنشفة ، وهو عريان .. أمام من حضر من التلاميذ "4 قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا،ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا "
__________
(1) أسئلة عن الإيمان الحلقة 95 د/ 19(1/228)
ـ و( شاول ) المَلِك ـ صاحب داود عليه السلام ـ تعرى يوماً كاملاً وبقي عرياناً في الشمس تحت أرجل صاموئيل وداود ورُسلِه الذين أرسلهم لقتل داود وتنباؤوا " 4 فَخَلَعَ هُوَ أَيْضًا ثِيَابَهُ وَتَنَبَّأَ هُوَ أَيْضًا أَمَامَ صَمُوئِيلَ، وَانْطَرَحَ عُرْيَانًا ذلِكَ النَّهَارَ كُلَّهُ وَكُلَّ اللَّيْلِ. لِذلِكَ يَقُولُونَ: «أَشَاوُلُ أَيْضًا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ؟».[ صموئيل الأول : 19 : 24] .
وبطرس الكذاب يقول أن ( شاول ) هذا الذي معنا في النص خلع ثياب الملك فقط وليس تعرى بمعنى خلع كل ثيابه . وهذا الكلام كلام بطرس يتكلم به من عنده ، أما النص الذي أمامنا عكس ذلك ، فهو يفيد أنهم جميعاً كانوا بلا ثياب حال تنبئهم ومناجاتهم لربهم (فَخَلَعَ هُوَ أَيْضًا ثِيَابَهُ ) . فهل كانوا كلهم ملكوكاً .. خلعوا ثياب الملك ؟؟!!
طبعاً لا . وإنما بطرس يكذب ، ويقذف بكلماتٍ يشوشر بها يحسب أنه يدافع بها عن دينه وهو يورطه .
ـ بل وتعرى ( الرب ) .. رب الأرباب خالق الأرض والسموات يقول كَتَبَةُ الكتاب ( المقدس ) أنه تعرى . نعم هذا الكلام صريح في الكتاب ( المقدس ) ، ففي ( ميخا الإصحاح الأول ) تجد هذا الكلام ( المقدس ) " 1قَوْلُ الرَّبِّ الَّذِي صَارَ إِلَى مِيخَا الْمُورَشْتِيِّ ... 6«فَأَجْعَلُ السَّامِرَةَ خَرِبَةً فِي الْبَرِّيَّةِ، مَغَارِسَ لِلْكُرُومِ، وَأُلْقِي حِجَارَتَهَا إِلَى الْوَادِي، وَأَكْشِفُ أُسُسَهَا. .. 8مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَنُوحُ وَأُوَلْوِلُ. أَمْشِي حَافِيًا وَعُرْيَانًا. أَصْنَعُ نَحِيبًا كَبَنَاتِ آوَى، وَنَوْحًا كَرِعَالِ النَّعَامِ. "
ويقول بطرس أن ما عندهم عن الأنبياء هو بأم عينه ما عندنا . !!
إنه كذاب . إنه لئيم
ألا لعنة الله على كل أفاكٍ أثيم .
أبو جلال محمد جلال القصاص
ظهر الأربعاء 23 / 4 / 2008م
الموافق / 17 / 4 / 1429
المقدمة : ...........(1/229)
ـ هكذا يتكلم اللعين على سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ....
ـ وقفه
ـ لماذا الرد على بطرس ؟
ـ أحقا ما قال بطرس ؟
ـ لماذا الرد على بطرس ...................
الفصل الأول :
ـ كيف تتكون شبهات النصارى ؟ ..........
ـ الطريقة الأولى : الكذب المباشر . .........
ـ الطريقة الثانية : بتر النص من سياقه العام .............
ـ الطريقة الثالثة : اعتماد الضعيف والشاذ وما لا يصح ............
ـ البعد الجنسي في عقلية النصارى ......................
ـ نصيحة لمن يسمع شبهات النصارى .......................
الفصل الثاني : بطرس يكذب :
ـ شواهد على كذب بطرس .....
الفصل الثالث : الفتاة الفزارية وزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة زينب وصفية وجورية .
ـ زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة زينب بنت جحش
ـ زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة عائشة ـ رضي الله عنها .
ـ الفتاة الفزارية .
ـ زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب .
ـ الفصل الرابع : علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالجن . .....
ـ رصد أكاذيب بطرس في هذا الأمر ......
الفصل : السادس :ما يخفيه بطرس على مستمعيه .
ـ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته .
ـ مناجاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربه .
ـ الجن في التصور الإسلامي ...
ـ سحر النبي صلى الله عليه وسلم ...........
ـ قصة الغرانيق العلى وآيات سورة الحج ...........
ـ تسلط الشياطين على أنبياء العهد القديم ....
ـ تسلط الشيطان على المسيح عليه السلام ..........
ـ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ..............
فصل : لهذا قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم .
ـ من هم الملأ ؟
ـ لماذا يكرهون الدعوة .
ـ كيف يحاربون الدعوة .............
ـ من هم المستضعفون ................
ـ لماذا يكرهون الدعوة . ..............
ـ كيف يحاربون الدعوة ...............(1/230)
ـ الجهاد وسيلة ضرورية من وسائل الدعوة إلى الله . ................
ـ بيان العلة في قتل من قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم دون قومهم ويعترض عليهم بطرس الكذاب ............................
ـ هل نقتل النساء ؟
ـ الرق في الإسلام .................
ـ الجزية في الإسلام .................
الفصل : الناسخ والمنسوخ ............
ـ ماالمراد من إثارة القضية ؟ ..............
ـ الناسخ والمنسوخ عندنا وعندهم ............
ـ النسخ في الأحكام لا يتعارض مع حكمة الله الحكيم .
ـ فوائد النسخ في الشريعة الإسلامية
ـ رحمة من الله بعبادة .
ـ يظهر الله به فتنة الذين في قلوبهم مرض .
ـ النسخ في الكتاب المقدس .
ـ البداءة .
ـ أحكام متروكة .
ـ نسخ بعد المسيح عليه السلام .
ـ أحكام من عند أنفسهم .
ـ رصد لبعض أكاذيب بطرس في قضية الناسخ والمنسوخ .( باقي ) .
ـ تعليق ختامي على قضية الناسخ والمنسوخ . تم تقريبا .
الفصل : جناية زكريا بطرس على النصرانية
ـ كيف كانت المواجهة مع النصرانية .....
ـ بطرس يحدث تغير تاريخي ضد النصرانية ...........
ـ داود عليه السلام بين الكتاب ( المقدس ) والقرآن ....
ـ سليمان عليه السلام بين الكتاب (المقدس) والقرآن ....
ـ نوح عليه السلام بين الكتاب (المقدس) والقرآن ....
ـ تعري الأنبياء في الكتاب ( المقدس ) وليس في القرآن . ....(1/231)