نظرات في فكر ومنهج محمد عابد الجابري ؟!
د.محمد محمود كالو
محمد عابد الجابري (ولد في فجيج سنة 1936 م) أستاذ الفلسفة و الفكر العربي الإسلامي في كلية الآداب بالرباط . حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة في عام 1967 وحصل على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس - كلية الآداب عام 1970، يشغل حالياً منصب أستاذ في الفكر الفلسفي والإسلامي في جامعة محمد الخامس في المغرب.
له أكثر من 30 كتاباً تدور حول قضايا الفكر المعاصر، حصل على جائزة بغداد للثقافة العربية من اليونسكو عام 1988 والجائزة المغربية للثقافة في تونس عام 1999، يعتبر د. الجابري من أهم المفكرين المغربيين الذين تركوا بصمة واضحة في الفكر العربي المعاصر.
وهنا نود أن نسلط الضوء على بعض آرائه ومنهجه :
1 ـ حكم المرتد :
يقول محمد عابد الجابري : حكم المرتد على المستويين : أما المستوى العام فحرية الاعتقاد، وهو موقف واضح تبينه الآيات التالية: قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"؟ (يونس 99) وقال: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف 29) . وقال: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة 256).
هذا عن حرية الاعتقاد على المستوى العام، أعني اعتناق الإسلام ابتداءً. أما مسألة "المرتد"، وهو الذي يعتنق الإسلام ثم يرتد عنه إلى اعتقاد آخر، فهي مسألة تقع على مستوى الخاص وهو قسمان خاص ، وخاص الخاص:(1/1)
أما على المستوى الخاص فالمرجع فيه هو جملة آيات هي قوله تعالى: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 217)، وقوله: "كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ" (آل عمران 86-87). وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً" (النساء 137). في جميع هذه الآيات نجد أن حكم المرتد، كما يتحدد في سياقها، هو لعنة الله، غضب الله، جهنم... وليس القتل، وأكثر من ذلك فباب التوبة مفتوح أمامه.
هذا في القرآن، أما في الفقه، فحكم المرتد هو القتل كما هو معروف. ويستند الفقهاء في ذلك إلى حديث نبوي يقول: "من بدَّل دينه فاقتُلوه". فكيف نفسر هذا الاختلاف؟
( علماً أن الجابري يستبعد صحة هذا الحديث لأمور منها :
1 ـ لأن القرآن لا يشهد له بالصحة، لأن القرآن وضع للمرتد عقاباً أخروياً فقط.(1/2)
2 ـ بوسع المرء أن يشم في الرواية التي أوردها البخاري وهي المشهورة، شبهة سياسية، لا لوم للبخاري عليها ما دام قد قصر مهمته على اعتبار السند لا غير، هذه الشبهة هي ما نسب لابن عباس من أنه قال لعلي لما أحرق الزنادقة : لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذِّبوا بعذاب الله". ولقتلتُهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه". هذه الرواية لا تذكر من هم هؤلاء الزنادقة! وهو قول فيه طعن صريح في تصرف علي. وسواء نطق ابن عباس بهذه العبارة أو نسبت إليه، فهي عبارة زائدة لا موجب لها (اللهم إلا إذا كانت وراءها دوافع سياسية أو مذهبية".
3 ـ هناك شبهة أخرى تتعلق بأحد شروط رواية الحديث وهي البلوغ. كان ابن عباس طفلاً عمره ما بين العاشرة والخامسة عشرة، يوم توفي النبي عليه الصلاة والسلام، وخصوصاً أنه يروى عن نفسه أنه قال: "مات النبي وعمري عشر سنين"، ومعلوم أن سن البلوغ هي ما بين السابعة عشرة والثامنة عشرة. )
يقول الجابري : لنستبعد الشك في صحة الحديث المذكور، فقتال المرتدين زمن خلافة أبي بكر واقعة تاريخية لاشك فيها. ولكن لابد من التمييز بين المرتد الذي يغير دينه كشخص ليست له أية دوافع أخرى غير اقتناعه الشخصي الديني، وحكمُه، كما ورد في الآيات السابقة، عقابٌ أخروي لا غير.
أما المرتد بدافع خارجي، خارج مجال الاعتقاد المحض، فشيء آخر، وهذا ما عنيناه بـ"خاص الخاص" في هذه المسألة. ذلك أن المرتدين الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه بوصفه رئيساً للدولة لم يكونوا مجرد أشخاص غيروا عقيدتهم، بل كانوا أناساً أعلنوا التمرد على الدولة، فامتنعوا عن دفع الزكاة ، بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إذ نظموا أنفسهم للانقضاض عليها. فـ"المرتد" بهذا المعنى هو من خرج على الدولة، إسلامية كانت أو غير إسلامية، "محارباً" أو متآمراً أو جاسوساً للعدو... الخ.(1/3)
وإذن فحكم الفقه الإسلامي على "المرتد" بهذا المعنى ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد، بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، وضد التواطؤ مع العدو أو التحول إلى لص أو عدو محارب.
وللرد على هذه الفكرة :
أولاً: إن من الواضح أن قتل المرتد لا يمكن أن يكون عقوبة على الفكر في ذاته وتركه للدين الإسلامي، بدليل أن غير المسلمين من اليهود والمسيحيين الأصليين قد كفل لهم الإسلام حرية العقيدة وحمايتها، من غير إكراه ولا تضييق. ويتعين حينئذ أن يكون هذا القتل عقوبة على الخيانة الكبرى والمكيدة الدينية التي قام بها المرتد حين أدعى الدخول في الإسلام زوراً وبهتاناً ثم أعلن خروجه منه قصداً للإساءة إليه، والطعن فيه، وانضم إلى صفوف أعدائه الماكرين الذين يحاربونه بجميع الوسائل، ومنها الدعاية أو ما اصطلح على تسميته في العصر الحاضر بالحرب النفسية والمعنوية.
وهذا هو ما يقرره القرآن الكريم ويحكيه عن اليهود في صدر الدعوة الإسلامية، إذ كانوا يتخذون من إعلان الدخول في الإسلام، والانضمام ـ نفاقاً ـ إلى صفوفه، ثم المسارعة إلى الخروج منه، وسيلة للكيد والأضرار بالدعوة الإسلامية، ومحاولة لصد الناس عن الأيمان به، ولا خراج المسلمين منه ورجوعهم عنه.
يقول الله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل أن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (سورة آل عمران/ 72-73).(1/4)
ويُروى في سبب النزول عن ابن عباس أن عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف، قال بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بها انزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن دينهم فأنزل الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون، وقالت طائفة من أهل الكتاب..) (سورة آل عمران/71-72).
كما يُروى أن بعض أهل الكتاب قالوا: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار واكفروا آخره فأنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم فيها ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.
ثم يُروى أن أحبار قرى عربية ـ وكانوا اثني عشر ـ قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمداً صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا أنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمداً كاذب وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون فيقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟! بل أنهم فعلوا ذلك ولم يقفوا عند القول فقط، فقد روى ابن جرير أن بعض اليهود صلوا مع النبي صلاة الصبح وكفروا آخر النهار، مكراً منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منا الضلالة بعد أن كانوا قد اتبعوا. ( انظر : تفسير المنار جص333 وتفسير الجلالين جص152 والكشاف جص328).
ويظهر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فأنها قد تخدع الضعفاء كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم، وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له ( انظر : تفسير المنار جص333 ).(1/5)
نعم لا يكاد يوجد مسلم حقيقي يرتد عن دينه بعد أن ذاق حلاوته وسمو مبادئه، سواء أكان إسلامه أصلياً أم طارئاً، واستقراء الحوادث قديماً وحديثاً يؤيد ذلك.
ولا تثور قضايا الردة ـ في العصر الحاضر ـ إلا بالنسبة لصورة أخرى من صور الخداع والتحايل، ففي بعض البلاد الإسلامية لوحظ أن بعض الناس يعلنون إسلامهم، لدنيا يصيبونها، أو امرأة يتزوجونها، أو يطلقونها، فيعلن أحدهم الإسلام حتى يطلق زوجته التي لا يسمح له دينه بطلاقها، أو رغبة في الزواج بامرأة لا يسمح لها دينها بالزواج منه مع البقاء على دينه، أو جرياً وراء ميراث، حيث يعتبر اختلاف الدين مانعاً من موانعه بين المسلمين وغيرهم.
ويجري العمل قضاء على الاعتداء بهذا الإعلان، عملاً بالظاهر، والله وحده هو الذي يتولى السرائر، فقد روي أن أسامة ابن زيد قتل في ميدان الحرب رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله، فقال أسامة: لقد قالها تحت حر السيف، فقال الرسول: هلا شققت عن قلبه؟
وهؤلاء يتخذون الأديان هزواً ولعباً إذ يستمرون على ولائهم لدينهم الأصلي، ثم يعلنون العودة إليه بمجرد تحقيق أغراضهم وشهواتهم، أو يأسهم من تحققها، آمنين من العقاب على هذا العبث والتحايل.
ثانياً: أن قتل المرتد حينئذ، وهو عدو للدولة الإسلامية التي تستند إلى الرابطة الدينية الإسلامية بين أهلها، لا يتعارض مع الحرية الدينية، كما أن المعاقبة على جريمة الخيانة الوطنية لا يتعارض مع الحرية المكفولة للمواطنين بمقتضى الدساتير، ففي الحرية التزام بالنظام العام الذي تقوم عليه الدولة وعدم الخروج عليه.
ومن صور الخروج على الدولة الإسلامية ونظامها العام ما حدث من المرتدين في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد ارتدوا بصورة جماعية، وأنكروا أحد أركان الإسلام، فامتنعوا عن أداء الزكاة.(1/6)
ومن أظهر الأدلة على سماحة الإسلام وكفالته لحرية العقيدة، وعدم الإكراه، ما شرعه من إباحة الزواج بالمرأة الكتابية غير المسلمة، في قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم...)(سورة المائدة : 5 ) حينما أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية كانت أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، وفي هذا أسمى أنواع السماحة والحرية الدينية، ولم تخرج الزوجة الكتابية باختلافها في العقيدة مع زوجها من حكم قول الله تعالى: (ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (( سورة الروم / 21) فلها حظها من المودة، ونصيبها من الرحمة، وهو لباس لها كما أنها لباس له.
أين أنت من صلة المصاهرة التي تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة،أيغيب عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح .
2 ـ أسباب النزول :
دائماً يحاول الجابري أن ينظر إلى الآية في سياقها وسباقها ولا يقتطعها من بين الآيات الملتفة حولها فمثلاً :(1/7)
قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة 90). فهي تقع، ، ضمن سياق تستقل به عن "أسباب النزول" التي رويت في شأنها، وهو سياق تشريعي واحد وطويل يبدأ بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (المائدة 87)، يلي ذلك ما يتعلق بالأيْمان (جمع يمين) والكفارة الواجبة فيها، ثم الحكم على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها "رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" يجب اجتنابه، خصوصاً والخمر والميسر يبعثان على الشجار والعداوة والبغضاء ويصرفان عن الصلاة، يلي ذلك "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا" (المائدة 93). وهذا استثناء يخص من شرِبها من المسلمين قبل تحريمها. وهذا النوع من الاستثناء يعم جميع الأحكام التي وردت في السياق العام الذي تندرج تحته آية تحريم الخمر والذي يبدأ من الآية 87 إلى آخر السورة (آية 120)، ويشتمل على عدة أحكام نتبين في كل حكم منها جانبين:
الأول : التحليل أو التحريم أو ما في معناهما.
والثاني : استثناء أو استدراك وتوضيح، تماماً كما هو الحال في الخمر: تحريمها ثم مباشرة بيان حكم من كان يشربها من المؤمنين ومات قبل التحريم، الشيء الذي لا يدع مجالاً للبس ولا يترك زماناً لردود فعل ولا لطرح أسئلة من النوع الذي ذكرته روايات "أسباب النزول".(1/8)
إن هذا السياق الذي حددناه كإطار للآية التي أمرت باجتناب الخمر والميسر والأزلام... الخ، والذي قلنا إنه يبدأ بالآية 87، أي بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" ، وينتهي مع انتهاء السورة، يدل على أن المسلمين، أو بعضهم، كانوا يحرمون على أنفسهم "الطيبات" كالزينة ولذات الأكل والشرب والجماع مما لم يحرمه الله. وهذا يدل على أن آيات تحريم الخمر جزء من كل، وبالتالي فما حكي من روايات كـ"أسباب لنزولها" لا تستقيم معها.
ويقول : بأن جميع الروايات التي اطلعنا عليها في "أسباب نزول" قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ..."، لا تستقيم إلا إذا سلخنا هذا المقطع من جملة الآية التي يقع ضمنها، واعتبرناه مستقلاً ومنفصلاً عما بعده. ذلك أن نص الآية كاملة هو: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً" (النساء 43).
أما إذا اعتبرنا السياق واكتفينا به فإن المعنى سيكون أوضح، وخالياً من أي تشويش، والشيء نفسه يمكن قوله بشأن الآيات الأخر.
التعليق :(1/9)
إن السياق القرآني له دوره في تحديد دلالات الآيات وألفاظ تلك الآيات، فمثلاً يستخدم القرآن الكريم صيغة الأمر ويقصد بها معناها الظاهر كما في قوله تعالى: «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» أي هناك أمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكن هذه الصيغة نفسها قد يقصد بها الإباحة كما في قوله تعالى: «وإذا حللتم فاصطادوا» لورودها بعد حظر الصيد حال الإحرام «لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم» وقد يقصد بها التهديد كما في قوله تعالى: « فاعبدوا ما شئتم من دونه» أو التعجيز «فأتوا بسورة من مثله» وهكذا، فالمحدد للمراد ومدلول الآيات مع كون الصيغة واحدة هو السياق أي ملاحظة الآيات الأخرى المقترنة بها.
وكمثال آخر على تحديد مدلول كلمة معينة في النص القرآني؛ استناداً إلى السياق ما ورد عن علي (كرم الله وجهه) في تفسير معنى كلمة «الأب» بما تأكل الأنعام في قوله تعالى: «وفاكهة وأبّاً، متاعاً لكم ولأنعامكم» حيث قال:
«إن معنى اللفظ في الآية ذاتها... فالفاكهة لكم والأبّ لأنعامكم».
وفي حديث آخر أن عمر مرّ يوماً بشاب من فتيان الأنصار وهو ظمآن، فاستسقاه فخلط له الفتى الماء بعسل وقدّمه إليه فلم يشربه وقال: «إن اللَّه تعالى يقول: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) فقال له الفتى «إنها ليست لك ولا لأحد من أهل القبلة أترى ما قبلها : (ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها).
فقال عمر كل الناس أفقه من عمر.
فنرى كيف أن الأنصاري لم يدرك هذا المعنى إلا من خلال السياق الذي وردت فيه الآية.
بل يمكن من خلال السياق إستكشاف خطأ من يتلو القرآن في حال خطئه، ومثاله أن أحد العرب سمع رجلاً يتلو آيةً هكذا «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من اللَّه واللَّه غفور رحيم».
فقال الأعرابي أخطأت، قال: وكيف؟
قال: إن المغفرة والرحمة لا تناسبان مع قطع يد السارق.(1/10)
فتذكّر الرجل الآية وقال: « واللَّه عزيز حكيم » فقال الأعرابي نعم، بعزّته أخذها، وبحكمته قطعها.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يقتطعون الآية أو جزء الآية من سياقها ليستفيدوا ما يشاؤون من معاني ومضامين تنسجم مع ما يرغبون كما في قوله تعالى:
«ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» حيث اتخذها البعض مبرراً للتهرب من المسؤوليات الملقاة على عواتقهم وفراراً من أدنى تضحيات يقدمونها في سبيل هدف أسمى مع أن الآية جاءت في سياق آيات تحث المؤمنين على الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى كجهاد مالي يضاف إلى الجهاد بالأبدان والأرواح والأنفس، من خلال تجهيز الغزاة، وأن عدم الإنفاق والبخل يؤدي إلى إضعاف جبهة المسلمين وبالتالي هلاكهم وإبادتهم قال تعال: «... وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن اللَّه يحب المحسينين» فالتهلكة يقصد بها هنا ما يترتب على عدم الإنفاق.
3 ـ "مفهوم النَّسخ"
يقول محمد عابد الجابري : مفهوم "النَّسخ" ومفهوم "آية السيف" مفهومان لا وجود لهما في القرآن. أما "النسخ" فقد ورد لفظه، أن المقصود بـ"المنسوخ"، هو الشرائع الماضية، وقد نُسخت بمجيء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه الصلاة والسلام، وليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ. كل ما هناك هو وجود أنواع من التدرج في الأحكام: من العام إلى الخاص، ومن المُطلق إلى المُقيَّد، ومن المُجمل إلى المُبيَّن .
وإنما نزل القرآن مفرقاً في مدى يزيد عن عشرين سنة لتكون أحكامه متلائمة مع تطور الحياة. وهو في جملته وتفصيله لا ناسخ فيه ولا منسوخ: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ) في منظومة كلية (ثُمَّ فُصِّلَتْ ) عناصرها حسب مقتضى الأحوال ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود 1)، والقرآن، كليتُه ومفرَّقُه، واحد ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد) (فصلت 42).(1/11)
وقد ذم الله ( الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ) (الحجر 90- 91) يأخذون ببعضه ويتركون الباقي وتوعَّدهم، وهذا ليس خاصاً بالعمل والسلوك فحسب بل يشمل أيضاً جميع أنواع التعامل مع القرآن، ويأتي في المقدمة فهم القرآن. فكل فهم لم يُبْنَ على مراعاة السياقات واستقراء الآيات الخاصة بموضوع واحد هو كالوقوف عند "ويل للمصلين".
إلا أن القائلين بالنسخ في القرآن لا يدخلون جميعاً ضمن مفهوم "الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ".
وللرد على هذه الإشكالية :
كذلك يقول الشيخ محمد الغزالي المصري:
فقصة النسخ ، أو الحكم بتحنيط بعض الآيات، فهي موجودة ولكن لا تعمل، هذا باطل ، وليس في القرآن أبداً آية يمكن أن يقال إنها عطلت عن العمل وحكم عليها بالموت .. هذا باطل ..كل آية يمكن أن تعمل، ولكن الحكيم هو الذي يعرف الظروف التي يمكن أن تعمل فيها الآية، وبذلك توزع آيات القرآن على أحوال البشر بالحكمة والموعظة الحسنة ( انظر : محمد الغزالي ، كيف نتعامل مع القرآن ، في مدارسة أجراها عمر عبيد حسنة ، من مطبوعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، الكتاب الخامس من سلسلة قضايا الفكر الإسلامي ، الطبعة الثالثة 1413هـ 1992م : 83).
أقول :
إن النسخ ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية ، وقد قال علي كرم الله وجهه لقاض : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا. قال : هلكت وأهلكت ( انظر : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ، الإتقان في علوم القرآن ، دار الندوة الجديدة ، بيروت : 2 / 20).(1/12)
لأن التغيير الجذري كان في عصر الرسالة ، فلا بد من مراعاة هذه الظروف الصعبة للانتقال من حال إلى حال، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالعقيدة والتقاليد المستحكمة بالنفوس، حيث يصعب على المرء أن تتزعزع عقيدته بسهولة، فالتطور والتدرج في الأحكام أدعى إلى القبول، وكان هذا التطور بطريق النسخ أو تخصيص العام تارة ، أو بتقييد مطلق أو تفصيل مجمل تارة أخرى، لذلك لا يمكن لنا أن نخاطب بالإسلام مجتمعات غير إسلامية أصلاً بالحكم النهائي في الإسلام ، دون تمريرها بمراحل التهيؤ ؟ .
( وإن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ على الجملة ، وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ( ( انظر : إبراهيم بن موسى الشاطبي : الموافقات في أصول الفقه : 4 / 120 ـ 121).
وفي النسخ سر من أسرار تطور التشريع ، وفيه نفي للاختلاف في دين الله، لأنه يكون فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصلح اجتماعهما بحال، فبالنسخ يكون أحدهما قاطعاً وتثبت الفائدة ، وبنفي النسخ يبقى التعارض ولا تجنى من الكلام ثمرة، بل يؤدي تعارض النصين إلى التكليف بما لا يطاق، وكل ذلك باطل بإجماع .اهـ ( انظر : إبراهيم بن موسى الشاطبي : الموافقات في أصول الفقه : 4 / 121) .
4 ـ مفهوم الحجاب :
ذهب محمد عابد الجابري الى اشكالية الحجاب وأدلى بدلوه بشكل واضح فقال :
«في رأيي انه ليس ثمة نوع خاص من الحجاب يمكن وصفه دون غيره بأنه «حجاب إسلامي» ودليل ذلك أن المفسرين، القدماء منهم والمحدثين، قد ذكروا أنواعاً عدة من الحجاب واعتبروها تستجيب لما نص عليه القرآن في الموضوع، وبالتالي يسمح هذا بالقول ان الأمر يتعلق بمسألة اجتهادية، وأنه من الجائز لأي مجتهد، وفي أي عصر، القول في هذه المسألة -كما في غيرها من المسائل المماثلة- بما يعتقد أنه يصلح لزمانه، وبذلك يساهم في تثبيت المبدأ الذي يؤمن به كل مسلم، وهو أن الاسلام صالح لكل زمان ومكان».(1/13)
ولكن ألا يعني هذا تعطيل الحكم الإلهي بشأن الحجاب؟
يرد الجابري:
«الخطاب القرآني أبدي، ولا يخضع في وجوده او سريان مفعوله لتطور الأحوال عبر القرون ولا لتغير العادات مع تغير العصور. لكن الخطاب القرآني حقيقة ومجاز، خصوص وعموم، أوامر ومقاصد، ألفاظ ومضامين الخ، وعن البيان القول أن الألفاظ إنما هي وسيلة للتعبير عن القصد الإلهي، والقصد الإلهي في آيات الحجاب واضح، وهو مايفهم من غض الأبصار والتزام الحشمة والوقار وعدم التبرج تبرج الجاهلية.
أما عن كيفية ذلك فتتدخل فيه أمور كثيرة، على رأسها تغير العادات، وأيضاً إرادة المرأة وحريتها ومايرتضيه ضميرها، وهذا كله يندرج في مجال الأخلاق.
فلا ذنب ولا لوم على المرأة إذا هي لبست اللباس العصري أو اللباس التقليدي، فليس اللباس ذاته هو الذي يحمي من «مقدمات المحظور»، لأن المحظور نفسه يمكن أن يحصل في عصرنا بالحجاب الذي يلف سائر جسم المرأة ولا يحصل بالسفور، والذين يعرفون دخائل الأمور، يعرفون ذلك جيداً «والله بما تصنعون خبير».
وينوه الجابري إلى أنه يتحدث عن الحجاب بعيداً عن كل خلفية أخرى غير الرغبة في الاجتهاد في فهم النص:
«أما عندما يكون وراء الأمر أشياء أخرى - يوضح الجابري - فالموقف يختلف، فاتخاذ الحجاب رمزاً دينيا للدفاع عن الهوية، كما هو الحال اليوم في فرنسا، شيء، واللجوء إلى الحجاب بسبب الفقر أو لستر عاهة شيء، وشيء آخر تماماً استعماله كشأن ديني يستغل لأغراض سياسية ».
التعليق :
سألت صحيفة الجمهورية المصرية، فتاة نجحت بالمرتبة الأولى في الصف التاسع، وكانت ترتدي الحجاب: أنت الآن تعتبري صاحبة العقل الراجح، ولكن أرى ظاهرك ولباسك وصورتك رجعية، وكأنك في العصر الحجري؟(1/14)
فأجابت الفتاة المتحجبة المتفوقة : درست في المناهج الدراسية ، بأن العصر الحجري المتخلف ، الذي عاش فيه الإنسان ، كان يتميز بسمة مشتهرة ، وهي أنها كانت عارية ، فلما تقدم وتطور ، بدأ يعرف الثياب وتستَّر، وهكذا كلما ازداد الإنسان تقدماً كلما ازداد تَسَتُّراً وعفة.
إن قول الجابري بأنه ليس ثمة نوع خاص من الحجاب يمكن وصفه دون غيره بأنه "حجاب إسلامي " مجانب للصواب
لأن الحجاب الإسلامي له شروط وضوابط وهي :
1 ـ أن يكون ساتراً لجميع العورة : أجمع أئمة المسلمين كلهم ـ لم يشذ عنهم أحد ـ على أن ما عدا الوجه و الكفين من المرأة داخل في وجوب الستر أمام الأجانب.اهـ ( انظر : الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي ج 1 / ص 585 ).
وأنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان من حولها من ينظر إليها بشهوة . كما أن الفقهاء اتفقوا على جواز كشف المرأة وجهها ترخصاً وضرورة كتعلم، أو تطبب ، أو عند أداء شهادة .
2 ـ ألا يكون زينة في نفسه: ذا ألوان جذابة تلفت الأنظار، لقوله تعالى:{ و لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } [ النور :31 ] و معنى {ما ظهر منها} أي بدون قصد ولا تعمد ،فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز إبداؤه ،و لا يسمى حجابا ،لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب.
3 ـ أن يكون سميكاً لا يشف ما تحته من الجسم : لأن الغرض من الحجاب الستر ، فإن لم يكن ساتراً لا يسمى حجاباً لأن لا يحجب النظر، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد : نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ، و لا يجدن ريحها ، و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا ..) و في رواية مسيرة خمسمائة سنة .و معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( كاسيات عاريات ) أي :كاسيات في الصورة عاريات في الحقيقة لأنهن يلبس ملابس لا تستر جسداً ، و لا تخفي عورة.(1/15)
و معنى ( مميلات مائلات ) : مميلات لقلوب الرجال مائلات مشيتهن يتبخترن بقصد الفتنة والإغراء .
و معنى (كأسنمة البخت) أي : يصففن شعورهن فوق رؤوسهن حتى تصبح مثل سنام الجمل.
4 ـ أن يكون فضفاضاً : لا يجسم العورة ولا يظهر أماكن الفتنة في الجسم، وذلك للحديث السابق عن(الكاسيات العاريات).
5 ـ ألا يكون الثوب معطراً : لأن فيه إثارة للرجال، فتعطر المرأة يجعلها في حكم الزانية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل عين زانية ، و المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا و كذا يعني زانية ) رواه الترمذي.
6 ـ ألا يكون الثوب فيه تشبه بالرجال: أو مما يلبسه الرجال ، للحديث الذي رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة ، و المرأة تلبس لبسة الرجل ) ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري و الترمذي و اللفظ له: ( لعن الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء ) أي المتشبهات بالرجال في أزيائهن و أشكالهن.
7 ـ ألا تشبه زي الراهبات الكافرات : و ذلك لأن الشريعة الإسلامية نهت عن التشبه بالكفار، و أمرت بمخالفة أهل الكتاب من الزي و الهيئة، فلقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص حينما رأى عليه ثوبين معصفرين ـ مصبوغين بالعصفر ـ : ( إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسهما ) رواه مسلم .
8 ـ ألا يكون ثوب شهرة : لقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه : ( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ) و هذا الشرط ينطبق على الرجال و النساء ، فمن لبس ثوب شهرة لحقه الوعيد إلا أن يتوب رجلاً كان أو امرأة .
فإذا قال بعضهم : إن الحجاب تتستَّر به كل ساقطة ؟
أقول : إن الإسلام حجة على الناس ، ويبقى حكم الإسلام على أصله ، وإن فسدت بعض المحجبات ، وهل هذه الساقطة تمثل الإسلام ، إن مصادر الشريعة الإسلامية أربعة : القرآن والسنة والإجماع والقياس .(1/16)
فإذا خالفت بعض النساء ، هل يعتبر عملها دليلاً شرعياً ؟ أبداً ، وإلا فما لنا لا نقول بحلِّ شرب الخمر وقد فعله ويفعله كثير من الناس ؟
بل ما لنا لا نقول بحلّ الفاحشة وقد وجد في الناس ساقطات وباغيات ؟
ولماذا لا نقول : بأن الحجاب تتستر به كل مؤمنة تقية ، وهنَّ الجمهرة العظيمة ، ولا يكون حال هذه الكثرة هي الحجة البالغة والدامغة ؟؟
يتبين مما سبق أن منهج الدكتور محمد عابد الجابري يعتمد على :
1- اقتطاع النصوص من سياقها ( وهو نفسه ينكر هذا حينما يتحدث عن أسباب النزول ) ، و التصرف في معانيها ، مع عدم ذكر نقائضها . مثل ما نسبه للسيوطي في مسألة دعاء القنوت و أنه من جملة القرآن المنزل ، في حين أن السيوطي حكى ذلك من خلال روايات أوردها ضمن سياقها ، ثم أورد بعدها من يطعن فيها كالباقلاني مثلاً، فَلِمَ لَمْ يُدْرِجْ ذلك أو يُشِرْ إليه على الأقل !؟
2 ـ انتقاء الروايات الضعيفة المنكرة دون الصحيحة الثابتة . مثل : قولة عمر رضي الله عنه : " لولا أن يقال : زاد عمر في القرآن".
وهذا الأثر عن عمر رضي الله عنه كونه مما نسخ رسمه.
3 ـ لكنه رغم ذلك تصدر منه لفتات منصفة في زخم البحث و الحشد للنقول و الأقوال .
4 ـ التمويه بعبارات فضفاضة إما جهلاً أو تجاهلاً كقوله : "في روايات متعددة" و ماذا يغني التعدد هنا ، لأن العبرة بالصحة و الثبوت و لو مع القلة ، لا بالكثرة مع الوهاء والضعف.
5 ـ التغاضي عن أحكام النقاد و الحفاظ المهرة ، كما وقع له في خبر الداجن ، وهي رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول إن «شاة أكلت بعض آيات من القرآن كانت تحت سريرها»! ويبني عليه حكماً فيقول : « إن جميع علماء الإسلام، من مفسرين ورواة حديث وغيرهم، يعترفون بأن ثمة آيات، وربما سوراً، قد «سقطت» أو «رفعت» ولم تدرج في المصحف، وأن القرآن وقع فيه تحريف»!!(1/17)
و لا يقال بأنه ذكر إنكار الطاهر ابن عاشور ، لأنه نسب الإنكار لابن عاشور وحده و هو متأخر ، في حين أنه كان ينقل عن القرطبي ، و نقده بين يديه فلم يذكره ، علماً أن حكم القرطبي في علو الكعب و تباعد الزمن له كبير الأثر في هذا الباب من غيره . فليعلم .
و هل ينفع التصريح بموافقة ابن عاشور في حكمه ، و الجابري نفسه يقول كلاماً خطيراً وهو :
(و مع أن لنا رأياً خاصاً في معنى "الآية" في بعض هذه الآيات ، فإن جملتها تؤكد حصول التغير في القرآن وأن ذلك حدث بعلم الله ومشيئته) !؟
سبحان الله كيف يتجرأ بأن يقول إن لي رأياً خاصاً وليس لديه ملكة هذا العلم، فالذي يتكلم في تفسيرالقرآن الكريم ينبغي أن يتوفر فيه مؤهلات لخوض هذا الغمار، من إتقان لمجموعة من العلوم (و هي علوم أربت على العشرين).
6 ـ أما فيما يخص إعجاز القرآن، فقد عرض الجابري باقتضاب لمسألة الإعجاز القرآني، وبرهن على أن القرآن هو المعجزة الكبرى والوحيدة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يكون انشقاق القمر، أو الإسراء والمعراج معجزات حقيقية أصلاً.
وخلاصة القول: إن خطة محمد عابد الجابري تقوم على التغيير من داخل البيت الإسلامي، لا من خارجه من خلال العبث بالنصوص الشرعية بتأويلها وتفريغها من محتواها ( الحقيقي ) ، واستبداله بالمحتوى الذي يريدون .
فيا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم.(1/18)