سلسلة ( صناعة الداعية 1 )
وقفات مع الشيخ العلامة
عبدالفتاح أبوغدة
بقلم
الشيخ حبيب عبدالرحمن سلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير سيدنا وقدوتنا محمد بن عبدالله وعلى آله الطاهرين وأصحابه المخلصين ومن انتهج نهجهم وسلك دربهم من الدعاة المصلحين .
وبعد ،،،
فهذه الرسالة الأولى من سلسلة ( صناعة الداعية ) ـ إصدار لجنة الدعوة بالجمعية الإسلامية بمملكة البحرين ـ والتي نحاول من خلالها نشر ثقافة الدعوة والداعية بين الأفراد قبل الجماعات ، حيث إن كل مسلم ينبغي أن يكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ( بلغوا عني ولو آية ) ، كما علينا أن نعلم أن الدعوة لا تقتصر على المؤسسات والمنظمات بل الأصل في المسلم أن يكون داعية في كل مكان حسب وسعه ، فهو في بيته داعية ، وفي عمله داعية ، وبين أصحابه داعية ، وفي سفره داعية ... لأن الدعوة إلى الحق مبدأ إسلامي ، حكمها دائر بين الفرض والاستحباب إلا لعارض يرجح السكوت أو يجعلها مباحا في وقت من الأوقات على خلاف الأصل .
وهذه وقفات تحليلية مع حياة الشيخ العلامة عبدالفتاح أبوغدة رحمه الله تعالى، نبين من خلالها شخصيته الفذة والعوامل التي أثرت فيها، ونكشف عن أسرارها، متطرقين من خلالها إلى بعض مشاكل العصر التربوية وكيفية معالجتها ، وهي مهمة للمربين ولكل من أراد أن يخرج جيلا إسلاميا من أمثال هؤلاء العمالقة ، فيعرف كيف نشؤوا وكيف ساروا إلى أن وصلوا وصاروا شخصيات بارزة خدمت الإسلام .
نسأل الله تعالى أن يأخذ بيدنا و يوفقنا إلى ما فيه خير وصلاح هذه الأمة ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم .
لجنة الدعوة - الجمعية الإسلامية
الوقفة الأولى
الشيخ عبدالفتاح أبو غدة .... رجل بألف
يقول الشاعر :
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا إلى المجد حتى عد ألف بواحد(1/1)
ولقد صدق ، فهناك من الرجال الذين يأتون إلى هذا العالم ويؤدون دورهم على أكمل وجه ، وقد يفعلون منفردين بسبب همتهم العالية وإيمانهم العميق بمبادئهم ما يعجز عن فعله جماعات من الناس .
فترى في ذاته شخصاً واحداً، ولكنه يعد بألف، طبعاً إنهم قلة، بل من النوادر ، ولكنهم موجودون .
وقد يأتي على رأس هؤلاء الرجال العلماء ، ولهذا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ( لموت قبيلة أهون عندي من موت عالم ) ، وذلك لأن هذا العالم العامل قد يفعل بمفرده ما تعجز عنه قبيلة بأكملها .
وهناك أيضاً من هم على عكس هؤلاء، تفتح عينك لترى ألفا منهم ، ولكنهم بلا فائدة ولا تأثير ، ولا دور لهم في هذه الحياة ، يصدق فيهم قول الشاعر :
إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا
وأما الشيخ عبدالفتاح أبو غدة فقد كان من الصنف الأول .
التربية في الصغر
ولد الشيخ عبدالفتاح بن محمد بن بشير بن حسن أبوغدة في مدينة حلب بسوريا ، في 17 رجب سنة 1336هـ ، الموافق 1917م ، في بيت ستر ودين.
اهتم به والده كثيراً ، وحرص على أن ينشأ ولده على حب كتاب الله تعالى، وعلى التقوى ومجالسة أهل العلم والصلاح ، حتى عرف عنه وهو صغير بحسن السمت وجودة القراءة ( بخلاف الطريقة التي ينشأ عليها للأسف كثير من أبنائنا ) .
يقول الشيخ عبدالفتاح عن نفسه : [[ كنت لحسن قراءتي وسدادها الفطري يدعوني كبار أهل الحي ووجهاؤه إلى سهراتهم الأسبوعية الدورية لأقرأ لهم تاريخ فتوح الشام المنسوب للواقدي ، وغيره من الكتب التي كان الناس يسمرون قراءتها ، فحظيت بصحبة الكبار الوجهاء والنخبة العقلاء الفضلاء وأنا في سن العاشرة ]].(1/2)
وطبعاً هكذا يتخرج الأئمة البارعون ، وهذه الدروس التي علينا أن نستفيدها من سير هؤلاء العباقرة عندما نترجم لهم ، فلا نقرأها بطريقة السرد العادية وكأننا نقرأ مجرد خبر عابر ، نمر عليها مرور الكرام دون أخذ عبرة منها ، (( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون )) ، بل علينا أن نحلل ونفكر ما السر الذي كان وراءهم ؟ وكيف نربي أولادنا لكي يصلوا إلى ما وصل إليه أولئك الأفذاذ .
الحياكة
يقول الشيخ عبدالفتاح : [[ رأى جدي ووالدي بعد أن صلب عودي ، وتكاملت يفاعتي أن أتعلم حرفة أو صنعة ، وقالا لي : صنعة أو حرفة في اليد أمان من الفقر ، ولم أكن في ذلك فقيرا بيسر أسرتي والحمد لله ، ولكن أرادا أن يكون بيدي حرفة خشية تحول الأيام ، وتقلبها على الكرام ، فتعلمت حرفة الحياكة .. ]] .
وهكذا نجد في تراجم كثير من أهل العلم حرصهم على تعلم بعض الحرف اليدوية خشية تحول الأيام، وأنت ترى في ذلك عزة النفس التي يتمتع بها هؤلاء ، فهم لا يريدون أن يكونوا عالة على الناس ، ولا يريدون أن يستغلوا في المستقبل جاههم ومكانتهم لتتدفق عليهم الأموال ، بل هؤلاء يأكلون من عمل يدهم ، ولهذا يسهل عليهم قول : لا ، للظلم . لأنهم تمسكوا بالقناعة التي هي كنز لا يفنى .
رأيت القناعة رأس الغنى فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه ولا ذا يراني به منهمك
أروح وأغدو بلا درهم أمر على الناس مر الملك
فما هي الحرف التي حرصنا أن يتعلمها أبناؤنا ؟ وهل يستطيعون أن يعتمدوا على أنفسهم في كسب لقمة عيشهم ؟(1/3)
نعم ، هناك في مجتمعنا من الآباء من حرص على ذلك ، ولكن هؤلاء للأسف قلة ، وإلا لكنا الآن نعد من الدول الصناعية المصدرة ، ولكننا للأسف نعتبر من الدول (المستهلكة) ، ومن المعلوم أن المستهلك ضعيف ، دائما ينظر إلى غيره من المحسنين ... والسبب الأول وراء ذلك هو نحن، وطريقة تربيتنا لأجيالنا، فإذا كان أحد يلام فإنه (نحن) وليست (أمريكا) التي لسان حالها يقول (( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم )).
وإذا أردنا أن نحلل أسباب الضعف الاقتصادي وتخلف ركبنا فلندرسها بهذه الطريقة بنظرة عميقة ، فوالله لو أننا ربينا أبناءنا على معالي الأمور ومكارم الأخلاق لكنا الآن في القمة .
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
التدريس ...
تخرج الشيخ عبدالفتاح أبو غدة من كلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة 1368 هـ 1948 م ، ثم تخصص في أصول التدريس ودرس التربية وعلم النفس ، ثم رجع إلى بلده حلب سنة 1951 م ، وبدأ عمله مدرسا للتربية الإسلامية في ثانويات حلب ، ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق ، إضافة إلى دروسه وخطبه في المساجد التي كان يحرص على حضورها الآلاف ، بل كان يحضرها غير المسلمين !!
وفي عام 1385 هـ 1968 م طلبه مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ من أجل التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وفي المعهد العالي للقضاء ، وبقي فيها حتى سنة 1991 م ، انتدب خلالها إلى عدة جامعات إسلامية في السودان واليمن والهند وباكستان وغيرها .
كما عين عضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ممثلا علماء سورية خلفا لفضيلة الشيخ حسن حبنكة رحمه الله تعالى .(1/4)
وقد عاش الشيخ عبدالفتاح حياة حافلة بالعطاء ، ولكنها لم تخل من الأذى، وهكذا تجد حياة الدعاة والمصلحين لا تخلو عن عدو يقف في طريقهم ويحاول أن يتصدى لهم ويمنعهم من الوصول إلى بغيتهم ، أو ابتلاءات تظهر من خلالها قوة بأسهم ، وتكشف عن عز جوهرهم ، وذلك لأن هؤلاء الدعاة المصلحين والعلماء المخلصين هم أشد الناس بلاء بعد الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .
فمن أراد أن يسلك دربهم ، وينتهج منهجهم فعليه أن يستعد لتحمل الشدائد والأذى ، فبذلك جرت السنة الإلهية كما قال تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون )) ، وقال : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا )) .
فإذا كان هذا شأن الرسل وهم أحب الخلق إلى الله وأكرمهم فكيف شأن من هو دونهم من الذين يريدون السير على منهجهم .
وراء كل شخصية عظيمة مربٍ عظيم
عاش الشيخ عبدالفتاح حياة حافلة بالعطاء ، ولا شك أن رجلا مثله لم ينشأ من فراغ ، بل كانت هناك عوامل كثيرة أثرت في شخصيته ، وهكذا كل إنسان هناك عوامل كثيرة لها دور في بناء شخصيته وفكره ومنهجه ... وقد يأتي على رأس هذه العوامل والمؤثرات الدور الكبير الذي يؤديه الشيخ أو الأستاذ الذي يحتك به الفرد أو يتأثر به ويتخذه قدوة لنفسه .
وأحياناً قد تكون كلمة واحدة من أشخاص نعتبرهم قدوة لنا لها تأثير عميق في نفوسنا تغير منهجنا في الحياة و تجعلنا نسلك دربا معينا نختاره في طرق هذه الحياة الوعرة .
وإذا كان البعض يقول ( وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة ) فإننا نقول: ( وراء كل شخصية عظيمة مرب عظيم ) .(1/5)
وكذلك كان الشيخ عبدالفتاح أبوغدة التقى بمربين عظماء استفاد منهم وتأثر بهم ، أولهم هو والده محمد بن بشير بن حسن الحلبي الذي يقول عنه الشيخ عبدالفتاح : [[ كان أبي كثير تلاوة القرآن، والمحافظة على قراءته في المصحف ، لم يكن بعالم ، ولكنه يحب العلماء، ويتقصد حضور مجالسهم ودروسهم، والاقتباس من علمهم وإرشادهم، فكان من المتمسكين بحب الدين ، والراغبين في طاعة الله تعالى في مختلف الشؤون ]] ، فمثل هذا الأب المؤمن الصالح ، الصادق المخلص ، المحب للعلم والعلماء لا شك أن أبناءه سيتأثرون به ، لأن الأبوين هما القدوة الأولى في حياة الطفل.
نعم ، قد تتدخل عوامل أخرى خارجة عن دائرة الأسرة مؤثرة في حياة الأبناء ، وربما تكون تأثيرها أكبر من تأثير الأب والأم , وقد يكون ذلك نتيجة إهمال الأب والأم تربية الأبناء ، والأخطر أن يتخذ الابن من أبويه قدوة سلبية .
ويحضرني قول الشاعر :
إذا كان رب البيت للدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
تعلم الشيخ عبدالفتاح من والده حب القرآن الكريم ، وحضور مجالس العلم، واحترام العلم والعلماء ، كما تعلم منه عزة النفس وضرورة الاعتماد عليها في كسب العيش ، فقد سبق وأن ذكرنا أن هذا الأب حرص على تعليم ابنه حرفة يدوية وصنعة التجارة ، كما حرص على أن يلحقه بمدرسة مناسبة ومن ثم إلى الأزهر الشريف .
البيانوني
وأما الأساتذة الذين درس عليهم واحتك بهم وتأثر واستفاد منهم فهم قرابة المائة ، ربما كان أولهم الشيخ الصالح عيسى البيانوني ، وقد تعلق به الشيخ عبدالفتاح واستفاد منه في صغره ـ إضافة إلى علمه ـ خلق الزهد والتواضع ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكره في مجمع علمي بمدينة جدة سنة 1425 هـ عندما طلب منه أن يذكر بعض شيوخه ، فذكر الشيخ البيانوني ، وقال عنه :
[[(1/6)
كان شيخنا من محبي النبي صلى الله عليه وسلم حبا جما جما جما، وكان حبه للرسول صلى الله عليه وسلم يؤثر على مجالسيه ، وكان يدرسنا الأخلاق ، والأخلاق تدرس ، ولكن تدريسها غير تطعيمها ، التدريس سماع الأذن ، والتطعيم إشباع القلب ، ففرق بين الأذن والقلب .
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فكان الشيخ رحمه الله بحاله ومقاله محببا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان سالكا السلوك الصالح التقي النقي مع الزهد والورع والتقوى والحب للخير، والصبر على طلبة العلم ، جزاه الله خيرا ]] . ا هـ
فهل أبناؤنا اجتمعوا بمثل الشيخ البيانوني ، أو قل هل أمثال هؤلاء الشيوخ يوجدون أصلا في مجتمعنا ؟ ! قد يكونون فلو ( خليت خربت ) ، ولكنهم قلة بل أقل من القليل .
وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل
لقد كان الملوك في السابق يحرصون على تسليم أبنائهم إلى مربين ينتقونهم من بين شيوخ البلد وصلحائها ، وقد اشتهر بعض الأئمة في السابق بمؤدب أبناء الملوك .
وهكذا نشأ رجال أمثال صلاح الدين الأيوبي ، والظاهر بيبرس ، ومحمد الفاتح ..
فهل نحن حرصنا على أن نسلم أبناءنا إلى صلحاء أفاضل ننتقيهم من أجل تربية فلذات أكبادنا ؟ أم نكتفي بالأساتذة الذين يعترضون حياة أبنائنا في المدارس أو الجمعيات أو بعض المؤسسات والمراكز .. الذين ربما كانوا هم أحوج إلى التربية والتأديب ؟!
أرى أن هذا جانب مهم جدا أهملناه في تربية الأبناء فعلينا أن نتداركه .
يغلبه البكاء
يقول الشيخ عبدالفتاح : [[ ومن مشايخي الشيخ إبراهيم السلقيني رحمه الله تعالى ، وكان شيخا من الأولياء ، من أهل الصلاح ، ومن الزهد والعلم والتقوى على مرتبة عالية ، وعاش قريبا نحوا من مائة سنة ، كان يدرسنا النحو في ( القطر ) وكان يغلبه البكاء ، فكان حاله ينفعنا أكثر من انتفاعنا بالمواعظ ]] .(1/7)
ولقد صدق والله ، فهناك من الرجال من ينتفع الشخص بحالهم قبل مقالهم، وذلك لأنهم يجسدون الأخلاق الرفيعة عمليا ، فرؤية شخص زاهد متواضع قانع قد تنفع أكثر من سماع خطب ومواعظ كثيرة في الزهد والتواضع ...
فليس من رأى كمن سمع ، وهذا يدل على صدق في التعامل مع الله تعالى، وكم للأسف نرى ونشاهد أناسا كلامهم في وادٍ وأحوالهم في وادٍ آخر ، وكم من الدعاة و الخطباء والوعاظ الذين نعرفهم يتكلمون عن الصدق والإخلاص وعفة اللسان والقناعة في الحياة الفانية ، ولكنهم على خلاف ذلك تماما، فأنى ننتفع بمثل هؤلاء ؟
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنها فأنت حكيم
وكما قال الغزالي : فاقد النور كيف يستنير به غيره ، ومتى يستقيم الظل والعود أعوج !
ومن مشايخه أيضا الشيخ العلامة مؤرخ حلب ومحدثها الشيخ محمد راغب الطباخ ، واستفاد من رؤيته ومن بركته وعلمه كثيرا .
ومن مشايخه أيضا الشيخ محمد سعيد الإدلبي ، وكان هذا الشيخ سهلا هينا لينا بسيطا ، أخذ منه أبو غدة هذه الصفات ، وهكذا على أهل العلم أن يكونوا ، يقول أبوغدة فيه : [[ إنه كان مثل الجمل ، تأخذ الوليدة بعنانه ، فيمشي وراءها ، بسيط جدا جدا ، وأما في العلم فهو بحر واسع المدى والصدى ، وفضله كبير ، وتقواه كثير، وفطرته معلمة رحمه الله تعالى ]].
وطبعا أمثال هؤلاء الأفذاذ الربانيين لا يقارنون أبدا بكثير من المتمشيخين في زماننا ، فشتان بينهما ، وبين ما كانوا يخرجونه من أجيال .
لا تعرضنا لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
وأما أكثر شيخ تأثر به أبو غدة من الناحية العلمية ، وأخذ عنه جرأته وصلابته في الحق ، فإنه الإمام الفذ العبقري الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى علامة الدنيا في عصره ، الذي يقول فيه الشيخ عبدالفتاح:
[[(1/8)
قد شهد له بالإمامة البعيد والقريب ، والصديق وغير الصديق ، لأن الله آتاه علماً وحفظا وفهما وقدرة وأداء ، فكان فيه مجمع خصال فاضلة ، لا تتوفر إلا في عدد قليل من العلماء ، فكان هو مجمع الفضائل ، فلذلك كان ينتفع به علماء الهند وباكستان، والشام والمغرب والأزهر الشريف في مصر ، وكانوا ينظرون إلى هذا الشيخ أنه إمام أهل عصره ومصره رحمه الله تعالى ]] .
وأرجو أن يوفقني الله تعالى لكتابة رسالة خاصة نتجول من خلالها في حياة الشيخ الكوثري ونرى كيف يكون تقلب الزمان على أهله وتجلد العالم الرباني في مواجهة نكبات الدهر .
الوقفة الثانية
أبوغدة والإخوان
الشيخ عبدالفتاح في دروس الثلاثاء
في دراستنا لحياة الشيخ عبدالفتاح نجد أنه كان يعد في فترة من الفترات من رموز جماعة ( الإخوان ) في سورية ، وذلك أن الشيخ التقى أثناء دراسته في مصر بالشيخ الداعية حسن البنا ، وكان حريصا على حضور ( درس الثلاثاء ) الذي كان يلقيه البنا في دار الإخوان المسلمين بالقاهرة .
وهي دروس يصفها من شاهدها بأنها كانت مؤثرة جدا ، تدخل إلى القلب قبل العقل ، يلهب الروح ، وتضع اليد على موضع الداء ثم تصف لها الدواء، وقد اشتهرت تلك الدروس بحديث الثلاثاء وعاطفة الثلاثاء.
يقول أحد الحريصين على حضور درس الثلاثاء واصفا لها :
[[(1/9)
كان هذا اليوم يوم الثلاثاء يوما مشهودا ، يتجمع فيه الآلاف من أنحاء القاهرة ، ومن الإسكندرية إلى أسوان ، بل ومن خارج مصر ، ليستمعوا إلى حسن البنا يصعد المنصة في جلبابه الأبيض ، وعباءته البيضاء ، فيجيل النظر في الحاضرين لحظة قبل أن ينطلق صوت تتمثل فيه قوة العاطفة ، وسحر البيان الذي يصل إلى القلوب ، صوت لا يعتمد على الخطابة ، ولا إثارة العواطف بالصياح ، ولكن يعتمد على الحقائق ، يستثير العاطفة بإقناع العقل ، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ ، وبالهدوء لا بالإثارة ، حتى إن من استمع إلى هذه المحاضرة مرة واحدة لا يسعه إلا المواظبة عليها والحرص على حضورها مهما كانت الشواغل والموانع..]]. ـ من كتاب حديث الثلاثاء ، للأستاذ أحمد عاشور
ولذلك فلا عجب أن يتأثر أبو غدة بتلك الدروس ، وبفكر البنا ، ومنهجه، ودعوته ، ومن سمع خطب الشيخ عبدالفتاح ودروسه ، أو قرأ بعض رسائله يجد فيها روح البنا ومنهجه وكثيرا من أفكاره ، وذلك لأن كثيرا من المصلحين يشتركون في كثير من المبادئ ويتفقون على كثير من الأمور .
ولشدة إعجاب الشيخ عبدالفتاح بمنهج البنا انضم إلى سلك الإخوان ، وكان يعتبر خير من يمثل هذا المنهج كما أراده البنا ذاته، إلى أن تولى منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية سنة 1972 إلى سنة 1976 م، ثم تخلى عنه لما رأى أن الأمور التنظيمية تأخذ الكثير من الوقت ، ولكنه بسبب مرور الجماعة بظروف صعبة وشدة احتياجهم إليه تولى هذا المنصب مرة أخرى .
يقول الدكتور محمد علي الهاشمي ـ وقد كان أحد المقربين من الشيخ ـ :
[[ كانت حركة الإخوان المسلمين هي الحركة القوية التي استرعت انتباهه في مجال البعث الإسلامي ، فارتبط بها ، وأصبح بعد حين من كبار رجالاتها ودعاتها .(1/10)
وسرعان ما وصل إلى القمة ، وانتخبه الإخوان مراقبا عاما للإخوان في سورية ، مع عزوفه عن المناصب ، وإيثاره البعد عن الأضواء ، ليسلم له الوقت الذي يحتاجه للعلم .
ولكن الرياح كانت تجري بما لا تهوى سفنه ، فتمسك به الإخوان ، وألحوا عليه ليبقى في الواجهة القيادية ، وكلفه ذلك من أمره رهقا ....
وتعددت محاولات الإخوان لاختياره مراقبا عاما ، وكان يعتذر ، ويزداد الإلحاح عليه والإحراج ، ولا سيما في الأزمات الشداد ، فيقبل مكرها ، ثم يعود فيعتذر ، لأنه كان يريد الانصراف الكلي للعلم الذي وهب نفسه له ]].
نعم ، من الصعب أن يجمع الشخص بين النبوغ في المجال العلمي ، والنبوغ في المجال الدعوي التنظيمي ، ولكنه ليس مستحيلا إذا كانت الهمة العالية والإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة ، وتنظيم الوقت أساس الانطلاق.
والشيخ عبدالفتاح رأى أنه من الصعب أن يجمع بين التحقيق والتعليم والرحلات العلمية إلى المشرق والمغرب وبين مواجهة الأزمات السياسية والتنظيمية ، فهذا الذي كان يجعله يعتذر عن تولي منصب (المراقب العام) ولكنه في الوقت نفسه كان يعلم أنه في مقام المسؤولية ، فإن العلم للعمل ، والإخوان في نفس الوقت عرفوا قيمة هذا الرجل الفذ النادرة الذي عزف عن الدنيا وأخلص عمله للآخرة ، فهم بحاجة إلى مثل هذا الرجل لتصحيح الأوضاع ، فكان من الصعب أن يفرطوا فيه أو يتخلوا عنه .
فقبل بعد إلحاح شديد تولي المنصب للمرة الثانية لأنه لم يكن يريد أن تفشل المسيرة التي بدأها البنا ، وكان يقول عن هذه الدعوة : ( .. إنها غرسة يد مباركة ، يد الإمام الشهيد حسن البنا ، وهي غرسة يجب أن تستمر .. ) . ـ راجع رسالة : الشيخ عبدالفتاح كما عرفته ، د. محمد علي الهاشمي
يقول الأستاذ سليمان عبدالفتاح أبوغدة مشيرا إلى ذلك :
[[(1/11)
قبل الوالد رحمه الله القيام بذلك المنصب بعد إلحاح شديد ودون رغبة أو تطلع ، لاجئا إلى الاستقالة في أول فرصة ممكنة ، وذلك أن الوالد رحمه الله كان يؤثر العلم والبحث على أي أمر آخر ، فكان أحب وقت إليه وقت يقضيه في تحقيق مسألة أو شرح معضلة أو مذاكرة علم رحمه الله وغفر له ]] .
الشيخ عبدالفتاح عرف ماذا كان يهدف إليه البنا ، وماذا يريد أن يوصله إلى الناس ، لأنه التقى به مباشرة وأخذ عنه ، و في بعض رسائله وتحقيقاته العلمية نلاحظ أنه استفاد مما كتبه رجال الإخوان وقرأ لهم ، فعلى سبيل المثال يقول في كتابه ( صفحات من صبر العلماء ، صـ 230 ) بعد أن ذكر أن أحد أهل العلم لقي من الشدة في بعض أسفاره لطلب العلم ما جعله يشرب البول !!
قال : [[ قد يستغرب مستغرب وقوع شرب الإنسان بول نفسه ، ولكنه ليس بغريب ، ويقع في بعض الأحيان لأفراد من الناس ، في ظروف قاسية ملجئة كما في هذا الخبر .
وليقرأ من يستغرب اليوم ذلك : الفصل التاسع من كتاب ( البوابة السوداء ) لأحمد رائف ، الذي يتحدث فيه عن حاله في الحبس الوحشي الذي لقيه هو و( إخوانه المسلمون ) في سجون مصر ! يقول في هذا الكتاب صـ 120 : (.. وفي هذه الليلة المباركة ! شربت البول لأول مرة في حياتي ! ولم يكن طعمه مريحا على أية حال ..). ]].
وكتاب ( البوابة السوداء ) من أشهر الكتب للجيل الأول من الإخوان ، و الشيخ عبدالفتاح قرأه واطلع عليه مع أنه ليس كتابا علميا في الفقه أو الحديث أو الأصول ... وذلك لأن العالم يجب أن يكون واسع الاطلاع ، وخاصة إذا انتمى إلى جماعة فإن عليه أن ينتمي على أساس القناعة الذاتية ووضوح الصورة لديه .(1/12)
وأما اليوم فقد اختلف للأسف حال كثير من المنتسبين إلى الجماعات والمؤسسات ، بل حتى الطالب في المدرسة ليست لديه صورة واضحة عن الهدف من مجيئه ، وكيف عليه أن يؤدي دوره ووظيفته ، وكذلك شأن الكثير من المؤسسات الأخرى . فهم لا يعرفون ما الذي أراده قائدهم منهم ، وتصور معي أن الجندي لا يعرف ماذا يريده القائد وإلى أين يريد أن يتجه! فما الذي سيحدث ؟ لا شك أنه سينحرف عن المسيرة .
وكما قلنا فإن الشيخ عبدالفتاح تأثر كثيرا بأسلوب البنا وطرحه ، وأعجب بدعوته فانضم إليها عن بصيرة وقناعة ، وأصبح يعد من جملة رجال الإخوان .
الاختلاف لا يفسد الود
وربما كان أجمل ما تعلمه أبو غدة من منهج البنا أو وافقه عليه هو: احترام المخالف في الفكر ، والاستماع إليه ، وعدم التجني عليه بالقول أو بالفعل ، وأن الاختلاف لا يفسد الود والمحبة ، وهذا هو الأمر الذي نلاحظه جليا في كثير من رسائل البنا ، ويحاول جاهدا أن يزرع في الجيل الإسلامي هذا المبدأ ، مبدأ ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) .
وهذه العبارة كررها البنا كثيرا في رسائله ، حتى ظن البعض أنها له وإنما هي للشيخ رشيد رضا ، وقد ذكر ذلك الشيخ عبدالفتاح في رسالته ( نماذج من رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي ، صـ 62 ) حيث قال :
[[ وما أحسن قول الأستاذ العلامة الكبير الشيخ رشيد رضا المصري رحمه الله تعالى : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) وحدود هذا القول مدركة للعلماء البصراء والعقلاء النبهاء ، فلا تحتاج إلى بيان . ]] . اهـ .
وهذا مبدأ إسلامي أصيل ، نص على معناه كثير من فقهاء الشريعة الإسلامية ، ولكن الجهل أنسى الناس وأبعدهم عن كلام فقهاء الإسلام .(1/13)
وبالأمس كنت أقرأ في كتاب ( عمدة السالك للإمام شهاب الدين أحمد بن النقيب المتوفى سنة 769 هـ ) ـ وهو كتاب مختصر في الفقه الشافعي ـ جاء فيه مبينا سنة عيادة المريض :
[[ .. ويعود المريض ولو من رمد ، ويعم بها العدو والصديق ، فإن كان ذميا فإن اقترن به قرابة أو جوار ندبت عيادته وإلا أبيحت .. ]].
فتأمل أخي الكريم روعة هذا الكلام المذكور في كتاب مختصر من كتب فقه الشافعية ، فهو يريد أن ينشئ الطلبة المبتدئين على هذا المنهج وهذا المبدأ ، فالخلاف في الفكر لا ينبغي أن يفسد الود ، بل حتى لو كان المخالف من أهل الذمة ( مسيحيا أو يهوديا ) فإنه يجوز الذهاب إليه ومواساته بل قد يندب ، فما أعظم هذا الكلام وما أجمل هذا الفقه الأصيل .
وأما اليوم فهناك من المسلمين من يعيش بيننا وقلبه مليء بالحقد على أخيه المسلم ، وأعرف من لا يرى حتى إلقاء السلام على أخيه لأنه ليس على منهجه !!!
وقبل فترة وصلني شريط كتب عليه ( مشروع التوحيد أولا ) جاء فيه أن مجرد زيارة أهل الذمة والتواصل معهم يعتبر قادحا من قوادح التوحيد ونواقضه !! كما جاء فيه أن التصوير الفوتوغرافي وسيلة من وسائل الشرك !!
والمصيبة أن مثل هذه الأشرطة توزع في كل مكان ، على الصغير والكبير، فأين هذا المنهج البعيد عن روح الشرع الذي يحاول البعض للأسف أن ينشره في مجتمعنا وأين ذاك المنهج السامي الذي قرره لنا فقهاء المسلمين الجهابذة من أن الاختلاف لا يفسد الود ؟!
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
أدب الخلاف ...
منهج طالما حاول الشيخ غرسه في نفوس الطلبة.
الاختلاف في الرأي لا يفسد الود ، لقد كان هذا المبدأ من المبادئ التي حاول الشيخ عبدالفتاح غرسها في المجتمع عامة ، وبين طلبة العلم خاصة، فالدعوة تكون بالحكمة ، وإذا كان من الواجب أن نجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن فما ظنك بمناقشة المسلمين ؟(1/14)
ولكن ما نشاهده الآن للأسف بين بعض الناس المنتسبين إلى العلم الشرعي خلاف ذلك ، فيزرعون في المجتمع بذور التعصب والتطرف والبعد عن السماحة والمعاملة الحسنة ، فهم شعب الله المختار ، وغيرهم من أهل الضلال والنار !!!
وهذا الذي ننكره وينكره العقلاء ، ولكنه للأسف واقع نشاهده ونتلمسه ، فيجب الوقوف في وجه من يحمل هذه الأفكار المفرقة وقفة جادة وعلى العقلاء إطفاؤها قبل تطاير شررها .
أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
وليس من الضروري أن نقضي على جميع الخلافات ، فهذا أمر قد لا يمكن ، ولكن ما نستطيع زرعه في المجتمع هو ( أدب الخلاف ) و ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) ، وهذا الذي سعى الشيخ عبدالفتاح لنشره وتنشئة الجيل عليه .
وفي سبيل تحقيق ذلك خرج لنا أبوغدة كتابين يبين فيهما ما ينبغي أن يكون عليه المسلمين عامة و أهل العلم خاصة في المسائل التي يختلفون فيها مع بعضهم ، فحقق الشيخ رسالة ( الألفة بين المسلمين ) لابن تيمية ، وكتابه الآخر هو (نماذج من رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي ، وطائفة من أخبار السلف في أدب الخلاف وفي الحفاظ على المودة عند الاختلاف) يقول فيها :
[[ في هذه الرسائل نماذج حسنة لأفكار علماء القرن الثاني ومحاوراتهم في بعض المسائل الاعتقادية وطائفة من المسائل الفروعية ، ونماذج لأدبهم واحترام بعضهم لآراء بعض ، وفيها أيضا أمثلة رائعة لما كان عليه السلف من الحفاظ على التواد والتآخي مع اختلافهم في المسائل العلمية ، وشدة المراعاة للألفة والمحبة بينهم ، مع إظهار ما يراه كل واحد أنه الحق الذي ينبغي المصير إليه .(1/15)
وفيها أيضا أمثلة حية تعبر عن منهج السلف في البحث عن المسائل العلمية من التناصح بقرع الحجة بالحجة من غير إغلاظ في القول ولا انتقاص في التعبير ، مع الاجتناب والبعد التام عن السب والشتم والتسفيه والتجهيل ، والتفسيق والتبديع والتضليل ، إذ كانوا يعرفون حق المعرفة أن المسائل الاجتهادية لا تتخذ مثار شقاق وتفريق ، ولا مثار جدل وتعنيف ]] . اهـ
كما قال في مقدمته لهذا الكتاب :
[[ وقديما قبل 30 سنة كنت أردت أن أنشر هذه الرسائل في مجموعة لتكون درسا لأهل العلم والناشئة في عصرنا هذا ، وتعليما لهم منهج الأئمة السلف الصالحين وأدبهم الجم في اختلافاتهم العلمية ... ]]
ويقول الشيخ عبدالفتاح بعد أن أورد نصا لابن قتيبة ـ فيه أن سبب تشتت المسلمين وضعفهم هو بعدهم عن أدب الخلاف وظهور فئات مغالية في التكفير والتبديع ـ :
[[ قف أيها القارئ الكريم عند هذا الكلام وتأمل فيه طويلا ، ثم وازنه بما تراه في هذه العصور المتأخرة من الإكفار واللعن ، والتبديع والتضليل ، اتكاء على الخلاف في المسائل الاجتهادية الفروعية ، أو جزئيات المسائل العقدية ، وقل ما أشبه اليوم بالأمس ]].
وقال في رسالته ( كلمات في كشف أباطيل وافتراءات ) :
[[ ليس تكفير الناس فضلا عن العلماء من شيمتي ولا خلقي والحمد لله ، فقد حفظني الله تعالى بما أكرمني به من عقل ، وما أدبني به من أدب الإسلام : أن أقع في هذه المكفرات والموبقات ، فإنه من كفر مؤمنا فقد كفر]] .
وكثير من رسائل الشيخ تشتمل على مثل هذه المعاني التي يحاول جاهدا إيصالها إلى الناشئة وتربيتهم عليها ، وما أحوجنا نحن إلى تعلم ذلك ونشره في المجتمع .
الوقفة الثالثة
الشيخ عبدالفتاح وحرصه على تربية الناشئة والطلبة
ومن الجوانب الأخرى التي ينبغي الوقوف عندها وتأملها في حياة الشيخ عبدالفتاح أبوغدة حرصه الشديد واهتمامه الكبير بتربية الناشئة والشباب وغرس الأخلاق والمبادئ السامية فيهم .(1/16)
ولهذا أحب الشيخ وظيفة التدريس ، وهي الوظيفة التي اختارها وبرع فيها سواء في المدارس أوالجامعات ، إضافة إلى دروسه في المساجد .
وقد كان يركز على أمور معينة يراها مهمة جدا في حياة الفرد وتكوين شخصيته ، من ذلك وجود القدوة الصالحة والتي يسميها علماء التربية بـ ( النمذجة ) .
وهذا الذي جعل الشيخ عبدالفتاح يؤلف كتابه الرائع الممتع ( صفحات من صبر العلماء ) وهو أروع ما كتب في بابه وقد جمعه في عشرين سنة ، وكذلك كتابه ( العلماء العزاب) ، بل وفي كثير من رسائلة وتحقيقاته نراه يسهب في تراجم بعض الأفراد بأسلوب تحليلي دقيق ونظرة فاحصة ، وذلك للاستفادة منهم والسير على منوالهم .
فيقول في مقدمة تحقيقه كتاب ( رسالة المسترشدين ) :
[[ وقد جبلت القلوب على حب تقليد الصالحين والسير على منوالهم ، وعلى الرغبة في التأسي بهم والاقتداء بأفعالهم ، فلذا تراني أوردت في تعليقاتي من أقوال ووقائع العلماء والصالحين ، والعابدين والمجاهدين ، والزهاد والصابرين : ما يدفع بالمؤمن الموصول بإيمانه إلى أن يتأسى بهم، ويتشبه بسيرتهم ، ويعمل بعملهم ، وأن يزداد قوة وشكيمة في دينه وجهاده وصبره وبلائه ، وأن يكون خير خلف لخير سلف ، وكما قيل :
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ومجالسة الصالحين ، أو سماع أخبارهم ، أو قراءة وقائعهم وسيرهم ، من أهم مقاصد الحياة عند العقلاء الصلحاء ، فما تحبب الدنيا للعاقل إلا لتكميل صفاته ، وتكثير حسناته ، وتزوده منها لآخرته ..(1/17)
وقد حرصت أن تتضمن تلك الوقائع والشواهد والأخبار ، كثيرا من الأمور الهادفة التي يحتاجها شبابنا وبناتنا في البيت والمجتمع ، من التوجيهات الغالية ، والأفكار الهادية ، والأخلاق الواعية ، لتكون لهم عونا في حضرهم ، وزادا معهم في سفرهم ، فما أحوج الطالب الشاب الأعزل الغريب ، المحارب بالمغريات من كل جانب ، مع دفع تيار المجتمع الذي يعيش فيه إلى الانسياق والانخراط في كل شيء ! ما أحوجه أن تغذى فيه العقيدة المؤمنة ، ويذكى فيه الخلق المسلم ، ويشب فيه العمل الصالح في الجو الفاسد ، ويذكر بسيرة السلف الأبرار، ليحفظ نفسه بتقدير الله تعالى بما يحيط به .
فما أشد حاجة الشاب المؤمن في غربته إلى مثل هذا الزاد الروحي السليم ، ليتغذى به كل يوم غدوة أو عشيا ، فيبقى محافظا على شخصيته المؤمنة من أن تذيبها بهرجة الحضارة الفاتنة الخلابة ، ويسلم من التردي في مساوئ أخلاق أهلها ، التي تبدو زينتها وتخفى محنتها .. ]] . انتهى
كما ركز الشيخ عبدالفتاح على تنمية الروح وتزكية النفس ونشر الأخلاق والآداب الإسلامية الرفيعة التي نسيت بسبب العصر المادي ، وكان من أروع ما أخرجه من المصنفات المختصرة في ذلك رسالته النافعة ( من أدب الإسلام ) ، وتحقيقه كتاب ( رسالة المسترشدين ) ، و ( عنوان الحكم ) ، وغير ذلك .
ويقول في تحقيقه ( رسالة المسترشدين ) : [[ من أشد ما يحتاجه الناس في هذا العصر العناية بالروح ، والفهم للدين ، والعمل به ]] .
ثم يقول في التحذير من الدنيا :
[[ مفاتن الدنيا براقة خلابة ، تجلب لك الغفلة عن عاقبتك ، وتنسيك ما أنت صائر إليه ، فالعمل على تحصيل أسباب التيقظ لازم لك لسلامتك من دار الغرور ]] .
فمثل هذه الكلمات والمعاني تجدها في أكثر رسائله ومؤلفاته ، وفي هوامش كثير من رسائله العلمية التي يحققها ، مما يدلك على مدى تركيزه و حرصه على إرشاد القراء وطلبة العلم إلى العناية بالجانب الروحي والخلقي .(1/18)
الوقت هو رأس مال الإنسان .. فهل معك كتاب ؟
( قيمة الزمن عند العلماء ) .. هذا عنوان رسالة ألفها الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى ، و كتب على غلافها :
الوقت أفضل ما عنيت بحفظه وأراه أرخص ما عليك يضيع
وقد بين فيه أهمية الوقت ، وكيف علينا أن نستفيد منه لأن كل ساعة بل كل دقيقة بل كل نفس جوهرة ثمينة لا تقدر بثمن ، فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك .
قال رحمه الله تعالى في تحقيقه ( رسالة المسترشدين ) :
[[ إذا كنت في مجلس وطال ، فشعرت بفراغه من الخير فقم عنه لسلامتك، ولا تطل جلوسك فيه ]] .
وقال معلقا على كلام المحاسبي ( وحصل الأوقات ) :
[[ أي اكتسب الأوقات ، ولا تضيعها فارغة من غير أن تملأها باستفادة أو إفادة ، وخاصة إذا كنت طالب علم ، فالوقت هو رأس مالك .
ولقد كان مؤرخ بغداد ومحدثها الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه . كسبا للوقت في أثناء المشي ]]. ثم أورد قصصا أخرى في حرص أهل العلم على الأوقات ثم قال :
[[ وسامحني أيها القارئ فقد أطلت عليك في هذه التعليقة ، ولكن أرجو أن ينفعك الله بها لتعرف قيمة الوقت ، فإنه أرخص ما يكون عند الجهال ، وأغلى ما يكون عند العلماء والعقلاء ، فهو قوام علمهم وعماد حياتهم ]] .
وكان أبوغدة هو خير مثال يقتدى به في تنظيم الوقت والاستفادة منه ، فمن يقرأ ترجمته يستغرب كيف استطاع شخص واحد مثله أن يوفق بين أعماله الكثيرة من الدعوة إلى الله تعالى ، وتوليه التدريس ، والخطابة ، ورقابة الإخوان ، إضافة إلى رحلاته الكثيرة إلى الهند وباكستان ودول الخليج والشام ومصر و المغرب والدول الغربية مع كثرة قراءته ، وتخريجه هذا الكم من الرسائل والمؤلفات المفيدة مع التحقيق المتقن الذي عرف عنه ، مع حرصه الشديد على الإكثار من العبادة والذكر .
فهذه البركة في الوقت لا يوفق إليها إلا قلة من الرجال ، وقد كان رحمه الله تعالى منهم .
يقول عنه ابنه سليمان :
[[(1/19)
وكان خدناً للقرآن ، له ورد صباحي يومي ، لا يدعه إلا مضطرا ، مع إكثاره من الأذكار والأوراد ، فلا تجده جالسا بدون عمل علمي من تأليف أو تحقيق أو تعليم أو مذاكرة أو إفتاء ، إلا وجدته يسبح ويحمدل ويهلل ويكبر ]].
ثم قال عنه : [[ وكان قليل النوم ، يستكثر ساعات نومه مع قلتها ، وكان في شبابه يواصل اليوم واليومين ، كما ذكر لي عدة مرات ...
فهو حريص على وقته أشد من حرصه على ماله ]].
وحدثني بعض طلبة الشيخ الذين كانوا برفقته في بعض أسفاره أنه حتى عند نومه لم يكن يفارق الكتاب ، فكان عندما يذهب إلى فراشه يأخذ الكتاب ويقرأ فيه إلى أن يغلبه النوم.
وكثيرا ما كان يراه طلابه وقد أخذه النوم وهو جالس على الكرسي والكتاب مفتوح أمامه !!
ويقول تلميذه الشيخ مجاهد شعبان رحمه الله :
[[ كان الشيخ لا يفارقه الكتاب في حضر ولا سفر ، حتى وإن كنا في السيارة داخل شوارع البلدة ، فكان يسألني قبل أن يخرج من البيت : هل معك كتاب ؟ وما هو ؟ حتى أثناء السفر يطلب مني أن أقرأ داخل السيارة ، وأثناء توقفنا ، حتى في المطعم والناس من حولنا ...
نزلنا لنتناول طعام الغداء في أحد مطاعم منطقة القساطل ، وما إن جلسنا حتى التفت الشيخ قائلا: أين الكتاب ؟ قلت : حتى هاهنا يا مولاي ؟ قال : ما المانع .
وكان معنا جملة من الكتب منها كتاب ( الكامل للمبرد ) فأحضرته من السيارة ، وأخذت بالقراءة ، وأخذ الشيخ بالشرح والتقرير ، والناس على سفرهم من حولنا .. ]].
طلبة اليوم و طلبة الأمس !!!
وكان رحمه الله تعالى يتأسف كثيرا لأحوال كثير ممن يدعون الانتساب إلى العلم كيف يضيعون أوقاتهم ويهدرونها هدرا ، وكم كان يقارن بين طلبة الماضي وطلبة هذا العصر ويذكر الفارق الكبير بين الفريقين ويقول: ( إننا في زمن أوتي الطلبة من الكسل والتواني أضعاف ما أوتي أجدادهم من الجد والاجتهاد ) .(1/20)
وقد بين في كتابه ( صفحات من صبر العلماء ) كثيرا من هذه المفارقات ، فيقول في موضع منه :
[[ كانت تلمذة الطلبة على الشيوخ عند المتقدمين : أربعين سنة ، وعشرين سنة ، وعشر سنين ، والطالب عالم جد عالم ، ومجلس الدرس طول النهار أو أكثره أو ربعه ، لا خمسين دقيقة أو خمسا وأربعين دقيقة ! فغدا أولئك الطلبة أئمة بملازمة الأئمة .
أما اليوم فالدراسة أشهر محدودة ، ودقائق معدودة ، ومن الصحف والكراسات الصماء ، يتلقون منها دون مناقشة أو فهم أو هضم ، والحضور بين يدي العلماء مفقود ، والدعاوي عريضة ، والألقاب أعرض! والعلم يشتكي إلى الله تعالى من أكثر هؤلاء المنتسبين إليه المتاجرين به]].
وقال في نفس الكتاب صـ 375 :
[[ شهدنا في هذه الصفحات المفارقة الكبيرة بين حالنا اليوم وحال طلاب العلم في القديم ، فقد كانوا يضربون آباط الإبل ، ويقطعون الفيافي والقفار في الليالي والهواجر مشيا على الأقدام ، ويقعون في المتاعب والمهالك حتى يلقوا عالما ، أو يسمعوا محدثا أو يأخذوا عن فقيه أو يتلقوا من أديب.
كل ذلك يكون منهم وهم صامتون ، فلا تشهد منهم غرور المغرورين ، وانتفاخ المدعين ، الذين اغتروا بالشهادات والألقاب ، كالذي ابتلى به بعض الناس اليوم .
واليوم والحمد لله تيسرت السبل ، ولانت الوسائل ، ودنا القاصي والبعيد ، وطويت أبعاد الزمان والمكان ، ومع هذا اليسر كله : ونت الهمم ، وفترت العزائم ، وضعف الإنتاج ، وغاب النبوغ ، والحال في العلوم الإسلامية وأهلها إلى ما ترى .
ومع هذا كثر في الناس اليوم المدعون ، أصحاب التعالم ، الذين همهم إظهار علمهم وتعالمهم ، وتجهيل السلف ، وادعاء الاجتهاد بكثرة الشطط والشذوذ ورغوة الكلام ، ظنا منهم أن الرغوة في الكلام ، والتعالم وكثرة التجريح والتقبيح : عنوان التفوق العلمي على من تقدم ومن سيأتي ! ]] .
و قال في صـ 376 ، واصفا حال كثير من المتخرجين من الجامعات اليوم:
[[ ..(1/21)
وأنصف وصدق بعض المعاصرين ، إذ حكى حاله عند بدء دخوله الكلية ، وعند انتهاء دراسته فيها :
ودخلت فيها جاهلا متواضعا وخرجت منها جاهلا مغرورا
وفي رواية : وخرجت منها جاهلا دكتورا ..
ولقد ظن أولئك النفر الذين منحوا تلك الألقاب : شراء ، أو استجداء ، أو استغلالا لمنصب تسلقوه دون استحقاق ، أنهم بمجرد منحها لهم قد حصلوا العلم ، وخرجوا من الجهل ، فاللقب هو المهم ، وقد فازوا به ! ]].
وأعرف حال كثير من المحسوبين على طلبة علوم الشريعة يقضون أوقاتهم في اللهو واللعب ، وربما فاقوا غيرهم في عشق المباريات والأفلام والمسلسلات ، وخاصة أثناء سفرهم إلى خارج البلاد حيث لا رقيب ولا حسيب ، بل وربما يقضون غالب أوقاتهم بين النوم واللعب والمجمعات والسياحة .. ثم يتخرجون ويحملون شهاداتهم الشرعية !!.
ومع هذا التقصير العجيب تراهم يغترون بشهاداتهم وينتفخون ويضعون أنفسهم في مصاف أولئك الأئمة الذين احترقوا في طلب العلم وبذلوا فيه الغالي والنفيس .
فهذا حال بعض طلاب العلم الشرعي اليوم ، كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ، وكم أتألم حقيقة عندما أرى مثل هؤلاء يحتلون المناصب الشرعية فمنهم من يعظ ، ومنهم من يخطب ، ومنهم من يؤم الناس ، ومنهم من يدرس ، ومنهم من يقضي ويفتي ، ومنهم من يظهر عندنا على شاشات الإذاعة ، وقد يعتبره العوام من علماء العصر وهو خاو لا بضاعة له في العلم بل كل فنه أن يستعد قبل المقابلة والتصوير بشهر أو أكثر أو أقل ويحفظ ما يريد أن يقوله بعبارات رنانة ، وإشارات متصنعة يغتر بها المشاهد المسكين .
وقد رأيت مرة استعداد بعض هؤلاء المتعالمين وهو يجمع بعض العبارات من هنا وهناك من ( مواقع الانترنت ) ، لأنه سيكون عنده لقاء بعد شهر على الهواء مباشرة في قناة من القنوات وهو لا يعرف أبسط قواعد الإعراب فكان يسأل من بجانبه : هل الاسم بعد ( كان ) يكون منصوبا أو مرفوعا ؟!
وحال بعضهم حقيقة يصدق فيها قول القائل :(1/22)
رأيت جرذا يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله .. يصفق الذباب !!!
وإذا كان هذا حال كثير من المحسوبين على طلبة العلم الشرعي ، فكيف حال غيرهم ، فالله المستعان .
والأغرب أن أمثال هؤلاء هم الذين يبرزون عادة ، ويحتلون المناصب الحساسة غالبا ، بسبب ما يتمتعون به من نفوذ و ( واسطات ) اكتسبوها بسبب سياستهم في التعامل وتنازلهم عن مبادئهم في سبيل مصالحهم !!
الوقفة الرابعة
الشيخ عبدالفتاح في مواجهة المحن
ولست أبالي حين أُقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
لقد مر الشيخ العلامة عبدالفتاح أبو غدة بمحن كثيرة ، وكشرت الدنيا له عن أنيابها ومخالبها ، وانقلبت به الحال في كثير من الأوقات ولكنه واجه كل ذلك بالصبر الجميل ، والعزم القوي ، والثقة الكاملة بالله سبحانه.
فكم واجه من المتاعب أثناء سفره لطلب العلم ، من ذلك نفاد نفقته أكثر من مرة ، يحكي بعضها في كتابه ( صفحات من صبر العلماء ) فيقول :
[[ وقد وقع للعبد الضعيف جامع هذه الصفحات نفاد النفقة أكثر من مرة ، ومنها أثناء دراستي في كلية الشريعة في الجامع الأزهر بالقاهرة ، فقد أبطأت نفقتي علي من أهلي في حلب ، وأصبحت يوما ولم يبق معى سوى 13 قرشا مصريا، وكان اليوم يوم الخميس ولم أفطر بعد ، فذهبت إلى الكلية على غير طعام ، ولما عدت منها مررت بالمطعم ودخلته للغداء قبل ورود الآكلين ، فتسابق إلي النُدل - خدم المطعم ـ استئناسا منهم بمظهري العلمي الشامي ، وكل منهم يبدي الاهتمام بي بغية إكرامه بشيء.(1/23)
ولما جلست للطعام تظاهرت بالمرض ، وأنه لا يواتيني من الطعام سوى الحساء ( الشوربة ) مع الخبز ، وهو أرخص الطعام في ذلك المطعم. ثم خرجت من المطعم على بقية جوع حسنة ، وبقي لدي عشرة قروش ، وما أن وصلت إلى الغرفة التي أسكنها واستقررت فيها ، حتى أرسلت جارة لي ولدها تقترض مني خمسة قروش، فأقرضتها، وبقي لدي خمسة قروش، ونمت كما أنا دون أن آكل شيئا ، على أمل أن أفطر فولا في الغد صباح الجمعة ، فيقوتني إلى آخر النهار، ويبقى من القروش بقية]].
فسبحان الله ، وهو على هذه الحالة يقرض غيره ، فما هذا الإيثار ، يا ترى كم من طلبتنا اليوم هكذا ؟ بل كم من رجالنا ومشايخنا ؟
ثم يكمل القصة بعد ذلك ويقول إنه في اليوم الثاني يأخذ منه أحد زملائه ما بقي له من نقوده دون رجعة ، فيبقى إلى اليوم الثاني دون أن يأكل شيئا !!
ثم يأتيه الفرج ، فيقول : [[ وبقيت دون طعام إلى صباح يوم السبت، فذهبت إلى الكلية وعلائم الجوع والتأثر بادية على وجهي ، فقال لي بعض زملائي الحمويين: ما بك ؟ قلت : لا شيء ، قال : لا بد ، فإني أرى وجهك ذاويا متغيرا فأخبرني ، وأصر علي بإخباره ، فأخبرته بجوعي منذ يومين ، فأخذني لمنزله وأضافني أكرمه الله ، وأقرضني من نفقته حتى جاءت نفقتي، وأوسع الله علي وذهبت الفاقة ]] .
وقال في الهامش عند ذكر واقعته هذه :
[[ أذكر واقعتي هذه هنا وأخواتها بعدها على استحياء من السادة العلماء الذين دونت بعض أخبارهم في هذه الصفحات ، فإن واقعاتي ليست بشيء في جنب ما وقع لهم ، رحمهم الله وأثابهم ورضي عنهم ، فأذكرها بناء على ما قيل : ( لابد في حضرة السادات من الخدام ) ]] .
فانظر معي إلى هذا الأدب الرفيع ، وهذا التواضع غير المصطنع .(1/24)
وانظر إلى حالنا وطريقة التربية والتنشئة في مجتمعاتنا وكيف أن هناك محاولات من غير علم لإبعاد الناشئة عن خلق التواضع ، فانظر كم من الدورات التي تنظم من قبل المؤسسات الدعوية تحت عناوين ( كيف تقود الناس ) ، ( علم القيادة ) ، ( أنت صاحب القرار وبيدك الاختيار ) ... الخ
وإذا علمنا الكل علم القيادة وأن عليهم أن يقودوا غيرهم فمن يبقى حتى ينقاد يا ترى ؟!
وللأسف أن كثيرا من هذه الدورات تغرس في المشترك حب الظهور والسيطرة ، وكم كنت أتمنى أن نرى دورات بعنوان ( كيف تتواضع )، (كيف تطيع ) ...
وفي قراءاتي لكتب الأخلاق والسلوك التي ألفها كبار أئمة الإسلام ، لا نجد فصلا في كيفية القيادة والزعامة ، وإنما نشاهد تركيزهم على آداب أخرى مثل ( الخدمة ) ، ( التواضع ) ... ومثل هذه الآداب هي التي تخرج لنا القائد الناجح ، فنرجوا من التربويين ومن مؤسسي تلك الدورات أن ينتبهوا إلى هذا الجانب ولا يغفلوه .
شراء الفاكهة أم شراء الكتب ؟
مما يواجه كثيرا من أهل العلم ويلازمهم في حياتهم ( الفقر ) ، ولكن فقر العلماء فقر اختيار لا فقر اضطرار .
ومعنى ذلك أن هؤلاء لو اتجهوا إلى التجارة والسعي وراء الغنى لكانوا يصلون إلى ذلك بسهولة ، فهم أصحاب عقول كبيرة وهمم عالية ، ولكنهم لو فعلوا ذلك وشغلوا وقتهم وفكرهم بذلك لفاتهم كثير من العلم ، ولهذا كان فقرهم فقر اختيار ، وكانوا يقولون : لا ينال هذا العلم إلا بالفقر .
إضافة إلى أنهم كانوا يبذلون كل غال ونفيس في سبيل تحصيل العلم ، فهو أغلى عندهم من المال .
قلت للفقر أين أنت مقيم قال لي : في عمائم الفقهاء
إن بيني وبينهم لإخاء وعزيز علي ترك الإخاء
يقول ابنه سليمان أبوغدة :
[[ وقد أملق والدي رحمه الله بعد وفاة والده رحمه الله تعالى حتى مر به يوم وهو لا يملك إلا اللباس الذي عليه ، كما أنه منع نفسه من الفاكهة في أثناء الطلب بمصر حتى يشتري بثمنها كتبا عوضا عنها ]] .(1/25)
ولست أبالي حين أُقتل مسلما ...
ومن صنوف الأذى والابتلاء ما واجهه الشيخ بعد دخوله المجال السياسي، حيث انتخب عضوا في المجلس النيابي بسورية في سنة 1962م، وكان انتخابه نائبا عن مدينة حلب بأكثرية كبيرة ، على الرغم من تآلب الخصوم عليه من كل الاتجاهات والملل .
قال د. محمد الهاشمي في كتابه ( الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كما عرفته ) :
[[ .. وللشيخ مواقف أخرى كثيرة في خطب الجمعة تصدى فيها للطغاة ، وأسمعهم كلمة الحق التي ينبغي أن يصدع بها العالم الداعية .
كان يطرح في هذه الخطب على آلاف المصلين قضايا الإسلام والمسلمين، متصديا للدكتاتورية والاستبداد ، مفندا دعاوى العلمانية والتغريب ، ويضيق المستبدون ذرعا به ، وتصله تهديداتهم بين حين وآخر ، فكان يجيبهم عليه بجرأة العالم المسلم الداعية المجاهد :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي ]].
وفي سبيل نشاطه الدعوي وحمل لواء الإصلاح السياسي دخل السجن الحربي في سورية من سنة 1965م حتى 1967 م ، ثم رحل إلى المملكة العربية السعودية ، وأثناء غيابه صودرت مكتبته العظيمة بما فيها من نفائس المخطوطات والمطبوعات .
وأهل العلم وعشاق الكتب يعرفون ما معنى أن يفقد العالم مكتبته ، فإنها مصيبة رهيبة ، حتى قالوا : العالم يبيع ثيابه ولا يبيع كتابه .
ولم يسلم الشيخ من الإيذاء حتى في المملكة ، حيث قام بعض المخالفين له الفكر الحاقدين عليه بمحاولة تشويه سمعة الشيخ وصورته في الأوساط العلمية ، وكان سبب ذلك أن الشيخ عبدالفتاح عندما كان مدرسا بكلية الشريعة بالرياض سنة 1390 هـ ، أرادت الكلية أن تقرر على طلابها بعض الكتب بتحقيق بعض المعاصرين ، وطلبت من الشيخ عبدالفتاح أن يذكر رأيه في ذلك ، فقام الشيخ عبدالفتاح برفض هذا الكتاب ، وبين أن المحقق ابتعد فيه عن المنهج العلمي وفيه ما لا يصلح من تعد على الأئمة .(1/26)
عند ذلك قام محقق الكتاب ومن يؤازره بهجوم شنيع على الشيخ عبدالفتاح، ورميه بأمور باطلة من أجل تشويه صورته ، والحط من مكانته ، وعند ذلك قام الشيخ بإخراج رسالته ( كلمات في كشف أباطيل وافتراءات ) يقول فيها عن أولئك القوم :
[[ .. نبزوني بأشنع الأوصاف المقدعة .. وقد كانوا سمعوا مني هذا الرأي والنقد مرات كثيرة في سنوات سابقة ، فلم يكن منهم معي خصومة ولا مقاطعة ، فلما قدمته لعمادة الكلية اتخذوه سببا وقاموا بهذا الرد الشنيع والهجوم العنيف والعداء الصارخ ... ]]
ويقول صـ 4 : [[ قام بعض الناس خارج المملكة من أصحاب الأغراض السيئة والطوايا المنحرفة الكائدة ، معروفين بأعيانهم ، مدفوعين بأغراضهم، قاموا بطبع بعض الكتب والنشرات والمقالات والمقدمات والرسائل للنيل مني والإساءة إلي ، والطعون بشخصي وعلمي ، وديني وخلقي وعقيدتي بأسماء صريحة حينا وبأسماء منحولة مستعارة حينا آخر..
وقد نسبوا إلي في تلك الكتب والمنشورات المتعددة : المزاعم الباطلة ، وقالوا علي الزور والبهتان ، واختلقوا على لساني ما طاب لهم من الافتراءات والأكاذيب ...
ولا أظن أن أهل العلم ممن لهم صلة بهم يرضون عن صنيعهم في تشويه الكتب بأمثال تلك التعليقات الباطلة والمشحونة بالإقذاع والسباب ، بل لابد أن يردعوهم ويبينوا لهم أن كتب العلم لا تتخذ وسيلة للشتم والدس والتزوير والعداء ، بالإضافة إلى أن ذلك يسيء إلى العلم وأهله وكتبه ، كما يشين خدمة العلم التي يتظاهرون بها ]] .(1/27)
فتحمل الشيخ كل ذلك ، وكان يسير في طريقه سير المؤمن الواثق بربه ، المدخر لآخرته ، العالم أن الدنيا دار فناء ، ودار اختبار ، والمرء عليه أن يستغل وقته فيها ولا يضيعه في العداوات والمشاحنات ، فلا طائل من وراء ذلك ، والعفو والصفح عن المسئ أفضل عند العاقل ، هذه طريقة (أبوغدة) وطريقة كثير من شيوخه الذين تأثر بهم ، وطريقة البنا في البناء بل هكذا نهج القرآن (( فمن عفا وأصلح فأجره على الله )) .
قال الشيخ عبدالفتاح في تحقيقه رسالة المسترشدين صـ 90 معلقا على قول المحاسبي : ( وخذ بحظك من العفو والتجاوز ) ما نصه :
[[ يشير المؤلف أنك إذا وقعت في خصومة مع إنسان ، فالعفو والتجاوز خير لك مردا من الاستمرار واللدد في الخصومة . وقد صدق رحمه الله تعالى ، فإن الخصومة تمحق الدين ، وتشغل العقل ، وتقتل طمأنينة القلب والخاطر، وتقض المضاجع ، وتجعل سويداء الإنسان جحيما دائم الاستعار والاتقاد ، فالعفو والتجاوز ـ وإن صاحبه هضم وغبن ـ أغنم حظا ، إذ يقضي على هذه الآثار كلها ، ويعوض بدلا منها الراحة والسكينة والفضل والإحسان . ]] .
وقال الشيخ عبدالفتاح في رسالته ( الكلمات صـ 46 ) :
[[ ولي أسوة حسنة فيما نالني منهم من الأذى والبهتان والدس والافتراء ، والإثارة والاستعداء بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه بما رمي من الكفر والردة وهدم الإسلام والتلاعب بالدين .. ]] .
وإضافة إلى كل ذلك فقد ابتلي الشيخ في صحته وعافيته ، وهي من أعز ما يملكه الإنسان ، كل ذلك وهو يصبر ويحتسب الأجر ، ولسان حاله يقول :
إن كان عندك يا زمان بقية مما تهين به الكرام فهاتها
يقول ابنه سليمان واصفا حال والده الشيخ عبدالفتاح وذاكرا بعض ما أصابه في بدنه :
[[(1/28)
وكان يألم ويحترق على مآسي هذه الأمة وأحوالها ، وقد فقد سمعه بأذنه اليمنى بعد أن زاره شخص وحكى له عن مآسي المسلمين في بلد من البلدان، فحزن حزنا شديدا ، وبات ليلته مهموما ، وفي اليوم التالي شعر بدم يسيل من أذنه ، ثم ذهب سمعه .
وكم وكم أرق الليالي حزنا وتفكيرا بأحوال المسلمين .
ولقد ابتلاه الله بعد فقد سمعه في أذنه اليمنى بضعف بصره في عام 1410هـ ، فما رأيته شكى أو تشكى ، ولا ثناه ذلك عن الإنتاج العلمي ، بل تجمل بالصبر والتسليم ، والمثابرة على التأليف والتحقيق ، مخافة أن يدركه الأجل ولم يخرج ما في صدره من الكتب .
ثم في آخر حياته وقبل أربعة أشهر من وفاته أصيب بانفصال الشبكية في عينه اليمنى ، وفقد بصره فيها ، ثم أجري لها عملية جراحية لم تكلل بالنجاح ، وإنما أعقبته ألما شديدا في عينه ورأسه ، وصفه : كرمي السهام.
فما سمعته صرخ أو تأوه ، وإنما كان يقول إذا اشتد الألم كثيرا جدا : يا الله ! لا إله إلا الله ! ... ]] .
ما أقوى تحملك وجلدك يا سيدي الشيخ عبدالفتاح ، وكأنك تقول كما قال الشاعر أبو المظفر الأبيوردي :
تنكر لي دهري ولم يدر أنني أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الدهر كيف اعتداؤه وبت أريه الصبر كيف يكون
الوقفة الخامسة
الشيخ عبدالفتاح كلما ازداد علما زاد تواضعا
قالوا : العلم ثلاثة أشبار ، من دخل في الشبر الأول اغتر وتكبر ، ومن دخل الشبر الثاني علم أنه لا يعلم شيئا فتواضع ، وأما الشبر الثالث فلن يبلغه أحد.
ومما ينسب إلى الإمام الشافعي في هذا المعنى :
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي وإذا ما ازددت علما زادني علما بجهلي(1/29)
والشيخ عبدالفتاح أبو غدة كلما ازداد علما زاد تواضعا ، وهي الصفة التي اشتهر بها عند القاصي والداني ، وأكدها كل من ترجم له وكتب عنه ، وهذا ما نلاحظه في كثير من كتاباته ، ومن مظاهر ذلك أنه في كتاباته وتحقيقاته وتعليقاته ابتعد قدر الإمكان عن ضمير المتكلم ، فلا تراه يشير إلى نفسه في تعليقه بكلمة ( أقول ) أو ( قلت ) أو ( أنا ) وما شابهها ، وذلك لأنه لم يكن يرى لنفسه مقاما يستحق أن يشار إليه ، وبدلا من ذلك يقول ( قال عبدالفتاح ) هكذا يذكر اسمه ، وقد رأيته في موضع واحد فقط من تعليقاته استخدم كلمة ( نحن ) ، فقال بعد أن تكلم عن أثر الذنوب في حياة الإنسان وأطال في ذلك :
[[ معذرة من هذه الإطالة ، فإنها في السعي من النجاة من أكبر داء : الذنوب ، ( ونحن ) الضعاف نذنب كثيرا ، ونعصي كثيرا ، فنحتاج إلى أن نشحن بالموعظة شحنا ، لعلنا نكف عن الذنوب ، ونتوب إلى علام الغيوب]] .
وكان في كثير من المواضع ينبه طلبة العلم أن عليهم بالتواضع، وترك التكبر، وعدم الاغترار بالنفس، ومن ذلك قوله في كتابه( صفحات من صبر العلماء / 386) :
[[ إذا صادف أنك ألفت كتابا أو كتبت بحثا أو حققت مسألة فلا تظنن بنفسك أنك بدء تاريخها وأبو عذرتها ونابط وجودها ، فهذا الذي من الله عليك به ـ إن كان كما رأيته صوابا سديدا ـ : قد استندت فيه إلى جهود الأولين وإلى نبوغهم وتفانيهم في العلم ، جمعا وتنسيقا، وضبطا وتحقيقا ، فلولاهم ما كنت شيئا ما ، وهم بعلمهم وفضلهم وصبرهم وآثارهم راشوا جناحيك ، وبصروا عينينك ، وفتحوا أذنيك ، وسددوا عقلك وفهمك ، فأنت حسنة من حسناتهم ، شعرت أو لم تشعر ...(1/30)
فحذار أن تتعالى على المتقدمين والسابقين فيما تكتب ناسخا ماسخا مختلسا مؤلفا ، وترى نفسك أنك أتيت بشئ فات الأوائل ولم تستطعه الأواخر ، فلا تنزل ( نا ) و ( نحن ) من لسانك وقلمك وذهنك ، فتصاب بمرض نون الجماعة ، كما هي حال من ترى من زعانف الفارغين ، وطحالب التافهين المتعالمين ! ]].
ولقد صدق ، فما أكثر الزعانف الفارغين والطحالب التافهين المتعالمين المغترين بأنفسهم في كثير من مجتمعاتنا ، يكلمونك كما يكلم السيد عبده ، وكأنهم يقولون لك : اعرف من أنا ، ومن أكون ... أصابهم داء إبليس ، وعدوى ( أنا خير منه ) .. فلا أدب ولا احترام ، والأغرب أن يكون كذلك من ينتسب إلى العلم وأهله ممن له حظوة أو منصب ، ممن ينبغي أن يقال له :
قلت للمغرور لما قال مثلي لا يراجع
يا قريب العهد بالمخـ ــرج لم لا تتواضع
الشيخ عبدالفتاح محققا ومحبا للكتب
وأما أهم الجوانب العلمية التي نراها في الشيخ عبدالفتاح أبوغدة فهو تحقيقه للرسائل والكتب ومنهجه في ذلك ، والذي فاق فيه غيره ، ولا نعلم من أهل عصره من ينافسه في طريقة تحقيقه وتعليقه على الكتب التي يقوم بإخراجها ، فهو محقق العصر بلا نزاع .
ومن الأسباب التي كانت وراء نبوغه في التحقيق أنه كان ينظر إلى الكتاب نظرة مختلفة ، فالكتاب شيء نفيس جدا ، فهو جهد الكاتب وخلاصة فكره وسهره وتعبه ، ولذا يجب أن يخدم خدمة بالغة ، وطبعا ليس كل كتاب يستحق هذه الخدمة ، بل كم من الكتب التي هي فقط خسارة للحبر والورق وحقها التلف والحرق .
يقول الشيخ عبدالفتاح في كتابه ( صفحات من صبر العلماء ) :
[[ والكتب من حياة العالم تحل منه محل الروح من الجسد ، والعافية من البدن ]] ثم قال : [[ وهي مع هذه المنزلة العالية والحب الشديد في قلب العالم تكون عند بعض الزوجات أنكى من الضرة ، وآلم من الصداع الدائم للرأس ]] .
وقال بعد ذلك مبينا لذة العالم واستئناسه بالكتب :
[[(1/31)
العالم النابه العاقل الصادق مع العلم والتحصيل وإبلاغ الأمانة إلى من بعده يأنس بالكتب ، ويستوحش من الناس ، وما يعدل بلذة الجلوس مع الكتاب شيئا ، ويرى الازدياد من العلم والمعرفة حقا عليه لله تعالى وللناس وللدين ولمتعة عقله وقلبه .
ومن المؤسف أن كثيرا من المنتمين إلى قبيل العلماء اليوم ، إذا أحرز الواحد منهم شهادة أو أدرك منصبا أو نال وجاهة قل إقباله على العلم والازدياد منه ! وتراه يكبر في منصبه ، ويصغر ويضمر منه العلم حتى يكاد يضمحل ، وتراه يسعى إلى لقاء الناس ، ولا يبالي أن يقضي معهم الساعة والساعتين والثلاث في محادثات خاوية ، وأحاديث بالية ، ويصبح همه الارتقاء في الرتب والرواتب والزعامة لا في تنمية العلم وتوثيقه وتفتيحه وتعميقه فإنا لله ]] .
والكتب ليست للزينة ، وإنما للقراءة والاستفادة ، وقد أجاد الشيخ في ذلك ، فكان الكتاب رفيق دربه في حضره وسفره ، وحتى عند نومه وأكله ترى الكتب بالقرب منه ، وهكذا كانت كتاباته وتأليفاته وتحقيقاته ، وكأنه خلق للقراءة والكتابة والتحقيق ، وكثيرا ما كان يعلق على كتبه ويضيف بعض الفوائد .
يقول ابنه سليمان :
[[ وكان جلدا على العلم قراءة ومطالعة وتأليفا ، لا يغادره القلم والقمطر في حله وسفره وصحته ومرضه ، وقد ألف وأنهى بعض كتبه في أسفاره الكثيرة كما دون في مقدمات بعض كتبه ، وقبل دخوله المستشفى بيوم كان ـ وهو يعارك الآلام ـ يضيف في كتابه الماتع ( الرسول المعلم وأساليبه في التعليم ) كما كان يكثر السؤال وهو في المستشفى عن ( لسان الميزان ) كما أنه كتب مقدمة ( لسان الميزان ) قبل عشرين يوما من وفاته !! ]] .(1/32)
فالكتب كانت من أغلى الأشياء في حياة الشيخ عبدالفتاح ، وكان حريصا جدا على اقتناء الكتب التي يراها قيمة ونادرة ، ليس من أجل تكديسها ، بل من أجل العناية بها والسهر عليها وخدمتها وتحقيقها ثم إخراجها إلى القراء ، وكم سافر إلى المشرق والمغرب من أجل الحصول على كتاب ربما بحث عنه سنين طويلة إلى أن حصله .
ولنتأمل بعض كلامه لنعرف شغفه بالكتاب ، فيقول في كتابه ( صفحات من صبر العلماء ، صـ 278 ) :
[[ قال العبد الضعيف مؤلف هذه ( الصفحات ) : كنت في أيام الطلب والتحصيل مملقا كأكثر طلبة العلم ، وكنت أشتري من الكتب ما أستطيع شراءه بالاقتطاع من نفقتي الضيقة بالنقد الحاضر أو بالدين الآجل إذا أمكن.
وعرضت لي يوما بعض كتب نادرة تهمني جدا ، ورغبت في اقتنائها ، ولكني كنت في إملاق شديد، فلا سبيل إلى شرائها ، وقلق قلبي وخاطري من جراء ذلك ، فبعت ( شالتي ) التي ورثتها من أبي رحمه الله تعالى في ( سوق الحراج ) ، واشتريت تلك الكتب ، وأرحت قلبي وخاطري ، وفرحت باقتنائها ووصولي إليها فرحا عظيما أنساني فقد الشالة والحمد لله.
وكنت في بعض الأحيان أنذر لله تعالى صلاة كذا وكذا ركعة ، إذا حصلت على الكتاب الفلاني ، ووقعت لي واقعة في شأن الحصول على كتاب ، أسجلها هنا استطرادا لطرافتها :
لما كنت في القاهرة أيام دراستي في كلية الشريعة بالجامع الأزهر ، أوصاني شيخنا العلامة الإمام محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى ، خلال ملازمتي له باقتناء كتاب ( فتح باب العناية بشرح النقاية ) للعلامة الشيخ علي القاري .... وقد مكثت في القاهرة ست سنوات حتى إنهاء دراستي أسأل عنه ، وأنشده في كل مكتبة أقدر وجوده فيها ، فلم أظفر منه بخبر ولا أثر ..... ]] .(1/33)
ثم يذكر أنه رجع إلى الشام والكتبية فيها وظل يبحث عنه في كل مكتبة وكل بلدة، حتى سافر إلى مكة المكرمة للحج، وهناك أخذ يسأل عنه أيضا، حتى دلوه على شخص بخاري عنده هذا الكتاب، ولكن لا يعلم مكانه ومستقره.. قال الشيخ :
[[ فصرت في أثناء طوافي حول الكعبة المعظمة زادها تشريفا وتعظيما أطلب من الله تعالى أن يرشدني إلى ذلك الإنسان ، وييسر لي اقتناء هذا الكتاب ، وصرت أكرر هذا الدعاء والطلب مرات تلو مرات ، ومضى أسبوع وأنا في تشتت بال من حال البحث عن الكتاب وصاحبه ... ]].
ثم يذكر كيفية العثور على منزل هذا البخاري ولقائه وشراء الكتاب منه : [[ فذهبت إليه مرة بعد مرة ليلا ونهارا ، حتى لقيته ، فتنازل لي عن الكتاب بالثمن الذي اختار وأحب ، فكانت عندي فرحة من فرحات العمر]].
وهذا الكتاب تراه الآن موجودا في المكتبات في أحسن حلة بتحقيق الشيخ عبدالفتاح ، وقد بذل فيه ما بذل ، فجزاه الله خيرا عن العلم وأهله .
ومن الكتب التي كان يبحث عنها طويلا حتى وجدها وحققها وأخرجها للناس ، كتاب ( التصريح بما تواتر في نزول المسيح ) ، للمحدث الكبير الشيخ محمد أنور شاه الكشميري الهندي ) ، حيث بحث عنه خمسة عشر سنة ، ويذكر قصته مع هذا الكتاب في مقدمة الكتاب ، وقد قرأه في مطار كراتشي على شيوخ تلك الديار الذين جاؤوا لتوديعه فتأخر موعد إقلاع الطائرة .. !!
فسبحان الله ، ما هذه الهمة العالية ، وما هذا النفس الطويل ، والصبر الجميل ، فهذا الكتاب الذي هو مجلد واحد والذي لو رآه الناس لزهدوا فيه، ولو خيرت أكثر الناس بين أن تقدم لهم هذا الكتاب أو زجاجة عطر لاختاروا الثاني ، فهل يستحق كل هذا العناء ؟!
طبعا إنه يستحق ، ولكن لا يعرف ذلك إلا أهله ، وإنهم قلة .
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها(1/34)
ولذلك كان الشيخ رحمه الله تعالى يبذل كل جهده في خدمة الكتب وتحقيقها وإخراجها ، وكان التحقيق أحب إليه من التأليف ، ويقول إن العالم الإسلامي مليء بالمخطوطات التي كتبها جهابذة العلماء ولم تخرج إلى النور بعد ، وكان يقول : ( إتمام بناء الآباء خير مائة مرة من إنشاء البناء من الأبناء ).
ثلاثة أشهر يبحث عن تصحيح كلمة واحدة !!
وكان مدققا جدا في التحقيق ، وضبط الألفاظ وتصحيحها ويعمل جهده في ذلك . فيذكر الأستاذ محمد عوامة أنه دخل على الشيخ عبدالفتاح يوما فرأى الغرفة مفروشة بالكتب ، لا يكاد يجد الرجل مكانا للجلوس فيه ، فسأل شيخه قائلا : خيرا إن شاء الله! فقال : ( مرت بي كلمة في هذا الكتاب ، ومنذ ثلاثة أشهر وأنا أتعب في الكشف عنها ، وقد انكشفت الآن والحمد لله ، ولذلك جئت بالكتب إلى هنا واحدا بعد واحد ، وكشفت فيها كلها عن موقع هذه الكلمة منها ) .
فتأمل أخي إلى هذا النفس الطويل ، والصبر العجيب من أجل تصحيح كلمة واحدة في كتاب ، فسبحان واهب الهمم .
الوقفة السادسة
الشيخ عبدالفتاح يودع الدار الفانية
كم يا أبي لك من يد عندي وكم لك من أثر
أنت الذي ربيتني ورعيتني منذ الصغر
وأفدتني العلم الذي هو كنز مالي المدخر
هذي عوارفك الحسان وتلك أيديك الغرر
هي يا أبي دين علي أرده عند الكبر
بهذه الكلمات العذبة رثاه ابنه سليمان أبو غدة ، وقد صدق فيها ، فعلينا أن نرد الديّن الذي علينا تجاه كل صاحب فضل من أب ومرب ومدرس وغيرهم ....
في شهر شعبان 1417هـ ، الموافق 1996م شعر الشيخ بضعف شديد في نظره ، فعاد من حلب إلى الرياض ليستأنف علاجه ، وفي أواخر رمضان من العام نفسه اشتكى الشيخ من ألم شديد ، فأدخل على إثره مستشفى الملك فيصل التخصصي ، وتبين أنه ناتج عن نزيف داخلي بسبب مرض التهابي، وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد التاسع من شوال 1417هـ ، الموافق 16 من شباط 1997 م عن عمر يناهز الثمانين .(1/35)
مع المحبرة إلى المقبرة
والغريب أنه حتى في أيامه الأخيرة لم يترك العلم والتحقيق ، بل ضرب أروع المثل في ذلك ، جعلنا نتذكر قول الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة.
فكان يسأل وهو على فراش الموت عن بعض الكتب والرسائل ، ويطلب من ابنه أن يقرأ عليه .
يقول سليمان ابن الشيخ عبدالفتاح :
[[ من أواخر ما قرأته عليه ترجمة الإمام القدوة الفذ عبدالله بن المبارك رحمه الله من كتاب ( سير أعلام النبلاء ) للحافظ الذهبي وهو على فراش المرض في مستشفى العيون ، فلما شرعت في أولها ، ورأى طولها أحالني على آخرها وطلب مني قراءة أبيات قالها بعضهم في رثاء ابن المبارك وتوقف عندها رحمه الله وقدس روحه ، وفي هذه الأبيات موعظة لأولي الألباب ، وهي :
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظا وليس بناطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه غافلا إذا هي جاءت من رجال الحقائق..]].
رحمك الله تعالى رحمة واسعة فقد كنت من رجال الحقائق ، الذين علموا وعملوا ، وبنوا فأتقنوا البناء ، وخدموا فأحسنوا الخدمة ، وعرفوا أن الدنيا لا تساوي شيئا فتوجهوا بكل همتهم نحو الآخرة .
لا تركنن إلى القصور الفاخرة واذكر عظامك حين تمسي ناخرة
وإذا أتتك زخارف الدنيا فقل : يا رب ، إن العيش عيش الآخرة
ويقول ابنه سليمان في مقدمة كتاب ( لسان الميزان : 7 ) مبينا ما الذي عاناه والده في تحقيق هذا الكتاب :
[[ أذكر قوله لي وهو طريح الفراش في مستشفى العيون بشأن إحضار نسخة ابن قمر التي هي مسودة الحافظ ابن حجر للكتاب : لا تهتم بأمر التكلفة، فإنه ينبغي إحضارها مهما كلفت .
وتعدد سؤاله ـ وهو على فراش الموت ـ عن وصول تجارب الكتاب ، أملا منه أن يقوم بالإشراف على تصحيحه ، وأن ينظر فيه النظرة الأخيرة، كما هي عادته في كتبه رحمه الله وغفر له ]] .(1/36)
ويعتبر كتاب ( لسان الميزان ) تأليف شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني من أعظم وأكبر المراجع في علم الرجال وأكثرها فائدة ، لا يستغني عنه طلاب الحديث، وقد قام بالعناية به وتحقيقه الشيخ عبدالفتاح أبوغدة خير قيام ، وكان يصف هذا الكتاب بأنه ( عمل عمره ) ، وانتهى منه قبيل وفاته بأيام . وقد علق ابنه سليمان عند ذكره مقدمة والده لهذا الكتاب :
[[ تأمل رحمك الله أنه كتب مقدمته قبل عشرين يوما من وفاته ! فهي كتابة من كان يعاني الآلام ويتحرق على كتابة كلمة أو سطر زيادة في خدمة الكتاب !! ]] .
وقد انتهى الشيخ من هذا الكتاب ـ الذي كان يعمل على تحقيقه أكثر من عشر سنوات بتاريخ 1/9/1417هـ، وكانت وفاته بتاريخ 9/ 10/1417هـ فانظر إلى الهمم ماذا تصنع وماذا تنتج .
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
ونرى عناية بالغة من الشيخ عبدالفتاح في تحقيق هذا الكتاب ، وفيه من تعليقاته النفيسة النادرة ، سواء العلمية أو الأدبية أو التربوية الكثير .
من ذلك أنه عندما ذكر في الكتاب قول الإمام مالك : ( لا تحمل العلم عمن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم ) علق عليه الشيخ عبدالفتاح في الهامش قائلا : [[ لقد اتصف بهذا الذي ينهى عنه الإمام مالك كثير أو الأكثر اليوم ! بل اتصفوا بأطم منه ! فتلقوا عن الصحف أو عن الصحيفة وقعدوا يصححون ويضعفون ، ويبدعون ويضللون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ]].
وقد كان الشيخ كثيرا ما يحث على الهمة العالية ، وأن طالب العلم عليه أن لا يتوقف إلى أن يصل إلى مطلوبه ، ولا ييأس مهما واجه من الصعاب ، ومن جميل عباراته ورشيق كلماته في بيان هذا المعنى كما في كتابه ( صفحات من صبر العلماء ، صـ 368 ) :
[[(1/37)
طالب العلم إذا بذل جهده في الطلب والتحصيل، وتحمل المشاق والمتاعب، وغالب الصعاب والعقبات ، لا يخيب الله مسعاه ، ولا يهضم الناس حقه ، ولا يتخلف عنه التفوق والنبوغ ، فالنبوغ صبر طويل ، كما قال الهذلي :
وإن سيادة الأقوام فاعلم لها صعداء مطلعها طويل
أما من ترجى الأماني ، وصاحب التواني ، واستروح الراحة ، واستحلى الرفاهية، واستلذ المطاعم ، واستجمل الملابس ، واستحب النوم الطويل، وشغلته تقلبات الفصول عن الأخذ والتحصيل ، فما أبعد العلم منه ، وما أنفره عنه ، كما قال الإمام ابن فارس :
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى ؟! ]] . اهـ
ومع ذلك فكم من الكتب التي أراد الشيخ أن يحققها ويخرجها ولكن الأجل كان أسرع إليه ، وقد كان يقول كثيرا : يموت طالب العلم وفي قلبه مائة إن شاء الله ، وأنا أموت وفي قلبي ألف إن شاء الله .
يشير بذلك أن هناك كتبا كثيرة كان يريد إخراجها وتحقيقها إذا كان في عمره بقية .
قال ابنه سليمان : [[وقد توفي رحمه الله عن عدد من الكتب في المطبعة ، وكتب أخرى لم تدفع إليها ، وكتب كانت في صدره ولم يقم بها كاملة، رحمه الله وأقر عينه بخروجها، وهو القائل: يندر أن يموت العالم دون أن تكون في صدره حسرة على كتب لم يخرجها ]] .
ولكن طوبى للشيخ عبدالفتاح الذي كان آخر ما قام بإخراجه من الكتب هو كتاب ( لسان الميزان ) الذي ألف في خدمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
مات رحمه الله تعالى بعد أن نطق بالشهادتين، وكانت أصبعه السبابة مرتكزة على الوسطى، كحال المرء لما يتشهد، وبقيت على ذلك حين تغسيله ودفنه .
وحمل جثمانه إلى الطائرة الخاصة التي قدمها الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض ، لنقله إلى المدينة المنورة ، حيث صلي عليه في المسجد النبوي الشريف ، ثم دفن في البقيع بجوار المصطفى صلى الله عليه وسلم.(1/38)
فطوبى له ثم طوبى، ذهب وما زال حيا، تشعر به وتسمعه وتتعرف عليه عندما تنظر في رسائله الفذة الفريدة، فأهل العلم الذين خدموا الشرع لا يموتون .
فإذا أردت أن تستمع إليه وتشم روائح أنفاسه العطرة فمتع ناظريك فيما تركه لنا من مؤلفات وتحقيقات مثل : ( صفحات من صبر العلماء ) ، ( العلماء العزاب ) ، ( الرسول المعلم ) ، ( من أدب الإسلام ) ، ( قبسات من نور النبوة ) ، و ( قيمة الزمن عند العلماء ) وغير ذلك من النفائس .
غفر الله له وقدس روحه وجزاه خيرا عن العلم وأهله ، وأسكنه الفردوس الأعلى بجوار النبي صلى الله عليه وسلم .(1/39)