فأنشدكم الله عباد الله هل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه سيد الشهداء موسما؟ وهل فعل سيد هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى جميع الصحابة والآل موسما؟ وهل تصدى لذلك أحد من التابعين رضي الله عنهم أجمعين؟ ثم أنشدكم الله، هل زخرفت على عهد رسول الله المساجد؟ أو زوقت أضرحة الصحابة والتابعين الأماجد؟ كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفة أضرحة الصالحين، وغير ذلك من أنواع الابتداع حسبنا الاقتداء والاتباع، إِنَّا { وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } (23) (1) وهذه المقالة قالها الجاحدون، هيهات هيهات لما توعدون. وقد رد الله مقالهم ووبخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين وأهل الصلاح والدين، "خير القرون قرني" (2) الحديث. وبالضرورة أنه لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. فقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقد الدين قد سجل، ووعد الله بإكماله قد عجل، الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (3) . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم: (أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت الفرائض، وتركتم على الجادة؛ فلا تميلوا بالناس يمينا ولا شمالا). فليس في دين الله ولا في ما شرع نبي الله أن يتقرب بغناء ولا شطح.
__________
(1) الزخرف الآية (23).
(2) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الحلية (4/172) من طريق إسحاق بن إبراهيم صاحب البان قال ثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر بن الخطاب به. قال أبو نعيم عقبه: غريب من حديث الأعمش لم يروه عنه إلا إسحاق. وهو في الصحيحين بلفظ: "خير الناس قرني...".
(3) المائدة الآية (3).(1/76)
والذكر الذي أمر الله به وحث عليه ومدح الذاكرين به، هو على الوجه الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف وطريقة صالح الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يستمع، ومن سلك غير سبيلهم فلا يتبع، وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (115) (1) . قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (2) . فما لكم يا عباد الله ولهذه البدع؟ أأمنا من مكر الله؟ أم تلبيسا على عباد الله؟ أم منابذة لمن النواصي بيده؟ أم غرورا لمن الرجوع بعد إليه؟ فتوبوا واعتبروا وغيروا المناكر واستغفروا، فقد أخذ الله بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور لما أغضوا عن المنكر عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى الجميع. ما بين العاصي والمداهن المطيع، أفيزين لكم الشيطان وكتاب الله بأيديكم؟ أم كيف يضلكم وسنة نبيكم تناديكم؟ فتوبوا إلى رب الأرباب، وَأَنِيبُوا { إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } (54) (3) . ومن أراد منكم التقرب بصدقة أو وفق لمعروف أو إطعام أو نفقة، فعلى من ذكر الله في كتابه ووعدكم فيهم بجزيل ثوابه، كذوي الضرورة الغير الخافية، والمرضى الذين لستم بأولى منهم بالعافية، ففي مثل هذا تسد الذرائع وفيه تمتثل أوامر الشرائع.
__________
(1) النساء الآية (105).
(2) يوسف الآية (108).
(3) الزمر الآية (54).(1/77)
إِنَّمَا { الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ } اللَّهِ (1) ، ولا يتقرب إلى مالك النواصي بالبدع والمعاصي، بل بما يتقرب به الأولياء والصالحون والأتقياء المفلحون، أكل الحلال وقيام الليالي ومجاهدة النفس في حفظ الأحوال بالأقوال والأفعال، البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآيات تتلى، وسلوك الطريقة المثلى، وحج وجهاد، ورعاية السنة في المواسم والأعياد، ونصيحة تهتدى، وأمانة تُؤدى، وخُلُق على خُلُق القرآن يحذى، وصلاة وصيام، واجتناب مواقع الآثام، وبيع النفس والمال من الله. * { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (2) الآية. وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (3) الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والأحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص. أَفَمَنْ { زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا } (4) عن المقدام ابن معدي كرب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة وبين يديه راية يحملها، وأناس يتبعونها فيسأل عنهم ويسألون عنه" (5)
__________
(1) التوبة الآية (60).
(2) التوبة الآية (111).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) فاطر الآية (8).
(5) أخرجه بلفظ: "لا يكون رجل على قوم إلا جاء يوم القيامة يقدمهم وهم يتبعونه يسأل عنهم ويسألون عنه" ابن أبي عاصم في السنة (2/523/1099) والطبراني في الكبير (20/275-276) من حديث المقدام بن معدي كرب..وقال الهيثمي في المجمع (5/208): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف". بل هو في الكبير.(1/78)
إِذْ { تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } (166) (1) فيجب على من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا من السلطان والخلائف، أن يمنعوا هؤلاء الطوائف، من الحضور في المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، أو يعينهم على باطلهم. فإياكم ثم إياكم والبدع فإنها تترك مراسم الدين خالية خاوية، والسكوت عن المناكر يحيل رياض الشرائع ذابلة ذاوية، فمن المنقول عن الملل والمشهور في الأواخر والأول أن المناكر والبدع إذا فشت في قوم، أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثلات، وشحت السماء، وحلت النقماء وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، ونقعت بركة الزروع، لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق الفوائد.
والأدب مع الله ثلاثة:
حفظ الحرمة بالاستسلام والاتباع، ورعاية السنة من غير إخلال ولا ابتداع، ومراعاتها في الضيق والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكل ذلك كذب على الله وافتراء. قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (2) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لمن ولي عليكم، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (3) .
__________
(1) البقرة الآية (166).
(2) آل عمران الآية (31).
(3) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).(1/79)
وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم. فمن ذهب بعد لهذه المواسم، أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسه، وجر الوبال عليه، وعلى أبناء جنسه، وتله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (1) .
" التعليق:
يستفاد من هذا النص المبارك:
1- مدى تأثر هذا السلطان بالعقيدة السلفية.
2- قوة علمه وإدراكه في الاستدلال بالكتاب والسنة.
3- بيان الحالة التي كان عليها أهل ذلك الزمان من ترد في الخرافات والشركيات والطرق الصوفية.
4- اعتماده في الاستدلال على فعل السلف وفي مقدمتهم الصحابة.
عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (2) (1242 هـ)
عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ولد في مدينة الدرعية سنة خمس وستين ومائة وألف من الهجرة، وتفقه على أبيه وغيره. وبعد وفاة أبيه وشيخه، تصدى لنشر الدعوة السلفية والرد على المخالفين بالحجة والبرهان. كان ذا فهم جيد وحافظة قوية وذهن سيال وقريحة وقادة، وكان رحمه الله يعتبر المرجع الأساسي في الأعمال الدينية والشؤون الشرعية في المملكة السعودية في عهد ثلاثة أئمة من حكام آل سعود هم: الإمام عبدالعزيز بن محمد وابنه سعود وحفيده عبدالله بن سعود.
__________
(1) النور الآية (63).
(2) علماء نجد (1/48-55) والأعلام (4/131) والدرر السنية (12/43-45).(1/80)
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: أدرك في الأصول والفنون أعلاها، وتفنن في علوم الإسلام حتى بلغ علاها، كان عارفا بالتفسير لا يجارى، وبأصول الدين، وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية. وقال أيضا: كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول قيام، ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله، والانكسار والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم ير في معناه مثله. أخذ عنه العلم علماء أجلاء منهم بنوه سليمان وعلي وعبدالرحمن والشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ عبداللطيف والشيخ أبا بطين والشيخ محمد بن مقرن وغيرهم. اعتقل رحمه الله عند دخول إبراهيم باشا للدرعية، وأرسل إلى مصر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة، واستقر بالقاهرة إلى أن توفي بها سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف.
موقفه من الرافضة:
- له من الآثار السلفية:
- 'جواب أهل السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والزيدية'، وقد طبع بحمد الله.
عبدالعزيز بن حمد آل معمر (1) (1244 هـ)
الشيخ الإمام عبدالعزيز بن حمد بن ناصر بن معمر، ولد في مدينة الدرعية سنة ثلاث ومائتين وألف من الهجرة، وأخذ عن علمائها منهم والده رحمه الله والشيخ عبدالله بن محمد وحسين بن محمد وعلي بن محمد، أبناء شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب والشيخ حسين بن غنام وغيرهم. شغل جميع وقته في تحصيل العلم وطلبه، فصار عالما مجتهدا له اليد الطولى في التفسير والحديث والنحو والفقه. عينه الإمام سعود في جملة قضاة الدرعية.
__________
(1) علماء نجد (2/445) والأعلام (4/17) والدرر السنية (12/50-52) ومقدمة كتاب منحة القريب المجيب للمترجم (ص.3-8).(1/81)
قال ابن بشر: كان فقيها أديبا ومتواضعا، حسن البحث والسيرة، ذا شهرة في العلوم والديانة، وله أشعار رائعة لا سيما في أهل الدرعية. وقال الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: كان أديبا بارعا، وعالما محققا، وفقيها مدققا، حاضر البديهة، قوي العارضة، فصيح اللسان، بليغ القول، مشاركا في شتى العلوم الأصولية والفروعية، ورعا زاهدا، متقللا من الدنيا، بعيدا عن مفاتنها وزخارفها، له اليد الطولى والباع الواسع في التصنيف والتأليف، ونشر العلم، وتخريج الكثير من الطلاب، والرد على المعارضين، وإفحام المخاصمين.
توفي رحمه الله في البحرين سنة أربع وأربعين ومائتين وألف. ورثاه كثير من الأدباء والعلماء منهم الشيخ أحمد بن علي آل مشرف رحمه الله في أبيات منها:
لقد صار في الإسلام ثلم بموته وقد كان للإسلام حصنا ومفزعا فأصبح مقصودا لمن طلب الهدى لقد فقد العلم العزيز ونشره هو البحر إن رمت العلوم وبحثها ... وكلم فمن ذا بالعلاج يحاول
إذا نزلت بالمسلمين النوازل
وكل لنيل المعالي وسائل
لدن فقدت عبدالعزيز المحافل
سوى أنه للبحر يوجد ساحل
موقفه من المشركين:
- له من الآثار: 'منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب' رد فيه على كتاب 'مفتاح الخزائن ومصباح الدفائن' لقسيس إنجليزي.(1/82)
- ومما جاء فيه: ولما كان الله تعالى قد أمر رسوله بإقامة الحجة على الكافرين بطريق الجدال، وشرع ذلك في السور المكية والمدنية حتى بعد فرض القتال، كما قال تعالى: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (125) (1) وقال تعالى: وَلَا { تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (46) (2) وأمره بعد إقامة الحجة على النصارى بالمجادلة أن يدعوهم إلى الملاعنة والمباهلة، فقال تعالى: فَمَنْ { حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } (61) (3) .
فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - في جدال الكفار على اختلاف مللهم، وتباين نحلهم إلى حين وفاته، وكذلك أصحابه من بعده، ومن تبعهم من أئمة الدين وحماته، وبهذا الأمر قام الدين، واتضح منهاجه للعابدين، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة والبرهان، مسهلا طريق البلاغ إلى المكلفين بالسنة والقرآن، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباعه، الذين بذلوا نفوسهم لله ابتغاء مرضاته. (4)
__________
(1) النحل الآية (125).
(2) العنكبوت الآية (46).
(3) آل عمران الآية (61).
(4) ص.14).(1/83)
- وقال: والمقصود أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - موافقة لدين المسيح في التوحيد، وأصول الديانات، وإن خالفته في بعض ما دون ذلك من الشرائع، لكنها مخالفة لما ابتدعه ضلال النصارى، واخترعوه من قبل أنفسهم، وبدلوا به دين المسيح من الغلو في المخلوق حتى أنزلوه منزلة الخالق وادعوا أنه الله، وأنه ابن الله، تعالى الله وتقدس، وتنزه عن قولهم علوا كبيرا، وكذا ما بدلوه من فروع دين المسيح عليه السلام، كاستحلال الميتة والخنزير، وإحداث البدع في العبادات، مما نسخوا به دين المسيح عليه السلام، فبعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى متابعة عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم، وتصديقه في بشارته بخاتم الرسل وسيدهم في الدنيا والآخرة الذي هو أولى الناس به، كما ثبت عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد" أخرجه البخاري ومسلم (1) ، وإخوة العلات: أبناء أمهات شتى من رجل واحد. (2)
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/437) والبخاري (6/590-591/3442-3443) ومسلم (4/1837/2365) وأبو داود (5/55/4675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) ص.48-49).(1/84)
- وقال: والمقصود أن القرآن نقل بالتواتر عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من أول الأمر حتى لا يتطرق الشك إلى حرف واحد منه أنه من القرآن، ولم يقيض لمن قبلنا من حفظ الكتب وضبطها ما يقارب ذلك، فإنا قد دللنا على وقوع التحريف والتصحيف في كتب النصارى بما لا يمكنهم دفعه، فضلا عما اعترفوا به من الشك في بعضها من أصله، وأما كتابنا فإن أحدا لو حاول أن يغير حرفا أو نقطة منه لقال له أهل الدنيا: هذا كذاب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب العزيز الذي صانه الله عن التحريف، وحفظه عن التغيير والتصحيف، مع أن دواعي الملحدة، واليهود والنصارى متوافرة على إفساده وإبطاله، وانقضى الآن ما ينيف على ألف ومائتين وأربعين سنة من أول نزوله، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ. (1)
محمد بن علي الشوكاني (2) (1250 هـ)
الإمام العلامة المحدث محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني ثم الصنعاني. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، بهجرة "شوكان" من بلاد "خولان"، ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها سنة تسع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة. قرأ على أبيه والقاضي الحسن المغربي والقاسم بن يحيى الخولاني والسيد عبدالرحمن بن قاسم المداني وغيرهم. وأخذ عنه القاضي محمد بن حسن الشجني وأحمد بن عبدالله الضمدي ومحمد بن أحمد السودي وغيرهم.
__________
(1) ص.68-69).
(2) البدر الطالع (2/214-225) والأعلام (6/298) ومعجم المؤلفين (11/53) ونيل الوطر (2/344-350) والتاج المكلل (ص.443-458) وفهرس الفهارس (ص.1082-1088).(1/85)
قال عنه تلميذه لطف الله بن أحمد جحاف: له مصنفات تدلك على قوة الساعد وسعة الاطلاع، ورزق السعادة في تصانيفه مع القضاء، وتناقلها من يلوذ به وذكروها في دروسهم، وله رغبة ومحبة في العلم، وما رأيت أنشط منه في التدريس. وقال عبدالرحمن بن سليمان الأهدل: ولقد منح رب العالمين سبحانه من بحر فضل كرمه الواسع هذا القاضي الإمام بثلاثة أمور، لا أعلم أنها في هذا الزمان الأخير جمعت لغيره: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها، وسعة التلاميذ المحققين والنبلاء المدققين أولي الأفهام الخارقة... وسعة التصانيف المحررة والرسائل والجوابات المحبرة التي تسامي في كثرتها الجهابذة الفحول. وقال عبدالرحمن البهكلي: وعلى الجملة فما رأى مثل نفسه ولا رأى من رأى مثله علما وقياما بالحق، بقوة جنان وسلاطة لسان.
توفي رحمه الله بصنعاء سنة خمسين ومائتين وألف من الهجرة عن ست وسبعين سنة وسبعة أشهر، ودفن بمقبرة خزيمة.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام الكبير، كانت له صولة وجولة في بلاد اليمن، عاصر الأحداث التي كانت بين العثمانيين ودعوة التوحيد الخالصة. وقد ذكر في البدر الطالع في بعض تراجم آل سعود ثناء جيدا عليهم وعلى دعوتهم، وله قصيدة في رثاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهي قصيدة طويلة توجد مطبوعة منشورة في عدة رسائل من رسائل الدعوة، وقد ذكرها الشيخ صالح العبود في رسالته في ترجمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1) . وعلى كل حال، فقد استفاد من العقيدة السلفية، عن طريق كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب. غير أنه في باب الأسماء والصفات من نظر في تفسيره: 'فتح القدير' يجد الرجل على طريق المؤولة كما بينت ذلك في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (2) . ومن نظر في كتابه 'التحف' يجده يمدح مذهب السلف، لكن كأنني به يعني مذهب المفوضة والله أعلم.
__________
(1) 1/240-243).
(2) 3/1272-1290).(1/86)
- قال رحمه الله في القول المفيد في حكم التقليد: فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة من المسائل، كان هذا المخالف قد ارتكب أمرا شنيعا، وخالف عندهم شيئا قطعيا، وأخطأ خطئا لا يكفره شيء، وإن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولم يرفع لما جاء به رأسا كائنا من كان، ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض، ويبغضونه بغضا شديدا فوق ما يبغضون أهل الذمة من اليهود والنصارى. ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء.
وبالجملة فهو عندهم ضال مضل، ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل عالم كائنا من كان. (1)
- وفيه: وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم، عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب، والمقلد الذي قدم أقوال أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام.
__________
(1) القول المفيد (ص.53).(1/87)
ولعمري إن القلم مبري بهذه النقول على وجل من الله وحياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيا لله العجب -أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول. يا لله العجب، أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله - صلى الله عليه وسلم - مقدمة على أقوالهم، فإن الترجيح فرع التعارض، ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم. سبحانك هذا بهتان عظيم.
فلا حيا الله هؤلاء المقلدة الذين ألجأوا الأئمة الأربعة إلى التصريح بتقديم أقوال الله ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم.(1/88)
وهؤلاء الذين ألجؤونا إلى نقل هذه الكلمات، وإلا فالأمر واضح لا يلتبس على أحد، ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكان كافرا مرتدا، فضلا عن أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله -فإنا لله وإنا إليه راجعون- ما صنعت هذه المذاهب بأهلها؟ وإلى أي موضع أخرجتهم؟ وليت هؤلاء المقلدة الجناة الأجلاف نظروا بعين العقل إذ حرموا النظر بعين العلم، ووازنوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهل يخطر ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المعروض بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم؟ كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له. فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الحوادث هيبة وتعظيما. وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح (1) ، وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير يرمون بأبصارهم إلى ما بين أيديهم ولا يرفعونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتشاما وتكريما. وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآرائهم، وكان التابعون يتأدبون مع الصحابة بقريب من هذا الأدب، وكذلك تابعو التابعين كانوا يتأدبون بقريب من آداب التابعين مع الصحابة. فما ظنك أيها المقلد لو حضر إمامك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) أخرجه: مسلم (1/41-42/12) والترمذي (3/14-15/619) والنسائي (4/427/2090) من حديث أنس بن مالك.(1/89)
فإذا فاتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل، فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق. فإذا عرفت ما نقلناه عن أئمة المذاهب الأربعة من تقديم النص على آرائهم، فقد قدمنا لك أيضا حكاية الإجماع على منعهم التقليد، وحكينا لك ما قاله الإمام أبو حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك، أو لاح لك مما نقلناه قريبا ما يقوله الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد.
وقد قال المزني في أول مختصره ما نصه (اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقرأه على من أراده مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه) اهـ. فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي رحمه الله من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة. قال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي أتبع أم مالك، فقال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به. وقال أبو داود سمعته -يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم من هو من التابعين بخير. اهـ
فانظر كيف فرق بين التقليد والاتباع. وقال لي أحمد: لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا. وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال ابن القيم: ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه، وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك.
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل... ثم أطال الكلام في ذلك.(1/90)
وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا تخفى على عارف من أتباعهم وغيرهم. وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم، معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم. ومن أحب النظر في ذلك فليطالع مؤلفاتهم، وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته مايشفي ويكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد، فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء المسلمين على تحريم تقليد الأموات، وأطال في ذلك وأطاب، وناهيك بالإمام الهادي يحيى ابن الحسين فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له، متبعين لمذهبه من عصره وهو آخر المائة الثالثة -إلى الآن مع أنه قد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه- أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شبهة بمنع التقليد له، وهذه مقالة مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه فضلا عن غيرهم، ولكنهم قلدوه شاء أم أبى. (1)
- وله من الآثار:
1- 'البغية في الرؤية'، توجد منه نسخة في الجامعة الإسلامية.
2- 'الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد'. مطبوع
3- 'شرح الصدور في عدم جواز رفع القبور'. مطبوع
4- 'التحف في مذاهب السلف'. مطبوع
5- 'القول المفيد في حكم التقليد'. مطبوع
موقفه من الخوارج:
__________
(1) القول المفيد (ص.57- 62).(1/91)
- قال: (قوله: وعليها قضاء الصيام لا الصلاة). أقول: هذا معلوم الأدلة الصحيحة، وعليه كان العمل في عصر (النبوة) وما بعده، وأجمع عليه سلف الأمة وخلفها، سابقها ولاحقها، ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف. وأما الخوارج الذين هم كلاب النار، فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين، ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم، وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة، والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع. (1)
موقفه من القدرية:
__________
(1) السيل الجرار (1/148).(1/92)
- سئل الشيخ: ما الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال، حسنها وقبيحها...الخ، فهذه مسألة قد تكلم العلماء وكثر الخلاف فيها قديما وحديثا، وكثر الحجاج بين الطرفين، والواجب الرجوع إلى ما عليه الصالحون من سلف الأمة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الرد على الرافضة: "وأما قوله أنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا لزم الجهل والحاجة -تعالى الله عنهما-، فيقال له: هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا، ولا يظلم أحدا، ولكن النزاع في تفسير ذلك، فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد، هل يقال: إنه ما هو قبيح منه وظلم، أم لا؟ فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون: ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا، والقدرية يقولون: لو كان خالقا لأفعال العبادكان ظالما فاعلا ما هو قبيح منه، وأما كون الفعل قبيحا من فاعله لا يقتضي أن يكون كذلك لخالقه، لأن الخالق خلقه في غيره، لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل، لا من خلقه في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما، كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون، والريح، والحركة، والقدرة، والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما، أو صلاة، أو صياما، أو طوافا، كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام، وهو المصلي، وهو الصائم، وهو الطائف، ولكن من قال إن الفعل هو المفعول يقول: إن أفعال العباد هي فعل الله، فإن قال: وهو أيضا فعل لهم لزم أن يكون الفعل الواحد لفاعلين، كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني، وإن لم يقل هو فعل لهم لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله الأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، الذين يقولون: إن الخلق هو المخلوق، وإن أفعال العباد خلق الله، فتكون هي فعل الله، وهي مفعول الله، فكما أنها خلقه فهي مخلوقة، وهؤلاء لا(1/93)
يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، ولكنهم مكتسبون لها، وإذا طولبوا بالفرق بين الكسب والفعل لم يذكروا فرقا معقولا، ولهذا كان يقال: عجائب الكلام ثلاثة: أحوال أبي هاشم، وطفرة النظام، وكسب الأشعري.
وهذا الذي ينكره جمهور العقلاء، ويقولون: إنه مكابرة للحس، ومخالفة للشرع والعقل.
وأما جمهور أهل السنة فيقولون: إن فعل العبد له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله لايقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. انتهى كلامه.
وأهل القول الثاني من السؤال لا يلزم ما يقولون في خلاف قولهم أنه إجبار وإبطال للشرائع، وإلزام الحجة على الشارع، بل -سبحانه- يَخْلُقُ { مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } (1) وںw { يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (23) (2) ، وكل ما فعله فهو فضل أو عدل، فلا يعترض على فضله وعدله، ومن جعل العقل ميزانا للشرائع فقد ضل وأضل، والله يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا. (3)
عثمان بن محمد بن أحمد بن سند (1250 هـ)
موقفه من الرافضة:
هذا الرجل النجدي الأصل، عرف بعداوته وانحرافه عن الدعوة السلفية وأعلامها، إلا أن له موقفا طيبا يشكر عليه، عندما رد على الشاعر الشيعي الخبيث دِعْبِل الخزاعي الذي طعن في سادات الصحابة الكرام أبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، فألف قصيدة تضمنت أكثر من ألفي بيت سماها 'الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الأصحاب'. (4)
الحسن بن علي القَنُّوجِي (5) (1253 هـ)
__________
(1) القصص الآية (68).
(2) الأنبياء الآية (23).
(3) الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (1/148-152).
(4) علماء نجد (5/148).
(5) هدية العارفين (1/301) والأعلام (2/206) ومعجم المؤلفين (3/259) وأبجد العلوم (3/212-213).(1/94)
حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، ابن الأمير نواب أولاد علي خان بهادر أنور جنك. ولد سنة عشر ومائتين وألف للهجرة، وهو والد العلامة صديق حسن خان. أخذ عن الشيخ عبدالباسط القنوجي، ثم سافر إلى لكهنؤ فأخذ عن الشيخ محمد نور وغيره، ثم رحل إلى دهلي فتتلمذ على الشيخ عبدالعزيز والشيخ رفيع الدين ابني الشيخ ولي الله الدهلوي، ثم عاد إلى وطنه وبلده قنوج.
قال فيه ابنه السيد صديق بن حسن: وكان في التقوى والديانة واتباع الحق واقتداء الدليل ورد الشرك والبدع آية باهرة، وقدرة كاملة، ونعمة ظاهرة من الله سبحانه وتعالى. توفي رحمه الله سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف.
موقفه من المشركين:
له: 'تقوية اليقين في الرد على عقائد المشركين' ذكره في هدية العارفين (1) .
أحمد الهندي (2) (1255 هـ)
أحمد بن عبدالرحيم الهندي الحكيم الحنفي. توفي رحمه الله سنة خمس وخمسين ومائتين وألف.
موقفه من الرافضة:
له: 'نزهة الاثني عشرية في الرد على الروافض' ذكره في هدية العارفين (3) .
أحمد بن علي بن أحمد بن دعيج (4) (1268 هـ)
الشيخ أحمد بن علي بن أحمد بن سليمان بن دعيج الكثيري نسبا، المَرَائي بلدا. ولد في بلدة مرات، إحدى بلدان الوشم سنة تسعين ومائة وألف. وعاصر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وله نظم جيد في المحنة التي وقعت في نجد على يد إبراهيم باشا وزير مصر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، وله نظم آخر في العقيدة. عين المترجم قاضيا في بلدته خلال استيلاء الدولة العثمانية على نجد، ثم خلال إمامة تركي ثم الإمام فيصل. وما زال في عمله مجدا إلى أن توفي رحمه الله سنة ثمان وستين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من الجهمية:
__________
(1) 1/301).
(2) هدية العارفين (2/370) ومعجم المؤلفين (1/272).
(3) 2/370).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/497-501).(1/95)
له نظم سماه 'كتاب الدر الثمين عقيدة الموحدين' (1) . قال: وسبب تأليفه أنه ورد عليَّ جواب من بعض الإخوان سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين وألف يريد أن أعرض عليه ما نحن عليه من الاعتقاد وأخبار الصفات، فأجبته ولله الحمد، وهي معروضة على علماء المسلمين لتبيين الصحيح والتنبيه على الخطأ حتى نرجع عنه -إن شاء الله- إلى الصواب. ومطلع النظم هو:
باسمه أبدا كل امرئ تبركا وثنيت قبل النظم لله حامدا ... وحفظاً له لا يعتريه جذامها
مصل على المبعوث أحمد مقامها
إلى أن قال:
واقبل أخبار الصفات كما أتى ... بها النص لا ينفك عنك مرامها
محمد بن إبراهيم بن محمد السناني (2) (1269 هـ)
الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السِّنَاني. ولد في بلدة عنيزة، ونشأ فيها، وقرأ على قاضي عنيزة الشيخ عبدالله أبا بطين، ولازمه ملازمة تامة. ولي القضاء بإشارة من شيخه أبا بطين لأعيان أهل عنيزة. وكان ورعا عفيفا، صاحب معتقد طيب، إلا أنه كان معرضا عن كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب لتحذير الناس منها، ثم قرأها بعد، فأولع بها، وأصبح من الداعين إليها.
توفي رحمه الله في بلدة عنيزة سنة تسع وستين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله مدافعا عن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وعن مؤلفاته بعدما كان معرضا عنها، ومستهزءا بها: كنت في أول أمري مع أناس نسمي (كشف الشبه) بـ (جمع الشبه)، ولم أرها ولم أطالع فيها تقليدا لمن غروني، فلما سافرت إلى بعض الآفاق ورأيت كثرة من أعرض عن الهدى، دعوت الله أن يهديني لما اختلف فيه إلى الحق، فأزال الله عني الهوى والتعصب، وأبدله بالإنصاف، وصار عندي الحق أحق أن يتبع، فَعَنَّ لي أن أطالع (كشف الشبه) فوجدتها كاسمها، مشتملة على أجل المطالب وأوجب الواجبات، فكانت جديرة أن تكتب بماء الذهب، ثم قلت نظما:
__________
(1) علماء نجد (1/500).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/472-474).(1/96)
لقد ضل قوم سموا الكشف بالجمع ... وقالوا مقالا واجب الدفع والرد
فجمع الشبه ما لفقوه ببغيهم ... وتضليلهم من هد ما شيد من ند
وقام بنصر الدين لله وحده ... وتجريده التوحيد للواحد الفرد
وجاهد فيما قام فيه لربه ... بماله والأهلين حقا وباليد
إلى أن قال:
فيا طالب الإنصاف بالعلم والهدى ... ألا تنظر كشف الشبه درة العقد
فقد حل فيها كشف ما كان مشكلا ... بأوضح تبيان ينوف على العد
فجازاه رب الخلق خير جزائه ... لما قام في التوحيد يهدي ويهتدي (1)
عبدالرحمن بن عبدالله آل الشيخ (2) (1274 هـ)
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ولد في الدرعية سنة تسع عشرة ومائتين وألف من الهجرة ونشأ بها، وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة نقل مع أبيه وغيره من أعيان نجد إلى مصر، فأقام بها، وتعلم في الجامع الأزهر، ثم صار مدرسا فيه برواق الحنابلة.
قال الشيخ عبدالرزاق البيطار: الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالوهاب النجدي العالم المشهور والهمام الذي فضله مأثور... التفت إلى الطلب والتعلم والتعليم والاستفادة والإفادة، إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهد والعبادة. وقال الحلواني: وكان عالما فقيها ذا سمة حسنة، يظهر عليه التقى والصلاح.
وبقي فيها إلى أن توفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
موقفه من المشركين:
جاء في تاريخ علماء نجد: وبلغني أن جماعة السبكية، لم يعتنقوا المذهب الحنبلي، ولم يكونوا محققين لتوحيد العبادة إلا عن طريقه. (3)
عبدالله بن عبدالرحمن أبا بُطَيْن (4) (1282 هـ)
__________
(1) علماء نجد (5/473-474).
(2) علماء نجد (2/393-395).
(3) تاريخ علماء نجد (2/394).
(4) علماء نجد (2/567-575) والأعلام (4/97) ومعجم المؤلفين (6/72-73) والسحب الوابلة (2/626-633) والدرر السنية (12/75-77).(1/97)
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن، الملقب كأسلافه (أبا بطين)، ولد في الروضة من قرى سدير سنة أربع وتسعين ومائة وألف من الهجرة، ونشأ بها، وقرأ على عالمها الشيخ محمد بن طراد الدوسري ولازمه ملازمة تامة، ثم ارتحل إلى شقراء، ثم إلى عنيزة وولي قضاءها وقضاء جميع بلدان القصيم.
قال عنه الشيخ إبراهيم بن عيسى: الإمام والحبر الهمام العالم العلامة والقدوة الفهامة الشيخ عبدالله أبا بطين، مهر في الفقه وفاق أهل عصره في إبان شبيبته. وقال تلميذه ابن حميد (صاحب السحب الوابلة): وأما اطلاعه على خلاف الأئمة الأربعة بل على غيرهم من السلف والروايات والأقوال المذهبية، فأمر عجيب، ما أعلم أني رأيت من يضاهيه بل ولا من يقاربه. أخذ عنه كبار علماء نجد منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم السناني والشيخ علي بن محمد آل راشد والشيخ عثمان بن بشر وغيرهم.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- له:
1- 'تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس'، والكتاب مطبوع.
2- 'تعقبات نفيسة على لوامع الأنوار'، تدل على سعة علمه، وعمق فهمه للعقيدة السلفية.
عثمان بن عبدالعزيز بن منصور (1) (1282 هـ)
الشيخ عثمان بن عبدالعزيز بن منصور بن حمد الحسيني الناصري العمري التميمي. ولد في أول القرن الثالث عشر في بلدة الفرعة، وقرأ على الشيخ عبدالعزيز الحصين الناصري والشيخ عبدالرحمن بن حسن من علماء سدير، ثم سافر إلى العراق، فقرأ على داود بن جرجيس ومحمد بن سلوم.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/89-106) والأعلام (4/208).(1/98)
قال فيه ابن بشر: الشيخ النبيه والعالم العلامة الفقيه، الذي حوى فنون العلوم، وكشف عنها الستور، وتلألأت بمعاني بيانه السطور، شيخنا عثمان ابن منصور. وقال الشيخ علي الهندي: للشيخ عثمان بن منصور مجموع فتاوى مخطوطة، وكان ذا فهم حاد، بارعا في فنون من العلم. ألف قصيدة في مدح شيخه ابن جرجيس، فرد عليه علماء السنة بقصائد داحضة. ولاه الإمام تركي قضاء بلدة جلاجل، ثم ولاه الإمام فيصل قضاء مدينة حائل، ثم سدير. كان على خلاف مع شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وألف كتاب 'أسرار المعارج في أخبار الخوارج' يُعَرِّض به للدعوة السلفية. وقد حكى مجموعة من الشيوخ تراجع الشيخ ابن منصور عن عقيدته ولزومه العقيدة السلفية.
توفي رحمه الله في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف في حوطة سدير.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية:
1- 'فتح الحميد شرح كتاب التوحيد'.
2- 'الرد الدافع على من اعتقد أن شيخ الإسلام زائغ'، وهو رد على عثمان بن سند البصري النجدي، وهو عبارة عن قصيدة بين فيها غيرته على العقيدة السلفية.
جاء فيها: قال العبد الفقير، المقر بالذنب والتقصير، عثمان بن عبدالعزيز بن منصور الناصري العمري التميمي الحنبلي، ستر الله عيوبه وغفر له ذنوبه، ردا على عثمان بن سند الفيلكي ثم البصري -قتله الله تعالى- لما سب شيخ الإسلام، وقدوة الأعلام أحمد بن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ونسبه مع ذلك للتجسيم والتضليل، في محاورة صدرت بيني وبينه، فأتى به فيها معترضا بسبه، وأنا أسمع بحضرة تلميذ له يقال له: محمد بن تريك، فأبذى في الكلام بذلك السب وأقذع، وسب مع ذلك نجدا وأهلها، فحينئذ لم أتمالك عند سب شيخ الإسلام المذكور أن قلت منشدا ما يأتي منتصرا له ولسلفه الصالح من أهل السنة والجماعة، ومبينا لعقيدته...إلى أن قال:
فنعلم أن الله فوق عباده ... كما جاء في الفرقان للخلق يسمع(1/99)
علا خلقه الرحمن ربي مسافة ... وبالعلم أدنى من وريد وأسرع
وتنكر ذا تبا لك اليوم منكرا ... كذبت لأنت بالغواية توضع
وإن إله الخلق عال لعرشه ... عليه استوى الرحمن بالنص أقطع
وإن كلام الله يتلى حقيقة ... على ذاك أهل الخوف لله أجمع
وفي قولنا الإيمان قول ونية ... وفعل به الأركان لله تخشع
يدور على بضع وسبعين شعبة ... ومنكر هذا القول بالنص يقمع
يزيد على الطاعات فينا كقولنا ... ينقص من العصيان والحق مقطع
وفي منزل الأبرار ينظر وجهه ... ويحجب عنه الملحدون ويمنعوا
نقر بأن الله جل جلاله ... عليم قدير كامل الوصف يسمع
بصير يرى مخ البعوض بعضوها ... ويحصي حساب الخلق علما ويجمع
فهذا اعتقادي والذي قلت إنه ... يرى مذهب التجسيم هل أنت تسمع
وقولك في عرض المذمة شيخكم ... يضل الورى جهلا وفيكم تنطع
أبن لي ضلال الشيخ حتى أجيبكم ... أفي هدمه الأوثان فالحق يتبع
أبن لي أبن لي لا أبا لك وانتبه ... أفي سده طرق الضلالات مشنع
أبن لي أبن لي ما الضلالات عندكم ... أكف دعاة السوء فينا فنسمع
كففناهم عن ديننا ودمائنا ... وأنت لسعد آخر الليل تضبع (1)
أحمد بن علي بن حسين آل مشرف (2) (1285 هـ)
الشيخ الشاعر أحمد بن علي بن حسين آل مشرف. ولد في مدينة الزبالة، وتعلم بها، وقرأ على علماء الأحساء وأغلبهم مالكي المذهب حتى صار من أعيان الفقهاء الكبار، وعين قاضيا بها. وكان كفيف البصر منذ طفولته، وأولع بالشعر والأدب فأصبح يقول القصائد والمراثي الجياد. وعرف رحمه الله بالدفاع عن العقيدة السلفية وله في ذلك مصنفات، جمعت في مجلد باسم 'ديوان ابن مشرف' وله مختصر صحيح مسلم.
توفي رحمه الله في الأحساء سنة خمس وثمانين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من الجهمية:
- له من الآثار السلفية:
1- 'قصيدة نظم فيها عقيدة ابن أبي زيد القيرواني المالكي في رسالته'.
2- 'جوهرة التوحيد'. وهي نظم عذب على عقيدة السلف.
__________
(1) علماء نجد (5/98و103-105).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/502-503) والأعلام (1/182-183).(1/100)
3- 'الشهب المرمية على المعطلة والجهمية' (1) :
قال فيها:
نفيتم صفات الله، فالله أكمل ... وسبحانه عما يقول المعطل
زعمتم بأن الله ليس بمستوٍ ... على عرشه، والاستوا ليس يُجهل
فقد جاء في الأخبار في غير موضع ... بلفظ "استوى" لا غير يا مُتَأوِّل
وقد جاء في إثباته عن نبينا ... من الخبر المأثور ما ليس يُشْكِل
فصرح أن الله جل جلاله ... على عرشه منه المَلائك تنزل
يخافونه من فوقهم وعُروجُهم ... إليه وهذا في الكتاب مفصل
وتعرج حقا روح من مات مؤمنا ... إليه فتحظى بالمُنى ثم ترسل
وبالمصطفى أسرى إلى الله، فارتقى ... على هذه السبع السموات في العلو
ومنه دنا الجبار حقا، فكان قا ... ب قوسين أو أدنى كما هو منزل
وفي ذا حديث في صحيح محمد ... صحيح صريح ظاهر لا يؤول
وقد رفع الله المسيح ابن مريم ... إليه ولكن بعد ذا سوف ينزل
فيكسر صُلْبان النصارى بكفه ... وما دام حيا للخنازير يقتل
وليس له شرع سوى شرع أحمد ... فيقضي به بين الأنام ويعدل
وزينب زوج المصطفى افتخرت على ... بقية أزواج النبي بلا غلو
فقالت: تولى الله عقدي بنفسه ... فزوجني من فوق سبع من العلو
وإن سفيري روحه وكفى بها ... لزينب فخرا شامخا فهو أطول
ولما قضى سعد الرضى في قريظة ... بأن يُسْتَرَقّوا والرجال تقتل
وأمضى رسول الله في القوم حكمه ... لقد قال ما معناه إذ يتأمل
ألا إن سعدا قد قضى فيهم بما ... قضى الله من فوق السموات فافعلوا
وقد صح أن الله في كل ليلة ... إذا ما بقي ثلث من الليل ينزل
إلى ذي السما الدنيا ينادي عباده ... إلى أن يكون الفجر في الأفق يشعل
يناديهم: هل تائب من ذنوبه؟ ... فإني لغفار لها مُتقبِّل
وهل منكم داع؟ وهل سائل لنا؟ ... فإني أجيب السائلين وأجزل
وقد فطر الله العظيم عباده ... على أنه من فوقهم فلهم سلوا
لهذا تراهم يرفعون أكفهم ... إذا اجتهدوا عند الدعاء إلى العلو
أقروا بهذا الاعتقاد جِبِلّة ... ودانوا به ما لم يصدوا ويخذلوا
على ذا مضى الهادي النبي وصحبه ... وأتباعهم خير القرون وأفضل
__________
(1) علماء نجد (1/503).(1/101)
فأخلف قوم آخرون فحرفوا ... نصوص كتاب الله جهلا وأولوا
فجاءوا بقول سيء سره، وما ... بدا منه يزهو باللآلي مكلل
هم عطلوا وصف الإله وأظهروا ... بذلك تنزيها له وهو أكمل
ومن نزه الباري بنفي صفاته ... فما هو إلا جاحد ومعطل
فيا أيها النافي لأوصاف ربه ... لقد فاتك النهج الذي هو أمثل
تحيد عن الذكر الحكيم ونصه ... وتزور عن قول النبي وتعدل
و تنفي صفات الله بعد ثبوتها ... بنص من الوحيين ما فيه مجمل
إذا جاء نص محكم في صفاته ... جحدت له، أو قلت: هذا مؤول
ألا تقتفي آثار صحب محمد؟ ... فمنهاجهم أهدى وأنجى وأفضل
فما مذهب الأخلاف أعلم بالهدى ... من القوم لو أنصفت أوكنت تعقل
ولكنه من بعض ما أحدث الورى ... ومن يبتدع في الدين فهو مضلل
وقال رحمه الله في فصل في اعتقاد السلف الصالح رضوان الله عليهم (1) :
ولكننا والحمد لله لم نزل ... على قول أصحاب الرسول نعول
نقر بأن الله فوق عباده ... على عرشه، لكنما الكيف نجهل
وكل مكان فهو فيه بعلمه ... شهيد على كل الورى ليس يغفل
وما أثبت الباري تعالى لنفسه ... من الوصف أو إبداء من هو مرسل
فنثبته لله جل جلاله ... كما جاء، لا ننفي ولا نتأول
هو الواحد الحي القديم له البقا ... مليك يولي من يشاء ويعزل
سميع بصير قادر متكلم ... عليم مريد آخر هو أول
تنزه عن ند وولد ووالد ... وصاحبة فالله أعلى وأكمل
وليس كمثل الله شيء وماله ... شبيه ولا ند بربك يعدل
وإن كتاب الله من كلماته ... ومن وصفه الأعلى حكيم منزل
فليس بمخلوق، ولا وصف حادث ... فيفنى، ولكن محكم لا يبدل
هو الذكر متلو بألسنة الورى ... وفي الصدر محفوظ وفي الصحف يسجل
فألفاظه ليست بمخلوقة، ولا ... معانيه، فاترك قول من هو مبطل
وقد أسمع الرحمن موسى كلامه ... على طور سينا، والإله يفصل
وللطور مولانا تجلى بنوره ... فصار لخوف الله دكا يزلزل
وإن علينا حافظين ملائكا ... كراما بسكان البسيطة وكلوا
فيحصون أقوال ابن آدم كلها ... وأفعاله طرا، فلا شيء يهمل
__________
(1) انظر آخر رسالة 'الجوهرة الفريدة' للحكمي (ص.61-65).(1/102)
ولا حي غير الله يبقى، وكل من ... سواه له حوض المنية منهل
وإن نفوس العالمين بقبضها ... رسول من الله العظيم موكل
ولا نفس تفنى قبل إكمال ... ولكن إذا تم الكتاب المؤجل
وسيان منهم من ودى حتف أنفه ... ومن بالظبى والسمهرية يقتل
وإن سؤال الفاتنين محقق ... لكل صريع في الثرى حين يجعل
يقولان ماذا كنت تعبد؟ ما الذي ... تدين؟ ومن هذا الذي هو مرسل؟
فيا رب ثبتنا على الحق واهدنا ... إليه، وأنطقنا به حين نسأل
وإن عذاب القبر حق وروح من ... ودى في نعيم أو عذاب يعجل
فأرواح أصحاب السعادة نعمت ... بروح وريحان وما هو أفضل
وتسرح في الجنات تجني ثمارها ... وتشرب من تلك المياه وتأكل
ولكن شهيد الحرب حي منعم ... فتنعيمه للروح والجسم يحصل
وأرواح أصحاب الشقاء مهانة ... معذبة للحشر، والله يعدل
وأن معاد الروح والجسم واقع ... فينهض من قد مات حيا يهرول
وصيح بكل العالمين فأحضروا ... وقيل: قفوهم للحساب ليسألوا
فذلك يوم لا تحد كروبه ... بوصف فإن الأمر أدهى وأهول
يحاسب فيه المرء عن كل سعيه ... وكل يجازى بالذي كان يعمل
وتوزن أعمال العباد جميعها ... وقد فاز من ميزان تقواه يثقل
وفي الحسنات الأجر يلقى مضاعفا ... وبالمثل تجزى السيئات وتعدل
ولا يدرك الغفران من مات مشركا ... وأعماله مردودة ليس تقبل
ويغفر غير الشرك ربي لمن يشا ... وحسن الرجا والظن في الله أجمل
وإن جنان الخلد تبقى ومن بها ... مقيما على طول المدى ليس يرحل
أعدت لمن يخشى الإله ويتقي ... ومات على التوحيد فهو مهلل
وينظر من فيها إلى وجه ربه ... بذا نطق الوحي المبين المنزل
وإن عذاب النار حق وإنها ... أعدت لأهل الكفر مثوى ومنزل
يقيمون فيها خالدين على المدى ... إذا نضجت تلك الجلود تبدل
ولم يبق بالإجماع فيها موحد ... ولو كان ذا ظلم يصول ويقتل
وإن لخير الأنبياء شفاعة ... لدى الله في فصل القضاء فيفصل
ويشفع للعاصين من أهل دينه ... فيخرجهم من ناره وهي تشعل
فيلقون في نهر الحياة فينبتوا ... كما في حميل السيل ينبت سنبل
وإن له حوضا هنيئا شرابه ... من الشَّهْدِ أحلى فهو أبيض سلسل(1/103)
يُقَدر شهرا في المسافة عرضه ... كأَيْلَة من صنعا وفي الطول أطول
وكيزانه مثل النجوم كثيرة ... ووارده كل أَغَرّ مُحَجَّل
من الأمة المستمسكين بدينه ... وعنه ينحى محدِثٌ ومبدِّل
فيا رب هب لي شربة من زُلالِه ... بفضلك يا من لم يزل يتفضَّل
موقفه من المرجئة:
- قال:
وإنا نرى الإيمان قولا ونية وينقص بنقصان طاعة ... وفعلا إذا ما وافق الشرع يقبل
ويزداد إن زادت فينمو ويكمل (1)
- وقال في نظمه لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني:
وأول الفرد إيمان الفؤاد كذا ... نطق اللسان بما في الذكر قد سطرا
إلى أن قال (2) :
وأن إيماننا شرعا حقيقته وأن معصية الرحمن تنقصه ... قصد وقول وفعل للذي أمرا
كما يزيد بطاعة الذي شكرا
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله (3) :
وبالقدر الإيمان حتم وبالقضا ... فما عنهما للمرء في الدين معدل
قضى ربنا الأشياء من قبل كونها ... وكل لديه في الكتاب مسجل
فما كان من خير وشر فكله ... من الله والرحمن ما شاء يفعل
فبالفضل يهدي من يشاء من الورى ... وبالعدل يردي من يشاء ويخذل
وما العبد مجبور وليس مخيرا ... ولكن له كسب وما الأمر مشكل
عبدالرحمن بن حسن (4) (حفيد الشيخ) (1285 هـ)
الشيخ الإمام عبدالرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب مفيد الطالبين وقامع المبتدعين، ولد في الدرعية سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف للهجرة. وقرأ على جده كتاب التوحيد وغيره، ولازم دروسه، وأخذ عن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلى عمه الشيخ عبدالله والشيخ حسين بن غنام وغيرهم. نقله إبراهيم باشا إلى مصر فمكث فيها ثمان سنين، ثم عاد إلى نجد، وتولى قضاء الرياض.
__________
(1) الجوهرة الفريدة (ص.66).
(2) الجوهرة الفريدة (ص.52و56).
(3) الجوهرة الفريدة (ص.66). (الشهب المرمية).
(4) علماء نجد (1/56) والأعلام (3/304) ومعجم المؤلفين (5/135) والدرر السنية (12/60-66).(1/104)
قال الشيخ عثمان بن بشر: هو العالم النحرير، والبحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين وافتخار العلماء الراسخين، ومرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوظ بعناية رب العالمين، عمدة السلف وبقية الخلف، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية والآثار السلفية، مفتي فرق الأنام، ومؤيد شريعة سيد الأنام. وقال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام العالم الفاضل القدوة، رئيس الموحدين قامع الملحدين، كان إماما بارعا محدثا فقيها، ورعا تقيا نقيا صالحا، له اليد الطولى في جميع العلوم الدينية، وكان ملازما للتدريس، مرغبا في العلم، معينا عليه، كثير الإحسان للطلبة، لين الجانب، كريما سخيا، ساكنا وقورا، كثير العبادة. وقال فيه الشيخ أحمد بن مشرف بعد ثنائه على الشيخ محمد:
كذا عابد الرحمن أعني حفيده ينافح عن دين الهدى كل مبطل ... بنور الهدى يهدي فمن ذا يعادله
فيبطل تمويهاته ويناضله
أخذ عنه الشيخ عبداللطيف والشيخ حسين بن حمد آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن حسين آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن محمد بن مانع والشيخ حمد بن عتيق وغيرهم.
توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة العود في الرياض.
موقفه من المبتدعة:
- له:
1- 'فتح المجيد شرح كتاب التوحيد' وقد نفع الله به أهل المشرق والمغرب.
2- 'القول الفصل النفيس في الرد على ابن جرجيس'.
3- 'المحجة بالرد على اللجة' رد على صاحب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة.
4-'قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين' وهو عبارة عن تعليق على كتاب التوحيد، وقد طبع والحمد لله.
5- 'بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري'.
6- 'المقامات' وهو رد على عثمان بن عبدالعزيز بن منصور الناصري، تعرض فيه للحروب الواقعة بين الدعوة السلفية، والدولة العثمانية المصرية، فهو كتاب رد وتاريخ.
موقفه من القدرية:(1/105)
- تكلم في فتح المجيد عن القدر في صدد شرحه للنصوص التي أوردها جده في كتاب التوحيد، قال رحمه الله بعد حديث ابن عمر الطويل (1) : ففي هذا الحديث: أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، فشبه من قال الله فيهم: أَفَتُؤْمِنُونَ { بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (2) .اهـ (3)
- وقال بعد حديث عبادة (4) : وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى، وإحاطته بما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: اللَّهُ { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } (12) (5) . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله، لما سئل عن القدر، قال: (القدر قدرة الرحمن) واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله.
والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء. ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى، فضلوا عن سواء السبيل. وقد قال بعض السلف: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا كفروا. (6)
وقال في خاتمة الباب: وكل هذه الأحاديث، وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم. ومن مذهبهم: تخليد أهل المعاصي في النار. وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر، وأعظم المعاصي.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف يحيى بن يعمر سنة (89هـ).
(2) البقرة الآية (85).
(3) فتح المجيد (ص.598-599).
(4) تقدم تخريجه في مواقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة (34هـ).
(5) الطلاق الآية (12).
(6) فتح المجيد (ص.600).(1/106)
وفي الحقيقة: إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا. وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار. (1)
عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ (2) (1293 هـ)
الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الدرعية سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة، أخذ عن أبيه وخاله الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد وجده لأمه الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيرهم. سافر إلى مصر مع أبيه المنقول، فمكث فيها إحدى وثلاثين سنة قضاها في طلب العلم حتى صار إماما من أئمته، يقصده الطلاب من أدنى البلاد وأقصاها. وفي عام أربع وستين ومائتين وألف من الهجرة قدم الشيخ إلى الرياض، فبدأ بنشر الدعوة السلفية القائمة على توحيد العبادة وخلوصها من أنواع الشرك، كما دعت إليها الرسل عليهم السلام.
قال صاحب الدرر السنية: أدرك مقام الأئمة الكبار، وناسب قيامه من بعض الأمور مقام الصديقين، وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نصرة دينه والتقاء أعباء الأمر بنفسه. وقال فيه الشيخ سليمان بن سحمان:
فعبداللطيف الحبر أوحد عصره ... إمام هدى قد كان لله داعيا
لقد كان فخرا للأنام وحجة ... وثقلا على الأعداء عضبا يمانيا
إماما سما مجدا إلى المجد وارتقى ... وحل رواق المجد إذ كان عاليا
تصدى لرد المنكرات وهد ما ... بنته عداة الدين من كان طاغيا
أخذ عنه ابنه الشيخ عبدالله والشيخ إسحاق والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ وغيرهم.
توفي رحمه الله في مدينة الرياض سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) فتح المجيد (ص.602).
(2) علماء نجد (1/63-71) ومعجم المؤلفين (6/10-11) والدرر السنية (12/66-75).(1/107)
عاش رحمه الله فترة تغلب الدولة العثمانية على ديار نجد، فكان هذا الإمام في مصر مدة طويلة قضاها كلها في طلب العلم والدعوة إلى العقيدة السلفية، فلم يذب في عقائد المصريين الباطلة، بل كان الداعية إلى عقيدة السلف، وله مواقف مشرفة سجلها المؤرخون له في كتبهم، وستبقى له ذخرا عند الله يوم القيامة.
- جاء في تاريخ علماء نجد: ولما استولى الإمام فيصل على الأحساء، وكان فيها خليط من العقائد والآراء، فالرافضة لهم شوكة، وعلماء الشافعية والمالكية أشاعرة، وعلماء الأحناف ماتوريدية. وتشترك هذه الطوائف كلها في وسائل الشرك، من نحو تعظيم القبور والغلو في الصالحين، والبدع من نحو الموالد، ومراسم الموت والجنائز، فكان الشيخ عبداللطيف هو المختار لمقابلة مثل هؤلاء، ومحاربة أمثال هذه الأمور، فبعثه الإمام إليهم، فناقش هؤلاء العلماء بلسان فصيح، وعلم صحيح، وصدر فسيح، وقابل الحجة بأقوى منها، ورد الشبهة بأوضح منها، فأذعنوا له وسلموا، فزال ما في نفوسهم من رواسب الشبه، وباطل التأويل، فتقرر لديهم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الأسلم والأعلم والأحكم، وأن الدعوة السلفية التي نادى بها الشيخ محمد ابن عبدالوهاب هي العودة إلى صفاء العقيدة، وخلوص العبادة، كما دعت إليها الرسل ونزلت بها الكتب، وبعد أن صارت العقيدة واحدة والطريقة متحدة، عاد الشيخ عبداللطيف إلى الرياض. (1)
" التعليق:
نجد في هذا النص المبارك: أن العقيدة السلفية كانت تقوم على الإقناع والحجة والبرهان، ولم تكن تقوم على الغلبة.
وفيه منقبة لهذا الشيخ، ومن أرسله للدفاع عن العقيدة السلفية.
- آثاره السلفية:
1- 'البراهين الإسلامية في الرد على الشبه الفارسية'.
2- 'شرح بعض نونية ابن القيم'.
3- 'منهاج التأسيس في كشف شبهات ابن جرجيس'.
4- 'الإتحاف في الرد على الصحاف'.
ذكرها صاحب هدية العارفين (2) .
__________
(1) 1/65-66).
(2) 1/619).(1/108)
حمد بن علي بن عَتِيق (1) (1301 هـ)
الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق، ولد سنة سبع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة في بلدة الزلفي. أخذ عن الشيخ عبداللطيف والشيخ علي ابن حسين والشيخ عبدالرحمن بن عدوان وغيرهم. وممن قرأ عليه واستفاد منه ابنه الشيخ سعد بن حمد وابنه الثاني الشيخ عبدالعزيز وابنه الثالث الشيخ عبداللطيف والشيخ عبدالله بن عبداللطيف وغيرهم. قال فيه الشيخ سليمان ابن سحمان رحمه الله:
يعز علينا أن نرى اليوم مثله ... لحل عويص المشكلات البوادر
وللشبهات المعضلات وردها ... إذا ما تبدت من كفور مقامر
فلله من حبر تصعد للعلا ... فحل على هام النجوم الزواهر
ولله من حبر إمام وبلتع ... يعوم بتيار من العلم زاخر
ولي قضاء الحلوة ثم قضاء الأفلاج، إلى أن توفي فيها سنة إحدى وثلاثمائة وألف، رحمه الله تعالى. ولما مات أسف عليه المسلمون وبكاه المواطنون، لما هو عليه من سعة العلم وتحقيق العقيدة والصراحة في الحق.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في تاريخ علماء نجد: وكان الشيخ حمد معاصرا للعالم المشهور: الشيخ صديق بن حسن، صاحب المؤلفات، وكان بينهما مراسلة. ومن تلك الرسائل المتبادلة بينهما رسالة مطولة، أثنى الشيخ حمد فيها على الشيخ صديق، وعلى تمسكه بالسنة المحمدية، ونبذ الخرافات، والبدع الناشئة في غالب أرجاء العالم الإسلامي. ومدح مؤلفاته، ولكنه بين له بعض الأخطاء في تفسيره، ودله فيها على مذهب السلف الصالح.
وقد جاء فيها ما يلي:
من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم: محمد صديق، زاده الله من التحقيق. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالواجب إبلاغ السلام، شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام.
__________
(1) علماء نجد (1/228-232) والأعلام (2/272) والدرر السنية (12/77-79).(1/109)
اعلم وفقك الله أنه كان بلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق، ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة، يقال له صديق فنفرح بذلك، ونسر لغرابة الزمان، وقلة الإخوان، وكثرة أهل البدع، ثم وصل إلينا كتاب التحرير، فازددنا فرحا وحمدنا الله، فبينما نحن كذلك، إذ وصل إلينا التفسير بكماله، فرأينا أمرا عجبا نظن أن الزمان لم يسمح بمثله، وما قرب منه من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريق الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشئه، وسلامة عقيدته لعلمنا أن ذلك من فضل الله: وَعَلَّمْنَاهُ { مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } (65)، فالحمد لله رب العالمين، فزاد الاشتياق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة، فمن العوائق تباعد الديار، وطول المسافات، فإن مقرنا -في فلج اليمامة- ومنها خطر الطريق، وتسلط الحرامية، ونهب الأموال، واستباحة الدماء، وإخافة السبل.
ولما رأينا ما من الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا شركتكم من الآلات، وكانت -نونية ابن القيم- بين أيدينا، ولنا بها عناية، ولكن أفهامنا قاصرة، وبضاعتنا مزجاة من أبواب جملة، وفيها موضوعات محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدا تصدى لشرحها، فإن غلب على الظن أنك تقدر على ذلك فافعل، وهي واصلة إليك، فاجعل قراءتها شرحها. ولنا مقصد آخر، وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف، فنظرت فيه، ولم أتمكن إلا من بعضه، ومع ذلك وقعت على موضوعات تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين: أحدهما أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في الكتاب بعد إتمامه. والثاني: أن الظاهر أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضا بلفظه وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره.(1/110)
وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحا لله ورسوله، ورجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان، وأنا أنتظر منك الجواب، ثم إني لما رأيت ترجمتك، وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم؛ كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفرى، وألتمس من جنابك أن تتفضل علينا بكتاب 'السول في أقضية الرسول' و'الروضة الندية' و'نيل المرام'.
فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ، وابعث بها إلينا على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة، واكتب لنا تعريفا بأحوالكم.
ولعل أحدا يتلقى هذا العلم ويحفظ عنك، واحرص على ذلك طمعا أن يجمع الله لك شرف الدنيا والآخرة. واعلم أنى قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار، ولا آمن هجوم المنية، ولي من الأولاد ثمانية، منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد ويليه عبدالعزيز وتحته عبداللطيف وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب.
ولا تنسنا من دعائك الصالح كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. (1)
" التعليق:
هذه الرسالة القيمة لهذا العالم تدل على الأمور الآتية:
- اهتمام الشيخ بالعقيدة السلفية.
- الطريقة المثلى في التنبيه على الخطأ، بحيث لم يعنف، ولم يقرع، ولكن اللطف والثناء.
- تواضع الشيخ الكامل في مدح الصديق والاعتراف بالتقصير.
- طيب نفسه، يشم ذلك من عباراته في رسالته حيث ذكرنا بالسلف الأول.
- خطورة التأويل الذي في تفسير الصديق، وقد بينت ذلك في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (2) .
- بيان تأثر الصديق بعلم الكلام، وهذا تراجع عنه كما أثبت الشيخ الفاضل والزميل الطيب عاصم بن عبدالله القريوتي، في مقدمة كتاب 'قطف الثمر' للصديق.
__________
(1) 1/229-231).
(2) 2/625-646).(1/111)
- بيان ما كانت عليه الحال في ذلك الزمان، من قلة كتب ومراجع، هي الآن عندنا مبذولة، والحمد لله على نعمه وإحسانه.
- تعيين الوقت الذي كتبت فيه هذه الرسالة.
آثاره السلفية:
1- 'الفرق المبين بين السلف وابن سبعين'.
2- 'الدفاع عن أهل السنة والأتباع'.
3- 'إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد' وهو مطبوع.
وكلها مذكورة في علماء نجد (1) .
4- الرسالة المذكورة آنفا.
محمد بن المدني المستاري (2) (1302 هـ)
محمد بن المدني بن علي جنون، أبو عبدالله المستاري المغربي. كان من علماء القرن الثالث عشر في بلاد المغرب، مفتيا محدثا لغويا، نزيها، دؤوبا على نشر العلم، قوالا للحق، شديدا على أهل البدع، وأوذي بسبب ذلك وسجن.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثلاثمائة وألف.
موقفه من الصوفية:
__________
(1) 1/229).
(2) الفكر السامي (4/361-363) وشجرة النور الزكية (1/429) والأعلام (7/94) ومعجم المؤلفين (12/10).(1/112)
جاء في الفكر السامي: هذا الشيخ من أكبر المتضلعين في العلوم الشرعية الورعين، المعلنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... قوالا للحق مطبوعا على ذلك غير هياب ولا وجل، نزيها مقداما مهيبا، عالي الهمة، دؤوبا على نشر العلم، والإرشاد، والنهي عن المناكر والبدع، التي تكاثرت في أيامه، لا يخشى في الحق لومة لائم، يحضر مجلسه الولاة والأمراء أبناء الملوك وغيرهم، وهو يصرح بإنكار أحوالهم وما هم عليه، مبينا لهناتهم غير متشدق ولا متصنع، بل تعتريه حال ربانية، ولكلامه تأثير على سلطان النفوس، رزق في ذلك القبول والهيبة، على نحولة جسمه، ووصلته بذلك إذاية وسجن، لكن بمجرد سجنه اعتصب الطلبة وقامت قيامة العامة، فأطلق سبيله لذلك. فهو أحق من يقال في حقه مجدد لكثرة المنافع به، وانتشار العلم عنه وعن تلاميذه، وقيامه بالنهي عن مناكر وقته وكان شديدا على أهل الطرق ومالهم من البدع التي شوهت جمال الدين، والمتصوفة أصحاب الدعاوى التي تكذبها الأحوال، وما كان أحد يقدر على الرد عليه مع شدة إغلاظه عليهم وعلى غيرهم، وسلوكه في ذلك مسلك التشديد، بل التطرف في بعض المسائل، ومع ذلك هابه علماء وقته ولم يجرؤوا على انتقاده ... وله تآليف كثيرة في مواضع متنوعة، وكثيرا ما ألف في البدع (1) .
" التعليق:
نأخذ من هذه النصوص استئناسا بهؤلاء، لعلهم كانوا يوافقون السلف في بعض مواقفهم، وإلا من قرأ تراجمهم المفصلة، يجد عندهم بعض ما يخرج عن منهاج السلف، لكن وقوفه ضد المتصوفة، يُعْتَبَر موقفا سلفيا، وما ذكر المترجم من محاربته للبدع، فأرجو أن يكون عاما في جميع البدع.
سليمان بن علي بن مقبل (2) (1304 هـ)
__________
(1) الفكر السامي (4/362-363).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/373-380).(1/113)
الشيخ سليمان بن علي بن مقبل، ولد في قرية المنسى التابعة لمدينة بريدة، في حدود سنة عشرين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ فيها، وقرأ على علمائها. وأكثر أخذه عن الشيخ قرناس بن عبدالرحمن، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبدالرحمن بن حسن، ثم رحل إلى دمشق، فلازم الشيخ حسن بن عمر الشطي واستفاد منه. ثم عاد إلى وطنه، فاتصل بالشيخ عبدالله أبا بطين قاضي عنيزة فقرأ عليه وأخذ عنه. عين قاضيا في مدينة بريدة سنة ست وخمسين ومائتين وألف للهجرة.
قال فيه الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان: كان فقيها ذا وقار، مسددا في أحكامه، وطالت مدته في القضاء، فعزل نفسه لكبر سنه، وحج وجاور في مكة، وحج من قابل، ورجع إلى وطنه، فسكن "خب البصر" إلى أن مات فيه عام أربع وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
جاء في علماء نجد: ويذكر أنه لما عين قاضيا في بريدة، شك علماء الرياض في صحة تحقيقه التوحيد، وخافوا أنه ممن يجيز التوسل بذوات الصالحين أو ممن يجيز شد الرحال إلى القبور ونحو ذلك، فطلبوه ليحققوا معه، فذهب إليهم ورافقه تلميذه قاضي الخبراء الشيخ محمد بن عمر بن مبارك العمري، فلما باحثوه وظهر لهم صحة معتقده، عاد إلى بريدة واستمر في عمله القضائي. (1)
موقف السلف من
الدجال الكذاب أحمد زيني دحلان (1304 هـ)
محاربته للعقيدة السلفية:
__________
(1) علماء نجد (2/375).(1/114)
- كلمة الشيخ رشيد رضا فيه في مقدمة صيانة الإنسان (1) : 'رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان في الرد على الوهابية'. تصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبدالوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة، منهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد، وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة، الشيخ أحمد زيني دحلان، المتوفى سنة أربع وثلاثمائة وألف، ألف رسالة في ذلك، تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته في ما هو مصيب فيه، أنشئت أول مطبعة في مكة المكرمة في زمن هذا الرجل، فطبع رسالته وغيرها من مصنفاته فيها، وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة، على حجاج الآفاق فعم نشرها، وتناقل الناس مفترياته وبهاءته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتخذت المبتدعة والحشوية والخرافيون رواياته ونقوله الموضوعة والواهية والمنكرة وتحريفاته للروايات الصحيحة حججا يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين، وقد فنيت نسخ رسالته تلك ولم يبق منها شيء بين الأيدي، ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم، كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا، ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشائخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم، وخضضت شوكتهم.
__________
(1) ص.7-10).(1/115)
وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر، فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام، وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذا لتجدد مجده وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى.
على أن العلامة الشيخ: عبدالباسط الفاخوري، مفتي بيروت، كان ألف كتابا في تاريخ الإسلام، ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقال: إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال: إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبدالحميد! ورأيت شيخنا: الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم وأنه لولا ذلك، لكان إصلاحهم عظيما، ورجى أن يكون عاما، وقد ربى الملك عبدالعزيز الفيصل أيده الله غلاتهم المتشددين، منذ سنتين بالسيف، تربية يرجى أن تكون تمهيدا لإصلاح عظيم.
ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورسائله وفتاويه، وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم، ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية، ورأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبا عليهم قالوا: 7oY"ysِ6ك™ { هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } (16) (1) . وما كان صحيحا أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه، وقد طبعت أكثر كتبهم وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم.
__________
(1) النور الآية (16).(1/116)
ومن المستبعد جدا، أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل، وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها ثم أصر على ما عزاه إليهم من الكذب والبهتان -ولا سيما ما نفوه صريحا وتبرأوا منه- فأي قيمة لنقله ولدينه وأمانته؟ وهل هو إلا ممن باعوا دينهم بدنياهم؟
ولقد نقل عنه بعض علماء الهند ما يؤيد مثل هذا فيه. فقد قال صاحب كتاب 'البراهين القاطعة على ظلام الأنوار الساطعة' المطبوع بالهند: إن شيخ علماء مكة في زماننا قريب من سنة ثلاث وثلاثمائة وألف قد حكم -أي أفتى- بإيمان أبي طالب، وخالف الأحاديث الصحيحة، لأنه أخذ الرشوة -الربابي القليلة- من الرافضي البغدادي اهـ. وشيخ مكة في ذلك العهد هو الشيخ أحمد دحلان الذي توفي سنة أربع وثلاثمائة وألف، وصاحب الكتاب المذكور هو العلامة الشيخ رشيد أحمد الكتكوتي مؤلف كتاب بذل المجهود شرح سنن أبي داود، والخبر مذكور فيه، وهو قد نسب إلى أحد تلاميذ مؤلفه الشيخ خليل أحمد والصحيح أنه هو الذي أملاه عليه، وهو كبير علماء "ديوبند" في عصره رحمه الله.
وإذا فرضنا أن الشيخ أحمد دحلان لم ير شيئا من تلك الكتب والرسائل، ولم يسمع بخبر عن تلك المناظرات والدلائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه ويبحث ويسأل عن كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورسائله، ويجعل رده عليها، ويقول في الأخبار اللسانية قال لنا فلان، أو قيل عنه كذا، فإن صح فحكمه كذا؟ إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره وعدوه من أئمة المصلحين، المجددين للإسلام، ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم. ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك، وإنما هي تمهيد للتعريف بهذا الكتاب في الرد عليه.(1/117)
" التعليق:
يستفاد من هذا النص الحقائق الآتية:
- بيان الحالة التي كان عليها دحلان من محاربته للعقيدة السلفية.
- بيان تعاون أهل الضلال، وتكاتفهم ضد العقيدة السلفية - أمراء تجار وعلماء.
- الأثر الخبيث الذي تركته كتب هذا المبتدع في نفوس الناس.
- التردي الفكري والعلمي الذي كان يعيشه العالم الإسلامي، وإلا كان بالإمكان أن يتوصل لحقيقة طالبها وإن بعدت الديار.
- كثير من الناس اقتنعوا بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وإن كان التطبيق ينقصهم.
- مبلغ عداوة الدولة العثمانية للعقيدة السلفية.
- شجاعة الشيخ عبدالباسط في إظهار العقيدة السلفية على حقيقتها، وإن كان ينقصه بعض الفهم والتصور عنها، كما ينقص الشيخ رشيد رضا.
- بيع الخرافيين والدجالين لفتواهم الباطلة، ونزاهة السلفيين عن مثل هذا السقوط.
- الإلزامات الجيدة التي ذكرها الشيخ رشيد، تلزم كل خرافي وصاحب بدعة في العقيدة السلفية.
صديق حسن خان (1) (1307 هـ)
__________
(1) هدية العارفين (2/388) والأعلام (6/167) ومعجم المؤلفين (10/90) ومقدمة قطف الثمر (11-25) وجلاء العينين (48) والتاج المكلل (ص.541-550) وأبجد العلوم (3/216-218).(1/118)
الشيخ العلامة محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني أبو الطيب البخاري القَنُّوجِي. ولد سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف للهجرة في قنوج (بالهند)، ثم ارتحل إلى مدينة دهلي، ثم إلى بهوبال، طالبا للعلم وآخذا من أهله. أخذ عن الشيخ صدر الدين الدهلوي وحسن بن محسن السبعي الأنصاري وغيرهما. وفي عام ثمان وثمانين ومائتين وألف للهجرة تزوج ملكة بهوبال، وعمل وزيرا لها ونائبا عنها. قال عنه تليمذه ابن الآلوسي: شيخنا الإمام الكبير، السيد العلامة الأمير البدر المنير، البحر الحبر في التفسير والحديث والفقه والأصول... فصيح سريع القراءة، سريع الكتابة، سريع الحفظ والمطالعة، لا يبالي في الله بلومة لائم من أهل الابتداع، ولا تمنعه صولة صائل في تحرير الحق الحقيق بالاتباع. قال عن نفسه رحمه الله: ثم إني لم أمدح في عمري هذا أحدا من الأمراء طمعا في صلته وملازمته كما هو عادة الشعراء، وإنما نظمت الشعر العربي والفارسي، إذا طاب الوقت وطاب الهواء. وغالب نظمي في التحريض على اتباع الكتاب والسنة لأنهما يكشفان عن كل مدلهمة ودجنة، وفي ذم التقليد الشؤوم، والابتداع المذموم.
حسبي بسنة أحمد متمسكا ... عن كل قول في الجدال ملفق
أورد أدلتها على أهل الهوى ... إن شئت أن تلهو بلحية أحمق
واترك مقالا حادثا متجددا ... من محدث متشدق متفيهق
ودع اللطيف وما به قد لفقوا ... فهو الكثيف لدى الخبير المتقي
ودع الملقب حكمة فحكيمها ... أبدا إلى طرق الضلالة يرتقي
من مؤلفاته: 'فتح البيان في مقاصد القرآن' و'الدين الخالص' و'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر' و'الإقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد' و'الروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني' وغيرها كثير. توفي رحمه الله سنة سبع وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:(1/119)
- هذا الإمام كان من ملوك الهند الذين من الله عليهم بالهداية إلى الإسلام عموما، وإلى السلفية خصوصا. يقول الشيخ عاصم في مقدمة كتاب قطف الثمر: كان الشيخ حريصا أشد الحرص على العقيدة الصافية والدعوة إلى الكتاب والسنة وذم التقليد والجمود، كما تدل على ذلك سيرته ومؤلفاته. وكتابه العظيم 'الدين الخالص' يشهد له بذلك.
والمصنف رحمه الله كان أشعريا كما هو معروف لدى أهل العلم، وكتابه 'فتح البيان في مقاصد القرآن' يدل على ذلك، ولقد يسر الله له الحج عام خمس وثمانين ومائتين وألف. ولابد أنه التقى بعلماء أهل السنة في سفرته... وفي عام تسع وثمانين وألف ومائتين، صنف المؤلف رسالته 'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر' واستفاد من نصيحة الشيخ العلامة حمد بن عتيق -التي تقدم ذكرها في مواقف الشيخ حمد- وانكب على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، واغترف من كتبهما وكتب غيرهما من أهل السنة، وحث على ذلك. (1)
" التعليق:
يستفاد من هذا أن الشيخ كان على طريقة المؤولة ثم رجع إلى عقيدة السلف رحمه الله.
آثاره السلفية:
1- 'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر'، وهو يشبه إلى حد ما كتاب الواسطية لشيخ الإسلام. وقد طبع بتحقيق الشيخ عاصم.
2- 'الدين الخالص' وهو كتاب جيد فيه فوائد عظيمة، على هنات فيه في التوسل، وعدم التنظيم في السياق، وقد طبع.
3- 'الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة في اتباع السنة'.
4- 'الطريقة المثلى في الإرشاد إلى ترك التقليد واتباع ما هو الأولى'.
5- 'قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل' ذكر هذه الكتب الثلاثة الأخيرة الشيخ عاصم في المقدمة.
من طيب أقواله:
__________
(1) قطف الثمر (12).(1/120)
- قال عقب قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } أَرْبَابًا (1) الآية: وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم. وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء.
فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبدالله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبدالله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموها آذانا صما وقلوبا غلفا، وأفهاما مريضة وعقولا مهيضة وأذهانا كليلة وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول محمد ابن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - .
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب وأوضح لنا منهج الهداية. (2)
__________
(1) التوبة الآية (31).
(2) فتح البيان (5/286-287).(1/121)
- وقال في الدين الخالص عند قوله تعالى: يَا قَوْمِ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } (65) (1) أي تخافون ما نزل بكم من العذاب إلى قوله: قَالُوا { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (70) (2) .
قال أهل العلم: هذا داخل في جملة ما استنكروه، وهكذا يقول المقلدة لأهل الاتباع والمبتدعة لأهل السنة كأنهم هم. (3)
- ومنها قوله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة، وكل محدثة في الدين بدعة، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، في أصول الدين وفروعه، كالرافضة، والخوارج، والجهمية، والقدرية، والمرجئة، والكرامية، والمعتزلة، فهذه فرق الضلالة وطرائق البدع.
والاختلاف في الفروع شائع، كما في الطوائف الأربعة، والمختلفون فيه محمودون متابعون على اجتهادهم، من لم يخالف النص، واختلافهم رحمة واسعة، إذا كان مبنيا على أدلة الكتاب والسنة كاختلاف الصحابة فيما بينهم، وهم أسوة الأمة واتفاقهم حجة عند قوم.
__________
(1) الأعراف الآية (65).
(2) الأعراف الآية (70).
(3) الدين الخالص (1/20-21).(1/122)
ثم من طريقهم اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، والمشي على ظاهر السنة وواضحها، واتباع سبل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" إلى قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (1) ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله تعالى كما قال تعالى: وَمَنْ { أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } (122) (2) وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدي كل أحد سواه، سموا أهل الكتاب والسنة وأهل الحديث والآثار. (3)
- ومنها قوله: هذه جملة مختصرة من الكتاب والسنة، وآثار السلف فالزمها وما كان مثلها، مما صح عن الله ورسوله، وصالح سلف الأمة بما حصل من الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من عداهم محقورا مهجورا، مبعدا مدحورا، مذموما ملوما، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل فقد قال تعالى: وَقَلِيلٌ { مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (13) (4) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" (5) رواه مسلم.
ولنعم ما قيل:
إن القلوب يد الباري تقلبها من يضلل الله لا تهديه موعظة فهذه غربة الإسلام أنت بها ... فاسأل الله توفيقا وتثبيتا
وإن هديت فبالأخبار أنبيتا
فكن صبورا ولو في الله أوذيتا
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/435) والنسائي في الكبرى (6/343/11174-11175) والدارمي (1/67-68) وابن أبي عاصم (1/13/17) وابن حبان (1/180-181/6-7[الإحسان]) والحاكم (2/318) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(2) النساء الآية (122).
(3) قطف الثمر (ص.142-144).
(4) سبأ الآية (13).
(5) مسلم (1/130/145) وابن ماجه (2/1319-1320/3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم.(1/123)
فهذه الأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والأثر، وأصحاب الرواية، وحملة العلم النبوي، فمن خالف شيئا من هذه، أو طعن فيهم، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
وما ذكرته من العقائد ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا، ومن فضل الله على قلب الإنسان إن شرحه في أول نشوه للإيمان، من غير حاجة إلى حجة وبرهان، فلا بد من إثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل. (1)
- ومنها قوله: وإنما يضل أكثر الخلف من تركهم العمل بآيات الله البينات والسنة وتطلبهم غيرها، قال الله تعالى: كَمْ { آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (211) (2) .
فليحذر من ذلك كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من حجج الله، فيا له من تخويف شديد، ووعيد عظيم.
وإنما يعرف الحق من جمع خمسة أوصاف: أعظمها الإخلاص، والفهم، والإنصاف، ورابعها وهو أقلها وجودا وأكثرها فقدانا: الحرص على معرفة الحق وشدة الدعوة إلى ذلك.
__________
(1) قطف الثمر (154-155).
(2) البقرة الآية (211).(1/124)
والبدع قد كثرت، والمحدثات قد عمت البلوى بالإشراك، وكثر الدعاء إليها، والتعويل عليها، وطلاب الحق اليوم شبه طلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابهما، فإنهم قدوة لطالب الحق، وفيهم له أعظم أسوة لما حرصوا على الحق، وبذلوا الجهد في طلبه حتى بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة. فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه من طلبه في زمن النبوة، فاعتبر بذلك، واقتد بأولئك الكرام، فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما، لا ينال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوق والإشراف إلى سببه، ولا يهجم على البطالين المعرضين، ولا يناجي أشباه الأنعام الضالين.
ما أعظم المصاب بالغفلة، والاغترار بطول المهلة، فليعرف مريد الحق قدر ما هو طالبه، فإنه طالب لأعلى المراتب وَمَنْ { أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ } مُؤْمِنٌ (1) خُذُوا { مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا } فِيهِ (2) فليس في الوجود بأسره أعز من الإيمان بالله وكتبه ورسله، ومتابعتها ومعرفة ما جاؤوا به، إلا تطلب ذلك أهون الطلب، فإن طلبة الدنيا وزخارفها الفانية يرتكبون الأخطاء والمتالف الكبار، وينفق أحدهم غضارة عمره، ونضارة شبابه، وإبان أيامه فيها، وهي لا تحصل لهم على حسب المراد، فكيف بما هو أبقى وخير منها؟ ولم يرفعوا له رأسا ولم يبنوا لها أساسا.
وإنما أطلنا القول، لأني أعلم بالضرورة في نفسي وغيري: أن جهل الحقائق أكثرها إنما سببه عدم الاهتمام بمعرفتها على الإنصاف، وترك الاعتساف، لا عدم الفهم والإدراك، فإن من اهتم بشيء أدركه، فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين، مع الاهتمام فيه، وبذل الجهد فيه، وحسن القصد، ولطف أرحم الراحمين؟
__________
(1) الإسراء الآية (19).
(2) البقرة الآية (63).(1/125)
ولا ينبغي لطالب الحق والصواب أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله، وما أنزل فيها من الهدى والنور والرحمة، لطفا للمؤمنين ونعمة للشاكرين، وليحذر كل الحذر من زخرفتهم وتشكيكهم، وليعتبر بقول الله لرسوله المعصوم وَإِنْ { كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا } إِلَيْكَ الآية (1) ويا لها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولا يستوحش من ظفر بالحق بكثرة المخالفين، وليوطن نفسه على الصبر واليقين، نسأل الله تعالى أن يرحم غربتنا في الحق ويهدي ضالنا ولا يردنا من أبواب رجائه ودعائه وطلبه ورحمته محرومين.
وخامسها -وهو أصعبها-: المشاركة في العلم والتمييز والفهم والدراية حتى يتمكن من معرفة الحق ومقدار ما يقف عليه فيرغب فيه من غير تقليد، لأنه لا يعرف المقادير إلا ذو بصر نافذ، وفهم ماض، فإن عرضت له محنة، لم يتطير بطلب الحق، فيكون ممن يعبدالله على حرف، وليثق بمواعيد الله وقرب الفرج، قال تعالى: فَتَوَكَّلْ { عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } (79) (2) فَاصْبِرْ { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } (60) (3) وليعلم يقينا أنه تعالى مع الصابرين والصادقين والمحسنين، وأن الله سبحانه ناصر من ينصره، وذاكر من يذكره، وإن سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور عائد على متبعيه، ونصره شامل لناصريه.
__________
(1) الإسراء الآية (73).
(2) النمل الآية (79).
(3) الروم الآية (60).(1/126)
وقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى، وصح الترغيب في الدعاء إلى الحق والخير، وأن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه (1) ، ومن أحيى نفسا فكأنما أحيى الناس جميعا، ومن أمر بالصلاح والإصلاح ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما. وفي سورة العصر قصر السلامة من الخسر على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر وَمَنْ { أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (33) (2) .اهـ (3)
- ومنها قوله: فالزم رحمك الله ما ذكرت لك من كتاب ربك العظيم، وسنة نبيك الرؤوف الرحيم، ولا تحد عنه بقول أحد وعمله، ولا تبتغ الهدى من غيره، ولا تغتر بزخارف المبطلين وانتحالهم وآراء المتكلمين المتكلفين وتأويلهم، إن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله، لا فيما أحدثه المحدثون وأتى به المتنطعون من أرائهم المضمحلة، وعقولهم الفاسدة، وارض بكتاب الله وسنة رسوله بدلا من قول كل قائل وزخرف باطل. (4)
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله: ويتبرؤون من طريقة الروافض والشيعة، الذين يُبْغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
__________
(1) إشارة إلى حديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء..." الحديث. أخرجه: أحمد (4/357) ومسلم (4/2059-2060/2674) والترمذي (5/42-43/2675) والنسائي (5/79-80/2553) وابن ماجه (1/74/203) عن جرير بن عبدالله.
وأخرجه: ابن ماجه (1/75/207) عن أبي جحيفة.
(2) فصلت الآية (33).
(3) قطف الثمر (158-161) وهو مقتبس من كلام ابن الوزير في إيثار الحق (26-30).
(4) قطف الثمر (ص.98-99).(1/127)
ويمسكون عما شجر بين الصحابة بينهم، ويقولون: إن هذه الآثار المروية منها ما هو كذب، ومنها ما هو قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك يعتقدون أن كل أحد من الصحابة ليس معصوماً عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم إن صدر، حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، ولهم من الحسنات التي تمحو سيئات ما ليس لمن بعدهم، وكلهم عدول بتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومن أصول السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات والتأثيرات، كالمأثور عن سلف الأمة وأئمتها وسالف الأمم في سورة الكهف وسورة مريم وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.
والكشف والكرامة ليس بحجة في أحكام الشريعة المطهرة، وخاصة فيما يخالف ظاهر الكتاب والسنة. ولا يمتاز صاحب الولاية والكرامة عن آحاد المسلمين في شيء من الزي والعمل والقول، ولا يختص بالنذر وغيره مما ينبغي لله سبحانه. (2)
موقفه من الجهمية:
من مواقفه رحمه الله الطيبة قوله:
__________
(1) قطف الثمر (ص.97).
(2) قطف الثمر (99). وقد أدرح في فصوله كلام ابن تيمية وخصوصا الواسطية.(1/128)
- فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبدالله التستري، وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه، موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتجاوز القرآن والحديث" وهكذا مذهب سائرهم، فنتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم الأئمة بهذا الشأن، نفيا وإثباتا، وهم أشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بحاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يقال هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل هي آيات بينات، دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم.(1/129)
والإيمان إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم، كذلك فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، كذلك وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله مما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون المتكلمون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فكذا صفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه صفة من لا تشبيه لذاته ولا لصفاته، وأن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق لا تشابه بينهم في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات الحادث، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ للفظ. والله سبحانه وتعالى قد أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا وذهبا، وقال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء" فإذا كانت هذه المخلوقات الفانية ليست مثل هذه الموجودة، مع اتفاقهما في الأسماء فالخالق جل وعلا أعظم علوا، وأعلى مباينة لخلقه، من مباينة المخلوق للخالق وإن اتفقت الأسماء. وأيضا فقد سمى الله سبحانه نفسه حيا عليما سميعا بصيرا ملكا رؤوفا رحيما، وسمى بعض مخلوقاته حيا وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رؤوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرؤوف الرحيم كالرؤوف الرحيم. (1)
__________
(1) قطف الثمر (47-49).(1/130)
- وقوله: ومن ظن أن نصوص الصفات لا يعقل معناها، ولا يدرى ما أراد الله تعالى ورسوله منها، وظاهرها تشبيه وتمثيل، واعتقاد ظاهرها كفر وضلال، وإنما هي ألفاظ لا معاني لها، وإن لها تأويلا وتوجيها لا يعلمه إلا الله، وأنها بمنزلة } O!9# { و } بےèg!2 { وظن أن هذه طريقة السلف، ولم يكونوا يعرفون حقيقة قوله: وَالْأَرْضُ { جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ } الْقِيَامَةِ (1) وقوله: مَا { مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ } بِيَدَيَّ (2) .
وقوله: الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (3) ونحو ذلك. فهذا الظان، من أجهل الناس بعقيدة السلف وأضلهم عن الهدى، وقد تضمن هذا الظن استجهال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، وكبار الذين كانوا أعلم الأمة علما وأفقههم فهما، وأحسنهم عملا، وأتبعهم سننا. ولازم هذا الظن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، وهو خطأ عظيم وجسارة قبيحة نعوذ بالله منها. (4)
__________
(1) الزمر الآية (67).
(2) ص الآية (75).
(3) طه الآية (5).
(4) قطف الثمر (53-54).(1/131)
- وقوله: ومن قال: يخلو العرش عند النزول، أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع، ورأي مخترع، وكل ما وصف به الرسول ربه من الأحاديث الصحاح، التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان به كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته" (1) متفق عليه. وضحكه تعالى إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، فيدخلان الجنة (2) رواه الشيخان، وقوله: "حتى يضع رب العزة فيها قدمه" متفق عليه (3) ، وقوله: "فينادي بصوت" (4) رواه البخاري ومسلم، وقوله: "فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه" (5) متفق عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث، التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه فيما يخبر به.
__________
(1) تقدم تخريجه. انظر مواقف ابن قدامة صاحب المغني سنة (620هـ).
(2) أحمد (2/244؛464) والبخاري (6/49/2826) ومسلم (3/1504/1890) والنسائي (6/346/3166) وابن ماجه (1/68/191) كلهم من طرق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة..." الحديث.
(3) تقدم تخريجه من حديث أنس. انظر مواقف عبدالعزيز بن الماجشون سنة (164هـ).
(4) ولفظه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار". أخرجه: أحمد (3/32-33) والبخاري (13/555/7483) واللفظ له ومسلم (1/201-202/222) والنسائي في الكبرى (6/409/11339) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5) أحمد (2/72) والبخاري (1/670/406) ومسلم (1/388/547) وأبو داود (1/323/479) والنسائي (2/383/723) وابن ماجه (1/251/763) من طريق نافع عن ابن عمر.(1/132)
فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، يؤمنون به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهؤلاء هم الوسط في فرقة الأمة، كما أن الأمة المرحومة هي الوسط في الأمم، فهم وسط الأمة في باب الصفات بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، كما أنهم وسط في باب أفعاله تعالى بين الحرورية والقدرية، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين المعتزلة والمرجئة وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: ولا يخلد صاحب الكبيرة المسلم في النار، والعفو عن الكبائر جائز، وكذلك عفوها عمن مات بلا توبة جائز، من باب خرق العوائد.
وبعثة الرسل إلى الخلق، وتكليف الله عباده بالأمر والنهي عن ألسنتهم حق، وهم معصومون من الكفر، والإصرار على الكبائر، يعصمهم الله عنها.
إلى أن قال رحمه الله:
والخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قريش، ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة.
والجهاد ماض قائم مع الأئمة الأبرار والفجار، مذ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.
والجمعة والعيدان: الفطر والأضحى، والحج مع السلاطين وملوك الإسلام وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء.
ودفع الصدقات، والخراج، والأعشار، والفيء، والغنائم إليهم عدلوا فيها أو جاروا، والانقياد لمن ولاه الله عزوجل أمر الناس، ولا ينزع يدا من طاعته ولا يخرج عليه بسيف حتى يجعل الله له فرجا مخرجا.
ولا يخرج على السلطان، يسمع ويطيع، ولا ينكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة، ولا يمنعه حقه.
والإمساك في الفتنة سنة ماضية، واجب لزومها، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك.
__________
(1) قطف الثمر (59-63).(1/133)
ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته فيما ليس بمعصية لله ولرسوله، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين. وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: والإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، مطابقاً للكتاب والسنّة والنية لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) .
والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ } إِيمَانًا (3) وقال تعالى: لِيَزْدَادُوا { إِيمَانًا مَعَ } إِيمَانِهِمْ (4) وقال تعالى: ٹ#yٹ÷"tƒur { الَّذِينَ آَمَنُوا } إِيمَانًا (5) . وفي الحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (6) . فجعل القول والعمل جميعاً من الإيمان. (7)
- وقال أيضاً: والاستثناء في الإيمان جائز غير أن لا يكون للشك، بل هي سنة ماضية عند العلماء، ولو سئل الرجل أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، أو مؤمن أرجو الله، أو يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
__________
(1) قطف الثمر (132-133).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الشافعي سنة (204هـ).
(3) التوبة الآية (124).
(4) الفتح الآية (4).
(5) المدثر الآية (31).
(6) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(7) قطف الثمر (ص.80).(1/134)
روي ذلك عن ابن مسعود، وعلقمة بن قيس، وأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض، وغيرهم. وهذا استثناء على يقين قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ { الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } آَمِنِينَ (1) .اهـ (2)
موقفه من القدرية:
__________
(1) الفتح الآية (27).
(2) قطف الثمر (ص.134).(1/135)
- قال رحمه الله: ويجب الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، أنه من الله تعالى، ليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر شيء إلا عن تدبيره وقضائه، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، لا خير ولا شر، إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة، واستعمله بها فضلا، وخلق من أراد للشقاوة، واستعمله بها عدلا، فهو سر استأثر الله تعالى به، وحجبه عن خلقه لَا { يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (23) (1) قال الله تعالى: وَلَقَدْ { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } (2) وقال تعالى: وَلَوْ { شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (13) (3) وقال: إِنَّا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (49) (4) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (5) خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: فَمَنْ { يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } (6) وقال تعالى: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (22) (7) .
__________
(1) الأنبياء الآية (23).
(2) الأعراف الآية (179).
(3) السجدة الآية (13).
(4) القمر الآية (49).
(5) سيأتي تخريجه في مواقف عبدالرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(6) الأنعام الآية (125).
(7) الحديد الآية (22).(1/136)
ولا يجوز أن يجعل قدر الله تعالى وقضاؤه حجة بعد الرسل، ونعلم أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب، وبعثه الرسل، وما أمر الله تعالى ونهى إلا لمستطيع الفعل والترك، ولم يجبر أحدا على معصية، ولا اضطره على ترك الطاعة، قال تعالى: لَا { يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (1) ، وقال تعالى: فَاتَّقُوا { اللَّهَ مَا } اسْتَطَعْتُمْ (2) ، وقال: الْيَوْمَ { تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } (3) ، فدل على أن للعبد كسبا يجزى على حسنته بالثواب، وعلى سيئته بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره، سبحانه وتعالى.
والإيمان بالقدر، على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
الأولى: الإيمان بأن الله عليم بما يعمل الخلق بعلمه القديم الذي هو موصوف به، وقد علم جميع أحوالهم، من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال، ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، وأول ما خلق الله القلم وقال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وهذا التقدير تابع لعلمه سبحانه، يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق الجنين قبل خلق الروح فيه، بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، شقي أم سعيد (4) ونحو ذلك. فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل.
__________
(1) البقرة الآية (286).
(2) التغابن الآية (16).
(3) غافر الآية (17).
(4) هو حديث الصادق المصدوق. تقدم تخريجه في موقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).(1/137)
أما الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد. وأنه سبحانه على كل شيء قدير، من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض، ولا في السماء إلا الله خالقه، سبحانه لا خالق غيره، ولارب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته ومعصية رسوله، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، وهذه الدرجة من القدر، يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - "مجوس هذه الأمة" (1) ، يغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى يسلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه، وحكمها ومصالحها. فالقدر ظاهره وباطنه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وقله وكثره، وأوله وآخره من الله عزوجل قضاء قضاه على عباده، وقدر قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله، ولا يجاوز قضاه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم، وهو عدل منه جل ربنا وعز.
والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك والكفر والبدعة والمعاصي والكبائر والصغائر كلها بقضاء الله وقدر منه، من غير أن يكون لأحد من الخلق حجة على الله.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).(1/138)
وعلم الله عزوجل، ماض في خلقه، بمشيئة منه، وقد علم من إبليس وغيره، ممن عصاه من لدن عصي إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة، وخلقهم لها، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم.
ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله، وأي افتراء على الله أكبر من هذا.
ومن زعم أن الزنا ليس بقدر، قيل له أرأيت هذه المرأة حملت من الزنا، وجاءت بولد، هل شاء الله تعالى عزوجل أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقا آخر وهذا هو الشرك صراحا.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر الله، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء الله عزوجل أو ذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم وهو العدل الحق الذي يفعل ما يشاء.(1/139)
ومن أقر بالعلم، لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة، على الصغر والقمأ، فالأشياء كلها تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال سبحانه: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ } اللَّهُ (1) وكما قال المسلمون ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علمه تعالى، أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله، وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد خلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف للمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف للكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف لهم، حتى يكونوا مؤمنين، كما قال تعالى: فَلَوْ { شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (2) ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم وختم على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، كما قال، ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إليه سبحانه في كل وقت، والفقر إليه في كل حال. (3)
صالح بن محمد بن حمد الشثري (4) (بعد 1309 هـ)
الشيخ صالح بن محمد بن حمد الشثري. نشأ في بلدته، ثم رحل إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن والشيخ عبدالله أبا بطين وغيرهم. له مع كبار العلماء مراسلات وبحوث علمية. له من التلاميذ الشيخ إبراهيم الشثري والشيخ إبراهيم بن عبدالملك آل الشيخ وزيد آل سليمان وحسين الشثري. أرخ لوفاته فيما بعد تسع وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
__________
(1) الانسان الآية (30).
(2) الأنعام الآية (149).
(3) قطف الثمر (ص.84-88).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/533-535).(1/140)
له: رد على أحمد زيني دحلان، ورد على الشيخ علي بن دعيج في تجويز موالاة المشركين. (1)
علي بن سالم بن جلعود آل جليدان (2) (1310 هـ)
الشيخ علي بن سالم بن جلعود آل جليدان. ولد في مدينة عنيزة سنة أربعين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ بها. قرأ على الشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ علي بن محمد آل راشد والشيخ عبدالعزيز بن محمد آل مانع والشيخ قرناس بن عبدالرحمن وغيرهم. تولى الإمامة والتدريس في مسجد المسوكف نحوا من أربعين سنة. أخذ عنه الشيخ عبدالله بن محمد بن مانع وغيره. كان رحمه الله معروفا بكثرة العبادة والغيرة على الدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة.
توفي رحمه الله سنة عشر وثلاثمائة وألف، على إثر مرض أصابه في مكة.
موقفه من الصوفية:
جاء في علماء نجد: وكان غيورا جسورا لا تأخذه في الله لومة لائم، بلغني أنه لما حج ودخل المسجد الحرام رأى حلق الذكر المقامة هناك، وإذا هم يرددون لفظ الجلالة، ثم الضمير وحده (هو هو)، فلم يتمالك نفسه إلا أن أخذ ينكر عليهم بيده ويضربهم بعصاه، فقبض عليه وذهبوا به إلى الشريف أمير مكة في ذلك الوقت، فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال: فعلت هذا العمل كي أصل إليك، والقصد من وصولي إليك إخبارك بأن هذا العمل بدعة منكرة، وأنه لا يسعك تركهم يتلاعبون باسم الله، وإني على أتم استعداد لمناظرتهم بحضرتك، فخلى الشريف سبيله وتركهم هم على عملهم. (3)
أحمد بن خالد الناصري (4) (1315 هـ)
__________
(1) علماء نجد (2/534).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/189-192).
(3) علماء نجد (5/191). وقد منعها أمير مكة الشريف بعد ذلك كما سيأتي ضمن مواقف إبراهيم بن حمد عام (1329هـ).
(4) الاستقصا (1/9-34) والأعلام (1/120-121).(1/141)
أحمد بن خالد بن حماد بن محمد الناصري الدرعي، شهاب الدين السلاوي المغربي، أبو العباس. ولد في مدينة سلا سنة خمسين ومائتين وألف للهجرة، وهو من عرب معقل، الداخلين للمغرب في القرن الخامس للهجرة من أسرة تنتمي إلى عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.
طلب العلم في مسقط رأسه، منكبا على مطالعة التآليف الموجودة من علوم التفسير والحديث والتاريخ وغيرها. شغل منصب موظف في خطة الجمارك في سلا، وتنقل في أعمال حكومية أخرى، ثم انقطع عن الأشغال وتفرغ للكتابة والمطالعة والتأليف إلى أن توفي في سنة خسمة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين والصوفية:(1/142)
- له كلمة جيدة في التصوف والقبورية: قال في الاستقصا: قد ظهر ببلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة -لا سيما في المائة العاشرة وما بعدها- بدعة قبيحة، وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو تقدموهم ممن يشار إليهم بالولاية والخصوصية، ويخصونه بمزيد المحبة والتعظيم، ويتمسكون بخدمته والتقرب إليه قدرا زائدا على غيره من الشيوخ، بحيث يرتسم في خيال جلهم، أن كل المشايخ أوجلهم دونه في المنزلة عند الله تعالى، ويقولون: نحن أتباع سيدي فلان، وخدام الدار الفلانية، لا يحولون عن ذلك ولا يزولون خلفا عن سلف. وينادون باسمه ويستغيثون به ويفزعون في مهماتهم إليه، معتقدين أن التقرب إليه نافع والانحراف عنه قيد شبر ضار، مع أن النافع والضار هو الله وحده. وإذا ذكر لهم شيخ آخر أودعوا إليه، حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله: هل يستحق ذلك التعظيم أم لا. فصار الأمر عصبيا، وصارت الأمة بذلك طرائق قددا، ففي كل بلد أو قرية عدة طوائف، وهذا لم يكن معروفا في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم. وغرض الشارع إنما هو في الاجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة وقد قال تعالى لأهل الكتاب: تَعَالَوْا { إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا } وَبَيْنَكُمْ (1) الآية. وقد ذم قوما فرقوا دينهم وكانوا شيعا... ثم استرسل هؤلاء الطّغام في ضلالهم، حتى صارت كل طائفة تجتمع في أوقات معلومة في مكان مخصوص -أو غيره- على بدعتهم التي يسمونها الحضرة. فما شئت من طست وطار، وطبل ومزمار وغناء ورقص، وخبط وفحص، وربما أضافوا إلى ذلك نارا أو غيرها، يستعملونه على سبيل الكرامة بزعمهم.
__________
(1) آل عمران الآية (64).(1/143)
ويستغرقون في ذلك الزمن الطويل حتى يمضي الوقت والوقتان من أوقات الصلوات، وداعي الفلاح ينادي على رؤوسهم، وهم في حيرتهم يعمهون، لا يرفعون به رأسا، ولا يرون بما هم فيه من الضلال بأسا، بل يعتقدون أن ما هم فيه من أفضل القرب إلى الله، تعالى الله عن جهالتهم علوا كبيرا.
ولا تجد في هذه المجامع الشيطانية غالبا إلا من بلغ الغاية في الجفاء والجهل ممن لا يحسن الفاتحة فضلا عن غيرها، مع ترك الصلاة طول عمره، أو من في معناه من معتوه ناقص العقل والدين. فما أحوج هؤلاء الفسقة إلى محتسب يغير عليهم ما هم فيه من المنكر العظيم، واللبس المقيم، وأعظم من هذا كله أنهم يفعلون تلك الحضرة غالبا في المساجد. فإنهم يتخذون الزاوية باسم الشيخ ويجعلونها مسجدا للصلاة بالمحراب والمنار وغير ذلك، ثم يعمرونها بهذه البدعة الشنيعة. فكم رأينا من عود ورباب ومزمار على أفحش الهيئات في محاريب الصلوات.
ومن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشيوخ ببيت الله الحرام من جعل الكسوة لها، وتحديد الحرم على مسافة معلومة بحيث يكون من دخل تلك البقعة من أهل الجرائم آمنا، وسوق الذبائح إليها على هيئة الهدي، واتخاذ الموسم كل عام، وهذا وأمثاله لم يشرع إلا في حق الكعبة. ثم يقع في ذلك الموسم ولا سيما مواسم البادية من المناكر والمفاسد العظام، واختلاط الرجال بالنساء باديات متبرجات شأن أهل الإباحة وشأن قوم نوح في جاهليتهم، ما تصم عنه الآذان ولا منكر ولا مغير ولا ممتعض للدين، لا، بل للحسب، فأما الدين عند هؤلاء فلا دين. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ضيعة الدين وغفلة أهله عنه ويالله ويا للمسلمين لهؤلاء الهمج الرعاع، الذين سلبوا المروءة والحياء والغيرة والعقل والدين والإنسانية جملة. فليسوا في فطنة الشياطين ولا في سلامة صدور البهائم، ولا في نخوة السباع فيغضبوا لدينهم ومروءتهم.(1/144)
ومن جهالاتهم الفظيعة: جمعهم بين اسم الله تعالى واسم الولي في مقامات التعظيم، كالقسم والاستعطاف وغيرهما. فإذا أقسموا قالوا: وحق الله وحق سيدي فلان. وإذا عزموا على أحد قالوا: دخلت عليك بالله وسيدي فلان. وإذا سألوا قالوا: من يعطينا على الله وعلى سيدي فلان. فيعطفون اسم العبد على اسم مولاه بالواو المقتضية للتشريك والتسوية التامة في مقام قد حظر الشارع أن يتجاوز فيه اسم الله إلى غيره. وهذا هو صريح الشرك.
ومن مناكرهم الجديرة بالتغيير: اجتماعهم كل سنة للوقوف يوم عرفة بضريح الشيخ عبدالسلام ابن مشيش -رضي الله عنه- ويسمون ذلك حج المسكين. فانظر إلى هذه الطامة التي اخترعها هؤلاء العامة. (1)
" التعليق:
هذا الرجل صور الحالة التي يعيش عليها أهل المغرب في العقائد الباطلة المسماة بالتصوف، مع الكلام على القبورية. وهذا التصوير الذي ذكره هذا المؤرخ من أحسن ما قرأت في المقارنة بفعل هؤلاء المشركين بأضرحتهم وبما شرعه الله في بيته من طواف وكسوة وسوق هدي. فالحمد لله أن تخرج هذه الكلمة من مثل هذا الرجل: لا هو متهم بالوهابية -كما يقول أعداء العقيدة السلفية- ولا تخرج من الجامعة الإسلامية مأجورا من طرف الدولة الوهابية -كما يقوله أعداء العقيدة السلفية- وإنما هو مؤرخ محايد، عالم بالأحوال التي عليها أهل هذه البلاد. فجزاه الله خيرا على كلمته الطيبة. وأرجو الله أن يغفر زلتنا وزلته.
مبارك بن مساعد آل مبارك (2) (1316 هـ تقريبا)
__________
(1) الاستقصا (1/142-145).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/433-436).(1/145)
الشيخ مبارك بن مساعد آل مبارك. ولد في بلدة عنيزة سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ محمد بن عبدالله بن مانع وابنه الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن مانع والشيخ علي آل محمد والشيخ علي باصبرين وغيرهم. كان مولعا بالشعر، ويحفظ منه الكثير، وله فيه القصائد الجيدة، وكان شديد الميل للدعوة السلفية وأعلامها. كانت لديه مكتبة كبيرة بيعت بعد وفاته، تضمنت مخطوطات نفيسة.
توفي رحمه الله في جدة سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف تقريبا.
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: حدثني الشيخ محمد نصيف رحمه الله قال: كان العلامة الشيخ علي باصبرين يدرس لطلابه ما بين المغرب والعشاء في جامع الشافعي بجدة، ففي إحدى الليالي جاء البحث في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعها، فنال الشيخ باصبرين منها نيلا فاحشا، وكان من الطلبة الشيخ صالح العبدالله البسام، والشيخ مبارك آل مساعد، فلما فرغ الدرس قاما إليه، وقالا له: هل اطلعت يا شيخ على كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب حينما نلت منه ومن دعوته؟ فقال لهما: لا، إنني لم أطلع عليها، ولكني قلت هذا نقلا عن مشايخي، فقالا له: ألا ترغب في الاطلاع على كتبه؟ فقال: بلى، فأتياه بنسخ من كتبه، فدرسها نحو أسبوع، وهو لا يأتي للشيخ محمد بذكر لا بمدح ولا قدح.
وبعد ذلك قال للطلبة: إنني في إحدى الليالي السابقة نلت من الشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته، والحق أن كلامي لم يكن عن اطلاع على كتبه، وإنما هو تقليد وحسن ظن في مشايخنا، وقد أطلعني بعض إخواننا النجديين على بعض كتبه ورسائله، فرأيت فيها الحق والصواب، وأنا أستغفر الله تعالى عما قلت: ثم صنف رسالة سماها: 'هداية كُمَّلِ العبيد إلى خالص التوحيد'. (1)
إسحاق بن عبدالرحمن آل الشيخ (2) (1319 هـ)
__________
(1) علماء نجد (5/434).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/557-564).(1/146)
الشيخ الإمام إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة ست وسبعين ومائتين وألف. قرأ على أخيه الشيخ عبداللطيف والشيخ حمد بن عتيق وابن أخيه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف وغيرهم. وكان مع حفظه القرآن يحفظ مختصرات في الفقه والحديث والتوحيد. رحل إلى الهند بعد استيلاء آل رشيد على الرياض سنة تسع وثلاثمائة وألف، فأخذ عن المحدث الشيخ نذير حسين والشيخ حسين بن محسن الأنصاري والشيخ سلامة الله، ثم رحل إلى مصر فقرأ على علماء الأزهر مدة، وجد واجتهد حتى عد من كبار علماء زمانه. ثم عاد إلى وطنه، واشتغل بالتدريس والإفادة، فنفع الله بعلمه، فكان ممن أخذ عنه الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ فوزان السابق والشيخ عبدالله بن فيصل والشيخ عبدالعزيز بن عتيق وغيرهم.
توفي رحمه الله في اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف في مدينة الرياض، ورثاه العلماء.
موقفه من المبتدعة:
قال: ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر، وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك. فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
موقفه من المشركين:
له رد على أمين بن حنش العراقي. (2)
عبدالله بن محمد بن عثمان بن دخيل (3) (1324 هـ)
__________
(1) حكم تكفير المعين (ص.8-9).
(2) علماء نجد (1/564).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/490-496).(1/147)
الشيخ عبدالله بن محمد بن عثمان بن عبدالله بن دُخَيْل الناصري التميمي. ولد في المجمعة سنة إحدى وستين ومائتين وألف، ونشأ فيها، وأخذ عن الشيخ علي بن عيسى والشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ عبداللطيف ابن عبدالرحمن والشيخ سليمان بن مقبل والشيخ علي آل محمد الراشد وغيرهم. رحل في طلب العلم إلى المدينة النبوية ثم إلى مكة، ثم إلى بريدة، ثم إلى عنيزة والرياض والمجمعة. ولي قضاء المذنب، وجلس للتدريس والإفتاء، فانتفع بعلمه خلق كثير منهم الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع والشيخ عبدالله ابن بليهد والشيخ محمد بن صالح بن مقبل وغيرهم.
توفي رحمه الله في المذنب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له رسالة إلى تلميذه الشيخ عبدالله بن إسماعيل ينهاه فيها عن مجالسة من لم يكن مواليا لعلماء الدعوة السلفية. (1)
حسن عبدالرحمن السني البحيري المصري (1326 هـ) (2)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) علماء نجد (4/495).
(2) لم نعثر على سنة وفاته، لذلك أثبتنا سنة طبع هذه الرسالة في مصر.(1/148)
- له رسالة: 'الحماسة السنية في الرد على بعض الصوفية'، قال في مقدمتها: فقد أهدى إلينا بعض الإخوان مجموعة لبعض متصوفة هذا الزمان، مشتملة على أربع رسائل، أولها: تنوير البصائر، ودليل الحائر في إثبات النبوة ورؤية نبينا لربه. ثانيها: الفتح المبين في الاستغاثة بالأولياء والصالحين. ثالثها: القول المعتبر في القضاء والقدر. رابعها: ما تقول السادة الثقات في إيصال ما يهدى من ثواب القرآن والأذكار للأموات. يقصد ببعضها الرد على من تصدى من أهل العلم ورجال الدين لإخماد نيران البدع التي عمت وضرت محشوة ببدع المضلين، وضلال المتأخرين. وهكذا عوائد شياطين الجن إذا رأوا من تعرض لإخماد نار الضلال أوقدوها بشيطان من شياطين الإنس، يوحون إليه زخارف يجادل بها أهل الحق، قال تعالى: وَإِنَّ { الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ } (1) . وسبب تعرضنا للرد على هذا المتصوف تنبيه الناس على ما وقع في رسائله من الأمور المنكرة والأشياء المردودة شرعا، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا علم له بحقائق الدين، وبالله نستعين. (2)
محمد السَّهْسَوَانِي (3) (1326 هـ)
العلامة محمد بن بشير بن محمد بدر الدين السهسواني الهندي، صاحب كتاب 'صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان' ولد في سهسوان -من أعمال ولاية بدايون بالهند- سنة خمسين ومائتين وألف للهجرة تقريبا. ارتحل إلى دهلي، وقرأ الحديث والتفسير على نذير حسين الدهلوي، ودعي إلى بهوبال سنة تسعين ومائتين للهجرة، وأسند إليه رياسة المدارس الدينية بها، فأقام بها نحوا من خمس وعشرين عاما، ثم عاد إلى دهلي، فتوفي بها سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف، رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) الأنعام الآية (121).
(2) الحماسة السنية (11-12).
(3) الأعلام (6/53) ومعجم المؤلفين (9/103) وصيانة الإنسان (17-22).(1/149)
- له الكتاب العظيم في الدفاع عن العقيدة السلفية، ذو البحوث القيمة النفيسة القوية. وهو: 'صيانة الإنسان في الرد على أحمد زيني دحلان'.
- قال فيه: فالواجب على المؤمن أن لا يتجاسر على التكلم بكل كلمة في ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمقام مقام الاحتياط، إذ اعتقاد اتصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفاته الكمالية من جملة مسائل العقائد، فما لم يثبت بالكتاب العزيز أو السنة الثابتة المطهرة لم يجز وصف النبي به، فمن ههنا دريت خطأ البوصيري في قوله: "واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم". وخطأ صاحب الرسالة حيث استحسنه.
وبالجملة فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل تعظيم جاء في الكتاب أو السنة الثابتة، سواء كان ذلك التعظيم فعليا أو قوليا أو اعتقاديا، والوارد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة، وما ذكر هو بعض منه، ولو رمت إحصاء ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، نعم نجتنب التعظيمات التي تشتمل على موجبات الكفر والشرك، وما نهى الله عنه ورسوله، والتعظيمات المحدثة المبتدعة.
وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث، كشد الرحال إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - ، وتقبيل الإبهام عند قول المؤذن "أشهد أن محمدا رسول الله" والتمثل بين يدي قبره قياما، وطلب الحاجات منه - صلى الله عليه وسلم - ، والنذر له وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل. فيا أهل البدع أنشدكم الله والإسلام والإنصاف أن تقولوا أي الفريقين أزيد تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر اتباعا له وأشد حبا له - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي. (1)
__________
(1) صيانة الإنسان (236-237).(1/150)
- وقال: ثم بعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع، وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة، ولكن في قرن التابعين وأتباع التابعين لم تظهر البدع ظهورا فاشيا، وأما بعد قرن أتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيرا فاحشا، وغلبت البدع، وصارت السنة غريبة، واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة، ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثني من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس.
يدل على ذلك الأحاديث والآثار التي نذكرها الآن بحوله وقوته، منها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن" (1) رواه البخاري ومسلم.
ومنها حديث الأسلمي قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة" (2) رواه البخاري. (3)
__________
(1) أحمد (4/427و436) والبخاري (5/324/2651) ومسلم (4/1964-1965/2535) وأبو داود (5/44/4657) والترمذي (4/434/2222) والنسائي (7/23-24/3818) من طرق عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) أحمد (4/193) والبخاري (11/302/6434).
(3) صيانة الإنسان (322).(1/151)
ثم ذكر طائفة من الأحاديث والآثار إلى أن قال: وقد علم بما نقل من الأحاديث والآثار أن غربة الإسلام ليس معناها أنه يقل أهل الإسلام، دل عليه ما في حديث ثوبان المتقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "بل أنتم يومئذ كثير" (1) بل معناها أن الصالحين من أهل الإسلام يذهبون الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة الشعير وغثاء كغثاء السيل، وأن سنن الإسلام وشعبها وشرائعها من الصلاة والصيام والنسك والصدقة وغيرها تذهب وقتا فوقتا حتى لا يبقى إلا قول لا إله إلا الله (2) ، فإذا بعث الله ريحا طيبة توفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فعليهم تقوم الساعة (3) .
__________
(1) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل" الحديث. أخرجه: أحمد (5/278) وأبو داود (4/483/4297) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (2/647/958).
(2) يشير رحمه الله إلى قوله عليه الصلاة والسلام من حديث حذيفة بن اليمان: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عزوجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية..." الحديث. أخرجه: ابن ماجه (2/1344/4049) والحاكم (4/473و545) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات".
(3) يشير رحمه الله إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى... إلى أن قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" أخرجه: مسلم (4/2230/2907) من طريق الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة به.(1/152)
اهـ (1)
أحمد بن إبراهيم بن عيسى (2) (1329 هـ)
الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد ينتهي نسبه إلى قبيلة بني زيد ثم إلى قضاعة بن مالك ثم إلى قحطان، شارح نونية ابن القيم. ولد الشيخ بشقراء في الخامس عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين ومائتين وألف، نشأ في حجر والده العالم القاضي الشيخ إبراهيم بن عيسى، فتعلم مبادئ الكتابة والقراءة، ثم حفظ القرآن عن ظهر قلب ثم شرع في القراءة على والده بالتوحيد والفقه والحديث وسائر العلوم. من مشايخه: الشيخ عبدالرحمن ابن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن وغيرهم. ثم سافر إلى الرياض ولازم علماءها الأجلاء، أدرك إدراكا تاما. وَفَاق أقرانه لا سيما في التوحيد، ثم سافر إلى مكة فأقام فيها للعبادة والعلم تعلما وتعليما. اتصل بأمير مكة وكلمه في هدم القباب والمباني على القبور والمزارات فأجابه لذلك. فكان من المساهمين في تطهير البلاد من الشرك والساعين في لم شتات الأمة. من تلامذته: الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ والشيخ عبدالقادر بن مصطفى التلمساني والشيخ عبدالستار الدهلوي وغيرهم. عرّفه الكتاني بالعالم السلفي المسند.
توفي في بلد المجمعة بعد صلاة الجمعة في اليوم الرابع من جمادى الثانية من عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) صيانة الإنسان (331-332).
(2) علماء نجد (1/155-162) والأعلام (1/89) وفهرس الفهارس (1/125-126) وإتحاف النبلاء (2/281-283).(1/153)
- جاء في تاريخ علماء نجد: وحدثني الشيخ الوجيه الأفندي محمد حسين نصيف رحمه الله تعالى قال لي: كان الشيخ أحمد بن عيسى يشتري الأقمشة من جدة من الشيخ عبدالقادر بن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة بمبلغ ألف جنيه ذهبا، فيدفع له منها أربعمائة ويُقسط عليه الباقي. وآخر قسط يحل ويستلمه الشيخ التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام. ثم يبتدئون من أول العام بعقد جديد. وكان الكفيل للشيخ أحمد بن عيسى هو الشيخ مبارك المساعد من موالي آل بسام.
وكان صاحب تجارة كبيرة في جدة ودام التعامل بينهما زمنا طويلا. وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدد لا يتخلف عنه ولا يماطل في أداء الحق. فقال له الشيخ عبدالقادر: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاما، فما وجدت أحسن من التعامل معك -يا وهابي- فيظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين. فسأله الشيخ أحمد أن يبين له هذه الشائعات. قال: إنهم يقولون: إنكم لا تصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تحبونه. فأجابه الشيخ أحمد بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم. إن عقيدتنا ومذهبنا أن من لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فهو كافر. وإنما الذي ننكره نحن -أهل نجد- هو الغلو الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، كما ننكر الاستعانة والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده. يقول الشيخ الراوي محمد نصيف عن الشيخ عبدالقادر التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام، حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية. وأما توحيد الأسماء والصفات الذي قرأته في الجامع الأزهر، فهو عقيدة الأشاعرة. وكتب الكلام مثل: 'السنوسية' و'أم البراهين' و'شرح الجوهرة' وغيرها.(1/154)
فلهذا دام النقاش بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يوما، بعدها اعتنقت مذهب السلف، وصرت آخذ التوحيد من منابعه الأصيلة: الكتاب والسنة وأتباعهما من كتب السلف. فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى. ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف.
فطبع منها: 'النونية' و'الصارم المنكي' و'الاستعاذة من الشيطان الرجيم' لابن مفلح و'المؤمل إلى الأمر الأول' لأبي شامة، و'غاية الأماني في الرد على النبهاني' وغيرها. وصار التلمساني من دعاة عقيدة السلف. قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبدالقادر التلمساني، فالحمد لله على توفيقه.
والمترجم له لم يقتصر نشاطه على دعوة الأفراد حتى اتصل بأمير مكة: الشريف عون الرفيق، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور والمزارات، وشرح له أن هذا مخالف للإسلام، وأنه غلو وتعظيم للأموات يسبب فتنة الأحياء، وبث الاعتقادات الفاسدة فيهم. فما كان من "الشريف عون" إلا أن أمر بهدم القباب التي على القبور عدا قبة قبر خديجة رضي الله عنها، والقبر المنسوب إلى حواء في جدة. فأبقاهما مراعاة للقاعدة الشرعية: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". وصار المترجم له بسبب علمه وعقله ونصحه مقربا من الشريف عون، يُجله ويُقدره ويعرف له فضله وحقه (1) .
" التعليق:
يستفاد من هذه القصة المباركة:
- أثر الصدق في المعاملة كان من هدي السلف، ولذا كان من نتيجته ما قص علينا في هذه القصة.
- منقبة لهذا الشيخ، حيث وفقه الله تعالى لهداية التلمساني والشيخ نصيف.
- قوة السلفيين في تأثيرهم على الحكام، وغايتهم في ذلك نشر العقيدة وترسيخها في النفوس، لا المنصب الحكومي، أو المطمع المادي، ولذلك آتت دعوتهم أكلها بإذن ربها، ولله الحمد والمنة.
آثار الشيخ السلفية:
__________
(1) 1/156-158).(1/155)
1- 'تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي' وهو كتاب قيم وقد طبع.
2- 'الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان'.
3- 'الرد على شبه المستغيثين بغير الله' طبع.
4- 'شرح النونية' طبع في جزءين. وهو ينم عن علم غزير وفهم عميق، يمكن أن يستخرج منه مواقفه من الفرق كلها ولكن نكتفي منه بما يلي.
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: أشار رحمه الله بهذه الأبيات إلى إثبات صفات الله تعالى التي نطق بها كتابه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات صفات الله تعالى التي ورد بها الكتاب؛ وصحيح السنة وحسنها، إثباتا بلا تمثيل؛ وتنزيها بلا تعطيل؛ خلافا للجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأمر كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شبخ البخاري: من شبه الله خلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله تشبيها. انتهى. بل هو إثبات على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (1)
وقال: ذكر الناظم رحمه الله تعالى في هذا الفصل رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة، كما يرى القمر. وقد اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام، وأنكرها أهل البدع، كالجهمية، والمعتزلة، والباطنية، والرافضة... (2)
إبراهيم بن حمد بن جَاسِر (3) (1329 هـ)
__________
(1) شرح النونية (1/254-255).
(2) شرح النونية (2/568).
(3) علماء نجد (1/103).(1/156)
الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر، ولد في بلدة بريدة ونشأ فيها وقرأ على علمائها، ومن أشهر مشايخه: الشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ محمد بن عبدالله بن سليم والشيخ إبراهيم بن محمد بن عجلان وغيرهم. وأدرك في العلوم لا سيما في التفسير والحديث واللغة العربية، فهو فيها بحر لا يجارى وعالم لا يمارى، واشتهر أمره وذاع صيته حتى عد من كبار علماء نجد، وشاع له ذكر حسن وثناء طيب، ثارت بعض الخلافات والنزاعات بينه وبين آل سليم، اتهمه بعضهم بتساهله في توحيد الألوهية ولكنه كذب مفترى.
قال فيه الشيخ يوسف الهندي: لم أر مثله في الاطلاع على الحديث إلا شيخي نذير حسين. وقال الشيخ محمد بن عبدالعزيز آل مانع: إنه أعجوبة في سعة الاطلاع في التفسير والحديث. ويقول ابن مانع أيضا: إن الشيخ صالح العثمان آل قاضي يعجب من كثرة حفظه للحديث. وقال الشيخ محمد بن صالح البسام: إني كنت أحضر دروسه العامة قبل صلاة العشاء، فكان يشرع في تفسير الآية ويورد في معناها من الأحاديث والآثار وكلام العرب الشيء الكثير. من تلامذته: الشيخ عبدالرحمن بن ناصر آل سعدي، والشيخ عثمان ابن صالح، والشيخ عبدالعزيز بن عقيل وغيرهم.
توفي بعد عودته من العراق عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
جاء في علماء نجد: الدليل الرابع على صدقه: ما حدثني به الثقات من أقاربي ممن حضروا القصة الآتية فقال: عرض على المترجم له إمامة وخطابة جامع النقيب في بلد الزبير براتب مغر، وكان في أمس الحاجة إليه. فذهب إلى الجامع المذكور ليراه ومعه بعض أفراد أسرتنا آل بسام، فدخل المسجد وتجول فيه، فرأى حجرة في مؤخر المسجد، فسأل عنها فقالوا: إنها قبر بانيه. فخرج من المسجد مسرعا وقال: لا أصلي ولا فرضا واحدا مأموما، فكيف أصير فيه إماما؟. (1)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) علماء نجد (1/103-104).(1/157)
جاء في تاريخ علماء نجد: والدليل الثالث على صحة معتقده أنه دخل المسجد الحرام أيام الحكم العثماني، فوجد حلق الصوفية تمارس بدعها وخرافاتها، فلم تمنعه غربته ولا إقرار حكومة البلاد لهذه الأعمال من أن يسطو عليهم بعصاه ضربا حتى فرقهم. فرفع أمره إلى أمير مكة المكرمة: "الشريف عون" فلما حضر وحقق معه وعرف أن الصواب مع الشيخ، فمنع هذه الأعمال البدعية. (1)
حسين آل الشيخ (2) (1329 هـ)
الشيخ حسين بن حسن بن حسين بن علي بن حسين بن الشيخ محمد ابن عبدالوهاب. فهو أخو عبدالله بن حسن آل الشيخ. ولد في الرياض عام أربعة وثمانين ومائتين وألف. قرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ محمد بن حمود والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبدالله الخرجي. قد أدرك لا سيما في النحو حتى ألف فيه وفي الفقه، وله قصائد رد بها على يوسف النبهاني وغيره.
نزح إلى عمان بساحل الخليج العربي وأقام هناك لنشر الدعوة السلفية، فنفع الله به وما زال هناك حتى توفي عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف. وليس له أولاد ولا أحفاد.
موقفه من المبتدعة:
له قصيدة رائية رد بها على قصيدة يوسف النبهاني، وأخرى رد فيها على أمين بن حنش العراقي. (3)
إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ (4) (1329 هـ)
الشيخ العلامة إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في الرياض عام ثمانين ومائتين وألف وبها نشأ، ثم أخذ مبادئ الكتابة وقراءة القرآن الكريم على والده العلامة الشيخ عبداللطيف، ثم حفظ القرآن ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على أخيه الشيخ عبدالله والشيخ حمد بن فارس والشيخ محمد بن محمود حتى مهر في التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصولها والنحو.
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون (1/103-104).
(2) علماء نجد (1/219).
(3) علماء نجد (1/219).
(4) علماء نجد (1/127) والأعلام (1/48-49) والدرر السنية (12/82-86).(1/158)
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: برع في العلوم النقلية والعقلية، وكان آية في الفهم لم ير مثله في الذكاء والفطنة والحفظ، برز في كل فن حتى كاد يستوعب السنن والآثار حفظا، وفاق أهل عصره فكانت له المعرفة التامة في الحديث والتفسير والفقه مع ما جمع الله له من الزهد والعبادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام به. تولى القضاء بالرياض فسار فيه سيرة حميدة من عدالة الأحكام وإنصاف المظلوم، كما كان له حلقات في التدريس بأنواع العلوم فأخذ عنه جم غفير منهم ابناه محمد وعبداللطيف، والشيخ عبدالملك بن إبراهيم والشيخ عبدالرحمن بن داود وغيرهم. وتصدى للإفتاء والإفادة، فله فتاوى تدل على جودة فهمه وحسن تصوره وله رد على أمين بن حنش في قصيدة طويلة بديعة نصر بها الحق ودحض بها الضلال.
توفي بالرياض ليلة السادس من شهر ذي الحجة عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
له: منظومة في الرد على أمين العراقي بن حنش؛ هذا بعضها:
الحمد لله حمدا أستزيد به ... فضل الإلاه وأرجو منه رضوانا
وأستعين به في رد خاطئة ... من العراق أتت بغيا وعدوانا
من جاهل عارض الحق المبين بها ... هذا به سفها تيها وطغيانا
قد عاب أهل الهدى من غير ما سبب ... وقام يعمر للإشراك بنيانا
فليس بالعلم المرضي مقالته ... ولا الأصيل ولا من نال إتقانا
قد فهت بالزور فيما قلت مجتريا ... لست الأمين ولكن كنت خوانا
من كان يصرف للمخلوق دعوته ... وكان يندب للأموات أحيانا
يدعوهموا باعتقاد منه أنهموا ... يفرجون عن المكروب أحزانا
هذا هو الشرك قد أعليت ذروته ... وسوف تصبح يوم الدين ندمانا
من كان يقصر آيات الكتاب على ... أسباب إنزالها قد نال خسرانا
فالاعتبار عموم اللفظ قال بذا ... من شاد للملة السمحاء أركانا
وليس ينكر أسبابا مؤثرة ... فالله خالقها سبحان مولانا
ومن يعطل للأسباب ينكرها ... قد خالف الشرع والمعقول طغيانا
والاعتماد على الأسباب منقصة ... لأنه من قسيم الشرك قد بانا(1/159)
أما الخوارق للعادات فهي إذا ... لا تقتضي الفضل إطلاقا لمن كانا
هذا الذي قاله عبداللطيف إذا ... ولم يكن يمنع المشروع بل كانا
مستمسكا بصحيح النقل متبعا ... خير القرون الأولى دانوا بما دانا
يحمي طريق رسول الله عن شبه ... وعن ضلال بذا التأسيس أنبانا
عن ذاك أفصح مصباح له ولقد ... أعلى بذلك للتوحيد بنيانا
هذا جوابك يا هذا موازنة ... فالحر ما دين إنصافا به دانا (1)
جمال الدين القاسمي (2) (1332 هـ)
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم أبو الفرج من سلالة الحسين السبط، عالم مشارك في أنواع العلوم، إمام الشام في عصره علما بالدين وتضلعا من فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق. كان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد، انتدبته الحكومة للرحلة وإلقاء الدروس العامة في القرى والبلاد السورية، فأقام في عمله هذا أربع سنوات، ثم رحل إلى مصر وزار المدينة، ولما عاد اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين، فقبضت عليه الحكومة وسألته فرد التهمة فأخلي سبيله واعتذر إليه والي دمشق، فانقطع في منزله للتصنيف، وإلقاء الدروس الخاصة والعامة في التفسير وعلوم الشريعة الإسلامية والأدب. ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف. ترك ثروة وافرة من تآليفه النافعة الكثيرة.
وافاه الأجل في الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
هذا الرجل كان من المصلحين الكبار، من الله عليه بالاطلاع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وظهر ذلك في تفسيره: 'محاسن التأويل'. وله بعض الهنات في الكتاب المنسوب إليه: 'تاريخ الجهمية'. وكذلك بعض عباراته في قواعد التحديث، كالثناء على ابن عربي المجمع على زندقته، إلا من شذ، فلا عبرة به.
وله من الآثار السلفية:
1- 'إصلاح المساجد من البدع والعوائد'، وهو جيد في بابه، وقد طبع وانتفع به كثير من الناس.
__________
(1) علماء نجد (1/127).
(2) الأعلام (2/135) ومعجم المؤلفين (3/157-158).(1/160)
2- 'محاسن التأويل' وهو مطبوع متداول، تكلمت عليه في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (1) .
3- 'دلائل التوحيد' وهو مطبوع كذلك.
من مواقفه:
- قال رحمه الله: الحمد لله الذي أمر بالدعوة إلى سبيله، وجعل الخير والفضل في قبيله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين.
أما بعد: فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين، وجب على كل مستطيع له، أن يقتحم لوجه الله سبله، خشية أن تعم البدعة وتفشو الضلالة، ويتسع الخرق وتشيع الجهالة، فتموت السنة ويندرس الهدي النبوي، ويمحى من الوجود معالم الصراط السوي، ولما أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذر على البصير حصرها، وضبط أفرادها وسبرها، رأيت أن أدل بجزئي منها على كلياتها، وبنبذة منها على بقياتها، وذلك في البدع والعوائد، الفاشية في كثير من المساجد، لأني ابتليت كآبائي بإمامة بعض الجوامع في دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنت أرى من أهم الواجبات إعلام الناس بما ألم بها من البدع والمنكرات، فإن القيم مسئول عن إصلاح من في معيته، وفي الحديث: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" (2) .اهـ (3)
- وقال: لا يخفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم حذروا قومهم من البدع ومحدثات الأمور، وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور. وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع بما لا يرتفع معه الترك. (4)
__________
(1) 2/647-662).
(2) أحمد (2/5) والبخاري (5/222/2554) ومسلم (3/1459/1829) وأبو داود (3/342-343/2928) والترمذي (4/180-181/1705) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) إصلاح المساجد (ص.7).
(4) إصلاح المساجد (ص10).(1/161)
- وقال: لا يخفى أن مدار العبادات إنما هو على المأثور في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى. ولكل مسلم الحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل لنا ديننا وأتم علينا به نعمته، فكل من يزيد فيه شيئا فهو مردود عليه لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) .
وكل البدع التي منها حسن ومنها سيء فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي المراد بحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" (2) ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها (حققه بعض الفضلاء) والله أعلم. (3)
محمد بن قاسم آل غنيم (4) (1335 هـ)
محمد بن قاسم آل غنيم النجدي الزبيري. ولد في بلدة الزبير من أعمال العراق، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ عبدالله بن نفيسة النجدي الزبيري والشيخ صالح بن حمد المبيض والشيخ إبراهيم الغملاس وغيرهم. تعلم الطب ومهر فيه، وطالع كتب الأدب واشتغل به، ونشر العلم وألف المؤلفات. توفي رحمه الله سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف في بلدته الزبير.
موقفه من الرافضة:
له نظم رد فيه على أحد علماء الرافضة. (5)
محمد بن محمود بن عثمان الضالع (6) (1337 هـ)
__________
(1) تقدم في مواقف أبي بكر الخلال سنة (311هـ).
(2) تقدم ضمن مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).
(3) إصلاح المساجد (16-17).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/359-361).
(5) علماء نجد (6/360).
(6) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/380-383).(1/162)
محمد بن محمود بن عثمان الضالع القصيمي أصلا البغدادي مولدا ومنشأ. ولد في بغداد سنة تسع وخمسين ومائتين وألف، وقرأ القرآن، وأخذ شيئا من النحو على الشيخ بشير الغزي، وطالع كتب الفقه والتفسير وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وكان رحمه الله مجاهرا بعقيدته السلفية، نابذا لأهل البدع ومنكرا عليهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله في ذلك الردود القيمة.
توفي رحمه الله في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: وكان من المتحمسين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومن الدعاة إليها، يناظر فيها عن علم ممزوج بآداب المناظرة وحسن المجادلة، ولا يمنعه من المجاهرة بعقيدته وإنكاره مخالفة الناس له في ذلك، ونبذه الناس لانتحاله هذا المذهب لمناظرته فيه، ومطالعته كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم، وإنكاره الشديد على أهل البدع، ونسبوا كل من كان يحضر مجلسه إلى الوهابية، فكان يتحاشاه أكثر عارفيه خصوصا في عهد السلطان عبدالحميد، ومع هذا فإنه لم يزل مصرا على عقيدته ومجاهرته بآرائه، لم يثن عزمه لومة لائم ولا وشاية واش.
وله رسالة وجيزة في الرد على خطبة (المسيو جبرئيل هانوتو) التزم فيها السجع، وله قصيدة رد بها على المصريين، وسبب ذلك أن الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني مدح الشيخ محمد بن عبدالوهاب بقصيدة، فرد عليه الشيخ أبو بكر محمد بن غلبون المصري، فلما اطلع المترجم على الأصل وعلى رد أبي بكر بن غلبون رد عليه بقصيدة أولها:
سلام على من كان في قومه يهدي ... بأي مكان حل في الغور والنجد
ولاشك أن الأرض لا تخلو من فتى ... خلائقه ترضي وأفعاله تجدي
ومنها:
ألا خبروني أنتموا أو هموا ممن ... يداهن في الدين الحنيفي على عمد
يرى كل أقوال الذين تقدموا ... صوابا وإن كان الحلول بما يبدي
وتعظيمهم حتى غدا الدين هزأة ... لكل جحود فاقد العقل والرشد(1/163)
بتكذيب رسل الله والكتب التي ... نهتنا عن الإشراك بالواحد الفرد
وهي طويلة. وله غيرها من القصائد. (1)
علي بن سليمان بن حلوة آل يوسف (2) (1337 هـ)
علي بن سليمان بن حلوة من آل يوسف الوهيبي التميمي نسبا، العنزي القصيمي أصلا، البغدادي مولدا وموطنا. ولد في بغداد ونشأ فيها، وقرأ على علماء بغداد منهم السيد محمود شكري الآلوسي. قال الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن درهم: العلامة ذو العقل الراجح والشهامة علي بن سليمان آل يوسف طلب العلم في بغداد على مشايخ كثر، وأدرك في كثير من الفنون إدراكا تاما، وقد رأيته واجتمعت به واستفدت منه في مدة إقامته عندنا ببلدنا قطر، وهو إذ ذاك في صحبة الشيخ يوسف آل إبراهيم في أيام قدومه على الشيخ المرحوم قاسم آل ثاني عام خمس عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، فرأيت رجلا لا يجارى فيما تكلم فيه من أي فن خصوصا في الأصول والعقائد، والتحقيق لعقيدة السلف والدعوة إليها والرد على من خالفها. له مؤلفات وردود تدل على سعة علمه، وتبنيه لعقيدة السلف.
توفي رحمه الله ببغداد في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة'.
2- 'قصيدة في الرد على أمين حنش البغدادي'.
3- 'قصيدة في الرد على النبهاني'. (3)
العلامة طاهر الجزائري (4) (1338 هـ)
__________
(1) علماء نجد (6/382-383).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/195-200).
(3) علماء نجد (5/196-197).
(4) الأعلام للزركلي (3/221-222) ومقدمة الجواهر الكلامية (ص.7-9).(1/164)
طاهر بن محمد بن صالح بن أحمد بن موهب السمعوني الجزائري الأصل، الدمشقي المولد والنشأة دخل المدرسة الجقمقية وتخرج بالأستاذ عبدالرحمن البستاني، ثم اتصل بالعلامة الشيخ عبدالغني الغنيمي الميداني ولازمه إلى أن توفاه الله ثم أصبح فقيه المالكية بدمشق ومفتيها بالشام. كان مغرما باقتناء المخطوطات والبحث عنها، فساعد في إنشاء "دار الكتب الظاهرية" بدمشق و"المكتبة الخالدية" في القدس.
تحلق حول الشيخ طائفة من الشيوخ والعلماء النابعون كالشيخ جمال الدين القاسمي وعبدالرزاق البيطار وغيرهم، والتحق بهم نوابغ الشباب من أمثال محب الدين الخطيب ورفيق العظم ومحمد سعيد الباني الذي ألف في ترجمة الشيخ 'تنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر'.
من مؤلفاته:
1- 'الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية'.
2- 'تنبيه الأذكياء في قصص الأنبياء'.
3- 'التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن'.
4- 'توجيه النظر إلى علم الأثر'.
وكلها طبعت.
5- 'الإلمام في السيرة النبوية'. وهو مخطوط.
6- 'التفسير الكبير' في أربع مجلدات. وهو مخطوط بالمكتبة الظاهرية.
وغيرها.
توفي رحمه الله بدمشق سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
قال تلميذه الشيخ سعيد الباني: كان يدعو المارقين إلى التدين، ولكن بالدين الذي تركنا عليه الشارع - صلى الله عليه وسلم - ، ونهج عليه سلف الأمة الصالح، ويتحاشى الجمود والتقليد الأعمى، ويرفض كل ما ألصق بالدين من الحرج والتنطع والحشود والبدع مما لا يلتئم مع الإسلامية السمحاء. (1)
موقفه من الرافضة:
س: من أفضل الأمم جميعا بعد الأنبياء عليهم السلام؟
ج: أفضل الأمم جميعا بعد الأنبياء هي الأمة المحمدية، وأفضلها الصحابة الكرام وهم الذين اجتمعوا بنبينا عليه الصلاة والسلام وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأفضلهم الخلفاء الأربعة. (2)
__________
(1) مقدمة 'الجواهر الكلامية' للطاهر الجزائري (ص.8).
(2) ص.80-81).(1/165)
موقفه من الصوفية:
س: هل يبلغ الولي درجة النبي، وهل يصل إلى حالة تسقط عنه التكاليف عندها؟
ج: لا يبلغ الولي درجة نبي من الأنبياء أصلا ولايصل العبد ما دام عاقلا بالغا إلى حيث يسقط عنه الأمر والنهي ويباح له ما شاء. ومن زعم ذلك كفر وكذلك يكفر من زعم أن للشريعة باطنا يخالف ظاهرها هو المراد بالحقيقة، فأول النصوص القطعية وحملها على غير ظواهرها. كمن زعم أن المراد بالملائكة القوى العقلية، وبالشياطين القوى الوهمية. (1)
موقفه من الجهمية:
جاء في الجواهر الكلامية:
س: ما المراد بالاستواء في قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (2) ؟
ج: المراد به استواء يليق بجلال الرحمن جل وعلا، فالاستواء معلوم والكيف مجهول. واستواؤه على العرش ليس كاستواء الإنسان على السفينة أو ظهر الدابة أو السرير مثلا، فمن تصور مثل ذلك فهو ممن غلب عليه الوهم لأنه شبه الخالق بالمخلوقات مع أنه قد ثبت في العقل والنقل أنه ليس كمثله شيء. فكما أن ذاته لا تشابه ذات شيء من المخلوقات كذلك ما ينسب إليه سبحانه لا يشابه شيئا مما ينسب إليها.
س: هل يضاف إلى الله سبحانه يدان أو أعين أو نحو ذلك؟
ج: قد ورد في الكتاب العزيز إضافة اليد إلى الله سبحانه في قوله جل شأنه: يَدُ { اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (3) واليدين في قوله سبحانه: قَالَ { يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (4) ، والأعين في قوله سبحانه: وَاصْبِرْ { لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (5) إلا أنه لا يجوز أن يضاف إليه إلا ما أضافه إلى نفسه في كتابه المنزل أو أضافه إليه نبيه المرسل.
س: ما المراد باليد هنا؟
__________
(1) ص.84-85).
(2) طه الآية (5).
(3) الفتح الآية (10).
(4) ص الآية (75).
(5) الطور الآية (48).(1/166)
ج: المراد باليد هنا معنى يليق بجلاله سبحانه، وكذلك الأعين، فإن كل ما يضاف إليه سبحانه يكون غير مماثل لما يضاف إلى شيء من المخلوقات. ومن اعتقد أن له يدا كيد شيء منها أو عينا كذلك فهو ممن غلب عليه الوهم إذ شبه الله بخلقه وهو ليس كمثله شيء.
س: إلى من ينسب ما ذكرته في معنى الاستواء واليدين والأعين؟
ج: ينسب ذلك إلى جمهور السلف.
وأما الخلف فأكثرهم يفسرون الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة أو القدرة، والأعين بالحفظ والرعاية، وذلك لتوهم كثير منهم أنها إن لم تؤول وتصرف عن ظاهرها أوهمت التشبيه وقد اتفق الفريقان على أن المشبه ضال، وغيرهم يقولون إنما توهم التشبيه لولم يدل العقل والنقل على التنزيه، فمن شبه فمن نفسه أتي.
س: كيف نثبت شيئا ثم نقول: (الكيف فيه مجهول)؟
ج: هذا غير مستغرب فإنا نعلم أن نفوسنا متصفة بصفات كالعلم والقدرة والإرادة، مع أنا لانعلم كيفية قيام هذه الصفات بها، بل إنا نسمع ونبصر ولا نعلم كيفية حصول السمع والإبصار بل إننا نتكلم ولا نعلم كيف صدر منا الكلام. فإن علمنا شيئا من ذلك فقد غابت عنا أشياء، ومثل هذا لا يحصى.
فإذا كان هذا فيما يضاف إلينا فكيف الحال فيما يضاف إليه سبحانه. (1)
عبدالله بن محمد بن عبداللطيف آل الشيخ (2) (1340 هـ)
عبدالله بن محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في الرياض، وتعلم بالمدينة ومصر وتونس، وساح في مراكش وجنوب آسيا والهند والأفغان وإيران والعراق. كان مرجع النجديين في أمور دينهم، وشارك في سياستهم وحروبهم، واشتهر بالكرم والدهاء، وكان مع آل سعود في هجرتهم إلى الكويت.
توفي رحمه الله بالرياض سنة أربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
__________
(1) ص.23-26).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/457) والأعلام (4/99) ومعجم المؤلفين (6/126-127).(1/167)
- 'رسالة في الاتباع وحظر الغلو في الدين'. (1)
محمود شكري الآلوسي (2) (1342 هـ)
محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين محمود الآلوسي الحسيني أبو المعالي، حفيد الآلوسي المفسر صاحب 'روح المعاني'، مؤرخ عالم بالأدب والدين من الدعاة إلى الإصلاح. ولد في رصافة بغداد سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، وأخذ العلم عن أبيه محمد وعمه وغيرهما. وتصدر للتدريس في داره وفي بعض المساجد وحمل على أهل البدع في الإسلام برسائل فعاداه كثيرون فسعوا إلى والي بغداد فكتب إلى السلطان عبدالحميد فصدر الأمر بنفيه إلى بلاد الأناضول فقام أعيانها وكتبوا إلى السلطان يحتجون فسمح له بالعودة إلى بغداد فلزم بيته عاكفا على التأليف والتدريس، عرض عليه قضاء بغداد فزهد فيه، ولم يل عملا بعد ذلك غير عضوية مجلس المعارف في بدء تأليف الحكومة العربية في بغداد. له مصنفات كثيرة نافعة.
توفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه تلميذه الشيخ بهجة الأثري: ولأستاذنا الآلوسي النصيب الأكبر احتسب حياته لخدمة الدين الإسلامي، وتطهيره من أوضار البدع والمحدثات، التي فتت في ساعده، وبذل في ذلك غاية جهده، فجاهد أهل الحشو ودعاة عبادة القبور جهاد الأبطال في ساحات القتال، فكان سيفا ماضيا في رقاب الحشويين والقبوريين. (3)
__________
(1) الإعلام للزركلي (4/99. علماء نجد خلال ثمانية قرون 4/457).
(2) الأعلام (7/172-173) ومعجم المؤلفين (12/169-170).
(3) أعلام العراق (ص.129-131) كما في مقدمة 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.95-96).(1/168)
- وقال أيضا: جاهد السيد البدع والوثنيات، ودعا إلى التوحيد الذي هو أول ما كانت تدعو إليه الرسل، وبين ضرر تقليد الآباء والسير على آثارهم الغامضة، غير مدخر في جهاده ودعوته وسعا حتى كبح جماح الوثنيين وخفف من غلواء القبوريين أو كاد، فكان له من التأثير المحمود في قمع الضلال ما لا سبيل لأحد إلى إنكاره. (1)
- وقال في رده على النبهاني: إن كل ما ليس عليه أثارة من علم ليس بمقبول، وإن الاجتهاد ليس بنبوة حتى يقال إنه ختم بفلان وفلان، أما النبوة فقد دل نص الكتاب والسنة على ختمها. (2)
موقفه من المشركين:
لقد أجاد الشيخ رحمه الله في شرحه للمسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وهي رسالة جيدة في بابها، نذكر نماذج منها:
- قال في شرحه المسألة التاسعة عشرة: من خصالهم الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر.
قال: وهذه الخصلة الجاهلية موجودة اليوم في كثير من الناس، لا سيما من انتسب إلى الصالحين وهو عنهم بمراحل، فيتعاطى الأعمال السحرية من إمساك الحيات، وضرب السلاح، والدخول في النيران، وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، فأعرضوا ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقاه إليهم شياطينهم، وادعوا أن ذلك من الكرامات، مع أن الكرامة لا تصدر عن فاسق، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقهم ظاهر للعيان، ولذا اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وفي مثلهم قال تعالى: الَّذِينَ { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (3) .اهـ (4)
__________
(1) المصدر نفسه (ص.96).
(2) غاية الأماني (1/64). انظر مقدمة 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.100).
(3) الكهف الآية (104).
(4) ص.92-93).(1/169)
- وقال في المسألة الثانية والثلاثين: القول بالتعطيل كما كان يقوله آل فرعون. والتعطيل: إنكار أن يكون للعالم صانع، كما قال فرعون لقومه: مَا { عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ } غَيْرِي (1) ونحو ذلك. ولم يخل العالم عن مثل هذه الجهالات في كل عصر من العصور، وأبناء هذا الزمان إلا النادر على هذه العقيدة الباطلة، لو نظروا بعين الإنصاف والتدبر، لعلموا أن كل موجود في العالم يدل على خالقه وبارئه:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ومن أين للطبيعة إيجاد مثل هذه الدقائق التي نجدها في الآفاق والأنفس، وهي عديمة الشعور لا علم لها ولا فهم -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-. (2)
- وقال في المسألة الثانية والأربعين: الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام. قال تعالى في سورة النساء: يَا أَهْلَ { الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } (3) . والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة نسر وسواع ويغوث ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام. (4)
موقفه من الرافضة:
لقد جرد الشيخ قلمه للرد على الروافض ودحض شبههم في أكثر من كتاب منها:
1- 'السيوف المشرقة مختصر الصواعق المحرقة'.
2- 'المنحة الإلهية'.
3- 'سعادة الدارين في شرح الثقلين' ترجمه عن الفارسية لمؤلفه الشيخ عبدالعزيز ولي الله الدهلوي.
4- 'رجوم الشيطان'.
5- 'صب العذاب على من سب الأصحاب'.
__________
(1) القصص الآية (38).
(2) ص.123).
(3) النساء الآية (171).
(4) ص.157).(1/170)
- قال في مطلعه: لما انتشر بين الناس البدع والضلالات، وسرى الجهل إلى سائر الجهات، أشاع الروافض رفضهم بين الناس، وأظهروا ما انطووا عليه من الخبث والدس والإلباس، فشمر عند ذلك علماء أهل السنة ساعد الجد والاجتهاد، لتطهير ما لوث به أهل الأهواء وجه الأرض من الفساد، فردوا عليهم في كتبهم أتم رد، وصدوهم عما ذهبوا إليه أكمل صد، بدلائل جلية، وبراهين قطعية. (1)
- وقال: والعجب كل العجب من رافضي ينتسب لأب؛ فإن من نظر إلى أحوال الروافض في المتعة في هذا الزمان لا يحتاج في حكمه عليهم بالزنا إلى شاهد ولا برهان؛ فإن المرأة الواحدة منهم تزني بعشرين رجلا في يوم وليلة، وتقول إنها متمتعة، وقد هيئت عندهم أسواق عديدة للمتعة توقف فيها النساء ولهن قوادون يأتون بالرجال إلى النساء، وبالنساء إلى الرجال، فيختارون ما يرضون، ويعينون أجرة الزنا، ويأخذون بأيديهن إلى لعنة الله تعالى وغضبه، فإذا خرجن من عندهم وقفن لآخرين، وهكذا. كما أخبر بذلك الثقات الذين دخلوا بلادهم، وإن جماعة نحو خمسة أو أقل أو أكثر يأتون إلى امرأة واحدة، فتقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا، ومن الضحى إلى الظهر في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى نصف الليل في متعة هذا، ومن نصف الليل إلى الصبح في متعة هذا، ويسمونها "المتعة الدورية"... (2)
__________
(1) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.227-228).
(2) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.239-240).(1/171)
- وقال في خاتمة رده في صب العذاب: فإن هؤلاء الأوغاد، ومنشأ الفتن والفساد أقل من أن تسود جوههم بمداد الأقلام، وأذل من أن يقابلوا بأسنة الألسنة وسهام الأرقام؛ فإنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، قد كوّروا العمائم، واتخذوا ذلك شبكة لصيد طير الولائم، كل منهم قد شمخ بأنف من الجهل طويل، واشمخرّ بخرطوم كخرطوم الفيل، واحتشى من قيح الخبث وقبح الأباطيل، على أن من "يسمع يخِل"، وغالب الرعاع اليوم كالأنعام بل هم أضل، يتبعون كل ناعق ويألفون كل ناهق.
ثم إن ما حرّرته في إبطال كلام الزائغين وأوهام الناكبين عن سبيل المؤمنين، كان في أقل مدة، من غير كلفة ولا عدة؛ فإن فسادهم باد في أول النظر، وكسادهم بيّن لدى كل ذي بصر؛ فإنهم لا فسحة للقول إلا الجدّ، ولا راحة للطبع إلا السرد.
وقد اقتصرت على رد ما ذكروه، ولم أتعرض في هذا المقام لسائر ما هَذَوا به وزوّروه، فقد قضي الوطر من إبطال جميع عقائدهم، وهدم أساس أصولهم وقواعدهم؛ فإن عادوا عدنا، وإن زادوا زدنا:
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة
وها أنا قائم على ساق العزم في ساحة المناظرة غير عاجز، ذو نية وبصيرة، يرجو الغداة نجاة فائز، واقف في ميدان البحث والمحاورة: هل من مبارز؟ إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز. وكيف لا وقد تكفل الله بنصرنا في قوله سبحانه: وَيَوْمَئِذٍ { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } (4) (1) . وبمن أبالي وقد قال تعالى: وَإِنَّ { جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (173) (2) مع أني اليوم أقل القوم، وكم فينا معاشر أهل الحق من بطل همام، ونحرير إمام، يشق بذهنه الشعر، ويثقب بثاقب فكره الدرر، كم أقعدوا المخالفين على عجز الإفحام، وألجموا المعاندين بلجام الإلزام.
__________
(1) الروم الآية (4).
(2) الصافات الآية (173).(1/172)
ومن أين لفئة الضلال مثل هؤلاء الرجال؛ فإن كلا منهم "أحمق من ربيعة البكّاء"، ومن "ناطح الصخرة ولاعق الماء"، و"أخنث من هيت ودلال"، وأخبث ممن سارت بخبثه الأمثال، وقد زادوا بجهلهم على الحمير، وهذه آثارهم والبعرة تدل على البعير.
والحمد لله الذي صدقنا وعده، ونصر حزبه وجنده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى الآل والأصحاب ومن أخلص لهم وُدّه. (1)
موقفه من الصوفية:
- له من الآثار السلفية: 'غاية الأماني في الرد على النبهاني'، وقد طبع ووزع على نفقة بعض المحسنين. وكان أول محسن طبعه على نفقته الشيخ نصيف والشيخ عبدالقادر التلمساني خدمة للعقيدة السلفية.
- ومما قال فيه: وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة مبتدعة الرفاعية؛ فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشايخهم، وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات والعقارب ونحو ذلك. (2)
- قال رحمه الله في شرحه لكتاب المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب: المسألة السادسة والستون:
تعبدهم بالمكاء والتصدية. قال تعالى في سورة الأنفال: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } (35) (3) . تفسير هذه الآية: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ } الْبَيْتِ أي: المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله، فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا.
__________
(1) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.530-533).
(2) غاية الأماني (1/370).
(3) الأنفال الآية (35).(1/173)
wخ) { } مُكَاءً أي: صفيرا. وَتَصْدِيَةً { } أي: تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت. والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها، ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها، ولا معنى لها كصفير الطيور، وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي يليق أن تقع عند البيت... والمقصود أن مثل هذه الأفعال لا تكون عبادة، بل من شعائر الجاهلية. فما يفعله اليوم بعض جهلة المسلمين في المساجد من المكاء والتصدية يزعمون أنهم يذكرون الله، فهو من قبيل فعل الجاهلية، وما أحسن ما يقول القائل فيهم:
أقال الله صفق لي وغن ... وقل كفرا وسم الكفر ذكرا
وقد جعل الشارع صوت الملاهي صوت الشيطان، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ { مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } (64) (1) .اهـ (2)
موقفه من الجهمية:
قال في شرحه المسألة الخامسة والخمسين: تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية:
قال: كان أهل الجاهلية يلقبون من خرج عن دينهم بالصابئ، كما كانوا يسمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، كما ورد في عدة أحاديث من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما (3) ، تنفيرا للناس عن اتباع غير سبيلهم.
وهكذا تجد كثيرا من هذه الأمة يطلقون على من خالفهم في بدعهم وأهوائهم أسماء مكروهة للناس.
__________
(1) الإسراء الآية (64).
(2) المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية (ص.214-216) باختصار.
(3) البخاري (6/681-682/3522) ومسلم (4/1919-1922/2473) من حديث أبي ذر في قصة إسلامه رضي الله عنه.(1/174)
وأما الحشوية، فهم قوم كانوا يقولون بجواز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة، كالحروف في أوائل السور، وكذا قال بعضهم، وهم الذين قال فيهم الحسن البصري لما وجد قولهم ساقطا، وكانوا يجلسون في خلقته أمامه: "ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة"، أي: جانبها.
وخصوم السلفيين يرمونهم بهذا الاسم، تنفيرا للناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم، حيث يقولون في المتشابه: لا يعلم تأويله إلا الله. وقد أخطأت استهم الحفرة، فالسلف لا يقولون بورود ما لا معنى له لا في الكتاب ولا في السنة، بل يقولون في الاستواء مثلا: "الاستواء غير مجهول،
والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر".
ولقد أطال الكلام في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، ولخص ذلك في كتابه 'جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن'.
ومن الناس من فرق بين مذهب السلف ومذهب الحشوية، بأن مذهب الحشوية ورود ما يتعذر التوصل إلى معناه المراد مطلقا، فالاستواء -مثلا- عندهم له معنى يتوصل إليه بمجرد سماعه كل من يعرف الموضوعات اللغوية، إلا أنه غير مراد، لأنه خلاف ما يقتضيه دليل العقل والنقل، ومعنى آخر يليق به -تعالى- لا يعلمه إلا هو -عز وجل-.
وكيف يكون مذهب السلف هو مذهب الحشوية، وقد رأى الحسن البصري الذي هو من أكابر السلف سقوط قول الحشوية، ولم يرض أن يقعد قائله تجاهه؟!.
والمقصود أن أهل الباطل من المبتدعة رموا أهل السنة والحديث بمثل هذا اللقب الخبيث. قال أبو محمد عبدالله بن قتيبة في 'تأويل مختلف الأحاديث': إن أصحاب البدع سموا أهل الحديث بالحشوية، والنابتة، والمتجبرة، والجبرية، وسموهم الغثاء، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
موقفه من القدرية:
قال في المسألة الخامسة والثلاثين: جحود القدر، والاحتجاج به على الله تعالى ومعارضة شرع الله بقدر الله.
__________
(1) ص.188-191).(1/175)
وهذه المسألة من غوامض مسائل الدين، والوقوف على سرها عسر إلا على من وفقه الله تعالى.
ولابن القيم كتاب جليل في هذا الباب سماه 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل'.
وقد أبطل الله سبحانه هذه العقيدة الجاهلية بقوله تعالى: سَيَقُولُ { الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (1) .
تفسير هذه الآية: سَيَقُولُ { الَّذِينَ } (#qن.uژُ°r&: حكاية لفن آخر من أباطيلهم.
ِqs9 { شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } : لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح، إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل هم كما نطقت به الآيات يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وأن التحريم إنما كان من الله عزوجل، فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى على أن المشيئة والإرادة تساوي الأمر، وتستلزم الرضى، كما زعمت المعتزلة، فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئته سبحانه وإرادته، فهو مشروع ومرضي عند الله تعالى.
وبعد أن حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم، رد عليهم بقوله عز من قائل: كَذَّبَ { الَّذِينَ مِنْ } َOخgد=ِ7s%، وهم أسلافهم المشركون.
__________
(1) الأنعام الآيتان (148و149).(1/176)
وحاصله: أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام، وقد دلت المعجزة على صدقهم. أو نقول: حاصله: أن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، وكل ما هذا شأنه فلا تكليف به، لكونه مشروطا بالاستطاعة، فينتج: أن ما ارتكبه من الشرك وغيره، لم يتكلف بتركه، ولم يبعث له نبي، فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل، لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون، وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية، ولكونه صدقا أريد به باطل، ذمهم الله تعالى بالتكذيب.
ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف، لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة.
{ حَتَّى ذَاقُوا } $uZy™ù't/، أي: نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى، لأن الذوق أول إدراك الشيء.
ِ@è% { هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } ، أي: هل لكم من علم بأن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان؟
وهذا دليل على أن المشركين أمم استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث قرع مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى، فحين طالبوهم بالإسلام، والتزام الأحكام، احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العَيُّوق. (1)
bخ) { تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } اتحرب، أي: تكذبون على الله تعالى.
__________
(1) كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا من ناحية الشمال ويطلع قبل الجوزاء، سمي بذلك لأنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا. لسان العرب مادة [عيق].(1/177)
ِ@è% { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ } èptَخ="t6ّ9$#، أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، والمراد بها في المشهور: الكتاب والرسول والبيان. فَلَوْ { شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) بالتوفيق لها، والحمل عليها، ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.
ومن الناس من ذكر وجها آخر في توجيه ما في الآية: وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلمون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك، فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال، فكذب الرسل، وأشرك بالله عزوجل، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة.
ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له تعالى لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعين.
والمقصود أن يمتحض وجه الرد عليهم، وتتلخص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم، وأن إقامتهم الحجة بذلك خاصة.
وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا لصدور الجبرية، وعجزها معجزا للمعتزلة، إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة لأهل السنة على المعتزلة، والحمد لله رب العالمين.
ومنهم من وجه الآية: بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، على معنى أن الله تعالى شاء شركنا، وأراده منا، وأنتم تخالفون إرادته، حيث تدعونا إلى الإيمان، فوبخهم سبحانه وتعلى بوجوه عدة:(1/178)
منها قوله سبحانه: فَلِلَّهِ { الْحُجَّةُ } èptَخ="t6ّ9$#، فإنه بتقدير الشرط، أي: إذا كان الأمر كما زعمتم فَلِلَّهِ { الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } .
وقوله سبحانه: ِِqn=sù { } شَاءَ بدلا منه على سبيل البيان، أي: لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه، لو كان الأمر كما تزعمون، لكان الإسلام أيضا بالمشيئة، فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام، كما وجب بزعمكم ألا يمنعكم الأنبياء عن الشرك، فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة، بل موافقة وموالاة.
وحاصله: أن ما خالف مذهبكم من النِّحل يجب أن يكون عندكم حقا، لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة.
وفي سورة النحل: وَقَالَ { الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (35) (1) .
الكلام على هذه الآية كالكلام على الآية السابقة، ولا تراهم يتشبثون إلا عند انخذال الحجة، ألا ترى كيف ختم بنحو آخر مجادلتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة الزخرف وهو قوله تعالى: وَجَعَلُوا { الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (22) (2) .
__________
(1) النحل الآية (35).
(2) الزخرف الآيات (19-22).(1/179)
ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ } الْبَالِغَةُ، والمراد بما حرموه: السوائب والبحائر وغيرها.
وفي تخصيص الاشتراك والتحريم بالنفي، لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله: أي ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه وتعالى شاء أن نوحده، ولا نشرك به شيئا، ونحلل ما أحله، ولا نحرم شيئا مما حرمنا، كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك، وتحليل ما أحله، وعدم تحريم شيء من ذلك، وحيث لم يكن كذلك، ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما يقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم.فرد الله تعالى عليهم بقوله: كَذَلِكَ { فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ } قَبْلِهِمْ من الأمم، أي: أشركوا بالله تعالى، وحرموا من دونه ما حرموا، وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق.
ِ@ygsù { عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } اجخب، أي: ليست وظيفتهم إلا البلاغ للرسالة، الموضح طريق الحق، والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ { جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (1) .
وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليه شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي يتوقف عليها التكليف، حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لابد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين.
__________
(1) العنكبوت الآية (69).(1/180)
والكلام على هذه الآية ونحوها مستوفى في تفسير 'روح المعاني' (1) وغيره.
فجحود القدر، والاحتجاج به على الله، ومعارضة شرع الله بقدره، كل ذلك من ضلالات الجاهلية.
والمقصود أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، فمن زلت قدمه عن هذه الجادة كان على ما كان عليه أهل الجاهلية، وهي الطريقة التي رد عليها الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . (2)
الشيخ بَابَ (3) (1342 هـ)
العلامة المحدث سيدي بن سيدي محمد، وقد اشتهر بلقبه باب ابن الشيخ سيدي، ويقال له الشيخ سيدي بَابَ، وكنيته أبو محمد ويرجع نسبه إلى قبيلة تَنْدَغ المرابطية. ولد عام سبع وسبعين ومائتين وألف في بلاده، ونشأ في بيئة علمية متدينة فهو من عائلة ذات شهرة دينية وعلمية كبيرة لها مكانة في المجتمع الموريتاني. حفظ القرآن الكريم قبل بلوغه عشر سنين، واشتغل بتحصيل العلم على كبار علماء بلاده، منهم: محمد بن السالم البوحسني، ومحمد بن حنبل بن الفال، وأحمد بن سليمان الديماني، وأحمد بن أزوين. درس السنة وجعلها نصب عينيه وعمل بها، عقيدة وشريعة وسلوكا.
كان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبالي بما يصيبه في سبيله وقاد دعوة سلفية تهدف إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونبذ الجمود والتقليد.
قال سبطه محمد بن أبي مدين: محيي السنة ومجدد القرن الرابع عشر. وقال عنه أحمد بن أحمد المختار: العلامة المحقق الموحد، العالم المتبحر سيف الله المسلول على المبتدعين والمعطلين وأهل الخرافة أجمعين. وله عدة مؤلفات منها: 'إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين' و'أرجحية التفويض في آيات الصفات وأحاديثها' و'حكم الهجرة من البلاد المحتلة' و'بيان إعجاز القرآن' وغيرها.
__________
(1) 8/51-53).
(2) شرح المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ص.129-137).
(3) السلفية وأعلامها في موريتانيا (282 وما بعدها).(1/181)
توفي رحمه الله تعالى في بلاده سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة عن عمر بلغ أربعة وستين عاما.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في منظومته:
كن للإله ذاكرا ... وأنكر المناكرا
وكن مع الحق الذي ... يرضاه منك دائرا
ولا تعد نافعا ... سواءه أو ضائرا
واسلك سبيل المصطفى ... ومت عليه سائرا
أما كفى أولنا؟ ... أليس يكفي الآخرا؟
وكن لقوم أحدثوا ... في أمره مهاجرا
قد موهوا بشبه ... واعتذروا معاذرا
وزعموا مزاعما ... وسودوا دفاترا
واحتنكوا أهل الفلا ... واحتنكوا الحواضرا
وأورثت أكابر ... بدعتها أصاغرا
واحكم بما قد أظهروا ... فما تلي السرائرا
وإن دعا مجادل ... في أمرهم إلى مرا
فلا تمار فيهم ... إلا مراء ظاهرا
- وقال أيضا:
آمن أخي واستقم ... ونهج أحمد التزم
واجتنب السبل لا ... تغررك أضغاث الحلم
لا خير في دين لدى ... خير القرون منعدم
أحدثه من لم يرد ... نص بأنه عصم
من بعدما قد أنزلت ... اليوم أكملت لكم
وبعدما صح لدى ... جمع على غدير وخم
وادع إلى سبيله ... وخص في الناس وعم
واذكر إذا ما أعرضوا ... عليكم أنفسكم (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله:
ما أوهم التشبيه في آيات ... وفي أحاديث عن الثقات
فهي صفات وصف الرحمن ... بها وواجب بها الإيمان
ثم على ظاهرها نبقيها ... ونحذر التأويل والتشبيها
قال بذا الثلاثة القرون ... والخير باتباعهم مقرون
وهو الذي ينصره القرآن ... والسنن الصحاح والحسان
وكم رآه من إمام مرتضى ... من الخلائق بناظر الرضى
ومن أجاز منهم التأويلا ... لم ينكروا ذا المذهب الأصيلا
والحق أن من أصاب واحد ... لاسيما إن كان في العقائد
ووافق النص وإجماع السلف ... فكيف لا يتبع هذا من عرف
ومن تأول فقد تكلفا ... وغير ما له به علم قفا
وفي الذي هرب منه قد وقع ... وبعضهم عن قوله به رجع
حتى حكى في منعه الإجماعا ... وجعل اجتنابه اتباعا
وقد نماه بعض أهل العلم ... من الأكابر لحزب جهم
فاشدد يديك أيها المحق ... على الذي سمعت فهو الحق (2)
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (295-296).
(2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (290-291).(1/182)
- وقال أيضا: وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار الذين ساروا على هذا المنهج، كالإمام مالك، والشافعي، والسفيانين، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم من الأئمة المتمسكين بهذا المذهب..
كلهم تلقوا آيات الصفات وأحاديثها بالقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، حيث كانوا يقولون: اقرأوها كما جاءت، بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، على حد قوله تعالى: ملَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (1) .اهـ (2)
إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق (3) (1343 هـ)
إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق. ولد في رجب سنة سبع وثمانين ومائتين وألف وقيل غير ذلك. نشأ نشأة علمية، حيث قرأ على والده العلامة الشيخ حمد وعلى أخيه الشيخ سعد. وله قصائد كثيرة، منها مراثي ومنها أمداح.
توفي رحمه الله سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له حاشية على كتاب التوحيد. (4)
وقد نظم شروط "لا إله إلا الله" وما يضادها، فقال:
لسبعة الشروط في الشهادة ... حتم علينا قبول ذي الإفادة
علم ينافي الجهل واليقين ... إذا نفى للشك يا فطين
كذا القبول إن نفى للرد ... والانقياد رابع في العد
وهو المنافي الشرك إخلاص الفتى ... إذا نفى للشرك فافهم يا فتى
والصدق أيضاً المنافي للكذب ... محبة تنفي لشد فاحتسب (5)
محمد عز الدين القسام (6) (1345 هـ)
محمد عز الدين بن عبدالقادر القسام ولد سنة ثلاثمائة وألف للهجرة بجبلة الأدهمية من أعمال اللاذقية بالشام.
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) أعلام السلفية (ص.292).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/555-556).
(4) علماء نجد (1/555)
(5) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/556).
(6) الأعلام (6/267-268) ومقدمة مشهور حسن سلمان لكتاب 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.114).(1/183)
رحل إلى الأزهر لطلب العلم وعمره أربعة عشر سنة. ثم رجع إلى قريته بعد أن تخرج من الأزهر وحمل شهادته سنة عشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. فعمل إماماً وخطيبا بمسجد المنصوري بجبلة، وعين مدرسا في الجامع الكبير بجبلة جامع إبراهيم بن أدهم.
شارك في الجهاد ضد الفرنسيين الذين احتلوا بلاده فحكموا عليه بالإعدام وطاردوه، ثم رحل إلى فلسطين واستقل في ضاحية "الياجور" قرب "حيفا"، فأصبح خطيبا ومدرسا بجامع الاستقلال الذي سهر على جمع التبرعات لبنائه وأنشأ مدرسة ليلية لتعليم الأميين العرب ومن خلالها بث فكرة الجهاد في نفوس الناس ثم أسس جمعية لذلك وجمع التبرعات ودرّب من انضمّ إليه تدريبا عسكريا بعد أن هيّأه دينيّاً للجهاد في سبيل الله.
ثم بعد أسبوعين من مهاجمة قوات الاحتلال الإنجليزي للمتظاهرين العرب في القدس أعلن الجهاد فتوجّه بالمجاهدين إلى جبال جنين فهاجمهم الإنجليز، فتوفي رحمه الله في تلك المعركة جعله الله من الشهداء الأبرار وذلك يوم الأربعاء لأربع وعشرين خلون من شهر شعبان عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
ألف بالاشتراك مع محمد كامل القصاب رسالة ماتعة في ردّ بدعة الجهر بالذكر في تشييع الجنازة وضمّناها رد الكثير من البدع: كإحياء ذكرى المولد النبوي، وإحياء ليلة النصف من شعبان بصلوات وأذكار مخصوصة، وبدعة التوحيش وهي أناشيد توديع رمضان التي تقام إذا بقي من رمضان أيام قليلة من طرف المؤذنين بعد سلام الإمام من الوتر.(1/184)
- قال في مطلعه: أما بعد؛ فقد اطلعنا على رسالة 'فصل الخطاب في الرد على الزنكلوني والقسام والقصاب' تأليف الفاضل الشيخ محمد صبحي خزيران الحنفي العكي، رئيس كتاب المحمكة الشرعية في ثغر "عكاء"، وقد ألفها انتصارا لأستاذه الفاضل الشيخ عبدالله الجزار مفتي عكاء وقاضيها؛ إذ قد أفتى أحدنا لما سئل عن حكم الصياح في التهليل والتكبير وغيرهما أمام الجنائز، بأنه مكروه تحريما، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلا بآية قرآنية، وحديث صحيح، وأقوال الفقهاء. (1)
- قال في 'النقد والبيان' (2) عن الاحتفال بالمولد النبوي: إن الاحتفال بقراءة قصة المولد النبوي ليست سنة الخلفاء الراشدين، فيُعضّ عليها بالنواجذ، ولا فعلها أحد من أهل القرون الثلاثة الفاضلة، التي هي خير القرون الإسلامية، بشهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أحدثها الملك المظفّر التركماني الجنس، صاحب إربل، ثم صارت عادة متبعة وسنة مبتدعة وشعارا دينينا.
- وقال عن بدعة رفع الصوت بالذكر في تشييع الجنائز: ..يتعين على كل قادر على إزالة هذه البدعة أن يزيلها، وإلا فهو آثم وشريك لصاحبها ويجب على كل عالم أن ينكرها.. (3)
موقفه من المشركين:
- جاء في كتاب: 'عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين' (4) لمحمد حسن شراب: إن عز الدين القسام حارب حج النساء إلى مقام الخَضِر بجبال "الكرمل" قرب "حيفا" لتقديم النذور وذبح القرابين للشفاء من المرض أو نجاح في مدرسة، وكُنّ يرقصن حول المقام الموهوم فدعا الناس إلى أن يتوجهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله تعالى فقط لأنه وحده هو القادر على الضر والنفع. (5)
__________
(1) ضمن 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.4).
(2) ضمن 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.117-118).
(3) المصدر نفسه (ص.144).
(4) ص.172-173).
(5) نقلا عن 'السلفيون' (ص.9-10).(1/185)
- ومن مواقفه التي تحفظ له في مواجهة المستعمر الإنجليزي أنه باع بيته ليشتري به السلاح لحرب الكافر المعتدي.
عبدالله بن علي بن محمد بن حميد (1) (1346 هـ)
عبدالله بن علي بن محمد بن عبدالله بن حميد بن غانم من آل أبي غنام، وجده هو صاحب السحب الوابلة. ولد في عنيزة سنة اثنتان وتسعين ومائتين وألف للهجرة، وتوفي جده وله أربع سنين، وتوفي والده وله أربع عشرة سنة. نشأ المترجَم في بيت علم وفضل، وقرأ على علماء مكة كالشيخ شعيب المغربي والشيخ أحمد بن عيسى والشيخ عبدالله بن علي بن عمرو. وأخذ عن الشيخ عبدالله القدومي والشيخ محمد سعيد بابصيل والشيخ صالح العثمان آل قاضي وغيرهم.
قال فيه الشيخ زكريا بن عبدالله: عالم فاضل ناسك عرفته يواظب على الصلاة في المسجد الحرام. تولى إفتاء الحنابلة بمكة المكرمة، ثم عزل، ثم أعيد. له من التلاميذ الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الصنيع والشيخ سليمان بن محمد ابن شبل والشيخ محمد بن سليمان الفريح الأشيقري والشيخ عبدالله بن سليمان التركي وغيرهم.
توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة في الطائف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'شرح مختصر على عقيدة السفاريني'. (2)
سليمان بن سَحْمَان (3) (1349 هـ)
الشيخ سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان العالم المصنف واللسان المدافع عن الدعوة السلفية. ولد بقرية السقا سنة ثمان وستين ومائتين وألف، فنشأ فيها وقرأ على والده الذي كان من حفاظ القرآن ثم بالرياض على الشيخ عبدالرحمن بن حسن وابنه العلامة عبداللطيف، فلازم دروسهما وجد واجتهد حتى صلب عوده في العلم وقوي عضده في النضال. واعتدل قلمه في الكتابة واستقام لسانه في الإنشاء.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/338-343) والأعلام (4/108).
(2) علماء نجد (4/341)
(3) علماء نجد (1/279-281) والأعلام (3/126) ومعجم المؤلفين (4/264) والدرر السنية (12/87-93).(1/186)
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: بلغ في العلوم مبلغا حتى صار منارا يهتدى به، إماما هماما، شهما مقداما، أصوليا مجتهدا، متبحرا كثير التصانيف، كشف جميع شبه المشبهين نظما ونثرا، حتى أدحض حججهم وأرغم أنوفهم، منارا يهتدى به، أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، قام في رد الشبه مقاما فاق به أهل وقته، فثبته الله وسدده، وأدحض به الباطل وأخمده. وله مصنفات كثيرة في توضيح الدعوة السلفية.
توفي بالرياض سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: جرد قلمه للرد على هؤلاء المغرضين -يعني أعداء الدعوة السلفية- ولسانه برائع الشعر على المارقين، فصار يكيل لهم الصاع صاعين بقوة الكلام، وسطوع الحجة وصحة البرهان، فيدحض أقوالهم، ويرد شبههم، ويوهن حجتهم، كما يرميهم بشهب من قصائده الطنانة، وأشعاره الرنانة، وقوافيه المحكمة، وأبياته الرصينة، وبهذا فهو ذو القلمين، وصاحب الصناعتين، وقلّما اجتمع النثر والشعر لواحد إلاّ لنوابغ الكُتّاب وأصحاب الأقلام، فصار لسان هذه الدعوة، ومحامي هذه الملة، فكان من هذه الردود القاطعة، والحجج الدامغة هذه المؤلفات الساطعة (1) ، نذكر منها:
1- 'الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد'.
2- 'الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية'.
3- 'كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام'.
4- 'الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق'.
5- 'كشف شبهات البغدادي في تحليله ذبائح الصليب وكفار البوادي'.
6- 'إقامة الدليل والمحجة'.
7- 'تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين'.
8- 'تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعي باليماني شرف'.
9- 'منهاج أهل الحق والاتباع'. (2)
وكتب هذا الشيخ أغلبها مطبوعة، ولعلنا نقف على حقيقتها كلها فنصفها ونعطيها ما تستحقه من الوصف العلمي.
__________
(1) 2/401).
(2) علماء نجد (2/402).(1/187)
موقفه من الجهمية:
له مؤلفات عظيمة أفردها رحمه الله في الرد على الجهمية سواء منها الجهمية الغابرة أو جهمية أهل زمانه، من هذه المؤلفات:
1- 'كشف الأوهام والالتباس عن تلبيس بعض الأغبياء من الناس'، بين فيها إجماع أهل السنة النبوية على تكفير الجهمية، وهي عبارة عن رد على حسين بن حسن آل الشيخ في ادعائه أن لأهل السنة في تكفير الجهمية قولين.
2- 'منظومة منظمة الشيخ سليمان بن سحمان في الرد على من أنكر على الإخوان تكفير جهمية أهل هذا الزمان'. وهي كسابقتها.
3- 'تمييز الصدق من المين في محاورة الرجلين'. وهو كسابقيه.
وقد آثرنا الإشارة إلى ذلك فقط دون إسهاب وتطويل، ومن شاء التفصيل فليرجع إلى الرسائل المشار إليها آنفا، فسوف يجد فيها بغيته بإذن الله.
سعد بن حمد بن عَتِيق (1) (1349 هـ)
سعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق. ولد في بلدة الحلوة سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ونشأ فيها فقرأ على والده، فلما أدرك في التوحيد والتفسير والحديث والفقه والنحو رغب في الزيادة فسافر إلى الهند فقرأ على أعلامها كالشيخ صديق حسن خان والشيخ نذير حسين الدهلوي والشيخ شريف حسين وغيرهم. ثم عاد بعد تسع سنين إلى مكة في موسم الحج فالتقى بالشيخ شعيب الدكالي المغربي وآخرين، وبانكبابه على القراءة والاستفادة من هؤلاء العلماء الكبار بلغ في العلم مبلغا كبيرا وصار في عداد كبار العلماء.
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: وبرع حتى أدرك من العلوم حظا وافرا، وفاق أهل زمانه محصولا، وسمق حتى كان حجة حافظا، وكان كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، حسن الخلق، له اليد الطولى في الأصول والفروع، تام المعرفة في الحديث ورجاله، وكان من العلماء العاملين، واشتهر ذكره في العالمين، وأثنت عليه ألسن الناطقين.
توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف.
__________
(1) علماء نجد (1/266-269) والأعلام (3/84) ومعجم المؤلفين (4/211) والدرر السنية (12/93-96).(1/188)
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: وصار من عداد كبار العلماء المشار إليهم بالبنان كما ورث عن والده الغيرة الشديدة في الدين، والصلابة في العقيدة. فاشتهر بسعة العلم والتقى والصلاح، وجد واجتهد في نشر الدعوة السلفية، حتى نفع الله باجتهاده وبركة دعوته خلقا كثيرا.
له من الآثار السلفية:
'عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية'. يوجد مخطوطا في جامعة سعود.
جمعت كتاباته وفتاواه في كتاب سمي: 'المجموع المفيد من رسائل وفتاوى الشيخ سعد بن حمد بن عتيق'. (1)
أبو بكر خُوقِير (2) (1349 هـ)
أبو بكر بن محمد عارف بن عبدالقادر المكي مولدا وسكنا ووفاة، عين مفتيا للحنابلة، ثم اشتغل بالاتجار في الكتب، ثم عين مدرسا بالحرم المكي في العهد السعودي، واستمر إلى أن توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار:
1- 'ما لا بد منه في أمور الدين' وهو عبارة عن أسئلة وأجوبة في العقيدة يشبه النهج المدرسي، وهو مطبوع.
2- 'فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال'.
3- 'التحقيق في الطريق' مطبوع وفيه بعض الخلط.
4- 'تحرير الكلام عن سؤال الهندي في صفة الكلام'. (3)
ناصر بن سعود بن عبدالعزيز شويمي (4) (1349 هـ)
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/221).
(2) الأعلام (2/70) ومعجم المؤلفين (3/73).
(3) ذكرها الزركلي في الاعلام (2/70).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/458-464).(1/189)
الشيخ ناصر بن سعود بن عبدالعزيز بن إبراهيم بن عيسى شويمي. ولد في بلده شقراء في حدود سنة خمس وثمانين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ فيها وأخذ عن علمائها وأشهرهم الشيخ القاضي علي بن عبدالله بن عيسى والشيخ أحمد بن عيسى والشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ سعد بن عتيق وغيرهم. رحل إلى الرياض والحجاز وصنعاء والشام والعراق فأخذ فيها عن العلامة محمود شكري الآلوسي وعن غيره من علماء بغداد. كان رحمه الله واسع الاطلاع في كل العلوم من توحيد وتفسير وحديث وفقه وغيرها، وكانت له اليد الطولى في اللغة وأشعار العرب. جلس للتدريس في جامع شقراء وولي إمامته وخطابته. أخذ عنه الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحصين والشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ إبراهيم الهويش والشيخ عبدالرحمن ابن علي بن عودان قاضي عنيزة وغيرهم. عرض عليه القضاء فرفض، واستمر على نشر العلم إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف وقيل خمسين وثلاثمائة وألف للهجرة رحمه الله.
موقفه من المشركين:
له قصيدة رد بها على أمين بن حنش العراقي وشيخه داود بن جرجيس وهي تزيد على أربعين بيتا، منها:
واضرب بصمصامة الشعر القوي أخا ... جهل لئيم الخيم خوانا
أمين ابن الذي يدعونه حنشا ... من اكتسى من ثياب الزيغ ألوانا
فظل يمدح جهلا من سفاهته ... ذا الكفر والجهل داود بن سلمانا
هلا مدحت الذي شاعت فضائله ... وشاد للملة البيضاء أركانا
حبر الزمان ومحيي كل ما اندثرت ... من سنة المصطفى فعلا وتبيانا
عبداللطيف الذي ألقت أزمتها ... كل العلوم إلى يمناه إذعانا (1)
عبدالله السنوسي (2) (1350 هـ)
__________
(1) علماء نجد (6/464).
(2) معجم الشيوخ أو رياض الجنة لتلميذه عبدالحفيظ الفاسي (2/81-96).(1/190)
عبدالله بن إدريس بن محمد بن أحمد السنوسي، أبو سالم، العالم الأثري، الفاسي نزيل طنجة. من قبيلة بني سنوس بالبربر من كومية، وتعرف قديما بصطفورة. أخذ عن والده أبي العلاء إدريس وأبي عيسى محمد المهدي ابن سودة والقاضي حميد بناني ومحمد نذير حسين الدهلوي وأبي الفضل جعفر الكتاني وأبي عبدالله محمد بن عبدالرحمن العلوي وغيرهم كثير. وأجازه جماعة. وله تلاميذ كثر من أبرزهم عبدالله كنون وعبدالحفيظ الفاسي.
رحل مرات إلى الشرق فحج، واستوطن دمشق الشام، ودرس في كل بلد وأفاد، وهرع الناس للرواية عنه.
قال عنه تلميذه عبدالحفيظ الفاسي: العالم العلامة المحدث الأثري السلفي الرحالة المعمر... وقال عنه العلامة محمد تقي الدين الهلالي في مقال له بمجلة دعوة الحق المغربية (1) : العالم السلفي المحدث المحقق. وقال عنه الشيخ عبدالرحمن النتيفي (2) : وكان رحمه الله سلفي المذهب. (3)
استقر آخر حياته بطنجة معلما ومدرسا إلى أن توفي بها رحمه الله في أربع وعشرين من جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائة وألف. بعد ما عمر نحو تسعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) ص.54) العدد 2-3 سنة 1398هـ/1978م.
(2) ستأتي مواقف النتيفي سنة (1385هـ).
(3) مقدمة نظر الأكياس (ص.20).(1/191)
- قال عبدالحفيظ الفاسي: ولما حج شيخنا أبو سالم عبدالله بن إدريس السنوسي ورجع إلى المغرب محدثا بما تحمله عمن لقي من أهل الحديث والأثر؛ كمحمد نذير حسين الهندي المحدث الأثري المشهور وأضرابه، ووفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى قربه وأدناه وأمره بحضور مجالسه الحديثية؛ فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد، واشتد الجدال بينه وبين من كان يحضر من العلماء في ذلك المجلس، كل فريق يؤيد مذهبه ومعتقده، إلا أن السلطان لم يكن يعمل بأقوال العلماء فيه ككونه معتزليا، وخارجيا، وبدعيا؛ بل كان في الحقيقة ناصرا له بما كان يخصه به من العطايا والصلات، زيادة على سهمه معهم في جوائزه المعتادة، وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته؛ فنشره في كافة أنحاء المغرب، وتلقاه عنه كثير من مستقلي الأفكار منذ أوائل هذا القرن إلى أن توفي منتصفه رحمه الله تعالى حسبما استوفينا الكلام على ذلك في ترجمته من المعجم (1) ، هكذا تقلب هذا المذهب في المغرب، وهو اليوم شائع منصور بفضل القائمين به، وتأييده بالأدلة الصحيحة وسيزداد اليوم ظهورا. (2)
__________
(1) ص.81 ج 2) وهو رياض الجنة وسيأتي النقل منه.
(2) الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات (ص.301-302).(1/192)
- وقال: كان رحمه الله عالما مشاركا، محدثا ملازما لتلاوة القرآن الكريم، حسن النطق به، دؤوبا على نشر الحديث وتدريسه، سلفي العقيدة، أثري المذهب، عاملا بظاهر الكتاب والسنة، نابذا لما سواهما من الآراء والفروع المستنبطة، منفرا من التقليد، متظاهرا بمذهبه، قائما بنصرته، داعيا إليه، مجاهرا بذلك على الرؤوس، لا يهاب فيه ذا سلطة، شديدا على خصمائه من العلماء الجامدين وعلى المبتدعة والمتصوفة الكاذبين، مقرعا لهم، مسفها أحلامهم، مبطلا آراءهم، مبالغا في تقريعهم، لم يرجع عن ذلك منذ اعتقده ولا جل (1) من عزمه كثرة معاداتهم له. (2)
وقال محمد السائح: وكان أثريا سلفيا.. فصدع بوجوب إصلاح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية، فثار في وجهه علماء فاس ورشقوه لسهام الانتقاد عن يد واحدة. (3) وقال عنه عبدالله كنون: ..ففي الصنف الرابع وهو المتمسك بالسنة اعتقادا وعملا، وقد قلنا إنه شخص واحد وذلك -فيما أدركنا وما رأينا- وإن كان هناك غيره فإن هذا الشخص هو الذي كان له الظهور والشهرة عند الخاص والعام، ونعني به الشيخ الجليل السيد عبدالله بن إدريس السنوسي الفاسي، فهذا الرجل كان قد وصل إلى المشرق وجال في أقطاره وأخذ من أعلامه، وعاد جبلا راسخا في العلم بالسنة والتمكن من المذهب السلفي، ونبذ التقليد، والجهر بالدعوة إلى توحيد الألوهية، ومحاربة البدع والضلالات والطرقية، والتعلق بالقبور والأموات. ثم قال: ولم يفتأ ينشر الدعوة إلى السنة ويندد بالجمود والابتداع. (4)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) جل هنا بمعنى صغر وهو من الأضداد.
(2) رياض الجنة (2/82).
(3) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).
(4) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8).(1/193)
وأما اتهامه بإنكار الولاية والكرامات؛ فمعاذ الله أن يصدر منه ذلك؛ وإنما هو من مفترياتهم، إلا أنه ينكر على المدعين الذين جعلوا التصوف حبالا وشباكا يصطادون بها أموال الناس، ويدعون المقامات العالية كذبا وزورا، ويبشرون من أخذ عنهم بفضائل وأجور تغنيهم عن تحمل أعباء العبادات والعزائم الشرعية.
موقفه من الجهمية:
- قال عبدالحفيظ الفاسي في معرض ذكره الكتب التي درسها عليه: (قرأت كتاب 'الرد على الجهمية' لشيخ أهل السنة ومقتداهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكتاب 'الأدب المفرد' للبخاري إلا يسيرا من آخره، وكذلك 'العلو' للذهبي؛ وهو كتاب حفيل عجيب..). (1)
- وقال عبدالحفيظ وهو يذكر بعض المجالس التي حضرها السنوسي بعد رجوعه إلى فاس مع جمع من أعيانها وعلمائها بحضرة السلطان الحسن الأول رحمه الله: فأعلن في ذلك الجمع بما تحمله في الشرق عن شيوخه الأعلام من الرجوع إلى الكتاب والسنة والعمل بهما دون الأقيسة والآراء والفروع المستنبطة، ومن رفض التأويل في آيات وأحاديث الصفات والمتشابهات، وإبقائها على ظاهرها كما وردت، ورد علم المراد بها إلى الله تعالى مع اعتقاد التنزيه كما كان عليه سلف الأمة. وغير ذلك من المسائل. فقام بينه وبين أولئك العلماء خلاف كبير من أجل ذلك، وتناظروا في مجلس السلطان، ولمزوه بالاعتزال والتمذهب بعقائد أهل البدع والأهواء وإنكار الولاية والكرامات، وألف فيه بعضهم المؤلفات المحشوة بالسب والسخافات، الخارجة عن الأدب، مع لمزه بنزغة الاعتزال، ونقل ما قال الناس في المعتزلة والخوارج، وما طعنوا به من الأقوال البعيدة عن الإنصاف في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى. (2) اهـ (3)
__________
(1) رياض الجنة (2/95).
(2) رياض الجنة (2/84-85).
(3) وقد انبرى للرد على تلك الرسالة الشيخ عبدالرحمن النتيفي في كتابه 'نظر الأكياس'.(1/194)
- وقال أيضا: ولازمته مدة إقامته بفاس، وتمكنت الرابطة بيني وبينه، وأدركت عنده منزلة عظيمة؛ لما كان يرى من حرصي على سماع الحديث وروايته؛ فأجازني إجازة عامة وهو ضنين بها، ولقد طلب منه بعض إخوة مولاي عبدالعزيز الإجازة فامتنع، وكان يقول لي: أنت عندي بمنزلة الولد، وبسبب هذا الاتصال أمكن لي أن أحقق كل ما نسب إليه من الاعتزال والبدع والأهواء؛ فوجدته مباينا للمعتزلة في كل شيء، وبريئا من كل ما نسب إليه؛ بل عقيدته سالمة، على أن ما خالف فيه الفقهاء من الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ التأويل في آيات الصفات شيء لم يبتكره ولا اختص به من دون سائر الناس؛ بل ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأيمة المجتهدين ومن بعدهم من الهداة المهتدين.
محمد بن عثمان الشاوي (1) (1354 هـ)
محمد بن عثمان بن محمد بن عبدالله الشاوي، من آل عثمان. ولد في بلدة البكيرية سنة ثلاث وثلاثمائة وألف للهجرة، وكف بصره منذ صغره. رحل إلى بريدة فأخذ عن الشيخ عبدالله بن محمد بن سليم، ثم إلى الرياض فقرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ عبدالله بن راشد، والشيخ سعد بن عتيق والشيخ عبدالله العنقري وغيرهم. عين قاضيا في قرية سنام، وعمره عشرون سنة، ومنها إلى بلدة الغطغط. حضر غزوات كثيرة أشهرها معركة تربة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف، وفتح مكة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف. عين مدرسا في المعهد العلمي السعودي بمكة، ثم تولى القضاء في بلدة تربة، ثم قضاء شقراء.
أخذ عنه الفقيه عبدالعزيز بن سبيل والشيخ سليمان بن راشد الحديثي والشيخ عبدالله بن يوسف الوابل والشيخ عبدالعزيز الخضيري وغيرهم. وكان رحمه الله شاعرا مجيدا، له قصائد دافع فيها عن التوحيد وعن العقيدة السلفية.
توفي رحمه الله في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/275-286) والأعلام (6/263).(1/195)
جاء في علماء نجد: أنه -بعد أن استولت الجيوش السعودية على الحجاز- قام بتصحيح العقائد وتوضيح خالص التوحيد ومحاربة البدع التي رسخت في العالم الإسلامية، ومنه الحرمين الشريفين فنفع الله به.
كما ناضل الشعراء وأصحاب المقالات الذين يؤيدون تلك الأمور المنافية لصفاء التوحيد. فكانت مقالاته وقصائده في الصحف المحلية هي اللسان المدافع في ذلك. (1)
موقفه من الجهمية:
له قصائد جيدة نافح بها عن الشريعة والعقيدة السلفية السليمة وصادم كبار الشعراء منها:
فيا من هو القدوس لا رب غيره ... تباركت أنت الله للخلق مرجع
ويا من على العرش استوى فوق خلقه ... تباركت تعطي من تشاء وتمنع
بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... توسل عبد بائس يتضرع
عبدالسلام السرغيني (2) (1354 هـ)
عبدالسلام بن محمد السرغيني، أصله من قبيلة "السراغنة" بالمغرب الأقصى، استوطن فاسا، فقيه مطلع. من شيوخه أحمد بن الخياط وأحمد بن الجلالي الأمغاري وأحمد بن المامون البلغيتي ومحمد فتحا القادري ومحمد فتحا كنون وحماد الصنهاجي عبدالسلام بناني. كان مدرسا بالمدرسة الثانوية بفاس، وله دروس حافلة بالقرويين، عين قاضيا في قبيلته السراغنة، وبقي هناك إلى أن توفي بها.
له كتاب 'المسامرة'، وهو كما قال عنه شيخنا تقي الدين الهلالي: "في الدعوة لإقامة السنة ومحاربة البدع". وقال عن مؤلفه: "فقيد السلفية والدعوة للإصلاح الديني العلامة عبدالسلام السرغيني برد الله ثراه". (3)
__________
(1) علماء نجد (6/282..285).
(2) سل النصال للنضال لعبدالسلام بن عبد القادر بن سودة (ص.77).
(3) مقدمة خطبة السلطان سليمان العلوي (ص.8).(1/196)
وقال عنه محمد الفاسي: "إن تاريخ الحركة الوطنية -بل الفكرة الوطنية نفسها- يرجع الفضل في بثها ونشرها إلى شيخ الإسلام ابن العربي ومن كان معه من بعض العلماء السلفيين كشيخنا السيد عبدالسلام السرغيني رحمه الله وكثيرا ممن تتلمذوا لابن العربي، كانوا أيضا في نفس الوقت تلاميذ للسيد عبدالسلام السرغيني، وقد لاقت هذه لرحكة أيضا مقاومة شديدة من طرق القبوريين وكان أقطاب السياسة الأهلية من رجال الحماية يساندون الجامدين ويضطهدون بشتى الوسائل دعاة الإصلاح". (1)
توفي رحمه الله يوم الاثنين الخامس والعشرين من شوال عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له كتاب 'المسامرة' وهو عبارة عن محاضرة ألقاها بنادي المسامرة بالمدرسة العليا الإدريسية بفاس، قال في مستهله:
- الحمد لله الذي أنزل القرآن نورا يهتدى به في ظلمات الجهل الداجن وصراطا مستقيما من سلكه اهتدى لأقوم المحاج. وأرسل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما نزل إليهم من كتابه السراج الوهاج.
و - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله السالكين باتباع سنته أقوم منهاج، القامعين لأهل البدع والضلال باللسان والسيف والسنان في الأفراد والأزواج.
__________
(1) مجلة دعوة الحق العدد 8 سنة 1959م (ص.19).(1/197)
أما بعد أيها السادات الكرام إنني ملق إليكم بكلمات طالما اختلج بها الضمير، ولم يكن يمكن عنها باللسان التعبير، وما جرأني على ارتكاب ذلك، وإن كنت لست ممن يقرع تلك الأبواب ولا من يسلك تلك المسالك؛ إلا أني لم أر أحدا من السادة الذين سامروا قبلي تكلم عليها ولا أشار إليها، مع أنها هي التي ينبغي أن تقدم، وتقصد وتؤم؛ إذ ما من مكلف مكلف إلا ويجب عليه أن يتمسك بالسنة ويعض عليها بالنواجذ، ويجتنب البدع ويفر من أهلها ولا فراره ممن يقصد من مقاتله المنافذ؛ وذلك لأن ارتكاب البدعة أعظم من ارتكاب المعصية؛ لأن المعصية وإن عظمت قد يتوب منها صاحبها، والبدعة لا يتوب منها صاحبها لاعتقاده أنها مطلوبة فهي أحب إلى الشيطان من المعصية... (1)
- وقال أيضا: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف له من أهل السنة، وإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (2) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.
__________
(1) المسامرة (ص.2-3).
(2) المائدة الآية (3).(1/198)
فالمبتدع معاند للشارع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة ووجوها خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر؛ ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع؛ أنه علم ما لم يعلمه الشارع؛ وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال بَيِّنٌ. وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية، فكتب إليه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق. فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي. (1)
موقفه من المشركين:
__________
(1) المسامرة (ص.8-10).(1/199)
- قال رحمه الله في مكايد الشيطان لبعض الناس: فمن أعظم مكايده التي كاد بها جل الناس، ولم يسلم منها إلا من لم يرد الله فتنته؛ ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، إلى أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح عليه السلام، كما أخبر الله تعالى في كتابه حيث يقول: قَالَ { نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ } وَوَلَدُهُ الآية (1) . قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون بعدهم؛ دب إليهم إبليس اللعين فقال: إنهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
__________
(1) نوح الآية (21).(1/200)
وهذا كان سبب عبادة اللات والعزى؛ وذلك أن رجلا كان يلث السويق للحاج ويطعمهم، ومات فعكفوا على قبره وعبدوه؛ وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الصالح الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، ويقولون: قبر فلان الترياق المجرب لقضاء الحوائج؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصدوها كما قصده المشركون سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخذها مساجد، وبناء المساجد عليها. فقد تواثرت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. (1)
__________
(1) المسامرة (ص.17-19).(1/201)
- وقال رحمه الله أيضا: وقد زاد الأمر بهذه الحضرة كغيرها، حتى وصل الحال إلى الشرك بالله قولا واعتقادا، لا سيما طائفة النساء، فقد رأينا وسمعنا من ذلك ما ينفطر له كل قلب دخله الإيمان، فمهما مرض لهم إنسان أو أصابه محذور؛ ذهبوا إلى الشواف أو الشوافة، وسألوه عن المريض وما به، ويزعمون أنهم يعلمون الغيب!! فما أخبر به من سبب الداء وطرق الدواء اعتقدوا ذلك صحيحا، فتارة يقول لهم: إن الذي أصابه: سيدي حموا وشفاؤه في لبسه ثوبه الخاص به من الألوان، وتارة مولى الغابة، ولا بد له من ثوب خاص، أو موسى أو ميرة، أو غير ذلك من مفترياتهم الباطلة، فيعتقد ذلك المريض أنه لابد له من ذلك الثوب الخاص فمهما بلي لابد له من خلفه وإلا حل به البلاء والمرض.
وتارة يقول لهم: لابد له من الليلة، فيجمعون طائفة العبيد ويرقصون له على طبولهم، ولا تسأل عما يقع في ذلك من المناكر التي لا يرضاها من له أدنى مسكة من عقل، فضلا عمن له غيرة على حريمه، فيعتقد ذلك المريض أن شفاءه في ذلك، فيفعل ذلك، رغما عما يلزمه من الخسائر الدينية والدنيوية. وصار شبه النساء من الرجال يعتقدون ذلك ويفعلونه، بل ربما فعل ذلك بعض من ينسب إلى العلم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا الاعتقاد الفاسد لم تعتقده اليهود ولا النصارى، ولا المجوس ولا ملة من الملل فيما علمنا وبلغنا. وهذا غاية الحمق والسفه فضلا عن الشرك بالله الفاعل بالاختيار الذي لا يعلم الغيب سواه، ولا يبري من الأمراض والأدواء إلا إياه: وَإِنْ { يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (17) (1) .اهـ (2)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) الأنعام الآية (17).
(2) المسامرة (ص.37-39).(1/202)
قال رحمه الله: فمن المناكر الشنيعة التي يندى لها وجه الدين ويتبرأ منها الإسلام وسائر المسلمين؛ اختلاط النساء بالرجال، والرقص على الشبابة والطار والغربال، من الشيوخ والكهول والنساء والأطفال، ويسمون ذلك التخبط وذلك الجنون بالحال. فترى منهم من يشدخ رأسه بالشواقر، ومنهم من يجعل النار في ثوبه أو فيه، ومنهم من يأكل الشوك أو الزجاج، ومنهم ومنهم إلى غير ذلك من أفعالهم الوحشية البهيمية.
وقد كنت يوما من أيام مواسمهم مارا إلى المدرسة بطالعة هذه الحضرة الفاسية، فرأيت جمعا منهم على هذا الحال الشنيعة، فخرج من بينهم وحش إلى وسطهم ورمى بكورة من حديد إلى أعلى ولقيها برأسه، فسقطت على أم رأسه فخرج دماغه من أنفه وسقط إلى الأرض، فغطوه وقالوا: إنه غلبه الحال!! والواقع أنه ليس هناك حال، وإنما ذهب التعس المجنون ضحية جهله، وفريسة فعله، فكان الأحمق قاتل نفسه. فأنشدكم الله معشر المسلمين؛ هل مثل هذه الهمجية الوحشية يكون من دين الإسلام؟! حتى صار من لا يعرف حقيقة الإسلام يسمي تلك المناكر بالعوائد الدينية، كلا ومعاذ الله أن يكون لدين الصلاة والصيام والذكر والقيام عوائد شيطانية، بل دين الإسلام برئ من هذه المناكر وأهلها، ومن هم منسوبون إليه بريء منهم ومن أفعالهم. (1)
السلطان عبدالحفيظ بن الحسن (2) (1356 هـ)
عبدالحفيظ بن الحسن بن محمد الحسني العلوي، أبو المواهب: سلطان المغرب الأقصى، ولد بفاس، ونشأ في قبيلة بني عامر في الجنوب الغربي من مراكش، تولى السلطنة سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وخلع نفسه سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وكان فقيها أديبا.
توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) المسامرة (ص.22-23).
(2) الأعلام (3/277) ومعجم المؤلفين (5/89).(1/203)
له من الآثار: 'كشف القناع عن اعتقاد طوائف الابتداع'. طبع قديما بفاس على الحجر وبالمطبعة المولوية بفاس سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وهو عبارة عن رد على الطائفة التجانية في زمانه، وقد تجنت هذه الطائفة على هذا الكتاب؛ فتجندت لتتبعه وشرائه من الأسواق ثم إحراقه، ولكن نجى الله منه بعض النسخ؛ فهي لا تزال إلى الآن، كما توجد منه نسخة في المكتبة الملكية بالرباط، وأخرى في مكتبة باريز.
ذكر فيه مقدمة حافلة في الحث على الاتباع وذم الرأي والابتداع، قال رحمه الله: إنما يلتمس رضى الله بكلامه وفروضه وسنة نبيه، لا يلتمس بالبدع وقول الزور على الله ورسوله، والزيادة في الدين ما ليس منه. أبهذا يلتمس رضى الله تعالى ونبيه؟ لا يلتمس بهذا أبدا. (1)
موقفه من المشركين:
- قال: وقد قلت في شدة لرجل يوما يستغيث ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني: قل يا الله؛ فقد قال سبحانه: وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (2) فغضب، وبلغني أنه قال: إن فلانا منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان.اهـ (3)
__________
(1) كشف القناع (ص.46).
(2) البقرة الآية (186).
(3) كشف القناع (ص.54).(1/204)
- وقال: وقد صح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار" (1) إلخ، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يطلب من سيد العالمين عليه الصلاة والسلام أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله عنهما شيئا، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة. (2)
موقفه من الصوفية:
- قال في كشف القناع وهو يتكلم عن صلاة الفاتح عند التيجانيين: ومن زعمهم الفاسد أيضا أن صلاة الفاتح خصنا الله بها كما خصنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها تسمو على كل العبادات، ومن أين للقائل أن صلاة الفاتح خصنا الله بها؟ فإن كان يريد اللفظ العربي فلا مزية لها على غيرها من الصلوات المخترعات، وإن أراد خصوصية شرعية فلا يجد لذلك سبيلا -ولو قولا
شاذا- وهل الخصوصية تقبل من مدعيها بلا نص؟ هَذَا { بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (17) (3) . وَذَكِّرْ { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } (55) (4) قال:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
__________
(1) أخرجه: أحمد (5/353) ومسلم (2/671/975) والنسائي (4/399/2039) وابن ماجه (1/494/1547) عن بريدة رضي الله عنه.
(2) كشف القناع (ص.56-57).
(3) النور الآيتان (16و17).
(4) الذاريات الآية (55).(1/205)
وعلى فرض تسليم أنها خصوصية فهل تجعل مقارنة لخصوصية النبي لنا، على أننا لا خصوصية لنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو مرسل للعالمين جميعا إنسيهم وجنيهم يهوديهم ونصرانيهم، فَمَنْ { شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (1) . وَاللَّهُ { يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (25) (2) . وَلَوْ { شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (3) . فمقالة هذا الرجل تؤذن بعدم عموم الرسالة، وهذا كفر صراح نعوذ بالله، وتؤذن باستواء الفاتح والنبي، وإن أراد بالخصوصية كونه من العرب فمسلمة، ولكن لانسبة بينهما وبين الفاتح ولا خصوصية للفاتح. وقولهم إنها تسمو على كل العبادات (ال) في العبادات للاستغراق ورفع إيهام الجنسية في ضمن فرد، والاستغراق العرفي بقولهم (كل). فثبت الاستغراق الحقيقي بجميع الأفراد،
ويلزم عليه أنها أفضل من القرآن والحج؛ لأنهما عبادة ومن الصلوات الخمس ومن الجهاد ومن سائر العلوم الشرعية فقها وحديثا وتفسيرا وتوحيدا وغير ذلك وهذا كفر صراح، إذ كلام الله بالنسبة لكلام الخلق كنسبة الله من الخلق، وأما غيره مما سردناه فلا يشك أحمق فضلا عن عاقل أن ثواب الواجب أعظم وأفضل. وفي الحديث: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه" (4) . وإن قيل مراده الأذكار، أقول: قال عليه السلام: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله" (5) . وكلام النبي من المخلوقات بمنزلة النبي منهم فهل صلاة مخترعة تعدل بهذا كله؟
__________
(1) الكهف الآية (29).
(2) يونس الآية (25).
(3) يونس الآية (99).
(4) أخرجه: البخاري (11/414/6502) من حديث أبي هريرة.
(5) أخرجه: الترمذي (5/534/3585) وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" وله شاهد من حديث طلحة ابن عبيدالله بن كريز أخرجه مالك (1/422-423/246) وهو مرسل صحيح. انظر الصحيحة (1503).(1/206)
كزعمهم الفاسد في التصلية التي يسمونها بجوهرة الكمال، وفيها ما يوهم نقصا في النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وهو قوله: "الأسقم"؛ إذ هو اسم تفضيل من السقم، وقد نص الفقهاء على أن من قال قولاً يوهم نقصاً في النبي يكفر إجماعاً. وكذلك من قال قولاً يتضمن مخالفته - صلى الله عليه وسلم - ، انظر الدردير وغيره. ما لهم لم يقولوا "الأقوم" أَثَقُل على ألسنتهم؟ أم قصدوا الاستغراق في المتشابه؟ فَأَمَّا { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (1) على أن ذلك في كتاب الله لا في المخلوقات، وأما كلام المخلوقات فما يوهم نقصا فيه، مما يؤدي لإهانة النبي كفر، إِنَّ { الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } (57) (2) .
ومن زعمهم الفاسد أن سيدي أحمد التيجاني ممد لمن مضى قبله ومن يأتي بعده. و(من) مِن صيغ العموم كما هو معلوم؛ فيدخل النبي وأصحابه وأهل القرون المشهود لهم بالخير، فانظر رحمك الله هذا الحمق الفادح كيف يمد رجل في القرن الثالث العشر أهل القرن الأول؛ أتهوّرٌ؟ أم كفرٌ؟ أم سكرٌ؟ وكيف يمد من بعده وهو ميت انقطع عمله عن الدنيا بالكلية، وحتى الثلاث المستثناة أو العشر فكلها راجعة لكسبه المتقدم في الدنيا؛ إذ لا يوجد فيها ما فعله بعد مماته، أما ما يقرأ عليه أو يتصدق به فليس من عمله، وفيه خلاف بين العلماء منشؤه قوله تعالى: وَأَنْ { لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (39) (3) ، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ { لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (79) (4) ، قال:
__________
(1) آل عمران الآية (7).
(2) الأحزاب الآية (57).
(3) النجم الآية (39).
(4) البقرة الآية (79).(1/207)
وما من كاتب إلا سيبلى فلا تكتب بكفك غير شيءٍ ... ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداهُ يسرك يوم القيامة أن تراهُ
ـ=tGُ3çGy™ { شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } (19) (1) .
ومن زعمهم الفاسد أن المواظب على تلك الصلاة ينال الخير الرابح، وأقول: الخير كله في اتباع كلام الله وكلام رسوله، وما استنبطه العلماء رحمهم الله، أما الأمر بالمواظبة على الفاتح؛ فإني لا أرى داعي له؛ فإن كان يريد به الدين النصيحة؛ فالنصيحة أن يرشدهم إلى الفقه والحديث وكلام الله وتعلم الضروري من علوم الدين، وإن كان يريد أنه حصل هذا ولم يبق له إلا العمل، فالنصيحة أن يرشدهم إلى تلاوة كتاب الله؛ فإن الحرف منه بعشر حسنات بفهم وبغير فهم، وإن قال: "هذا من باب التدلي -على زعمهم- ليصل إلى الترقي" فأقول: يرشدهم إلى ما ورد في الحديث من الاستغفار وسبحان الله بحمده، وغير ذلك، وإن أرادوا خصوص الصلاة عليه -عليه السلام- فما أحسن الوارد، كيف وقد قالوا: (كيف نصلي عليك يا رسول الله؟) قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" (2) على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلموا أحداً تدلياً ولا ترقياً، بالمعنى المصطلح عند القوم، وإنما علّموا كتاب الله وأحكامه.
__________
(1) الزخرف الآية (19).
(2) أخرجه: مالك (4/772) (فتح البر) وأحمد (4/118)و(5/273-274) ومسلم (1/305/405) وأبو داود (1/600/980) والنسائي (3/52-54/1284-1285) والترمذي (5/334-335/3220) من حديث أبي مسعود الأنصاري.(1/208)
ومن زعمهم الفاسد الشنيع المتعارف بينهم نشر ثوب وسطهم، حال التصلية، أسمعت، أو علمت، أو روي لك، شيخ من أصحاب الحديث، أم جاء في كتاب الله، أو استنبط من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ قارئ القرآن ينشر أمامه ثوبا ليقرأ عليه فضلا عن قارئ الفاتح، ألهذا مزية وفضل استوجب به هذا، وما بلغ مداه القرآن والحديث فحرُما، إلا أن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وما بلغنا عنه هذا ونظائره إِنْ { هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } (4) (1) نزل الوحي ونطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث القدسي والنبوي ولم ينشر أمامه الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أحد من أصحابه ثوباً.
__________
(1) الفرقان الآية (4).(1/209)
قيل: إن ذلك معدٌّ عندهم لجلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أيضا، أصار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبة يأتي لكل حلقة بدعة مشتملة على مناكر كالرقص، ويجلس وسط القوم على خرقة، أرضي بالبدعة فأتى؟ حاشاه، أم صار فُرجة يُجعل في الوسط والناس محدقة به؟ حاشاه، فلو أُمر مقدمهم بالجلوس على تلك الرقعة لأبى وتكبر، أهذا تعظيم أم إهانة؟. وقد علمت أن الصحابة تشاجروا في أحكام وتخالفوا، فما قال أحدهم: أتاني رسول الله وقال لي كذا، وقد تخاصمت بنته الصديقة مولاتنا فاطمة الزهراء مع أبي بكر في مسألة الميراث، ولم يقل لها أبو بكر: سيأتي عندي رسول الله ويقول كذا، ولا أجابته هي رضي الله عنها بذلك، أبخِل عليها وجاد عليكم؟ وانظر يوم موته عليه الصلاة والسلام لما دخلت عليه وهي تبكي فسرّها بأنها أول من يلحق به فضحكت، فهلا قال لها: إنني سآتيك في منزلك؟ وما نقل عن أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان يوم الوقعة، وكفّ الأصحاب عما عزموا عليه، ولا ولا، أترى أن هؤلاء أفضل من أولئك أم هؤلاء على الحق وأولئك على غيره؟ حاشاه. (1)
__________
(1) كشف القناع (19-23).(1/210)
- وقال: وقول السبكي: "ومن ثم لا حكم إلا لله" هو وإن كان بصدد الرد على المعتزلة، فيه أيضا رد على من يزعم أن أحكام الله تعالى تدرك بطريق الكشف والفراسة أيضا ورؤيا المنام من غير استناد لشيء من أدلة الفقه الشرعية المقررة، كيف والله تعالى يقول: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ } فَخُذُوهُ (1) الآية. ويقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ } نِعْمَتِي (2) الآية. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تركتكم على الحنيفية البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك" (3) . "فمن رغب عن سنتي فليس مني" (4) .اهـ (5)
أبو شعيب الدكّاليّ (1356 هـ)
اسمه أبو شعيب بن عبدالرحمن الصديقي. وكان يكتب أحيانا بخطه: "شعيب بن عبدالرحمن المغربي" (6) ، كنيته أبو مدين. ولد سنة خمس وتسعين ومائتين وألف للهجرة.
من أشهر شيوخه بالمغرب: عمه محمد بن عبدالعزيز الصديقي، وابن عزوز محمد الطاهر الصديقي قاضي مراكش، وعبدالرحمن بن الفقيه الصديقي، ومحمد بن المعاشي (حفظ عليه القراءات السبع). وبمصر: سليم البشري، ومحمد بخيت، ومحمد محمود الشنقيطي، وغيرهم.
ومن أشهر تلاميذه: محمد بن العربي العلويّ، وعبدالحفيظ الفاسيّ، ومحمد السايح، وعبدالله كنون، والمكي بن أحمد بربيش، ومحمد المكي الناصري المفسر.
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) المائدة الآية (3).
(3) أخرجه: أحمد (4/126) وأبو داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/16/43) والحاكم (1/96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه: البخاري (9/129/5063) ومسلم (2/1020/1401) والنسائي (6/368-369/3217) من طريقين عن أنس رضي الله عنه.
(5) كشف القناع (46-47).
(6) كما في إجازته لعبدالسلام بن عبدالقادر بن سودة، انظر: سل النصال للنضال (ص.83).(1/211)
رحل إلى القاهرة سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ومكث بها نحو ست سنوات، ثم رحل إلى مكة فأقام بها مدة، وكان رجوعه لفاس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. ولاّه أمير مكة الشريف عون الرفيق الخطابة في الحرم المكي والإفتاء على المذاهب الأربعة وذلك حينما أقام هناك.
كما درس أيضا بجامع الأزهر بمصر، والزيتونة بتونس.
عُيّن قاضياً بمراكش ووزيراً للعدليّة والمعارف فيما بعد، ثم رئيساً للاستيناف الشرعيّ، ومع هذه الأشغال كان لا يترك التدريس.
قال عنه عبدالسلام بن سودة: الشيخ الإمام علم الأعلام، المحدّث المفسّر الرّاوية على طريق أيمة الاجتهاد، آخر الحفاظ بالديار المغربية ومحدثها ومفسرها من غير منازع ولا معارض، وهو آخر من رأينا بل وأول من رأينا على طريق الحفاظ المتقدمين الذين بلغنا وصفهم بالحفظ والإتقان والاستحضار، ولولا رؤيته وحضور دروسه لدخلنا الشك في وصف من تقدم قبله.. (1)
وقال عبدالحفيظ الفاسي: أوحد علماء عصره وأشهر علماء المغرب في وقته، من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، إمام في علوم الحديث والسنة... متظاهر بالعمل بالحديث والتمذهب به قولاً وعملاً داعية إليه ناصر له... (2)
توفي ليلة السبت الثامن جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال عبدالله الجراري: ففي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة قدم إلى المغرب ويمم فاس، وحظي بالتجلة والإكرام عند السلطان المرحوم المولى عبدالحفيظ، وقد حصل له من الشفوف والحظوة لديه ما عزّ نظيره، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وأقبلوا عليه باعتناء كبير، في هذا الظرف شمّر عن ساعد الجدّ لمحاربة البدع ونصر السنة، ومقاومة الخرافات والأباطيل. (3)
__________
(1) سلّ النصال (ص.82).
(2) رياض الجنة (2/142).
(3) المحدث الحافظ (ص.9-10).(1/212)
- وقال: كان ينادي بردّ الناس إلى الكتاب والسنة، ويحضّهم على اتباع مذهب السلف الصالح ونبذ ما يؤدّي إلى الخلاف وما ينشأ عنه من الحيرة والدوران في منعرجات الطرق، لأن الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتاً؛ هو طريق السنة والكتاب. (1)
- وقال: فكان الشيخ الدكالي -طيب الله ثراه- يحمل حملات شعواء رافعاً مشعل المقاومة ذائداً في إخلاص وإيمان عن الحنيفية السمحة صابراً على ما وجه إليه من معارضة المتطرفين من أهل الزوايا. (2)
- ومن نماذج انتصاره للسنة وتحرره من التعصب المذهبي أن علماء فاس طلبوا من السلطان عبدالحفيظ أن يسدل الشيخ يديه في الصلاة، فقال الأمير للشيخ: العلماء طلبوا مني أن تسدل، فأجابه بقوله: أطلب منك أن تطلب منهم أن يطلبوا منك أن عسكرك يصلي. ومسألة السدل والقبض تعد من المسائل المفروغ منها والمؤلف فيها تآليف ما بين محبذ للأول ورادّ للثاني والعكس، والمعوّل عليه في السنة هو القبض الذي وردت في شأنه أحاديث وثبتت طرقها -التي أنافت على الثلاثين طريقاً- في غير ما مسند من المساند فلا أطيل بجلبها.
ومما ذكره لنا الشيخ الدكالي في أحد مجالسه الحديثية أن طالباً طرح عليه سؤالاً في الموضوع قائلاً: إن السدل وارد في السنة، أجابه الشيخ قائلاً: إن وجدت السدل في السنة فسأكافئك على ذلك، وللحين ذهب الطالب للبحث في كتب السنة يتصفح أبوابها، وبينما هو كذلك إذ فاجأه باب نصه (باب السدل)، وعن عجل طوى الكتاب وأسرع يريد الشيخ، وبعد الاتصال به ذكر له أن السدل موجود وهاهو ذا في الكتاب، فقال له: اقرأ عليّ ففتح الكتاب وأخذ يقرأ، فإذا بلفظ النص (باب سدل الثوب) وسُقِطَ في يد الطالب الذي ذهب حلمه أدراج الرياح. (3)
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.80).
(2) المحدث الحافظ (ص.14).
(3) المحدث الحافظ (ص.33-34).(1/213)
- وقال الجراري أيضاً: وسلفيّته الصالحة المشبعة بأفكاره التحررية، وآرائه المنطقية التي كونت منه رجل المقاومة لكل ما يمت بسبب إلى الشعوذة والشعبذة، وما كان يبدو من بعض الطوائف من غلوّ وانحراف عن الجادّة، مما قد يبرأ منه الشيخ المنتسب إليه، ذلك وأكثر ما حفز الاستعمار الغاشم لعزله عن الوظيفة كانتقام من حريته المطبوعة، ورغم ذلك فما زاده العزل إلا تفرغاً لأداء الرسالة التي تحملها منذ شبابه الأول، فكان من فينة لأخرى ينتقل من بلد لآخر، ومن مدينة لقرية يبث الوعي واليقظة، وينشر السلفيّة الداعية إلى التحرر والانعتاق من بوائق التقليد الأعمى، ورواسب التحجّر والجمود اللذين بليت بدائهما الفتان فترات وفترات، عشنا لحظات مريرة من مساوئها حتى كان بعض علمائنا رحمهم الله كَعُمي لا تكاد تتفتح عيونهم على آي الكتاب وبيان السنة، ولا عجب وقد حالت بينهم وبين الأصلين خرافات وأفكار ودعوات مغرضة أن لا ينظر فيهما بمنظار البحث والكشف عن أسرار من شأنها البعث على التنوير والتحرر من ربقة الجهل والضيق، ومع كل العراقيل التي كانت تنصب أمامه؛ مانعة له وصارفة إياه عما جبل عليه، أو خلق من أجله، فكل ميسّر لما خلق له؛ كان يجهد نفسه ويقف موقف المؤمن الصادق في أداء رسالته المقدسة مما كانت له نهضة مباركة عمّت المغرب وأطرافه مدناً وقرى. (1)
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.82).(1/214)
- وقال: كانت دروس الشيخ فتحاً جديداً، ونوراً مبيناً أزال كل السدود المانعة من فهم الكتاب المقدس فهماً صحيحاً، وبالتالي أزاح عن الأذهان جميع ما كان يدور في قرارتها من أوهام وخرافات: إننا لا نقدر على الخوض في أحاديث الرسول وآثاره فراراً من الوقوع في التحريف واللحن وكل ما يدعو للافتراء والكذب، إنها لأفكار هي إلى التحجر والجمود أمسّ منها بالتفتح والانطلاق، ولكن جهاد الشيخ وثباته في الدعوة إلى الله بنشر السنة، ودراسة الكتاب رغم مضايقات ومضايقات، رفعت جميع تلك الخيالات، وانفسح المجال للفكر يعمل في طهارة ونضج، متحرراً من قيود الأوهام، وخيالات الأحلام التي كانت طاغية على بعض العقول المثقفة. (1)
- قال عبدالحفيظ الفاسي: عارف بأصول الدين الصحيحة الخالية من البدع والعقائد الزائغة، شديد على المدعين قامع لأهل الأهواء والمبتدعين، سيف الله القاطع على رقابهم. (2)
- وقال الرحالي الفاروقي: فقد كان هذا الشيخ رحمه الله علماً من أعلام المغرب الشاهقة، وفذاً من الأفذاذ الذين يفتخر بهم في ميادين المعرفة والإصلاح، وفي خدمة الكتاب والسنة ورفع رايتهما ونشر معانيهما وإقامة أحكامهما، بل كان يعتبر من الرعيل الأول في المغرب الذين أخذوا على أنفسهم إحياء العقيدة السلفية وبعث الروح الإسلامية الصحيحة في النفوس باعتماد وحي الكتاب العزيز ووحي سنة الذي لا ينطق عن الهوى، ونبذ ما سوى ذلك من الأقوال الموهومة والعقائد المشبوهة والخرافات المدسوسة التي أخرت سير المسلمين وشوهت سمعة الإسلام...
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.102).
(2) رياض الجنة (2/142).(1/215)
وكان ينادي في كثير من دروسه باعتبار المعرفة الصحيحة أساساً للحضارة الإسلامية واعتبار العقيدة السلفية التي جاء به الكتاب والسنة حصناً من الأمراض الوثنية، وكان رحمه الله حربا على البدعة لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ويحمل حملات عنيفة ضد العقيدة المخلوطة بالشك والشرك، ويوصي بترك الزيارة التي تفضي إلى إفساد العقيدة وإبطال الركن الأول من أركان الإسلام، كما كان رحمه الله يوحي إلى العامة بقراءة توحيد ابن أبي زيد القيرواني. (1)
- وقال عبدالله كنون: قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان لها غايتان شريفتان: الأولى إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع، لما كان فيه من رسوخ القدم، وقوة العارضة، والمشاركة في علومه، والحفظ والإتقان... والثانية -وهي بيت القصيد- الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم، بالبرهان الساطع والحجة الناصعة، وندد بالخرافات والأوهام، وأطاح بالدعاوي الباطلة والأقوال الواهية، وبين وجه الصواب في كل مسألة مسألة من مسائل الخلاف الفقهي، وأقنع خصوم الدعوة قبل أنصارها بما لم يجدوا فيه دفعا ولا له ردا، وهكذا حدث تحول كبير في مفهوم الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى أدلة الفقه، وتخفف العلماء من التقيد بالنصوص المذهبية، ومالوا إلى الترجيح والعمل بالسنة عند ثبوتها ونبذ ما خالفها. وكذلك ضعف الاعتقاد في المشايخ وتقديس الأموات، والغلو في الطرقية، والتعلق بتعاليمها التي ما أنزل الله بها من سلطان. (2)
موقفه من المشركين:
__________
(1) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء لمحمد رياض (ص.51-52).
(2) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8-9).(1/216)
- قال عبدالله الجراري: والشيخ الدكالي رحمة الله عليه عمد إلى شجرة كانت بباب لبيبة جوار ضريح سيدي المنكود المجاور للسور الأندلسيّ، وقطعها إذ كان النساء يعقدن بها تمائم وحروزاً وشعوراً وخرقاً كتبرك رجاء دفع ما كان يجول في خواطرهن من هواجس وأوهام سببها الجهل، ولا غرابة، ما دام الشيخ من رواد السلفيّة الصادقة ومحاربة كل ما يمت بصلة إلى الخرف والشعوذة تنقية للأفكار وتطهيرها من آثار الخرافات والوثنية. (1)
- وقال في خطبة له بإحدى المدارس الكبرى بفاس، واعظاً وموجهاً معلميها وتلاميذها: فما قرأت في الأسفار، وما رأيت في الأسفار، لما خضت البحار، وجبت الأقطار؛ أقبح من المذبذبين، وأعني بهم من ترك لغته ودينه، ولا أخذ من العلم العصريّ لا رخيصه ولا ثمينه، ولا تزين بصنعة ولا حرفة مهمة مما يعد زينته، وقصاراه سوء العقيدة وبيس المذهب مذهب الدهريين. أولئك قوم طلبوا الدنيا فرجعوا بلا دين، فلا ما طلبوا وجدوا، ولا ما أخذوا ردوا، فكانوا عند أهل أوربا من الساقطين، وعندنا من المارقين. (2)
- ذكر علال الفاسي مدى تأثر المغرب بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والعقيدة السنية والدعوات الإصلاحية ثم قال: ولكن هذا كله لم يكن له من الأثر ما أحدثه رجوع المصلح الكبير الشيخ أبي شعيب الدكالي، فقد عاد وكله رغبة في الدعوة لهذه العقيدة والعمل على نشرها، والتف من حوله جماعة من الشباب النابغ يوزعون الكتب التي يطبعها السلفيون بمصر، ويطوفون معه لقطع الأشجار المتبرك بها والأحجار المعتقد فيها. (3)
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.30-31).
(2) المحدث الحافظ (ص.118).
(3) الحركات الاستقلالية في المغرب العربي (ص.153).(1/217)
- وقال عبدالكبير الزمراني: أما من الناحية التفكيرية فقد رجع شعيب (1) مزودا بعقيدة سلفية مؤيدة بالمعقول والمنقول وكان عمله برهاناً، وكان يقيم البراهين ليحق ما هو حق ويبطل ما هو باطل، وكان مما أوتيه من مواهب كالجيش وحده، شنّ الغارة على كثير من البدع والخرافات فهزمها، وغزا كثيراً من الأرواح والنفوس فقوّمها، وكان يداً من نور تقلع الخيالات وتغرس الحقائق وتمحو الأساطير وتثبت الحق المبين وتحصد الشك والوهم وتبذر الجزم واليقين، وكانت له بجانب هذه المزايا صرامة حادة في الحق، كانت له بمنزلة المنفذ لما يصدر من أحكام الشرع، وقد وقف مواقف كثيرة دلت على ما له من صرامة وإقدام، ولن ننسى قضية (لاَلَّة خضراء) (2) وهي صخرة ذات شكل هندسيّ افتَتن به النساء بمراكش، وكنّ يقربن لها القرابين، ويقدمن لها النذور ويقمن لها موسماً سنوياً إلى أن سمع بخبرها الشيخ رحمه الله فلم يتردد في تغيير هذه البدعة (3) والقيام بنفسه على إزالتها، ومن الغريب أنه كلما دعا عاملاً لكسرها امتنع من ذلك لما علق بذهنه من الأوهام حولها، إذ ذاك رأى نفسه مضطرا لكسرها بيده، وفعلاً أخذ الفأس وكسرها ثم وزّع أشلاءها خارج البلد. (4)
موقفه من الصوفية:
- قال محمد السائح عن الشيخ أبي شعيب: فقام بنشر مبادئ الإصلاح؛ غير هياب ولا وجل، واتصل بالسلطان، وبرز للنضال، وثبت في الميدان، حتى استقرت مبادئه واستحكمت أركانها، وضعضع أرباب الزوايا، بل هدها فاستنارت بهديه العقول، وسار في ضوء معارفه عدد غير قليل من الشباب. (5)
__________
(1) أي: من رحلته المشرقية.
(2) أي: السيدة الخضراء.
(3) وهي بدعة شركية.
(4) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء (ص.58-59).
(5) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).(1/218)
- وقال: وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر؛ فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة، منها ظهير في منع ما يقوم بع بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه. (1)
سليمان بن عبدالعزيز السحيمي (2) (1357 هـ)
الشيخ سليمان بن عبدالعزيز بن إبراهيم بن عبدالله الثوري الربابي نسبا السبيعي حلفا. ولد في مدينة عنيزة سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وقيل سنة ثلاثمائة وألف. ونشأ بها، وأخذ عن علمائها كالشيخ صالح بن عثمان والشيخ عبدالله بن محمد آل مانع، وتولى التدريس بها في مسجد المسوكف، ثم انتقل إلى مكة المكرمة، فولي القضاء في بلدة الوجه ثم بلدة القنفذة ثم صار مدرسا في المسجد الحرام. كان رحمه الله يوصف بقوة الحفظ والاستحضار، فأعجب به شيخه صالح بن عثمان آل قاضي والعلامة محمد بن عبدالرزاق حمزة. وكان واعظا، محبا للعلماء ومجالستهم والبحث معهم.
توفي رحمه الله سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
له من الآثار السلفية:
1- 'رسالة في التوحيد وعقيدة السلف'.
2- 'كتاب في الرد على حسن الكاظمي' في مسألة البناء على القبور ودعاء الصالحين. (3)
عبدالحميد بن باديس (4) (1359 هـ)
__________
(1) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/320-325).
(3) علماء نجد (2/323-324).
(4) الأعلام (3/289) ومعجم المؤلفين (5/105) وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعبدالعزيز دخان.(1/219)
هو عبدالحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس أبو الفتوح، بمدينة قسنطينة ولد يوم الحادي عشر من ذي القعدة عام سبع وثلاثمائة وألف للهجرة من أسرة ثرية بربرية صنهاجية عريقة؛ كان لها الملك والسلطان خلال القرن الرابع الهجري، وأبرز رجالها الأمير المعز لدين الله بن باديس المتوفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة (1) ؛ الذي نصر السنة وحارب البدعة وقضى على العبيديين الباطنيين وأبعدهم عن الغرب الإسلامي، وأعلن مذهب أهل السنة.
ظهرت على الشيخ علامة النجابة وحب العلم منذ صباه، فسخّر الله له أباً صالحاً وطّأ له سبل العلم وشجعه عليه وكفاه المؤنة حتى قال له: (اكفني همّ الآخرة أكفك همّ الدنيا).
حفظ القرآن كاملاً على محمد الماداسي أشهر قراء قسنطينة في وقته، وأتم دراسته بالزيتونة، ودرس بها. من شيوخه الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي والبشير صفر وغيرهم كثير.
رحل إلى عدة بلدان منها: الحجاز وسوريا ولبنان ومصر، والتقى بعلمائها كمحمد بخيت المطيعي الذي أجازه، وغيره.
ومن العوامل التي نهجت به المسلك الصحيح عقيدة وسلوكاً التقاؤه بعلماء الدعوة السلفية بالحجاز، فترعرعت فكرة الإصلاح في نفسه، والتقى للمرة الأولى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالمدينة النبوية وتدارسا الإصلاح في الجزائر وسبله مدة ثلاثة أشهر يلتقيان كل ليلة.
رجع إلى الجزائر ودرّس بمساجدها، وقد فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروس يومية، كما شرح موطأ مالك خلال هذه المدة. وأسس مع مجموعة من العلماء (جمعية العلماء الجزائريين) وكان رئيساً لها منذ تأسست إلى أن مات. وقد أصدر رحمه الله عدة صحف منها 'المنتقد' و'الشهاب' و'البصائر' وغيرها.
توفي بعد معاناة شديدة من المرض في ربيع الأول عام تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بمسقط رأسه رحمه الله.
من آثاره:
__________
(1) وقد ذكره ابن خلدون في تأريخه للدولة الصنهاجية.(1/220)
'العقائد الإسلامية' وجمع له من مجلة 'الشهاب' كتابات في التفسير بإشراف محمد الصالح رمضان وتوفيق شاهين وطبعت بعنوان: 'مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير'.
وله مقالات كثيرة جداً في الفقه والحديث في جرائد ومجلات (جمعية العلماء) وقد جمع عمار الطالبي قسطاً طيباً من آثاره ولا يزال قسط آخر لم يجمع بعد.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في سبب اختياره الدين على السياسة للنهوض بالأمة: وبعد: فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.
ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه -ولا يخفى على غيرنا- أن القائد الذي يقول للأمة: إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتك)، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها. وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا، وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله لماضون، وعليه متوكلون. (1)
- وله 'الدرر الغالية في آداب الدعوة والداعية' قال فيه:
تحذير:
خطبة الجمعة اليوم: أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر، وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيرا ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.
__________
(1) مدارك النظر (294-295).(1/221)
هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية، سد بها أهلها بابا عظيما من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن عظيم من أركان الإسلام. فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيبا في الناس. وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون. (1)
- وقال: بماذا تكون الهداية؟ كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون، إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين، فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال. ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر، جاء بالضمير مفردا في قوله تعالى: يَهْدِي { بِهِ } اللَّهُ (2) .اهـ (3)
- وقال: تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيرا مرتبكا: كمن يكون في ظلام: منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى، والمقلد للآباء من دليل يطمئن به، ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه؛ ومنها حالة الشك؛ ومنها حالة اعتراض الشبهات؛ ومنها حالة ثوران الشهوات.
__________
(1) الدرر الغالية (40).
(2) المائدة الآية (16).
(3) الدرر الغالية (59).(1/222)
وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والاهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات والشهوات، وما فيها من حيرة وعماية إلى الحالة التي تطمئن فيها القلوب، كما تطمئن في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام. فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات، وتكسر سلطان الشهوات. فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من اعرض عنهما، أو خالفهما، يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة، وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ { مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى } النُّورِ (1) .اهـ (2)
موقفه من المشركين:
داوم في جريدة 'الشهاب' على حرب المشعوذين، فكان يقول فيها: احذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل.
موقفه من الصوفية:
حارب التصوف وحذر الناس من سلوكه حتى بلغ بهؤلاء الحقد إلى محاولة اغتياله سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لسبع وعشرين وتسعمائة وألف ميلادي. وكان بعضهم يسميه: (ابن إبليس).
موقفه من القدرية:
له كتاب: 'العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية' بين فيه مسألة القدر فقال: العمل بالشرع والجد في السعي مع الإيمان بالقدر:
الشرع معلوم لنا، وضعه الله لنسيّر عليه أعمالنا. والقدر مغيب عنا، أمرنا الله بالإيمان به لأنه من مقتضى كمال العلم. والإرادة من صفات ربنا. فالقدر في دائرة الاعتقاد، والشرع في دائرة العمل. وعلينا أن نعمل بشرع الله ونتوسل إلى المسببات المشروعة بأسبابها، ونؤمن بسبق قدر الله تعالى: فلا يكون إلا ما قدره منها، فمن سبقت له السعادة يسر لأسبابها، ومن سبقت له الشقاوة يسر لأسبابها. (3)
__________
(1) المائدة الآية (16).
(2) الدرر الغالية (61-62).
(3) العقائد الإسلامية (ص.74).(1/223)
ثم ذكر بعض الأدلة فقال:
الاحتجاج بالقدر: لا يحتج بالقدر في الذنوب، لأن حجة الله قائمة على الخلق بالتمكن والاختيار والدلالة الشرعية، لقوله تعالى: وَقَالُوا { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } (20) (1) .
الحذر والقدر: مع الإيمان بالقدر، يجب الأخذ بالحذر، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا } حِذْرَكُمْ (2) ، وقوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا { حِذْرَهُمْ } وَأَسْلِحَتَهُمْ (3) .
__________
(1) الزخرف الآية (20).
(2) النساء الآية (71).
(3) النساء الآية (102).(1/224)
الحكمة والعدل في القدر: القدر كله عدل وحكمة، فما يصيب العباد فهو جزاء أعمالهم. وقد تدرك حكمة القدر ولو بعد حين، وقد تخفى، لأن من أسمائه تعالى: الحكيم، ورد في الآيات والأحاديث الكثيرة. ومن أسمائه تعالى: العدل، ورد في حديث الأسماء عند الترمذي (1) . ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكرب: "عدل في قضاؤك" (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/496-497/3507) وقال: "حديث غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح". وابن ماجه (2/1269-1270/3861) وقال البوصري في الزوائد: "لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره، غير ابن ماجه والترمذي. مع تقديم وتأخير، وطريق الترمذي أصح شيء في الباب. قال: وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف لضعف عبدالملك بن محمد". وقال الحافظ في الفتح (11/258): "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج" اهـ. والحديث ورد بدون تعيين الأسماء الحسنى. من حديث أبي هريرة. وقد تقدم تخريجه ضمن مواقف إسحاق بن راهويه سنة (237هـ).
(2) أحمد (1/391) والطبراني (10/209-210/10352) والحارث بن أبي أسامة (بغية الباحث 1063) وصححه ابن حبان (3/253/972) والحاكم (1/509) كلهم من حديث ابن مسعود. والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/136و186-187) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان ".(1/225)
ولقوله تعالى: وَمَا { أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (30) (1) .اهـ (2)
عبدالعزيز بن حمد بن علي بن عتيق (3) (1359 هـ)
عبدالعزيز بن حمد بن علي بن عتيق. ولد في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف. ونشأ في بيت علم ودين. قرأ على والده الشيخ حمد ابن علي بن عتيق إلى أن توفي، ثم سافر إلى الرياض، ثم إلى الهند حيث وجد المحدث الشيخ نذير حسين الدهلوي، فأخذ عنه الحديث. كان رحمه الله موصوفا بكثرة العبادة والتهجد، وكانت له عناية كبيرة بكتب الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب والشيخين ابن تيمية وابن القيم. أخذ عنه العلم الشيخ سعد بن سعود آل مفلح والشيخ سعود بن محمد بن رشود والشيخ محمد ابن إسحاق. شارك في الفتوح، وكان قد تولى القضاء في الأفلاج ثم نقل إلى وادي الدواسر، ثم أعيد إلى الأفلاج، إلى أن توفي فيها سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
تبنيه لعقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب:
__________
(1) الشورى الآية (30).
(2) العقائد الإسلامية (ص.76-77).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/330-335).(1/226)
جاء في علماء نجد: "له وصية بقلم محمد بن إسحاق بن عتيق، حيث يقول: هذا ما أوصى به الفقير إلى الله عبدالعزيز بن حمد بن عتيق وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، وأن محمدا عبده ورسوله الصادق المصدق، أفضل الرسل - صلى الله عليه وسلم - ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين والبراءة من عبادة ما سواه هو عين ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا الناس إليه، وهو دين الإسلام الذي نعتقده وندين لله به، وأوصى ولدي وولد ولدي وإخواني وأولادهم بأن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصي به إبراهيم بنيه ويعقوب إذ قال لبنيه: 4¢سح_t6"tƒ { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (132) (1) .اهـ (2)
علي محفوظ (3) (1361 هـ)
علي محفوظ المصري، واعظ مرشد، عالم تخرج بالأزهر أستاذا للوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية، واختير عضوا في جماعة كبار العلماء. توفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له: 'الإبداع في مضار الابتداع' والكتاب مطبوع ومتداول، وهو وإن كانت فيه بعض الفوائد لكن فيه خلط في تأييد بعض البدع واستحسانها.جاء فيه: الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة:
__________
(1) البقرة الآية (132).
(2) علماء نجد (3/333-334).
(3) الأعلام (4/323) ومعجم المؤلفين (7/175).(1/227)
وأما الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة، فاعلم أن من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب وبينته السنة علم أن النبي صلوات الله وسلامه عليه تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلا من قد مرض قلبه وطاش في مهاوي الضلال لبه، فإن الله تعالى قد بين للناس قواعد الدين وأكملها قال تعالى: ôtPِquّ9$# { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (1) بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، فإذا كان الله سبحانه قد أكمل لنا الدين بما أنزله في كتابه العربي المبين وعلى لسان نبيه الأمين، مما بلغ من الأحكام، وبين لنا من حلال وحرام، فمن اتبع غير سبيل المؤمنين فهو الحقيق بهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (115) (2) وقال تعالى: مَا { فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (3) : ما تركنا وما أغفلنا شيئا يحتاج إليه من الأشياء المهمة، فقد نفى سبحانه التقصير فيما شرع من كتابه الحكيم الذي هو متن للسنة. وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وما شرع من الدين القويم ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين فقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (4)
__________
(1) المائدة الآية (3).
(2) النساء الآية (115).
(3) الأنعام الآية (38).
(4) الأنعام الآية (153)..(1/228)
فذكر تعالى أن له سبيلا واحدا سماها صراطا مستقيما، لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان، وحث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثا مقرونا بالنهي عن اتباع السبل، مبينا أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلا واحدا أمروا بسلوكه، وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة: كُلُّ { حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (1) ، وقد روى أحمد وجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره، وقال: "هذه السبل المتفرقة وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو" ثم قرأ هذه الآية، حتى بلغ } تَتَّقُونَ { (2) . السبل المتفرقة هي البدع، والشيطان هو شيطان الإنس وهو المبتدع.
وقال تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (3) ، قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة، فأمر سبحانه برد الأمر حالة النزاع إلى كتابه العزيز وسنة نبيه، ففي حالة الوفاق أولى.
وقال تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ } اللَّهُ (4) فقد جعل سبحانه وتعالى علامة محبته اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب في دعواه فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (5) ، وعصيان الله تعالى ينافي محبته:
تعصى الاله وأنت تظهر حبه ... تعصى الاله وأنت تظهر حبه
لو كان حبك صادقا لأطعته ... لو كان حبك صادقا لأطعته
__________
(1) الروم الآية (32).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(3) النساء الآية (59).
(4) آل عمران الآية (31).
(5) النساء الآية (80).(1/229)
ثم رتب على اتباع الرسول حب الله تعالى ورضاءه ومثوبته، فالخير في اتباع الرسول والشر في مخالفة سننه... وكيف لا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه هو المبلغ للكتاب الناطق بالحق والصواب وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } (3) (1) ، وقال تعالى: وَإِنَّكَ { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (52) (2) : هو الإسلام. وقال تعالى: لَقَدْ { كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ } الْآَخِرَ (3) .
فإذا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله، والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: !!$tBur { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (4) ، وما أخبث رجلا ترك سبيل السنة الشارحة للكتاب، واستبدل العذب بالعذاب فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (5) .
__________
(1) النجم الآية (3).
(2) الشورى الآية (52).
(3) الأحزاب الآية (21).
(4) الحشر الآية (7).
(5) النور الآية (63).(1/230)
وقال تعالى: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (54) (1) وسر تكرير الفعل: الدلالة على أن ما يأمر به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، فهو إذاً مستقل بالطاعة كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه. ألا إني قد أوتيت الكتاب ومثله معه" (2) وقوله: تولوا بحذف إحدى التاءين عام لمن يقع عليه الخطاب من عباده. والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم وَإِنْ { تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (54) (3) أخبر جل ثناؤه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه، وليس عليه إلا البلاغ والبيان الواضح لاهداكم وتوفيقكم، ففي صحيح البخاري عن الزهري: فإن تطيعوه فهو حظكم وسعادتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدى ما حمل وما عليه إلا البلاغ. وحكى الإمام الشافعي رضي الله عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وهو كلام حق لا يستراب فيه.
__________
(1) النور الآية (54).
(2) أخرجه: أحمد (4/130-131) وأبو داود (5/10-12/4604) والترمذي (5/37/2664) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وابن ماجه (1/6/12) والحاكم (1/109) وصحح إسناده وسكت عنه الذهبي، كلهم من حديث المقدام بن معدي كرب.
(3) النور الآية (54).(1/231)
وكيف تترك نصوص الشارع المعصوم ويؤخذ بأقوال غيره ممن يجوز عليه الخطأ، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه. والآيات في هذا الباب كثيرة.
والمعنى فإن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها فاعلموا أنما عليه إثم ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة.(1/232)
وأما الأحاديث: فعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (1) ، فقد أوصانا صلوات الله وسلامه عليه بلزوم سنته وسنة خلفائه الراشدين الذين هم على طريقته، وحرض على ذلك بقوله: "عضوا عليها بالنواجذ". وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" رواه الطبراني والبيهقي (2) . وعن عباس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر -يعني الأسود- ويقول: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. متفق عليه (3) ، وروى الحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب في حجة الوداع فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) الطبراني في الأوسط (6/197/5410) ومن طريقه أبو نعيم (8/200). وقال الهيثمي في المجمع (1/172) رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات وأورده الألباني في الضعيفة (1/497/327).
(3) البخاري (3/589/1597). مسلم (2/925/1270).(1/233)
إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه" (1) ...
__________
(1) أحمد (2/368) والبزار (الكشف 3/322/2850) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات" وقال الهيثمي (10/54) رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/842/471): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين". وفي الباب عن جابر وابن مسعود وأبي الدرداء بنحوه.(1/234)
وقال في الشفاء وشرحه: قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى (سن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمور) يعني الخلفاء الراشدين (بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله) أي حيث قال: !!$tBur { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ } فَخُذُوهُ (1) (واستعمال لطاعة الله) أي في طاعة رسوله لقوله تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ } اللَّهَ (2) ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (3) ، (وقوة على الدين) أي على كمال ملته وجمال شريعته (ليس لأحد تغييرها) بزيادة أو نقصان فيها (ولا تبديلها) بغيرها ظنا أنه أحسن منها (ولا النظر في رأي من خالفها، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا). وهذا من كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكا جدا، ولحق ما كان يعجبهم، فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة، لأن قوله: (ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها): قطع لمادة الابتداع جملة. وقوله: (من عمل بها فهو مهتد) الخ الكلام: مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ } الْهُدَى (4) الآية، ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة لا بدعة فيه ألبتة، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة. وقال علي رضي الله عنه: لم أكن أدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس، وقال: إني لست بنبي ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ما استطعت.
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (80).
(3) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(4) النساء الآية (115).(1/235)
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله وآله وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.اهـ باختصار.
والموفق السعيد من انتظم في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة، فكن يا أخي إياه فقد كثرت البدع وعم ضررها. واستطار شررها، ودام الانكباب على العمل بها مع السكوت عن الإنكار لها حتى صارت كأنها سنن مقررات، وشرائع من صاحب الشرع محررات. فاختلط المشروع بغيره، وعاد المتمسك بمحض السنة كالخارج عنها كما سبق، فتأكد وجوب الإنكار على من عنده فيها علم، ولا يهولنه أن المتعرض لهذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين: فالموالي له يخلد به إلى الأرض، ويمد له يد العجز عن نصرة الحق بعد رسوخ البدع في النفوس، والمعادي يصوب إليه سهام الطعن ويرميه بمقذوفات الأذى، لأنه يحارب عاداته الراسخة في القلوب، ويقبح بدعه المألوفة في الأعمال دينا يتعبد به. ومذهبا خامسا يدين الله عليه لا حجة له عليها سوى عمل الآباء والأجداد، مع بعض من ينتسب إلى العلم أكانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا ولم يفقهوا أنهم بموافقتهم للآباء وهؤلاء الأدعياء مخالفون لكتاب الله وسنة رسول الله والسلف الصالح من بعده، فالمتعرض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال: ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا أنه قد فنى عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره وكذلك ما عليه الناس اليوم. (1)
مبارك بن محمد الميلي (1364 هـ)
من أفاضل علماء الجزائر، وأحد أعضاء جمعية العلماء بها. ولد سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي رحمه الله سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
__________
(1) الابداع في مضار الابتداع (18-23).(1/236)
له كتاب 'رسالة الشرك ومظاهره'. تناول فيها هذا الموضوع من كل جوانبه؛ فعرف الشرك وبيّن خطره وتاريخه، ثم مثّل لأبرز مظاهره؛ فأجاد رحمه الله وأفاد.
- قال رحمه الله: وهذه أطوار البعثة من حين الأمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر، إلى الأمر بإنذار العشيرة، إلى الأمر بالصدع بالدعوة، إلى الأمر بالهجرة، إلى الإذن بالقتال، إلى فتح مكة، إلى الإعلام بدنوّ الحمام؛ لم تخل من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك ومظاهره. ويكاد ينحصر غرض البعثة أولاً في ذلك؛ فلا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور بالشعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نسيه وهو مختفٍ في هجرته والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا غلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة، ولا شغل عنه وهو يجاهد وينتصر ويكر ويفر، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك. وهذه سيرته المدونة وأحاديثه المصححة فتتبعها تجد تصديق ما ادعينا وتفصيل ما أجملنا. (1)
- وقال: وإن لم يكن بعقلك بأس، فستسلم معي شدة عناية بعثة خاتم النبيين ببيان الشرك وعدم الاكتفاء بشرح التوحيد، وستعجب معي من قلة اهتمام علمائنا بذلك، كأن لا حاجة بالمسلمين إليه! تجد في كلامهم على الفروع عناية بتفصيل أحكام مسائل نادرة أو لا توجد عادة، ولا تجدهم يعنون تلك العناية بالأصول؛ فيحددون الشرك ويفصلون أنواعه، ويعددون مظاهره، حتى يرسخ في نفوس العامة الحذر منه، والابتعاد من وسائله، ولا يفقد المتأخر نص من قبله في جزئية من ذلك. (2)
- وقال: آثار الشرك في المجتمع:
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.19).
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.20).(1/237)
إن كنت باحثاً في علل انحطاط الأمم، فلن تجد كالشرك أدل على ظلمة القلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولن تجد كهذه النقائص أضر بالاتحاد، وأدر للفوضى، وأذل للشعوب. وإن كنت باحثاً عن أسباب الرقي، فلن تجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول، وأقوم للأخلاق، ولن تجد كهذه الأسوس أحفظ للحياة وأضمن للسيادة، وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة، وإن نظرة في حياة العرب قبل البعثة، لتؤيد ما أضفناه إلى الشرك من علل ونتائج، وإن وقفة على حياتهم بعد البعثة لتبعث على التصديق بما أنطناه بالتوحيد من أسباب وثمرات، وإن تلك النظرة وهاته الوقفة لمفتاحان لسر حياة المسلمين بعد عصر النبوة.
وكل من قارن بين حياتنا اليوم وحياة جيراننا من غير ملتنا، استيقن أن وسائل الشرك قد وجدت في المسلمين منذ أمد، وأن نتائجه قد ظهرت عليهم، فلا تخفى على أحد. (1)
- وقال رحمه الله: الحكاية العاشورية:
ففي سنة سبع وأربعين، قتل شيخنا محمد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط. وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب 'منار الأشراف' وملقب نفسه "كليب الهامل"، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمده بالمال. فحضرت مجلسه ولم أشعره بحضوري إذ كان قد اجتمع عليه العمى والصمم. وذلك لئلا يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام.
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.49).(1/238)
سمعت في ذلك المجلس بأُذنيَّ "كليب الهامل" يحكي مناقضاً لدعوة الإصلاح التي اشتهرت يومئذ، أن شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية كان مع مريديه في سفينة فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجؤوا جميعاً إلى الله يسألون الفرج والسلامة. وكان الشيخ منفرداً في غرفة يدعو فلم تنفرج الأزمة، وعادته أن لا يبطأ عليه بالإجابة، فوقع في روعه أنه أتي من قبل أتباعه. لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه، فخرج على أتباعه مغضباً يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدة؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدين بلسان المضطرين -إشارة إلى لقوله تعالى: أَمْ مَنْ { يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ uن q ،9$#.. } (1) - فنكر عليهم اللجوء إلى الله مباشرة، ووبخهم عليه، وعرفهم أن ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه، وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجه إلى ربهم، وأنه الغرق، وعلمهم أن واجبهم هو التوجه إليه وسؤاله، ثم هو وحده يتوجه إلى الله، فتابوا من دعاء الموحدين، وامتثلوا تعليم الشيخ المخالف لتعليم رب العالمين. وعاد الشيخ إلى غرفته يدعو متوسطاً بين الله ومريديه، فانكشفت الغمة، وسملت السفينة، وحمد الشيخ ثقته بنفسه وفقهه سر البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهه لأتباعه سر النجاة وصرفهم إلى الثقة به عن الثقة بالله.
هذا معنى ما سمعته من "كليب الهامل"، ولم أقيد الحكاية حين السماع حتى أؤديها بلفظها وأصورها بنصها، ولم يسعني وأنا في مقام التحذير من الشرك اجتناب إدراج ما ينافي غرض الحاكي في الحكاية حتى تتم ثم أعلق عليها، لئلا يعلق بذهن القارئ شيء من الشرك، ولو إلى حين، ولم أميز المدرج في الحكاية، لأنه لا يخفى على العارف بحال المعارضين لدعاة الإصلاح الديني.
__________
(1) النمل الآية (62).(1/239)
يستدل الشيخ عاشور وأشباهه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلق بشيوخ الزوايا وتوسيطهم بين العباد وربهم، ناسخين بها نصوص الشريعة الكثيرة المحكمة، وتتلقفها منهم العامة بقلوبها، وتتمسك بها في الاحتجاج لإيثار دعاء غير الله، وتعتقد أن ذلك أليق بحالها من أن تخاطب بنفسها أرحم الراحمين، سنة المشركين من قديم كما تقدم عن الكلدانيين. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: وقد كان ضلال الرافضة مكشوفاً للعامة والخاصة من الفرق الإسلامية؛ فكانوا ممقوتين في المجتمعات، لا تروج لهم بضاعة في جميع الطبقات إلا أن يجدوا غرة في بعض الجهات التي لا تعرف من الدين أكثر من التلفظ بالشهادتين أو صور العبادة المتكررة الفاشية. (2)
موقفه من الصوفية:
لقد أولى رحمه الله في كتابه قضية التصوف اهتماماً كبيراً، باعتبار الصوفية أمراً دخيلاً على الإسلام وأهله، ومنبعاً لتصدير الشرك والبدع والخرافات، مبيناً رحمه الله علاقة التصوف بالتشيع، ومدى الصلة الوثيقة التي تربطهما كأنهما أخوان شقيقان.
- قال رحمه الله: أما ثمرة هذا الاتحاد؛ فهو توصل الرافضة إلى تحقيق ما عجزت عنه من تشويه محاسن الإسلام وقلب تعاليمه. وإن تعجب لسلامة الصوفية من سوء سمعة الرافضة مع اتحاد الفريقين، فأعجب من ذلك أن تعلو كلمة هؤلاء الصوفية كلمة العلماء، ويخصّوا بالفضل دونهم؛ والكتاب والسنة إنما جاءا بفضل العلم وأهله. وترى من هنا؛ أن هذا التصوف سيف ماضي الحدين مؤثر بالجهتين:
فجهة النقص فيه: وهي اتحاده بالباطنية أثر فيها بالتغطية والتعمية حتى لم تشعر بها العامة، وتطاول الأمد فخفيت على كثير من الخاصة.
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.182-183).
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.263-264).(1/240)
وجهة الكمال في غيره: وهي جهة العلم قلبها رأساً على عقب؛ فاستأثر بما للعلم من شرف، وجعل أهله محل ريبة لا يوثق بدينهم إلا بتوثيق شيوخ التصوف، وهم لا يوثقون من العلماء إلا من سدل الستار عما في طرقهم من بدع ومنكرات. فأصبح يخطب وُدّهم كل عالم طماع، وكل محتال خداع، وانضافت إليهم هذه الجنود المرتزقة فكان جيشا يهدد كل مرشد نصوح، ومصلح إلى المعالي طموح. (1)
- وقال رحمه الله مبيناً مساوئ التصوف في مسائل منها: الخامسة: الاعتماد في دينهم على الخرافات والمنامات، وما يربي هيبتهم في قلوب مريديهم من حكايات، ولا يتصلون بالعلماء إلا بمن أعانهم على استعباد الدهماء، والرد على المرشدين النصحاء، بتأويل ما هو حجة عليهم، وتصحيح الحديث الموضوع إذا كان فيه حجة لهم.
قال أبو بكر بن العربي في 'العواصم': إن غلاة الصوفية ودعاة الباطنية يتشبهون بالمبتدعة في تعلقهم بمشتبهات الآيات والآثار على محكماتها، فيخترعون أحاديث أو تخترع لهم على قالب أغراضهم ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلقون بها علينا) (1/9).اهـ (2)
محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ (3) (1367 هـ)
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.267-268).
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.280).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/134-139) والأعلام (6/218) ومعجم المؤلفين (10/193).(1/241)
محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ بها. قرأ على أخيه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ محمد ابن محمود والشيخ حمد بن عتيق والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ والشيخ أبو بكر خوقير وغيرهم. عينه الملك عبدالعزيز قاضيا في القويعية ثم في الوشم، ثم قاضيا للرياض. كان رحمه الله جوادا كريما، متواضعا، حسن الخلق. أخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ صالح بن سحمان والشيخ عبدالله الدوسري وغيرهم. رحل إلى عمان وقطر ثم إلى اليمن. له رسائل وأجوبة في الدعوة إلى التوحيد وهدم الشرك.
توفي رحمه الله في جمادى الثانية سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له رسائل وأجوبة خاصة في التوحيد تدل على سعة علمه واطلاعه وحبه لنشر العقيدة السلفية، فجزاه الله خيرا.
- نصائحه رحمه للأمة:(1/242)
وأكبر نعمة نذكركم بها هي ما من به مولاكم، وما خصكم به من المنحة وأولاكم من هذه الدعوة النجدية، وتجديد الملة الحنيفية، بعد أفول شموسها، ومحو آياتها ودروسها، واعتكار ليل الإشراك، وتلاطم الضلال والهلاك، حتى عبدت في نجد كغيرها الطواغيت والأوثان من الأشجار والقبور والغيران، وكان المطاع والمتبع هو الشيطان بدلا عن مضمون كلمة الإسلام والإيمان، شهادة أن لا إله إلا الله الملك الديان، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، وأصبح الحق مهجورا، والباطل مؤيدا منصورا، ونشأت بدع الرفض والتجهم والاعتزال، وبدعة الاتحاد التي هي أكبر بدع الضلال، وغير ذلك من ظهور السحر والكهانة والتنجيم، وسفك الدماء ونهب الأموال، واستحلال المحرمات، مما هو حقيقة الجاهلية الجهلى، والضلالة العمياء، إلى أن ابلولج صبح الحق واتضح، وتجهم وجه الباطل وافتضح بما مَنًّ به الكريم من الدعوة والتجديد، على يد من منحهم الله التوفيق والتسديد وهم الإمام الأوحد الفريد الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنصار أئمة التوحيد آل سعود ومن سبقت لهم سابقة السعادة والسيادة، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يثنهم عن هذا الفخر الأفخم مقاومة مقاوم، فانجلت بحمد الله من نجد وما حولها وجنات الإشراك، وظهرت بذلك فضيحة كل مبتدع أفاك، واستضاءت بنور المحمدية المحضة ارجاء تلك الأقطار، وعاد عود الإسلام غصنا أخضر بعد الالتواء والاصفرار، واستقرت الشريعة في نصابها، ورجعت الفريضة إلى بابها، ونشرت أعلام الجهاد، وقامت حجة الله على العباد. (1)
__________
(1) الدرر السنية (11/134).(1/243)
- وقال: فأول بدعة حدثت بدعة الخوارج وهم قوم من أصحاب علي ابن أبي طالب ممن أخذ العلم عن الصحابة فكفروا عليا رضي الله عنه وأصحابه، وكفروا أهل الكبائر من هذه الأمة، وحكموا على من ارتكب كبيرة بالخلود في النار والكفر، ثم خرجت المعتزلة وحكموا على الفاسق بالخلود في النار فوافقوا الخوارج في الحكم وخالفوهم بالاسم، فالخوارج يقولون: أهل الكبار كفار مخلدون في النار، والمعتزلة يقولون فاسقا ويخلدون في النار، وكلا الطائفتين خارجة عن الصراط المستقيم، وما عليه السلف الصالح من أهل الملة والدين، ثم تتابعت البدع وكثرت كبدعة القدرية، والمرجئة، والجهمية، وغير ذلك من البدع، التي حقيقتها مخالفة الكتاب والسنة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن الله تبارك وتعالى مَنَّ في آخر هذا الزمان في القرن الثاني عشر بظهور من دعا إلى ما دعت إليه الرسل وهو شيخ الإسلام وعلم الهداة الاعلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه، لأنه خرج في زمن فترة من أهل العلم تشبه الفترة التي بين الرسل، فدعا إلى الله وبصر الخلق بحقيقة ما خلقوا له من اخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه الذي هو أول مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، فجد واجتهد وأعلن بالدعوة، فعارضه من عارضه ممن استهوتهم الشياطين واجتالتهم عن فطرهم التي فطروا عليها، فقام في رد ما جاء به علماء السوء بشبهات وضلالات أوهن من بيت العنكبوت، واستعانوا بملاءهم من الرؤساء والأمراء، فجدوا في إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويعلي كلمته. (1)
ابن المؤقت (2) (1368 هـ)
__________
(1) الدرر السنية (11/122).
(2) مقدمة الرحلة المراكشية و'سل النصال' لعبدالسلام بن سودة (ص.139).(1/244)
محمد بن محمد بن عبدالله المؤقت المسفيوي أصلا المراكشي ولادة ونشأة، كان صوفيا أول أمره وألف في ذلك كتبا ثم رجع عن ذلك، وقد ثارت الطرق الصوفية ضده لما كتب كتاب 'الرحلة المراكشية' ويسمى أيضا 'السيف المسلول على المعرض عن سنة الرسول' وشكوه إلى باشا المدينة ثم إلى الملك محمد الخامس، ورد عليه مقدم الطائفة التيجانية القاضي أحمد السكيرج بكتاب سماه 'الحجارة المقتية لكسر مرآة المساوئ الوقتية' ثم رد عليه ابن المؤقت بكتاب بين فيه افتراءاته، إلا أن الكتاب صودر من السوق وأحرق مما يدل على أن المعركة بين الشيخ وخصومه بلغت ذروتها.
بلغت مؤلفاته أربعة وثمانين مؤلفا، طبع منها إحدى وأربعون، وأربعة ما تزال مخطوطة، وباقي هذه المؤلفات مفقود.
منها 'الرحلة المراكشية' و'الرحلة الأخروية' و'أصحاب السفينة' و'الجيوش الجرارة' و'الكشف والتبيان عن حال أهل الزمان' و'الحجة القوية على الطائفة اليهودية' و'مجموعة اليواقيت العصرية لتاريخ المشرق والمغرب' في ستة أجزاء و'السعادة الأبدية' و'لبانة القارئ من صحيح الإمام البخاري' و'بغية كل مسلم من صحيح مسلم' و'سبيل التحقيق في كشف الغطا عن مساوي كل طريق' و'سبيل السعادة في أحكام العبادة'.
كان مؤقتا بالمسجد الجامع ابن يوسف، وله في التوقيت وعلم الفلك عدة مؤلفات. توفي بمراكش سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف هجرية وقيل سنة تسع وتسعين.
هذا ولا يخلو كتابه الرحلة من أخطاء مثل انتصاره لإرسال اليدين في الصلاة وغير ذلك، وهذا من آثار التقليد المذموم، وكذا في كتبه الأخرى أخطاء وسقطات لعلها أيام تصوفه.
موقفه من المشركين:(1/245)
- ذكر رحمه الله تفشي الذبح للقبور والأضرحة في زمانه ثم قال: وإن لم يكن هذا كفرا فجهل عظيم، وغباوة جسيمة، وفي صحيح الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله من ذبح لغير الله" (1) .
قال بعض العلماء: كالذبح على أضرحة الأولياء، وهذه الذبيحة لا تؤكل لأنها مما أهل به لغير الله، ويتناول صاحبها اللعن. (2)
- وقال: وقد قلت في شدة لرجل يوما يستغيث ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني: قل يا الله. فقد قال سبحانه: وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (3) فغضب، وبلغني أنه قال: إن فلانا منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. (4)
- وقال: وقد صح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" (5) إلخ، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف ولا يطلب من سيد العالمين عليه الصلاة والسلام ولا من ضجيعيه المكرمين رضي الله عنهما شيئا، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة. (6)
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/108) ومسلم (3/1567/1978) والنسائي (7/266/4434) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) الرحلة المراكشية (ص.183).
(3) البقرة الآية (186).
(4) الرحلة المراكشية (ص.216-217).
(5) أخرجه: مسلم (2/669/974) وأبو داود (3/558-559/3237) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) الرحلة المراكشية (ص.218).(1/246)
- وقال: ومن بدعهم الحلف بغير الله مع ورود النهي عن ذلك، فمنهم من يحلف بمن اشتهر في الوقت بالصلاح.
ومنهم من يحلف بالأخوة والأبوة والطعام والمحبة، وأمثال هذا الخور الذي لا يخرج إلا من لسان أحمق أخرق لا يميز بين السماء والأرض.
وكل هذا ورد النهي عنه، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" (1) .
فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" تعرف أن الحلف بغير الله، ولو مما عظم الله كالكعبة والأولياء منهي عنه شرعا. (2)
- وقال: أما من حيث النذور في بلادنا اليوم، فلهم فيها ابتداعات قضت على أمر الدين، وتمكن إبليس اللعين من إدخال الفساد على الإسلام وأهله من هذا الباب حتى لا ترى مسلما اليوم إلا وهو بالوثني أشبه إلا ما قل.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رق العبودية لغير الله، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل.
وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده في سلطانه قف مكانك، ولا تغل في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق، لا رب معبود واعلم أنه لا إله إلا الله.
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/7) والبخاري (11/649/6646) ومسلم (3/1267/1646[3-4]) والترمذي (4/93/1534) وقال: "حسن صحيح". النسائي (7/7/3773) من طرق عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) الرحلة (ص.299).(1/247)
هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى. فقد ذلت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وصرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم فغلبوهم على أمرهم، وملكوا نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين.
والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي السبتي والجزولي والغزواني والتباع والسهيلي واليحصبي وأمثالهم في سائر الأقطار كما يقفون بين يدي الله.
يا قادة الأمة ورؤساءها، عذرنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها. وقلنا أن العامي أقصر نظرا وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والتماثيل والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله وتقرؤون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: إِنَّمَا { الْغَيْبُ } لِلَّهِ (1) وقوله مخاطبا لنبيه مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا } ضَرًّا (2) وقوله: وَمَا { رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (3) .
فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبرا، أو يتوسلون بضريح، وهل تعلمون أن واحدا منهم وقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجة، أو تفريج كربة وهل تعلمون أن السبتي والجيلاني والدسوقي وأمثالهم أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين.
__________
(1) يونس الآية (20).
(2) الأعراف الآية (188).
(3) الأنفال الآية (17).(1/248)
وهل تعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل، نهى عنها عبثا ولعبا، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى. وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منهما يجر إلى الشرك ويفسد عقيدة التوحيد. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال تحت عنوان "بيان ما عليه المدعون للصلاح وانتسابهم لطريق الصوفية": وما هذه الطوائف الوقتية إلا تلوينات عوجاء، بل أفاعي رقطاء، ابتكرتها مخيلة شيطانية، ومهما أردت التفاهم من أحد منهم والتعرف إلى شخصيته وما تنطوي عليه ضلوعه من الأماني والرغبات، وقمت تبحث عنه في ميادين جهاده، وساحات حروبه ونضاله، وقعت على أعمال تأباها شريعة خير المرسلين. (2)
- ثم قال: إنهم يلعبون بالشرع الشريف ويطبقون الدين على أهوائهم، ويفسرون القرآن بغير معناه، ويجعلون ذلك مصيدة للمال، ولا جدال في أن كثيرين من هذه الطوائف جناة على الأمة الإسلامية إما بجهلهم وجمودهم، وإما بتلاعبهم بالشرع، ومحاولتهم اصطياد الدنيا بشبكة الدين، وإذا قرعهم إنسان بما جاء من الكتاب أو السنة أطلقوا فيه ألسنتهم بالسب، بل ربما كفروه أو فسقوه أو رموه بكل شنيعة.
وبالجملة، فإن الجهل الذي عليه طوائف هذا الزمان جهل هائل لا دواء له إلا التعليم والإرشاد، ولو أن هذه الطوائف توقفت إلى أن تتربى تربية الكتاب والسنة، وتتأدب بآدابهما لاستراحت مما هي فيه من إثم وفساد ومما تعانيه من شرور وموبقات، ولكن: فَإِنَّهَا { لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (46) (3) .اهـ (4)
__________
(1) الرحلة (ص.320-321).
(2) الرحلة (ص.158-159).
(3) الحج الآية (46).
(4) الرحلة (ص.159).(1/249)
- ثم قال: وأما إصلاح دينك فبمتابعة الكتاب والسنة المحمدية لا غير. وأما التصوف في عصرنا اليوم؛ فقد أصبح زيه حبالة للدنيا وشباكه يصطاد بها قلوب من لا يعرفون من الدين إلا اسمه، وما هو إلا اغترارات بأباطيل يختلقها الجاهل، وتمسكات بخزعبلات يفتريها المدعون بهذه الدعوة الفادحة.
وقديما كشف علماء الشريعة الغطاء عن أمر هؤلاء المتصوفة، وبينوا مثالبهم ومخالفتهم للشرع القويم من كل وجهة، وأنهم أضل الناس من كل جهة، وليعلم كل واحد أن ليس المراد بقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا { بِحَبْلِ اللَّهِ } جَمِيعًا (1) طريقة من هذه الطرق التي تمسك بها هؤلاء، وحملهم على التمسك بها متفقهة أهلها بالإتيان ببعض الأدلة من الكتاب والسنة في غير محلها، واستعمالهم التقية في دعاويهم المشقية. (2)
- ثم أورد في ذم التصوف نقولات عن ابن الجوزي من 'تلبيس إبليس' وابن قيم الجوزية من 'إغاثة اللهفان' وغيرهما. وأنكر ما عليه الصوفية من أعمال بدعية شنيعة مثل الرقص حالة الذكر (3) ، والسماع (4) .
- ثم قال: وبالجملة فقد تأخر الأمر ودان جل الطوائف التي أصيب بها الإسلام بهمجيات خارجة عن الدين وانتصروا لأنفسهم وشياطينهم وحاربوا لأهوائهم أهل التقوى، ورأوا التمسك بالفساد أقوى. (5)
وبعد سرد جملة كبيرة من أسماء الطرق الصوفية بالمغرب قال: وهذه الطوائف كلها لو أردنا أن نأتي على جميع البدع والمفاسد التي تشبث بها عدد منهم، وما تولد منها لاحتاجت لمجلدات. وبكثرة هذه الطوائف وتباينها، انحط المغرب في أيامنا هذه وفيما قبلها بكثير، وسجل له على صفحات أيامه خرق وحمق ما بعده من خرق وحمق.
__________
(1) آل عمران الآية (103).
(2) الرحلة (ص.160).
(3) انظر الرحلة المراكشية (ص.171) و(ص.195).
(4) انظر الرحلة المراكشية (ص.168-169) و(ص.175).
(5) الرحلة (ص.189).(1/250)
وقد عانى علماء الدين الدافعون لهذه الداهية الدهماء مشاق جسيمة عرفها من عرفها، وأنكرها من لم يقف عليها، ولكن تغلبات الأحوال اقتضت فساد الأعمال. وإذا أمعنت النظر في تعدد طرق القوم، واختلاف أحوالهم، وتباين بعضهم بعضا، علمت أن سبب هذا الاختلاف، وكثرة المناكر، وتطرق البدع، إنما هو من جهة قوم تأخرت أزمنتهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت كل طريقة في هذه الأزمنة الأخيرة كأنها شريعة أخرى غير ما أتى به مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وأعظم من ذلك أن كل طريقة من هذه الطرق تتساهل في اتباع السنة وترى اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا. (1)
- وقال أيضا: وتعدد هذه الطوائف أقبح شئ في العصر، وكأن الدين ليس واحدا، وكأن ربه لم يكن واحدا، وكأن مبلغه عن ربه لم يكن واحدا.
وهذا التعدد يدعو إلى الشك، والشك يدعو إلى الإهمال، والإهمال يورث البغض، وعاقبة ذلك الهلاك في دار التحصيل، وفي دار الجزاء.
ومن حق علماء الدين أن يدفعوا هذا الباطل بقدر طاقتهم وقوتهم، لأن الباطل يفسد الحياة، ولأن انتشاره يورث الهلكة. (2)
موسى جار الله (3) (1369 هـ)
موسى بن جار الله التركستاني، القازاني، التاتاري، الروسي. تعلم في المدارس الإسلامية بمدينة قازان، ثم في بخارى، وتولى إمامة الجامع الكبير في بتروغراد، وحج وجاور بمكة ثلاث سنين، وعاد إلى بلاده، ثم قبض عليه وسجن، ثم اضطر إلى الهجرة، ومرض في مصر، وتوفي بها سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف.
موقفه من الرافضة:
له: 'الوشيعة في نقض عقائد الشيعة' وهو مطبوع متداول.
إبراهيم بن عبدالعزيز السويح (4) (1369 هـ)
__________
(1) الرحلة (ص.195).
(2) الرحلة (ص.213).
(3) الأعلام (7/320-321) ومعجم المؤلفين (13/36-37).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/334-336).(1/251)
الشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز بن إبراهيم السويح. ولد في بلدة روضة سدير سنة اثنتين وثلاثمائة وألف، ورحل إلى كثير من البلدان لطلب العلم، فقرأ في مدينة المجمعة، على الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى والشيخ عبدالله العنقري وغيرهما، وجاور في مكة وقرأ على علمائها، منهم الشيخ عبدالعزيز ابن مانع ومحمد عبدالرزاق حمزة. عين قاضيا في بلدة العلا ثم في بلدة تبوك. وكان فقيها نبيلا أديبا ماهرا، له أخلاق فاضلة، ذكيا، قوي الحافظة، ذا سكينة ووقار.
توفي رحمه الله في آخر رمضان سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
له كتاب 'بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال' رد فيه على كتاب 'هذه هي الأغلال' لعبدالله بن علي القصيمي، وقد وسم فيه الشرائع بأنها أغلال تحول دون التقدم الحضاري، وما تقدمت الدول الأوربية إلا حين تخلت عن دينها المسيحي. (1)
محمد بن المهابة (2) (1370 هـ)
العلامة اللغوي محمد المهابة بن سيدي محمد بن الطالب إميجن الجملي، ولد في ضواحي مدينة مقطع الحجار بولاية ألاك البراكنة عام ست وثلاثمائة وألف للهجرة، وحفظ القرآن في صغره، ثم تابع دراسته على علماء المنطقة، ومن أبرزهم الفاروق بن زياد الديماني والأمين بن الشيخ محمد الحجاجي ومحمد سالم بن حد. وبرع في الفقه واللغة وعلومها والحديث ومصطلحه، وكان شديد الذكاء متفوقا على أقرانه في الحفظ والفهم. ولازم الشيخ باب وتأثر به في عقيدته ومنهجه. حج والتقى ببعض العلماء السلفيين منهم محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. تولى التدريس والقضاء والفتيا في دائرة البراكنة. تتلمذ عليه محمد عمر بن محمد بلال الجملي، ومحمد بن تكدي اللمتوني، ومحمد الشيباني النجمري وغيرهم. ومن مؤلفاته: 'مذهب السلف في التفويض في آيات الصفات وأحاديثها'، وفتاوى مدونة في مجلد، وغيرهما.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/335).
(2) السلفية وأعلامها بموريتانيا (300 وما بعدها).(1/252)
توفي رحمه الله في أوائل ذي الحجة من عام سبعين وثلاثمائة وألف للهجرة في مدينة أندر بالسنغال.
موقفه من الصوفية:
جاء في السلفية وأعلامها في موريتانيا: كما ركز على نقد المتصوفة، فوصفهم بالغلو والبعد عن الحق، واستعباد أتباعهم وساق أبياتا في هذا المعنى. (1)
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: ...إن السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأتباعهم من الفقهاء، والمحدثين، مجمعون على إبقاء نصوص الكتاب والسنة على ظواهرها.. والسكوت عليها من غير تعطيل، ولا تشبيه، ولا تكييف، ولا تأويل، بل يعتقدونها حقا بلا تكييف، مع اعتقادهم أن الله تعالى ليس كمثله شيء.
وأضاف -رحمه الله- قائلا: إن هذا المذهب هو الذي كان عليه مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن المبارك -رحمهم الله- فقد روي عنهم كلهم أنهم أثبتوا الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، وقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، وهو قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.. وأما الجهمية فأنكروا ذلك، وتأولوا آيات الصفات وأحاديثها، وفسروها على غير ما فسر أهل العلم. (2)
ثم قال ما نصه: إن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد، وهو أصل كل خطأ، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث، والتفويض إلى الله في جميعها.. (3)
محمد عبدالله المدني (1371 هـ)
موقفه من المبتدعة:
ذكر الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله تعالى في ترجمته لهذا الشيخ، أنه كانت له اليد البيضاء في نشر العقيدة السلفية (بمالي - تنبكتو)، وأن الشيخ حماد ما عرف العقيدة إلا على طريقه، ووصفه بأنه مجاهد كبير وذكر له في مسودته قصائد في الدفاع عن العقيدة السلفية، التي رد بها على المبتدعة في تلك البلاد، فجزاه الله أحسن الجزاء.
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (310).
(2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (306).
(3) السلفية وأعلامها في موريتانيا (309).(1/253)
فوزان السابق (1) (1373 هـ)
فوزان بن سابق بن فوزان آل عثمان البريدي القصيمي الدوسري النجدي. ولد في بريدة سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، ونشأ بها وتعلم على يد مجموعة من الشيوخ منهم الشيخ سليمان بن مقبل والشيخ محمد بن عمر آل سليم والشيخ محمد بن عبدالله ابن سليم والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ وغيرهم. قال عنه صاحب الأعلام: كان من التقى والصدق والدعة وحسن التبصر في الأمور والتفهم لها على جانب عظيم. وكان رحمه الله من العلماء الأفاضل، وكان مع طلبه للعلم يشتغل بتجارة الخيل والمواشي حتى اختاره الملك عبدالعزيز ليكون سفيرا له بدمشق، ثم نقله إلى القاهرة، حيث بدأ دعوته إلى الله علما وعملا معرفا أهل مصر بمعتقد أهل السنة والجماعة ورادا على الطاعنين فيه، إلى أن توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له: 'البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار'. والكتاب مطبوع متداول يدل على قدرة المؤلف العلمية وتمسكه بالعقيدة السلفية.
- قال في مقدمته: أما بعد: فإني لما كنت في دمشق الشام، وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، جمعتني فيها مجالس مع أناس ممن يدعون العلم، وآخرين ممن ينتسبون إليهم. فكانوا لا يتورعون عن الاعتراض على أهل نجد والطعن عليهم في عقيدتهم، وتسميتهم بالوهابية، وأنهم أهل مذهب خامس، والغلاة من هؤلاء يكفرونهم.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/378-383) والأعلام (5/162) ومعجم المؤلفين (8/81-82).(1/254)
ولما كان هؤلاء الغلاة الجامدون على التقليد الأعمى: معرضين عن استقراء الحقائق في مسائل الدين من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الهدى والدين في هذه الأمة، وخصوصا الأئمة الأربعة، الذين يزعم هؤلاء الجاهلون تقليدهم، ويغالون فيه، ويقولون: إن من خرج عن تقليد أحد الأئمة الأربعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. ومع ذلك تراهم يخالفون الأئمة الأربعة فيما أجمعوا عليه من أصول الدين، وذلك في توحيد عبادة الله تعالى، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك في عبادته تعالى والإقرار بعلو الله تعالى على خلقه، وإثبات صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلقاها عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من علماء الأمة وأئمتها بالقبول والتسليم، إثباتا من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.
فقد أعرض هؤلاء المبتدعة عن اتباع الكتاب والسنة والسلف الصالح من هذه الأمة، ولم يقلدوا أحد الأئمة الأربعة، بل فتحوا باب الشرك في عبادة الله تعالى، ومثلوا صفاته تعالى بصفات خلقه، فقادهم ذلك إلى الجحود والتأويل الباطل. (1)
__________
(1) البيان والإشهار (3-4).(1/255)
- وقال: فأما قول هذا الملحد -يعني الحاج المختار- في مخاطبته لهؤلاء العلماء "إني أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع" مقدما لها، ومنوها بها على غيرها. فما ذاك إلا لأنها في مذهبه الباطل: أكبر بدعة في الدين، بل هي عنده: أكبر من جميع ما أسنده إليهم من أعمال المنافقين، وأعمال أهل الكتاب الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فإن كل من خالف هؤلاء الضالين في مذهبهم الباطل المخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - : يسمونه مجتهدا خارجا عن مذاهب الأئمة الأربعة، كما أنهم يسمون إجماعهم على ضلالهم ومن تبعهم من العوام "إجماع الأئمة" ومن خالفهم فقد خرق إجماع الأمة. فهذه براهينهم مبنية على الكذب والمغالطات، غير ملتفتين إلى ما أجمع عليه الأئمة الأربعة في أصول الدين، فضلا عن فروعه. وهذا الملحد جاهل أعمى متبع لهواه. لذلك يسمي الاجتهاد بدعة في الدين، ولم يدر هذا الجاهل الأحمق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوز اجتهاد الصحابة، واجتهد الصحابة من بعده، واتفق العلماء من كل مذهب: على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات، لا يجوز خلو عصر منه. (1)
ثم ساق قطوفا من كلام العلماء في ذلك.
- وقال: وأما قول الملحد: "ولا ريب أن دعواكم الرجوع لما كان عليه السلف الصالح" إلى آخر كلامه.
فجوابنا عنه: أننا بحمد الله لم نخرج عما كان عليه السلف الصالح حتى ندعي الرجوع إليه. هذا جوابنا إن كان يريد ذلك.
__________
(1) البيان والإشهار (10-11).(1/256)
وأما إن كان قصده: أننا ندعي اتباع السلف الصالح والرجوع إليهم، واتباع سبيلهم قولا وعملا: فهذا ما ندين الله تعالى به وندعو إليه، بل نقر إقرارا أصوليا لا إلزاميا: بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين -كالأئمة الأربعة وأمثالهم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة- كانوا على الكتاب والسنة، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم قامت السنة، وبها قاموا. فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وقد جاهدوا في دين الله حق جهاده والذب عنه، حتى لقوا ربهم، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
فأما الذين يدعون أنهم على مذهب السلف وأنهم مقلدون للأئمة الأربعة، وهم مخالفون لهم في الأصول، فضلا عن الفروع. فليسوا على مذهب السلف، ولا ممن قلدوا الأئمة الأربعة، وليسوا على كتاب ولا سنة -أمثال هذا الملحد، ومن قلدهم- وكيف يكون على مذهب السلف أو مقلدا للأئمة الأربعة: من لا يجيز التعبد والتعامل ولا الفتوى بما في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث التي صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتفاق الأمة؟ لا يخرج عن هذا الاتفاق إلا مبطل معاند. (1)
__________
(1) البيان والإشهار (17).(1/257)
- وقال -رادا على الملحد مختار في طعنه على أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب-: فنحن الوهابيون بحمد الله: أن هدانا إلى الحق، فأصل مذهبنا وقواعده كلها: في القرآن، ومنه أخذناها، وبه تلقينا سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقبول، وحكمناها على كل قول سواها. فأطعناه واتبعنا أمره، تصديقا وانقيادا لقوله تعالى: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) وقوله تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (92) (3) وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } (4) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (5) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (132) (6) وقوله تعالى: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } (7) وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } (17) (8) وقوله تعالى: أَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (33) (9)
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (80).
(3) المائدة الآية (92).
(4) الأنفال الآية (24).
(5) الأنفال الآية (46).
(6) آل عمران الآية (132).
(7) النور الآية (54).
(8) الفتح الآية (17).
(9) محمد الآية (33)..(1/258)
وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (71) (1) وقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (2) وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح !$xےّ9$# } (52) (3) وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ } عَلَيْهِمْ (4) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (12) (5) إلى غير ذلك من الآيات في القرآن كثير، يأمر جل ثناؤه فيها بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، أمرا مطلقا لم يقيده بشيء، كما أمر باتباع كتابه العزيز، الذي لَا { يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (42) (6) فمن لم يعمل بما صح من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتلقاها بالقبول التام، لاستقلالها بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام: فقد كذب القرآن ولم يؤمن بأن الله أرسل محمدا وأنزل عليه القرآن ليبلغه ويبينه للناس، وبهذا يتبين فساد ما افتراه هذا الملحد على الوهابيين في هذا البهت الشنيع. (7)
__________
(1) الأحزاب الآية (71).
(2) النور الآية (63).
(3) النور الآية (52).
(4) النساء الآية (69).
(5) التغابن الآية (12).
(6) فصلت الآية (42).
(7) البيان والإشهار (99-100).(1/259)
- وقال: وأما قوله: "زعموا أن القيام في المولد الشريف بدعة". فالجواب: أن القيام والقعود وإقامة الموالد كلها بدعة، إذا لم يقترن بها ما هو واقع فيها اليوم من المفاسد، وأنواع الفسوق. فإذا انضمت إليها هذه المنكرات التي يجب أن يصان عنها جناب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ويطهر ذكره عن أوساخها، فلا يشك عاقل -فضلا عن عالم- في أنها من البدع المحرمة التي لم تكن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عهد أصحابه ولا القرون المفضلة من بعدهم. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) وفي رواية: "من صنع أمرا على غير أمرنا فهو رد" (2) .
فهل لهذا الملحد أن يأتينا بدليل عن الله تعالى، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إقامة هذه الموالد، أو عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنه، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة الأربعة؟ وإذا كان هذا ليس معروفا من أقوال وأفعال من ذكرناهم، فلا شك ولا ريب في أنه مردود على قائله، مأزور فاعله بنص حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه آنفا. (3)
وقال: فأما قول الملحد: "فأسألكم من هم السلف؟ إلى آخره".
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) أخرجه أبو داود (5/12-13/4606) وأخرجه الإمام أحمد (6/73) بلفظ: "من صنع أمرا من غير أمرنا فهو مردود".
(3) البيان والإشهار (ص.299).(1/260)
فنقول له، وبالله التوفيق: سلفنا من أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وافترض الله علينا طاعته وتعظيمه وتوقيره، وسدَّ إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه. من عَلّم الله به من الجهالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما، وقلوبا غلفاً: سيد الأولين والآخرين، من جاءنا بها بيضاء نقية، القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (1) وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى في الموطأ (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: "وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله تعالى" (3) وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم. ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فأوصنا. فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً. فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، ولك بدع ضلالة" (4) وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب" -الحديث بطوله رواه النسائي وإسناده صحيح (5) ،
__________
(1) سيأتي تخريجه في مواقف حافظ الحكمي سنة (1377هـ).
(2) بلاغاً (2/899).
(3) تقدم تخريجه في مواقف أبي الزناد سنة (130هـ).
(4) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(5) السنن الكبرى (5/388/9223). وقد توبع عنده، انظر الأحاديث (9219-9226)..(1/261)
ورجاله رجال الصحيح، إلا إبراهيم الخثعمي، فإنه لم يخرج له الشيخان. وهو ثقة ثبت، ذكره الجزري. كذا في المرقاة واللمعات. قاله في الدين الخالص.
فليس لنا سلف سوى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما جاءنا به من كتاب ربه وسنته المطهرة، وما أرشدنا إليه من سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وأصحابه خيار هذه الأمة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، نعرف لهم فضلهم وأمانتهم، ونشهد بصدقهم وإمامتهم، لإرشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره لنا باتباعهم، واقتفاء أثرهم. فنحن مع نصوص الكتاب والسنة دائرون، ولمن قال بهما متبعون. لا تأخذنا فيهما لومة لائم. ولا يثنينا عنهما إرجاف منحرف في ضلالته هائم. فإن خفي علينا حكم، أو أشكل علينا فهم معنى، رجعنا فيه إلى من أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباعهم، فيسعنا ما وسعهم؛ فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة، فله الحمد والمنة، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. (1)
موقفه من المشركين:
__________
(1) البيان والإشهار (ص.19-20).(1/262)
- قال في كتاب 'البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار': وأما مسألة (اطلاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على علم الغيب) فإن هذا الملحد ومن اتبعه من المارقين من الدين، يزعمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب استقلالا، كما يعلمه الله تبارك وتعالى كَبُرَتْ { كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } (5) (1) وهذا الزعم ينكره كل مؤمن بالله وبكتابه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وكل مؤمن يؤمن بأن الله تعالى يطلع من يشاء من أنبيائه ورسله على بعض المغيبات. وهذه مسألة لا تحتاج إلى جدل، كيف ونصوص الكتاب الكريم ناطقة بذلك؟! يقول تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } (65) (2) .
__________
(1) الكهف الآية (5).
(2) النمل الآية (65).(1/263)
ويقول تعالى: قُلْ { لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (188) (1) ويقول تعالى: قُلْ { مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } (9) (2) وقال تعالى: عَالِمُ { الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ } رَسُولٍ (3) -الآية، وقال تعالى: وَلَا { أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي } مَلَكٌ (4) فمن لم يقف مع هذه النصوص، ويعطي كل ذي حق حقه. فقد جعل مع الله إلها غيره.
- قال الملحد: "البحث الثاني: في الزيارة، اعلم يا أخي -شرح الله قلبي وقلبك بنور الإخلاص- أن لنا معشر المؤمنين وجدانا في حب نبينا عليه الصلاة والسلام يكفينا عن الاستدلال والاستشهاد على ما نحن في صدده. فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق".
__________
(1) الأعراف الآية (188).
(2) الأحقاف الآية (9).
(3) الجن الآيتان (26و27).
(4) هود الآية (31).(1/264)
أقول: في كلام هذا الجاهل من الركاكة وسوء التعبير: ما هو اللائق بجهله وغروره في نفسه. إذ أنه لم يكن من الذين شرح الله صدورهم للإسلام، ونور قلوبهم بنور الإيمان المتلقى من مشكاة النبوة، وإنما هو من الجامدين على العادات الجاهلية، والتقاليد الوثنية، التي نشأوا عليها، وحكموها في وجدانهم الضال. فجعلوها دينا يقدمونها على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فلم يكن مصدر وجدانهم عن علم ولا هدى ولا نور، وإنما هي عن بلادة وتقليد أعمى، وغرور بما ورثوا من الجهالات والضلالات البعيدة كل البعد عن خالص الإيمان بالله وبرسوله، وما جاء به من عند الله تعالى من تعزيره وتوقيره، واتباع النور الذي أنزل معه. فمواجيدهم صادرة عن هوى نفوسهم الأمارة بالسوء، وعن وسوسة الشيطان الذي أضلهم عن سلوك سبيل المؤمنين. لذلك يقول الأحمق: "إنه يكتفي بوجدانه فيما يزعمه من حب نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاستدلال والاستشهاد لما هو في صدده" ويعني به: ما سيذكره من الغلو الذي آل بهم إلى الكفر الشنيع، ومن ثم حذر ونهى الله عنه ورسوله في حقه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفي حق كل مخلوق، وذلك فيما يموه به عباد القبور من اسم الزيارة عامة، وزيارة قبره الشريف خاصة، فإن حقيقة هذه الزيارة عندهم هي: دعاء الأموات، وصرف خالص العبادة لهم من دون الله فاطر الأرض والسموات. وأما محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : فإنها تبع لمحبة الله تعالى. وقد ادعى قوم محبة الله تعالى، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (1) وكل من ادعى ما ليس فيه، طولب بالدليل قُلْ { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (64) (2)
__________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) النمل الآية (64)..(1/265)
وكيف يدعي محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هو خصم لدعوته ودعوة إخوانه من الرسل، وهي توحيد الله تعالى؟ قال تعالى: وَمَا { أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (25) (1) وهذا الملحد وإخوانه من عباد القبور يصرفون العبادة للموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمونها زيارة القبور، ويقول هذا الأحمق بكل وقاحة: "فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق".
فنقول له: ومن أنت أيها الجهول الظلوم الكفار، حتى تكون متبوعا؟! ألست من حثالة الجهلة المقلدين، الدعاة إلى غير سبيل المؤمنين؟ فبعدا وسحقا للقوم الظالمين.
ثم يقال لهذا الإمعة: إن التنازع كل التنازع في الأذواق التي جعلتها أساس دينك؛ فبطل وانهار فوق رأسك أَفَمَنْ { زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (2) ولولا التنازع في الأذواق، ما كان في الدنيا راد ولا مردود عليه، ولا كان شيطان أبى واستكبر وكان من الكافرين. ولا كنت وسلفك من أولياء الشيطان الرجيم.
__________
(1) الأنبياء الآية (25).
(2) فاطر الآية (8).(1/266)
ثم إن هذا الأحمق قام يتهوس بكلام كله نفاق ورياء لا يهمنا. وليس هو من موضوعنا في شيء، إلا أنه زعم فيه "أن من لم يرقص ويتمرغ في الرمل في عرفات" وما ذكر معه من هراء القول والسخرية حيث قال: "فإنه لا يشعر بشيء، ولايدرك شيئا، ولا يجد لذة باغتنام أجر، ولا رغبة في زيادة فضل -إلى أن قال- بل قف في الحرم المكي، واصرف نظرك إلى الناس إذا قال المؤذن يا أرحم الراحمين ارحمنا. ترى من خر مصروعا. ومن علا نحيبه وبكاؤه، وشخص ببصره إلى السماء مندهشا" إلى آخر ما هذى به من هذه الخرافات والنفاق الخالص الذي ينضح بخبيث الشرك والكفر والفسوق عن أمر الله وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فإن هذا هو شأن هؤلاء المنافقين الدجالين الذين يتصنعون في هذه المجتمعات الشريفة أنواع الحيل لبلوغ مأرب في نفوسهم مكرا وخداعا، فليس هؤلاء السفلة -إخوان الحاج مختار- أفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أتقى لله، ولا أعرف به منهم، فإنهم لم يعملوا هذه الأعمال. فلم يرقصوا ولم يتمرغوا في الرمل، ولم يصرعوا متخبطين، كما يصرع حزب الشيطان من مس وليهم الشيطان الرجيم، وإنما كانوا كما وصفهم الله، وأثنى عليهم بقوله: الَّذِينَ { آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (28) (1) .
ثم قال الأحمق: "أما الأحاديث الواردة بفضل زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام، والأنبياء والأولياء والصالحين، وما يحصل منها من البركات والخيرات: فهي أكثر من أن تجمع في مختصر مثل هذا" إلى آخر ما هذى به.
__________
(1) الرعد الآية (28).(1/267)
فالجواب: أن الزيارة الشرعية لقبور موتى المؤمنين، من الأنبياء والأولياء والصالحين وكافة قبور المسلمين: سنة متفق عليها، لا خلاف فيها عند كافة المسلمين. وأما القبور الوثنية التي بنيت عليها القباب، وأقيمت عليها الأستار والأنصاب، وبنيت عليها المساجد، فكل ذلك مما لعن رسول الله فاعله.
وكذلك الزيارة البدعية الشركية المخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم من القرون المفضلة، وما يحدث بسببها من الغلو بأصحاب القبور وما يصرف لهم من أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء ونذر النذور لهم، وغيرها مما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى؛ فإن هذه هي الزيارة المحرمة وصاحبها ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذه هي الزيارة التي ننكرها وينكرها كل من نور الله بصيرته بهدى الإسلام، ورزقه فهما صالحا يميز به بين الحق والباطل.
وأما من أغواهم الشيطان: فإنهم يجعلون مع الله تعالى آلهة أخرى، يصرفون لهم ما لله من العبادة من الدعاء والخوف والرجاء، وغير ذلك مما عليه عباد القبور من الغلو بأصحابها. وهذا أمر واقع لا ينكره إلا مكابر معاند، أمثال الحاج مختار ومن قلدهم.
وأما قوله: "إن الشيطان أغوانا، وإننا نزعم أن زيارة قبور الرسل والأنبياء والتوسل بجاههم: شرك بالله تعالى".
فهذا كذب. والذي ننكره من ذلك: هو ما صح الخبر عن رسول الله بالنهي عنه، وكل ما فيه صرف حق الله تعالى لغيره كما تقدم ذكره آنفا.
وأما قوله: "إننا نتزلف للأمراء، وأن هذا التزلف منا أقبح من عبادة الأوثان والأصنام".
فهذا القول من هذا الملحد من هذر المجانين، ونزغات الشياطين، التي تحلى بها وبأمثالها من الأقوال الباطلة هذا الأحمق. (1)
__________
(1) البيان والإشهار (295-299).(1/268)
- وقال رحمه الله: إن هذا الملحد ومن قلده من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى -أمثال دحلان والنبهاني- ممن جعلوا الأموات وسائط بين الله وبين عباده، وصرفوا لهم خالص العبادة من دون الله تعالى. هؤلاء هم الذين أضلوا كثيرا من جهلة المسلمين، وفتحوا لهم أبواب الشرك في عبادة الله تعالى. وسموها زيارة القبور، وطلب الشفاعة من أهلها، وأن الأموات هم وسيلة الأحياء إلى الله تعالى، لأنهم أقرب منهم إلى الله تعالى، وسواء سموا هؤلاء المدعوين أنبياء أو أولياء، فإنهم عباد الله تعالى. يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا { أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } (3) (1) ويقول تعالى: أَمِ { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (44) (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة، نصوص بهذا المعنى لا تقبل تحريفا ولا تأويلا، قد صد عنها هؤلاء الوثنيون الذين تجب محاربتهم وإشهار ضلالهم، وتحذير جهلة المسلمين من سلوك سبيلهم، عملا بهذه الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (3)
__________
(1) الزمر الآيتان (2و3).
(2) الزمر الآيتان (43و44).
(3) البيان والإشهار (308-309).(1/269)
- وقال: يزعم هذا الملحد المارق بأننا أعداء لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وما ذنبنا عنده إلا اتباعنا لكتاب الله تعالى وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أننا لا نغلو بالقبور وأصحابها، ولا نصرف للمقبورين حقا من حقوق الله تعالى، ولا نتخذها مساجد، ممتثلين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءتنا به الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي خرجها البخاري ومسلم وأهل السنن والإمام مالك رحمهم الله تعالى. فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (1) وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" (2) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (3) وحديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل. فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" (4) وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، إذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن حجر الهيثمي سنة (973هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبدالهادي سنة (744هـ).
(3) أحمد (2/284) والبخاري (1/700/437) ومسلم (1/376/530) وأبو داود (3/553/3227) والنسائي (4/401/2046) وفي الكبرى (4/257/7092) من طرق عن أبي هريرة.
(4) مسلم (1/377/532).(1/270)
قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا (1) . وفي رواية مسلم "وصالحيهم" ومع هذه النصوص التي لا تقبل المغالطة. فقد بلغ الغلو بهذا الملحد مبلغا من الشرك لم يصل إليه إلا عبدة الأصنام. يقول عنا: "إننا لو جئنا إلى المدينة المنورة في شهر محرم حينما يأتي الزوار القافلون من الحج، ورأينا ما يفعله مئات ألوف الحجاج من مسلمي كافة الأقطار حول حجرة الرسول الطاهرة من الطواف والتوسل واللياذ بحماه. ونسمع عجيجهم وثجيجهم، وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيوننا وانفطرت قلوبنا، وانشقت أفئدتنا -إلى آخر ما ذكره".
__________
(1) أحمد (6/34) والبخاري (1/700/435 و436) ومسلم (1/377/531) والنسائي (2/370-371/702) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.(1/271)
ونحن نجيب هذا المارق: بأنه قد يصيبنا أكثر مما ذكره إذا رأينا وسمعنا ما يقوله عنهم مما يغضب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . وذلك أسفا منا على المسلمين الذين بدلوا الهدى ضلالا، والتوحيد شركا، وطاعة الرسول محادة ومشاقة. وكيف لا ينفطر قلب كل مسلم يرى تغيير معالم الدين، ويسمع الشرك برب العالمين في مهبط وحيه، وفي حرم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وفي جوار قبره الشريف؟! فهل فرض الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بغير الكعبة؟! وهل فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم أو التابعون لهم بإحسان من القرون المفضلة؟! وهل كان العجيج والثجيج والبكاء والنحيب إلا لله وحده لا شريك له في مناجاته في الخلوات، وفي بيته الحرام، ومشاعر الحج التي جعلها الله قياما للناس وأمنا يؤدون فيها مناسكهم بين العجيج والثجيج والبكاء والنحيب، لا يذكرون غير الله تعالى، ولا يتوسلون إليه إلا بالأعمال الصالحة عائذين بجلاله تعالى، لائذين بحماه الذي لا يرام وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (186) (1) أَمْ مَنْ { يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (62) (2) هذا هو خالص العبادة لله تعالى، بل مخها، صرفه عباد القبور لولائجهم الموتى من دون الله تعالى وَمَا { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } حُنَفَاءَ (3) فَبَدَّلَ { الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ } لَهُمْ (4) وما سبب ذلك إلا الغلو بالصالحين، ومجاوزة الحد الذي شرعه الله تعالى من حقوق أنبيائه وأوليائه.
__________
(1) البقرة الآية (186).
(2) النمل الآية (62).
(3) البينة الآية (5).
(4) البقرة الآية (59).(1/272)
قال تعالى: يَا أَهْلَ { الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } (1) -الآية، وقال تعالى: قُلْ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (77) (2) وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَقَالُوا { لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } (23) (3) : (هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح. فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصابا، وصوروا تماثيلهم. فلما مات أولئك ونسي العلم عبدت)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله" (4) وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له: ما شاء الله وما شئت: "أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده" (5) .اهـ (6)
عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (7) (1373 هـ)
__________
(1) النساء الآية (171).
(2) المائدة الآية (77).
(3) نوح الآية (23).
(4) أحمد (1/47) والبخاري (12/174/6830) مطولا. وأخرجه بدون محل الشاهد: مسلم (3/1317/1691) وأبو داود (4/572-573/4418) والترمذي (4/30/1432) وابن ماجه (2/853/2553).
(5) سيأتي تخريجه ضمن مواقف الشيخ الألباني سنة (1420هـ).
(6) البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج المختار (316-318).
(7) الأعلام (4/19-20).(1/273)
الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد ابن سعود، من آل مقرن. ولد في الرياض (بنجد) سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف. وخاض حروبا كثيرة من أجل توحيد البلاد، وكان شجاعا بطلا لا يخاف في الله لومة لائم، انتهى به عهد الفروسية في شبه الجزيرة العربية. وكان كريما لا يجارى، خطيبا، لا يبرم أمرا قبل إعمال الروية فيه، يستشير ويناقش، ويكره الملق والرياء.
توفي بالطائف ودفن في الرياض سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف رحمه الله تعالى.
كان هذا الملك على نهج سلفه في تبني العقيدة السلفية والدفاع عنها، وحمايتها وتأييدها بالمال والرجال والنفس، وكانت المملكة في عهده مأوى لكل سلفي. وكان رحمه الله يستطلع جميع البلاد الإسلامية، فكل من بلغه عنه أنه على هذه العقيدة المباركة، كاتبه، وإن أمكن أحضره إليه وقربه. وأما علماء بلده وخصوصا سلالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فلا تسأل عن الحفاوة والاستشارة وتعميدهم للفتوى، والفصل بين الناس. وكاتب رحمه الله الكثير من خارج قطره يدعوهم إلى عقيدة السلف ويشرحها لهم، ويبين لهم بطلان مزاعم الحاقدين على الدعوة السلفية، وأنما هو شيء اخترعه الحاسدون والحاقدون. وقد أمر رضي الله عنه بطبع كثير من كتب السلف وتوزيعها بالمجان على طلبة العلم، وله في ذلك سنن وأيادي بيضاء، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنة الفردوس.
موقفه من المبتدعة:
نموذج من رسائله السلفية:
جاء في الدرر السنية: من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى جناب الأخوين المكرمين الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي سلمهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو على نعمه التي من أجلها نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها، ونسأله أن يصلي على عبده ورسوله وحبيبه وخيرته من خلقه محمد وآله وصحبه وحزبه.(1/274)
ورد علينا ردكم على عبدالقادر الاسكندراني، فرأيناه ردا سديدا، وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود، فحمدنا الله على ما مَنَّ به عليكم من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشايخ المسلمين فاستحسنوه وأجازوه، فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين وشبه المارقين والملحدين، فلربنا الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يُثني به عليه خلقه، وهذه منة عظيمة ومنحة جليلة جسيمة حيث جعلكم الله في هذه الأزمان التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة من ينهى عن ذلك أو يغيره. فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك ويحذر عنه خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم من الكفر والشرك والبدع والمنكرات الفظيعة، فالعالم بالحق والعارف له والمنكر للباطل والمغير له يعد بينهم وحيدا غريبا.(1/275)
فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا، فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات لا سيما في هذا الزمان، الذي قل خيره وكثر شره، قال - صلى الله عليه وسلم - : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" (1) . وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" (2) . ونحن إن شاء الله من أنصاركم وأعوانكم.
ومن حسن توفيق الله لكم أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك، واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله. فإن الحق منصور وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية لأقوم منهج وطريق والسلام. (3)
عبدالله بن عبدالعزيز العنقري (4) (1373 هـ)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف أسد السنة سنة (212هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أسد السنة سنة (212هـ).
(3) الدرر السنية (1/303-305).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/265-279) والأعلام (4/99) والمستدرك على معجم المؤلفين (423-424).(1/276)
عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن العنقري من آل عبدالرحمن. ولد في بلدة ثرمداء سنة تسعين ومائتين وألف، وقتل والده وله من العمر سنتان، ثم كف بصره في السابعة من عمره، فتوجه إلى طلب العلم الشرعي، فقرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ إسحاق بن عبدالرحمن والشيخ محمد ابن محمود والشيخ حمد بن فارس وغيرهم. ولي القضاء بسدير، وانتدب من طرف الملك عبدالعزيز لمجموعة من المساعي الإصلاحية بين أطراف متعددة.
قال عنه الشيخ محمد بن مانع: كانت له عناية شديدة بالفقه الحنبلي، فصار له آثار حميدة في التحقيق والتدقيق، فقام بالتدريس والتأليف وكتابة الفتاوى المحررة التي سلك فيها مسلك التحقيق من ذكر الدليل والتعليل، والترجيح لما رجحه الدليل من أقوال المجتهدين. وقال عنه تلميذه سليمان بن حمدان: كان فيما بلغني يلقب بالحافظ، لما رزقه الله من سرعة الحفظ وقوة الإدراك، وكان مشايخه الذين أخذ عنهم يجلونه ويحترمونه، هذا مع ما هو عليه من الوقار والتعفف، والتواضع واطراح التكلف، وعدم مزاحمة أرباب المناصب عليها. ولم يزل رحمه الله معتنيا بنشر العلم والتدريس والتأليف إلى أن توفي رحمه الله في اليوم السادس من صفر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف في بلدة المجمعة.
موقفه من المبتدعة:
له: 'تعليقات على نونية ابن القيم' لا تزال مخطوطة.
فيصل بن عبدالعزيز آل فيصل آل مبارك (1) (1373 هـ)
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/392-402) والأعلام (5/168).(1/277)
فيصل بن عبدالعزيز بن فيصل بن محمد بن مبارك بن راشد آل حمد آل الحسيني العنزي ثم الوائلي. ولد في بلد عشيرته (حريملاء) سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم انتقلت أسرته إلى الرياض، وتوفي والده في المعركة التي دارت بين الملك عبدالعزيز وبين الأمير عبدالعزيز بن رشيد سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. تلقى العلوم الشرعية على شيوخ زمانه كالشيخ ناصر بن محمد بن ناصر والشيخ محمد بن فيصل ابن مبارك والشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم. بعثه الملك عبدالعزيز واعظا ومرشدا إلى بلدان الحجاز وتهامة، وتولى القضاء في عدة بلدان. وكان رحمه الله مولعا بكتب ومؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وكان يدرسها لطلبة العلم. وأوقاته كلها معمورة بالتدريس والإفادة، أخذ عنه الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب والشيخ عبدالعزيز العقل والشيخ حمود ابن متروك البليهد وغيرهم.
توفي رحمه الله في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف في مدينة سكاكة بالجوف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد'. (1)
سيد المختار بن عبدالملك (2) (1375 هـ)
__________
(1) علماء نجد (5/397).
(2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (334-337 مع الهامش).(1/278)
سيد المختار بن عبدالمالك الجكني. عالم جليل له اليد الطولى في القرآن الكريم وعلومه والفقه المالكي، وكان شيخ محضرة يدرس فيها العقيدة السلفية من الكتاب والسنة، والقرآن الكريم وعلومه، والفقه وأصوله، واللغة العربية وعلومها، مع قيامه بالفتيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اشتهر بالزهد والورع وقد عاش في الفترة ما بين ست عشرة وثلاثمائة وألف وخمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة كما قال تلميذه التلميدي بن محمود. وكان رحمه الله سلفي العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة، واقفا عندهما، متبعا للإمام مالك وابن أبي زيد القيرواني. درَّس أبناءه العقيدة السلفية. وكان رحمه الله يذم أهل الكلام وينتقد مناهجهم وينكر على المتصوفة.
موقفه من الجهمية:(1/279)
قال تلميذه وابن عمه التلميدي بن محمود وهو يحدثنا عن منهجه في العقيدة فيقول: كان شيخنا سيد المختار بن عبدالمالك -رحمه الله- سلفي العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، واقفا عندهما، مثبتا للصفات الإلهية على الوجه اللائق بالله عز وجل، من غير تشبيه، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تأويل، وكما هو معروف -يقول الشيخ التلميدي- فإن مسألة الاستواء من أولى المسائل التي احتدم فيها النزاع، واشتهر بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين الجهمية وغيرهم من طوائف المتكلمين من جهة أخرى. وقد كان الشيخ سيد المختار يقول فيها بما قاله الإمام مالك وغيره من السلف: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وما قاله ابن أبي زيد القيرواني: من أنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته. وقد منع الشيخ سيد المختار أولاده من دراسة العقيدة الأشعرية، وعلمهم العقيدة السلفية، من الكتاب، والسنة، وألزمهم بحفظ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان إذا طلب منه أحد تلاميذه أن يدرس له بعض المتون في العقيدة الأشعرية واضطر لذلك، لا يتجاوز ما يوافق مذهب السلف من تلك المتون، ويترك مما وراء ذلك من مذاهب المتكلمين، قائلا لمن يدرسه: هذا مذهب كلامي لا حاجة لك به فارم به عرض الحائط. وكان رحمه الله يذم أهل الكلام من أي مذهب كانوا، وينتقد مناهجهم وينكر على المتصوفة، ولا يقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم. (1)
عبدالرحمن بن ناصر السعدي (2) (1376 هـ)
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (336-337).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/218-272) والأعلام (3/340) وإتحاف النبلاء بسير العلماء للزهراني (1/43-75).(1/280)
العلامة عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر بن حمد، أبو عبدالله السعدي. ولد في بلدة عنيزة في اثني عشر للمحرم عام سبع وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، وكان والده واعظا وإماما في مسجد المسوكف. اشتغل بالعلم منذ صغره، ففاق الأقران، وكانت له عناية كبيرة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكتب أخرى في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول وغيرها. من شيوخه: الشيخ إبراهيم بن محمد بن محمد بن جاسر والشيخ محمد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن صالح الشبل والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع وغيرهم. من تلاميذه: الشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل والشيخ عبدالله بن الرحمن السعدي (ابن الشيخ) والشيخ عبدالعزيز بن محمد السلمان وغيرهم.
أثنى عليه مجموعة من علماء عصره، منهم الشيخ محمد حامد الفقي حيث قال فيه: لقد عرفت الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة فعرفت فيه العالم السلفي المحقق، الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشي وراءه لا يلوي على شيء. وقال فيه الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: كان قليل الكلام إلا فيما يترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض وكان كلامه قليلا إلا في مسائل العلم، وكان متواضعا حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل فرحمه الله رحمة واسعة.
وللشيخ من التراث السلفي:
1- 'الحق الواضح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين'، وهو مطبوع متداول.
2- 'توضيح الكافية الشافية لابن القيم'، وهو مطبوع كذلك.
3- 'التفسير' الذي أبدى فيه عقيدته السلفية. وقد ذكرته وبينت ما فيه من دفاع عن العقيدة السلفية في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (1) .
4- 'الدرة المختصرة في محاسن الإسلام'.
5- 'القواعد الحسان في تفسير القرآن'.
__________
(1) 2/694-700).(1/281)
6- 'تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله'.
7- 'وجوب التعاون بين المسلمين وموضوع الجهاد الديني'.
8- 'الدرة البهية - شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية'.
9- 'الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين'.
المصدر: ذكره أبو كمال عبدالغني عبدالخالق في مقدمته على الدرة البهية.
10- 'التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة'.
وهذه الكتب بحمد الله مطبوعة ومتداولة.
توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
كانت لهذا الإمام صولة وجولة في الدعوة إلى العقيدة السلفية، وانتفع به أهل القصيم خاصة والمسلمون عامة. له تراث سلفي جيد. ومن حسن الحظ أن طالبا في الدراسات العليا سجل رسالة علمية -الماجستير- في دراسة آثار الشيخ عبدالرحمن السلفية، وهو ابن الشيخ الفاضل الوقور المحترم عبدالمحسن بن حمد العباد أطال الله في عمره ونفع المسلمين بعلمه والابن هو عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد.
- من أقواله المباركة: قال رحمه الله في تفسير الفاتحة وهو يتحدث عما تضمنته من الفوائد: ...بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (6) لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة، واستعانة في قوله: إِيَّاكَ { نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اخب. فالحمد لله رب العالمين. (1)
__________
(1) تفسير السعدي (1/38).(1/282)
- وقال: فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، ولا يؤمنون ببعضه، إما بجحده أو تأويله، على غير مراد الله ورسوله، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم، بما حاصله عدم التصديق بمعناها، وإن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. (1)
- وقال عقب قول الله تعالى: ôtPِquّ9$# { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (2) : ولهذا كان الكتاب والسنة، كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين، وأصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم، أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم، إلى علوم غير علم الكتاب والسنة من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه. وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله. (3)
__________
(1) تفسير السعدي (1/43).
(2) المائدة الآية (3).
(3) تفسير السعدي (2/242-243).(1/283)
- وقال في قوله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } (4) (1) . أي: ومن الناس طائفة وفرقة، سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق. والحال، أنهم في غاية الجهل ماعندهم من العلم شيء. وغاية ما عندهم، تقليد أئمة الضلال، من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار. كُتِبَ { } عَلَيْهِ أي: قدر على هذا الشيطان المريد أَنَّهُ { مَنْ } تَوَلَّاهُ أي: اتبعه فَأَنَّهُ { } يُضِلُّهُ عن الحق، ويجنبه الصراط المستقيم وَيَهْدِيهِ { إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } احب. وهذا نائب إبليس حقا، فإن الله قال عنه: ¨$yJ¯Rخ) { يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (6) (2) .
فهذا الذي يجادل في الله، قد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس. وهو متبع ومقلد لكل شيطان مريد، ظلمات بعضها فوق بعض. ويدخل في هذا جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم. (3)
__________
(1) الحج الآيتان (3و4).
(2) فاطر الآية (6).
(3) تفسير السعدي (5/273).(1/284)
- وقال في قوله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } (9) (1) : المجادلة المتقدمة للمقلد، وهذه المجادلة للشيطان المريد، الداعي إلى البدع. فأخبر أنه يُجَادِلُ { فِي } اللَّهِ أي: يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق، بِغَيْرِ { } عِلْمٍ صحيح وَلَا { } هُدًى أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه، لا عقل مرشد، ولا متبوع مهتد.
ںwur { كِتَابٍ مُنِيرٍ } (8) أي: واضح بين، فلا له حجة عقلية ولا نقلية. إن هي إلا شبهات، يوحيها إليه الشيطان وَإِنَّ { الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ } (2) . مع هذا ثَانِيَ { } عِطْفِهِ أي: لاوي جانبه وعنقه، وهذا كناية عن كبره عن الحق، واحتقاره للخلق. فقد فرح بما معه من العلم الغير النافع. واحتقر أهل الحق، وما معهم من الحق. } لِيُضِلَّ { الناس أي: ليكون من دعاة الضلال. ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال. ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: لَهُ { فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } (3) أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة. وهذا من آيات الله العجيبة، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر والضلال، إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة، والبغض، والذم، ما هو حقيق به، وكل بحسب حاله. وَنُذِيقُهُ { يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } (9) أي نذيقه حرها الشديد، وسعيرها البليغ، وذلك بما قدمت يداه. (4)
__________
(1) الحج الآيتان (8و9).
(2) الأنعام الآية (121).
(3) الحج الآية (9).
(4) تفسير السعدي (5/277-278).(1/285)
- وقال: كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر. ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام فقال: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته. وأن نص الرسول على حكم الشيء، كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله. (2)
- وجاء في الفتاوى السعدية عنه قال: البدعة: هي الابتداع في الدين، فإن الدين: هو ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة. وما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة: فهو من الدين. وما خالف ذلك: فهو البدعة. هذا هو الضابط الجامع.
وتنقسم البدعة بحسب حالها إلى قسمين: بدع اعتقاد، ويقال لها: البدع القولية، وميزانها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في السنن: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (3) .
فأهل السنة المحضة: السالمون من البدع، الذين تمسكوا بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الأصول كلها، أصول التوحيد والرسالة والقدر، ومسائل الإيمان وغيرها.
وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة، ومن تفرع عنهم: كلهم من أهل البدع الاعتقادية، وأحكامهم متفاوتة بحسب بعدهم عن أصول الدين وقربهم، وبحسب عقائدهم أو تأويلهم، وبحسب سلامة أهل السنة من شرهم في الأقوال والأفعال وعدمه. وتفصيل هذه الجملة يطول جدا.
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) تفسير السعدي (7/332-333).
(3) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).(1/286)
والنوع الثاني: بدع عملية، وهو أن يشرع في الدين عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله. وكل عبادة لم يأمر بها الشارع أمر إيجاب، أو استحباب، فإنها من البدع العملية، وهي داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد" (1) . ولهذا كان من أصول الأئمة، الإمام أحمد وغيره: أن الأصل في العبادات: الحظر والمنع، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.
والأصل في المعاملات والعادات: الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
ولهذا نقول: من قصور العلم جعل بعض العادات التي ليست عبادات بدعا؛ لا تجوز؛ مع أن الأمر بالعكس، فإن الذي يحكم بالمنع منها وتحريمها هو المبتدع. فلا يحرم من العادات إلا ما حرمه الله ورسوله. بل العادات تنقسم إلى أقسام:
ما أعان منها على الخير والطاعة، فهو من القرب.
وما أعان على الإثم والعدوان، فهو من المحرمات.
وما ليس فيه هذا ولا هذا، فهو من المباحات. والله أعلم. (2)
- وفيها: ولولا الجهل بما جاء به الرسول، والتعصبات الشديدة، وإقامة الحواجز المتعددة، والمقاومات العنيفة لمنع الجماهير والدهماء من رؤية الحق الصريح، والدين الصحيح، لم يبق دين على وجه الأرض سوى دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لدعوته وإرشاده إلى كل صلاح وإصلاح، وخير ورشد وسعادة. ولكن مقاومات الأعداء، ونصر القوة للباطل بالتمويهات والتزويرات، وتقاعد أهل الدين الحق عن نصرته، هي الأسباب الوحيدة التي منعت أكثر الخلق من الوقوف على حقيقته. (3)
موقفه من المشركين:
__________
(1) أخرجه: أحمد (6/180) ومسلم (3/1343-1344/1718[18]).
(2) الفتاوى السعدية (ص.51-52).
(3) الفتاوى السعدية (ص.34).(1/287)
- من كلامه رحمه الله: فتمام التوحيد بتمام الإخلاص لله في الاعتقاد والقول والعمل، وبتمام معرفته لله تعالى إجمالا وتفصيلا، وتأصيلا وتفريعا... وكلما ضعفت منه هذه الأمور، ضعف توحيده. ولهذا كان الشرك في الربوبية، والشرك في الإلهية، والشرك في العبودية، والشرك في أسماء الله وصفاته وأفعاله، منافيا كل المنافاة للعبودية التي هي غاية الحب، مع غاية الذل، لأن من زعم أن لله شريكا في ربوبيته وتدبيره، أو أن له سميا أو مثيلا في صفات كماله، فقد أشرك بربوبية الله، وساوى غير الله بالله، بل ساوى المخلوق بالخالق، والمعبد المدبر بالرب المدبر. ونفى خصائص ألوهية الله تعالى التي حقيقتها تفرده بجميع الكمال. ومن أشرك في عبوديته وإخلاصه، بأن صرف نوعا من عبوديته لغير الله تعالى، فقد نقص توحيده، وأفسد دينه الذي هو الإخلاص المحض، أَلَا { لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } (1) .
فأي حب وأي ذل يشتبه بهذا أو يقاربه، إلا حب وذل هو عبودية لغير الله، وشرك به؟ وهي المحبة الشركية الصادرة من المشركين التي مضمونها تسوية آلهتهم برب العالمين، في الذل والتعظيم والحب، ولهذا يقولون في وسط جهنم، معترفين بشركهم، نادمين أشد الندم، شاهدين بغاية ضلالهم: قَالُوا { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (97) (2) .
ومع أن هذا شرك في توحيدهم، فإنهم لا يساوون المؤمنين في حبهم وتعظيمهم، قال الله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (3) .اهـ (4)
__________
(1) الزمر الآية (3).
(2) الشعراء الآيتان (96و97).
(3) البقرة الآية (165).
(4) الفتاوى السعدية (20-21).(1/288)
- وقال رحمه الله في حديثه عن أنواع التوسل: النوع الثاني: التوسل إلى الله بذوات المخلوقين وجاههم. فهذا: الصواب أنه لا يحل، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بما شرع، وهذا ليس بمشروع. وأيضا فذوات المخلوقين، وإن كان لهم عند الله مقام وقدر وجاه، فهذا ليس لغيرهم، وليس التوسل بهم سببا لشفاعتهم للمتوسل عند الله. ولم يجعله الله من الأمور المقربة إليه، وليس ذلك إلا توسلا بما من الله به على المتوسل، فتعين أنه لا يجوز.
النوع الثالث: ما يسميه المشركون توسلا، وهو التقرب إلى المخلوقين بالدعاء والخوف والرجاء والطمع، ونحو ذلك. فهذا وإن سموه توسلا، فهو توسل إلى الشيطان لا إلى الرحمن، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفر لصاحبه إن لم يتب. والله أعلم. (1)
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: وقعت مناظرة بيني وبين رجل من الفضلاء، ولكنه يميل إلى مذهب المتكلمين المنحرفين الذين يقولون بأن العقل يقدم على النصوص الشرعية إذا تعارضت، وأنه يجب تأويل النصوص حتى تتفق مع العقل في مسألة الاستواء والنزول الإلهي ونحوها تبعا لأسلافه، فقلت له: -حين أوَّل، بل حَرَّفَ نصوص الشرع من جنس التحريفات التي يقولها المتكلمون من الجهمية، ومن وافقهم من الأشعرية ولو في بعض الصفات- الموجه إليه الخطاب في هذا المقام أحد رجلين:
إما رجل لا يعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقه؛ فهذا يتكلم معه في الأصل في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان براهينها القوية الظاهرة الكثيرة، فأعيذك بالله أن تكون هذا الرجل، بل أعرف أنك من أعظم من يكفره ولا يعتقد إسلامه.
__________
(1) الفتاوى السعدية (24).(1/289)
والرجل الثاني: من يعلم أن محمدا رسول الله حقا، وأنه صادق وما جاء به ثابت لا ريب فيه، وأنه إذا أخبرنا بشيء نجزم بثبوت ما أخبرنا به، وأنت لا شك تقول بهذا؛ ومن قال بهذا، فإنه يمتنع عنده أن يجعل العقل مقدما على خبر الرسول الصحيح الثابت، فإيمانك بالرسول وتصديقك له في كل ما أخبر به يوجب عليك أن تقدم قوله وخبره على كل شيء، عقل أو غير عقل.
ثم اعلم يا أخي مع ذلك أنه لا يمكن أن يوجد معقول صحيح مسلم فيه عند عقلاء الناس يعارض ما جاء به الرسول، فمدلول كلام الرسول صدق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، وإذا أصررت أن العقل الذي تدعيه يناقض هذه النصوص، فهذه دعوى يتمكن كل مبطل من قولها، ولا تغني شيئا باتفاق الناس، فإن عقول أهل الحق المثبتين ما أثبته الله ورسوله كلها متفقة على معنى ما قاله الله ورسوله خاضعة لذلك، مهتدية به، قد ازدادت عقولهم قوة وهداية حين استنارت بالوحي، فلا يرضى عاقل أن يقدم عليها آراء المتكلمين المتهافتة المتناقضة المبنية على الخيالات والتوهمات.
فقال: ليس عندي شك في صدق الرسول وثبوت خبره، ولكني لا أفهم من الاستواء إلا من جنس استواء الملوك على عروشهم، ولا من النزول إلا نزول المخلوقين من أعلى إلى أسفل، والله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين.
فقلت له: إننا لم نثبت استواء مثل استواء المخلوق، ولا نزولا كنزوله، وإنما نثبت ما أثبته الله منها ومن غيرها على وجه يليق بعظمة الله ويناسب كماله، مع اعتقادنا أن الله ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن النقائص وعن مماثلة المخلوقين، فعلينا أن ننتهي إلى الكتاب والسنة، ولا نتجاوز ذلك، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، والنزول معلوم والكيف مجهول.
فسكت هذا المتأول، وسكوته يدل على أحد أمرين: إما رجوع إلى الصواب، وإما عجز عن نصر باطله، ولكنه تعصب ورضي بالبقاء عليه، وهو الظاهر، إذ لو رجع لصرح لمناظره بذلك.(1/290)
واعلم أن التأويل الذي قبله أهل العلم هو الذي يقصد به بيان مراد المتكلم، فإن لم يكن كذلك، كان من باب التحريف لا من باب التفسير، وتأويلات أهل البدع لبدعهم هي من هذا الباب. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: الدين والإيمان يشمل القيام بأصول الإيمان الستة، وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإحسان التي هي أعمال القلوب التي أصلها الإحسان: "أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، كما هو مذكور في حديث جبريل (2) .
ويترتب على هذا أن المؤمنين ثلاثة أقسام:
سابقون بالخيرات، وهم الذين حققوا هذه الأمور ظاهرا وباطنا، وقاموا بواجبها ومستحبها.
ومقتصدون، وهم الذين اقتصروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.
وظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
ويترتب على هذا أن الإيمان يزيد بزيادة هذه الأمور كثرة وجودة، وينقص بنقص شيء منها، ويترتب على هذا أيضا أن العبد يكون فيه خير وشر وأسباب ثواب وأسباب عقاب، وخصال كفر ونفاق وخصال إيمان.
ويتفرع على هذا أنه يستحق من المدح والذم، ومن الثواب والعقاب، بمقدار ما قام به من هذه الأمور المقتضية لآثارها من ثواب وعقاب، ومدح وقدح، وهذا مقتضى حكمة الله وعدله وفضله. (3)
- وقال رحمه الله: في (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها أو أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (4) .
__________
(1) مجموع الفوائد (116-118).
(2) تقدم خريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(3) مجموع الفوائد (16-17).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).(1/291)
هذا الحديث من أعظم أدلة السلف على أن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنه درجات متفاوتة، أعلاها وأفضلها على الإطلاق شهادة التوحيد، فإنها الأساس الأعظم لجميع أمور الإيمان، وأدناها أقل إحسان يتصور: "إماطة الأذى عن الطريق"، وخص الحياء بالذكر، لأنه يدعو إلى كل خلق جميل وعمل صالح، وينهى عن ضده.
وقد صنف العلماء رحمهم الله في تعداد شعب الإيمان، وتحقيقها: كل عقيدة صحيحة، وإرادة محمودة، وخلق جميل، وعمل صالح، والتفاصيل الواردة في الكتاب والسنة ترجع إلى ذلك:
* فمنها: الأصول الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ والشرائع الخمس: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فرض ذلك ونفله.
* ومنها: أعمال القلوب؛ كمحبة الله، وخوفه، ورجائه وحده، والإخلاص له في كل شيء، والتوكل عليه، والحياء، والصبر، والإنابة، والتقوى، والورع.
* ومنها: النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
* ومنها: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والأصحاب والمعاملين.
* ومنها: التواضع للحق والخلق.
* ومنها: ذكر الله على اختلاف أنواعه، وتعلم العلوم النافعة وتعليمها، وكمال المتابعة للرسول، والاستقامة على دينه وهديه وسنته.
* ومنها: القيام بحقوق الأهل والمماليك من الآدميين والبهائم... إلى غير ذلك مما حث عليه الكتاب والسنة. والله أعلم. (1)
- وقال رحمه الله: وذلك أن أهل السنة والجماعة، يعتقدون ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الإيمان: تصديق القلب المتضمن لأعمال الجوارح، فيقولون: الإيمان اعتقادات القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، وأنها كلها من الإيمان...
__________
(1) مجموع الفوائد (85-87).(1/292)
وأن من أكملها ظاهرا وباطنا، فقد أكمل الإيمان، ومن انتقص شيئا منها، فقد نقص إيمانه. وهذه الأمور بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. ويرتبون على هذا الأصل: أن الناس في الإيمان درجات: مقربون، وأصحاب يمين، وظالمون لأنفسهم، لأنهم بحسب مقاماتهم في الدين والإيمان، وأنه يزيد وينقص. فمن فعل محرما، أو ترك واجبا، نقص إيمانه الواجب، ما لم يتب إلى الله.
ويرتبون على هذا الأصل: أن الناس ثلاثة أقسام: منهم من قام بهذه وبحقوق الإيمان كلها، فهو المؤمن حقا، ومنهم من تركها كلها، فهذا كافر بالله. ومنهم من فيه إيمان وكفر، وإيمان ونفاق، وخير وشر، ففيه من ولاية الله، واستحقاقه لكرامته، بحسب ما معه من الإيمان، وفيه من عداوة الله واستحقاقه لعقوبة الله، بحسب ما ضيعه من الإيمان.
ويرتبون على هذا الأصل: أن كبائر الذنوب وصغارها، لا تصل بصاحبها إلى الكفر، ولكنها تنقص الإيمان، من غير أن تخرجه من دائرة الإسلام، ولا يخلد صاحبها في النار، ولا يطلقون عليه اسم الكفر، كما تقوله الخوارج، أو ينفون عنه الإيمان، كما تقوله المعتزلة، بل يقولون: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. فمعه مطلق الإيمان. أما الإيمان المطلق فينفى عنه.
وهذه الأصول إذا عرفت وجهها، يحصل بها الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة. (1)
موقفه من القدرية:
__________
(1) الفتاوى السعدية (14-15).(1/293)
- جاء في الفتاوى السعدية: المسألة السابعة والعشرون "اعملوا فكل ميسر لما خلق له": لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن قضاء الله وقدره سابق للأعمال والحوادث، وقال بعض الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله؟ أجابه بكلمة جامعة مزيلة للإشكال، موضحة لحكمة الله في قضائه وقدره، فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له" (1) .
وذلك شامل لأعمال الخير والشر، وللآجال والأعمار والأرزاق وغيرها. فإن الله بحكمته قد جعل مطالب ومقاصد، وجعل لها طرقا وأسبابا، فمن سلك طرقها وأسبابها التامة يسر لها، ومن ترك السبب، أو فعله على وجه ناقص لا يوصل إلى مسببه، لم يحصل له، ويسر لضده.
فكما أن الأرزاق ونحوها منوطة بقضاء الله وقدره، ومع ذلك إذا ترك العبد السبب الموصل إلى الرزق، أو فعله على وجه ناقص، لم يتم له ما أراد، وإذا يسر له سبب الرزق من أي نوع كان، يتيسر له بحسبه. كذلك الأعمال الموصلة إلى الجنة: من يسر إلى سلوكها تامة لا نقص في شيء من مكملاتها، ولا وجود لمانع من موانعها، فقد علم أنه مخلوق للسعادة، وضد ذلك بضده.
فالقضاء والقدر موافق للأسباب، لا مناف لها، شرعا وعقلا وحسا، فإنه قدر الأمور بأسبابها وطرقها، وهو أعلم بها ومن يسلكها، ومن لا يسلكها. فسبق علمه وتقديره لها، لا يوجب ترك العمل، وإنما يوجب السعي التام لمن أحاط علمه بذلك، وعرفه حق المعرفة.
فكما أن من ترك النكاح، وقال: إن قدر لي ولد، جاءني ولولم أتزوج... ومن ترك الغرس والحرث، وقال: إن قدر لي زرع وثمرة، حصلا ولو لم أزرع... ومن ترك الحركة في طلب الرزق، وقال: إن قدر لي رزق، أتاني من دون سعي وحركة...
__________
(1) أخرجه من حديث علي: أحمد (1/82،129) والبخاري (8/919/4949) ومسلم (4/2039-2040/2647) وأبو داود (5/68-69/4694) والترمذي (4/388/2136) وابن ماجه (1/30-31/78).(1/294)
من فعل ذلك، عد أحمق جاهلا ضالا. فكذلك من قال: سأترك الإيمان، والعمل الصالح، والله إن كان قدر سعادتي حصلت، فهو أعظم جهلا وضلالا وحمقا من ذلك. وهذا واضح، ولله الحمد. (1)
- وفيها: المسألة الثامنة والعشرون: الاحتجاج بالقدر.
الاحتجاج بالقدر على الشرك والكفر وأنواع المعاصي احتجاج باطل، لأنه يدفع أمر الله ورسوله، ويعتذر به عن معاصيه لله، وذلك من أكبر الظلم والجهل، والضلال.
وكذلك احتجاج العبد بعد وقوع ما يكره بأن يقول: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، فإنه تقول على الله، وتكذيب لقدره الواقع لا محالة. وأما الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به، والتوحيد لله، والتوكل عليه، والنظر إلى سبق قضائه وقدره، فهو محمود مأمور به، وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية، فإنه يوجب للعبد شهود منة الله عليه، بسبق قدره وإحسانه.
وكذلك إذا فعل العبد ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه، ثم لم يحصل له مراده بعد اجتهاده، فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره، كان محمودا نافعا للعبد، مريحا لقلبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "وإذا غلبك أمر فقل: قدر الله، وما شاء فعل" (2) .
وكذلك إذا احتج به، بعد التوبة من الذنب، ومغفرة الله له، على وجه الإيمان به، كان حسنا، كما حج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام.
__________
(1) الفتاوى السعدية (62-63).
(2) أخرجه بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة: أحمد (2/366،370) والنسائي في الكبرى (6/159/10457) وابن ماجه (2/1395/4168). وأصله عند مسلم (4/2052/2664) بلفظ: "وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله...". وابن ماجه (1/31/78).(1/295)
وكذلك ينفع النظر إلى القضاء والقدر، ليبعث العبد على الجد والاجتهاد في الأعمال النافعة الدينية والدنيوية. فإنه إذا علم أن الله قدر الوصول إلى المطالب والمقاصد بالأسباب المأمور بها، جد واجتهد، عكس ما يظنه كثير من الغالطين أن إثبات القدر يثبط، بل ينشط العاملين أبلغ مما لو كان الأمر لم يقدر له غاية. وكذلك ينفع النظر إلى القدر عند وجود المخاوف المزعجة، فإنه من علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، اطمأن قلبه، وسكنت نفسه، ولم ينزعج للأسباب المخوفة، بل يتلقاها بسكينة وطمأنينة، ويقوم بما أمر بالقيام به عندها.
وكذلك نفعه في المصائب وحلول المحن عظيم، فإنه من يؤمن بالله يهد قلبه. فإذا أصيب بمصيبة يعلم أنها من عند الله رضي وسلم لأمر الله وحكمه، واحتسب أجره لله وثوابه.
فهذا التفصيل في مسألة النظر إلى القضاء والقدر، والاحتجاج به، يأتي على جميع الأحوال، ويتبين أن منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم. والله أعلم. (1)
- وفيها: المسألة السادسة: الإيمان بالقدر: يتفق مع الأسباب.
مباشرة الأسباب، والاجتهاد في الأعمال النافعة، تحقق للعبد تمام الإيمان بالقضاء والقدر.فإن الله قدر المقادير بأسبابها وطرقها، وتلك الأسباب والطرق هي محل حكمة الله، فإن الحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها اللائقة بها... فقضاء الله وقدره وحكمته، متفقات، كل واحد منها يمد الآخر ولا يناقضه. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل وقيل له: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، وأدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قضاء الله وقدره؟ فقال: "هي من قضائه وقدره" (2) .
__________
(1) الفتاوى السعدية (64-65).
(2) أخرجه من حديث أبي خزامة عن أبيه: أحمد (3/421) والترمذي (4/349/2065) وابن ماجه (2/1137/3437) والحاكم (4/199). وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله بشواهده (انظر تخريج أحاديث مشكلة الفقر رقم 11).(1/296)
فهذه الأسباب حسية ومعنوية روحانية، وحمية عما يضر، وهي في مقدمة الأسباب، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها من قضاء الله وقدره. فمن زعم أنه مؤمن بالقدر وقد ترك الأسباب النافعة الدينية والدنيوية التي عليها نظام القدر، فهو غالط. فإن المؤمن بالقدر، يجري على أحكامه، ويعمل على سنته ونظامه، ويتبع النافع في إحكامه وإبرامه، والله المعين الموفق.
وتوضيح ذلك أن أقدار الله كلها تابعة لحكمه وحكمته، فكما أن أفعاله تعالى كلها محكمة في غاية الإحكام والانتظام، ما ترى في خلق الرحمن من خلل ولا نقص ولا فطور ولا اختلال، ولا في شرعه من عبث وسفه ومنافاة للحكمة والمصلحة والإحسان، فكذلك أفعال المكلفين دينيها ودنيويها، ظاهرها وباطنها، كلها تجري على وفق الحكمة والغايات الحميدة، وأنه كلما عظم المقصود، وكثرت منافعه ومصالحه لم يمكن إدراكه إلا بسلوك الطرق المفضية إليه.
فأعظم المقاصد على الإطلاق نيل رضا الله، والفوز بثوابه، والسلامة من عقابه.
وقد جعل الله له الإيمان وشعبه الظاهرة والباطنة، والقيام بعبودية الله، وإخلاص الدين له، ولزوم الاستقامة والتقوى جعلها الله طرقا وأسبابا توصل إليه.
فما لم يسلك العبد هذا السبيل، فمحال أن يصل إلى رضوان ربه وثوابه، فاتكال الأحمق على القدر بدون جد واجتهاد، قدح في القدر والشرع جميعا. وكذلك المطالب الأخر، كنيل العلم، وإدراكه: هل يمكن بغير جد واجتهاد ومواصلة الأوقات في طلبه، وسلوك الطرق المسهلة له؟ فمن قال: إن قدر لي، أدركت العلم، اجتهدت أم لا، فهو أحمق. كما قال بعضهم:
تمنيت أن تمسي فقيها مناظرا ... بغير عناء، والجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة ... تلقيتها فالعلم كيف يكون
وهكذا: من ترك الزواج، وقال: إن قدر لي أولاد حصلوا، تزوجت أو تركت.
ومن رجا حصول ثمر أو زرع، بغير حرث وسقي وعمل، متكلا على القدر، فهو أحمق مجنون. وهكذا سائر الأشياء دقيقها وجليلها.(1/297)
فعلم أن القيام بالأسباب النافعة، واعتقاد نفعها، داخل بقضاء الله وقدره، دون الإخلاد إلى الكسل، والسكون مع القدرة على الحركة، هو الجنون. وإن قول من قال:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
هو الغلط الفاحش. وإن هذا القياس الذي قاسه -قاس القادر على الحركة المأمور بها، على العاجز إذا خلا عن الحركة- قياس عجيب غريب، ولو أن هذا الشاعر قاس من تعذرت عليه الحركة والأسباب من كل وجه، على هذا، لكان حسنا مطابقا.
فإن قيل: قد توضح لنا أن السعي في الأسباب الموصلة إلى مسبباتها، مطابق للقضاء والقدر، مؤيد له، وأنه يتعذر الإيمان الصحيح بالقدر بدون فعل الأسباب، فما أحسن طريق يسلكه العبد؟
فالجواب: أحسن طريق يسلكه العبد في أموره الدينية؛ الاجتهاد في تفهم كتاب الله وسنة رسوله، وتحقيق الإخلاص للمعبود في كل عمل وقول، وعقيدة وطريقة، وتحقيق متابعة الرسول، واجتناب البدع الاعتقادية، والبدع العملية. فهذه الطريقة الدينية فيها الخير والبركة، والقليل منها أعظم ثوابا، وأبلغ نجاحا، من الكثير من غيرها.
وأما الأمور الدنيوية: فالعبد مفتقر إلى الكسب لنفسه، ولمن عليه مؤونته، فعليه بسبب يناسب حاله، ويتفق مع وقته من المكاسب المباحة، وخصوصا: المكاسب التي لا تشغل العبد عن أمور دينه، ولا تدخله في محظور. وليثابر على ذلك السبب، ويكون اعتماده على مسبب الأسباب، وليكثر من سؤال ربه لييسر أموره، وأن يختار له أحسن الأحوال. وليكن قنوعا برزق الله، راضيا بما قسم الله، لا يحزن على مفقود، ولا يتشوش من مناقضة الأسباب لمراده، فبذلك يحصل رضا ربه، وراحة قلبه... ويبارك له في القليل. وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم. (1)
عبدالرحمن بن يوسف الإفريقي (1377 هـ)
__________
(1) الفتاوى السعدية (24-26).(1/298)
عبدالرحمن بن يوسف الإفريقي مدير دار الحديث بالمدينة النبوية سابقا، ومؤلف كتاب 'الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية'.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في كتابه 'الأنوار الرحمانية': اعلموا أن الله تعالى قرر القواعد لكل مسلم وقال: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (7) (1) ، وقال: وَمَنْ { يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (14) (2) ، وقال: وَمَنْ { يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } (23) (3) ، وقال: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (4) ، وقال: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (5) ، ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (6) رواه البغوي في شرح السنة والنووي في الأربعين بسند صحيح.
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (14).
(3) الجن الآية (23).
(4) النور الآية (63).
(5) النساء الآية (65).
(6) ابن بطة في الإبانة (1/387-388/279). الهروي في ذم الكلام (2/167-168/313). الخطيب في التاريخ (4/369). البغوي في شرح السنة (1/212-213/104) كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والحديث قد ضعفه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرح الأربعين (2/394-395) وساق له عللا ثلاثة فأجاد وأفاد.(1/299)
ثم قال رحمه الله: عُلم بتلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: أن المسلم لا يكون مسلمًا ولا مؤمنًا إلا إذا اعتصم بالكتاب والسنة، في العقائد والفرائض والسنن والأقوال والأعمال والأفعال والأذكار، على وجه التسليم والرضا والإخلاص، ظاهرًا وباطنًا، خاصة عند المعارضة والمقابلة يقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقوال جميع أهل الأرض كائنًا من كان، وأذكاره - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأذكار الواردة عن المشايخ أهل الطرق وغيرهم، ويعرض تلك الأوراد على الكتاب والسنة؛ فإن وافقتهما عمل بها، وإلا فلا. ويقف على الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحينئذ يكون المسلم مسلمًا حقيقيًّا طائعًا لله ورسوله. قال تعالى: اتَّبِعُوا { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } (1) ، وقال تعالى: وَمَنْ { يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (101) (2) .
- قال رحمه الله تحت عنوان (تعريف السنة والبدعة): من ضروريات الدين: أن يعلم المسلم صفة السنة والبدعة والفرق بينهما. فليعلم الأخ الكريم أن السنة لغة: الطريق، وشرعًا: هي ما بيّن وفسّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله تعالى قولاً وفعلاً وتقريرًا وما سوى ذلك بدعة.
والسنة هي الطريق المتبع، وهي دين الإسلام، التي لا يزيغ عنها إلا جاهل هالك مبتدع.
والبدعة: أصل مادتها الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: بَدِيعُ { السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (3) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق. وهذا لا يليق في الدين إلا من الله تعالى؛ لأنه فعّال لما يريد، وهو الذي شرع لنا الدين، قال تعالى: * { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ } نُوحًا (4) .
__________
(1) الأعراف الآية (3).
(2) آل عمران الآية (101).
(3) البقرة الآية (117).
(4) الشورى الآية (13).(1/300)
وأما البدعة شرعًا: فهي الحدث في الدين بعد الإكمال، أي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وقد جعلها أهل البدع دينًا قويمًا، لا يجوز خلافها، كما في زعم التيجانيين وغيرهم.
- وقال: والبدعة: هي السبب في إلقاء العداوة والبغضاء بين الناس، لأن كل فريق يرى أن طريقته خير من طريقة صاحبه، ويبغض بعضهم بعضًا حتى قال التيجانيون: لا يجوز زيارة من ليس على طريقتهم.
- وقال: فعليكم باتباع نبيكم، وترك كل ما أحدثه المحدثون؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بالقول، ولا قول إلا بالعمل، ولا عمل إلا بالنية، فلا إيمان ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة النبوية، كما قال ابن أبي زيد القيرواني في رسالته. فسبحان الله العظيم، تقرءون في الرسالة ليلاً ونهارًا ولا تفهمون معناها! بماذا تفسرون قوله: "وترك كل ما أحدثه المحدثون" وبماذا تفسرون قوله: "إلا بموافقة السنة"؟
موقفه من الصوفية:
له كتاب: 'الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية' وهو مطبوع متداول. قال فيه تحت عنوان (الشروع في تفصيل ما ينكره أهل السنة على التيجانية): سأذكر لكم يا إخواني بعض ما أنكرناه في هذه الطريقة التيجانية مع بيان مأخذ كل مقال، والإشارة إلى رقم الصحيفة من كتب التيجانية، ليتبين لكل مسلم غيور على دينه كفريات التيجانية، وبدعهم وضلالاهم. وجميع ما أنقله من كتبهم؛ إما كفر أو كذب على الله وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله من الخذلان وعمى البصيرة.
- ثم عدد عشر عقائد من عقائد التيجانية الباطلة (1) نذكر منها:
العقيدة الأولى:
__________
(1) انظرها مشكورا غير مأمور، بمزيد بيان وتفصيل ضمن ضلالات التجاني سنة (1230هـ).(1/301)
قال في جواهر المعاني: (إن هذا الورد ادخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي ولم يُعَلِّمْهُ لأحد من أصحابه) -إلى أن قال-: (لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره الله على يديه). وكذا في الجيش (ص.91).
ففي قوله: ادخره لي ولم يعلمه لأحد من أصحابه ردّ على قوله تعالى: * { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } (1) . ومعلوم أن الكتمان محال على الأنبياء والرسل، لأنه خيانة للأمانة. وقال ابن عاشر المالكي في توحيده:
يجب للرسل الكرام الصدق محال الكذب والمنهي ... أمانة تبليغهم يحق كعدم التبليغ يا ذكي
ولا شك أن نسبة الكتمان إليه - صلى الله عليه وسلم - كفر بإجماع العلماء.
وفي قوله: (عدم وجود من يظهره الله على يديه) تفضيل لنفسه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث لا يقدر أن يحمل هذا الورد. وهذا كلام في غاية الفساد، بل في غاية الوقاحة.
العقيدة الثانية:
قال في جواهر المعاني: (إن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعدل كل تسبيح وقع في الكون، وكل ذكر، وكل دعاء كبير أو صغير، وتعدل تلاوة القرآن ستة آلاف مرة) (ص.96) طبع مطبعة التقدم العلمية الطبعة الأولى.
وهذا كفر وردّة، وخروج عن الملّة الإسلامية؛ وهل يبقى في الدنيا مسلم لا يكفر قائل هذا القول؟ بل من لم ينكر عليه ورضي به فهو كافر في نفسه، يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل.
أليس قد جعل الله لكم عقولاً تعقلون بها؟ أفلا تتفكرون؟ وأي شيء يكون أفضل من القرآن؟ وهل ينزل الله على رجل شيئًا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلاً أن يكون خيرًا من القرآن؟ إن هذا لشيء عجاب.
وأظن قائل هذا القول ما درى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما درى بما جاء به محمد. ولم يدر لِمَ بُعِثَ محمد - صلى الله عليه وسلم - !!.
__________
(1) المائدة الآية (67).(1/302)
فداك أبي وأمي يا رسول الله. لقد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين، جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. أشهد أنك خاتم الأنبياء، وشريعتك ناسخة لكل شريعة ولن تُنْسَخَ إلى يوم القيامة، ولم يأت بعدك أحد قط بمثل ما جئتَ به، وأشهد أن من ادعى أن هناك وحيًا ينزل، أو يوحى إليه فقد أعظم الفرية على الله إِنَّ { الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (117) (1) . أفلا تعظمون كتاب ربكم؟!
أيها الناس! اتركوا هذه الطريقة الكفرية التي هي أفضل من القرآن في زعم قائلها، فنعوذ بالله من كل شيطان مارد، آمِرٍ بمثل هذا. وهل أنتم تعبدون الله بشيء أفضل من القرآن، إذن والله فقد فضلتم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأنهم ما عبدوا الله بشيء أفضل من القرآن، ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجعل لنفسه وردًا كل ليلة من القرآن، وهكذا أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله" (2) الحديث إلخ. وقد ثبت أنه قال: "فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الله على خلقه" رواه الترمذي وغيره (3) .
أليس هذا صدًّا للجهال العوام عن القرآن؟ وهل يتمسك بهذه الطريقة بعد ما سمع أنها أفضل من القرآن إلا جاهل بكتاب الله وسنة رسوله؟
وهل يستقر في عقل صحيح كون مرة واحدة من صلاة الفاتح أفضل من ذكرٍ واحدٍ وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فضلاً عن جميع الأذكار التي وقعت في الكون؟ أفلا تعقلون؟؟
__________
(1) النحل الآيتان (116و117).
(2) سبق تخريجه ضمن مواقف السلطان عبدالحفيظ سنة (1356هـ).
(3) الترمذي (5/169/2926) وقال: "حسن غريب". وفي إسناده محمد بن الحسن الهمداني متهم، وعطية العوفي ضعيف. ولمزيد الفائدة انظر الضعيفة (1335).(1/303)
تالله لقد جمعت هذه الطريقة كل جهول غبي بعيد عن الدين.
أيها الناس! أما كان آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين يذكرون الله؟ وهل يكون مبتدعُ هذه الطريقة أفضل من هؤلاء الأنبياء؟ كلا وحاشا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أحمد شاكر (1) (1377 هـ)
الشيخ المحدث أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر، من آل أبي علياء، أبو الأشبال المصري. ولد بالقاهرة سنة تسع وثلاثمائة وألف. نشأ في طلب العلم على يد والده الشيخ الإمام محمد شاكر، وتحت توجيهه، فأخذ عن الشيخ عبدالله بن إدريس السنوسي المغربي والشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي والشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي. وتفقه على مذهب أبي حنيفة، ونال شهادة العالمية من الأزهر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم ولي القضاء إلى سنة سبعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
قال عنه الأستاذ عبدالسلام محمد هارون: إمام يعسر التعريف بفضله كل العسر، ويقصر الصنع عن الوفاء له كل الوفاء. وقال عنه الشيخ محمود محمد شاكر: هو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وقال عن نفسه: ولكني بجوار هذا -أي بجوار القضاء- بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمعت كثيرا وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي. ومؤلفاته تدل على ذلك منها 'تحقيق المسند للإمام أحمد' و'الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير' و'تحقيق الرسالة للشافعي' وغيرها كثير.
توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) الأعلام (1/253) مقدمة الرسالة للشافعي (8) ومعجم المؤلفين (13/368) ومجلة التوحيد (العدد الرابع ربيع الآخر 1417هـ/ص.48-51).(1/304)
- قال: وعلى النهج القويم سار عليه أئمتها من أهل الحديث سِرت، فيما عرضت له من مسائل الخلاف: لا حجة إلا فيما قال الله أو قال رسوله، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله، وَمَا { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1) . فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (2) .
لا نقلّد ديننا الرجال، ولا نفرّق بين ما جمعه رسول الله، ولا نجمع ما فرّق بينه، ولا نقول: ما فرّق بين كذا وكذا؟ لأن قول (ما فرّق بين كذا وكذا؟) فيما فرّق بينه رسول الله- لا يعدو أن يكون جهلاً ممّن قاله، أو ارتياباً شرّاً من الجهل، وليس فيه إلا طاعة الله باتّباعه.
__________
(1) الأحزاب الآية (36).
(2) النساء الآية (65).(1/305)
فقد أمرنا الله باتباع نبيه، وجعل طاعته والرضا بحكمه شرطاً في صحة الإيمان به، فما جاء من سنّته فيما فيه نصّ كتاب فهو بيان للكتاب، بيان لعامّه وخاصّه، وناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك. وما سنّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: وَإِنَّكَ { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ } اللَّهِ (1) وقد سنّ رسول الله مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب. وكل ما سنّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنود عن اتباعها معصيتَه التي لم يَعذِر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجاً، لما وصفت، وما قال رسول الله. أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضر مولى عمر بن عبيدالله سمع عبيدالله بن أبي رافع يحدّث عن أبيه أن رسول الله قال: "لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول: لا أردي، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه" (2) .
وقال الشافعي أيضاً: (فيما وصفتُ من فرض الله على الناس اتّباع أمر رسول الله دليل على أن سنة رسول الله إنما قُبِلت عن الله، فمن اتّبعها فبكتاب الله تبعها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلقه نصّاً بيّناً إلا كتابه ثم سنة نبيه، فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شبه لها من قول خلقٍ من خلق الله، لم يجز أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدميّ بعده ما جعل له، بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره، فالخلق كلهم له تَبَع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرض عليه اتّباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منها).
__________
(1) الشورى الآيتان (52و53).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف القاضي عياض سنة (544هـ).(1/306)
فلا عذر لأحد يعلم حديثاً صحيحاً أن يُخالفه، لا تقليداً ولا اجتهاداً، ولا استحساناً ولا استنباطاً، كما قال الشافعيّ -وهو ناصر الحديث حقّاً-: (لا يجوز لأحد علمه من المسلمين -عندي- أن يتركه إلا ناسياً أو ساهياً). وكما قال أيضاً: (وأما أن نخالف حديثاً عن رسول الله ثابتاً عنه-: فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله. وليس ذلك لأحد، ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قولٌ يخالفها، لا أنه عَمَد خلافَها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل. (1)
- قال: ولقد عُنيتُ بهذا الأمر كما عُني -يعني بعلوم الحديث-، ورأيتُ أن أجلّ خدمة لهذا الكتاب التوسعُ في تحقيق دقائق التعليل، تقريباً لها في أذهان القارئين، وإرشاداً للمستفيدين، وتسهيلاً للباحثين، وليكون ذلك حافزاً لطلاّب الحديث على أن يغوصوا في أعماق فنونه، ويستخرجوا منها الدرر الغالية، التي بها يفقهون كتاب الله حقّ فقهه، ويؤدّون أمانة الله حقّ أدائها، حتى يَسْمُوا بذلك إلى الذّروة العليا في العلم والعمل، في الدين والدنيا، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصّاً واستدلالاً، ووفّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونوّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.
__________
(1) شرح سنن الترمذي (1/67-70).(1/307)
وليعلم من يريد أن يعلم: من رجل أسلس للعصبية المذهبية قياده، حتى ملكت عليه رأيه، وغلبته على أمره، فحادت به عن طريق الهدى؛ أو من رجل قرأ شيئاً من العلم فداخله الغرور، إذ أعجتبه نفسه، فتجاوز بها حدّها، وظنّ أن عقله هو العقل الكامل، وأنه (الحكم التُّرضى حكومته) فذهب يلعب بأحاديث النبيّ، يصحح منها ما وافق هواه وإن كان مكذوباً موضوعاً، ويُكذّب ما لم يعجبه وإن كان الثابت الصحيح؛ أو من رجل استولى المبشّرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً، ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلاميّ، وقد عُدّ من المسلمين -أو عليهم- في دفاتر المواليد وفي سجلاّت الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبسه جنسيّةٌ ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل القرآن ليخضعه لما تعلّم من أستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى أن تكون حجتُهم على الإسلام قائمة!! إذ هو لا يفقه منه شيئاً؛ أو من رجل مثل سابقه، إلا أنه أراح نفسه، فاعتنق ما نفثوه في روحه من دين وعقيدة، ثم هو يأبى أن يعرف الإسلام ديناً أو يعترف به، إلا في بعض شأنه، في التسمي بأسماء المسلمين، وفي شيء من الأنكحة والمواريث ودفن الموتى: أو من رجل مسلم علِّم في مدارس منسوبة للمسلمين، فعرف من أنواع العلوم كثيراً، ولكنه لم يعرف من دينه إلا نزراً أو قشوراً، ثم خدعته مدنية الإفرنج وعلومهم عن نفسه، فظنهم بلغوا في المدنية الكمال والفضل، وفي نظريات العلوم اليقين والبداهة، ثم استخفّه الغرور، فزعم لنفسه أنه أعرف بهذا الدين وأعلم من علمائه وحفظته وخلصائه، فذهب يضرب في الدين يميناً وشمالاً، يرجو أن ينقذه من جمود رجال الدين!! وأن يُصفِّيه من أوهام رجال الدين!!؛ أو من رجل كشف عن دخيلة نفسه، وأعلن إلحاده في هذا الدين وعداوته، ممن قال فيهم القائل: (كفروا بالله(1/308)
تقليداً)؛ أو من رجل ممن ابتُليت بهم الأمة المصرية في هذا العصر، ممن يسمّيهم أخونا النابغة الأديب الكبير كامل كيلاني (المجدّدينات) (1) ... أو من رجل... أو من رجل...
ليعلموا هؤلاء كلهم، وليعلم من شاء من غيرهم: أن المحدِّثين كانوا محدَّثين ملهمين، تحقيقاً لمعجزة سيد المرسلين، حين استنبطوا هذه القواعد المحكمة لنقد رواية الحديث، ومعرفة الصحاح من الزّياف، وأنهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين، وأنهم كانوا جادّين على هدى وعلى صراط مستقيم، فكانت تلك القواعد التي ارتضوها للتوثّق من صحة الأخبار أحكم القواعد وأدقّها، ولو ذهب الباحث المتثبت يُطبّقها في كل مسألة لا إثبات لها إلا صحة النقل فقط: لآتته ثمرتها الناضجة، ووضعت يده على الخبر اليقين.
وعلى ضوء هذه القواعد سار علماؤنا المتقدمون في إثبات مفردات اللغة وشواهدها، وفي تحقيق الوقائع التاريخية الخطيرة، ولن تجد من ذلك شيئاً ضعيفاً أو باطلاً إلا ما أبطلته قواعد المحدِّثين، وإلا فيما لم ينل العناية بتطبيقها عليه. (2)
- قال في كتابه 'الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين': إن الله أرسل محمداً هادياً وبشيراً ونذيراً، وحاكماً بين الناس بما أنزله عليه. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ودعا الناس إلى طاعته في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، عباداتهم ومعاملتهم. وأنزل عليه شريعة كاملة، لم تَسْمُ إليها شريعة من الشرائع قبلها، ولن يأتي أحد من بعده بخير منها ولا بمثلها. ذلك بأن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وذلك بأن محمداً خاتم النبيين.
__________
(1) قال بهامشه: هكذا والله سمّاهم هذا الاسم العجيب، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية، أجاب بجواب أعجب وأبدع: هذا جمع مخنث سالم!! فأقسم له سائله أن العربية في أشدّ الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمان!.
(2) شرح سنن الترمذي (1/70-73).(1/309)
شرع الله هذه الشريعة الكاملة للناس كافة، وفي كل زمان ومكان، بعموم بعثة الرسول الأمين، وبختم النبوة والرسالة به. فكانت الباقية على الدهر، ونسخت جميع الشرائع. ولم تكن خاصة بأمة دون أمة، ولا بعصر دون عصر. ولذلك كانت العبادات مفصّلة بجزئيّاتها، لأن العبادة لا تتغير باختلاف الدهور والعصور. وكان ما سواها من شؤون الفرد والمجتمع، في المعاملات المدنية، والمسائل السياسية، ونظام الحكومات، والقواعد القضائية، والعقوبات، وما إلى ذلك، قواعدَ كليّة سامية، لم يُنصّ على تفاصيل الفروع فيها، إلا على القليل النادر، في الأمر الخطير، مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان.
فقام سلفنا الصالح، المسلمون الأولون، بإبلاغ هذه الشريعة والعمل بها، في أنفسهم وفيما دخل من البلدان في سلطانهم، فنفّذوا أحكامها على الناس كافة، وفي جميع الأحوال، واجتهدوا في تطبيق قواعدها على الوقائع والحوادث، واستنبطوا منها الفروع الدقيقة، والقواعد الأصولية والفقهية، بما آتاهم الله من بسطة في العلم، وإخلاص في الدين، حتى تركوا لنا ثروة تشريعية، لا نجد لها مثيلاً في شرائع الأمم، وحتى كان من بعدهم عالة عليهم. (1)
- وقال أيضاً: أيها الناس! إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا، ونزعم أننا لا نبغي به بدلاً، ولكننا نخطئ فهم الدين، ونظن أنه لا يتجاوز ما يُقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعّاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيّل إلى كثير منا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات والتعزير، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية. كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان. وهو لا يرضى من مُتّبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كلّه.
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.9-10).(1/310)
اسمعوا كلام الله ثم اختاروا لأنفسكم ما تريدون.
$tBur { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (36) (1) . وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (2) .
__________
(1) الأحزاب الآية (36).
(2) النور الآيات (47-51).(1/311)
يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) .
__________
(1) النساء الآيات (59-65).(1/312)
أيها السادة! هذه آيات الله وأوامره، قد سمعتموها كثيراً، وقرأتموها كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بيّنة، فيها عبرة لكم وعظة لو تأملتموها، وفكرتم في حالكم من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب عليكم حيالها، وأنتم تحكمون بقوانين لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، بل هي تنافيه في كثير من أحكامها وتناقضه، بل لا أكون مغالياً إذا صرّحت أنها إلى النصرانية الحاضرة أقرب منها إلى الإسلام، ذلك أنها ترجمت ونقلت كما هي عن قوانين وثنية، عُدّلت ثم وُضعت لأمم تنتسب إلى المسيحية، فكانت، وإن لم توضع عندهم وضعاً دينياً، أقرب إلى عقائدهم وعاداتهم وعرفهم، وأبعد عنّا في كل هذا. وقد ضُربت علينا هذه القوانين في عصر كان كله ظلمات، وكانت الأمة لا تملك لنفسها شيئاً، وكان علماؤها مستضعفين جامدين.
هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلاميّ يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يُلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم -في نظرهم- إلى الرجوع القهقرى ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وُضع لأمة بادية جاهلة!!
لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلوّ أو الإسراف في القول، فإني جعلتُ هذه الدعوة هجّيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت، ولو شئت أن أُسمّي لسمّيت لكم أسماء ممن نُجلّ ونحترم، ونعرف لهم فضلاً وذكاءً وعلماً. (1)
- وقال: إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما رأى:
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.13-17).(1/313)
كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علّموا تعليماً مدنياً، وربّوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكماً قطعياً في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسماً اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسمّوهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمّى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيّاً كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سمّوه المناصب الدينية، حتى لا مُتنفّس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجّوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام. (1)
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.17-18).(1/314)
إلى أن قال: إن قَسْمَ المتعلمين في الأمة إلى فريقين أو معسكرين مكّن لأقواهما من أن يستأثر بالتشريع والإفتاء، فيحدوَ بالأمة ويعدل بها عن سواء الصراط. ذلك أنهم أُفهموا وعُلّموا أن مسائل التشريع ليست من الدين، وظنوا أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان، وأنّ تعرّض العلماء والفقهاء لهذه المسائل تعرّض لما لا يعنيهم، وعصبية للاحتفاظ بسلطانهم، شبّهوهم بالقسس في أوربة، وغلبت عليهم مبادئ الثورة الفرنسية في محاربة الكنيسة، فاندفعوا في عصبيتهم ضدّ شريعتهم ودينهم، وأبوا أن يسمعوا قولاً لقائل، أو نصحاً لناصح. وذهبوا يضعون القوانين للمسلمين، على غرار القوانين التي وضعت لغيرهم، بأنها توافق مبادئ التشريع الحديث!!
وابتُلي فريق منا بهذا التشريع الحديث، فذهبوا يلعبون بدينهم، فيما عرفوا وما لم يعرفوا، فأحلّوا وحرّموا، وأنكروا وأقرّوا، واضطربوا وترددوا، وكثير منهم يؤمن بالإسلام، ويحرص على التمسك به، ولكنه أخطأ الطريق، بما أُشرب في قلبه من مبادئ التشريع الحديث. واندفع العامة والدهماء وراءهم، يقلدون سادتهم وكبراءهم، ويتّبعون خطواتهم. ومرج أمر الناس واضطربوا، حتى إنهم ليحاولون علاج أمراضهم النفسية والاجتماعية بمبادئ التشريع الحديث. وبين أيديهم كتاب الله مَوْعِظَةٌ { مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (57) (1) وuqèd { لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } (2) ولكن قومنا اكتفوا من القرآن بالتغني به في المآتم والمواسم، وتركوا تدبّر معانيه واتباع هديه، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً!. (3)
موقفه من المشركين:
- التحذير من المستشرقين:
__________
(1) يونس الآية (57).
(2) فصلت الآية (44).
(3) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.21-23).(1/315)
قال رحمه الله بعد إشادته بطبعات المستشرقين للكتب وأنهم اهتموا بوصف الأصول واختلاف النسخ: وعن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائسَ تُقتنى وأعلاقاً تُدّخر، وتغالى الناس وتغالينا في اقتنائها، على علوّ ثمنها، وتعسّر وجود كثير منها على راغبيه.
ثم غلا قومُنا غلوّاً غير مُستساغ في تمجيد المستشرقين، والإشادة بذكرهم، والاستخذاء لهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي: خطإ أو صواب، يتقلدونه ويدافعون عنه، ويجعلون قولهم فوق كلّ قول، وكلمتهم عالية على كلّ كلمة، إذ رأوهم أتقنوا صناعة من الصناعات: صناعةَ تصحيح الكتب، فظنوا أنهم بلغوا فيما اشتغلوا به من علوم الإسلام والعربية الغاية، وأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه، حتى في الدين: التفسير والحديث والفقه.
وجهلوا أو نسوا، أو علموا وتناسوا أن المستشرقين طلائع المبشّرين، وأن جلّ أبحاثهم في الإسلام وما إليه إنما تصدر عن هوىً وقصد دفين، وأنهم كسابقيهم يُحَرِّفُونَ { الْكَلِمَ عَنْ } مَوَاضِعِهِ وإنما يفضلونهم بأنهم يحافظون على النصوص، ثم هم يحرفونها بالتأويل والاستنباط.
نعم: إن منهم رجالاً أحرار الفكر، لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، ولكنهم أخذوا العلم عن غير أهله، وأخذوه من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدموهم، ثم لا يزال ما نشؤوا عليه واعتقدوا يغلبهم، ثم ينحرف بهم عن الجادّة، فإذا هم قد ساروا في طريق آخر، غير ما يؤدي إليه حرية الفكر والنظر السليم.(1/316)
ومعاذ الله أن أبخس أحداً حقّه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء، ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها، وأن أقرّ الحق في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصحابه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا أجاوز به حدّه، ولا أعلو به عن مستواه. ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشدّ العصبية، وأعرف معنى العصبية، وحدّها، وأن ليس معناها العدوان، وأن ليس في الخروج عنها إلا الذلّ والاستسلام، وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحَوطها والذود عنها، وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه (ما غُزي قومٌ قطّ في عقر دارهم إلا ذلّوا) وقد -والله- غُزينا في عقر دارنا، وفي نفوسنا، وفي عقائدنا، وفي كل ما يقدّسه الإسلام ويفخر به المسلمون.
وكان قومنا ضعافاً، والضعيف مُغرىً أبداً بتقليد القوي وتمجيده، فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم، فقلدوهم في كل شيء، وعظّموهم في كل شيء، وكادت أن تعصفَ بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته. (1)
- قال في رسالته 'الشرع واللغة' (2) التي خصّها للرّدّ على عبدالعزيز فهمي باشا وعدائه للعربية -بعد نقله لكلام هذا المفتون-: وقد بدأ معالي الباشا استدلاله -يعني نقضه ردّ الشيخ محبّ الدين الخطيب عليه- بكلمة منكرة (أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان) وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربيّ.
__________
(1) شرح سنن الترمذي (1/19-20).
(2) طبعت مع محاضرته الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدراً للقوانين.(1/317)
نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن ينفثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتوّاً على المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاًّ، للسادة الأوربيين (ذوي العقول الجبارة). ثم لا يستحيي أحدهم أن يدعي أنه يفهم الدين، وأن يزعم أنه مكتفٍ بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!!(1/318)
والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (44) (1) . وقوله سبحانه: وَأَنِ { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (49) (2) . أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟ وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله: وَمَا { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (36) (3) .
__________
(1) المائدة الآية (44).
(2) المائدة الآية (49).
(3) الأحزاب الآية (36).(1/319)
وقوله: وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (1) . أفيجرؤ أن يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب؟!. (2)
- وقال: ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، من يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلاميّ، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة!
ما زعم لنا واحد منهم قطّ (أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان) وأن (الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمسّ العقائد وفرائض العبادات). لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته، وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان.
والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.
__________
(1) النور الآيات (47-51).
(2) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.88-90).(1/320)
فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية. وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كلّه. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرّحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة. (1)
- قال -بعد ذكره نماذج لما في القوانين الإفرنجية والنظم الأوربية مما يخالف عقائد المسلمين، وتعطيل لكثير من فروض الدين-: ولسنا ننعى على هذه القوانين كلّ جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أُمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كلّ عصر وكلّ مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية، فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهيّ من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أَرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!!
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.93-94).(1/321)
وهم -في نظر الشرع- مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا. أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربّهم، ساخطين إذا ما دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم: (إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين)!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى (الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين). (1)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.97-98).(1/322)
كان هذا الرجل متشبعا بالعقيدة السلفية زيادة على تضلعه في علم الحديث ويظهر ذلك من تعاليقه وتحريراته، وله مقال جيد نأخذه على سبيل المثال للدلالة على دفاعه عن العقيدة السلفية: جاء في دائرة المعارف الإسلامية في التعليق على مادة: "تأويل": قال: أصل مادة (تأويل) من المعنى اللغوي: آل يؤول أولا، أي: رجع إلى أصله. ثم استعمل في كلام العرب وفي القرآن خاصة بمعنى التفسير أو بشيء قريب من معناه. فالتفسير والتأويل: كشف المراد عن الشيء المشكل. وفرق بعض العلماء بينهما، فكثر استعمال التفسير: فيما يتعلق بشرح المفردات والألفاظ، والتأويل: فيما يتعلق بالمعاني والجمل. واصطلح الفقهاء وغيرهم على معنى آخر للتأويل هو: تفسير الآية أو الحديث بمعنى غير ما يفهم من ظاهر اللفظ. ولذلك يقول العلماء كثيرا في عباراتهم مثلا: إن هذا الحديث أو هذه الآية من الصريح الذي لا يحتمل التأويل، أي: لا يحتمل معنى آخر يخرجه عن المراد الظاهر من لفظه، فالمعنى الظاهر لا يخرج عن المفسر والمؤول إلا بدليل أو قرينة، لأنه يكون شبيها بالمعنى المجازي. وقد ورد لفظ التأويل في آيات من القرآن على المعنى اللغوي الأصلي، ولكن بعض العلماء والمفسرين ظنها مما يدخل في التأويل الاصطلاحي، فنشأ عن ذلك اختلاف واضطراب في آرائهم، والحق أن ذلك على المعنى اللغوي الواضح. ففي لسان العرب: "وأما قول الله عز وجل: هَلْ { يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي } تَأْوِيلُهُ (1) فقال أبو إسحاق: معناه، هل ينظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من البعث. قال: وهذا التأويل هو قوله تعالى: وَمَا { يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (2) أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث وما يؤول إليه الأمر عند قيام الساعة إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به أي: آمنا بالبعث. والله أعلم، قال ابن منظور: وهذا حسن (3) .
__________
(1) الأعراف الآية (53).
(2) آل عمران الآية (7).
(3) لسان العرب (13/25)..(1/323)
وأقول: بل هو الصواب الذي لا يفهم من القرآن غيره، ثم دخل على المسلمين ناس اتبعوا المتشابه في مثل هذا، وأكثروا من القول في القرآن بغير علم، حتى ادعوا أن له ظاهرا وباطنا، وأن الباطن لا يعلمه هؤلاء إلا بشيء يزعمونه نحو: "الإلهام". وهم لم يفقهوا ظاهر القرآن، ولم يعرفوا شيئا من السنة، أو عرفوا وأعرضوا عنه لما وقر في نفوسهم من حب الإغراب أو من آراء تنافي الإسلام، فأرادوا أن يلصقوها به، وعن ذلك نشأت تأويلات الصوفية وغيرهم ممن أشار إليهم كاتب المادة. وهذه التأويلات لا تمت إلى الإسلام بصلة وإن كان قائلوها يسمون بأسماء إسلامية ويذكرون في تاريخ الإسلام، وتذكر أقوالهم وآراؤهم مع آراء علماء الإسلام. والإسلام دين واضح سهل لا رموز فيه ولا ألغاز. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك المسلمين على المحجة الواضحة ليلها كنهارها. فكل من حاد عن هذه السبيل فإنما أعرض عن الصراط المستقيم وتفرقت به السبل، حتى خرج بعضهم عن كل طريق من طرق الإسلام، أو من الطرق التي تشبه أن تتصل بالإسلام، ممن وصفهم كاتب المادة بقوله: "بل صارت أحكام القرآن في رأي أصحابها غير واجبة الإتباع". ومن ذهب هذا المذهب أو قريبا منه فلا يمكن أن يعد من المسلمين ولا أن ينسب قوله إلى أقوال أهل الإسلام. (1)
" التعليق:
الله أعلم بالضرر البالغ الذي ألحقه طاغوت التأويل بالمسلمين الذي اخترعه أعداء العقيدة السلفية. وقد تصدى لرده وبيان الباطل والحق منه: العلامة ابن القيم في كتابه 'الصواعق المرسلة' بما لا مزيد عليه، فجزاه الله خيرا.
حافظ بن أحمد الحَكَمِي (2) (1377 هـ)
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية (9/162-163).
(2) الأعلام (2/159) ومقدمة معارج القبول، بقلم ابن الشيخ. والمستدرك على معجم المؤلفين (183-184).(1/324)
الشيخ حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة بطن من (مذحج). ولد في شهر رمضان عام اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف بقرية السلام في منطقة جيزان. نشأ في بيئة صالحة طيبة ساعدته على تحصيل العلوم الشرعية منذ الصغر، فحفظ القرآن الكريم ثم توجه إلى الاشتغال بكتب الفقه والحديث والتفسير والتوحيد وغيرها. وأخذ عن الشيخ عبدالله القرعاوي الذي كان قد قدم من "نجد"، ولازمه حتى نضج علمه ورسخت قدمه. وكان رحمه الله شديد التمسك بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على جانب كبير من الورع والكرم والعفة. عين مديرا لمدرسة سامطة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم مديرا للمعهد العلمي فيها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، واستمر فيه إلى أن توفي يوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة بمكة المكرمة ودفن بها.
أقول: كان هذا الرجل أعجوبة زمانه -كما يحكي تلامذته الذين درسوا عليه- في الحفظ والاستحضار، وظهر أثر ذلك في كتبه التي ألفها على صغر سنه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
آثاره السلفية:
1- 'سلم الوصول إلى علم الأصول في توحيد الله'.
2- 'معارج القبول في شرح سلم الوصول'.
3- 'أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة'.
والكل مطبوع متداول.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أعلام السنة:
س: ما هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه ونهانا عن اتباع غيره؟(1/325)
ج: هو دين الاسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولم يقبل من أحد سواه، ولا ينجو إلا من سلكه، ومن سلك غيره تشعبت عليه الطرق وتفرقت به السبل قال الله تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1) وخط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما" وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ وَأَنْ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ } سَبِيلِهِ (2) وقال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم" (3) .
__________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(3) الترمذي (5/133/2859) والنسائي في الكبرى (6/361/11233) من طريق بقية بن الوليد عن بجير بن سعيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي مرفوعا وفيه بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية. ولهذا قال الترمذي: "هذا حديث غريب. إلا أنه لم ينفرد به. فقد رواه أحمد (4/182-183) من طريق الليث بن سعد والحاكم (1/73) من طريق ابن وهب كلاهما عن معاوية بن صالح، عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به". قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولا أعرف له علة" ووافقه الذهبي.(1/326)
س: بماذا يتأتى سلوكه والسلامة من الانحراف عنه؟
ج: لا يحصل ذلك إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، والسير بسيرهما، والوقوف عند حدودهما، وبذلك يحصل تجريد التوحيد لله وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (69) (1) وهؤلاء المنعم عليهم المذكورون ههنا تفصيل: هم الذين أضاف الصراط إليهم في فاتحة الكتاب بقوله تعالى: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } (7) (2) ولا أعظم نعمة على العبد من هدايته إلى هذا الصراط المستقيم، وتجنيبه السبل المخلة، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (3) .
س: ما ضد السنة؟
__________
(1) النساء الآية (69).
(2) الفاتحة الآيتان (6و7).
(3) أخرجه: أحمد (4/126)) وابن ماجه (1/16/43) وأصله عند أبي داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/178/5) والحاكم (1/95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي من حديث العرباض بن سارية.(1/327)
ج: ضدها البدعة المحدثة: وهي شرع ما لم يأذن به الله، وهي التي عناها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة" (2) وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى وقوعها بقوله: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" وعينها بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" (3) . وقد برأه الله تعالى من أهل البدع بقوله: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى } اللَّهِ (4) الآية. (5)
- وقال في معارج القبول: وقد حصل مصداق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق من الافتراق، وتفاقم الأمر وعظم الشقاق فاشتد الاختلاف ونجمت البدع والنفاق، فافترقوا في أسماء الله تعالى وصفاته إلى نفاة معطلة، وغلاة ممثلة، وفي باب الإيمان والوعد والوعيد إلى: مرجئة ووعيدية من خوارج ومعتزلة، وفي باب أفعال الله وأقداره إلى: جبرية غلاة وقدرية نفاة، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته إلى رافضة غلاة وناصبة جفاة، إلى غير ذلك من فرق الضلال، وطوائف البدع والانتحال، وكل طائفة من هذه الطوائف قد تحزبت فرقا وتشعبت طرقا، وكل فرقة تكفر صاحبتها وتزعم أنها هي الفرقة الناجية المنصورة. (6)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(3) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(4) الأنعام الآية (159).
(5) أعلام السنة المنشورة (216-219).
(6) معارج القبول بشرح سلم الوصول (1/18).(1/328)
- وقال: ثم اعلم أن البدع كلها مردودة ليس منها شيء مقبولا، وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلال ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر، وكلها باطل ليس فيها حق. ومعنى البدعة هو شرع ما لم يأذن الله به ولم يكن عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - البدعة بقوله: "كل عمل ليس عليه أمرنا" (1) ووصف الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بقوله: "هم الجماعة". وفي رواية: "هم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي" (2) .اهـ (3)
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) تقدم قريبا.
(3) معارج القبول (2/616).(1/329)
- وفيه: وهذا الذي قاله -أي الإمام الشافعي- من تحكيم نصوص الكتاب والسنة، وطرح ما خالفهما هو الذي نطقا به وصرحت به نصوصهما وأجمع عليه الصحابة والتابعون فمن بعدهم كما حكى إجماعهم هو وغيره، وكما هو المشهور من سيرتهم في الأقوال والأفعال. ونصوصهم في هذا الباب ملء الدنيا، وتصانيفهم في ذلك قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولو رأوا ما عليه مقلدوهم في هذا الوقت لتبرأوا منهم ومقتوهم أشد المقت، فإنهم ليسوا على ما كانوا عليه، ولا اهتدوا إلى ما أرشدوهم إليه، بل اختلفوا اختلافا شديدا وافترقوا افتراقا بعيدا، وكل منهم يحصر الحق في إمامه ويرى ما خالفه باطلا، ويرى سائر أهل العلم مفضولين وإمامه فاضلا، وإذا خالف مذهبه نصا ضرب له الأمثال، وتكلف له التأويل المحال، ويقابله الآخر بمثل ذلك، فهم بين راد ومردود وحاسد ومحسود، وكان فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم مِنَ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (1) ،
__________
(1) الروم الآية (32)..(1/330)
ولم يعلم هؤلاء المساكين أن سلفهم الصالح الذين يزعمون الاقتداء بهم كانوا أبعد من هذه الصفة بعد ما بين المشارق والمغارب، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم أجل شأنا وأكمل إيمانا من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل هم تبع له في أوامره ونواهيه، ولنصوص الشرع أعظم عندهم من أن يقدموا عليها آراء الرجال، وهي أجل قدرا في صدورهم من أن تضرب لها الأمثال، وأعلى منزلة من أن تدفع بالأقيسة والتأويل المحال، وإنما المقتدي بهم على الحقيقة من اقتفى أثرهم واتبع سيرهم وحفظ وصيتهم وأحيا سنتهم في طلب الحق وأخذه أين وجده، والوقوف عند كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما بلغته، فكما كان اجتهاد السلف رحمهم الله في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها فالواجب عند الخلاف تتبع تلك الأدلة والاستنباطات والأخذ بالأصح منها مع من كان وبيد من وجد، فإن الحق واحد لا يجزئه الاختلاف، وكل واحد من أولئك الأئمة يدأب في طلبه جادا مجتهدا إن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر والخطأ مغفور، وهذه أقوالهم مدونة في كتبهم، كلها تذم الرأي في الدين، وتحث من بعدهم على اقتفاء أثرهم في طلب الحق أين ما كان، ولم يدع أحد منهم إلى تقليده، ولم يكن أحد منهم معصوما ولا ادعى ذلك ولا قال: إن الحق معي لا يفارقني فتمسكوا بما أقول وأفعل، ولا كان لأحد منهم التزام قول أحد من آحاد الأمة لا ممن هو مثلهم ولا من هو أفضل منهم فضلا عمن هو دونهم، ولم يكن لهم أن يلتزموه فيما خالف النص الذي لم يبلغه أو لم يستحضره، ولو كان ذلك خيرا لسبقونا إليه، بل كان إمام الجميع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بين للناس ما نزل إليهم، ويتبعون آثاره من الأفعال والأقوال والتقريرات، يتلقنونها من حفاظها من كانوا وأين كانوا وبيد من وجدوها، وقفوا عندها ولم يعدوها إلى غيرها.(1/331)
وكانت طريقتهم في تلقي النصوص أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون ما يفسر لهم المتشابه ويُبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره، قال الله تعالى: أَفَلَا { يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) (1) .اهـ (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في معارج القبول:
فصل من هو أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساويهم وما شجر بينهم رضي الله عنهم.
أهم ما في هذا الفصل خمس مسائل:
الأولى: مسألة الخلافة.
والثانية: فضل الصحابة وتفاضلهم بينهم.
والثالثة: تولي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته سلام الله ورحمته وبركته عليهم، ومحبة الجميع والذب عنهم.
الرابعة: ذكرهم بمحاسنهم والكف عن مساويهم.
والخامسة: السكوت عما شجر بينهم، وأن الجميع مجتهد: فمصيبهم له أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، ومخطؤهم له أجر الاجتهاد وخطؤه مغفور.
وبعده الخليفة الشفيق ... نعم نقيب الأمة الصديق
ذلك رفيق المصطفى في الغار ... شيخ المهاجرين والأنصار
وهو الذي بنفسه تولى ... جهاد من عن الهدى تولى
(وبعده): أي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (الخليفة): له في أمته. الشفيق: بهم وعليهم. (نعم): فعل مدح. (نقيب): فاعل نعم، والنقيب عريف القوم وأفضلهم. (الصديق): هو المخصوص بالمدح وهو النقابة منه لجميع الأمة، وهو أبو بكر عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أول الرجال إسلاما، وأفضل الأمة على الإطلاق رضي الله عنه... (3)
- وفيه:
__________
(1) النساء الآية (82).
(2) معارج القبول (628-630).
(3) معارج القبول (2/522-523).(1/332)
ثانيه في الفضل بلا ارتياب ... الصادع الناطق بالصواب
أعني به الشهم أبا حفص عمر ... من ظاهر الدين القويم ونصر
الصارم المنكي على الكفار ... وموسع الفتوح في الأمصار
(ثانيه): أي ثاني أبي بكر. (في الفضل): على الناس بعده فلا أفضل منه، وكذا هو ثانيه في الخلافة بالإجماع. (بلا ارتياب): أي بلا شك. (الصادع): بالحق المجاهر به الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ومنه قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : فَاصْدَعْ { بِمَا } تُؤْمَرُ (1) فكان عمر رضي الله عنه كذلك، وبه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاروقا. (الناطق بالصواب): والذي وافق الوحي في أشياء قبل نزوله كما سيأتي. (أعني به): أي بهذا النعت. (الشهم): الذكي المتوقد، السيد المطاع الحكم القوى في أمر الله الشديد في دين الله. (أبا حفص عمر): ابن الخطاب ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط بن رزاح ابن عدي بن كعب العدوى ثاني الخلفاء وإمام الحنفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وأول من تسمى أمير المؤمنين. (الصارم): السيف المسلول. (المنكي): من النكاية. (على الكفار): لشدته عليهم وإثخانه إياهم، حتى إن كان شيطانه ليخافه أن يأمره بمعصية كما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (وموسع): من الاتساع. (الفتوح): فتوح الإسلام. (في الأمصار): فكمل فتوح بلاد الروم بعد اليرموك ثم بلاد فارس حتى مزق الله به ملكهم كل ممزق، ثم أوغل في بلاد الترك كما هو مبسوط في كتب السير وغيرها. (2)
- وفيه:
ثالثهم عثمان ذو النورين ... ذو الحلم والحيا بغير مين
بحر العلوم جامع القرآن ... منه استحت ملائك الرحمن
بايع عنه سيد الأكوان ... بكفه في بيعة الرضوان
(
__________
(1) الحجر الآية (94).
(2) معارج القبول (2/546-547).(1/333)
ثالثهم): في الخلافة والفضل. (عثمان): بن عفان بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف، من السابقين الأولين إلى الإسلام بدعوة الصديق إياه، وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية ابنته رضي الله عنها، وهاجر الهجرتين وهي معه، وتخلف عن بدر لمرضها، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره. وبعد وفاتها زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل صحبتها وبذلك تسمى. (ذو النورين): لأنه تزوج ابنتي نبي واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه. ذو الحلم: التام الذي لم يدركه غيره. (والحياء): الإيماني الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحياء شعبة من الإيمان" (1) وقال: "أشدكم حياء عثمان" (2) . (بحر العلوم): الفهم التام في كتاب الله تعالى حتى إن كان ليقوم به في ركعة واحدة فلا يركع إلا في خاتمتها إلا ما كان من سجود القرآن. (جامع القرآن): لما خشى الاختلاف في القرآن والخصام فيه في أثناء خلافته رضي الله عنه، فجمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على القراءة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سني حياته... (3)
- وفيه:
والرابع ابن عم خير الرسل ... أعني الإمام الحق ذا القدر العلي
مبيد كل خارجي مارق ... وكل خب رافضي فاسق
من كان للرسول في مكان ... هارون من موسى بلا نكران
ولا في نبوة فقد قدمت ما ... يكفي لمن من سوء ظن سلما
(
__________
(1) أحمد (2/414) والبخاري (1/71/9) ومسلم (1/63/35) وأبو داود (5/56/4614) والنسائي (8/484/5020) وابن ماجه (1/22/57).
(2) تقدم تخريجه في مواقف شيخ المالكية سعيد بن محمد بن الحداد المغربي سنة (302هـ).
(3) معارج القبول (2/555-556).(1/334)
والرابع): في الفضل والخلافة. (ابن عم): محمد - صلى الله عليه وسلم - . (خير الرسل): أكرمهم على الله عز وجل. (أعني): بذلك. (الإمام الحق): بالإجماع بلا مدافعة ولا ممانعة. (ذا): صاحب. (القدر العلي): الرفيع، وهو أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه وأرضاه...
(ومبيد كل خب رافضي فاسق): الخب الخداع الخائن، والرافضي نسبة إلى الرفض، وهو الترك بازدراء واستهانة، سموا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنهما ظلما عليا واغتصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة رضي الله عنها فدك، وبذلك يحطون عليهما ثم على عائشة ثم على غيرها من الصحابة. وهم أقسام كثيرة لا كثرهم الله تعالى، أعظمهم غلوا وأسوأهم قولا وأخبثهم اعتقادا بل وأخبث من اليهود والنصارى هم السبئية أتباع عبدالله بن سبأ اليهودي قبحه الله، كانوا يعتقدون في علي رضي الله عنه الإلهية كما يعتقد النصارى في عيسى عليه السلام، وهم الذين أحرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأنكر ذلك عليه ابن عباس كما في صحيح البخاري والمسند وأبي داود والترمذي والنسائي عن عكرمة رضي الله عنه قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من بدل دينه فاقتلوه" (1) .
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/217) والبخاري (6/184/3017) وأبوداود (4/520/4351) والترمذي (4/48/1458) والنسائي (7/120/4071) وابن ماجه (2/848/2535).(1/335)
حكى عن أبي المظفر الاسفراييني في الملل والنحل: أن الذين أحرقهم علي رضي الله عنه طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبئية، وكان كبيرهم عبدالله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة. وتفصيل ذلك ما ذكره في الفتح من طريق عبدالله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي رضي الله عنه: إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني. فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فأمر علي رضي الله عنه أن يخد لهم أخدود بين المسجد والقصر، وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم: إني طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
قال ابن حجر: "إسناده صحيح" (1) .اهـ (2)
__________
(1) تقدم ضمن مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ).
(2) معارج القبول (2/565-574).(1/336)
- وفيه: وأكثر ما يكذب على علي رضي الله عنه الرافضة الذين يدعون مشايعته ونشر فضائله ومثالب غيره من الصحابة، فيسندون ذلك إليه رضي الله عنه وهو بريء منهم، وهم أعدى عدو له. وفي الصحيحين من طرق عنه رضي الله عنه قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار" (1) . وفي فضائله رضي الله عنه من الأحاديث الصحاح والحسان ما يغني عن أكاذيب الرافضة، وهم يجهلون غالب ما له من الفضائل فيها، وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت فثلاث قالهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له وقد خلفه في مغازيه فقال له علي رضي الله عنه: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي؟" وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله"، قال فتطاولنا لها قال: "ادعوا لي عليا"، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ليلة فتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: تَعَالَوْا { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا } وَأَبْنَاءَكُمْ (2) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" (3) .اهـ (4)
- وفيه:
__________
(1) أحمد (1/83،123،150) والبخاري (1/266/106) ومسلم في مقدمته (1/9/1) والترمذي (5/34/2660) والنسائي في الكبرى (3/457/5811) وابن ماجه (1/13/31).
(2) آل عمران الآية (61).
(3) أحمد (1/185) ومسلم (4/1871/2404 [32]) والترمذي (5/596/3724) والنسائي في الكبرى (6/122/8439) من طريق بكير بن مسمار المدني عن عامر بن سعد عن أبيه.
(4) معارج القبول (2/579-580).(1/337)
ثم السكوت واجب عما جرى ... بينهم من فعل ما قد قدرا
فكلهم مجتهد مثاب ... وخطؤهم يغفره الوهاب
أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه، والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة، والاستغفار للقتلى من الطرفين والترحم عليهم، وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم، عملا بقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ { جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا } بِالْإِيمَانِ (1) الآية. واعتقاد أن الكل منهم مجتهد: إن أصاب فله أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور، ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك. وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون. (2)
موقفه من الصوفية:
سئل رحمه الله: إلى كم قسم تنقسم البدع في العبادات:
فأجاب: إلى قسمين:
الأول: التعبد بما لم يأذن الله أن يعبد به ألبتة، كتعبد جهلة المتصوفة بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء وأنواع المعازف وغيرهما، مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } (3) .
__________
(1) الحشر الآية (10).
(2) معارج القبول (2/599-600)
(3) الأنفال الآية (35).(1/338)
والثاني: التعبد بما أصله مشروع، ولكن وضع في غير موضعه، ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة، فإذا فعله غير المحرم في الصوم أو في الصلاة أو غيرها بنية التعبد كان بدعة محرمة، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما تشرع فيه، كالصلوات النفل في أوقات النهي، وكصيام يوم الشك وصيام العيدين، ونحو ذلك. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال في معرض ذكره للإلحاد في أسماء الله: وهو ثلاثة أقسام:
الأول: إلحاد المشركين، وهو ما ذكره ابن عباس وابن جريج ومجاهد من عدولهم بأسماء الله تعالى عما هي عليه، وتسميتهم أوثانهم بها مضاهاة لله عز وجل ومشاقة له وللرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني: إلحاد المشبهة الذين يكيفون صفات الله عز وجل ويشبهونها بصفات خلقه مضادة له تعالى وردا لقوله عز وجل: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (2) ، وَلَا { يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (3) وهو مقابل لإلحاد المشركين؛ فأولئك جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق وسووه به، وهؤلاء جعلوا الخالق بمنزلة الأجسام المخلوقة وشبهوه بها، تعالى وتقدس عن إفكهم.
الثالث: إلحاد النفاة، وهم قسمان:
قسم أثبتوا ألفاظ أسمائه تعالى دون ما تضمنته من صفات الكمال، فقالوا: رحمن رحيم بلا رحمة، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر. واطردوا بقية الأسماء الحسنى هكذا وعطلوها عن معانيها وما تقتضيه وتتضمنه من صفات الكمال لله تعالى، وهم في الحقيقة كمن بعدهم، وإنما أثبتوا الألفاظ دون المعاني تسترا وهو لا ينفعهم.
__________
(1) أعلام السنة المنشورة (ص.220).
(2) الشورى الآية (11).
(3) طه الآية (110).(1/339)
وقسم لم يتستروا بما تستر به إخوانهم بل صرحوا بنفي الأسماء وما تدل عليه من المعاني واستراحوا من تكلف أولئك، وصفوا الله تعالى بالعدم المحض الذي لا اسم له ولا صفة؛ وهم في الحقيقة جاحدون لوجود ذاته تعالى، مكذبون بالكتاب وبما أرسل الله به رسله. وكل هذه الأربعة الأقسام كل فريق منهم يكفر مقابله، وهم كما قالوا كلهم كفار بشهادة الله وملائكته وكتبه ورسله والناس أجمعين من أهل الإيمان والإثبات الواقفين مع كلام الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآله وصحبه أجمعين. (1)
__________
(1) معارج القبول (1/88-89).(1/340)
- وقال في 'أعلام السنة المنشورة' مبينا معتقده في القرآن: القرآن كلام الله عز وجل حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، تكلم الله به قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وآمن به المؤمنون حقا، فهو وإن خط بالبنان وتلي باللسان، وحفظ بالجنان وسمع بالآذان وأبصرته العينان، لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الرحمن، فالأنامل والمداد والأقلام والأوراق مخلوقة، والمكتوب بها غير مخلوق، والألسن والأصوات مخلوقة والمتلو بها على اختلافها غير مخلوق، والصدور مخلوقة، والمحفوظ فيها غير مخلوق، والأسماع مخلوقة، والمسموع غير مخلوق، قال الله تعالى: إِنَّهُ { لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } (78) (1) ، وقال تعالى: بَلْ { هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } (49) (2) ، وقال تعالى: وَاتْلُ { مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ } لِكَلِمَاتِهِ (3) ، وقال تعالى: وَإِنْ { أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ } اللَّهِ (4) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "أديموا النظر في المصحف" والنصوص في ذلك لا تحصى، ومن قال: القرآن أو شيء من القرآن مخلوق فهو كافر كفرا أكبر يخرجه من الإسلام بالكلية، لأن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود وكلامه وصفته، ومن قال: شيء من صفات الله مخلوق فهو كافر مرتد، يعرض عليه الرجوع إلى الإسلام فإن رجع وإلا قتل كفرا ليس له شيء من أحكام المسلمين. (5)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) الواقعة الآيتان (77و78).
(2) العنكبوت الآية (49).
(3) الكهف الآية (27).
(4) التوبة الآية (6).
(5) أعلام السنة (93-95).(1/341)
بين رحمه الله الواجب لولاة الأمور طبقا لما قرره أهل السنة فقال: الواجب لهم النصيحة بموالاتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم برفق، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، والصبر عليهم وإن جاروا، وترك الخروج بالسيف عليهم ما لم يظهروا كفرا بواحا، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح والتوفيق. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله في سلم الوصول:
اعلم بأن الدين قول وعمل ... فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل
- وقال أيضا فيه:
إيماننا يزيد بالطاعات ... ونقصه يكون بالزلات
وأهله فيه على تفاضل ... هل أنت كالأملاك أو كالرسل
والفاسق الملي ذو العصيان ... لم ينف عنه مطلق الإيمان
لكن بقدر الفسق والمعاصي ... إيمانه مازال في انتقاص
وقد شرح رحمه الله هذه الأبيات في معارج القبول شرحا وافيا فلتنظر هناك. (2)
موقفه من القدرية:
عقد فصلا في كتابه الجليل 'معارج القبول' في رؤوس الطوائف الضالة وذكر من بينهم القدرية فقال: الطائفة الرابعة: نفاة القدر، وهم فرقتان:
فرقة نفت تقدير الخير والشر بالكلية وجعلت العباد هم الخالقين لأفعالهم خيرها وشرها، ولازم هذا القول أنهم هم الخالقون لأنفسهم، لأن في قولهم نفي تصرف الله في عباده، وإخراج أفعالهم عن خلقه وتقديره، فيكون تكونهم من التراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى آخر أطوار التخليق هم بأنفسهم تطوروا، وبطبيعتهم تخلقوا، وهذا راجع إلى مذهب الطبائعية الدهرية الذين لم يثبتوا خالقا أصلا كما قدمنا مناظرة أبي حنيفة لبعضهم فأسلموا على يديه.
__________
(1) أعلام السنة (245).
(2) انظر (2/17-23) و(2/405-421) وغيرها من المواطن.(1/342)
وفرقة نفت تقدير الشر دون الخير، فجعلوا الخير من الله وجعلوا الشر من العبد، ثم منهم من ينفي تقدير الشر من أعمال العباد دون تقديره في المصائب، ومنهم من غلا فنفى تقدير الشر من المصائب والمعايب. وعلى كل حال فقد أثبتوا مع الله تعالى خالقا، بل جعلوا العباد معه خالقين كلهم، ونفوا أن يكون الله هو المتفرد بالتصرف في ملكوته، وهذا راجع إلى مذهب المجوس الثنوية الذين أثبتوا خالقين خالقا للخير وخالقا للشر قبحهم الله تعالى. (1)
- وعقد بابا في القضاء والقدر فيه من نظم سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد قال:
والسادس الإيمان بالأقدار ... فأيقن بها ولا تمار
فكل شيء بقضاء وقدر ... والكل في أم الكتاب مستطر (2)
ثم بسط شرح ذلك مطولا.
شيخ أنصار السنة بمصر حامد الفقي (3) (1378 هـ)
الشيخ العلامة محمد حامد الفقي مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية، ولد في قرية جزيرة نكلا العنب في سنة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة. حفظ القرآن الكريم وأتم حفظه في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. بدأ دراسته بالأزهر في شهر شوال سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. ودراسته للحديث والتفسير بعد مضي ست سنين.
نال شهادة العالمية في الأزهر الشريف سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف وعمره آنذاك خمس وعشرون سنة. وانقطع بعدها إلى خدمة كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف، واتخذ لها دارا بعابدين. وبعدها أسس مجلة الهدي النبوي فنفع الله بها النفع العظيم.
__________
(1) معارج القبول (1/336-337).
(2) معارج القبول (2/326).
(3) مجلة التوحيد بتصرف (العدد الثالث ربيع الأول 1416هـ).(1/343)
قال الشيخ عبدالرحمن الوكيل: لقد ظل إمام التوحيد (في العالم الإسلامي) والدنا الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- أكثر من أربعين عاما يجاهد في سبيل الله، ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب، واعتاد النصر على الأحداث، وإرادته تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ له، إذ كان الخوف من الله آخذا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يدهن في القول ولا يداجي، ولا يبالي ولا يعرف المجاملة أبدا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلا وجبنا.
توفي رحمه الله فجر الجمعة سابع رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة على إثر عملية جراحية أجراها بمستشفى العجوزة.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الإمام شوكة في حلق المبتدعة في زمنه. ونفع الله به نفعا عظيما. وأخرج كثيرا من كتب السلف وزينها بتعاليقه الجيدة. وهي وإن كانت مختصرة، لكنها مفيدة.
منها ما جاء في هامش 'اقتضاء الصراط المستقيم':
- قال: وكذلك المقلدون على عمى: قد أطاعوا من قلدوهم في أخطائهم، وردوا بها صريح نصوص الكتاب والسنة، زاعمين أنها لم يأخذ بها معظمهم. (1)
__________
(1) هامش اقتضاء الصراط المستقيم (9).(1/344)
- وقال: الجاهلية: هي الحالة الناشئة عن الجهل والإعراض عن أسباب العلم التي أقامها الله في آياته الكونية في الأنفس والآفاق وفي النعم المتتالية؛ فهذه الحالة الجاهلية ملازمة للإعراض عن الفهم والتفقه لما أنزل الله في كتبه وأرسل به رسله، وللإعراض عن التدبر والتأمل لسنن الله الكونية، وآياته العلمية. وهذه حال يعمد الشيطان إلى إركاس الناس فيها بصرفهم عن الحق والهدي الذي جاءهم به رسل الله. وقد أركس الشيطان الناس اليوم فيها بالتقليد الأعمى وتعطيل عقولهم وأفهامهم، وحرمانهم من تدبر سنن الله وآياته، ومن الفقه في كتاب الله وسنة رسوله، فغلب عليهم العقائد الزائغة، والأخلاق الفاسدة، وانعكست بهم الأحوال، فغلبت النساء بسفههن الرجال، ونفقت سوق الشرك والبدع والخرافات، والفسوق والعصيان، وتحاكموا إلى الطواغيت، وتقطعت الصلات، وتباغضت القلوب، وتعاونوا على الإثم والعدوان، وأصبحوا شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، وضل سعيهم في كل شئون الحياة الدنيا. وعلى الجملة: أصبحوا في حياة لا ينبغي أن تنسب إلا إلى الجهل والسفه والغي، والإسلام دين الحكمة والرشد والفطرة السليمة، ودين العزة والقوة: برئ منها كل البراءة. (1)
- وقال: لا يمكن أن تكون بدعة إلا ولها سلف وقدوة خبيثة من دين الكافرين وخبث أعمالهم التي أوحاها إليهم شياطين الإنس والجن. (2)
__________
(1) هامش اقتضاء الصراط (79).
(2) هامش اقتضاء الصراط (116).(1/345)
- وقال: والذي أعتقده -والله الموفق- هو أن شرع الإسلام بعقائده وعباداته وشرائعه شرع تام بما أتمه الله غير محتاج إلى غيره الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) بل جعله الله مهيمنا على غيره. بحيث يجب على المؤمن أن لا يرجع إلى غيره، ولو أنه عرض له في حياته أمر أي أمر -فيجب أن يرده إلى الله ورسوله. فهو الشريعة التي حفظ الله أصولها ونصوصها، بحيث لا يتطرق شك ولا ريبة إلى أي أصل من أصولها، ولا نص من نصوصها، وهي الشريعة التي ارتضاها الله ربنا سبحانه -وهو العليم الحكيم الرحيم- لعباده من كل بني آدم من وقت نزولها إلى آخر الدهر، واختزن ربنا في طوايا نصوصها ما فيه الهدى والرحمة، والرشد والحكمة، والشفاء لما في صدور جميع الناس من كل داء ومرض من أمراض الشبهات والشهوات في الفرد والأسرة والحكومة والمجتمع. (2)
- قال الشيخ رحمه الله عقب كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء: "وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع: من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا".
__________
(1) المائدة الآية (3).
(2) هامش اقتضاء الصراط (170).(1/346)
قلت: كيف يكون لهم ثواب على هذا وهم مخالفون لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهدي أصحابه؟! فإن قيل: لأنهم اجتهدوا فأخطأوا، فنقول: أي اجتهاد في هذا؟ وهل تركت نصوص العبادات مجالا للاجتهاد؟! والأمر فيه واضح كل الوضوح. وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء، حملت الناس على الإعراض عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دين اليهود والنصارى والوثنيين. فعليهم ما يستحقونه من لعنة الله وغضبه، وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن هديه وكرهه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه، والمسارعة إلى الوثنية واليهودية والنصرانية؟ ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك الأعياد الوثنية؟ هل هم مالك أو الشافعي أو أحمد أو أبو حنيفة أو السفيانان أو غيرهم من أئمة الهدى رضي الله عنهم؟ حتى يعتذر لهم ولأخطائهم، كلا، بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم، وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأنهم كانوا وبالا على المسلمين، وعلى أيديهم وبدسائسهم وما نفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم، حتى كانوا مع المغضوب عليهم والضالين؟ وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف ما يقول من إثابتهم، لأن حب الرسول وتعظيمه الواجب على كل مسلم: إنما هو باتباع ما جاء به من عند الله. كما قال الله تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (31) (1)
__________
(1) آل عمران الآية (31)..(1/347)
وقال: أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) ،
__________
(1) النساء الآيات (60-65)..(1/348)
وقال تعالى: وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (1) .اهـ (2)
و له كلام جيد على بدعة قراءة القرآن على الموتى:
جاء في اقتضاء الصراط المستقيم: "والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة: أنها تعين على حفظ القرآن، وأنها رزق لحفاظ القرآن، وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته، وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته، فهو مما يحفظ به الدين، كما يحفظ بقراءة الكافر وجهاد الفاجر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" (3) ".
__________
(1) النور الآيات (47-52).
(2) هامش اقتضاء الصراط (294-295 دار الكتب العلمية).
(3) أحمد (2/309) والبخاري (6/220-221/3062) ومسلم (1/105-106/111).(1/349)
- قال حامد الفقي عقب هذا القول: لقد كان هذا من أقوى أسباب إماتة القرآن فقها وعلما وعملا وإن حفظوه حروفا وألفاظا، لأنهم يحترفون قراءته للموتى، على مثال كهنة قدماء المصريين الوثنيين، وبذلك هان القرآن ونزل من نفوس القادة والرؤساء، بل والعامة، حتى أصبح أقل منزلة في نفوسهم من قول الشيوخ وآرائهم، وعادات الآباء وتقاليدهم، وحتى أصبح في زمننا هذا أقل من قوانين الفرنجة وضلالهم. ولم يبق له في العقائد والعبادات والأخلاق والأدب والأحكام والدولة والأسرة أي أثر ولا قيمة، كل ذلك من آثار امتهانه للموتى والمقابر وللحجب والتمائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهل كان السلف يستعينون على حفظ القرآن بهذا؟ أو هل أثر عن أحد من الخلفاء الراشدين قراءة القرآن على المقابر؟ ولكن هي السنن، حين تتحكم الأهواء، فيلتمس الناس لجعلها دينا أي دليل، ولو كان أوهى من بيت العنكبوت. (1)
موقفه من المشركين:
له هوامش على 'فتح المجيد':
- قال رحمه الله عقب قول الشارح: "..فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى": هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة، لأن حب الله لا يكون إلا عن معرفة بالله، بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها والله أعلم: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله. والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. (2)
__________
(1) هامش اقتضاء الصراط (380-381 دار الكتب العلمية).
(2) فتح المجيد (ص.123).(1/350)
- وقال: الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع. لأنه ليس كل حب يكون عبادة حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: (كحب الله) ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب، يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم، ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء، ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم، ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم. فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجود أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله برا للوالدين أو صلة للأرحام، أو إطعاما لجار بائس، أو مسكين من أهل قريته؛ هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله، ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله. (1)
__________
(1) فتح المجيد (ص.137).(1/351)
- وقال: في التِّوَلَة: وإن زعم الذين يصنعونها للنساء أنهم مسلمون ومتدينون، وأن ما يكتبونه من القرآن وأسماء الله، فإنهم يفعلون ذلك تضليلا بالقرآن وإلحادا فيه. لأنهم يكتبونه على طريقة اليهود حروفا مقطعة وبمداد خاص، ويمزجونه بأدعية جاهلية وبخطوط يزعمونها على صورة خاتم سليمان الذي كان فيه سر ملكه، كما يزعم اليهود الذين يعتقدون كفر سليمان، وأنه كان يسخر الجن بالسحر لا بمعجزة من الله. وعلى هذه العقيدة اليهودية الدجالون الذين يكتبون التمائم والتولات، ويزعمون أن للحروف والأسماء خداما يقومون بما يطلب منهم من الأعمال السحرية، ويتخذون أنواعا من البخور والأدوات المخصوصة التي يوحي بها شياطينهم. وكل ذلك من الكفر العظيم. (1)
- وقال: في قوله تعالى: إِنْ { يَتَّبِعُونَ إِلَّا } الظَّنَّ (2) : الظن هنا: ظن المشركين بأوليائهم أنها تسمع الدعاء وتجيب، فإنهم ليس لهم علم بذلك لا من طريق حواسهم، ولا من خبر صادق، وإنما هو مما يشيعه السدنة ترويجا لتجارتهم الخاسرة. ويزيد الجاهلين تعلقا بأوليائهم من دون الله ما تهوى أنفسهم من قضاء حاجاتهم بغير الأسباب الكونية فهم يعظمون أولئك الموتى لهوى أنفسهم وقضاء وطرهم لا حبا في الإيمان والمؤمنين. ولذلك تراهم يتنقلون من ميت إلى آخر إذا لم يجدوا مسألتهم قضيت عند الأول. وهكذا ترى السدنة إذا انتقلوا من وظيفة عند هذا الولي الذي كان في نظرهم كبيرا أصبح الولي الذي انتقلوا عند قبره أعظم بركة وأكثر كرامات. والله يقول: إن هؤلاء جميعا لا يتبعون إلا هوى أنفسهم وهم كاذبون أعظم الكذب في دعواهم حب الأولياء والصالحين. (3)
عبدالرحمن الكمالي (1379 هـ)
__________
(1) فتح المجيد (ص.154).
(2) النجم الآية (23).
(3) فتح المجيد (ص.162-163).(1/352)
عبدالرحمن بن أحمد بن يحيى الكمالي الأنصاري، ولد سنة تسع وتسعين ومائتين وألف لسبع خلون من محرم الحرام. وتعلم ببلاده بجزيرة القسم "الجَسَم" بقرية كاروان بجنوب فارس، ثم رحل إلى "لنجة" فدرس على الشيخ عبدالرحمن بن يوسف، ثم رحل إلى مكة ومكث بها عشر سنين؛ فدرس هناك على الشيخ أبي شعيب الدكالي المغربي علوم الحديث والتفسير والتوحيد، ولازمه مدة طويلة. وكان الشيخ أبو شعيب هو السبب في تحول الشيخ عبدالرحمن الكمالي إلى المنهج السلفي، لذا قال فيه (1) :
وفي الغرب من أتباع مالك الإمام ... قوم لهم ذخر حديث محمد
هنالك شيخي المغربي شعيب الـ ... ـذي كابن عبدالبر في نصر مسند
ودرس أيضا على مشايخ الحرم علوم العربية والفقه وغير ذلك.
رجع إلى بلده ودرس فيها العقيدة السلفية في المدرسة الكمالية المشهورة بالعلم، وقضى عمره في مواجهة المناوئين فكانت له معارك كلامية معهم يذب فيها عن منهج السلف في العقيدة، وابتلي جَرَّاء ذلك أثابه الله وأحسن إليه.
له منظومة 'شهود الحق' أبرز فيها المنهج السلفي في العقيدة، شرحها محمد رشاد محمد صالح (إسماعيل زادة) وقام بطبعها، وقدم لها الشيخ أحمد بن حجر رئيس قضاة المحكمة الشرعية بقطر، فأثنى عليها وعلى صاحبها، وللمترجم قصائد أخرى في نصرة العقيدة السلفية منها: قصيدة في أسماء الله وشروطها وغيرها.
توفي رحمه الله يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة في مسجد كاروان في جزيرة "الجسم" ببلده.
موقفه من المشركين:
- قال في منظومته 'شهود الحق':
ولا تعتد لا تدع معه خليقة ... ولو ملكا ذا قرب أو بشيرا هدي
طغى بعض أصحاب النجوم بدعوة الـ ... ـكواكب والخدام بعدا لمعتد
فإن الدعاء والقرابين والسجو ... د والصوم والتسبيح لله فاعبد
قريب لمن يدنو إليه بلطفه ... مجيب لمن يدعو فلا تتبعد
- وقال في قصيدة 'أسماء الله الحسنى وشروطها' (2) :
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.278).
(2) ص.296).(1/353)
ولا تعبدن الخلق بل كن موحدا ... لمن كان قبل الخلق ربا وسيدا
- وقال أيضا (1) :
بإخلاصك التوحيد نل قصرك المشيد ... في جنة سقف لها العرش فافرش
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله (2) :
وآل رسول الله بالصدق وَالِهم ... على السنة البيضا لجدهم اهتد
ولا تك خبا رافضيا بزعمه ... محبتهم في سب صحب محمدي
وقذف الطهور أم من آمنوا رضا ... وتخوين جبريل الأمين الممجد
وتنزيهما في بضع عشرة آية ... أمانتهم جاءت بآيات اشهد
فذو الرفض كالجهمي يخفي شواهد الـ ... ـعلو وفي الوحيين ألف لمهتد
قم اتبع وحب الصحب فالتابعون في ... رضا الله موصولون معهم إلى غد
هم أولياء الله مع تابعيهم ... طريق الهدى معهم شريعة أحمد
موقفه من الجهمية:
قال الشيخ أحمد بن حجر في مقدمته لمنظومة 'شهود الحق' (3) : ولم يكتف الشيخ عبدالرحمن بكونه أصبح سلفيا متقيدا بعقيدته في الكتاب والسنة وفي أعماله، بل أصبح مناظرا ومجاهدا وسيفا مسلولا على المؤولة.
- قال رحمه الله (4) :
سألنا علي الذات والوصف جمعنا ... بمجمع أسعاد بأرفع مسعد
ودفعا لأشرار الفلاسفة البغاة ... في طغيهم عما أتى من محمد
ورفعا لوسواس لهم قد أتوا به ... إلينا بأوهام الكلام المبعد
ومنعا لطرق الشك في قلب واحد ... من الجمع، جمع الشمل شمل التسعد
ورجعا لمن في مهمه الوهم تاه من ... تسفسط قول الفلسفي المعربد
إله الورى لا داخل العالمين بل ... ولا خارجا عنها فما الفوق فاجحد
نصوصا أتت فيه وإن جلت إذ قضت ... لحشوية أرذال أمة أحمد
يقولون مولانا عن الخلق بائن ... بفوقية جاءت نصوص فنقتدي
وإن أمكن التأويل أول وقل لهم ... بفوقية القدر اصرفنها وقيد
كقولك إن السيف فوق الجريد أو ... كما قيل الياقوت فوق الزبرجد
ولا تطلقن اسم العلي ودافعن ... نصوصا وأخرى اطعن وأول وبعد
وإن كثرت منها السهام ولم تجد ... مجالا لتأويل فلا تتشرد
__________
(1) ص.297).
(2) منظومة 'شهود الحق' (ص.276-277).
(3) ص.7-8).
(4) منظومة 'شهود الحق' (ص.106-112).(1/354)
وقل عقلنا قد عارض النقل فلنقد ... م العقل إذ منه إلى النقل نهتدي
فذلك أصل وهو أولى تقدما ... عن الفرع واستمسك بذا وتجلد
أقول إذا فليصنعوا ما بدا لهم ... فبالوحي ما استهدوا ولا بمحمد
وكم لهم من حيلة حولوا بها ... قلوبا عن استقبال سنة أحمد
إن العقل بالإيمان بالوحي مجدوا ... ولم يمرقوا فالوحي أصل الممجد
ولكن عقل المثبتين هو الذي ... يوافقه لا عقل أهل التجحد
يقولون ما لا في كتاب وسنة ... بلى سنة اليونان أكيد حسد
- وقال أيضا (1) :
أيا حيلة اليونان في درك سمك المد ... سم قد ألهمت إلهام من هدي
ويا حيلة اليونان في رد كيدك الموكـ ... ـد قد برهنت برهان مهتد
ويا حيلة اليونان ربي ناصري ... عليك فإني من جيوش محمد
ويا حيلة اليونان حولي فدرعي القر ... آن وسيفي سيف جدي أحمد
معوذتاه حلتا عقدا عقد ... ت من سحر تخييل بغير توجد
فكم صدت أقواما بسحر خيالك المحا ... ل بدعوى نفي تشبيه ابتدي
يخيل للأقوام أنك تجحدين ... تشبيهه حتى ظفرت بمقصد
وما تم ذاك النفي إلا بنفيه ... تعالى، فهذا منتهى قصدك الردي
بقصدك رأسا بان أنك تعلمـ ... ـين حربا ويكفي الرأس عن رجل أو يد
بلغت مناك من أناس كثيرة ... فلا تقريبنا يا بغي بل ابعدي
تريدين قطعا للطريق إصالة ... لأنك قطعا من أصول التمرد
وأبلس إبليس اللعين برأيه ... كمثلك قطعا بعد طول التعبد
- وقال أيضا (2) :
كفانا بحمد الله ليس كمثله ... بذات وأوصاف ولم نتجحد
كما أنه بالذات ليس كمثله ... كذا في صفات الذات لم نتردد
وبالحي والقيوم نعلم أنه ... بأحمد أوصاف الكمال وأمجد
فكيف وقد جاءت بقرآن ربنا ... وسنة هادينا، أبالجحد نرتدي؟
وأسماءه الحسنى قبلنا جميعها ... بمدلولها عكس الجحود المبعد
تفرقتم عن جمع جمع صفاته ... مع الذات واستجمعتم آراء مفسد
فناف لذات الله ناف صفاته ... لزوما ولم يهدأ بروغ ويهتد
- وقال (3) :
وما يهتدى إلا بهدي محمد ... وما مدعي هدي عداه بمرشد
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.124-127).
(2) منظومة 'شهود الحق' (ص.134-136).
(3) منظومة 'شهود الحق' (ص.153-154).(1/355)
أكنت بمعراج النبي إلى العلي ... الأعلى على أعلى العلا في تردد
عروجا حقيقيا بغير تأول ... أم أول جهمي به كنت تقتدي
كذلك الأملاك إليه عروجهم ... يخافونه من فوقهم مع تعبد
وتنفيه عن فوق فليس بسافل ... فلم تتشهد مع يقين وتعبد
وعما وراكون فليس بداخل العـ ... ـتخشى الذات يا ذا التردد
لعلك في وهم بأن العظيم في ... قلبيك ذاتا كالحلولي يا ردي
أو الذات في الأكوان مزجا ... أو احتشت ولم تمتزج حشوي أهون معتد
أو الرب والمربوب لم يتباينا ... هما واحد كالاتحادي نعتدي
فلم تخل من بعض أو أنت معطل ... جحود كلا أدرية بالتأكيد
جزاك عمود النار فوق الجحود، ذق ... جزاء وفاقا للعزيز الممجد
فكم فرق في تيه لا الله داخلا ... ولا خارجا أبدت فنون التردد
كما مر ذكر البعض والنهر إن يسد ... مجراه يهدم حوله من مشيد
فنون أهالي التيه صارت جنون من ... يتيه بدعوى كل فن مفند
وأما قلوب الناس في حال فطرة ... الإله عليها قبل نحو التهود
فنحو العلا مجبولة في رجوعها ... إلى الله هذي فطرة اله فاشهد
وعامة إسلام تقر بفوقه ... بحمد الله كالحديث المؤيد
فسله السواد الأعظم اليوم أو غدا ... تجد جود مولانا على الناس فاحمد
- وقال (1) :
أيا مسلما سلم لوصف علوه ... تسلم تسليما به المرء يهتدي
ويا مؤمنا أيقن بنعت علوه ... هديت إذ الإيقان ضد التردد
وأدرى عباد الله بالله عبده ... الرسول وبالوحي بغير تردد
تواترت عنه في العلو دلائل ... بقول وفعل أعجزت ذا التجحد
وكان رسول الله يدعوه بالعلي ... الأعلى إذا ما اهتم بالقصد الأوكد
كذاك إذا ما اهتم يدعوه رافعا ... يديه فتبدو الإبط للشاهد الهدي
وجد برفع الوجه والعين واليد ... فزال الردا عن قده بالتجهد
ببدر بدا كالبدر بل هو أبين ... كذا الرفع في الحج وبعد الوضو أشهد
فقال لنا الجهمي ذا الرفع للسماء ... لا للعلي الواحد المتفرد
فهل لك يا جهمي نص بصرف ذا ... عن الله هل بالصرف للخلق تهتدي
- وقال (2) :
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.269-270).
(2) منظومة 'شهود الحق' (ص.227-228).(1/356)
هم سلفيَّ إياك إياك أن ترى ... تخالفهم، خف من شقاء مؤبد
هم الأهل، لا أصحاب شر زمخشر ... وأضرابه من حائر متردد
ترددهم في ذات ربي ووصفه ... وأسمائه من اعتزال مبعد
محمد سلطان المعصومي (1) (1380 هـ)
أبو عبدالكريم محمد سلطان بن أبي عبدالله محمد أورون المعصومي الخجندي، نسبة إلى جده الأعلى محمد المعصوم. ولد في بلدة خجندة من بلاد ما وراء النهر سنة سبع وتسعين ومائتين وألف. سافر إلى الحجاز ثم إلى الشام ثم إلى مصر، آخذا عن علمائها ومشايخها، ثم رجع إلى موطنه، فاشتغل بالتدريس في المدرسة التي أنشأها والده. وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة خرج الشيخ من الصين متوجها إلى مكة المكرمة بسبب محن وقعت له، فاستوطنها، وبقي فيها يدرس ويعلم إلى أن توفاه الله سنة ثمانين وثلاثمائة وألف رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الرجل من المجاهدين في سبيل عقيدتهم، وكاد أن يكون ضحية الزحف الأحمر الملعون في روسيا ولكن الله نجاه رغم العواصف التي مرت به ترك لنا تراثا سلفيا جيدا من ذلك:
'هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان' وهي رسالة جيدة جوابا على سؤال: هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟ نجتزئ منها بعض أقواله:
__________
(1) مقدمة هدية السلطان (4-12).(1/357)
- قال: أساس دين الإسلام إنما هو العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا هو دين الإسلام الحق، وأصله وأساسه الكتاب والسنة، فهما المرجع في كل ما تنازع فيه المسلمون. ومن رد التنازع إلى غيرهما فهو غير مؤمن، كما قال الله تعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) . ولم يقل أحد من الأئمة اتبعوني فيما ذهب إليه، بل قالوا خذوا من حيث أخذنا، على أن هذه المذاهب أضيف إليها كثير من أفهام القرون المتأخرة، وفيها كثير من الغلط، والمسائل الافتراضية التي لو رآها أحد من الأئمة الذين نسبت إلى مذاهبهم لتبرؤوا منها وممن قالها. وكل واحد ممن يحفظ عنه العلم والدين من أئمة السلف قد تمسك بظاهر الكتاب والسنة، ورغب الناس في التمسك والعمل بهما، كما ثبت عن الإمام أبي حنيفة، وكذا مالك، والشافعي، وأحمد، والسفيانين (2) : الثوري وابن عيينة، والحسن البصري، وأبي (3) يوسف يعقوب القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعبدالرحمن الأوزاعي، وعبدالله بن المبارك، والإمام البخاري، ومسلم، وغيرهم رحمهم الله تعالى، وكل واحد منهم يحذر من البدعة في الدين، ومن التقليد لغير المعصوم؛ والمعصوم إنما هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما غيره فأياً كان فغير معصوم، فيقبل من قوله ما وافق الكتاب والسنة، وينبذ ما خالفهما أيا كان، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "كل الناس يؤخذ منه ويؤخذ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) في الأصل: السفيانان.
(3) في الأصل: وأبو.(1/358)
وعلى هذا سلك المحققون من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكل واحد منهم يحذر من التقليد الجامد، لأن الله تعالى قد ذم في غير موضع من كتابه المقلدين الجامدين، وما كفر غالب من كفر من الأولين والآخرين إلا بالتقليد للأحبار والرهبان، والمشايخ والآباء. وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: "لا يحل لأحد أن يفتي بكلامنا، أو يأخذ بقولنا ما لم يعرف من أين أخذناه" وصرح كل واحد منهم أنه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" وقالوا أيضا: "إذا قلت قولا فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله، فإن وافقهما فاقبلوه، وما خالفهما فردوه، واضربوا بقولي عرض الحائط" وهذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام، أدخلهم الله تعالى دار السلام. ولكن الأسف ألف أسف من المقلدين المتأخرين، والمؤلفين الذين سودوا الدفاتر، وقد ظنهم الناس أنهم علماء مجتهدون معصومون، فهم قد ألزموا الناس تقليد واحد من الأئمة الأربعة ومذاهبهم المعروفة، فبعد الالتزام حظروا الأخذ والعمل بقول غيره كأنهم جعلوه نبيا مطاعا، يا ليتهم يعملون بقول الأئمة أنفسهم، ولكن لا يعرف أكثرهم من قول الإمام المتبوع إلا الاسم، وقد اخترع بعض المتأخرين مسائل، وابتدع مذاهب، ونسبها إلى الإمام، فيظن من يأتي بعده أنها قول الإمام أو مدعيه، والحال أنه مخالف لما قاله الإمام وقرره، وهو بريء مما نسب إليه، كقول كثير من متأخري الحنفية بحرمة الإشارة بالسبابة في تشهد الصلاة، أو أن المراد من يد الله قدرته، أو أنه تعالى في كل مكان بذاته وليس على العرش استوى. وبهذا وأمثاله قد انشقت عصا المسلمين، وتفرقت جماعتهم وجمعيتهم فاتسع الخرق على الراقع، وامتلأت الآفاق بالنفاق والشقاق.(1/359)
فبدع بعضهم بعضا، وضللت كل جماعة من يخالفها في أدنى شيء، وحتى كفر بعضهم بعضا، وضرب بعضهم رقاب بعض، وصاروا مثلا لما أخبر به الرسول الصادق الأمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة"، قيل من هم يا رسول الله؟ قال: "الذين على ما أنا عليه وأصحابي" (1) .
المتأخرون غيروا وبدلوا حتى الزموا تقليد واحد فتفرقوا.
والله العظيم، إن المسلمين حينما كانوا مسلمين كاملين، وصادقين في إسلامهم، كانوا منصورين وفاتحين البلاد، ورافعين أعلامهم الدين (2) ، كالخلفاء الراشدين والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، ولكن لما غير المسلمون أوامر رب العالمين، جازاهم الله تعالى بتغيير النعمة عليهم، وسلب عنهم الدولة وأزال عنهم الخلافة، كما تشهد به آيات كثيرة. فمن جملة ما غيروا: التمذهب بالمذاهب الخاصة، والتعصب لها ولو بالباطل، وهذه المذاهب أمور مبتدعة حدثت بعد القرون الثلاثة، وهذا لا شك فيه ولا شبهة، وكل بدعة تعتقد دينا وثوابا فهي ضلالة، والسلف الصالحون كانوا يتمسكون بالكتاب والسنة وما دلاّ عليه، وما أجمعت عليه الأمة، وكانوا مسلمين رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم وأرضاهم وجعلنا منهم، وحشرنا معهم في زمرتهم؛ ولكن لما شاعت بدعة المذاهب نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل البعض البعض، حتى أفتوا بعدم جواز اقتداء الحنفي وراء الإمام الشافعي مثلا، وإن تقولوا بأن أهل المذاهب الأربعة هم أهل السنة، ولكن أعمالهم تكذبهم وتعارض قولهم وتبطله، فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام، فتعددت الجماعة، وانتظر كل متمذهب جماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصّل إبليس مقصدا من مقاصده، ألا وهو تفريق المسلمين وتشتيت شملهم، فنعوذ بالله من ذلك. (3)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) كذا بالأصل، ولعل الصواب (رافعين أعلام الدين).
(3) هدية السلطان (40-48).(1/360)
- وقال: والعجب من هؤلاء المقلدين لهذه المذاهب المبتدعة الشائعة والمتعصبين لها، فإن أحدهم يتبع ما نسب إلى مذهبه مع بعده عن الدليل، ويعتقده كأنه نبي مرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، وقد شاهدنا وجربنا أن هؤلاء المقلدين يعتقدون أن إمامهم يمتنع على مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه أنه لا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه، وهذا هو طبق ما رواه الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ } اللَّهِ (1) فقلت: يا رسول الله إنهم ما كانوا يعبدونهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إنهم إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، فذلك عبادتهم" (2) .اهـ (3)
- وقال: اعلم أن معظم الناس خاسرون وأقلهم رابحون، فمن أراد أن ينظر في ربحه وخسره؛ فلينظر وليعرض نفسه على الكتاب والسنة، فإذا وافقهما فهو الرابح، وأما إذا خالفهما فهو الخاسر، فيا حسرة عليه، وقد أخبر الله تعالى بخسارة الخاسرين وربح الرابحين، فأقسم بالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا من جمع أربعة أوصاف، وإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يخبر عن المغيبات، ولكن يخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير سبب محلل، ويترك الواجبات بغير سبب مجوز، فاعلم أنه شيطان نصبه الله تعالى فتنة للجهلة، وليس ذلك بعيدا من الأسباب التي وضعها الله تعالى للضلال، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإن الدجال يحيي ويميت ويمطر السماء فتنة لأهل الضلال، وكذلك من يأكل الحيات ويدخل النيران. (4)
__________
(1) التوبة الآية (31).
(2) الترمذي (5/259-260/3095) وقال: "هذا حديث غريب". وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 6).
(3) هدية السلطان (52-53).
(4) هدية السلطان (77).(1/361)
- وقال: يقال للمقلد على أي شيء كان الناس قبل أن يوجد فلان وفلان الذين قلدتموهم، وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع، وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو ضلالة؟ فلا بد من أن يقروا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنة والآثار، وتقديم قول الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة رضي الله عنهم على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان وفلان ورأيه؟ وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى يؤفكون؟ فتدبر. (1)
- وله كتاب 'تمييز المحظوظين عن المحرومين في تجريد الدين وتوحيد المرسلين'. قال فيه: واحترز أيها المؤمن عن الصيغ المحدثة المبتدعة، والأحزاب المؤقتة التي فيها المنكرات بل الأكاذيب والكفريات كـ 'دلائل الخيرات' للجزولي، و'صلوات الثناء' للنبهاني؛ فإنها من البدع المنكرة، لا يحل لمن يؤمن بالله وبكتابه ورسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك، أو يعتقد جوازه، فإنه مما لم يأذن به الله ولا رسوله ولا أحد من أئمة المسلمين، فالحذر الحذر. (2)
__________
(1) هدية السلطان (79).
(2) تمييز المحظوظين (253).(1/362)
- وقال: وقد صدق الله العظيم؛ فإن المسلمين لما كانوا كاملي الإسلام؛ كالخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم نصرهم الله تعالى على الأعداء، وفتح على أيديهم البلدان الكثيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فجزاهم الله تعالى في الدارين خير الجزاء. وأما الخلف؛ الذين خالفوا الله، وخالفوا أمره، وخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا سنته، وخالفوا السلف الصالحين، وتركوا العمل بكتاب الله الهادي إلى سعادة الدارين، وجهلوا معانيه، واتخذوا دينهم هزوا ولعبا، واعتمدوا على الخرافات ودجل الدجالين، واعتقدوا أن أرواح الأولياء تعينهم وتمدهم، وأن الأقطاب والأوتاد تتصرف في العالم وتحفظه، فبنوا الأربطة والخانقات، واشتغلوا بالخرافات والخزعبلات، بل الشركيات والبدعيات والضلالات، وساعدهم السلاطين الجهلة، والعلماء الدجاجلة؛ فسلب الله تعالى عنهم الدولة، وسلط عليهم الكفرة الخذلة، ذَلِكَ { بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (53) (1) .اهـ (2)
__________
(1) الأنفال الآية (53).
(2) تمييز المحظوظين (261-262).(1/363)
- وقال: الآية الخامسة والثمانون في سورة المجادلة: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (10) (1) . قد نادى الله تعالى وخاطب عباده المؤمنين؛ مؤدبا إياهم أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين الذين يتناجون بالإثم فيما بينهم، والفسق والعدوان على غيرهم، ومنه معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته، ويصرون عليها، ويتواصون بها فيما بينهم؛ كأكثر البخاريين الذين يجاورون الحرمين وهم مصرون على عداوة أهل التوحيد العاملين بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيعادون الوهابيين، ويعادون السلفيين، ويقولون على طريق التشنيع: إنه وهابي، ويتواصون بذلك بعضهم بعضا، ويتواصون بعضهم بعضا أن لا يحضروا ولا يستمعوا دروس التفسير والحديث والتوحيد. وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا } تَنَاجَيْتُمْ وتساررتم فيما بينكم فَلَا { تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ } الرَّسُولِ كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ومالأهم على ضلالهم من المنافقين والمقلدين الجامدين، بل أنتم أيها المؤمنون (#ِqyf"uZs? { بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (9) فيجازيكم على أعمالكم وأقوالكم وقد أحصاها عليكم.
__________
(1) المجادلة الآيتان (9و10).(1/364)
ثم قال تعالى: إِنَّمَا { } 3"uqôf¨Z9$#؛ أي: المساررة حيث يتوهم المؤمن بها سوءا من تزيين الشيطان وتسويله؛ لِيَحْزُنَ { الَّذِينَ } (#qمZtB#uن؛ أي: إنما يزين لهم ذلك ليحزن المؤمنين ويسوؤهم، وَلَيْسَ { بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ كما يفعل أكثر المبتدعين في حق السلفيين الموحدين، وما هم بضارين شيئا إلا بإذن الله، فنحن نستعيذ منهم بالله، ونتوكل عليه تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل. فيا أيها المؤمنون اتقوا ربكم؛ فإنه عليم خبير، وعذابه أليم وشديد، ولا تغتروا بوساوس الشيطان من الجن والإنسان. (1)
- وقال: ثم اعلم أنه كما اختلفت وكفرت طائفة من بني إسرائيل؛ كذلك اختلفت وكفرت طوائف من هذه الأمة، وغلت في نبيها وآله؛ كالرافضة، والشيعة، وغلاة الصوفية، والحنفية الهندية البريلوية، فادعت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب الآن (2) ، وأن حاله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كحاله قبل موته، وهو حي في قبره كحياته الدنيوية، ولهذا ينادونه ويستغيثون به، حتى إنهم حينما يقرؤون قصة المولد يقومون قياما بغاية التعظيم، ويقولون:
مرحبا يا مرحبا يا مرحبا ... مرحبا جد الحسين مرحبا
__________
(1) تمييز المحظوظين (283-284).
(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب لا الآن ولا قبل، إلا ما أعلمه الله عزوجل في حياته، قال تعالى: قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } النمل الآية (65) وقال: فَلَا { يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } (27) الجن الآيتان (26و27).(1/365)
وإنما يقومون لأنهم يعتقدون أن روحه - صلى الله عليه وسلم - قد حضر هناك. وزاد غلو متأخريهم حتى صاروا يعتقدون أن الأولياء كعبدالقادر الجيلاني مثلا- يعلمون الغيب، ويتصرفون في الأمور، فلهذا تراهم ينادونهم ويستغيثون بهم وينذرون لهم، فهؤلاء وأمثالهم كفرة مشركون، والعياذ بالله تعالى. (1)
موقفه من المشركين:
له من الآثار السلفية:
1- 'المشاهد المعصومية عند قبر خير البرية في المدينة الطيبة' وهو عبارة عن رسالة صغيرة ذكر فيها ما يتعلق بالقبة ومتى بنيت، وذكر ما دخل المسجد النبوي من تغييرات مخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وأسوق بعض النماذج من كلامه.
قال رحمه الله: اعلم أنه إلى عام 678هـ لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبره - صلى الله عليه وسلم - وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة 678هـ فعملت تلك القبة. قلت:إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلا منه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، كما قلدهم الوليد في زخرفة المسجد فتنبه.
__________
(1) تمييز المحظوظين (302-303).(1/366)
وقال: غيروا توحيد الله بالشرك باعتقاد أن أرواح الأنبياء والأولياء وخصوصا روح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلم الغيب وتنفع وتضر. وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى ما لم يتب منه؛ وبالركوع والسجود وكمال الخضوع إلى قبره الشريف وجعله قبلة في كل يوم مرات، وغيروا الإسلام باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فاستحلوا ما حللوه لهم وإن كان محرما ممنوعا من الله ورسوله كالبناء على القبور وتزيين المساجد وابتداع عبادات وأوراد في أوقات مخصوصة كدلائل الخيرات وقصيدة البردة. وحرموا على أنفسهم ما حلله الله بل فرضه، كتحريمهم العمل بالكتاب والسنة، وتحريمهم الإشارة بالسبابة، وإيجابهم تقليد أحد المذاهب المعينة وإلزامهم أخذ البيعة على يد شيخ من شيوخ الطرق ونحو ذلك من الخرافات والضلالة فتدبر.
وقال في موضع آخر: فما في مسجد المدينة من النقوش المتنوعة، وطلي الذهب الكثير جدا، وكتابة الأبيات والأشعار الباطلة محفورة على الأسطوانات، وكتابة أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجدار القبلي، وفيها ما هو من أسماء الله الخاصة له تعالى كالمهيمن والمحيي، وكتابة أبيات قصيدة البردة تماما على سقوف الأروقة والقبب القبلية، وكتابة أحاديث موضوعة محفورة على الحديد المذهب كحديث: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" (1) ونحوها من النقوش التي هي منكرة؛ وإني لا أشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان حيا لأزالها حالا، ولا يدخل هذا المسجد حتى تزال هذه المنكرات فتنبه.
__________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي (65)، ومن طريقه البيهقي (5/245) من طريق أبي الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر رضي الله عنه. وقال: هذا إسناد مجهول. وقال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (ص.89): "هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه" وانظر الإرواء (4/333/1127).(1/367)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: لما غلب الجهل على كثير ممن يدعي الإسلام والتصوف؛ حرفوا هذه المراقبة، وبدلوها بمراقبة الشيخ، وسموها رابطة، فصاروا يراقبون صور شيوخهم، وهؤلاء الشيوخ يأمرونهم بذلك، فوضعوا شيوخهم موضع رب العالمين، فصاروا بذلك مشركين بالشرك الأكبر وهم لا يشعرون، وقد دخلوا في دين الوثنية باسم التصوف وهم لا يعلمون، ولهذا صاروا يتوجهون إلى القبور وإلى أصحاب القبور، ويستمدون منهم ويستغيثون بهم، ويبنون على قبور من يزعمونه صالحا قبة وعمارة عالية، ويزخرفونها، ويتوجهون إليها، وينذرون لها؛ كما هو حالهم المشاهد في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد صاروا عباد الأصنام والأوثان وهم لا يفهمون: ولهذا أذلهم الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تحت أرجل الكفرة من الإنكليز والطليان والفرنسيين والروس والبلاشفة والأمريكان، وَلَعَذَابُ { الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } (127) (1) .
فيا أيها المسلمون توبوا إلى الله، وارجعوا إلى دراسة كتاب الله وأحاديث رسول الله، واجتهدوا في فهم أوامر الله وخطاباته لكم؛ كي يعفو الله عنكم ويغفر ذنوبكم، فيدفع عنكم البلاء. (2)
محمد بن علي بن محمد بن تركي (3) (1380 هـ)
الشيخ محمد بن علي بن محمد بن منصور بن تركي، ولد في بلدة عنيزة عام ألف وثلاثمائة وواحد للهجرة. سافر إلى مكة والهند والعراق ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان وغيرها. استفاد كثيرا من الشيخ عبدالرحمن آل سعدي، ومن الشيخ شعيب الدكالي المغربي، والشيخ عبدالرحمن الدهان، وغيرهم. أخذ عنه كثيرون منهم عبدالله بن مطلق الفهيد وعبدالعزيز الصالح البسام وغيرهما.
ولي قضاء المدينة النبوية، ثم مساعدا لرئيس القضاة في مكة، ثم أعفي منها، كما عين مدرسا في مدرسة العلوم الشرعية في المدينة.
__________
(1) طه الآية (127).
(2) تمييز المحظوظين عن المحرومين (ص.243-244).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/333-339).(1/368)
توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة في المدينة.
موقفه من المشركين:
له رد على عبدالقادر الإسكندراني، اشترك فيه هو والشيخ بهجة البيطار. (1)
وقد أثنى على ردهما الملك عبدالعزيز آل فيصل في رسالة وجهها إليهما، مما جاء فيها: "وعرضناه على مشايخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه، فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية، وعصابة تذب عن دين المسلمين، وتحمي حماه عن زيغ الزائفين، وشبه المارقين والملحدين". (2)
عبدالحفيظ الفاسي (3) (1383 هـ)
عبدالحفيظ بن محمد الطاهر بن عبدالكبير الفهري، أبو الفضل الفاسي. من نسل عالم الأندلس في وقته أبي بكر محمد بن الجد، ويرجع نسبهم إلى بني فهر بن مالك من قريش. أخذ عن والده وعمه أبي جيده بن عبدالكبير وخاله عبدالكبير الكتاني وعبدالله السنوسي وأبي شعيب الدكالي وعبدالرحمن المرادي وعبدالله الأمراني ومحمد بن جعفر الكتاني وغيرهم.
وأجازه جماعة منهم أحمد بن سودة وعبدالله السنوسي وماء العين وغيرهم.
قضى زهاء عشرة أعوام في القضاء الشرعي في عدة مدن منها الصويرة وسطات، ثم كان من أعضاء المحكمة الجنائية العليا.
له من المؤلفات:
1- 'رياض الجنة في تراجم من لقيت أو كاتبني من الجلة' أو 'المدهش المطرب بأخبار من لقيت أو كاتبني بالمشرق أو المغرب'.
2- 'الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات'.
3- رسالة 'الداء والدواء'.
4- 'الإسعاد لمراعاة الإسناد'.
5- 'التاج فيمن اسمه محمد من ملوك الإسلام'.
6- 'خبايا الزوايا' في أربع مجلدات.
7- 'الإنصاف في العمل بالتلغراف'.
8- 'إتقان الصنعة في الرد على مقسمي البدعة'.
9- وله رسالة في الرد على الطائفة المعروفة بهداوة.
__________
(1) علماء نجد (6/337).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/337-338).
(3) الأعلام للزركلي (3/279-280) وشجرة النور الزكية (1/434) والتأليف ونهضته لعبدالله الجراري (ص.331) وسل النصال لعبدالقادر بن سودة (ص.190).(1/369)
10- 'أربع رسائل في إبطال المهدوية' وغيرها.
قال الزركلي: وانقطع عن العمل يوم استقل المغرب، فعكف على كتبه وأوراقه في منزله بالرباط إلى أن توفي وذلك سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف.
قلت: وكان ذلك لأربع وعشرين خلون من رمضان.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في يوسف بن إسماعيل النبهاني: المترجم ممن رزق الإعانة على التأليف كما رزق التيسير في طبعها وقبولها فلا ينشر منها كتاب إلا وتهافت الناس على شرائه في مشارق الأرض ومغاربها، وهي وإن كانت له فيها حسنات فهي لا تقابل ما له فيها من السيئات، وذلك لما خلط بها من الخرافات ونسبة المقامات العظيمة لمن لا قدم له فيها من الطغام، وادعاء الكرامات حتى لمن عرفوا بعدم التمسك بالتقوى، ولا مستند له فيها إلا مجرد التقول والدعوى، أو نقل فلان عن علان، ولو كان هيان بن بيان، أو الاغترار بظواهر الأحوال، وعدم البحث عن حقائق الرجال، وبعكس ذلك عمد إلى علماء الإسلام الذين خدموا السنة والدين خدمة لم يشاركهم فيها غيرهم في عصرهم بشهادة الموافق والمخالف لهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فحمل عليهما حملة شعواء في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق. (1)
- وقال عن تآليفه أيضا: فقد ملأها النبهاني بتأييد البدع ورصعها بخرافات وأوهام دنس بها صحيفته ووجه الدين الإسلامي النقي الطاهر، وأبقاها حجة ووسيلة يتذرع ويحتج بها الطاعنون في الإسلام والثالبون لتعاليمه الصحيحة الحقة.. (2)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) رياض الجنة (2/162-163).
(2) رياض الجنة (2/164).(1/370)
قال في سياق الترهيب من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شرحه لحديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" (1) رادا على الطائفة التجانية: ومن ذلك افتراء بعضهم كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله خص أصحابه بمزايا دون سائر الأمة، وجعل لصلواتهم وأورادهم فضائل تقوم مقام العبادات في السنين العديدة، وتكفر ما ضيعوا من الصلوات، وتغفر من غير توبة ما اجترموا من المعاصي والسيئات، وأمثال هذا مما يضللون به الجهال الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام وشرائعه تشويقا لهم وترغيبا للدخول في طريقتهم؛ لأن النفوس متشوفة إلى نيل الأجور الكثيرة على الأعمال الصغيرة، وميالة إلى ترك الشاق من الطاعات والتهاون بالمحرمات والعياذ بالله. ولا شك أن مدعي هذا داخل في الوعيد المذكور في حديثنا المتكلم عليه لما في تلك البشائر والخصائص من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله بدليل ما فيها من مخالفة قواعد الدين، وتشريع عبادات لم يشرعها، وإبطال فرائض قد أوجبها، مع أن باب التشريع قد انسد لموته - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله. (2)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).
(2) الآيات البينات (ص.273-274).(1/371)
- قال في شرحه للحديث المسلسل بالأولية: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (1) : وقوله: "يرحمكم من في السماء" نقل في المنح البادية عن الخطيب أبي علي أن المراد به الله تعالى، والمعنى بذلك الإشارة إلى أن الله فوق من طريق الصفات لا من طريق الجهة؛ فإنها مستحيلة على الله تعالى، وقيل معناه من في السماء أمره وملكه، واختصت السماء بالذكر وإن كان أمره وملكه أيضا في الأرض تنبيها على عظمها في النفوس وأن الذي يتصرف فيها أمره وفيها سلطانه هو الذي له الأمر والملك في الأرض حقيقة سبحانه لا إله إلا هو، ويمكن أن يراد بمن في السماء أهل السماء كما جاء كذلك في رواية أخرى انتهى. ومثله قول الشيخ علي الخواص: يعني الملائكة يرحمون من رحم أهل البلايا وتجاوز عنهم في الدنيا باستغفارهم له في السماء وهو قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ { لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } انتهى.
__________
(1) سيأتي تخريجه في مواقف الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1420هـ).(1/372)
قلت: الأول يتمشى على مذهب أهل الحديث والأثر في آيات وأحاديث الصفات؛ فإنهم يتركونها على ظاهرها ويؤمنون بها كما جاءت من غير تأويل مع اعتقاد التنزيه، وما بعده يتمشى على مذهب المؤولة من المتكلمين من سائر الفرق؛ فإنهم يحملونها على ما عرف من المجازات، والمذهب الأول وهو مذهب أهل الحديث هو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والأئمة المجتهدون بعده ولا يلزم من إثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى على مذهب أهل الحديث القول بالجهة المستلزمة للحد والجسمية؛ فإن أهل الحديث يفرون من ذلك وينزهون الباري جل جلاله عن الجهة والجسمية وعن مشابهته تعالى للحوادث، وإن ألزمهم المؤولة ذلك يلزم من قبلهم من باب أولى وأحرى؛ لأن مستند أهل الحديث هو ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه الذين لم يكن يخطر ببالهم عند ذكر تلك الصفات تشبيه أو تشكيك؛ بل كانوا يعلمون أن الحق سبحانه لم يكن مشابها للمخلوقات كما في القرآن لَيْسَ { كَمِثْلِهِ } شَيْءٌ (1) ، فكذلك صفاته لا تماثل ولا تشابه صفات المخلوقات، فكانوا يؤمنون بها كما وردت، لأن الله تعالى وصف بها نفسه وهي لائقة بذاته القديمة الكريمة، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحد من أصحابه أنهم أولوا أو أخرجوا تلك النصوص عن ظواهرها، بل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجارية السوداء: "أين الله؟" فأشارت بأصبعها إلى السماء، فقال: "إنها مؤمنة" (2) .
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) أحمد (5/447) ومسلم (1/381-382/537) وأبو داود (1/570-571/930) والنسائي (3/19-22/1217) من حديث معاوية بن الحكم.(1/373)
فهل يقدر أحد ينتمي إلى الإسلام أن يقول إنها مجسمة، أو تعتقد الجهة لما يلزم عليه من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها على معتقدها الباطل؟ ومعاذ الله أن يقع ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما بعث إلا لتقديس الله تعالى وتوحيده، فشيء أقره - صلى الله عليه وسلم - وشهد لصاحبه بالإيمان كيف يسوغ لنا أن ننكر على من يقول به؟ ونقول: إنه يعتقد الجهة والجسمية، بل نعتقد أنه هو المذهب الحق، وندين الله به، ولا نتحول عنه.
وقد أطلق غير واحد من الأئمة ممن حكى إجماع السلف -منهم الخطابي- أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان في رسالته المدنية ما نصه: مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل انتهى.(1/374)
وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية -وهو مجدد مذهب الأشعرية-: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مرادها، وتفويض معانيها (1) إلى الله، ثم قال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة السلف للدليل القاطع على إن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرف عصر الصحابة والتابعين عن الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. فليسعنا ما وسعهم؛ فإنهم هداتنا وقدوتنا، وقد رضيناهم حجة بيننا وبين الله تعالى، وقلدناهم فيما دون هذا وهو الفروع الفقهية العملية فكيف لا نقلدهم في معتقدنا هذا. وقد رأيت للعلامة السفاريني في شرح عقيدته كلاما نفيسا في صفة الفوقية والعلو للعلي الأعلى التي يقول بها أهل الحديث، ومنه يتبين تنزيههم عن القول بالجهة والتجسيم، فلنسقه هنا تتميما للفائدة وشرحا لمعتقدهم الطاهر.. (2)
__________
(1) قلت: ليس من مذهب السلف تفويض معاني الصفات؛ فهذا مذهب المفوضة. أما التفويض الذي ذهب إليه السلف فهو تفويض الحقيقة والكيفية لا تفويض المعاني.
(2) الآيات البينات (ص.19-22).(1/375)
- وقال رحمه الله: ذكر أهل التاريخ أن أهل المغرب كانوا في الأصول والمعتقدات بعد أن طهرهم الله تعالى من نزغة الخارجية أولا والرافضية ثانيا على مذهب أهل السنة، مقلدين للصحابة ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح وأهل القرون الثلاثة الفاضلة؛ في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل، مع اعتقاد التنزيه، كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب نفسه بالإمام المعصوم أو مهدي الموحدين، وذلك في صدر المائة السادسة، فرحل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب المتأخرين من أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، ومزج ذلك بما كان ينتحله من عقائد الخوارج والشيعة والفلاسفة، حسبما يعلم ذلك أولا بمعرفة كتب الإمام أبي الحسن الأشعري كالإبانة في أصول الديانة وغيرها التي ينصر فيها مذهب السلف، وبمعرفة كتب الجهابذة من أتباعه الذين اقتدوا به في ذلك كإمام الحرمين، وثانيا بإمعان النظر في أقوال وأفعال وأحوال ابن تومرت وخلفائه من بعده، ثم عاد ابن تومرت إلى المغرب بهذه العقيدة المختلطة المدلسة الفاسدة، وألف فيها التآليف العديدة هو وأتباعه، ودعا الناس إلى سلوكها، وجزم بتضليل من خالفها؛ بل وتكفيره. وسمى أصحابه بالموحدين تعريضا بأن من خالف عقيدته ليس بموحد؛ بل مجسم مشرك، وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على ملك المغرب حسبما هو معلوم، فقاتل على عقيدته، واستباح هو وخلفاؤه لأجلها دماء مئات الآلاف من الناس وأموالهم حتى تمكنت من عقول الناس بالسيف، ونبذوا ما كان عليه سلفهم الأول، وأقبلوا كافة على تعاطي هذا المذهب، وقام العلماء بتقريره وتحريره درسا وتأليفا، والناس على دين ملوكهم. (1)
__________
(1) الآيات البينات (ص.24-25).(1/376)
- وقال معلقا ومستدركا على كلامه السابق: وفاتنا أن نبين هناك أن الإمام أبا عبدالله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي ثم الفاسي من علماء القرن الحادي عشر والثاني قام بنصرة مذهب السلف وألف كتابه 'جهد المقل القاصر في نصرة الشيخ عبدالقادر' لطعن الناس في عقيدته الحنبلية، وتتبع ما قيل فيه وفي شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصرهما بما يعلم بالوقوف على تأليفه المذكور. ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب، وصرح في أول كتابه 'الفتوحات الكبرى' بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة، وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة لكونها على مذهب السلف، وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره، ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية. وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته، ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول فنزل عن كرسيه وقال: كنزولي هذا، ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك، فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية.
ولما أفضت الخلافة إلى ولده أبي الربيع سليمان نهج منهجه في ذلك، واتصلت المكاتبة بينه وبين الأمير سعود ناصر المذهب الوهابي الحنبلي حين افتتح الحجاز وطهره مما كان فيه من البدع، وأرسل وفدا مؤلفا من أولاده وبعض علماء حضرته، ووجه له قصيدة من إنشاء شاعرحضرته العلامة المحدث الصوفي الأديب أبي الفيض حمدون بن الحاج مجيبا له عن كتابه ومادحا له ولمذهبهم السني السلفي. (1)
__________
(1) الآيات البينات (ص.301). وراجع مواضع أخرى في الرد على الجهمية وأذنابهم من الكتاب نفسه (ص.68-74) و(ص.173-175) و(ص.183-184).(1/377)
محمد بن العربي العلوي (1) (1384 هـ)
محمد بن العربي بن محمد بن محمد العلوي المدغري الحسني، ولد بالقصر الجديد بمدغرة بتافيلالت سنة إحدى وثلاثمائة وألف للهجرة، وقيل سنة خمس.
حفظ القرآن بالمكتب على والده العربي العلوي وابن عمه الطيب ابن علي العلوي. والتحق بمعهد القرويين سنة ثمان عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة.
تتلمذ على عبدالسلام بن محمد بناني، ومحمد بن محمد بن عبدالسلام كنون، وأحمد بن الخياط، والفاطمي الشرادي، وأحمد بن المامون البلغيني، والتهامي كنون، والمهدي الوزاني، وأبي شعيب الدكالي وغيرهم.
تخرج على يده تلاميذ كثر، منهم: علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني ومحمد المختار السوسي.
درّس بالقرويين، كما عين قاضيا بفاس، ثم رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي الأعلى بالرباط، ثم وزيرا للعدل. وكان لا يفتي إلا بالاجتهاد دون التقليد.
نفاه المستعمر مرتين بسببها، وسبب دروسه المحرضة ضد المستعمر في القرويين.
وعين وزيرا عضوا في مجلس التاج سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة بعد الاستقلال، وقاضيا شرعيا بالقصر الملكي.
سمعت شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (صاحب الأضواء) يثني عليه ويصفه بقوة الذكاء.
توفي رحمه الله يوم الخميس الثاني والعشرين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) 'إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ' تأليف محمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي. و'سل النصال للنضال' تأليف عبدالسلام بن عبدالقادر بن سودة.(1/378)
قال تلميذه عبدالسلام عبدالقادر بن سودة في 'سل النصال للنضال' (1) : العلامة السلفي، المطلع المشارك النقاد، المدرس النفاعة الوطني، المخلص المكافح بكل ماله وقوته وأفكاره وآرائه الصائبة عن الإسلام وعن وطنه بإخلاص وحسن نيته. كان في أول أمره يومن بالطرق وأهلها ويدافع عنها، بل كان تجاني الطريقة، ولما رجع الشيخ أبو شعيب الدكالي من المشرق بعد ما طلب العلم هناك حاملا الأفكار السلفية الداعية إلى الرجوع للإسلام على حقيقته، اتصل به اتصالا مكينا، وأخذ عنه؛ فأنار فكره، وقوّى عزيمته، وأخرجه من ربقة التقليد الأعمى، فكان صاحب الترجمة أول من أظهره الله للوجود من العلماء السلفيين، وأول من صدع بالحق بعد الشيخ أبي شعيب، فدخل إلى القرويين وصار ينير مشكلها، ويضيء جوانبها بقبس من النور، فما لبث أن التف حوله نخبة من الشباب لا يستهان بهم، وانتشر مذهبه في الأوساط العلمية الراقية، وصار الناس ما بين مؤيد ومخالف، وسرعان ما انتصر الحق على الباطل إِنَّ { الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } (81) (2) . فكانت جل دروسه حاملة سيف الانتصار ضد أهل الطرق الموجودة بالمغرب وأهل الزوايا والمشعوذين الملبسين الحق بالباطل، وحمل ضد زيارة القبور، والتملق إليها، وطلب النفع منها، والالتجاء إليها، كل هذا كان لا يخلو من نقد وشتم ولعن من أصحاب الطرق، فكم نصبوا له من أفخاخ، وكم بارزوه بمكايد حتى إن بعض العلماء أفتوا بكفره وخروجه من ربقة الإسلام، كل هذا لم يؤثر في عزمه؛ لأنه يعرف نفسه أنه على الحق.
قال محمد زنيبر: وكان يتناول تفسير القرآن بلهجة لا تخلو من صراحة وحرية فكر، وكل همه أن يحارب الخرافات والشعوذة وكل مظاهر الجمود التي رانت على الفكر المغربي منذ أجيال. (3)
__________
(1) سل النصال للنضال (ص.195).
(2) الإسراء الآية (81).
(3) 'السلفي المناضل' لمحمد الوديع الآسفي (ص.169).(1/379)
قال تلميذه محمد بن الفاطمي السلمي في كتابه 'إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنهم من الشيوخ': ..يتابع دروسه التفسيرية بالقرويين وكانت عبارة عن وعظ وإرشاد وتوجيه إلى السلفية والإصلاح الديني بتحرير الأفكار والعقول من الأوهام والأباطيل والخرافات وباطل الاعتقادات وهو متأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في أفكارهما النيرة الإصلاحية. (1)
موقفه من المشركين:
__________
(1) ص.213-214).(1/380)
- قال عبدالسلام بن سودة (1) : ومن المآثر التي تحفظ له ولا تنكر قطع شجرة السدرة الكبرى التي كانت قبالة باب ضريح الشيخ أبي غالب الكائن بحومة صريرة داخل باب الفتوح؛ فإن هذه الشجرة كادت أن تعبد من دون الله، فقد كبرت واتسعت وطال عليها الأمد، وكانت النساء والصبيان وحتى بعض الرجال يقصدونها، ويلتمسون بركاتها، وتعلق فيها بعض الخرق المعقودة، ولا يمكن حلها إلا بعد قضاء الحاجة المتطلبة، وكان ربما أعماهم الشيطان فيصادفون بعض الإجابة؛ فإذا رأيت منظرها اندهشت من كثرة ما يعلق بها من الخرق والتمائم، وأوراق الكتابة والحروز وغير ذلك من الأمور، التي يستغرب منها كشعر النساء، وكان من العادة الجارية أن كل من زارها وعلق بها مطلبه لا بد له من أن يدخل الضريح ويجعل فيه شيئا من المال؛ لأجل أن تقضى حاجته، ومن لا يفعل ذلك لا تقضى له حاجة، فكان ولاة الضريح وهم الشرفاء الطالبيون يعظمونها مع الناس؛ لأجل المادة التي تحصل لهم. وكان يوم قطعها يوما مشهودا بين مستحسن ومخالف، وقال رئيس الفئة المتطرفة وزعيمهم الأكبر: إن ابن العربي صاحب الترجمة سيصاب بشلل من أجل قطع الشجرة التي يتبرك بها الناس، وبعد مدة سلط الله عليه ذلك وبقي ابن العربي سالما إلى الآن والحمد لله؛ لأنه يدافع عن الحق. (2)
موقفه من الصوفية:
يتجلى ذلك في المناظرة حول التيجانية بينه وبين الشيخ محمد تقي الدين الهلالي وهذه حكايتها.
__________
(1) سل النصال للنضال (ص.195-196).
(2) ذكر ذلك أيضا أحمد بناني في مقال له بمجلة الإيمان العدد 10 سنة 1964م (ص.11) بعنوان: (جوانب من شخصية شيخنا ابن العربي العلوي)، ونقله عنه أحمد أزمي في مجلة دعوة الحق العدد 5 سنة 2001م.(1/381)
- قال محمد تقي الدين الهلالي (1) بعد مقدمة بين فيها كرم ضيافة الشيخ محمد بن العربي العلوي له، وأنه لما سمعه وجلساءه يطعنون في الطرق الصوفية غضب وهمَّ بالخروج: ولم تخف حالي على الشيخ فقال لي: أراك منقبضا فما سبب انقباضك؟ فقلت: سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك أنا أيضا كنت تجانيا؛ فخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها (2) ، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها، وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة؛ فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها، كما فعلت أنا، فأخذتني النخوة، ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل، فقلت: قبلت المناظرة.
قال الشيخ: أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت: ما هي؟ قال: ادعاء التجاني أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل، فإن ثبتت رؤيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة وأخذه منه فأنت على حق وأنا على باطل، والرجوع إلى الحق حق، وإن بطل ادعاؤه ذلك فأنا على حق وأنت على باطل، فيجب عليك أن تترك الباطل وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت. فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب.
__________
(1) الهدية الهادية إلى الفرقة التجانية (ص.17-20).
(2) كان ذلك حين مناظرة الشيخ أبي شعيب الدكالي له بمثل ما ناظر به هو محمد تقي الدين الهلالي في هذه المناظرة، ثم قراءته لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية 'الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان'.(1/382)
فقال: الأول: أن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب الخلافة، قالت الأنصار للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش (1) ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه. فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول: الخليفة فلان، فينتهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم؟ لو كان يكلم أحدا يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصلح بينهم وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني بعد مضي ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له: أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو والده وأولاده وأزواجه لا الحفدة. فكيف يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور، ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم.
فقلت له: إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلقي الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته، وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص.
__________
(1) أحمد (1/55-56) والبخاري (12/174-176/6830) ومسلم (3/1317/1691) وأبو داود (4/582-583/4418) والنسائي في الكبرى (4/273/7156) وابن ماجه (2/853/2553) عن ابن عباس(1/383)
فقال: أنا لا أسلم أن في الشريعة خاصا وعاما، لأن أحكام الشرع خمسة، وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابا، فهو إما واجب أو مستحب، ولم ينتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات، وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معشر أهل البيت بشيء؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله وإلا ما في هذه الصحيفة، ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر (1) . فكيف لا يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة.
فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع.
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/79) والبخاري (12/303/6903) والترمذي (4/17/1412) والنسائي (8/392/4758) وابن ماجه (2/887/2658).(1/384)
قال: احفظ هذا. الأمر الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة رضي الله عنهما على الميراث، فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها، واحتجت عليه بأنه إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها؟ فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا صدقة" (1) . وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها - صلى الله عليه وسلم - . فهذان حبيبان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: "فاطمة بضعة مني يسوؤني ما ساءها" (2) أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال: "ما أحد أمن علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق" (3) رواه البخاري. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عن عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها: يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر، فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به.
فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت.
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/7-8) والبخاري (6/242/3092-3093) ومسلم (3/1381-1382/1759[54]) وأبو داود (3/376-377/2969) عن أبي بكر.
(2) أحمد (4/326) والبخاري (7/106-107/3729) ومسلم (4/1902/2449) وأبو داود (2/556-557/2069) وابن ماجه (1/644/1999) عن المسور بن مخرمة.
(3) أحمد (3/18) والبخاري (1/734/466) ومسلم (4/1854-1855/2382) والترمذي (5/568/3660) والنسائي في الكبرى (5/35/8103) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/385)
قال: احفظ هذا. الأمر الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى، واشتد النزاع حتى وقعت حرب الجمل في البصرة، فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة، فكيف يهون على النبي - صلى الله عليه وسلم - سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت وذلك قوله تعالى: لَقَدْ { جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (128) (1) .
فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت، وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء.
قال: احفظ هذا وفكر فيه. الأمر الرابع: خلاف علي مع الخوارج، وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء.
فقلت: الجواب هو ما سمعت.
__________
(1) التوبة الآية (128)(1/386)
فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق... والأمر الخامس: النزاع الذي وقع بين علي ومعاوية، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهور لأفضل الناس بعده، وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين العاملين بقوله تعالى: وَأَصْلِحُوا { ذَاتَ بَيْنِكُمْ } (1) وقوله تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (10) (2) ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول، لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة.
فلم يجد عندي جوابا غير ما تقدم ولكني لم أسلم له.
فقال لي: فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس، كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير، وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال.
__________
(1) الأنفال الآية (1).
(2) الحجرات الآية (10).(1/387)
- قال عبدالسلام بن سودة (1) : ومن أفعاله المذكورة صرخته الكبرى في وجه الطوائف الضالة مثل الطائفة المنسوبة للشيخ مَحمد -فتحا- بن عيسى والطائفة المنسوبة للشيخ علي بن حمدوش، وغيرهما من الطوائف الذين كانوا يفعلون أفعالا لا يقبلها الشرع؛ مثل الشطح في الأسواق والأزقة على نغمات المزامير والطبول، وأكل اللحم النيئ، وضرب الرؤوس بشواقر، وجعل النار في أفواههم، إلى غير ذلك من الموبقات. فقد سعى بكل جهوده لقطع دابر ذلك من المغرب، ولم يهمل السعي وراءه حتى صدر الأمر بمنعه من جلالة الملك محمد الخامس، عام أربعة وخمسين وثلاثمائة وألف، وأراح الله من ذلك البلاد والعباد. ومناقبه في هذا الباب لا تعد. وإن شئت قلت بلا مداهنة ولا محاباة إنه هو الرجل الأول الذي غرس البذرة الأولى للسلفية في الشعب.
وقال الحسن العرائشي: إن حلقات هذا الشيخ كانت تهدف أساسا لمواجهة أدعياء المشيخة وتطهير الدين من الخرافات والخزعبلات التي ألصقها به هؤلاء المشعوذون الذين ربطوا مصيرهم بمصير الاستعمار. (2)
ومنع الفرقة العيساوية بفاس من التوجه إلى ضريح شيخهم بمكناس لإقامة الرقص والشطح الصوفي. (3)
عبدالرحمن النتيفي (4) (1385 هـ)
__________
(1) سل النصال (ص.196).
(2) مجلة دعوة الحق العدد 5 سنة 2001م مقال لأحمد أزمي.
(3) المصدر السابق.
(4) مختصر ترجمة شيخ الإسلام رحمه الله أبي زيد الحاج عبدالرحمن النتيفي الجعفري لابنه الفقيه حسن بن عبدالرحمن النتيفي الجعفري.(1/388)
الشيخ الإمام عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم النتيفي الجعفري، ينتهي نسبه إلى محمد الجواد بن علي الزينبي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وعلي الزينبي هو ابن زينب بنت فاطمة الزهراء بنت نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - . ولد الشيخ عام ثلاث وثلاثمائة وألف للهجرة بقرية المقاديد بقبيلة هنتيفة، وحفظ القرآن في صغره. وفي عام أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة بدأ بقراءة العلم على جمع من الشيوخ منهم: بوشعيب البهلولي. وسافر إلى فاس عام ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وأخذ عن عدة مشايخ كالفاطمي الشرايبي ومحمد التهامي كنون ومحمد بن جعفر الكتاني وغيرهم. وفارق فاس عام خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وقصد مراكش معرجا على الدار البيضاء فحضر موقعة تدارت التي تم على إثرها احتلال المدينة. وبعد الوقعة قصد الشيخ خنيفرة عاصمة قبائل زايان بالأطلس المتوسط فأقام بها وأنشأ مدرسة للعلم تخرج على يده جماعات كثيرة من أهل العلم كأخيه قاضي مراكش جعفر محمد النتيفي والفقيه عباس المعداني وغيرهما. حج البيت الحرام عام تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وعاد من رحلته الحجازية عام ثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. ورجع إلى خنيفرة فمكث فيها لنشر العلم وإحياء الإسلام والسنة في تلك القبائل البربرية الذين كانوا أبعد عن الإسلام بجفاء طبعهم فنفع الله به العباد والبلاد. خرج من خنيفرة بعد احتلال الفرنسيين الكفرة لها وقصد قبائل أيت عمو ودخل فاس عام ست وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فمكث فيها سنتين يدرس بالقرويين إلى عام سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة وفي آخر تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فارق فاس. ودخل المدينة القديمة البيضاء عام إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة واتخذ بها مدرسة. وقصدته أفواج من أنحاء المغرب للقراءة عليه، والإقامة بمنزله وتحت نفقته.(1/389)
وأنشأ بالمدينة الجديدة من البيضاء مدرسة سماها (السنة) لتمييز منهاج دروسها وتعليمها. للشيخ رحمه الله باع طويل في العلم، أصيب بفقد البصر وكان قوي الذاكرة، ولم يكن متقيدا بمذهب معين بل يدور مع الدليل أين ما دار.
توفي رحمه الله عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
1- 'حل إبرام النقض في الرد على من طعن بالمحلول أو سنة القبض'. رد فيه على محمد الخضر الذي ألف كتابا في نصر السدل.
2- 'القول الفائز في عدم التهليل وراء الجنائز'.
3- 'السيف المسلول في الرد على من حكم بتضليل من ترك السيادة في صلاة الرسول'.
4- 'الأبحاث البيضاء مع الشيخين عبده ورشيد رضا'. وهو رد على بعض آرائهما.
5- 'كشف النقاب في الرد على من خصص أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية الحجاب'.
موقفه من المشركين:
1- 'حكم السنة والكتاب في وجوب هدم الزوايا والقباب'.
2- 'إرشاد الحيارى في تحريم زي النصارى'.
3- 'رد طعن الطاعنين في سحر اليهود لسيد المرسلين'.
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية:
1- 'تنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال'. وهو رد على المتصوفة الذين ينتحلون أسماء لشيوخهم كالقطب والغوث.
2- 'القول الجلي في الرد على من قال بتطور الولي'. رد فيه على المتصوفة الذين قرروا أن من كرامات الأولياء التطور في أشكال شتى.
3- 'الذكر الملحوظ في نفي رؤية اللوح المحفوظ'. (1)
4- 'الاستفاضة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى بعد وفاته يقظة'. رد فيه على السيوطي الذي زعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى بعد وفاته يقظة.
5- 'تنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال'. وهو رد على الصوفية الذين أضفوا هذه الألقاب على مشايخهم.
__________
(1) المصدر: مختصر ترجمة شيخ الإسلام أبي زيد عبدالرحمن النتيفي لابنه الحسن بن عبدالرحمن (ص.25و29).(1/390)
6- 'الذكر الملحوظ في نفي رؤية اللوح المحفوظ'. وهو رد على من زعم أن شيخه كان يرى اللوح المحفوظ.
7- 'القول الجلي في الرد على من قال بتطور الولي'. وقد رد فيه على بعض الفقهاء المتصوفة الذين قرروا بأن من كرامات الأولياء التطور في أشكال شتى.
8- 'الميزان العزيز في البحث مع أهل الديوان المذكور في كتاب الإبريز للشيخ الدباغ عبدالعزيز'. رد فيه على الدباغ عبدالعزيز في كتابه 'الإبريز' الذي أثبت التصرف للأولياء، وأن لهم ديوانا يجتمعون فيه.
9- 'تحفة الأماني في الرد على أصحاب التجاني'. وقد ضاعت للمؤلف بالأطلس المتوسط.
10- 'كشف الهمم في أن عهود المشايخ لا تلزم'.
11- 'البراهين العلمية في ما في الصلاة المشيشية'.
12- 'كتاب الزهرة في الرد على غلو البردة'.
13- 'الحجج العلمية في رد غلو الهمزية'.
14- 'أحسن ما تنظر إليه الأبصار وتصغى إليه الأسماع في نقد ما اشتمل عليه ممتع الأسماع في الجزولي وأصحابه والتباع'.
15- 'الدلائل البينات في البحث في الدلائل الخيرات وشرحه مطالع المسرات'.
وغيرها كثير بحمد الله، وهذه التي ذكرت إنما هي غيض من فيض.
موقفه من الجهمية:
له: 'الإرشاد والتبيين في البحث مع شراح المرشد المعين'. رد فيه على شراح المرشد المعين في التوحيد وما قرروه من أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت تبعا لمذهب المعتزلة.
وله كتاب: 'نظر الأكياس في الرد على جهمية البيضاء وفاس'.
- قال في مطلعه: الحمد لله الذي استوى على عرشه بلا كيف، واتصف بصفات الكمال، وانفرد بها دون سائر خلقه؛ نحمده تعالى ونشكره، ونستعينه سبحانه وتعالى ونستغفره استغفار خائف من قهره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في فعله ووصفه، ونشهد أن نبينا (1) محمدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه ورسله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى آله وكرام صحبه.
__________
(1) في (ت) سيدنا.(1/391)
أما بعد: فإن مما أبرزته الأقدار ونفست به الأيام والأعصار ما دهمنا من الوقائع في هذه الديار من كيد جماعة من الأشرار، ليسوا من الأقوياء الفجار ولا من الأتقياء الأبرار، التي هي واقعة رجب سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة وألف هجرة، فقد قام بها بعض من أولئك المشار إليهم هنالك بعد أن أجمعوا أمرهم وأتوا صفا، وقاموا قومة رجل واحد، واختنقوا غيظا وحيفا، وانكشفت صدورهم عما فيها من الضغائن والحقود؛ وحشروا لكيدهم كل مبتدع وحسود، واستغاثوا لنصرتهم بكل معاد للسنة وكائد، دفعا لها، وتصمما عن سمعها، وتسلحوا لذلك بكل دافع ومعاند؛ وكانوا مهما سمعوا للسنة أثرا، ومر على آذانهم ذكر من يؤيد لها خبرا، تحلفوا لذلك واجتمعوا وتحيلوا في كيدها وناصرها، وحفظوا في ذلك ووعوا ثم لم يزالوا في هذا الحال، والحال ما حال يتربصون الفرص، ويتجرعون الغصص إلى أن بدت لهم فرصة غصوا بريقهم فيها أزالوا غصتهم فيها بالدعاوى والصياح، والفتنة واللعن والشتم، وغير المباح، وأفعال لو كانت من الصبيان والمجانين لحق لها أن [لا] (1) توضع في مجالس العلم وبيوت أذن الله أن ترفع.
__________
(1) في (ب).(1/392)
وذلك أننا ذكرنا مذاهب الناس في استواء الله على عرشه، وأيدنا منه ما أيده الله في كتابه ورسوله في حديثه، وسلف أمته ومحققوا خلفها / بصريح نصه؛ قامت قيامة قيامتهم تلك، وانتظموا لنصر خلاف ما لله ولرسوله وسلف أمته في صف وسلك، ولعنوا وشنعوا وطيروا الخبر إلى كل من بادية المغرب ومدنه. وشكوا إلى أمراء الوقت وقضاته وسلطانه. وآل الأمر بيننا وبينهم إلى إيقاف دروسنا ودروس قبيح جاهل منهم وهو الذي تولى كبر هذه الفتنة نحو أربعين يوما على يد قاضي الوقت. وعقد مجلس للمناظرة على يده أخرص الله فيها ألسنة القوم، وعجزوا عن تأييد مذهبهم إلا بأفكارهم التي ينبذونها عند الدليل ويرجعون إليها ولا بد للتعصب والميل، وكان في خلال هذه الأيام أن رجلا من هؤلاء فاسيا تذكر ذاخرة تركها له أبوه، فيالها من ذخيرة وياله من أب لله دره، وهي ما حدثني بعض الفضلاء عنه أن السلطان أبا علي المولى الحسن العلوي نور الله ضريحه وأسكنه من روض الجنان فسيحه بينما صحيح البخاري يقرأ بين يديه على العادة بفاس إذ وقع في مجلسه خلاف في استواء الله على عرشه بين علماء فاس وعالم من أهل طنجة؛ فاستدعاه السلطان للحضور معهم، وهو: الشيخ عبدالله السنوسي. فأمهلهم الإمام إلى أن يأتوا غدا بأدلتهم. فجاءوا غدا بأوراق في أيديهم؛ فلما صفحت ورقات أبيه أعجبت السلطان وأمر بسردها وأن ينتهى إلى معناها وقولها بعد أن عجز خصمه عن رد ما فيها إلى آخر ما قال.. ودفع السلطان ذلك العالم عن مجلسه، فبقيت من هذه الرسالة بيد ولد صاحبها المذكور. فأسرع بها إلى أبي المكارم السلطان المولى محمد بن الإمام المولى يوسف إمام وقتنا أعلا الله علاه وأعز كلمته، ورفع شأنه.(1/393)
وزعم أنه أخذها منه ثمانية أيام وينسخها -أو يطالعها- فردها بعد الأجل؛ وقصد الرجل بذلك أن يغيضنا به ويغير قلب الملك ويدخل في علمه أن لأسلافه الفاسيين حجة علمية، ومستندا للانتقام منا، ولا علم لنا بذلك؛ ولكن أبى الملك الكبير واللطيف الخبير إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل، فأيد سلطاننا ونور/ ذهنه وفكره حتى ميز بين الحق فأيده وأحبه، وبين الباطل فأدمغه وأرداه، فكان جزاء أعمال أولئك المبطلين من مالك العوالم ثم من مالك المغرب الحرمان، وانعكست عليهم القضية، فكانت مقاصدهم السيئات في جانبنا حسنات حيث تسببوا لنا بذلك في قرب من السلطان وصِلاته وسماع الدروس منا المرة بعد المرة، وإعجابه بذلك، وذكره للخاصة والعامة؛ وطرد الذي تولى كبر الفتنة من المسجد الأعظم، فخمدت بذلك نار فتنته واضت تضطرم في أحشائه، ثم بعد هذا جاءنا الفاضل الذي حدثنا عن الفاسي وشأن رسالته بها فقرأناها وتأملنا ما فيها؛ فإذا هي من باب تكلموا تُعرَفوا، قد أعربت عن مدارك أصحابها. وقدمنا رِجْلاً وأخرنا أخرى في الكتب علينا برهة من الدهر حتى ألح عليها بعض الفضلاء في رقم كلمات عليها. فأجبناه لذلك، وسألنا الله العون عليه. (1)
__________
(1) نظر الأكياس: (14-16) مخطوط.(1/394)
- وقال فيه أيضا: وقول الإمام مالك: والسؤال عن هذا بدعة؛ صحيح، لأن السلف كانوا يعتقدون أن تلك الصفات المنصوص عليها في الكتاب والسنة صفات لله وإن تشاركت مع صفة المخلوق من حيث الأسماء، ويحكمون بمباينة المسميات بقوله تعالى: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) . لأن ذات الله وصفاته وأفعاله لا تقاس بذات المخلوقات ولا بصفاته وأفعاله. وهذا معلوم عندهم لا يسأل عنه إلا حديث عهد بالإسلام أو مبتدع. ولما كثر السؤال عنه من مبتدعة الجهمية في زمان الإمام مالك، إذ جهم (2) والجعد ابن درهم الذي قتله خالد بن عبدالله القسري، شاعت دعوتهم في زمان بني أمية ثم ازدادت شيوعا في دولة بني العباس. فقد قال أهل التاريخ: ظهر الخوارج والروافض والشيعة والمرجئة، فلم يتجاسروا على رد نصوص الشريعة بالعقل، وصاح بهم الصحابة من كل صوب وبدّعوهم، وتركوا السلام عليهم، ونسبوهم إلى العظائم، ثم ظهر الجهمية في آخر عصر التابعين، فعارضوا الوحي بالعقل، وقالوا كل شريعة لا تقبلها عقولنا رددناها بالتأويل إليها، ثم ذلك منهم في آخر زمان بني أمية، فخمدت نار فتنتهم فقتل خالدُ ابن عبدالله الجعدَ ابن درهم ثاني رؤسائهم، ثم اشتعلت نار فتنتهم في زمان المأمون فأوقع / المحنة بالعلماء حيث أعجبه مذهب هؤلاء المبتدعة، فقتل من قتل من العلماء، ونجا منهم بإظهار مذهبهم اتقاء شرهم أو بالصبر على الحبس والعذاب، وعلى هذه البدعة حَبَسَ المعتصمُ الإمام أحمدَ وضربه، ثم أطفأ الله نار هذه البدعة وأظهر السنة على لسان خلقه، وخطب بها على المنابر زمانا حتى ظهرت جنود إبليس القرامطة والباطنية والملاحدة، ودعوا الناس إلى العقل المجرد، وأن أمور الرسل تعارض المعقول.
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) في ت وب: (وهو) وهي زيادة خاطئة من الناسخ إلا أن يقع سقط تقدير: وهو تلميذ.(1/395)
وفي زمنهم غلب الكفار على كثير من بلاد المسلمين، وهم الذين كسروا عسكر الخليفة العباسي، وقلعوا الحجر الأسود (1) ، وقتلوا الحجاج. ثم خمدت دعوتهم في المشرق وظهرت في المغرب قليلا قليلا. ثم أخذوا يطؤون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم، وفي زمنهم صرح ابن أبي زيد بأن الله مستو على عرشه بذاته، ردا لمذهبهم من غير أن تأخذه في الله لومة لائم، واتخذ الكلاب ليحرسوا من صائلهم ومعتدهم. وفي أيامهم ألفت الإشارات وكتب ابن سينا، قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمين. وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة.
فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء، حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم على يد نور الدين محمود بن زنكي والسلطان الأعظم صلاح الدين ابن أيوب رحمه الله، قابل الإسلام من علته وانتعش بعد طول الحمرة حتى استبشر أهل الأرض والسناء، واستنقذ الله بعبده صلاح الدين وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، فعاش الناس/ في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة وقدم الناس العقول على النقول، والأذواق على الشريعة الربانية، وكان رئيسهم هذا الطوسي وأضرابه، هذا في المشرق.
__________
(1) في (ت): الحجر الأسعد.(1/396)
وأما في المغرب فمنذ فتح الإسلام إلا وهو على عقيدة السلف إلا ما كان من فتنة العبيدين وبدعتهم، ثم انجلت ظلمتها واستضاء المسلمون بنور السنة ومذهب السلف حتى ظهر فيهم في أوائل القرن السادس محمد بن تومرت المهدي تلميذ أبي حامد الغزالي، فملأ أرضهم بمعارضة العقل للوحي، واشتهر مذهب شيخه الغزالي في هذه البقاع، وسمى من خالفه من علماء المغرب وملوكهم وجمهورهم مجسمة، وقاتلهم على ذلك، وسمى أتباعه الموحدين؛ وفي ذلك يقول الحفيد ابن رشد: ولما ظهر أبو حامد طم الوادي على القرى ثم لم يزل أهل المغرب في دولة الموحدين وبني مرين بعدهم وغيرهم آخذين بمذهبه. وآخذ بمذهب السلف وهم القليل، حتى كانت دولة سيدي محمد بن عبدالله العلوي، فعانق مذهب السلف هو وخواصه، وأظهره للجمهور، وهكذا ابنه أبو الربيع المولى سليمان كما تقدم.
وأما أهل المشرق فبعث الله عليهم في خلال هذه الدعوة عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وهم التتار، ثم تيمور ثم نيضت نابغة أيضا تدعوا إلى معارضة النقل بالعقل فقيض الله لهم شيخ الإسلام الحراني وأصحابه، فكانوا يناضلون بسيف الحجة عن مذهب أهل السنة، ثم اختلط الأمر بعد ذلك ومرج؛ فمن آخذ بمذهب هؤلاء، ومن آخذ بمذهب هؤلاء. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خافهم حتى يأتي أمر الله" (1) . ولذلك تفرس في السائل الإمام (2) أنه من أهل هذه الدعوة لدليل ما قال: "وأظنك رجل سوء، أخرجوه".
__________
(1) تقدم ضمن مواقف ابن المبارك سنة (181هـ).
(2) يعني الإمام مالك رحمه الله.(1/397)
ولولا ما ظنه الإمام فيه لما ساغ له أن يواجهه بهذا الكلام، / ولا أن يقول: "أخرجوه"، إذ السائل لا ينهر؛ بل يلان له القول ويكرم. ولا يشك في أن الإمام مالكا من أكابر أهل السنة لا شَكَّاكٌ، ولو كان قصد مالك بقوله: "معلوم" ما نسبتم له من التأويل لكان قوله: والكيف مجهول، ضائعا، ومنافيا لاعتقاده. إذ لا يقال الكيف مجهول إلا إذا كان الاستواء على معناه الحقيقي، بل لا يحكم على شيء أنه مجهول إلا إذا كان موجودا، وإلا كان اسم المعدوم أحق به. (1)
محمد بن عبدالعزيز بن مانع (2) (1385 هـ)
الشيخ الإمام محمد بن عبدالعزيز بن محمد بن مانع بن شبرمة الوهيبي التميمي. ولد بعنيزة سنة ثلاثمائة وألف للهجرة، ورحل في طلب العلم إلى بريدة، فالبصرة، فبغداد، ثم استقر في الأزهر بمصر. كان فقيها مطلعا على خلاف العلماء، حافظا للسنة، وآية في العلوم العربية لا سيما النحو، حتى قيل إن الشيخ عبدالرحمن بن سعدي كان يفضله فيها على الشيخ الشنقيطي. وأما حفظ المتون واستحضار مسائلها وأقوال شراحها فأمر عجيب. أخذ عن مجموعة من الشيوخ منهم السيد محمود شكري الآلوسي والشيخ محمد الذهبي والشيخ جمال الدين القاسمي والشيخ عبدالرزاق الأعظمي وغيرهم. وأخذ عنه الشيخ عبدالرحمن السعدي والشيخ عبدالعزيز ابن محمد بن مانع (ابنه) والشيخ عثمان بن صالح القاضي وغيرهم.
__________
(1) نظر الأكياس (67-70) مخطوط.
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/100-113) والأعلام (6/209) والمستدرك على معجم المؤلفين (682).(1/398)
رجع إلى بلدته "عنيزة" سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم دعي للتدريس في البحرين سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم استدعاه أمير قطر فولاه الإفتاء والوعظ والقضاء، ثم دعاه الملك عبدالعزيز آل سعود سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة فدرس في الحرم المكي، ثم طلب حاكم قطر من السعودية انتدابه للعمل فيها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة فأقام فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'القول السديد فيما يجب لله على العبيد'.
2- 'مختصر شرح عقيدة السفاريني'.
3- 'تحقيق النظر في أخبار المهدي المنتظر'.
4- 'حاشية على العقيدة الطحاوية'. وكذا على العقيدة الواسطية وغيرها.
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: اعلم وفقنا الله وإياك أن أول اختلاف وقع في هذه الأمة: هو خلاف (الخوارج) حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم. ثم حدث بعدهم خلاف (المعتزلة) وقوله: "إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر"، ويثبتون (المنزلة بين المنزلتين). ثم حدث خلاف (المرجئة)، وقولهم: "إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان".
وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة، وبينوا ما هو الحق فيها، وصرحوا: أن الفاسق الملي، مرتكب الكبيرة، فاسق بكبيرته، مؤمن بإيمانه، وهو تحت مشيئة الله تعالى. (1)
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (ص.173-174).(1/399)
- وقال: فالمؤمن لا يخرج من الإيمان بملابسة كبائر الذنوب والعصيان. كما قال تعالى: إِنَّ { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) . وفي الحديث القدسي، الذي رواه الترمذي عن أنس مرفوعا: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" (2) . فدلت الآية وحديث أنس على أن من جاء مع التوحيد بملء الأرض خطايا، لقيه الله بملئها مغفرة، مع مشيئة الله تعالى، فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه وأخذه بذنبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة. (3)
- وقال في حاشيته على الطحاوية (4) عند قوله: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله": ومراد الشيخ رحمه الله بهذا الكلام: الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
محمد البشير الإبراهيمي (1385 هـ)
ولد في الثالث عشر من شوال سنة ست وثلاثمائة وألف للهجرة بقرية أولاد إبراهيم قرب سطيف؛ من أسرة ترجع أصولها إلى الأدارسة الذين حكموا المغرب. حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وحفظ المتون على يد والده وعمه محمد المكي الإبراهيمي، كما تفقه في قواعد النحو والفقه والبلاغة. وكان من أعلم أهل بلده في وقته، خلف عمه في التدريس لما مات وهو ابن الرابعة عشر.
وخلال رحلته إلى المدينة لطلب العلم؛ حط الرحال بالقاهرة ثلاثة أشهر يتردد فيها على الأزهر. وفي الحرم النبوي الشريف درس الموطأ على عبدالعزيز الوزير التونسي، وصحيح مسلم على حسين أحمد الفيض أبادي الهندي وغيرهما من المشايخ، ولما اشتد عوده درّس به أيضاً.
__________
(1) النساء الآية (48) والآية (116).
(2) الترمذي (5/512/3540) وقال: "حديث حسن". وقال ابن رجب في جامعه: "إسناده لا بأس به".
(3) المصدر السابق (ص.175-176).
(4) ص.53).(1/400)
ورحل إلى دمشق سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فاشتغل مدرساً للعربية بالمدرسة السلطانية الأولى، وكان يلقي الدروس في الجامع الأموي، وشارك في تأسيس المجمع العلمي للتعريب بدمشق. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد للجزائر فاشتغل بنشر العلم.
كان خطيباً مفوهاً، وشاعراً فصيحاً، أديباً بليغاً، شارك شكيب أرسلان في إمارة 'البيان العربي'، واختير لعضوية مجمع اللغة العربية بمصر سنة ثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة.
التقى أول مرة بعبدالحميد بن باديس بالمدينة النبوية فاستمرت لقاءاتهما كل ليلة على مدى ثلاثة أشهر يدرسان فيها سبل النهوض والإصلاح الديني في الجزائر، ثم عادا إلى بلدهما فأسسا جمعية العلماء. وقد نفاه المحتل الفرنسي، إلى صحراء وهران؛ ولما توفي ابن باديس اختاره العلماء لرئاسة الجمعية وهو في منفاه إذ لبث فيه ثلاث سنوات يدير الجمعية بالمراسلة. واستمر في استكمال ما قام به سلفه من إنشاء المدارس وبناء المساجد، وتعليم الطلاب، وأنشأ معهداً ثانوياً وسماه بـ (معهد عبدالحميد بن باديس).
كانت له علاقة وطيدة بمفتي الديار السعودية في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وافته المنية في الثامن عشر من غرة محرم عام خمس وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة.
من آثاره:
1- 'بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر'.
2- 'النقايات والنفايات في لغة العرب'.
3- 'حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام'.
4- 'شعب الإيمان'.
5- 'قصيدة شعرية رجزية في ست وثلاثين ألف بيت نظمها في منفاه بالصحراء، وصف فيها الفرق المعاصرة وأولياء الشيطان، ومكايد الاستعمار وهي أيضاً حول تاريخ الإسلام والمجتمع الجزائري'.
6- 'عيون البصائر'.
7- 'رسالة الطب'.
8- 'نظام العربية في موازين كلماتها'.(1/401)
9- 'محاضرات وأبحاث وفتاوى' جمعها أحد تلاميذه. وقد طبعت مجموعة تحت عنوان: 'آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي' في خمس مجلدات.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله: إنهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت أنصابهم ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانهم من أرض الله، وقد ضج مبتدعة الحجاز فضج هؤلاء لضجيجهم، والبدعة رحم ماسة، فليس ما نسمعه هنا من ترديد كلمة (وهابي) تُقذف في وجه كل داعٍ إلى الحق إلا نواحاً مُردَّداً على البدع التي ذهبت صرعى لهذه الوهابية. (1)
- وقال عن التعصب المذهبي: هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدهم -أي الفقهاء والأئمة الأربعة على وجه الخصوص- للمذاهب والتي نعتقد أنهم لو بعثوا من جديد لأنكروها على أتباعهم... وقد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وأن في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوباً. (2)
موقفه من المشركين:
- قال في خطبة ألقاها بإذاعة صوت العرب سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة -حول موالاة الكفار المستعمرين-: بسم الله الرحمن الرحيم، إذا قلنا: (إن موالاة المستعمر خروج عن الإسلام)؛ فهذا حكم مجمل، تفصيله: إن الموالاة مفاعلة، أصلها الولاء أو الولاية، وتمسها في معناها مادة التّولّي، والألفاظ الثلاثة واردة على لسان الشرع، منوط بها الحكم الذي حكمنا به؛ وهو الخروج عن الإسلام، وهي في الاستعمال الشرعي جارية على استعمالها اللغوي، وهو في جملته ضد العداوة؛ لأن العرب تقول: وَالَيتُ أو عاديتُ، وفلان وليّ أو عدوّ، وبنو فلان أولياء أو أعداء، وعلى هذا المعنى تدور تصرفات الكلمة في الاستعمالين الشرعي واللغوي. وماذا بين الاستعمار والإسلام من جوامع أو فوارق حتى يكون ذلك الحكم الذي قلناه صحيحاً أو فاسداً؟
__________
(1) مجلة الأصالة الأردنية العدد 1، (ص.36).
(2) الأصالة العدد 2، (ص.44).(1/402)
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدإ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قوامُه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يُثبت الأديان السماوية ويحميها، ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلاً من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصاً الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. نستنتج من كل ذلك أن الاستعمار عدو لدود للإسلام وأهله، فوجب في حكم الإسلام اعتبار الاستعمار أعدى أعدائه، ووجب على المسلمين أن يطبِّقوا هذا الحكم وهو معاداة الاستعمار لا موالاته. الاستعمار الغربي -وكل استعمار في الوجود غربي- يزيد على مقاصده الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال مقصداً آخر أصيلاً وهو محو الإسلام من الكرة الأرضية خوفاً من قوته الكامنة، وخشيةً منه أن يعيد سيرته الأولى كرةً أخرى. وجميع أعمال الاستعمار ترمي إلى تحقيق هذا المقصد؛ فاحتضانه للحركات التبشيرية وحمايته لها وسيلة من وسائل حربه للإسلام، وتشجيعه للضالين المضلين من المسلمين غايته تجريد الإسلام من روحانيته وسلطانه على النفوس، ثم محوه بالتدريج، ونشره للإلحاد بين المسلمين وسيلة من وسائل محو الإسلام، وحمايته للآفات الاجتماعية التي يحرّمها الإسلام ويحاربها كالخمر والبغاء والقمار ترمي إلى تلك الغاية، ففي الجزائر -مثلاً- يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح المواخير لإفساد مجتمعهم، ولا يبيح فتح مدرسة عربية تحيي لغتهم، أو فتح مدرسة دينية تحفظ عليهم دينهم.(1/403)
ويأتي في آخر قائمة الأسلحة التي يستعملها الاستعمار الغربي لحرب الإسلام اتفاقه بالإجماع على خلق دولة إسرائيل في صميم الوطن العربي، وانتزاع قطعة مقدسة من وطن الإسلام وإعطائها لليهود الذين يدينون بكذب المسيح وصلبه، وبالطعن في أمه الطاهرة.
فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أن من كان عدوّاً لهم فأقل درجات الإنصاف أن يكونوا أعداءً له، وأنّ موالاته بأي نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام؛ لأن معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك وعلى دينك وعلى قومك وعلى وطنك. والمعاذير التي يعتذر بها الموالون للاستعمار كالمداراة وطلب المصلحة يجب أن تدخل في الموازين الإسلامية، والموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك بقدره وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات. وموالاة المستعمر أقبح وأشنع ما تكون من الحكومات، وأقبح أنواعها أن يحالَف حيث يجب أن يُخالَف، وأن يعاهَد حيث يجب أن يجاهَد...
أيها المسلمون أفراداً وهيئات وحكومات: لا توالوا الاستعمار؛ فإن موالاته عداوة لله وخروج عن دينه. ولا تتولّوه في سلم ولا حرب؛ فإن مصلحته في السلم قبل مصالحكم، وغنيمته في الحرب هي أوطانكم. ولا تعاهدوه؛ فإنه لا عهد له. ولا تأمنوه؛ فإنه لا أمانَ له ولا إيمان. إن الاستعمار يلفظ أنفاسه الأخيرة فلا يكتب عليكم التاريخ أنكم زدتم في عمره يوماً بموالاتكم له. ولا تحالفوه؛ فإن من طبعه الحيواني أن يأكل حليفه قبل عدوه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (1)
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/68-70).(1/404)
- وقال: ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن وآيات الأكوان لما ضلوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله -وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: إننا علمنا حق العلم بعد التروي والتثبت، ودراسة أحوال الأمة ومناشئ أمراضها؛ أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرق المسلمين، ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كل شر. إن هذه الطرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام، وأنها تختلف في التعاليم والرسوم والمظاهر كثيراً، ولا تختلف في الآثار النفسية إلا قليلاً، وتجتمع كلها في نقطة واحدة: وهي التخدير والإلهاء عن الدين والدنيا. (2)
- وقال: أما والله ما بلغ الوضاعون للحديث، ولا بلغت الجمعيات السرية ولا العلنية الكائدة للإسلام من هذا الدين عشر معشار ما بلغته من هذه الطرق المشؤومة... إن هذه الهوة العميقة التي أصبحت حاجزة بين الأمة وقرآنها هي من صنع أيدي الطرقيين. (3)
- وقال أيضاً: فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي، وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي، وكل مسلوب العقل صوفي، وكل آكل للدنيا بالدين صوفي، وكل ملحد بآيات الله صوفي، وهلم سحباً، أفيجمل بجنود الإصلاح أن يدعو هذه القلعة تحمي الضلال وتؤويه؟! أم يجب عليهم أن يحملوا عليها حملة صادقة شعارهم (لا صوفية في الإسلام) حتى يدكّوها دكّاً، وينسفوها نسفاً، ويذروها خاوية على عروشها. (4)
موقفه من الجهمية:
يقول عن علم الكلام: هو مبدأ التفرق الحقيقي في الدين؛ لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام. (5)
__________
(1) الأصالة العدد 5، (ص.57).
(2) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34-35).
(3) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34-35).
(4) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34-35).
(5) مجلة الأصالة العدد 2، (ص.45).(1/405)
عبدالرحمن المُعَلِّمِي اليمني (1) (1386 هـ)
العلامة عبدالرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني. ولد بالعتمة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ونشأ بها. سافر إلى جيزان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وعين في رئاسة القضاء، ثم سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ثم عاد إلى مكة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فعين أمينا لمكتبة الحرم المكي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وبقي فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة ست وثمانين وثلاثمائة وألف، ودفن بمكة.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيار العلماء رحمه الله، بذل مجهودا كبيرا في التراث الإسلامي وفي خدمة طلاب العلم، تصدى للشيخ النجدي (2) وبين ضلاله وتلبيساته على المسلمين، وطعنه على السلف، وفي مقدمتهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتابه 'التنكيل' يشهد له بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، والمعرفة الواسعة في علم الرجال. وقد خصص جزءا كبيرا من 'التنكيل' بين فيه العقيدة السلفية، ودافع عنها أحسن دفاع، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنات الفردوس وإخوانه السلفيين.
__________
(1) الأعلام (3/342) ومقدمة التنكيل (3-8) والمستدرك على معجم المؤلفين (366).
(2) هو محمد زاهد الكوثري.(1/406)
- فمن كلامه في التنكيل: والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة، ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ (1) لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقر منه، بل أربى عليهم جميعا كما تراه في الطليعة، ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى. وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر، وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل السنة، وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة، وقد يسهو أو يخطئ أو يزل، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافه، فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها، ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعد غلوهم تقصيرا. (2)
- وقال في فصل: (فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، وما يجب على أهل العلم في هذا العصر).
__________
(1) الكوثري.
(2) التنكيل (1/26).(1/407)
قال الله تبارك وتعالى: * { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } (1) وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } إلى أن قال: وَلَا { تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (105) (2) . وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (153) (3) وقال سبحانه: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (4) .
__________
(1) الشورى الآيتان (13و14).
(2) آل عمران الآيات (100-105).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) الأنعام الآية (159).(1/408)
وقال تعالى: فَأَقِمْ { وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (1) . وقال سبحانه: وَلَوْ { شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (119) (2) إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذم الفريقين. قلت: كلا، فإن الآيات نفسها تحض على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع الصراط، بل هذا هو المقصود منها، فالثابت على السراط لم يحدث شيئا، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج عن السراط، وهو منهي عن ذلك، فعليه التبعة. فإن قيل: المكلف مأمور (3) بالاستقامة على الصراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبر، وحجج الحق -كما سلف في المقدمة- غير مكشوفة، فالباحث معرض للخطأ، بل من تدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يختلف الناظرون فيها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: لَا { يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (4)
__________
(1) الروم الآيات (30-32).
(2) هود الآيتان (118و119).
(3) في الأصل: بأمور.
(4) البقرة الآية (286)..(1/409)
وقال سبحانه: فَاتَّقُوا { اللَّهَ مَا } اسْتَطَعْتُمْ (1) . أقول -وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق-: قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه كما سلف أنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين:
الأول: تمييز الحجج من الشبهات.
الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه.
وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة الصراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله: صِرَاطَ { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } (7) (2) . وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعا من هذه الأمة هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقد قال الله عز وجل: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (3) . وقال تعالى: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (115) (4) . فالصراط المستقيم: هو ما كان
__________
(1) التغابن الآية (16).
(2) الفاتحة الآية (7).
(3) يوسف الآية (108).
(4) النساء الآية (115).(1/410)
عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع. فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسرا للصحابة وخيار التابعين، فهو من الصراط المستقيم، وما خفي أو تردد فيه النظر فالصراط المستقيم، هو السكوت عنه، قال الله تعالى لرسوله: وَلَا { تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (1) . وقال تعالى: قُلْ { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } (86) (2) . وفي الصحيحين من حديث جندب ابن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه" (3) . فإن كان من الأحكام العملية -والقضية واقعة- ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كان يجري عليها في أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين.
فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم، ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر والرأي المتعمق فيه، لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يقضى عليه بالخروج عن الصراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه.
__________
(1) الإسراء الآية (36).
(2) ص الآية (86).
(3) أحمد (4/313) والبخاري (9/124/5060-5061) ومسلم (4/2053/2667).(1/411)
هذا، والاختلاف المنهي عنه من لازمه -كما بينته الآيات- التحزب وأن يكونوا شيعا، وسبيل الحق بينة، والدين محفوظ قد تكفل الله تعالى بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على أخطائه، فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه، فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى، ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرهم صادقون في الجملة، ولكن الرامي يغفل عن نفسه، وكما جاء في الأثر "يرى القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه" (1) . وعلى كل حال، فإن الأمة قد اتبعت سنن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك بل من أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعا، وقد تواترت الأخبار بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على الصراط، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعا؛ ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب:
الأول: العقائد، وقد علمت أن هناك معدنا لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدنا للشبه، وهو المأخذان الخلفيان، فطريق الحق في ذلك واضح.
__________
(1) أخرجه ابن حبان (13/73-74/5761) والقضاعي في مسند الشهاب (1/356/610) وأبو نعيم في الحلية (4/99) من حديث أبي هريرة مرفوعا: "يبصر أحدكم القذاة..." الحديث.(1/412)
المطلب الثاني: البدع العملية، والأمر في هذا قريب لولا غلبة الهوى، فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرح قوم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل، وقد شرحت ذلك في كتاب (العبادة)، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها (1) بأسا، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأن في الأعمال المشروعة اتفاقا ما هو أعظم أجرا وأكبر فضلا بدرجات لا تحصى، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا { اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2) ، وفي (الصحيحين) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (3) وفي حديث آخر: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (4) . وفي حديث آخر: "إنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس" (5) .
__________
(1) في الأصل: بعضها.
(2) التغابن الآية (16).
(3) أحمد (4/270) والبخاري (1/168/52) ومسلم (3/1219-1220/1599) وأبو داود (3/624/3330) والترمذي (3/511/1205) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/277-279/4465) وابن ماجه (2/1318-1319/3984).
(4) أحمد (1/200) والترمذي (4/576-577/2518) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/732/5727) وابن حبان (2/498/722 الإحسان) والحاكم (2/13) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) الترمذي (4/547/2451) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (2/1409/4215) والحاكم (4/319) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي..وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 178) وقال: "وهذا عجب منه خاصة، فإن عبدالله بن يزيد وهو الدمشقي لم يوثقه أحد، بل قال الجوزجاني: "روى عن ابن عقيل أحاديث منكرة" ...وأورده الذهبي نفسه في الضعفاء وذكر قول الجوزجاني هذا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف".(1/413)
والنظر الواضح يكشف هذا، فإنك لو كنت مريضا، فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سم قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سما ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضار، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع. أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلا بأن تجتنب ذاك الشيء؟! أو ليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركا ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعدائك؟! وتدبر في نفسك، أيصح من عاقل محب للإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركا؟! أو ليس من يصر إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركا؟(1/414)
المطلب الثالث: الفقهيات، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه -كما مرت الإشارة إليه- لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقا متنازعة وشيعا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص، وإذ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغي، ويتناسوا ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبوها مذهبا واحدا اختلف علماؤه، وأن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيار الأرجح منها.(1/415)
وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه، فيترجح عندك قول مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعا للدليل الراجح من جهة، ومقلدا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة؛ والفقهاء يجيزون تقليد المقلد غير إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟! وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن خالف هواه فأمرها هين، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالما فيفتيه فيأخذ بفتواه، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضا أو الصلاة فيسأل عالما آخر فيفيته فيأخذ بفتواه، وهكذا، ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف، فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غير مقصود، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص. فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له أن يثق بما تبين له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه؛ نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظروا فيها مجتمعين، ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى.(1/416)
فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدع، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح، وكان مع ذلك محافظا على الفرائض، مجتنبا للكبائر، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب، فهو من الطائفة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تزال قائمة على الحق، فليتعرف إخوانه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوع بالمسلمين إلى سواء الصراط. فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ } اللَّهِ (1) وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ { مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } (2) . اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ں$oY/u' { لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (286) (3) .اهـ (4)
موقفه من الصوفية:
قال في كتابه التنكيل: مآخذ العقائد الإسلامية أربعة: سلفيان وهما الفطرة والشرع. وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمق فيه، والكشف التصوفي.
__________
(1) التوبة الآية (31).
(2) الجاثية الآية (23).
(3) البقرة الآية (286).
(4) التنكيل (2/401-407).(1/417)
ثم شرع رحمه الله في تفصيل المقال في هذه المآخذ إلى أن قال: وأما المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف اسما ولا رسما، خلا أنه كان منهم أفراد صادقوا الحب لله تعالى، والخشية له يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة، فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته بل على ما يقل في العادة، ويلقى الحكمة في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير، وإذا كان من أهل العلم، ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة، فقد يفهم من الآية أو الحديث معنى صحيحا إذا سمعه العلماء وتدبروا وجدوه حقا، ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبههم ذلك العبد الصالح. ثم جاء القرن الثاني فتوغل أفراد في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوقعوا في طرف من الرياضة... فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطان مسلكا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من العلم ما دافع به عن دينه كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين -الكتاب والسنة-" ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في الاعتصام (106-121).(1/418)
ومنهم من سلم له أصل الإيمان لكن وقع في البدع العملية، ومنهم من كان سلطان الشيطان عليه أشد فأوقعه في أشد من ذلك كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمرو القيسي من (لسان الميزان). ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نقلت مقالات الأمم الأخرى ومنها الرياضة وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير، فضمها هواتها إلى ما سبق، ملصقين لها بالعبادات الشرعية، وكثر تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتدرع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلا للشكوك والشبهات التي أوقعه فيها التعمق في الكلام والفلسفة.
ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، وكان من نتائج ذلك قضية الحلاج، ولعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم من هو أغلا منه إلا أنهم كانوا يتكتمون، ودعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره حب الرياسة.
وكذلك مزج الفلسفة بالتصوف كان معروفا عن بعض الفلاسفة الأقدمين، وتجد في كلام الفارابي وابن سينا نتفا من ذلك.(1/419)
وكذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة وغيره؛ وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف، فلما جاء الغزالي نصب التصوف منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحق لا يعدو هذه الأربع المقالات، وقضى ظاهرا للتصوف مع ذكره كغيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الإباحة المحضة، وفي ذلك نبذ الشرائع البتة، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ومقالاتهم معروفة. ومن تتبع ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقينا أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع ويصدقهم معا، وإن غالط نفسه وغالطته، فالتكذيب ثابت في قرارها ولا بد.
هذا والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة" (1) .
__________
(1) رواه أحمد (2/233) والبخاري (12/464/6990) ومسلم (4/1774/2263(8)) والترمذي (4/461/2270) وابن ماجه (2/1282/3894) وأبو داود (5/282-283/5019) بنحوه.(1/420)
وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في (فتح الباري) منها حديث ابن عباس (1) عند مسلم وغيره، وحديث أم كرز (2) عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وحديث حذيفة ابن أسيد (3) عند أحمد والطبراني، وحديث عائشة (4) عند أحمد، وحديث أنس (5) عند أبي يعلى.
وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا...
فالكشف إذن تتبع للهوى؛ فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف، إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل، ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل؛ وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة، لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي كان يفهمها بها السلف الصالح.
__________
(1) رواه أحمد (1/219) ومسلم (1/348/479) وأبو داود (1/545-546/876) والنسائي (2/534/1044) وابن ماجه (2/1283/3899).
(2) رواه أحمد (6/381) وابن ماجه (2/1283/3896) وصححه ابن حبان (13/411/6047)
(3) رواه الطبراني في الكبير (3/200/3051) والبزار (3/11/2121 كشف الأستار) وقال الهيثمي في المجمع (7/173): "ورجال الطبراني ثقات".
(4) رواه أحمد (6/129) والبزار (3/10/2118 كشف الأستار) قال الهيثمي (7/172): "ورجال أحمد رجال الصحيح".
(5) رواه أحمد (3/106) والبخاري (12/473/6994) ومسلم (4/1774) تحت حديث عبادة (2264) ولم يرقم. وابن ماجه (2/1282/3893) وأبو يعلى (6/41/3285)، وفي الباب عن عبادة وابن عمر.(1/421)
فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل.
أولا: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل.
ثانيا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع، فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله؟.
وأما التحديث والإلهام ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" (1) . وأخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة، وفيه: "فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" (2) وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام.
وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم استدلال بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفى عليهم الحكم فيسألون عنه، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القول، فيخبرهم إنسان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فيرجعون إليه.
وأما الفراسة، فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها، فإذا شرحها عرفت، فإن كانت مما يعتد به عملت بها لا بالفراسة. (3)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله في بيان عقيدة السلف التي ختم بها كتاب التنكيل: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:
__________
(1) أحمد (2/339) والبخاري (7/52/3689) والنسائي في الكبرى (5/40/8120) من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (6/55) ومسلم (4/1864/2398) والترمذي (5/581/3693) والنسائي في الكبرى (5/39-40/8119).
(3) التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل (2/255-260).(1/422)
اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص. وروى الخطيب عن جماعة من أهل السنة إنكارهم ذلك على أبي حنيفة، ونسبته إلى الإرجاء، فتكلم الكوثري في تلك الروايات، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط على عادته، فاضطررت إلى مناقشته دفعاً لتهجمه بالباطل على أئمة السنة... (1)
ونقل كلامه ثم قال: اختلفت الأمة فيمن كان مؤمناً ثم ارتكب كبيرة، فقالت الخوارج: يكفر، وقالت المعتزلة: لا يكفر ولكن يزول إيمانه، وإذا مات عن غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار، وقالت المرجئة: لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار، لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقال أهل السنة: لا يكفر، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصاً، وقال بعض الأئمة: إلا ترك الصلاة المكتوبة عمداً فإنه كفر، وحقق بعض أتباعهم أن الترك نفسه ليس كفراً، ولكن الشرع قضى أنه لا يكون إلا من كافر.
يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولين، بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث: بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان لا زواله، ويدفع المرجئة الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان.
وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري أنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات.
__________
(1) التنكيل للمعلمي اليماني (2/383).(1/423)
بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول فهو مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أتعب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساوٍ لهم فيه!
وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذاً أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟!
وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية، أما النصوص على أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص بحسبها فمعروفة، حتى اضطر الكوثري إلى المواربة، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركناً أصلياً لا أنه من الإيمان في الجملة، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله، وإن كان في بعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى.(1/424)
وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان. (1)
فأما قول الله عز وجل: * { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (2) فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان، وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري للإيمان، فلا يكون الإنسان مؤمناً حقاً بدونه، فإن قوله: لَمْ { } تُؤْمِنُوا نفي لإيمانهم، ويكفي في نفيه انتفاء ركن ضروري عنه كما لا يخفى، وقوله: وَلَمَّا { يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي } قُلُوبِكُمْ لا يقتضي أن الإيمان كله هو الذي يكون في القلب، ألا ترى أنه يصح أن يقال: لم يدخل الإسلام في قلب فلان... أو: لم يدخل الدين في قلب فلان. مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب.
وأما ما في حديث جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.." (3) فقد أجاب عنه البخاري في كتاب الإيمان من "صحيحه" قال: باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم"، فجعل ذلك كله ديناً، وما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: ِِ`tBur { يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ } مِنْهُ (4) .
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبدالله بن أحمد المقدسي سنة (620هـ).
(2) الحجرات الآية (14).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(4) آل عمران الآية (85).(1/425)
وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في "الصحيحين" أيضاً وقد أوردها فيما بعد فأخرج من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: ..فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.." (1) فقد يقال: الإيمان في حديث جبريل منحوّ به المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر -كما يعلم من الروايات- أعرابياً لم يجتمع قبل ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ابتدأ فقال: ما الإيمان؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي، فظاهر السؤال: ما الذي يطلب في الدين التصديق القلبي به؟.. وأما في قصة عبد القيس، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ابتدأ فأمرهم بالإيمان ثم فسره لهم، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس.
فإن قيل: فإنه لم يستوعب الأعمال.
قلت: هذا السؤال مشترك، ولا قائل إن ما ذكر فيه من الأعمال هي من الإيمان دون غيرها، ومثل هذا في النصوص كثير من الاقتصار على الأهم، إما لعلم المخاطب بغيره، وإما اتكالاً على أنه سيعلمه عند الحاجة، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه، وكثيراً ما يقع الاختصار من بعض الرواة. (2)
محمد بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم (1387 هـ)
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(2) التنكيل للمعلمي اليماني (2/385-388).(1/426)
ذكر عبدالرحمن بن عبدالجبار أن هذا الشيخ كانت له نهضة سلفية في باكستان والهند، وذكر أنه كان أعجوبة العصر في الوقوف أمام المبتدعة. جاء في مسودة عبدالرحمن بن عبدالجبار: أحد نوابغ عصره ومن العلماء المفلقين في علوم الكتاب والسنة، وكان مولعا بنشر السنة والسلفية، قضى حياته في الدرس والإفادة والتأليف والوعظ والإرشاد، تخرج على المحدث الوزير أبادي، كان له مساهمة كبيرة في الحركات بباكستان التي كان أمينها العام، وله بحوث ومقالات علمية قيمة في الدفاع عن السنة والسلفية، وله ردود علمية على منكري السنة والمقلدة الجامدين.
ومن مؤلفاته:
1- 'تحقيق مسألة حياة الأنبياء'.
2- 'النهضة السلفية في الهند والباكستان'.
محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1) (1389 هـ)
الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. حفظ القرآن في سن الحادية عشرة، ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على والده مختصرات من علم التوحيد وأصول العقيدة والحديث وغيره. وفي سن الرابعة عشر من عمره فقد بصره، فصبر واحتسب واستمر في طلبه. تلقى الشيخ العلم على أيدي مجموعة من الشيوخ، فبالإضافة إلى أبيه وعمه، هناك الشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبدالله بن راشد بن جلعود وغيرهم. ومن تلاميذه: الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد وعبدالرحمن بن قاسم، وغيرهم كثير.
__________
(1) الأعلام (5/306-307) وعلماء نجد (1/88) والإتحاف (1/105) والمستدرك على معجم المؤلفين (582).(1/427)
قال عنه الشيخ ابن باز: كان من أعلم الناس في زمانه ومن أحسنهم تعليما وتفقيها وعناية بالطالب وإيقاع الأسئلة. وقال الأمين الشنقيطي: عرفنا فيه وفور العلم ورجاحة العقل وتمام الحكمة والصبر المنقطع النظير وهو -رحمه الله- فيما أعتقد وأجزم به وإن كنت لا أزكي على الله أحدا فهو من نوادر الرجال الذين عرفناهم علما وعقلا وحكمة فنرجو الله أن يتقبل منه صالح عمله وأن يجزيه كل خير ويعلي درجته في الآخرة كما أعلاها في الدنيا، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف وله من العمر ثمان وسبعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله: كل بدعة ضلالة (1) : فيه أن البدعة ليس فيها حسن، ففيه الرد على من يقول أن هذه بدعة حسنة والرسول يقول ضلالة.
وأما قول عمر: نعمت البدعة. المراد من جهة اللغة وإلا فأصلها مشروع فإنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ليال فلم يخرج خشية فرضها عليهم فأصلها معروف زمن النبي (2) .
أما تقسيم بعضهم البدعة إلى خمسة أقسام: فهذا غير مسلم. بل البدعة التي لا يسوغها الشرع بدعة ضلالة. وما كان لها ما يخولها من الدين ويدل عليها فليست بدعة ضلالة بل بدعة لفظية. (3)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: وأما الطواف بالقبر، وطلب البركة منه، فهو لا يشك عاقل في تحريمه وأنه من الشرك، فإن الطواف من أنواع العبادات فصرفه لغير الله شرك، وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله، وطلبها من غير الله شرك كما تقدم في حديث أبي واقد الليثي (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد (3/310-311و319و371) ومسلم (2/592/867) والنسائي (3/209-210/1577) وابن ماجه (1/17/45) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(3) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن ابراهيم (1/257-258)
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الشيخ محمد بن عبدالوهاب سنة (1206هـ).(1/428)
وأما النذر للقبر فلا يجوز، فإن النذر عبادة، وصرفه لغير الله شرك أكبر، كما قال الله سبحانه: يُوفُونَ { } بِالنَّذْرِ (1) . وكما في الصحيح من حديث عائشة: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (2) .اهـ (3)
- وقال أيضا: إن الغلو في قبور الأنبياء والصالحين واتخاذها مساجد وتشييد القباب والأبنية وإقامة الأضرحة وتعليق الستور المزركشة عليها وإسراجها بالشموع والأضواء كل ذلك من مظاهر الشرك وآثار الجاهلية التي لا يقرها الإسلام ولا تتفق مع أحكام شريعته المطهرة، ولذلك بالغ رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه في إنكار ذلك والتحذير منه أشد المبالغة، لئلا يفضي الأمر بهذه الأمة إلى اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين أوثانا تعبد من دون الله. (4)
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله: من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم علي بن محمد المطوع المحترم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ، الذي ذكرت فيه ما أجراه بعض الروافض عندكم أنهم صوروا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صورة مجسمة تجسيما كاملا، وزينوه بلباس فاخر بلحيته وعمامته، وجعلوا له ذيلا يستهزءون به في مجالسهم، ويرقصون حواليه، ويلعنونه، ثم أتوا بولد أبو عشرين سنة وأتوا بمطوعهم ليعقدوا للولد على عمر، ويجعلونه مثل الذين تعرفون، ثم عثرت عليهم الشرطة، فمسكتهم وأودعوا السجن، وتسأل عما يجب في حقهم شرعا؟.
__________
(1) الإنسان الآية (7).
(2) أحمد (6/36) والبخاري (11/712/6696) وأبو داود (3/593/3289) والترمذي (4/88/1526) والنسائي (7/23/3815) وابن ماجه (1/687/2126).
(3) فتاوى ورسائل محمد بن ابراهيم (1/122).
(4) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/141-142).(1/429)
والجواب: عن ما ذكرتم من هذا الأمر العظيم من فعل هؤلاء الروافض وتهجمهم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذين اختارهم الله لصحبة رسوله، فقاموا معه خير قيام، وآمنوا به، وهاجروا وجاهدوا معه، ونصروه، وبذلوا في سبيل ذلك مهجهم وأولادهم وأوطانهم وأموالهم، وفدوه - صلى الله عليه وسلم - بجميع ذلك.
قال أبو زرعة العراقي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من الصحابة فاعلم أنه زنديق، وذلك أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة، فمن جرحهم فقد أراد إبطال الكتاب والسنة.(1/430)
فإذا كان هذا في حق سائر الصحابة، فما بالك بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو أفضل الصحابة وأجلهم بعد الصديق بإجماع الأمة والبراهين القاطعة، والذي وردت في فضله الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة، ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" (1) وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر" (2) أي ملهمون. وروى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" (3) وأخرج الترمذي أيضا عن عقبة بن عامر مرفوعا: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" (4) والأحاديث والآثار في هذا كثيرة معروفة.
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف خالد بن يوسف النابلسي سنة (663هـ).
(2) تقدم تخريجه انظر (المهدي بن تومرت محمد بن عبدالله وبدعه في بلاد المغرب سنة (524هـ).
(3) أحمد (2/95) والترمذي (5/576-577/3682) وقال: "حسن غريب من هذا الوجه" وابن حبان (الإحسان 15/318/6895) وفي الباب عن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(4) أحمد (4/154). الترمذي (5/578/3686) وقال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان". الحاكم (3/85/4495) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومشرح هذا قال فيه الحافظ في التقريب: "مقبول". قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/646): "وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات، وفي مشرح كلام لا ينزل عن رتبة الحسن، وقد وثقه ابن معين".(1/431)
وهؤلاء الروافض قد ارتكبوا بهذا الصنيع عدة جرائم شنيعة: منها الاستهزاء بأفاضل الصحابة رضوان الله عليهم وسبهم ولعنهم. ومنها التصوير، والتصوير من كبائر الذنوب الملعون فاعلها، مع أنهم لم يصوروه على خلقته رضي الله عنه بل صوروه صورة بهيمة، وجعلوا له ذيلا لتمام السخرية والاستهزاء قبحهم الله. وما أعظمها وأقبحها وأفضحها وأفحشها، ومنها تهجمهم عليه ووقاحتهم حتى أتوا برجل يعقدون له النكاح عليه قبحهم الله وأخزاهم، وهذا يدل على خبثهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، فيجب على المسلمين أن يغاروا لأفاضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يقوموا على هؤلاء الروافض قيام صدق لله تعالى، ويحاكموهم محاكمة قوية دقيقة، ويوقعوا عليهم الجزاء الصارم البليغ، سواء كان القتل أو غيره حسب ما يراه الحاكم بنظره المصلحي الشرعي، والمأمول من ولاة الأمور عندكم وفقهم الله وهداهم القيام حول ما ذكر بما يلزم شرعا بالضرب على هؤلاء بيد من حديد، غيرة لديننا وخيار سلفنا وزجرا لمن تسول له نفسه مثل صنعهم. ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويوفق ولاة الأمر لما فيه عز الإسلام والمسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: وقد اشتهر في النفي مذاهب أربعة: المعتزلة، والأشاعرة، والجهمية، والماتريدية، والماتريدية قريبة من الأشعرية إلا أن بينهما فروقا مذكورة في مواضعها.
الجهمية ينفون جميع الأسماء والصفات ولا يثبتون شيئا أو يثبتون "القادر" لأن مذهب جهم الجبر. وهم زعموا التنزيه فلجأوا إلى التشبيه، فلما تصوروا ذلك واعتقدوه كذبوا الرسول ولجئوا إلى التعطيل، فوقعوا في تشبيه أكثر من الأول.
والأشاعرة أثبتوا سبعا، وقالوا في البقية أنها أخبار آحاد ونحو ذلك.
__________
(1) فتاوى ورسائل محمد بن ابراهيم (1/248-250).(1/432)
ثم الأشاعرة في مسلكهم الردي في النصوص يقال لهم: يلزمكم فيما صرتم إليه، فإن قالوا: إرادة مثل إرادة المخلوق. قيل: شبهتم، وإن قالوا: إرادة تليق بجلال الله. قيل لهم: وكذلك قولوا في الرحمة وأثبتوا نصوص الكتاب والسنة. وكذلك يقال في سائر الصفات. والحق ما عليه أهل السنة وهو إثبات الصفات حقيقة مع قطعهم أن الجميع لا يماثل صفات المخلوقين. (1)
- وقال: وفي قوله: u×A¨"t\مB { مِنْ } رَبِّكَ (2) دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة، كما هو قول "الجهمية" الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة جهميا.
فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزيد المبالغة في النفي والابتداء لكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه. وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبدالله القسري بواسط يوم النحر. وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه.
ولكن المعتزلة وإن وافقوا جهما في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضا، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول إن الله لا يتكلم أو يقول إنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون إنه تكلم حقيقة. لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضا كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء.
__________
(1) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/201-202).
(2) الأنعام الآية (114).(1/433)
فالمقصود أن قوله: u×A¨"t\مB { مِنْ } رَبِّكَ (1) فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات. ولهذا قال السلف: منه بدأ. أي هو الذي تكلم به لم يبتدأ من غيره كما قالت الخلقية. (2)
محب الدين الخطيب (3) (1389 هـ)
الشيخ محب الدين بن أبي الفتح محمد بن عبدالقادر بن صالح الخطيب. ولد بدمشق سنة ثلاث وثلاثمائة وألف من الهجرة، وتعلم بها، ثم رحل إلى صنعاء ثم إلى مصر (القاهرة) شاغلا مناصب مختلفة، آخرها محررا في جريدة الأهرام، وأصدر مجلته "الزهراء" و"الفتح"، وتولى تحرير "مجلة الأزهر" وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، فنشر عددا كبيرا من كتب التراث الإسلامي.
توفي رحمه الله سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
كانت له أيادي بيضاء في نشر العقيدة السلفية والدفاع عنها، يظهر ذلك في تعاليقه الجيدة على المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي.
ومن آثاره السلفية:
1- 'الغارة على العالم الإسلامي'.
2- وله تعاليق غنية بالفوائد والدرر.
- قال في مقدمته على 'العواصم' لابن العربي: والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناتهم على قدرها، وأن يتقى الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فيها ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها.
__________
(1) الأنعام الآية (114).
(2) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/219-220).
(3) الأعلام (5/282) والمستدرك على معجم المؤلفين (576-577).(1/434)
نحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كاذب. فالإنسان إنسان، يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر. وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير، ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات. وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه بوادر صالحات في بعض الأوقات.
يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، أن لا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير، فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات. ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات، أن لا يوهم الناس أنها من الصالحات من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات. (1)
__________
(1) مقدمة العواصم (46-47).(1/435)
- قال في مقدمته على كتاب 'مختصر التحفة الاثني عشرية': والمسلمون الأولون -الذين تولى الهادي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تربيتهم وتوجيههم وإعدادهم للاضطلاع بمهمة الإسلام العظمى- كانوا المثل الكامل للعمل بالإسلام: في إيمانهم، وطاعتهم لله، وأخلاقهم الكريمة، وسياستهم الحكيمة، وفتوحهم الرحيمة، وتكوينهم المجتمع الإسلامي الصالح، والدولة الإنسانية المثالية. وقد كافأهم الله على ذلك بانتشار رسالته على أيديهم، وذيوع دعوته بين الأمم اقتداء بهم، واتباعا لهم. ولما تخطت رسالة الإسلام حدود الجزيرة العربية المباركة -فدخلت العراق وإيران شرقا، والشام شمالا، ومصر وإفريقية غربا- كان ذلك سعادة للأخيار من أهل البلاد المفتوحة، وغذاء لعقولهم، وبهجة وحبورا تطمئن بهما قلوبهم. وشجى للأشرار منهم، وغصة في حلوقهم، ومبعث إحنة وغل تسممت بهما دماؤهم وأرواحهم. إن الأخيار من طبقات سالم مولى أبي حذيفة، وعبدالله بن سلام، وسلمان الفارسي، فالحسن البصري، وعبدالله بن المبارك، فمحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي حاتم الرازي، وابنه عبدالرحمن، وأندادهم وتلاميذهم، استقبلوا هداية الإسلام السليمة الأصيلة بأرواحهم وعقولهم، وفتحوا لها أبوابهم وصدورهم، وأحلوا لغتها محل لغاتهم، وعملوا بسننها بدلا من سننهم، ونسخوا بإيمانها كل ما كانوا -أو كان آباؤهم- عليه من قبل. فساهموا في حفظ كتاب الله وسنة رسوله الأعظم، وحرصوا على فهمهما كما كان يفهمهما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وعبدالله بن عمر وعبدالله ابن مسعود ومعاذ بن جبل ومن ائتم بهم وسار على منهاجهم، حتى صاروا بنعمة الله إخوانا للمسلمين كصالحي المسلمين، وأئمة للمسلمين كسائر أئمة المسلمين. (1)
__________
(1) مقدمة مختصر التحفة الاثني عشرية.(1/436)
- وقال في مقدمة تحقيقه على كتاب 'المنتقى من منهاج الاعتدال' للذهبي رحمهما الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (8) (1) . إن ظهور هذا الدين الإسلامي -على فترة من تاريخ الإنسانية- كان حادثا من أعظم أحداثها، بل هو أعظم أحداثها، فقد جاء لإقامة الحق: ما كان منه وما سيكون، فكل حق يواجهه البشر في ائتلافهم واختلافهم، وفي معاملاتهم وأقضيتهم وأحكامهم، وفي تفكيرهم وبحوثهم ودراساتهم وأنظمتهم، وفي تعاونهم على ما فيه خيرهم ومصالحهم: فهو من الإسلام. وحسب الإسلام مكانة في تاريخ التشريع أن يسميه الله "دين الحق" هُوَ { الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ } الْحَقِّ (2) ، وكل ما وافق العدل والقسط فالإسلام يدعو أهله إلى أن يقوموا به، وأن يشهد كل واحد منهم بما يعلمه منه، وأن يعملوا جميعا على بسط سلطان العدل ونشر لوائه في دار الإسلام وفي سائر آفاق الأرض كاملا وافيا بأقصى ما يستطيعونه، ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، فالحق والعدل وإقامتهما والشهادة بهما عنصر الإسلام الأول، وخلقه المقدم، والسمة التي يجب أن يتميز بها أهله في طيبة قلب وصفاء فطرة وطهارة نفس وإيثار لما فيه مرضاة الخالق وطمأنينة الخلق. والعدل في نظام الإسلام من التقوى، والتقوى ميزان التفاضل بين المسلمين، والله خبير بأهلها وبمن ينحرف عنها، لا تخفى عليه منهم خافية.
__________
(1) المائدة الآية (8).
(2) التوبة الآية (33).(1/437)
وهذه الصورة المشرقة لهذا الإسلام الجميل هي التي تولى خاتم رسل الله تربية أصحابه عليها، وإعدادهم ليخلفوه في دعوة الإنسانية إليها، ولم يودع - صلى الله عليه وسلم - هذه الدنيا ويغمض بصره وراء سجف بيت عائشة أم المؤمنين المطل على مسجده الشريف ليلتحق بالرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أقر الله عينيه الكريمتين باجتماع الصفوة المختارة منهم صفوفا كالبنيان المرصوص، مسلمين أنفسهم وقلوبهم لله عز وجل في عبادته وطاعته، خلف خليفته فيهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قال فيه وفي صنوه عمر بن الخطاب أخوهما علي بن أبي طالب وهو يخطب على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وفي مثل لمح البصر -بعد فاجعة الإسلام والمسلمين بفراق أكرم خلق الله على الله- لم هؤلاء البررة الأخيار شعثهم في جزيرتهم المباركة، ووحدوا صفوفهم العامة للجهاد، كما وحدوا في أيام احتضار الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفوفهم للصلاة، فسارت رايات أبي بكر متوجهة إلى العراق والشام حاملة أمانات الرسالة المحمدية إلى أمم الأرض أدناها فأدناها، وسرعان ما كافأهم الله على جهادهم الصادق بالنصر الموعود، فترددت أصداء دعوة "حي على الفلاح" في الآفاق التي خفقت فيها رايات قواد الخليفة الأول: أبي عبيدة، وخالد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وكان هؤلاء للشعوب التي اتصلوا بها معلمين ودعاة وأصحاب رسالة من الله ورسوله إلى البلاد التي عرفت أقدارهم؛ وفتحت أبوابها وقلوب أهلها لتعليمهم وتوجيههم. وبعد أن قرت عينا أبي بكر بنصر الله في بلاد الرافدين وربوع الشام اختاره الله لمجاورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأخرى، كما اختاره لصحبته في الدنيا، فأخذ دفة القيادة في سفينة الإسلام خليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر بشهادة أخيهما أبي الحسن رضي الله عنهم جميعا.(1/438)
ومضت قافلة الإسلام في طريقها ترعاها عين الله التي لا تنام، فواصلت كتائب الدعوة المحمدية سيرها إلى وادي النيل، ومنها إلى شمال إفريقية، كما توغلت أخواتها في مملكة كسرى إلى أقصى آفاقها، حتى إذا تآمرت على الدم العمري الشريف مكايد اليهودية والمجوسية، واختار الله إليه مثال العدالة في الأرض: يسر له مجاورة صاحبيه، فارتضى المسلمون للخلافة المحمدية عليهم أطيبهم نفسا وأرحمهم قلبا وأنداهم يدا وأحفظهم للقرآن وأصبرهم على بلاء الزمان: صهر نبيهم على كريمتيه، ولو كان له - صلى الله عليه وسلم - ابنة ثالثة لآثره بها، فكان عثمان لهؤلاء الصفوة البررة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخا مخلصا، ولأبنائهم أبا مشفقا، وكانت الأمة مدة خلافته في أرخى عيش وأسعد مجتمع، كما شهد بذلك عالمان من كبار التابعين: الحسن البصري وصنوه ابن سيرين، بينما كانت رايات ذي النورين بأيدي المجاهدين الأبطال من رجاله تخفق في آفاق قفقاسيا وما وراء الباب مما كان قواد الأكاسرة وأبطالهم لا يطمعون في الوصول إليه. وهكذا عرفت أمم المشرق وأمم المغرب هذا الإسلام من سيرة الصحابة وعدلهم، ورفقهم وحزمهم واستقامتهم على طريق الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وبذلك تحقق فيهم قول صاحب الرسالة العظمى - صلى الله عليه وسلم - : "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1) ...
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الحلية (4/172) عن عمر بن الخطاب واستغربه. وقد صح الحديث بلفظ "خير الناس قرني..." من حديث ابن مسعود أخرجه: أحمد (1/334) والبخاري (5/324/2652) ومسلم (4/1963/2533[212]) والترمذي (5/652/3859) والنسائي في الكبرى (3/494-495/6031) وابن ماجه (2/791/2362).(1/439)
وهذا الحديث الشريف من أعلام نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الإسلام لم ير زمان سعادة وعزة واستقامة على الحق والخير كالذي رآه في زمان الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وتحديد ذلك إلى نهاية الدولة الأموية، وقد يلتحق به زمن الخلفاء الأولين من بني العباس الذين تربوا في البيئة الأموية. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج7صلى الله عليه وسلم4): اتفقوا -أي اتفق أئمة الإسلام- أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود سنة 220هـ، ثم ظهرت البدع، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا.(1/440)
هذه المدة التي تنبأ عنها خاتم رسل الله - صلى الله عليه وسلم - ونعتها بأنها "خير القرون" وكان ذلك من أعلام نبوته، هي عصور الإسلام الذهبية التي لم ير الإسلام أعظم منها بركة، ولا أعز منها لأهله رفعة وسلطانا، ولا أصدق من جهاد قادتها جهادا، ولا أوسع من دعوتها إلى الله في أوسع الآفاق من أرض الله، وفيها انتشر حفظة القرآن في أنحاء المعمورة ورحل شباب التابعين إلى كل بقعة فيها صحابي يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من سنته السنية ليتلقوها عنه قبل أن تموت بموته، ثم رحل تابعوهم إلى كل بقعة فيها أحد من كبار التابعين يحفظ شيئا عن الصحابة ليحملوا عنه ما حمله عن شيوخه من الصحابة، وهكذا وصلت أمانة السنة إلى رجال التدوين -من أمثال مالك وأحمد وشيوخهم ومعاصريهم وتلاميذهم- غضة يفوح منها عبق النبوة، هدية من الأمناء الحافظين إلى الأمناء الحافظين، فكان من ذلك أثمن تراث للمسلمين بعد كتاب الله عز وجل، فبهمة هؤلاء حفظ الله لنا هذه الكنوز، وبسيوفهم فتح الله للإسلام هذه الممالك، وبدعوتهم المباركة نشر الله دعوة الإسلام، فكان لنا اليوم هذا العالم الإسلامي بأوطانه وشعوبه وما فيه من علوم وعلماء كانوا في عصور الإسلام الأولى ملح الأرض وزينة الدنيا، وبصلاحهم وعودتهم إلى الله في أيامنا والأيام الآتية سيعود إن شاء الله لهذا الإسلام مجده وسلطانه، وستحيا بنهضتهم أنظمته وسننه، وما ذلك على الله بعزيز.(1/441)
وكما أن أبناء السراة وأهل السعة يرثون عن آبائهم أملاكهم وأموالهم فتكون لهم بذلك العزة والمكانة في الدنيا، إلا أن يخدعهم عنها قرناء السوء فيوهموهم أن سعادتهم ومتعتهم في تبديدها والتفريط بها. كذلك هذا المجد الإسلامي الذي ورثناه عن الصحابة والتابعين لا نعلم لأمة من أمم الأرض مجدا يضارعه في مواريث الإنسانية، وأثمن هذا الميراث وأعظمه قدسية وبركة اهتمام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بجمع القرآن، وتوحيد تلاوته، وحفظه في المصاحف، ولو أن كل مسلم على وجه الأرض دعا لهم بالرحمة والرضا وعظيم المثوبة آناء الليل وأطراف النهار على ما أحسنوا به إلى المسلمين من هذا العمل العظيم لما وفيناهم ما في أعناقنا من منة لهم، سيتولى الله عنا حسن مكافأتهم عليها، ثم من أعظم كنوز هذا الميراث العظيم عناية كل صحابي بصيانة ما حفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديثه وخطبه وسيرته وتصرفاته وتشريعه في أمره ونهيه وإقراره، فأدوا -رحمهم الله ورضي عنهم- هذه الأمانة إلى إخوانهم وأبنائهم والتابعين لهم بإحسان بما لم يعهد مثله عن أصحاب نبي غيره من الأنبياء السابقين، فكان ذلك من أعظم مواريث الإنسانية كلها في الأخلاق والتشريع وتكوين الأمم الاجتماعي والتقريب بين البشر في طبقاتهم وأجناسهم وأوطانهم وألوانهم، ولا يغمط جيل الصحابة فيما قاموا به للإنسانية من ذلك إلا ظالم يغالط في الحق إن كان غير مسلم، أو زنديق يبطن للإسلام غير الذي يظهره لأهله إن كان من المنتسبين إليه. وميراثنا الثالث من المواريث التي صارت إلينا عن الصحابة حسن عرضهم هذا الإسلام على الأمم ممثلا بأخلاقهم الإسلامية السليمة وأعمالهم الجليلة الرحيمة، فحببوه بذلك إلى الناس، وعرفوهم به من طريق القدوة والأسوة، فكان ذلك سبب دخول الأمم في الإسلام إلى أقصى آفاق المعمورة المعروفة في أزمنتهم.(1/442)
وهذه الفضيلة قد شارك عمال الخلفاء الراشدين فيها من جاهد بعدهم من الصحابة والتابعين تحت رايات الخلفاء من قريش الذين كان من أعلام نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا التنويه بهم في حديث جابر بن سمرة في الصحيحين (1) ، ورؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قباء عن جهاد معاوية رضي الله عنه في البحر، ورؤياه الثانية يومئذ عن حملة ابنه في حصار القسطنطينية (2) ،
__________
(1) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة". ثم قال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قاله؟ فقال: "كلهم من قريش". أخرجه: أحمد (5/86،87،88،90) والبخاري (13/261/7222، 7223) ومسلم (3/1452-1453/1821[7]) واللفظ له. وأبو داود (4/471-472/4279،4280) والترمذي (4/434/2223) من طرق عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره.
(2) البخاري (6/127/2924) عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله: أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا". قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا في البحر، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر. وقد حدث أنس بن مالك عن أم حرام هذا الحديث أتم من هذا السياق..(1/443)
وهؤلاء الخلفاء من قريش الذين ورد النص عنهم في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة هم الذين جاهدوا وجاهد رجالهم تحت كل كوكب، وطووا آفاق الأرض يحملون هذه الدعوة إلى أقاصي المعمور من بلاد آسيا وإفريقية وأوربا، ومهما تنبض قلوبنا بشكرهم والوفاء لهم والثناء على ما نشروا في الدنيا من ألوية جهادهم لن نوفيهم عشر معشار ما كان ينبغي لنا أن نفعله، وإلا فأين هي الدراسات العلمية الصحيحة التي قمنا بها لتدوين أمجادهم العظمى وبطولتهم الكبرى، وأين هي المؤلفات العصرية التي كان ينبغي أن تكون في أيدي الشباب في جميع أقطار الإسلام، والتي تجعل القارئ منا كأنه معاصر لتلك الأحداث، مرافق لكتائبها وأعلامها، مشارك بمشاعره ومداركه وخفقات قلبه في كل نصر أحرزه الإسلام في الدنيا على أيدي الصحابة والتابعين وأتباعهم. (1)
موقفه من الرافضة:
من آثاره السلفية:
1- 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'.
2- تعليق على مختصر التحفة الاثني عشرية وقد ذيله بخاتمة عنوانها: "حملة رسالة الإسلام الأولون وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير وكيف شوه المغرضون جمال سيرتهم".
3- تعليق على العواصم والقواصم لابن العربي.
وله تعليقات أخرى نافعة.
عبدالله بن علي بن محمد من آل يابس (2) (1389 هـ)
__________
(1) مقدمة المنتقى من منهاج الاعتدال (3-8).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/335-337) والأعلام (4/108).(1/444)
الشيخ عبدالله بن علي بن محمد من آل يابس، ولد في القويعية سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها، رحل إلى الرياض فأخذ عن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ عبدالله بن محمود وغيرهم، ثم رحل هو وزميلاه الشيخ عبدالعزيز بن راشد وعبدالله ابن علي القصيمي إلى الأحساء ثم إلى بغداد، فأخذوا عن الشيخ شكري الآلوسي، ثم توجهوا إلى مصر. أقام المترجم في مصر نحوا من أربعين عاما، وهو يدافع عن عقيدة السلف، ويرد على المخالف، وله في ذلك المؤلفات القيمة.
رحل في أواخر حياته إلى نجد، فأدركه المرض، فتوفي في الرياض وذلك سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له: 'إعلام الأنام في الرد على محمود شلتوت'. (1)
جاء في 'علماء نجد خلال ثمانية قرون' (2) : وقد اجتمع كل من المترجَم له -يعني أبا يابس، والشيخ عبدالعزيز بن راشد، وعبدالله بن علي القصيمي، وعقدوا العزم على السفر إلى الهند لأخذ الحديث وعلومه عن علمائه، فمروا بالأحساء، فأقاموا فيه للقراءة على قاضيه الشيخ عبدالعزيز بن بشر.
وبعد فترة غير قليلة توجهوا إلى بغداد في طريقهم إلى الهند، فأقاموا فيه للأخذ عن علمائه، وأشهرهم السيد شكري الآلوسي.
__________
(1) علماء نجد (4/337) والأعلام (4/108).
(2) 4/336-337).(1/445)
ولأمور سياسية عدلوا عن الهند، وتوجهوا ثلاثتهم إلى مصر، فالتحق الثلاثة بالأزهر، فأخذوا عن علمائه واستفادوا منهم فائدة كبرى، فكان الثلاثة من كبار العلماء، ولم تتأثر عقيدتهم السلفية بشيء، بل ظلوا على تمسكهم بعقيدة السلف الصالح، يوالونها ويدعون إليها ويدافعون عنها، وهذا لم يردهم من الاستفادة مما عند الأزهريين من علم التفسير والحديث وأصولهما، ومن توسع في علوم اللغة العربية، وكان من أشدهم مدافعة ومهاجمة، وردوداً على المنحرفين والمبتدعين، ولا سيما الشيعة، هو عبدالله ابن علي القصيمي صاحب القلم السيال، والحجة القوية، واللسان الذرب، فكبتهم بكتاباته العظيمة وبرسائله "البروق النجدية" وغيرها، إلا أنه انحرف -والعياذ بالله- بعد ذلك، وصار من أكبر الملاحدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
والقصد أن المترجَم استقر في مصر، وكانت إقامته في الإسكندرية، وكان هو أيضاً يدافع عن عقيدة السلف، فقد ردَّ على الشيخ محمود شلتوت.
ولما انحرف زميله القصيمي وصنف كتابه 'هذي هي الأغلال' ردّ عليه المترجَم بكتاب سماه 'الرد القويم على ملحد القصيم'.
وله غير ذلك من الكتب المفيدة النافعة.
والحقيقة أن الله تعالى نفع به وبزميله عبدالعزيز بن راشد في الإسكندرية في بث عقيدة السلف.
موقفه المشركين:
له: 'الرد القويم على ملحد القصيم'، رد فيه على كتاب 'هذي هي الأغلال' لعبدالله القصيمي. (1)
عبدالرحمن الوكيل (2) (1390 هـ)
__________
(1) علماء نجد (4/337) والأعلام (4/108).
(2) مجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1416هـ/ص.34-37).(1/446)
الشيخ عبدالرحمن عبدالوهاب الوكيل، ولد في قرية زاوية البقلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وحفظ القرآن ثم التحق بالمعهد الديني في طنطا، ومكث فيه تسع سنوات. وحصل على الإجازة العالية وعلى درجة العالمية وإجازة التدريس ثم عين في المعهد العلمي بالرياض سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وفي سنة ثمانين وثلاثمائة وألف انتخب رئيسا لجماعة أنصار السنة المحمدية بعد الشيخ عبدالرزاق عفيفي.
قال فيه الشيخ محمد عبدالرحيم: لقد كان الشيخ عبدالرحمن الوكيل موفور الحظ من اللغة وجمال البلاغة ووضوح المعنى وسعة الاطلاع وشرف الغاية، كما جمع علما مصفى من شوائب البدع والخرافات الصوفية. وقال الدكتور سيد رزق الطويل: لقد كان في أخلاقه نسيج وحده، سموا في الخلق وعفة في اللسان، طلق المحيا منبسط الأسارير، واسع الثقافة متنوع المعرفة أديبا شاعرا.
كان الشيخ رحمه الله يعرف بهادم الطواغيت أي الصوفية وله في ذلك مؤلفات جليلة تدل على سعة علمه واطلاعه.
توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة تسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ودفن بـ"الحجون".
موقفه من المبتدعة:
قال في كتابه 'الصفات الإلهية': أمة القرآن: ولقد آتى هذا الإيمان العظيم أكله، فجعل من أصحابه خير أمة أخرجت للناس، وأعظم جماعة تسامت بكرامة الإنسانية وبدد بنوره الذي أشرق في قلوب هؤلاء، وأشرقوا به على الناس، بغي الصليبية، وكيد الصهيونية ودنس المجوسية، ومكن لهم بنصر الله في الأرض، فأشرق في أرجائها جلال التوحيد، وروحانية الإيمان، وصفاء الخير، ونقاء الحب، ووداعة السلام، وتلاقت الأرحام على أقدس أخوة عرفها تاريخ بني الإنسان.(1/447)
فأروني الأمة التي أخرجها علم الكلام، ودعاته ألوف ألوف، وقد خيم على العقول القرون الطوال؟ إننا لا نجد أمته إلا أمة ضلالة ذاهلة وحيرة شاردة، وإن التاريخ لم يسجل لأمة غير هذا الذي نقول؟ وسجل له أنه كان من الظلمات التي حاولت أن تغتال النور في قلوب هذه الأمة وتاريخها المجيد.
كيد دنيء: هكذا فعل الإيمان العظيم الذي تحدثنا عنه بهذه الأمة. ولكن أبى المسعرون بالأحقاد أن تظل هذه القوة العظيمة المنتصرة تبطش بالجور والسفه والضلالة والكفر، وتشيد في كل لحظة مجدا لقوة الحق، وجلالة الإيمان، وإيثار الأخوة السمحاء، وللوحدة القوية التي تجعل من البشرية أسرة واحدة.
كما أبوا أن يستكينوا إلى ذل الهزيمة، فأوغلوا في الكيد وظلوا بالمسلمين يمارسون -في دهاء- فتنتهم، حتى استطاعوا الظفر بمن يهجر القرآن، ويتنكر للسنة، ويمجد البدعة، ويسجد للخرافة "وإذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل -كما يقول ابن تيمية- انتقم الله ممن خالف الرسل، فإنه لما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط الله عليهم الكفار. ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام، وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار" وقول الإمام ابن تيمية حق هدى إليه القرآن، وامتلأ بآياته التاريخ. (1)
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية:
1- صوفيات أو 'هذه هي الصوفية'. وهو مطبوع ومتداول.
__________
(1) الصفات الإلهية (10-12).(1/448)
- ومما قال فيه رحمه الله: للصوفية مدد من كل نحلة ودين إلا دين الإسلام، اللهم إلا حين نظن أن للباطل اللئيم مددا من الحق الكريم، وأن للكفر الدنس روحا من الإيمان الطهور. والصوفية نفسها تبرأ إلا من دين طواغيتها مؤمنة بأنه هو الحق الخالص. يقول التلمساني -وهو من كهان الصوفية- "القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا" وابن عربي يزعم أن رسول الله أعطاه كتاب فصوص الحكم -وهو دين زندقة- وقال له: "أخرج به إلى الناس ينتفعون به- ويقول: فحققت الأمنية كما حده لي رسول الله بلا زيادة ولا نقصان" ثم يقول:
فمن الله، فاسمعوا ... وإلى الله فارجعوا
على حين يذكر الحق وتاريخه الصادق أن الصوفية تنتسب إلى كل نحلة مارقة، وتنتهب منها أخبث ما تدين به، ثم تفتريه لنفسها، مؤمنة به، وتحمل على الإيمان به كل فراشة تطيف بجحيمه، وإلا فهل من الإسلام أسطورة وحدة الوجود، وخرافة وحدة الأديان؟ فتلك تزعم أن الله سبحانه عين خلقه، عينهم في الذات والصفات والأسماء والأفعال، تزعم أن واهب الحياة، وخالق الوجود عين الصخر الأصم، والرمة العفنة، ووحدة الأديان تزعم أن كفر الكافر، وخطيئة الفاجر عين إيمان المؤمن، وصالحة الناسك، وتزعم أن دين الخليل هو دين أبيه آزر، وأن إيمان موسى عين كفر فرعون، وأن وثنية أبي جهل عين توحيد محمد، فكل رب الدين ورسوله، كل تعين للذات الإلهية، غير أنها سميت في تعين بمحمد، وفي آخر بأبي جهل، وهي هي في مظهريها، أو اسميها، تزعم أن دين إبليس وإيمانه عين دين أمين الوحي، وروح إيمانه، بل زادت الخطيئة فجورا، فزعمت أن إبليس أعظم معرفة بآداب الحضرة الإلهية من أمين الوحي، وأسمى مقاما.
أفمن دين الإسلام هذه الخطايا الكافرة؟. (1)
__________
(1) هذه هي الصوفية (ص.19-20).(1/449)
- وقال رحمه الله: كانت الجاهلية في إسفافها الوثني أقل حماقة من الصوفية، وتدبر ما قصه الله عن الجاهلية وشركها، تجدهم كانوا يوحدون الله في ربوبيته توحيدا حرمت حتى من مثله قلوب الصوفية، إن كانت لهم قلوب، يقول تعالى: قُلْ { لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } (89) (1) .
هذا دين الجاهلية ولكن الله لعنهم لعنا كبيرا بشركهم، لأنهم أشركوا بالله في إلهيته، فتضرعوا إلى غيره بالدعاء.
أما الصوفية فتدين بالقتلة والمجرمين، وأوغاد الفاحشة أقطابا يتصرفون في الوجود، ويسيطرون بقهرهم على سنن الله الكونية ونواميس الوجود التي فطرها الله وحده، وهو الذي يصرفها وحده، ويتحكمون في أقدار الله، فلا ينفذ منها إلا ما يشتهون، فأي الشركين أطغى بغيا، وأخبث رجسا؟ لقد وحدت الجاهلية الله في ربوبيته، وأشركت به في ألوهيته، أما الصوفية فنفتهما عنه، وأثبتتهما للمفاليك الصعاليك، بل انحدرت حتى نفت وجود الله الحق، ونعتته بالعدم الصرف، أفيمكن أن يقاس إلحاد الصوفية، بشرك الجاهلية؟ أم ترى هذا ليلا غاسقا، وترى الإلحاد الصوفي دياجير تطغى، وتتراكم، وتطول، حتى لا يعرف الأبد فيها بدايته، أو منتهاه؟ أجيبوا يا كهنة الصوفية ولكن، لا: فحسبي أن الجواب مسفر الصبح، وضيء البيان، قوي الدلائل. (2)
__________
(1) المؤمنون الآيات (84-89).
(2) هذه هي الصوفية (ص.135).(1/450)
وله تقديم وتعليق على كتاب 'تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي' وكتاب 'تحذير العباد ببدعة الاتحاد' وكلاهما للبقاعي، تحت عنوان 'مصرع التصوف'.
- قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ورسوله. إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي العداوة للدين الحق. فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية، وديصانية. تجد أفلوطينية، وغنوصية. تجد فيه يهودية، ونصرانية، ووثنية جاهلية. تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة صوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرا جديدا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: (تصوف) وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامى والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام، أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف، ولكن سلوا الصوفية سودا وبيضا، خضرا وحمرا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق الحق؟ سيقولون ما قالت وثنية عاد: إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها. (1)
__________
(1) مصرع التصوف (ص.10).(1/451)
- وقال رحمه الله متعقبا ابن خلدون في تقسيمه طريق المتصوفة إلى طريقة السنة وطريقة هي مشوبة بالبدع: ما كان من الصحابة ولا من التابعين صوفي، ولم يسم واحد منهم بهذا الاسم المرادف للزنديق، والصوفية منذ نشأوا وحيث كانوا عصابة تنابذ الكتاب والسنة، لا يفترق في هذا سلفهم عن خلفهم في هذا، غير أن بعضهم كان أشد جرأة من بعض في البيان عن زندقته، ودليلنا ما سجله التاريخ الحق، وما خلفوه هم في كتبهم من تراث وثني طافح بالمجوسية الغادرة، فتقسيم ابن خلدون هذا مجاف للصواب، ولكنه خدع كغيره فيما يشقشق به الصوفية من زور النفاق، إذ يزعمون كاذبين أن طريقهم طريق الكتاب والسنة، وابن خلدون نفسه يقر بأنه بدعة، إذ يقول في مقدمته عن التصوف: "هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة" ثم هل في الكتاب والسنة أن قبر الكرخي يقسم به على الله فيستجيب، ويستشفى به فيهفو الشفاء، وأن الصوفية هم غياث الخلق؟ كما زعم القشيري في رسالته، وهو من سلف الصوفية المتقدمين، وأقلهم شناعة في إفك المتصوف.(1/452)
أجاء في السنة أن العزوبية تباح لهذه الأمة بعد المائتين من الهجرة، وأن تربية الجرو أفضل من تربية الولد كما زعم أبو طالب المكي في قوته، ونسب فريته المانوية إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ أفيها أن الدين شريعة وحقيقة، وأن هذه أفضل من تلك؟ أفيها أن المريد لابد له من شيخ، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟ أفيها أن قلب المريد بيد شيخه يصرفه بهواه؟ أفيها أن غضب الشيخ من غضب الله؟ أفيها أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كجثة الميت بين يدي الغاسل؟ أفيها أن الولي أفضل من النبي؟ أفيها أن العارف يسمع كلام الله كما سمعه موسى؟ أفيها أن الذريات تسبح بحمد الأولياء، وأن هؤلاء يفقهون تسبيحها؟ كما زعم الغزالي؟ تلك بعض مفتريات سلف الصوفية الأقدمين، بهتوا بها الحق والهدى منذ سمي أول رجل منهم بالصوفي في منتصف القرن الثاني للهجرة وبعده، وتلك بعض ضلالات أولئك الأول الذين يزعم لهم ابن خلدون -وغيره- أن طريقهم مؤيد بالكتاب والسنة، أفتنسم على روحك مما نقلته عنهم نسمات حق، أو عبير هدى؟ كلا بل إنه يحموم كفر ومجوسية، ألا فلنقل الحق: ما من صوفي إلا وهو يسلك طريق الشيطان وحده من سلف ومن خلف. (1)
__________
(1) هامش (ص.150-151) من الكتاب نفسه.(1/453)
- وقال رحمه الله: الخبير بحال الصوفية -سلفهم وخلفهم- والمتأمل في كتبهم يوقن أن الصوفية منذ نشأت، وهي حرب دنيئة -خفية أو مستعلنة- على الإسلام، هذا القشيري الصوفي القديم (ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ) هذا هو يقول في رسالته عنهم: (ارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركنوا إلى اتباع الشهوات. وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدانية) (ص.2-3) الرسالة للقشيري. هذه شهادة عليهم في القرن الرابع الهجري من رجل يعدونه المثل الأعلى للصوفية العملية المعتدلة، وإنها لتدل على أن الصوفية من قديم تواصوا بالكيد للإسلام، وإنا لا تخدعنا هذه الشفوف من النفاق الصوفي، إذ هم السم الناقع يتراآ شهدا مذابا.(1/454)
فالقائلون بما هلل له البقاعي هم عين القائلين بما يخنقك منه يحموم الزندقة، فالقشيري نفسه يقول في مقدمة رسالته عن أهل الطريقة: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه) يفضل الصوفية على السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم يقول: (جعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق) وماذا بقي لله إذا كان هؤلاء غياثا للخلق؟ وماذا للصحابة من طوالع الأنوار ومعادن الأسرار إذا كان هؤلاء وحدهم كذلك؟ ثم يقول: (ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية) إذا فهم عند القشيري أعظم مقاما من خليل الله إبراهيم، ومن محمد عليه الصلاة والسلام؟ فتأمل في الأستاذ القشيري، وفي قوله، وفيما خلفه في رسالته، ثم اسمع إليه ينقل في رسالته: (لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا، المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه) (انظر مقدمة الرسالة وص.164 منها) وهذه زمزمة قديمة بزندقة الاتحاد ووحدة الشهود. (1)
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
- 'الصفات الإلهية' وهي من خيرة ما ألف في هذا الباب، فقد أبلغ في النصيحة لأهل الكلام قاطبة.
- قال رحمه الله: ولقد رأيت من البر بالحقيقة، ومن الإحسان في الدعوة إلى الله أن أنشر هذه النصوص الوفيرة لأئمة الأشاعرة، بل لأعظم أئمتها، وهم: "أبو الحسن الأشعري، إمام الأشاعرة الأول، والباقلاني، والجُوَيْني، وابن فُورك، والرازي، والغزالي" وسيرى أولئك الذين أضَلتهم فتنةُ الخلفية أن أئمة الأشاعرة قد اعترفوا اعترافاً صريحاً كاملاً بأن طريقة السلف هي الأسلم، وبأنها هي الأعلم، وبأنها هي الأحكم. وبأن طريقة الخلف حيرة وشك وضلالة أوهام.
__________
(1) هامش (ص.232).(1/455)
وإني لأرجو أن يحمل هذا بعضَ الذين يحسنون الظن "بالخلفية" على الرجوع إلى الإيمان الصحيح، وعلى أن يكسروا من حدة غلوائهم في اتهامنا بالتمثيل، وبالتجسيم، وعلى أن يؤمنوا أن خلف الأشاعرة لا تصلهم رحمٌ ما بسلف الأشاعرة، فقد عاش أبو الحسن -بعد توبته- يؤكد في كل كتاب له: أنه على عقيدة سلف هذه الأمة. أما متأخرو الأشاعرة، فقد لُقِّبوا بأنهم "مخانيث الجهمية والمعتزلة" لأنهم أَوْغَلوا في التأويل إيغالاً أدى بهم إلى التعطيل.
فليتدبر الذين يزعمون أنهم أشاعرة أو خلف، فلعل إشراقة من نور الحق تبدد ما غام على نفوسهم من غَيِّ الخلفية وفتنتها.
نصيحة من القلب: وليتدبر أولئك الإخوان الذين نشهد لكثير منهم بحسن القصد والسعي في سبيل الخير والحق، فَثَمَّت فيهم من يدين بالخلفية الجهمية، ويفتي بها غير مقتصد، ولا مُسْتَدِل بكتاب، أو سنة.
وينكر أن الله استوى على عرشه، وأن له يدين، وأن له وجهاً، ويقترف تفسيراً كله زيغ وضلالة وإفك قديم لكل آية أخبر الله فيها عن استوائه ويديه ووجهه سبحانه.
فهل هذه الخلفية هي "السنة" التي يزعم هؤلاء المفتون أنهم يؤمنون بها، ويعملون بها، ويجاهدون في سبيل أن يجعلها المسلمون لهم منهاجاً وسبيلاً إلى الله؟
لا أظن أنهم يجرءون على اقتراف هذا الزعم، فما نجمت الخلفية إلا بعد قرون، ولا أظن أنهم يجرءون على اتهام الصحابة والتابعين بأنهم لم يكونوا على بينة من دينهم، وبأن "الرازي وأضرابه" كانوا أبر بكتاب الله من أبي بكر وعمر؛ أو كانوا أسلم وأحكم وأعلم، وأعظم فهماً للكتاب من صفوة هذه الأمة؟
إن من يؤكد للناس أنه "عامل بالكتاب والسنة" يجب عليه أن يكون هو القدوة الحسنة في ذلك، فيعتقد في الله سبحانه ما كان يعتقده خير العاملين بالكتاب والسنة، رسول الكتاب والسنة، أما أن يعتقد فيه ما كان يعتقده "الرازي" مثلاً، فهو بهذا يناقض ما يدعيه، ويثبت أنه عامل "بالرازي" لا بالكتاب والسنة.(1/456)
ترى هل ظلت الأمة كلها أربعة قرون جاهلة بمراد الله، ضالة عن معرفته حتى ظهر أمثال "الرازي" فدل هذه الأمة على دينها؟. (1)
- وقال بعد ذكره النصوص الواضحات من كتب أبي الحسن الأشعري التي تدل على اعتناقه مذهب السلف: كل هذا، بل بعضه يدمغ بالجور أولئك الأشاعرة الذين يمقتون أن يُنْسب إلى الأشعري أنه كان يمجد عقيدة السلف. وذلك حين يتراءون بالارتياب في صحة نسب كتابه 'الإبانة' إلى الأشعري، أو حين يزعمون أنه رجع عما فيه، فألف الكتب التي تنقض ما أثبته فيه، والإبانة في الحقيقة هو آخر كتاب ألفه.
ولا أظن في أشعري مسلم، أنه يرتضي أن يُتهم إمامُه بالردة عن دين الحق، أو بأنه كان نَهْبَ الحيرة والاضطراب في عقيدته، أو بأنه كان ذا وجهين، وجه ينافق به المعتزلة والمعطلة، فيكتب في تأويل الصفات أو نفيها، ووجه آخر ينافق به السلفيين، فيكتب في إثبات الصفات.
ولا أظن في إنسان يحترم الحقيقة أنه يجنح إلى الريبة في صحة نسب الكتاب إلى الأشعري من غير دليل إلا إن كنا نعتبر نزغ الهوى دليلاً، كما لا أظن أنه يرتاب في أن الأشعري ظل يؤمن بكل كلمة قالها فيه، ولم يؤلف كتاباً آخر ينقض به ما أثبته في الإبانة.
__________
(1) الصفات الإلهية (ص.32-34).(1/457)
والذين يجلون الأشعري، ويفخرون بالانتساب إليه، لا أظن أيضاً أنهم يجرؤون على إنكار هذه الحقيقة التي أذكرهم بها مرة أخرى: تلك هي أن ما انتهى إليه مذهب الأشعري على يد بعض أتباعه يخالف ما كان عليه الأشعري نفسه، ويناهضه وأن ما كتبه الرازي، أو الجويني وغيرهما من تأويلات يناقض عقيدة الأشعري كل المناقضة، وينتسب برحمٍ ماسَّةٍ إلى المعتزلة والجهمية الذين كفَّرهم أبو الحسن الأشعري، فهل بعد هذا أستطيع أن أُقْدِم على الظن بأن أشاعرة اليوم لن يُقْدِموا على تحطيم إمامهم الكبير؛ ليبنوا على أنقاضه بعض الذين أبوا إلا أن يجحدوا بدين إمامهم الكبير، وإلا أن يعينوا عليه عدوَّه من الجهمية والمعتزلة، وإلا أن يَسُبُّوا كبار أئمتهم كالأشعري، ليسبوا -بَغْياً- أنصار السنة؟. (1)
محمد بن اليمني الناصري (2) (1391 هـ)
محمد بن اليمني بن سعيد الناصري، ولد بمدينة الرباط بالمغرب الأقصى يوم الخميس تاسع رجب سنة ثمان وثلاثمائة وألف، رحل لطلب العلم إلى المدينة النبوية سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف. وهو شقيق محمد المكي الناصري المشهور.
شيوخه كثيرون، من أشهرهم: أبو شعيب الدكالي.
له كتاب: 'الأعلاق الغالية في الأخلاق الغالية'، و'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار' في الرد على الصوفية، و'ديوان شعري'.
توفي بالمدينة النبوية يوم الجمعة العاشر من صفر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في رده على صاحب 'غاية الانكسار': إنك وأمثالك في واد والدين الطاهر النقي في واد آخر، لخروجك عن سننه وانتصارك للمبطلين البطالين بالباطل المحض.
__________
(1) الصفات الإلهية (ص.52-53).
(2) صل النصال للنضال لعبد القادر بن سودة.(1/458)
لعلك التبس عليك الأمر فنسبت ذلك إليه، والحال أن الأمة الإسلامية هي الذابلة السقيمة الضعيفة لخروجها عن سننه، وهجرها لفروضه وسننه، بتدجيل الدجالين أمثالك، المحتالين على سلب ضعاف العقول عقولهم وأموالهم، وتركهم تحت نير الاستسلام للمتجرين باسم الدين، والانقياد لعمائمهم وسبحهم وتلوناتهم، ولباسهم لكل من حال من الأحوال الشيطانية لبوسها، وضربهم بالأسداد على عقولهم حتى لا ينفذ إليها ما ينور أفكارهم وينبههم إلى مواقع سقطاتهم من تعاليم ديننا الصحيحة، ونصوصه البينة الواضحة الصريحة؛ حتى إن من أولئك الدجالين من يحرم نشر العلم وتدريسه في المجالس العامة بدعوى أن العلماء إنما يقصدون بتعليمه الرياء والسمعة حسبما نص عليه حافظ المغرب في عصره العلامة ابن عبدالسلام الناصري في رحلته الحجازية العلمية، فانظره إن شئت.
ومنهم من يمنعهم من التوغل في الفقه؛ بدعوى أنه يقسي القلوب؛ ويحرمها من التعلق بعلام الغيوب.
ومنهم من يمنعهم كبعض فقهائنا المبتلين بداء الجمود والخمود من النظر في الحديث بدعوى أنهم مقلدون، وأن النظر في علم الحديث رواية ودراية إنما هو من وظيف المجتهد المطلق، مع أن الحديث هو المبين لمعاني كلام الله تعالى ومقاصده العالية. (1)
- وقال تحت فصل: (ما القصد من زيارة الأموات مطلقا؟): أما زيارة الأموات أنبياء كانوا أو أولياء أو غيرهم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفانا مئونة استفتاء صاحب 'نهاية الانكسار' فيها -على أنه ليس أهلا للاستفتاء- إذ بين لنا - صلى الله عليه وسلم - بكلام عربي مبين؛ أن القصد منها هو تذكر الآخرة بقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور أما الآن فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" (2) .
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.29-30).
(2) أحمد (5/305) ومسلم (2/672/977) والنسائي (7/269/4441-4442) من حديث أبي بريدة الأسلمي رضي الله عنه.(1/459)
بين لنا - صلى الله عليه وسلم - أن القصد منها هو تذكر الآخرة لا الاستمداد ولا اعتقاد التأثير كما تدل عليه بعض عباراتك... ضمنا وتصريحا، مما يدل على أن حب الموت والموتى برح بك تبريحا.
والذي نفسي بيده لو أتى الملايين من العلماء الأعلام، ومعهم الملايير من أصحاب الطبول والأبواق والأعلام، كيفما كانت مراكزهم وهزاهزهم، وهزاتهم، وأرادوا تحويلنا عن هذا الاعتقاد الصحيح في نظر الشرع وأمام العقل الراجح؛ ما تحولنا ولا حلنا ولا زلنا لوضوح معنى الحديث، وظهور مدلوله في القديم والحديث. (1)
- وقال تحت فصل: (هل يجوز البناء على القبور؟): البناء على القبور ممنوع شرعا وطبعا.
أما الشرع فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا كما في الصحيح (2) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - لزينب وأم حبيبة لما قدمتا من الحبشة ووصفتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شهدتاه على قبور صلحاء الحبشة من المساجد والقباب: "أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" أو كما قال وهو في الصحيح أيضا (3) . وفي سنن الترمذي وأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (4) .
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.60-61).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف فوزان السابق سنة (1373هـ).
(3) أحمد (6/51) والبخاري (1/699/434) ومسلم (1/375/528) والنسائي (2/371/703).
(4) أخرجه أحمد (1/229) وأبو داود (3/558/3236) والترمذي (2/136/320) والنسائي (4/400/2042) وابن ماجه (1/502/1575) وقال الترمذي: "حديث حسن". وصححه ابن حبان (7/452-453/3179).(1/460)
إننا لسنا بصدد التوسع في الاستدلال على منع البناء على القبور، وإنما حدا بنا إلى هذا تأويل البيضاوي لحديث عائشة رضي الله عنها بحمله على اتخاذ قبور الأنبياء قبلة والصلاة إليها؛ فإنه غير واقع موقعه، ولا حال موضعه؛ لما يرده من صريح السنة كحديث زينب وأم حبيبة، وحديث أبي داود والترمذي المتقدمين وغيرهما من الأدلة الصحيحة، ولو عاش البيضاوي إلى زماننا على فرض صحة تأويله ورأى توسع الأمة الإسلامية في زخرفة أضرحة أوليائها وصلحائها، وتشييد القباب عليهم على هيئة تستلفت أنظار الغافلين وتؤثر على نفوسهم، وشاهد ما يجري حولها -مما صار معلوما عند الخاص والعام- لرجع عن فكره؛ على أن تأويله ليس بلازم لنا ما دام بين ظهرانينا من يحسن النظر في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما طبعا؛ فلأن الطباع السليمة التي تعلم أن القبر مظهر من مظاهر الحزن والأسى والأسف، وموطن من مواطن الفناء والبلى والعظام النخرة والظلمة والانحلال والدود والحشرات، لا تروق في أنظارها تلك البناءات الضخمة، والقباب الفخمة، التي تمثل زهرة الحياة الدنيا وترغب في العيش بهذه الدار الفانية؛ دار الأنكاد والأحقاد والفساد والإفساد، وتقضي على زائرها بتوسيع الأمل، وتحمل البله والمغفلين والجهلاء على اعتقاد التأثير لأربابها بما تبقيه فخامتها وضخامتها من الأثر في نفوسهم.
والله لو أبصرت عيناك ما صنعت لما انتفعت بعيش بعدهم أبدا ... يد الزمان بهم والدود يفترس
أما هم من جنى الدنيا فقد يئسوا
حسب الإنسان العاقل من الوقوف على القبر أن يتذكر مآل نفسه، ويتعظ ويعتبر ويتهيأ للحلول في رمسه، ويقول:
يا بني الدنيا استريحوا نحن قوم أين سرنا ... سَيْرنا عنكم إلى الله
ونهجنا حسبنا الله (1)
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.61-63).(1/461)
- وقال تحت فصل: (من هي الفرقة الناجية؟): إن من له أدنى مسكة من العلم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم بالله أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1) ، وهي التي تستقيم على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام.
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).(1/462)
فبالله عليك يا صاحب 'نهاية الانكسار' من هي الفرقة الناجية من هذه الفرق الموجودة الآن التي قمت تدافع عنها بكل قواك وما أحسنت الدفاع؟ ومن هي هذه الفرقة الملازمة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، المحافظة على آداب دينها الطاهر، المنابذة لما يمس بسمعته الحسنة ومبادئه القويمة المستحسنة؟ لعلك من المائلين إلى القول بأن المراد بالفرق في الحديث الشريف: الفرق الضالة كالمعتزلة ونحوهم ممن اندرست آثارهم، ولم تصلنا إلا أخبارهم. إن كنت قائلا بهذا، والظن أنك قائل به؛ فإننا نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بيننا وبينك في هذا الحديث نفسه بأن الفرقة الناجية هي المعتنقة لما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ على أن تلك الفرق الضالة قد ذهب جلها إن لم نقل كلها بما له وما عليه، ولم تكن في نظري ونظر ذوي النظر الصائب ممن مارس التاريخ وزاوله إلا أتقى وأنقى بكثير وأبعد نظرا وأبهى مخبرا ومنظرا من بعض الفرق الموجودة الآن؛ إذ ليس منهم من كان يفضل كلام المخلوق العاجز الضعيف الحادث على كلام الخالق القادر القوي القديم سبحانه، ولا من يتخذ ضرائح الأولياء والصلحاء ملجأ وكعبة وقبلة يتوجهون إليها كما يتوجهون إلى الله تعالى، ويتطوفون بها ويتمسحون بجدرانها، ويقبلون درابيزها وكساها كما يقبلون الحجر الأسود، ويركعون أمامها بجوارحهم وجوانحهم، ويسجدون لها بكيفية أرقى من السجود لله، معفرين خدودهم على ترابها؛ بل لم يكن فيهم من يتلبس بالمنكرات وهو يعتقد أنها عبادة تقربه من الله زلفى، ولا من يبيع دينه بدنيا غيره مؤخرا الصلاة عن وقتها لخدمة شيخ من المشايخ أو حضور حضرته، ولا من يتخذ طبلا ولا مزمارا ولا آلة لهو وطرب في المعابد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولا... ولا...(1/463)
من المنكرات التي يتلبس بها كثير من هذه الفرق المسماة بالطوائف؛ التي في تسميتها بالطوائف لو كانت متبصرة، ولآداب دينها حافظة مستحضرة نهاية الاعتبار وغاية الحجة، كيف لا والله سبحانه علمنا في فاتحة كتابه التي أوجب علينا قراءتها وتدبرها في كل ركعة من الركعات أن نسأله الهداية إلى صراط واحد هو الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى لا نميل عنه يمنة أو يسرة بقوله: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } اذب.
ولو كان المجال واسعا للمقايسة بين أعمال المعتزلة ومن في معناهم وأعمال هذه الفرق، والمقابلة بينها لشفينا الغليل، ولأبرأنا بحول الله وقوته كل عليل، ولأبنّا لكل متعصب البون الشاسع والفرق الواضح كالفرق بين هذه الفرق وتلك، حتى تتجلى لكل منصف على منصة البيان حقائق تجعل كثيرا من فرقنا اليوم أضل سبيلا، وأكذب قيلا.
بالله عليك! أتقدر بعد هذا أن تقر ما أنكره صاحب الإظهار من أعمال العيساويين والحمدوشيين، ومن في معناهم من الشاطحين الناطحين، الرقاصين القصاصين، القناصين الخراصين، وتأتي ولو بدليل واحد من ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جواز أعمالهم وإباحتها وموافقتها لروح ديننا الطاهر. (1)
موقفه من المشركين:
- قال عن الصحابة: ..ما صح عنهم قط أنهم زاروا نبيا ولا وليا ولا صحابيا من أكابر الصحابة -الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من بعدهم ولو بلغ ما بلغ في الفضل وعلو المنزلة ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (2) - على هذه الكيفية التي يرتكبها عامتنا، وكثير من خاصتنا اليوم؛ والحال أنهم أهدى منا بشهادة الله ورسوله.
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.65-68).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).(1/464)
ولا ثبت في تاريخ حياتهم أنهم أقاموا لنبي ولا لولي ولا لصحابي موسما، ولا بنوا عليه قبة ولا معبدا، ولا سجدوا لقبر من قبورهم، ولا مرغوا خدودهم عليه ولا عفروها بترابه، ولا جعلوا عليه دربوزا ولا كسوة، ولا ولا، مما لا يساعد عليه دينك يا الله.
وقد حكم عليه الصلاة والسلام بأن هذه القرون -قرون الصحابة وكبار آل البيت والتابعين- التي كانت تمثل الإسلام أجمل تمثيل، وبلغ فيها الإسلام ما لم يبلغه غيره من الأديان، وأدرك أهله من العز والسؤدد ما لم تحلم به دول القياصرة والأكاسرة في عنفوان مجدها، هي خير القرون بقوله عليه الصلاة والسلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (1) .
ولكن هذه الأمة التي شرفتها بالإسلام وأخرجتها بنوره من حالك الظلام أبت إلا التغابي والتغاضي والتغافل؛ بل المحافظة على عوائد ما أنزلت -يا مولانا- بها من سلطان، ولا يرتكبها إلا من يريد القضاء على دينك من زنديق أو منافق أو شيطان، فأنقذ اللهم هذه الأمة المحمدية مما وقعت فيه من المهلكات، ونجها من كل ما يوقعها فيما ينصب لها من الشبكات. (2)
- وقال تحت فصل: (من هو الولي؟): فالمومنون إيمانا كاملا -ولا يكون الإيمان كاملا إلا باتباعه - صلى الله عليه وسلم - فيما سنه، وعدم ابتداع أي شيء بعده- المتقون ظاهرا وباطنا، الذين لا يخرجون عن الشريعة قيد أنملة؛ هم الأولياء حقيقة الذين يجب أن نغسل عن أقدامهم، ونتتبع خطواتهم في كل ما وافق الشريعة.
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف السلطان المولى سلميان سنة (1238هـ).
(2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.3-4).(1/465)
ومع ذلك فلا يجب علينا أن نقدسهم إلى درجة أننا نبني عليهم القباب، ونسألهم كما نسأل رب الأرباب، ونتوسل إليهم بالله في تيسير الأسباب، غافلين عن الإتيان لقضاء أغراضنا من الباب؛ لأن الولاية الحقيقية هي غاية الخضوع لله والإغراق في العبودية، والتحقق بوصف العجز والضعف والذل أمام الربوبية.
فماذا يعطي ويمنع من هذا شأنه؟ وماذا يدفع عنك أو يجلب لك من تلك حاله، وإلى الله مآله؟ وماذا يفيدك إذا قمت تناضل عن بدعة ابتدعها أصحابه بعده بباطل، إنك لا تزداد بذلك من الله ورسوله ثم من ذلك الولي إلا بعدا وطردا، فليتنبه الغافل المسكين، قبل أن يذبح بغير سكين؛ فإن هذا الموطن من مزالِّ الأقدام ومزالقها، نسأل الله الثبات، فإنه يكسر صولة الوَثَبات. (1)
- وقال بعد بيان المقصود من الزيارة الشرعية للقبور: ..لا بأن نقصد الاستمداد منهم والاستغاثة بهم، أو نعتقد أن لهم في الكون تصرفا مطلقا بحيث يقدمون هذا ويؤخرون ذاك، ويعطون زيدا ويمنعون عمراً، ويُولّون خالدا ويعزلون بكراً؛ كما يعتقد بعض المغاربة أن القط لا يتسلط على الفأر إلا بإذن مولانا إدريس رضي الله عنه، وأن أبا العباس السبتي رضي الله عنه لا يقضي الحاجات إلا إذا قدمت له جعلاً أو نذرت له نذرا ولو نزراً، وأنت تعلم أن النذر لا يكون إلا لله؛ فهو كتسلط القط على الفأر من خواص الربوبية؛ إذ القواعد القواطع تقتضي أن النفع والضر، وبسط الرزق وقبضه، وكل حادث يحدث في الوجود -قل أو كثر، صغر أو كبر- بيد الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. الرب رب والعبد عبد إِنْ { كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } (93) (2) .
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.58-59).
(2) مريم الآية (93).(1/466)
وما يستوي وحي من الله منزل ... وقافية في الغابرين شرود (1)
موقفه من الصوفية:
له كتاب: 'ضرب نطاق الحصار' رد فيه على الشرقي صاحب 'غاية الانتصار ونهاية الانكسار' الذي انتقد فيه شقيقه محمد المكي الناصري في كتابه: 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة'.
- قال فيه: وصل اللهم على من أرسلته بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، الذي أنزلت عليه في محكم كتابك: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (2) الذي جعلت طاعته طاعتك، ومعصيته معصيتك، وحكمه حكمك، الذي لم يبح لأمته من اللهو إلا الرماية والسباحة وركوب الخيل، ونحوها مما فيه منفعة ظاهرة أو فائدة جليلة، الذي ما ثبت عنه -وحاشا المعصوم الأكبر من أفعال المجانين- أنه طبّل أو زمّر، أو رقص أو شطح، أو صعق أو مزق ثوبا لسماع صوت، أو أكل لحما نيئا، أو شدخ رأسا بآلة محددة أو غيرها، أو أكل نارا موقدة، أو استعمل آلة لهو وطرب داخل مسجده النبوي أو خارجه، أو حضرها على أنها عبادة، أو أقر من استعملها، أو أذن فيما يسمى بين بعض المتصوفة والمفقرة بالحضرة، أو فعله أو ركض برجله، أو ضرب بعصاه الحجر تعبدا.
فصل اللهم عليه صلاة توفقنا وسائر المسلمين بها إلى اتباع سنته والوقوف عند شريعته وعلى آله الطيبين الأكرمين المحترمين المكرمين؛ الذين ما ثبت عنهم أنهم استعملوا من ذلك شيئا على أنه عبادة في خير القرون، ولا ساعدوا عليه، ولا رأوا في الشريعة الإسلامية ما يسوغه ولو على سبيل الاستيناس. (3)
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.109).
(2) آل عمران الآية (31).
(3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.2-3).(1/467)
- وقال أيضا: حضرت مجلس بعض متصوفة العصر، فسمعته يقول من غير أدنى مناسبة للموضوع الذي التزم الكلام فيه: لنا ولله الحمد على جعل السبحة في الأعناق أدلة واضحة من الكتاب والسنة، فاستغربت ذلك غاية الاستغراب وصارت منافذ جسمي كلها مسامع لتلقي هذا البهتان العظيم، فسمعته يقول: أما الدليل من الكتاب: فقول الله تعالى: وَكُلَّ { إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } (1) . وأما الدليل من السنة: فما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حمله السيف في عنقه حين ركب على الفرس العري لأبي طلحة (2) . قال: ولا شك أن السيف هو آلة الجهاد الأصغر، والسبحة آلة الجهاد الأكبر، فاقشعر جلدي واصطكت مسامعي لذلك، وقمت مسرعا خوف أن يخسف بأهل ذلك المجلس، ولكن الله سبحانه أبقى عليهم استدراجا لهم، ومن هذا القبيل كل ما يستدل به هذا البعض على جواز ما يرتكبه أكَلة اللحوم النيئة والنار، وشادخوا الرؤوس من المضحكات المبكيات. (3)
- وقال أيضا: إننا اجتمعنا بكثير من متصوفة العصر، وداخلناهم وخالطناهم مخالطة مستطلع باحث عن أسرارهم وخصائصهم ومميزاتهم، فوجدناهم يقدس بعضهم بعضا، ويركع بعضهم أمام بعض متجاوزين في ذلك الحد الذي يجب الوقوف عنده، قاصدين بذلك نشر دعاويهم الكاذبة، وتأييدها لإغراق الدهماء في أوهام وأضاليل أبعد عمقا من الداماء، حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يخمد جمرهم، ولا يترك شطحهم وزمرهم...
__________
(1) الإسراء الآية (13).
(2) أحمد (3/147و163و171و185و202) والبخاري (6/43/2820) ومسلم (4/1802-1803/2307) وأبو داود (5/263/4988) والترمذي (4/171-172/1675-1678) والنسائي في الكبرى (5/257/8829) وابن ماجه (2/926/2272) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.28).(1/468)
فما هم إلا كالشعراء المبتلين بداء الانحطاط النفسي، المتجاوزين قدر الممدوح فوق ما يستحقه، حتى أفضى ذلك بكثير منهم إلى الكفر والزندقة، والاقتصار على البرقشة والشقشقة، والداعي الوحيد الذي دعاهم إلى ذلك هو خوف الافتضاح، والوقوف على ما هم عليه من الخوض في ظلمات التضليل، ونصب حبائل الشيطنة والتدجيل لإيقاع الجهلة فيها. ففضحهم حملة السنة وخدمتها، وأوسعوهم تقريعا وتسفيها، ولم يبق ينفعهم ما اصطلحوا عليه من المصطلحات التي تقضي ببقاء أمرهم مستورا في غياهب البطون، ودياجر الكتمان؛ من بناء طريقهم على الصفح والتجاوز وعدم إقامة الميزان، حتى أفضى بهم توقع ذلك إلى نهي أتباعهم عن مطالعة مثل 'المدخل' لابن الحاج وفتاوي ابن تيمية، وتآليف تلميذه ابن القيم، وكتب الحافظ ابن حجر، وكتب أبي إسحاق الشاطبي، وكتب أبي بكر بن العربي، و'تلبيس إبليس' للحافظ أبي الفرج بن الجوزي، وأمثالهم من أكابر علماء الإسلام، وأعاظم المصلحين والمجددين، وحتى سمعنا بعضهم يقول لأتباعه: إذا قال لك المعارض قال صاحب 'المدخل'. فقل له: قال صاحب المخرج. ويدعم ذلك بحكاية عن بعضهم، وإذا قال لك: قال ابن حجر فقل له: قال ابن حرير، وهكذا؛ بل اضطرهم الحال إلى الحكم عليهم بالمنع من تعاطي العلوم النافعة التي تؤدي إلى إلغاء ترهاتهم ودحض شبهاتهم، كالفقه وأصوله والحديث والتفسير، وسموا أمثال هذه العلوم التي بها حياة الدين وقوام الإسلام، بالعلوم الميتة، وسموا شطحاتهم وفلسفتهم وحقائقهم علوما حية؛ بدعوى أنهم لا يأخذونها إلا عن الحي الذي لا يموت. وهكذا تمشت حيلهم، وتمكنت من الذين لا علم يرشدهم، ولا فكر يهديهم في الغالب، فأعظموا أمرهم، وتلقوا منهم تعاليمهم المنافية غالبا للدين بالسمع والطاعة العمياء. (1)
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.83-84).(1/469)
- وقال مخاطبا عامة الناس وناصحا لهم: وكل منكم يعلم: أن الشطح والرقص، واستعمال الطبول والمزامير ونحوها، في حلقاتكم المعروفة عندكم بالحضرة؛ ليس من الدين في شيء، وإنما هو لعب في لعب، والله سبحانه لا يعبد باللعب. وإن كان أمركم بعض مشايخ العصر بالمحافظة عليها بقوله لبعض مقَدميكم: (زد في الحضرة ولا عليك في الهذرة). يعني بالهذرة: ما تسمعونه من أقوال الله والرسول التي تتلقونها في بعض مجالس التفسير والحديث الشريف، والتي تقضي بطرح تلك التقاليد القبيحة في نظر الشرع الإسلامي، والعقل السليم السامي. (1)
- قال: أليس من المتقرر لديكم يا إخواننا أن مقتداكم النبي المكرم - صلى الله عليه وسلم - ، الذي تفدونه بأرواحكم وأموالكم، وآبائكم وأبنائكم، وتودون إرضاءه بكل ما وسعكم، وتخلصون له محبتكم، لم يكن يفعل شيئا من ذلك؛ فأحرى شدخ الرؤوس بالقلال والآلات المحددة كالفؤوس، وأكل اللحوم النيئة والزجاج والسموم ونحوها، وشرب الدم المسفوح، والطواف بالأسواق بالأعلام والطبول والأبواق على تلك الكيفية البشيعة، التي لا ترضاها البهائم لنفسها، فضلا عن العقلاء الذين يدعون أن لهم عقلا مميزا، فضلا عن مسلم مثلكم متأدب بآداب الإسلام، المنفرة من هذه الموبقات التي لا يرتكبها إلا سفهاء الأحلام.
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.94-95).(1/470)
على أن كلاًّ منكم يعلم أنه لا يرتكب أحد منكم ذلك إلا بداعي التوحش، ودعوى خدمة الشيخ، والله سبحانه هو أولى بالاتباع من الشيخ، وما أمر سبحانه أحدا منكم بذلك؛ بل قد نهى جل جلاله عن كل ما ينافي الإنسانية بمعناها التام. فالشيخ إذا كان من أولياء الله تعالى، وكان محقا؛ فإنه يتبرأ ولا شك من أمثال هذه المخزيات المحزنات، الموقعة في سخط الله وغضبه؛ اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ولا سخط ولا عقوبة أفظع من ارتكاب أفعال لا يفعلها إلا جهال المجانين. (1)
- وقال أيضا: ليعلم كل واحد أولا: أنه ليس المراد بحبل الله المتين طريقة من هذه الطرق التي تمسكتم بها، وحملكم على التمسك بها تستر متفقهة أهلها بالإتيان ببعض الأدلة من الكتاب والسنة في غير محلها، واستعمالهم التقية في دعاويهم المشقية، مما لا يخفى على مسلم متبصر في دينه، يميز شماله من يمينه، ويفرق بين شكه ويقينه؛ بل المراد بحبل الله الذي يجب التمسك به دون سواه، ولا يمكن للمسلم أن يعميه ويصمه مع تمسكه به هواه؛ هو كتاب الله الحكيم، وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقد نص أبو بكر بن الجصاص الحنفي في 'أحكام القرآن' على أن المراد به كتاب الله. وكذلك القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه بعد ما ذكر اختلاف العلماء في المراد بالحبل: هل المراد به عهد الله أو كتابه أو دينه؟ فإنه استظهر أنه كتاب الله؛ لأنه يتضمن عهده ودينه ...
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.95-96).(1/471)
إن أمعنتم النظر استنتجتم أنه لا فتنة أضر عليكم في دينكم من فتن الطرق؛ فإنها حولتكم عن الوجهة التي وجه الشارع إليها وجوهكم، ونبهكم إلى طلب الهداية إليها بقوله: $tRد‰÷d$# { xق؛uژإ_ا9$# tLىة)tGَ،كJّ9$# } ادب (1) ، وبقوله: `tBur { NإءtF÷ètƒ "!$$خ/ ô‰s)sù y"د‰èd 4'n<خ) :ق؛uژإہ 8Lىة)tFَ،oB } اتةتب (2) . وهو أدرى بمصالحكم منكم، وإن كان هناك فتن أخرى، فإنها في نظر ذي الفهم الصحيح أدون وأهون من تلك الفتنة التي تسلب الإنسان المسلم من أعز عزيز لديه وهو إخلاص التوحيد لله، وتخصيصه بالإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونذر النذور واليمين، والسجود ونحوها من خواص الربوبية، وتبثّ في نفسه الخضوع والاستكانة والتذلل والاستحذاء لمخلوق ضعيف مثله...
فهل كتاب 'الإبريز' وكتاب 'جواهر المعاني' أو كتاب 'المقصد الأحمد'، وما في معناها من كتب المناقب التي ترجعون إليها وتتشبعون بما فيها، تقوم مقام كتاب الله سبحانه؟ وهل بقي لقائل أن يقول: إن هذه الطرق ليست بفتن، وهي تصرفنا عن الاشتغال بكتاب الله ودراسته وتدبره؛ بمناقب وأذكار وأوراد ملفقة لم تأت عن الشارع، ذات خواص ومزايا وفتوحات وبركات وشفاعات، وتتركنا نتخبط في ليل أليل من الجهل بما أنزله الله وأمرنا بالاعتصام به؟... أنبتغي الهدى في كتاب من كتب مناقب الطرقيين المحشوة بالخرافات والأكاذيب وغيرها من نتائج الأغراض والحال؟ (3)
__________
(1) الفاتحة الآية (6).
(2) آل عمران الآية (101).
(3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.99-101).(1/472)
- وقال: أخرج أبو عبيد عن أنس مرفوعا: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار" (1) فكيف يجعل هؤلاء القرآن خلفهم، ويسعون في تنقية زواياهم منه، واستبداله بالشطح والرقص على القبور والصلاة عليها، والاجتماع على أذكار مستحدثة وأمداح بالشرك ملوثة مما يضاد القرآن ويقضي بمعارضته في كل آن، ويدعون أنهم من أهل الفضل والدين، وينسبون لأنفسهم المقامات العالية، وهم بمقتضى هذا الحديث وغيره في الدرك الأسفل، ولا سيما إذا قامت على ذلك قرينة على استغنائهم ببعض أذكارهم الملفقة عن القرآن الكريم؛ لاعتقادهم أن منها ما هو أفضل من القرآن بدرجات ومراحل؟ أخرج الشيخان من حديث عثمان: "خيركم -وفي لفظ: إن أفضلكم- من تعلم القرآن وعلمه" (2) زاد البيهقي في الأسماء: "وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه" (3) فمن هذا الذي يجرأ بعد هذا على اعتقاد أن بعض الصلوات أو الأذكار التي تلقاها من شيخه، والتي هي من مبتكرات شيخه أفضل من القرآن، أو إذا قرأها مرة تعدل بكذا وكذا ختمة؟ هذا ما لا يقدر مطلق مومن أن يخطره بباله فضلا عن أن يعتقده ضرورة؛ أن الكلام صفة للمتكلم، وأن الصفة تابعة لموصوفها في العظم والخسة والله تعالى ليس كمثله شيء فكلامه ليس كمثله كلام. (4)
__________
(1) ابن حبان (1/331-332/124).
(2) أخرجه: أحمد (1/58) والبخاري (9/91/5027) وأبو داود (2/147/1452) والترمذي (5/159/2907) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/19/8037) وابن ماجه (1/76-77/211).
(3) 2/578/504).
(4) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.104-105).(1/473)
- وقال: إن ترتيب الثواب والعقاب على الأقوال والأعمال؛ إنما هو من وظيف الشارع وحده، لا من شأن الشيخ فلان، ولا الغوث فلان، ولا القطب فلان، ولا الختم الكتم فلان، حتى تطمئن نفوسنا، إليه ويقوى رجاؤنا في تحقيق حصوله وبلوغه إلى معتقديه ووصوله. فلتنتبهوا ولتكونوا على حذر، ولا يغرنكم دخول بعض من ينتسب للعلم وهو منه براء في زمرتهم؛ فإن كتاب الله وسنة رسوله بين ظهرانيكم؛ وهما المحكمان فيكم، وباتباعهما وامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما تكونوا أفضل الأمم، وتنجلي عنكم الغمم، ولتعتقدوا اعتقادا جازما أن حبل الله المتين الذي يجب الاعتصام به هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
عبدالرحمن العاصمي (2) (1392 هـ)
الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم من آل عاصم، أبو عبدالله القحطاني صاحب الدرر السنية وغيرها. ولد بقرية "البير" قرية من قرى المحمل قرب الرياض سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وقيل اثني عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، فنشأ بها، واعتنى عناية كبيرة بالعلوم الشرعية. وأخذ عن مجموعة من الشيوخ أشهرهم العلامة عبدالله بن عبداللطيف والشيخ عبدالعزيز العنقري والشيخ محمد بن محمود والشيخ سعد بن عتيق والشيخ سليمان السحمان وغيرهم.
قال عنه صاحب علماء نجد: كان على جانب كبير من الأخلاق، حلو الشمائل مستقيما في دينه وخلقه، وكان عنده غيرة على حرمات الله، ويكره جدا مساكنة الكفار وجوارهم. قام رحمه الله بجمع فتاوى ورسائل علماء نجد المتفرقة، وكذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، فقام بطبعها ونشرها داخل البلاد وخارجها.
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.107).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/202-208) والأعلام للزركلي (3/336) والمستدرك على معجم المؤلفين (364) وإتحاف النبلاء (1/109-114).(1/474)
توفي رحمه الله سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة متأثرا من حادثة سير وقعت له سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له:
1- 'شرح عقيدة السفاريني'.
2- 'السيف المسلول على عابد الرسول'.
3- تراجم علماء الدعوة السلفية النجدية وهو المسمى بـ 'الدرر السنية'.
4- حاشية على كتاب التوحيد.
5- حاشية على الأصول الثلاثة.
6- جمعه الفريد وترتيبه النضيد لفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلدا. (1)
فالح بن مهدي آل مهدي الدوسري (2) (1392 هـ)
الشيخ فالح بن مهدي بن سعد بن مبارك آل مهدي، من قبيلة الدواسر، جنوب المملكة العربية السعودية. ولد في مدينة "ليلى" عام اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ فيها وفقد بصره وهو في سن العاشرة فأكمل حفظ القرآن، فسافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ سعود بن رشود والشيخ إبراهيم بن سلمان. عين للتدريس في المعهد العلمي بالرياض ثم في كلية الشريعة.
قال عنه عبدالله البسام: وما زال مجدا في العلم بحثا وتعلما وتعليما في كلية الشريعة وفي منزله وفي المسجد حتى عد من كبار العلماء.
توفي رحمه الله عام اثنين وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'السلف بين القديم والجديد' وهو مطبوع.
2- 'التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية' وهو مطبوع متداول.
وله فيها كلام جيد:
__________
(1) علماء نجد (2/414-415).
(2) الأعلام (5/133) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (5/370-372) والمستدرك على معجم المؤلفين (542).(1/475)
- قال: فإن البدعة لا تكون حقا محضا موافقا للسنة إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلا، ولا تكون باطلا محضا لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئا غالطا وإما متعمدا لنفاق فيه وإلحاد، كما قال تعالى: ِqs9 { (#qم_tچyz /ن3دù $¨B ِNن.rكٹ#y- wخ) Zw$t6yz (#qمè|ت÷rV{ur ِNن3n="n=د{ مNà6tRqنَِ7tƒ spuZ÷Fدےّ9$# َOن3دùur tbqمè"£Jy™ ِNçlm; } (1) فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة. ومن المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم، إما لظن مخطئ أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما، فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه. (2)
__________
(1) التوبة الآية (47).
(2) التحفة المهدية (165-166).(1/476)
- وقال: وعلى هذا النهج المستقيم درج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يستضيئون بمشكاة القرآن فيهديهم أقوم الطريق ويتحاكمون إليه وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد مدحهم سبحانه وأثنى عليهم حيث قبلوا عن رسوله ما بلغه إليهم وهم المهاجرون والأنصار الذين ضرب بهم المثل في التوراة والإنجيل والقرآن فقال: س‰£Jpt'C { مAqك™' "!$# tûïد%©!$#ur ے¼çmyètB âن!#£‰د©r& 'n?tم ح'$Oےن3ّ9$# âن!$uHxqâ' ِNوhuZ÷ t/ } (1) الآية، وقال: * { ô‰s)©9 ڑ_إجu' ھ!$# ا`tم ڑْüدZدB÷sكJّ9$# ّŒخ) ڑپtRqمèخƒ$t7مƒ |MّtrB } حotچyfO±9$# (2) الآية، فهم حجة الله على خلقه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدون عن رسوله ما أدى إليهم لأنه بذلك أمرهم فقال: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (3) ولقد مدحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا- "ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" (4) وروى مسلم أيضا بسنده عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" (5) ،
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) الفتح الآية (18).
(3) أحمد (5/37) والبخاري (1/265/105) ومسلم (3/1305-1306/1679) وابن ماجه (1/85/233) عن أبي بكرة.
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد السهسواني سنة (1326هـ).
(5) تقدم تخريجه ضمن مواقف محب الدين الخطيب سنة (1389هـ)..(1/477)
ومعنى الخيرية في الأحاديث راجعة لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون، فقد غلب الخير وكثر أهله واعتز فيها الإسلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان ويكثر القتل فيمن عاند منهم ولم يتب، والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم.
وإذا فالشاهد من آية براءة وحديث عمران بن حصين هو مدح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله والثناء عليهم، لاستقامتهم على أمر الله وتمسكهم بهدي رسول الله. وقوله -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية-: "فرضي عن السابقين رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان" معناه أن الله أوجب لجميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشرطه فيهم وهو اتباعهم إياهم بإحسان، فالصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم، ومعنى: tûïد%©!$#ur { Nèdqمèt7¨?$# } 9`"|،ômخ*خ/ (1) الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة وليس المراد بهم التابعين اصطلاحا، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية فتكون "من" في قوله: "من المهاجرين" على هذا للتبعيض وقيل إنها للبيان فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة.
__________
(1) التوبة الآية (100).(1/478)
والمهاجرون: جمع مهاجر وأصل المهاجرة عند العرب: أن ينتقل الإنسان من البادية إلى المدن والقرى، والمراد به في الشريعة: من فارق أهله ووطنه وجاء إلى بلد الإسلام وقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - رغبة فيه وإيثارا، ثم هي عموما الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
وأثر ابن مسعود في وصف الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- رواه رزين بن معاوية العبدري، ومثله ما جاء عن عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة أنه قال: "عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم".(1/479)
وأثر حذيفة رواه البخاري، ومعشر القراء: المراد بهم علماء القرآن والسنة وقوله: "فقد سبقتم" قيل: الرواية الصحيحة بفتح السن والباء والمشهور ضم السين وكسر الباء، والمعنى على الأول اسلكوا طريق الاستقامة لأنكم أدركتم أوائل الإسلام فاستمسكوا بالكتاب والسنة لتسبقوا إلى خير، إذ من جاء بعدكم وإن عمل بعملكم لا يصل إلى سبقكم إلى الإسلام، وعلى الثانية سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى انحراف عن سنن الاستقامة يمينا وشمالا الموجب للهلاك الأبدي... (1)
موقفه من المرجئة:
- قال في 'التحفة المهدية': والكرامية لهم في مسألة الإيمان قول شنيع لم يسبقهم إليه أحد من الطوائف، وهو قولهم إن الإيمان يكفي فيه مجرد النطق باللسان وإن كان القلب غير مصدق، وعلى هذا فالمنافق عندهم مؤمن، لكنهم يحكمون عليه بالخلود في النار، فهو عندهم مؤمن في الاسم لا في الحكم، أما رأي الكرامية في مسائل الصفات، والقدر، والوعيد، فهو شبيه برأي كثير من طوائف المتكلمين الذين يوجد في آرائهم شيء من الصواب وشيء من مخالفة الشرع. (2)
__________
(1) التحفة المهدية (448-451).
(2) ص.374).(1/480)
- وقال مبينا مذهب أهل السنة في الإيمان: والحق، أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان وإقرار واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي. وأهل الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. والخوارج والمعتزلة يقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص، ومن أتى كبيرة كفر عند الحرورية، وصار فاسقا عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وأما الحكم فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة: فعندهم أن من أتى كبيرة فهو خالد مخلد في النار، لا يخرج منها لا بشفاعة، ولا بغير شفاعة، أما في الدنيا فالخوارج حكموا بكفر العاصي واستحلوا دمه وماله، وأما المعتزلة فحكموا بخروجه من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر، ولم يستحلوا منه ما استحله الخوارج، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية. فإن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد. (1)
محمد بن شهوان بن عبدالله بن شهوان (2) (1392 هـ)
الشيخ محمد بن شهوان بن عبدالله بن محمد بن شهوان النجدي الحنبلي، ولد سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف في الزبير، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ عبدالله بن حمود والشيخ صالح بن حمد المبيض والشيخ محمد العوجان والشيخ محمد الغنيم وغيرهم.
تولى إمامة مسجد الرشيدية والخطابة في يوم الجمعة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة. ودرس في مدرسة المعارف مدة خمس سنوات، ثم في مدرسة النجاة. رحل إلى كل من مصر والهند والحجاز.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له:
__________
(1) التحفة المهدية (ص.376).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/565-567).(1/481)
- اختصار الدرة المضيئة للسفاريني إلى نحو ربعها. (1)
وجاء في علماء نجد خلال ثمانية قرون (2) : وكان رحمه الله يحث في خطبه على مكارم الأخلاق ومحاربة البدع والمنكرات.
__________
(1) علماء نجد (5/566).
(2) 5/566).(1/482)
محمد الأمين الشنقيطي (1) (1393 هـ)
الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر الجكني الشنقيطي، ولقبه آبّا بتشديد الباء من الإباء. ولد عام خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة بشنقيط، من أعمال دولة موريتانيا، وتعلم بها على يد مشايخ عصره منهم: الشيخ أحمد بن محمد المختار والعلامة أحمد بن عمر والفقيه محمد بن زيدان والعلامة الكبير أحمد فال. حج سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، واستقر مدرسا في كلية الشريعة واللغة العربية في الرياض، وأخيرا في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. كان رحمه الله يتمتع بأخلاق ومزايا فاضلة أكسبته الثقة والاحترام في أوساط أولي الأمر وكبار أهل العلم، وكان أديبا ضليعا. تلقى العلم على يديه أفواج لا يحصون من طلاب العلم ومن أبرزهم: الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالمحسن العباد والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ صالح الفوزان والشيخ محمد عطية سالم والشيخ محمد أمان الجامي وغيرهم كثير.
قال عنه الشيخ محمد عطية سالم بأنه صاحب أخلاق عالية من المروءة والإيثار والزهد في الدنيا وملاذها، والرغبة في الآخرة وما يقرب إليها. له مؤلفات نفيسة تدل على سعة علمه واطلاعه، من أشهرها: 'أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن' و'آداب البحث والمناظرة' و'دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب'.
توفي رحمه الله في مكة المكرمة ضحوة يوم الخميس في اليوم السابع عشر من شهر ذي الحجة من عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ودفن بها. ورثاه تلميذه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني بقوله:
موت الإمام الحبر من جاكاني ... رزء ألم بأمة العدناني
يا للمصيبة للبرية إنها ... فقدت عظيم مناهل العرفان
__________
(1) الأعلام (6/45) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (6/371-378) وإتحاف النبلاء بسير العلماء (1/117-147) والمستدرك على معجم المؤلفين (607) وجهود الشيخ الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف للدكتور عبدالعزيز الطويان (1/29-87).(1/1)
شيخا أضاء من العقيدة نيرا ... أرساه فوق دعائم البرهان
أعشى سناه كل جهم ملحد ... نبذ الكتاب لمنطق اليونان
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حاو لكل تراجم القرآن
موقفه من المبتدعة:
هذا الرجل كان أعجوبة في حفظه واستحضاره، حضرناه ولقيناه واجتمعنا به غير ما مرة، وليس هذا هو الغريب فيه، بل قد يشترك معه في هذه الصفة كثير من الناس، ولكن قبوله للحق، واعتناقه له، والدفاع عنه بكل شجاعة وإخلاص، وهذا يندر وجوده في أبناء جنسه من أهل تلك البلاد. فالشيخ جزاه الله خيرا شرفه اللباس السلفي الذي ارتداه وزينه خير تزيين، وأصبحت كتبه تضيء بذلك النور وتفوح بذلك المسك. فهذا: 'أضواء البيان' الذي نفع الله به أهل المشرق والمغرب، ووجد القبول عند الجميع، قلما تمر فيه مناسبة للعقيدة السلفية، إلا وتجد الشيخ كأنه مطر نافع مغيث تستطيبه النفوس، وتتمنى المزيد منه والاستمرار، ويأتي على ذلك الغثاء ويلقيه في مكان سحيق، حتى لا يتأذى المسلمون بشره بعد بيان أن هذا الضرر يجب إبعاده، ولا يجوز الاقتراب منه. وناهيك بالبحث العظيم الذي سطره في سورة الأعراف عند قوله تعالى: إِن { رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى } الْعَرْشِ (1) وقد بينت في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (2) ما لهذا الكتاب من قيمة.
وسأقتصر هنا على ذكر بعض النماذج لدفاع الشيخ عن العقيدة السلفية، جاء في: 'أضواء البيان'.
قال:
تنبيه مهم: يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى، والطامة الكبرى، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة؛ وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله استغناء تاما في جميع الأحكام، من عبادات ومعاملات وحدود وغير ذلك، بالمذاهب المدونة، وبناء هذا على مقدمتين:
__________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) 2/701-705).(1/2)
إحداهما: أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين.
والثانية: أن المجتهدين معدومون عدما كليا لا وجود لأحد منهم في الدنيا، وأنه بناء على هاتين المقدمتين، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة.
وزاد كثير منهم على هذا، منع تقليد غير المذاهب الأربعة وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان. فتأمل يا أخي رحمك الله! كيف يسوغ لمسلم أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما، استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين، ولا خلاف في أنهم يخطئون؛ فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة لا حاجة إلى تعلمهما، وأنهما يغني غيرهما، فهذا بهتان عظيم ومنكر من القول وزور.
وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه، فهو أيضا زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد والكثرة، والله جل وعلا يقول في سورة القمر مرات متعددة: وَلَقَدْ { يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (17) ويقول تعالى في الدخان (1) : فَإِنَّمَا { يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } (58) ويقول في مريم (2) : فَإِنَّمَا { يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } ازذب. فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به. والله جل وعلا يقول: بَلْ { هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } (3) ويقول: وَلَقَدْ { جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (52) (4) .
فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته.
__________
(1) الدخان الآية (58).
(2) مريم الآية (97).
(3) العنكبوت الآية (49).
(4) الأعراف الآية (52).(1/3)
ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ليستضاء به، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، والرشد من الغي.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } (174) (1) . وقال تعالى: قَدْ { جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (16) (2) . وقال تعالى: وَكَذَلِكَ { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } (3) وقال تعالى: فَآَمِنُوا { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي } أَنْزَلْنَا (4) ، وقال تعالى: فَالَّذِينَ { آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (157) (5) .
فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به، ويُهتدَى بهداه في أرضه، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور؟
فلا تكن خفاشي البصيرة، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم:
خفافيش أعماها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويُعمي أعين الخفاش
__________
(1) النساء الآية (174).
(2) المائدة الآيتان (15و16).
(3) الشورى الآية (52).
(4) التغابن الآية (8).
(5) الأعراف الآية (157).(1/4)
كٹ%s3tƒ { الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } (1) . * { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (19) (2) . ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام، ومن لم يجعل الله له نورا، فما له من نور.
وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبالوسائل النافعة المنتجة، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا.
ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان، أيسر منه بكثير في القرون الأولى، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك، من ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومبين، وأحوال الرجال، من رواة الحديث، والتمييز بين الصحيح والضعيف، لأن الجميع ضبط وأتقن ودُوِّنَ، فالجميع سهل التناول اليوم.
فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين.
وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها وما يتطرق إليها من العلل والضعف.
فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما.
والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله.
__________
(1) البقرة الآية (20).
(2) الرعد الآية (19).(1/5)
واعلم أيها المسلم المنصف، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق على الله وكتابه، وعلى النبي وسنته المطهرة، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران، واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم، لكونهم لا يميزون بين حق وباطل. فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى: وَلَا { تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا } (23) الآية (1) . بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان، ما نصه: وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل وأن يقصد بها حل اليمين، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية. فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. اهـ منه بلفظه.
فانظر يا أخي رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله، وما أجرأ قائله على الله وكتابه وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته وأصحابه، سبحانك هذا بهتان عظيم.
أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة. فالذي ينصره هو الضال المضل.
وأما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . سبحانك هذا بهتان عظيم.
__________
(1) الكهف الآية (23).(1/6)
والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين، أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح.
والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا، لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس.
ومما يوضح لك ذلك أن آية الكهف هذه، التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر وزمنها عن اليمين وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة: وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، كله باطل لا أساس له.
وظاهر الآية بعيد مما ظن بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة، ولا التضمن ولا الالتزام. فضلا على أن تكون ظاهرة فيه.
وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحاً، لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال لهم سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه، وعدم تعليقه بمشيئته جل وعلا، فتأخر عنه الوحي.
ثم علمه الله في الآية الأدب معه في قوله: وَلَا { تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (1) .
__________
(1) الكهف الآيتان (23و24).(1/7)
ثم قال لنبيه: وَاذْكُرْ { رَبَّكَ إِذَا } نَسِيتَ يعني إن قلت سأفعل كذا غداً، ثم نسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك، فاذكر ربك، أي قل إن شاء الله، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته، بسبب النسيان، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى: وَلَا { تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور، الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهباً من المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله.
وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه. فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليداً أعمى على جهالة عمياء، أين دل ظاهر آية الكهف هذه، على اليمين بالله، أو بالطلاق أو بالعتق أو بغير ذلك من الأيمان؟
هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار: سأخبركم غداً؟
وهل قال الله: ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غداً؟
ومن أين جئتم باليمين، حتى قلتم إن ظاهر القرآن، هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟
ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحاً ما قاله الصاوي أيضاً في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: فَأَمَّا { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (1) فإنه قال على كلام الجلال ما نصه: زيغ أي ميل عن الحق للباطل، قوله: بوقوعهم في الشبهات واللبس، أي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة. اهـ.
__________
(1) آل عمران الآية (7).(1/8)
فانظر رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله، وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - ، وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به. فإنه جعل ما قاله نصارى نجران، هو ظاهر كتاب الله، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم فأخذ بظاهر القرآن.
وذكر أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
وقد قال قبل هذا: قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألست تقول: إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال: "نعم"، فقالوا حسبنا، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله. فنزلت الآية.
فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } (1) هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة، بوجه من الوجوه، ولا بدلالة من الدلالات، أن عيسى ابن الله، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت.
فقول الصاوي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره، وقوله: وَرُوحٌ { مِنْهُ } كقوله تعالى: وَسَخَّرَ { لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } (2) أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السموات والأرض مبدؤه ومنشؤه منه جل وعلا.
__________
(1) النساء الآية (171).
(2) الجاثية الآية (13).(1/9)
فلفظة "من" في الآيتين لابتداء الغاية، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق، خلافاً لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران.
وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر وأنهم يعتقدون شيئاً ظاهر النص. والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره.
فبنوا باطلا على باطل، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل.
ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها، لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا.
فتصور الصاوي، أن ظاهر آية الكهف المتقدمة، وهو حل الأيمان، بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها.
وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران، من أن عيسى ابن الله؛ فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم ظاهر القرآن مطلقاً، كما لا يخفى على عاقل.
وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران: إن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة.
ومن هم العلماء الذين قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟
سموهم لنا، وبينوا لنا من هم؟
والحق الذي لا يشك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم، ولا متعلم، لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه.
والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جداً لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جداً كقوله تعالى: فَصِيَامُ { ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (1) .
__________
(1) البقرة الآية (196).(1/10)
والغالب الذي هو الأكثر، هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر.
وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول.
فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر، هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى.
وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر، ويتباعد منها كل التباعد، ويتجنب أسبابها كل الاجتناب، فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي.
وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال، ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة، ليست بلائقة.
والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك.
وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله، وسنة رسوله، هو عدم معرفة مدعيها. (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله تعالى: اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة -يعني قوله تعالى: وَاعْبُدْ { رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (99) (2) - بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف؛ لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
__________
(1) أضواء البيان (7/435-443).
(2) الحجر الآية (99).(1/11)
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا، بل يسمى لعبا كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابهم هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته؛ وقد قال جل وعلا: إِنَّمَا { يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1) والعلم عند الله تعالى. (2)
- وقال عند قوله تعالى: وَإِذَا { مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } (67) (3) .
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يعرفون شيئا من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من عبدة الأوثان، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد وغشيتهم الأهوال والكروب، التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره. (4)
__________
(1) فاطر الآية (28).
(2) الأضواء (3/207).
(3) الإسراء الآية (67).
(4) أضواء البيان (3/614).(1/12)
- قال رحمه الله: واعلم أنه لا خلاف بين العلماء -كما ذكرنا آنفا- في منع النداء برابطة غير الإسلام، كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا، على أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضا مثلا، فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة، فهي كما قال الراجز:
بدلت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا (1)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) أضواء البيان (3/445).(1/13)
قال رحمه الله: وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به، ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: وَمَا { كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (15) (1) ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما. وقال تعالى: رُسُلًا { مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2) ، وقال: وَلَوْ { أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ } آَيَاتِكَ (3) الآية. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا. وقد بينا طرفا من ذلك في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله: وَمَا { كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (15) (4) . وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف، من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع -كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره. (5)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) الإسراء الآية (15).
(2) النساء الآية (165).
(3) طه الآية (134).
(4) الإسراء الآية (15).
(5) أضواء البيان (4/159-160).(1/14)
- قال رحمه الله: والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا، ومعطلا ثانيا. فارتكب مالا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي، طاهرا من أقذار التشبيه. لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (1) ، فلو قال متنطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها؟ قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه: يَعْلَمُ { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (2) ، لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (3) ، قُلْ { هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد } احب، فَلَا { تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (4) .اهـ (5)
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) طه الآية (110).
(3) الشورى الآية (11).
(4) النحل الآية (74).
(5) أضواء البيان (2/320-321).(1/15)
- وقال رحمه الله: والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له، فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق، كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة، إذ لا يمكن أن يقول غير الله: إِنَّهُ { أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (9) (1) ، ولا أن يقول: إِنَّنِي { أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } فَاعْبُدْنِي (2) . ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله، كقول فرعون tO$tRr& { رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } (24) على سبيل فرض المحال، فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب.
فقوله: إِنَّنِي { أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } فَاعْبُدْنِي (3) ، وقوله: إِنَّهُ { أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (9) (4) صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام. (5)
__________
(1) النمل الآية (9).
(2) طه الآية (14).
(3) طه الآية (14).
(4) النمل الآية (9).
(5) أضواء البيان (4/293-294).(1/16)
- وقال رحمه الله تحت قوله تعالى: وَهُوَ { اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } (1) : واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان، مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض، ضلال مبين، وجهل بالله تعالى، لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السموات والأرض، الذي هو أعظم من كل شيء، وأعلى من كل شيء، محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، فالسماوات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها، أو في كل جزء من أجزائها، لا وكلا، هي أصغر وأحقر من ذلك، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن رب السموات والأرض أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء لَا { يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (3) (2) ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه يَعْلَمُ { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (3) .اهـ (4)
- ثم قال الشيخ رحمه الله بعد كلام طويل: ...ولأجل هذه البلية العظمى والطامة الكبرى، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله:
والنص إن أوهم غير اللائق ... بالله كالتشبيه بالخلائق
فاصرفه عن ظاهره إجماعا ... واقطع عن الممتنع الأطماعا
__________
(1) الأنعام الآية (3).
(2) سبأ الآية (3).
(3) طه الآية (110).
(4) أضواء البيان (2/182-183).(1/17)
وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - . والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه.
ولا بد أن نتساءل هنا فنقول:
أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى. وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخالق؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا.
فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه، يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف. فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟
فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق. وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق. فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق، هو كونها جارحة، هي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: فَاقْطَعُوا { } أَيْدِيَهُمَا (1) .
__________
(1) المائدة الآية (38).(1/18)
والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: مَا { مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) أنها صفة كمال وجلال لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وقد بين جل وعلا عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة، قال تعالى في تعظيم شأنها: وَمَا { قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (67) (2) . وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى: قَالَ { يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) . فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي من صفات كماله وجلاله، يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى.
ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة، لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض.
فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله، لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها، إن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين، وقد جرك شؤم التشبيه إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف.
__________
(1) ص الآية (75).
(2) الزمر الآية (67).
(3) ص الآية (75).(1/19)
وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟ فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه. واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به، والوصف غير اللائق به، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك.
فاليد مثلا، التي وصفت بها نفسك لا تليق بك، لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك، وهو النعمة أو القدرة مثلا، أو الجود. سبحانك هذا بهتان عظيم". (1) ثم ذكر الشيخ الرد على الأشاعرة في تقسيم الصفات والإيمان بالبعض دون البعض. وهو بحث نفيس ينبغي الرجوع إليه وقراءته.
موقفه من الخوارج:
قال رحمه الله: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة. هل يكون ذلك سببا لعزله والقيام عليه أولا؟
قال بعض العلماء: إذا صار فاسقا أو داعيا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه. والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه، إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان.
__________
(1) أضواء البيان (7/443-446).(1/20)
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" (1) .
وفي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيار أئمتكم الذين يحبونكم وتحبونهم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله تعالى، ولا ينزعن يدا من طاعة" (2) .
وفي صحيح مسلم أيضا: من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع". قالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا" (3) .
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية" (4) .
__________
(1) أحمد (3/441) والبخاري (13/6/7055و7056) ومسلم (3/1470/1709) والنسائي (7/157/4164) وابن ماجه (2/957/2866).
(2) أحمد (6/24) ومسلم (3/1481/1855).
(3) أحمد (6/295) ومسلم (3/1480/1854) وأبو داود (5/119/4760) والترمذي (4/458/2265).
(4) أحمد (1/275) والبخاري (13/6/7054) ومسلم (3/1477/1849).(1/21)
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" (1) .
والأحاديث في هذا كثيرة. فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه، ولو كان مرتكبا لما لا يجوز، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح، الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه كفر بواح، أي: ظاهر باد لا لبس فيه.
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك. ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة، فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة.
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن. كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أخرجه الشيخان وأبو داود (2) .
__________
(1) أحمد (2/70) ومسلم (3/1478/1851).
(2) أحمد (2/17) والبخاري (13/152/7144) ومسلم (3/1469/1839) وأبو داود (3/93-94/2626) والترمذي (4/182/1707) والنسائي (7/179-180/4217) وابن ماجه (2/956/2864).(1/22)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: "لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف" (1) . وفي الكتاب العزيز: وَلَا { يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } (2) .اهـ (3)
موقفه من المرجئة:
- قال: ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه، الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد. وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة. (4)
- وقال رحمه الله: قوله تعالى: نَحْنُ { نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (13) (5) .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق. ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله جل وعلا زادهم هدى.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى، لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان.
__________
(1) أحمد (1/81) والبخاري (8/72-73/4340) ومسلم (3/1469/1840(40)) وأبو داود (3/92-93/2625) والنسائي (7/179/4216).
(2) الممتحنة الآية (12).
(3) أضواء البيان (1/67-69).
(4) أضواء البيان (7/201).
(5) الكهف الآية (13).(1/23)
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ { اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (17) (1) ، وقوله: وَالَّذِينَ { جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } الآية (2) ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ } فُرْقَانًا الآية (3) ، وقوله: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (124) (4) ، وقوله تعالى: هُوَ { الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } الآية (5) ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ } بِهِ (6) ، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد، مفهوم منها أنه ينقص أيضا، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، لا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى، والعلم عند الله تعالى. (7)
موقفه من القدرية:
__________
(1) محمد الآية (17).
(2) العنكبوت الآية (69).
(3) الأنفال الآية (29).
(4) التوبة الآية (124).
(5) الفتح الآية (4).
(6) الحديد الآية (28).
(7) أضواء البيان (4/28-29).(1/24)
- قال رحمه الله: قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } (8) (1) يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا { الْعَمَى عَلَى } الْهُدَى (2) . وقوله تعالى: { اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } (3) ونحو ذلك، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية.
أما القدرية: فضلوا بالتفريط، حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه.
وأما الجبرية فضلوا بالإفراط، حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى.
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب.
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا، فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل، وأني لابد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي، فأنا مجبور. فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعا تسمع به، وبصرا تبصر به، وعقلا تعقل به، وأرسل لك رسولا، وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق، وهو ملكه المحض، إن أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل.
__________
(1) الشمس الآية (8).
(2) فصلت الآية (17).
(3) البقرة الآية (16).(1/25)
كما أشار له تعالى بقوله: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (1) يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل.
ولما تناظر أبو إسحق الاسفرائيني مع عبدالجبار المعتزلي. قال عبدالجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم.
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال:سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبدالجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟
فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟
فقال عبدالجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالردى؟ أتراه أحسن إلي أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء، وإن كان له، فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبهت عبدالجبار. وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني، فقال: اللهم إن حمارته سرقت، ولم ترد سرقتها فارددها عليه. فقال له الأعرابي: يا هذا كف عني دعاءك الخبيث. إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها، فقد يريد ردها ولا ترد. وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (2) فأثبت للعبد مشيئة، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا. فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا.
وقوله: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (3)
__________
(1) الأنعام الآية (149).
(2) الإنسان الآية (30).
(3) الأنعام الآية (149).(1/26)
وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى فَأَلْهَمَهَا { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } (8) (1) أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال في الآية.وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء. والعلم عند الله تعالى. (2)
- وقال رحمه الله: ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر.
وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك؟وتصير علم الله جهلا، بحيث لا يقع ماسبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟
والجواب بلاشك: هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (3) ، وقال الله تعالى: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (4) .
ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولايجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (5) .اهـ (6)
__________
(1) الشمس الآية (8).
(2) دفع إيهام الاضطراب الملحق بأضواء البيان (9/330-332).
(3) الإنسان الآية (30).
(4) الأنعام الآية (149).
(5) الإنسان الآية (30).
(6) أضواء البيان (7/224-225).(1/27)
- وقال رحمه الله: أما قوله تعالى: قُلْ { إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } (81) (1) على القول بأن إن شرطية لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها ألبتة، لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال.
ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب" (2) فنفى الطرفين مع أن الربط صحيح، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى، فلا يقول هو ولا غيره: ليس له ولد ولا أعبده.
وعلى كل حال، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا فلا يصح.
فاتضح الفرق بين الآيتين وحديث: "لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب" رواه قتادة بن دعامة مرسلا. وبنحوه قال بعض الصحابة، فمن بعدهم، ومعناه صحيح بلا شك.
وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه لقبحه وشناعته، ولم أعلم أحدا من الكفار فيما قَصَّ الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه.
وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه.وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه، الديني واللغوي.
قال في الكشاف ما نصه: قُلْ { إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ } وَلَدٌ (3) وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه.
__________
(1) الزخرف الآية (81).
(2) أخرجه عبدالرزاق (6/125-126/10211) وابن جرير (7/168) عن قتادة. قال الزيلعي في تخريج الكشاف (2/140): "هو معضل". وأخرجه ابن أبي حاتم (6/1986/10583) بسنده إلى ابن عباس. وفيه هشيم وهو مدلس كثير الإرسال وقد عنعن.
(3) الزخرف الآية (81).(1/28)
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها.
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر، إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله.
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر.
وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماجة المذهب، وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه.
ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له (أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى): (لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك).
وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف الملئ بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد إليه اهـ. الغرض من كلام الزمخشري.
وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية ما الله عالم به. ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله.
وسنبين لك ما يتضح به ذلك فإنه أولا قال: إن كان للرحمن ولد وصح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه.(1/29)
فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل، لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد، فلا شك أن ذلك يقتضي، أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه، لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا. أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا ألبتة.
وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه.
فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه، لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله.
والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارج عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا.
فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج، دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه.
فإنه قال فيها إن الحجاج قال لسعيد بن جبير: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال سعيد للحجاج: لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. فهو يدل على أنه علق المحال على المحال، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله.
فقوله: لو علمت أن ذلك إليك في معنى إِنْ { كَانَ لِلرَّحْمَنِ } وَلَدٌ (1) ، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد.
فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله.
ولكنه لم يقل هذا، لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه.
وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر.
فقد اضطر فيه أيضا إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا فإنه قال فيه:
__________
(1) الزخرف الآية (81).(1/30)
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله.
فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب إلخ.
فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم، مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله، وهذا المستحيل في زعمه الباطل، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب، ومعذبا عليه فهو شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية. لأنه جعل قوله: إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى إِنْ { كَانَ لِلرَّحْمَنِ } وَلَدٌ (1) في أن الشرط فيهما مستحيل، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أول العابدين.
فاللازم لكلامه أن يقول: لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله: فأنا أول العابدين.
وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه، وشدة ضلاله، وتناقضه لشناعته ووضوح بطلانه، فهي عبارات مزخرفة، وشقشقة لا طائل تحتها، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية. والتناقض الواضح وكم من كلام ملئ بزخرف القول، وهو عقيم لا فائدة فيه، ولا طائل تحته كما قيل:
وإني وإني ثم إني وإنني ... إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا
فظل يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء
__________
(1) الزخرف الآية (81).(1/31)
واعلم أن الكلام على القدر، وخلق أفعال العباد: قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: وَقَالُوا { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } (1) ، ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: اللَّهُ { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (2) الآية، وقال تعالى: وَخَلَقَ { كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } (2) (3) . وقال: هَلْ { مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ } اللَّهِ (4) ، وقال تعالى: إِنَّا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (49) (5) .
فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن الله شيطان، سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا. وجزى الزمخشري بما هو أهله. (6)
محمد الجزولي (1393 هـ)
من أهل المغرب الأقصى، ولد بالرباط سنة ست وثلاثمائة وألف للهجرة. اشتغل بالقضاء، وله ديوان شعري باسم: 'ذكريات من ربيع الحياة' طبع سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
قال عنه محمد بن اليمني الناصري شقيق محمد المكي الناصري المعروف: "صاحبنا كاتب الحقيقة وشاعر العاطفة؛ أخونا المطلع الخبير والداهية الكبير". (7)
توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من الصوفية:
__________
(1) الزخرف الآية (20).
(2) الزمر الآية (62).
(3) الفرقان الآية (2).
(4) فاطر الآية (3).
(5) القمر الآية (49).
(6) أضواء البيان (7/299-304).
(7) 'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار' لمحمد الناصري (ص.156).(1/32)
كتب رسالة لشيخ الطائفة التجانية بالرباط سماها: 'لا طرق في الإسلام' بعد مذاكرات بينهما جرت حول الطرق الصوفية، هذه الرسالة كلها ذم وتقريع وكشف لحقيقة الطرقية المقيتة، وقد ضمنها نحو عشرين سؤالا ملزما مفحما قاضيا بضلال هذا المسلك -جزاه الله خيرا- وقد انتشرت وذاعت في وقتها؛ إلا أنها أثارت ثائرة الطرقيين فضجوا من أجلها حسب ما ذكره محمد بن اليمني الناصري في كتابه: 'ضرب نطاق الحصار'.
وقد نقل هذه الرسالة كاملة وهي جواب عن سؤال شيخ التجانية: "ما هي هذه الطرق؟ لأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره".
فأجاب رحمه الله: الطرق هي ما دعي فيه إلى أعمال وأقوال زائدة غير صالحة في نفسها ولا مصلحة لغيرها، مستمدة من عالم الأذواق والإلهام! لم يدع إليها محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه نصا، لم تسد من الدين ثغرة، ولم تزده في عالم الإصلاح شهرة؛ بل شوهته بما استحالت إليه من محاكاة القردة والحيوانات المفترسة والمتوحشين في مجاهل الأرض.
ادعاها أشخاص من طلاب الشهرة الدينية أو الدنيوية. فيهم صالح النية وخبيثها. ومن العسير معرفة صالحهم من طالحهم؛ إذ لا مميز قطعيا هناك؛ مما يوجب طرح دعاويهم جميعا وإلقاء ما أتوا به جملة وتفصيلا؛ استغناء بكتاب الله وسنة رسوله.(1/33)
أما بعد: فطالما تنكبت -منذ عرفت طويتك، وخبرت هويتك- الطرق المؤدية للاجتماع بك، لا لقلي لك أو بغض فيك؛ إذ لست هناك، ولكن لما بين الفكرين من التضارب، وبين الرأيين من التباين؛ فبينما أراني متطلعا في سماء الحرية الصافية الأديم، الرائقة النسيم، متغلغلا ببصر البصيرة في سعة أجوائها، وترامي أرجائها، متنسما عطر أريحها، متشحا برد نسيجها؛ إذ بك ترسف في أغلال التقليد وسلاسل الجمود، معتقداً سلاسلها مخانق من لؤلؤ، وقيودها خلاخل من ذهب، ومع إبهاظ تلك لعاتقك، ونخر هذه لسوقك تضن بهما ضن البخيل بماله، والغيور بعياله، فأنى يطيب لنا اجتماع أو يحصل بيننا اتفاق؛ اللهم إلا إذا اجتمع الضدان، وائتلف النقيضان، وتساوى الطائر المحلِّق -حيث لا يخشى الطلب- بالمحبوس أسيرا -وإن في قفص من ذهب-، لهذا وذاك، كنت دائما أتحرى عدم لقياك، استغناء عن نفعك واتقاء لأذاك، حتى سقطت علينا بالأمس سقوط الجراد في ليلة أَحَلْت بياض أنسها إلى سواد، عند ذلك السميدع الأصيل إذ انجر بنا الحديث -والحديث شجون- إلى ذكر الطرق المحدثة في الإسلام، وما انبثق منها فيه من الأضاليل والأوهام. والانشقاق والاختلاف، والتزحلق عن مهيع الحق والانحراف، حتى تمزقت أوصاله وتلونت أحواله، وصارت أممه في فرقها شيعا، واتخذ كل منهم حسب هواه طريقا ومهيعا، تلك الوصمة التي وسم بها الدين، وأحدث بها التفريق بين جماعة المومنين، وتفوهت -تأثرا بما أثاره ذلك الحديث- بتلك الجملة التي أنزلتها منزلة كلمة التثليث وهي: "إن الإسلام بدون هذه الطرق خير منه بها"؛ فقمت وقد انتفخت أوداجك. وتصلبت أمشاجك. وقلت: إن ذلك القول ضلال، واعتقاده كفر، وتخيّله زندقة، والعمل به مخرقة.(1/34)
وشددت اللوم على من يحوم في حمى القوم، وطالبتني بالدليل على صحة جملتي، والحجة التي تثبت بها دعوتي، فاستدللت ولم أبعد، ورغما على إبراقك فلم أرعد؛ بأن الإسلام قبل تفريخ جراثيم هذه الطرق في جسمه، كانت أعظم دول الأرض ترتعد لذكر اسمه، وأنه بعد تسميمها لدمه، وسريان ذلك الدم المسموم في جميع أممه، تفرقت أجزاؤه، وسادته أعداؤه، وانفصمت عراه، وانحط من علاه، وتمزق أيدي سبا، وتمسك بالقشور وأعرض عن اللبا، وألفح روضاته الغناء إعصار فيه نار المحرقين فاحترقت، وطما على سدوده المتينة سيل الجهل فانخرقت، وإن لم تكن كل مصائبه من تلك الطرق؛ فإنها إحدى مصائبه الكبر، وفي تمسك دعاة العلم بأهدابها أفدح المصائب وأعظم العبر، وهذه طبيعة العمران؛ فإن الأمم إذا هرمت انحلت قواها العاقلة، وتسفلت فيها المدارك والعقول، وانحطت من أوج التمحيص والانتقاد إلى هاوية التقليد والخمول، حيث تستعبدها الأوهام والخرافات، باعتقاد سيدات وسادات، لهم التصرف في الكون قبضا وبسطا، ومنعا وإعطا، اعتقادا يتساوى فيه العالم والجاهل، والعالي والنازل، عاملين على استبدال الأعمال الصالحة بمضغ الألفاظ، مع بعدها عن مركز الانفعال بعد الإعقاب عن الألحاظ، وأعماهم التعصب والتقليد عن رؤية الحق مع أن الحق نور، ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وحيث كنت تكابر في هذا القدر، وتحتج بحجج لا تعلم محط مغزاها، ولا هدف مرماها، وإنما ترددها ترديد الصدى، جريا على ما جبلت عليه من التقليد حتى في الضلال والهدى.(1/35)
اقترحت أن أخط لكم ما تفوهت به في كتاب، وأضيف إليها ما يعن لي في هذا الباب، وأنتم تجيبون على ذلك بما يزيل اللبس، ويبين أن أفكاركم مبنية على أمتن أس؛ وإلا فأنت في ميدان المناضلة محجوج. وجبين دعواك بعصا العجز مشجوج. هذا وإني لأشفق عليك مما يلم بك من الألم، عند مطالعة ما يخطه القلم؛ لأن الحقيقة مرة في أفواه العائشين بالآمال والأوهام، واليقظة ضربة قاضية على المثرين في الأحلام، ولكنها الحقيقة. والحقيقة بنت البحث البحت، والمرمر لا تنجلي مرآته بغير الصقل والنحت. وإليكها جملا مرصوصة البنا، ظاهرة الغنا، طيبة الجنا، وليست إلا أنموذجا لأمثالها، وشكلا يدل على تعدد أشكالها. وهي بين ادعاء محض يفتقر إلى إثبات أو نقض، أو استفهام يتطلب الجواب بالنفي أو الإيجاب. بيد أنه لا يقبل من الحجج النقلية إلا ما كان صريحا في الموضوع من كتاب أو سنة أو كان من الحجج العقلية المحسوسة فقط، وكل كلام تسوقه للغير أياً كان فهو لغو، والعبرة بما يقال، لا بمن قال. ثم إني لا إخالك تجد ولا جوابا واحدا يوافق ما به تحتج. إلا إذا استقام الظل والشاخص أعوج، وقد صدرت تلك الجمل بالجملة التي كانت السبب في تسطير هذا الرق، وذيّلتُها بأسئلة تقوم في وجه الباطل بسيف الحق. وهي:
1- الإسلام بدون هذه الطرق خير منه بها؟
2- هل هذه الطرق ضرورية الوجود للدين؟
3- إذا كانت غير ضرورية للدين وهو تام بدونها فما المحوج لها إذاً؟
4- هل كانت الديانة الإسلامية ناقصة قبل وجود هذه الطرق؟
5- هل المتمسكون بهذه الطرق أهدى ممن كان قبلهم من المسلمين ومن معاصريهم المسلمين الغير المتمسكين بها؟
6- هل المؤمن بكتاب الله وبما صح وروده عن النبي عليه السلام؛ العامل بمقتضى الشريعة يعد ضالا إذا قال: إن الإسلام غني بنفسه عن الطرق واعتقد ذلك ودعا إليه؟(1/36)
7- أي فائدة استفادها الإسلام من هذه الطرق بعد فشوها فيه حتى امتاز عصره بها بالعز والجاه والفضل والاستقامة عن غيره من أعصره الخالية منها؟
8- لو لم توجد في الإسلام هذه الطرق التي فرقته شيعا وجعلته طرائق قددا وبقي على ما كان عليه أيام النبي عليه السلام والأعصر الثلاثة بعده أيكون غير صالح لهداية البشر وأتعس حالا مما هو عليه الآن؟
9- أعَثرنا بهذه الطرق على إكسير الأخلاق الذي صير الأمة في أخلاقها وأطوارها خيرا مما كانت عليه من قبل؟
10- إذا تمسك المسلمون بالكتاب والسنة واتحدوا عليهما ونبذوا هذه الطرق المبثوثة الأطراف أيَصيرون غير مسلمين ويعودون بذلك من الضالين؟
11- هل جاءت هذه الطرق بشيء زائد على ما في الكتاب والسنة يحتاج إليه الإسلام والمسلمون؟
12- إذا كانت لم تأت بشيء زائد على ما فيهما فما الفائدة من إحداث طرق منشقة في الإسلام ترى لنفسها فضلا وشفوفا على غيرها اغترارا بقول داع مجترئ؟
13- هل المؤمن المصلي على نبيه، الذاكر لربه، ائتمارا بأمر الله في كتابه العزيز، وبالصيغ الواردة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون أحط رتبة، وأخس مثوبة، وأقل أجرا من المصلي أو الذاكر وفاقا لقانون الشيخ فلان، وبالصيغ الموحاة إليه من حظيرة الأوهام؟
14- ما قولك فيمن يبتدع صيغا من الأدعية والصلوات، غريبة الألفاظ، ركيكة التركيب، ليست على نهج القرآن ولا على أسلوب الحديث يتلقفها من عالم الغيب في زعمه، ويمليها ألفاظا غير أليفة ولا مألوفة، مدعيا لها من الأجر والثواب والفضل الذي لا يحصره حساب الحاصل لتاليها مرة واحدة ما لا يحصل لمن ختم القرآن كذا وكذا ألف مرة؟
15- وما قولك فيمن يدعي ما لم يدعه محمد ولا عظماء صحابته من التصرف في الجنة والنار يدخلهما من يشاء ويخرج منهما من يشاء؛ كأن مفاتحهما في جيبه أو عقد اتفاقا مع خزنتهما أوجب تخصيصه بذلك أو شارك رب العزة في ملكوته، يغر بذلك السذج ويجرئهم على معاصي الله؟(1/37)
16- هل قام الإسلام وانتشر في العالم بالقعود على الطنافس، ولَوْك الألفاظ وتحريك السبح وضرب الرؤوس، ونهش اللحوم والرقص على التمويل و... إلخ، أم بجلائل الأعمال وبذل النفس والنزوح عن الأوطان في سبيل الدعوة إلى الأقطار النائية الشاسعة مع بعد الشقة وعظم المشقة؟
17- ماذا ترى فيمن تَعْرِض له صيغة تصلية أو ذكر مما لفّقه شيخه فينزهها عن ذكره لها لكونه على غير وضوء؛ حتى إذا عرض له ذكر القرآن وهو في مجلسه ذلك وبحالته تلك اندفع في تلاوته اندفاع السيل من الجبل، أتلك الصيغة الواردة عن شيخه أجل قدرا وأعظم خطرا من القرآن المنزل من رب العزة بواسطة جبريل الأمين على قلب محمد بن عبدالله؟
18- لا شك أن جل مبتدعي هذه الطرق كان قصدهم حسناً فيما ابتدعوه، ولكن يعرض لتلك البدع ما يخرجها عن مقصدها الحسن، ويجعلها وبالاً على الإسلام المسلمين كما هو مشاهد.
19- إذا قسنا الطرق الصالحة -إن كانت هناك طرق صالحة وليست هي إلا طريقتك في نظرك- على الكثير الفاسد، ورفضنا الكل سداً للذريعة، ودفعا للأذى فهل يضرنا ذلك الرفض في ديننا؟
20- إن كان رفض تلك الطرق يضرنا في ديننا فما وجه ضرره؟
هذا قل من كثر، وبعض من كل، وإن شئتم زدنا، وإن عدتم عدنا، والحمد لله أولا وآخرا. (1)
محمد خليل هراس (2) (1395 هـ)
الإمام السلفي محمد خليل هراس. ولد بطنطا عام خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وتخرج من الأزهر من كلية أصول الدين وحاز على شهادة "الدكتوراه" في التوحيد وموضوع الرسالة 'ابن تيمية السلفي ورده على مذاهب المتكلمين'.
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.157- 164).
(2) مقدمة كتابه 'شرح العقيدة الواسطية' بقلم علوي السقاف (ص.41-42) ومجلة التوحيد (العدد الأول محرم 1417هـ/ص.57-59)(1/38)
شغل عدة مناصب آخرها نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة النبوية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة. كان الشيخ محمد على قدر كبير من التمييز في دراسة العقيدة الصحيحة، ومتفردا في معرفة العقائد والفرق الكلامية والفلسفات القديمة والحديثة. وكان رحمه الله سلفي المعتقد، حاملا لواء السنة، نابذا لواء البدعة، منكبا على نشر السنة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله في ذلك مؤلفات.
توفي رحمه الله سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
آثاره السلفية:
1- 'شرح العقيدة الواسطية'.
2- 'شرح النونية'.
3- 'دعوة التوحيد'.
وكلها مطبوعة.
- قال في شرحه على نونية ابن القيم:(1/39)
وهذه الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع قطع مسافتها، وبلوغ غايتها إلا من جرد لها ركائب عزمه، وتوجه إليها بكل همه، ولم يلتفت إلى شيء مما يعوقه في سيره من تقليد لمذهب أو تعصب لرأي أو استحسان لبدعة، ولكن مسافتها تطول وتطول جدا على من خصهم الله بالحرمان والخذلان، فصرف قلوبهم عنها، وكره انبعاثهم إليها، فثبطهم وقال اقعدوا مع القاعدين، فهي هجرة لا ينالها أبدا كسلان، ولا يقوى عليها كل رعديد الفؤاد جبان، وهي هجرة لا تحتاج أن تعد لها زادا وراحلة، وتضرب في بيد الأرض وقفارها، بل قد يقوم بها العبد وهو نائم على فراشه، ويسبق في مضمارها الساعين إلى منازل الرحمة والرضوان، الذين يغذون السير جاهدين، تخب بهم مطاياهم، وأما هو فيسير سيرا لينا رفيقا، ولكنك تراه مع ذلك قد سبق الركب، وسار أمامهم كأنه الجبل العظيم، يراه من في القاع تحته، وإنما هيأ له السبق في المضمار أنه نشرت له أعلام النصوص، وفي رؤوسها أوقدت نيران، هي النور المبين لهداية السالك الحيران، ولكن لا يراها إلا من كانت له عينان بمراود الوحي مكتحلتان، لا بمراود أهل الفشر والهذيان، فلما رآها هرع نحوها وجرد السعي إليها، فلم يلتفت عنها يمينا ولا شمالا حتى بلغها وأدرك عندها بغيته وحقق أمله. (1)
__________
(1) شرح النونية (2/282).(1/40)
- وقال: وردت أحاديث كثيرة على ما أعد الله سبحانه من أجر عظيم للمتمسكين بسنة نبيه المختار - صلى الله عليه وسلم - عند فساد الزمان وانحلال عرى الدين. فروى أبو داود رحمه الله في سننه، وروى أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في مسنده أثرا تضمن أن للعامل من هذه الأمة عند فساد الزمان أجر خمسين رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولفظ الحديث عند أبي داود، وعن أبي أمية الشعباني قال: "سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: عَلَيْكُمْ { أَنْفُسَكُمْ } (1) ؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيها مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله"، وزاد في غيره، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم" (2) ، وله شاهد يقويه فيما رواه مسلم رحمه الله من أن العبادة في وقت الهرج -أي القتل والفتن- تعدل هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
__________
(1) المائدة الآية (105).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي ذر سنة (32هـ).(1/41)
هذا ولأهل السنة هجرات كثيرة لا بالأماني والأحلام ولكن بالتحقيق والتثبيت، فلهم هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص والتوحيد، ولهم هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء والاتباع، ولهم هجرة من البدع إلى السنن، ومن المعاصي إلى الطاعات، ومن الأقوال والآراء إلى ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء في القرآن؛ وله شاهد أيضا فيما رواه الترمذي من أن الذي يحيى سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماتت يكون رفيقه في الجنة (1) .اهـ (2)
__________
(1) أخرجه: الترمذي (5/44-45/2678) عن أنس بن مالك بلفظ: "...ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة" وقال: "حديث حسن غريب". قال الشيخ الألباني في المشكاة (1/62/175): "فيه علي بن زيد وهو ابن جدعان، وهو ضعيف". انظر الضعيفة (4548).
(2) شرح النونية (2/321).(1/42)
- وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: هذا بيان المنهج لأهل السنة والجماعة في استنباط الأحكام الدينية كلها، أصولها وفروعها، بعد طريقتهم في مسائل الأصول، وهذا المنهج يقوم على أصول ثلاثة: أولها كتاب الله عز وجل، الذي هو خير الكلام وأصدقه، فهم لا يقدمون على كلام الله كلام أحد من الناس. وثانيها: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أثر عنه من هدي وطريقة، لا يقدمون على ذلك هدي أحد من الناس. وثالثها: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرق والانتشار وظهور البدعة والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، فإن وافقها قبلوه، وإن خالفها ردوه؛ أيا كان قائله. وهذا هو المنهج الوسط، والصراط المستقيم، الذي لا يضل سالكه، ولا يشقى من اتبعه، وسط بين من يتلاعب بالنصوص، فيتأول الكتاب، وينكر الأحاديث الصحيحة، ولا يعبأ بإجماع السلف، وبين من يخبط خبط عشواء، فيتقبل كل رأي، ويأخذ بكل قول، لا يفرق في ذلك بين غث وسمين، وصحيح وسقيم. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال في شرحه على الواسطية: قوله: (وفي باب أسماء الإيمان...) إلخ. كانت مسألة الأسماء والأحكام من أول ما وقع فيه النزاع في الإسلام بين الطوائف المختلفة، وكان للأحداث السياسية والحروب التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في ذلك الحين، وما ترتب عليها من ظهور الخوارج والرافضة والقدرية أثر كبير في ذلك النزاع.
والمراد بالأسماء هنا أسماء الدين؛ مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق... إلخ.
والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
فالخوارج الحرورية والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من صدق بجنانه، وأقر بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع الكبائر. فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمنا باتفاق بين الفريقين.
__________
(1) شرح الواسطية (256-257).(1/43)
ولكنهم اختلفوا: هل يسمى كافرا أو لا؟
فالخوارج يسمونه كافرا، ويستحلون دمه وماله، ولهذا كفروا عليا ومعاوية وأصحابهما، واستحلوا منهم ما يستحلون من الكفار.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين، وهذا أحد الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال.
واتفق الفريقان أيضا على أن من مات على كبيرة ولم يتب منها؛ فهو مخلد في النار.
فوقع الاتفاق بينهما في أمرين:
1- نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة.
2- خلوده في النار مع الكفار.
ووقع الخلاف أيضا في موضعين:
أحدهما: تسميته كافرا.
والثاني: استحلال دمه وماله، وهو الحكم الدنيوي. (1)
- وفيه أيضا: والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى: مَنْ { ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (2) فنفي الشفاعة بلا إذن إثبات للشفاعة من بعد الإذن. قال تعالى عن الملائكة: * { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (26) (3) .
فبين الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله. وأما ما يتمسك به الخوارج والمعتزلة في نفي الشفاعة من مثل قوله تعالى: فَمَا { تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (48) (4) وَلَا { يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا } شَفَاعَةٌ (5) فَمَا { لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } (100) (6) ... إلخ، فإن الشفاعة المنفية هنا هي الشفاعة في أهل الشرك، وكذلك الشفاعة الشركية التي يثبتها المشركون لأصنامهم، ويثبتها النصارى للمسيح والرهبان، وهي التي تكون بغير إذن الله ورضاه. (7)
__________
(1) ص.190-191).
(2) البقرة الآية (255).
(3) النجم الآية (26).
(4) المدثر الآية (48).
(5) البقرة الآية (123).
(6) الشعراء الآية (100).
(7) ص.215-216).(1/44)
- وفيه أيضا: وأما قوله: (وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار ... ) إلخ. وهذه هي الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة؛ فإن مذهبهم أن من استحق النار لابد أن يدخلها؛ ومن دخلها لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها. والأحاديث المستفيضة المتواترة ترد على زعمهم وتبطله. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: أهل السنة والجماعة وسط في باب الوعيد بين المفرطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وزعموا أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وإن لم ينطق به، وسُمّوا بذلك نسبة إلى الإرجاء، أي: التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان.
ولا شك أن الإرجاء بهذا المعنى كفرٌ يخرج صاحبه عن الملة؛ فإنه لا بد في الإيمان من قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، فإذا اختل واحد منها لم يكن الرجل مؤمناً.
وأما الإرجاء الذي نُسب إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة؛ كأبي حنيفة وغيره، وهو قولهم: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم مع ذلك يوافقون أهل السنة على أن الله يعذب مَن يعذب من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها، وعلى أنه لا بد في الإيمان من نطق باللسان، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة يستحق تاركها الذمّ والعقاب؛ فهذا النوع من الإرجاء ليس كفراً، وإن كان قولاً باطلاً مبتدَعاً؛ لإخراجهم الأعمال عن الإيمان. (2)
- وقال أيضاً: أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وأن هذه الثلاثة داخلة في مسمى الإيمان المطلق.
فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين: ظاهرُه وباطنُه، أصولُه وفروعه، فلا يستحق اسم الإيمان المطلق إلا من جمع ذلك كله ولم ينقص منه شيئاً.
__________
(1) ص.218).
(2) شرح الواسطية (ص.188-189).(1/45)
ولما كانت الأعمال والأقوال داخلة في مسمى الإيمان؛ كان الإيمان قابلاً للزيادة والنقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر مشاهد من تفاوت المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وأعمال جوارحهم.
ومن الأدلة على زيادة الإيمان ونقصه أن الله قسم المؤمنين ثلاث طبقات، فقال سبحانه: ثُمَّ { أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } (1) .
فالسابقون بالخيرات هم الذين أدّوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقربون.
والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات.
والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترؤوا على بعض المحرمات وقصّروا ببعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم.
ومن وجوه زيادته ونقصه كذلك أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خير كثير، فازداد به إيمانه، وتمّ يقينه، ومنهم من هو دون ذلك، حتى يبلغ الحال ببعضهم أن لا يكون معه إلا إيمان إجمالي لم يتيسر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن.
وكذلك هم متفاوتون في كثير من أعمال القلوب والجوارح، وكثرة الطاعات وقلتها.
وأما من ذهب إلى أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وأنه غير قابل للزيادة أو النقص؛ كما يُروى عن أبي حنيفة وغيره؛ فهو محجوج بما ذكرنا من الأدلة، قال عليه السلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) (2) .اهـ (3)
محمد بهجة البيطار (4) (1396 هـ)
__________
(1) فاطر الآية (32).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(3) شرح الواسطية (ص.231-233).
(4) المستدرك على معجم المؤلفين (614-615) وتاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (2/918).(1/46)
الشيخ محمد بهجة البيطار، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق. ولد في دمشق سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف. وهو من أصل جزائري، نشأ في حجر والده محمد بهاء الدين، وتلقى على يده مبادئ العلوم الدينية، وعلى يد جده لأمه عبدالرزاق البيطار. واشتغل في عدة مناصب دينية آخرها توليه إدارة دار التوحيد السعودية، وعضوا عاملا في المجمع العلمي بدمشق والقاهرة.
له مؤلفات كثيرة منها: 'حياة شيخ الإسلام ابن تيمية' و'رسالة في الرد على من طعن في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب' و'رسالة في الرد على الكوثري'.
توفي رحمه الله بدمشق في ثلاثين جمادى الأولى سنة ست وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
دافع عن شيخ الإسلام ابن تيمية وله في ذلك مؤلف قال فيه: لقد صدق كثير من العلماء والأدباء في مختلف العصور هذه الرواية الآتية في رحلة ابن بطوطة الشهير، وجعلوها قضية مسلمة يروونها ويتوارثونها إلى عصرنا هذا، حتى إن دائرة المعارف الإسلامية التي تنقل الآن إلى العربية في مصر، قد ترجمت لابن تيمية ترجمة بقلم الأستاذ محمد بن شنب (ص.109-116ج1) فيها أغلاط كثيرة، ونقلت عبارة ابن بطوطة هذه، وهي قوله عن إمام الشام وشيخ الإسلام ابن تيمية، "وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر" فرأيت أن أنشر كلمة في هذا الموضوع تكون الحد الفاصل بين الحق والباطل.(1/47)
1- إن ابن بطوطة رحمه الله لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به، إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي العقدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمعه يقول: ينزل..الخ.
2- إن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالروايات والحكايات الغريبة، ومنها مالا يصح عقلا ولا نقلا، وهو يلقي ما ينقله على عواهنه، ولا يتعقبه بشيء فمن ذلك قوله (1) : وفي وسط المسجد (أي الأموي بدمشق) قبر زكريا عليه السلام، والمعروف أنه قبر يحيى عليه السلام، وقوله أيضا: وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وهذا لا يقال من قبل الرأي، وسفيان أجل من أن يفضله على مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين وهما لم يبلغ الثواب فيهما هذه الدرجة، كما هو معلوم للمحدثين وغيرهم، ومن نقوله التي أقرها ولم ينكرها (2) النذور للقبور المعظمة، والوقوف على أبواب الملوك، ومن ذلك النذر لأبي إسحاق، إذا هاجت الرياح في البحار، واشتدت الأخطار، وهو ما لم يبلغه أهل الجاهلية الذين قال الله تعالى عنهم: فَإِذَا { رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ } الدِّينَ (3) .
__________
(1) 1/54).
(2) 1/199-133-136)
(3) العنكبوت الآية (65).(1/48)
3-لم يكن ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع كما زعم ابن بطوطة (1) (فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ على منبر الجامع) بل لم يكن يخطب أو يعظ على منبر الجمعة كما يوهمه قوله: ونزل درجة من درج المنبر. وإنما كان يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون المجلس غاصا بأهله، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكان يورد الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح، وقال: وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع. (2)
واسترسل الشيخ البيطار في رد هذه الفرية من وجوه فمن شاء وقف عليها في كتابه 'حياة شيخ الإسلام'.
موقفه من المشركين:
- قال في كتابه 'شيخ الإسلام ابن تيمية': وأقول -تأييدا لما ذكره شيخ الإسلام-: إن الصحابة الكرام قد تناظروا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، في أمر الخلافة، وفي جمع القرآن، وفي المعارك الدامية كوقعة الجمل وصفين والنهروان، وتناظر الشيخان في قتال مانعي الزكاة، وفي إرسال جيش أسامة، ولم يستغيثوا به في هذه الشدائد، ولم يستفتوه في شيء منها، وكل هذا معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة، ومن العقل والحس والوجدان بالبداهة، فيجب رد ما يتجدد من الوقائع والحوادث إلى الوحي المنزل، وما عرف من سنن الصدر الأول للإسلام.
__________
(1) 1/57).
(2) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية (36-37).(1/49)
ولو كان ترك وسائل النصر والظفر، والاستنصار بغيره تعالى مفيدا لنا في شيء، لكنا اليوم أسعد الأمم حالا، وأنعمها بالا، وأوفرها عزة وثروة وقوة، ولكن تلك الخطة المعارضة للشرع والطبع والحس التي سلكها أولئك الناس لم تزد الأمة إلا نكالا ووبالا، قُلِ { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } (57) (1) .
ثم إن هذا المؤلف (البكري) قد جرى على عرف بعض العلماء المتأخرين الذين جعلوا الاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم - وبغيره في معنى التوسل إلى الله تعالى بجاهه وبحقه، كالسبكي في 'شفاء السقام' والقسطلاني في 'المواهب'، والسمهودي في 'خلاصة الوفا' وابن حجر المكي في 'الجوهر المنظم' وغيرهم.
والمراد أنهم يسألون الله تعالى بحقه وجاهه أن تقضى حوائجهم، وسيأتي بحث ذلك. أما الاستغاثة بأهل القبور أنفسهم بمعنى طلب الغوث منهم أي زوال الشدة، وتفريج الهم والكرب، وقضاء سائر الحوائج، فهذه استغاثة شركية، لا تدخل في دائرة الأسباب والمسببات بحال، بل هي توسل الغلاة والجهال في الحضر والسفر، والبر والبحر، والعسر واليسر، والفرج والشدة، ونحن نجل أهل العلم والعقل والإيمان، عن الوقوع في مثل هذا الطغيان والهذيان. (2)
- وقال: ومن المؤسف جدا عدم الاهتداء بهدي الأنبياء والصالحين، والاكتفاء بتشييد القبور، وجعلها كالقصور والقلاع، والصلاة عندها، والطواف حولها، ونذر النذور لسدنتها، ويرحم الله حافظا القائل:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات
__________
(1) الإسراء الآيتان (56و57).
(2) حياة شيخ الإسلام (ص.62-64).(1/50)
والواجب يتقاضى علماء الدين الخالص، والعاملين للمدنية الصحيحة، أن يتعاونوا على إنشاء معاهد علمية في الأقطار الشرقية والغربية، تدعو إلى الله على بصيرة، وتصحح العقائد والعوائد، وتزيل المهالك والمفاسد، وتعيد عهد الأئمة، وتجدد معالم الأمة. (1)
حمد بن مطلق بن إبراهيم الغفيلي (2) (1397 هـ)
الشيخ حمد بن مطلق بن إبراهيم بن راشد المحفوظي العجمي، من آل حصنان. ولد في بلدة الرس سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف، قرأ في بلدته، ثم انتقل إلى عنيزة، فلازم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي واستفاد منه، وقرأ عليه أمهات الكتب. عين قاضيا في السوارقية سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف، ثم قاضيا في مدينة صبياء، ثم طريف ثم الفوارة ثم أخيرا قاضيا لمحكمة العظيم بمنطقة حائل.
كان رحمه الله حسن الأخلاق، محبا للقرآن وكتب السنة، توفي في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من الرافضة:
له من الآثار السلفية:
1- 'تنزيه جناب الشريعة عن تمويه مذاهب الشيعة'. وهو مقتبس من منهاج السنة. (3)
صهيب بن محمد الزمزمي بن الصديق الغماري (بعد 1397 هـ)
من عائلة الغماريّين المشتهرة بالانحراف السلوكيّ والعقديّ، منّ الله عليه بالبعد عن مخازيهم ونصرة المذهب الحق.
جمعنا وإياه مجلس مع الشيخ الألبانيّ حين جاء إلى المغرب. توفي بعد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له رسالة اسمها: 'جماعة التبليغ أو أصحاب الدعوة الباكستانية خطر على المسلمين'. تحدث فيها عن أخطاء هذه الجماعة الدخيلة، وفنّد حججها الواهية، كما بيّن -رحمه الله- خطرها على الإسلام والمسلمين مستدلاًّ على ذلك بالآيات البيّنات والأحاديث الواضحات.
__________
(1) حياة شيخ الإسلام (ص.70).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/116-120).
(3) علماء نجد (2/119).(1/51)
- قال رحمه الله في مقدمتها: وقد رغب إليّ كثير من المسلمين القاطنين ببلجيكا وهولندا، وألحوا علي أن أكتب رسالة أبيّن فيها موقف الإسلام من الخروج مع 'جماعة التبليغ' أو 'أصحاب الدعوة الباكستانية' هذا الخروج الذي يزعمون أنه في سبيل الله، وأنه لا يحل المسلم أن يتخلف عنه، ويثيرون بسببه ضجات وفتناً في المساجد ويدعون أنهم على هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأنهم الفرقة الناجية! والطائفة المنصورة.
حينئذ أخذت أتتبع نشاط هذه الطائفة وأقتفي أثر أفرادها في مجال الدعوة، بغية الحصول على معلومات تمكنني من تسليط الأضواء على هذه الفرقة، والحكم عليها حكماً لا جور فيه ولا شطط.
ومن خلال تحادثي مع بعض الأشخاص المنتمين إليهم، وبعد استماعي إلى أحاديث دعاتهم المسجلة على الأشرطة، تبين لي أن 'جماعة التبليغ' أو 'أصحاب الدعوة الباكستانية' أتباع طريقة صوفية جاءت على نمط جديد.
وأن انتشارها يضرّ بسمعة الإسلام، كما أن فيه خطراً على المسلمين، وهذا الخروج الذي يلهج به أتباعها في كلّ مكان، ويدندنون حوله في جميع أحاديثهم ليس إلا وسيلة لضمّ الناس إليهم، وتكثير السواد بهم.
وإذ ذاك، لم أجد بدّاً من كتابة هذه الرسالة التي أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، ويقبلها مني نصحاً لدينه وللمسلمين. (1)
__________
(1) رسالة جماعة التبليغ (ص.5-6).(1/52)
-وقال في رد بدعة التمذهب: كما أنه إذا كان الداعي ملتزما في أمور دينه بمذهب معين لا يخالف ما فيه من أقوال وآراء وإن علم أنها غير متفقة مع ما جاء في القرآن أو في السنة، فهذا أيضا لا يجوز له أن يتصدى للدعوى إلى الله، وذلك لأنه إذا دعا الناس وحاله هذه فإنما سيدعوهم إلى ما هو عليه من اتباع النظريات والأفكار المخالفة للكتاب والسنة، والله سبحانه وتعالى إنما أمر أن تكون الدعوة غليه بالكتاب والسنة فقال جل ذكره: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ } بِالْحِكْمَةِ (1) . قال ابن جرير: وهو ما أنزل عليه من الكتاب والسنة.
والخلاصة أن الدعوة إلى الله وما يتبعها من الأمر والنهي، لا يمكن ولا أن تتحقق بدون هذه الشروط:
1- الفقه في الدين، ولو فيما يتعلق بالدعوة.
2- التمسك بالقرآن والسنة قولا وفعلا.
3- وأن يكون القرآن والسنة في مجال الدعوة وسيلة وغاية، بحيث تكون الدعوة إليهما وبهما: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ } بِالْحِكْمَةِ (2) .اهـ (3)
ثم بيّن رحمه الله خطر هذه الجماعة على المسلمين من سبعة أوجه قويّة فقال: لماذا كانت الطريقة الباكستانية خطراً على المسلمين؟
يتميز أتباع هذه الطريقة بخصال:
أولها: مخالفة السنة النبويّة، بل محاربتها، فهم لا يعملون إلا بالسنة المقررة في طريقتهم والتي يعمل بها مشايخهم بالباكستان، وما سوى ذلك فهم لا يقبلونه ولا يرفعون به رأساً. (4)
__________
(1) النحل الآية (125).
(2) النحل الآية (125).
(3) جماعة التبليغ (ص.10-11).
(4) جماعة التبليغ (ص.23).(1/53)
وقال رحمه الله مبينا منهجه: هذا ونلفت القراء إلى أن الانتقادات التي نوجهها إلى أتباع الطريقة الباكستانية إنما تأتي على ضوء الكتاب والسنة، لا على أساس مبدإ صوفي، ولا ننتمي إلى مذهب؛ بل مذهبنا في الحياة الإسلام: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1) . وطريقتنا فيه العمل بما قام عليه البرهان، وثبتت حجته عن الله ورسوله. وما كان من اختلاف أو تنازع نبحث عن صوابه، ونطلب حله في القرآن، وفيما صح من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (2) . فهذا ما ننبه إليه، فمن كان ملتزما بذلك فحسبنا به قارئا والسلام. (3)
- ثم بيّن رحمه الله خطر هذه الجماعة على المسلمين من سبعة أوجه قويّة نذكر بعضا منها:
قال رحمه الله: لماذا كانت الطريقة الباكستانية خطراً على المسلمين؟ يتميز أتباع هذه الطريقة بخصال:
أولها: مخالفة السنة النبويّة، بل محاربتها، فهم لا يعملون إلا بالسنة المقررة في طريقتهم والتي يعمل بها مشايخهم بالباكستان، وما سوى ذلك فهم لا يقبلونه ولا يرفعون به رأساً. (4)
وقال: ثانيها: دعوة الناس إلى أمور يسمونها صفات الصحابة، وهي في الحقيقة مبادئ طريقتهم الباكستانية ويزعمون أنه حين لم يعد المسلمون أهلاً لاتباع السنة النبوية قام العلماء بجمع هذه الصفات الستة من حياة الصحابة ليعمل الناس بها! سبحان الله! ما هي شروط اتباع السنة؟ حبذا لو عرفناها!. (5)
__________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) النساء الآية (59).
(3) جماعة التبليغ (ص.7).
(4) جماعة التبليغ (ص.23).
(5) جماعة التبليغ (ص.25-26).(1/54)
- وقال: ثالثها: اجتراؤهم على تفسير كلام الله تعالى، وشرح معاني آياته وهم جاهلون! حتى إن الواحد منهم لا يكاد يحسن كتابة اسمه، ورغم ذلك، يجلس في المساجد للوعظ والإرشاد، ويشرح للناس -بكل وقاحة!- ما يعرض من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. (1)
- وقال: رابعها: الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل وبما يعرف الناس أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كالأمثال السائرة، وأقوال بعض الصوفية، والحكم المشهورة بين العامة.
وهذه الخصلة من الموبقات المهلكة، والكبائر العظيمة، التي تقذف صاحبها في النار. (2)
- وقال: سابعها: أنهم لا يرعوون عن قذف أي عالم من علماء المسلمين ورميه بالكفر والإلحاد، والفسق والفجور إذا هو اعترض أفكارهم وأنكر طريقتهم، شأنهم في ذلك شأن اليهود الذين قال عنهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه: (إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني) (3) .
وهكذا أتباع الطريقة الباكستانية، فويل منهم للعالم الذي يحذّر الناس من طريقتهم ويردّ عليهم.
أخبرني الأستاذ الصمدي أنهم يكفرون الشيخ أبا الأعلى المودودي الكاتب الإسلامي المشهور! ونحن نعلم -مسبقاً- أن المودودي لا ذنب له عندهم إلا أنه يخالفهم، ولا يتفق معهم!
وقديماً بلغنا عنهم أنهم يقولون عن الدكتور الهلالي إنه مسيحيّ! والسبب هو هو، فالدكتور الهلاليّ قد عاش مدّة بالباكستان وعرف عنهم الكثير، فهو لذلك لا يسميهم إلا 'الإلياسيّين' نسبة إلى شيخهم، ويقول: إنهم أصحاب طريقة عصريّة.
__________
(1) جماعة التبليغ (ص.26).
(2) جماعة التبليغ (ص.27).
(3) أخرجه: أحمد (3/108) والبخاري (6/446-447/3329) والنسائي في الكبرى (5/70-71/8254).(1/55)
وفي شهر رمضان من العام الماضي حضر إلى العاصمة البلجيكية عالم من السعوديّة، وألقى دروساً ببعض المساجد هناك، ولما رأى هؤلاء الباكستانيون إعراضه عنهم، وإنكاره لما هم عليه، أشاعوا عنه إشاعة قبيحة توحي بأنه رجل فاسق! إِن { الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } (19) (1) .
فبوجود تلك الخصال في أتباع الطريقة الباكستانية كانت هذه الطريقة خطراً على المسلمين، إذ أنها لو ظهرت -والحالة هذه- وانتشرت -لا سمح الله بذلك- بين جميع المسلمين، لأصبحت الأمة الإسلامية أذلّ أمة على وجه الأرض، ضعيفة في دينها وعقيدتها، تحارب السنة، وترغب عنها، وتنصر البدعة، يتجاسر الجاهلون منها على تفسير كلام الله تعالى ولا يهابونه، ويكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يبالون، يتنصلون من مسؤولياتهم، ويهربون من واجبات الحياة باسم الدين، ويستحلّون الكذب، ويستبيحون الافتراء على الله والناس.
وبذلك، ينزل المسلمون إلى الدرك الأسفل من التخلف والانحطاط، ولا يبقى أي أمل في النهوض بهم بعد أبداً، وذلك بالذات، هو ما يتمناه أعداء الإسلام ويودون وقوعه. (2)
محمد كنوني المذكوري ( 1398 هـ)
__________
(1) النور الآية (19).
(2) جماعة التبليغ (ص.37-39).(1/56)
محمد بن محمد بن العربي كنوني المذكوري، الفقيه العلامة. كان رحمه الله عضواً بارزاً في الأمانة العامّة لرابطة علماء المغرب، له مجموعة فتاوى نشرت في جريدة 'الميثاق' لسان رابطة علماء المغرب، ثم طبعت مستقلة. وقد قال الشيخ عبدالله كنون في تقريظه لها: والآن يقوم بهذه المهمة -أي الفتوى- فضيلة الفقيه العلامة الحاج محمد كنوني المذكوري الذي أبدى كفاءة ومقدرة عديمتي النظير في هذا الباب مع غاية التثبت وعدم الاندفاع في هذه الجهة أو تلك بمجرد الرغبة في الخلاف أو إرادة الشهرة؛ كما يقال: خالف تعرف. بل إن دافعه إحقاق الحق وبذل الجهد في إصابة حكم الله في المسألة من غير تعصب ولا تحامل، وفتاواه المنشورة في هذه المجموعة؛ وهي الدفعة الأولى دليل على ذلك، فالله يديم توفيقه وتسديده ويطيل بقاءه في صحة وعافية للنفع وخدمة العلم بهذه الروح العالية والهمة الصادقة، إنه تعالى سميع مجيب.
توفي رحمه الله ليلة الجمعة لست وعشرين خلون من شهر محرّم سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة بمدينة الدار البيضاء.
موقفه من المبتدعة:
له رسالة الفتاوى أبدى فيها مؤلفها نصاعة المنهاج الذي يجب على المسلمين أن يسيروا عليه، ألا وهو التمسك بالدليل مع الاسترشاد بفهم السلف رحمهم الله. (1)
__________
(1) وزيّنها تقديم الأمين العام لرابطة علماء المغرب عبدالله كنون الذي حثّ الفقهاء في مقدمته على وجوب إرداف الفتوى بدليل من الكتاب والسنة والابتعاد عن التقليد.(1/57)
- قال المذكوري في مقدمة فتاواه: وقد سلكت في ذلك سلوك الاستدلال بكتاب الله تعالى، وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بكلام الفقهاء بعد ذلك، بعد مقابلته بالأصول المبني عليها، إذ من المعلوم المقرر من أقواله وأفعاله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - أن ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، هو هذان الأصلان الأولان للتشريع الإسلامي، فكيف يمكن إذن للمسلم أن يدع هذين الأصلين الصحيحين إلى أقوال البشر المعرضة للخطإ، وكيف يمكن لأهل العلم أن ينفر بعضهم ممن يدعو إلى العمل بكتاب الله الكريم وبالسنة المطهرة ويسلك السبيل الذي أراده بعض الإخوان من الفقهاء حيث انتقدوا هذا السلوك الذي يخالف رغبتهم في التقيّد بالتقليد الأعمى المحرّم كتاباً وسنة، وطالما أقنعناهم بأن يراجعوا الأصول التي بنى عليها الفقهاء الكبار رحمة الله عليهم مذاهبهم، فإن وجدوا الفروع موافقة لأصولها فذاك، وإلا فالرجوع إلى الأصل والصواب أفضل من التمادي على الباطل، ولكنهم لم يقتنعوا بحجة ذلك التقليد، ويزداد العجب عندما نجد أن بعض الإخوان لازالوا يسيرون في نفس هذا الاتجاه ولو كان مخالفاً للمصدرين المذكورين أو لأحدهما حتى صار الناس فرقاً مختلفة متناحرين، مع أن دستورهم الخالد هو كتاب الله القائل: وَأَنِ { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (50) (1) ،
__________
(1) المائدة الآيتان (49و50)..(1/58)
والقائل: ثُمَّ { جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (18) (1) ، والقائل: فَإِنْ { لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } (2) الآية، كما أن حديث رسولهم - صلى الله عليه وسلم - واحد، وهو المبيّن لكتاب الله كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا { إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ } إِلَيْهِمْ (3) .
إلى أن قال: ولذلك فإننا ندعو على سبيل الذكرى التي تنفع المؤمنين جميع إخواننا المسلمين إلى مراجعة ما هم عليه من هذا التقليد بحيث يعرضون أعمالهم وسلوكهم على كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وعلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعلى ما استخرجه السادات العلماء رحمهم الله من ذلك.
ومن أجل هذا وشبهه، اقترح علينا بعض إخواننا من أهل العلم وبعض المنتسبين للسنة المطهرة والعاملين بها من الطلبة وغيرهم، طبع هاته الأجوبة عسى أن يسترشد بها أصحاب العقول النيرة ويهتدي بها من هم في حيرة والتباس فأسعفت طلبهم رجاء ثواب الله تعالى. (4)
__________
(1) الجاثية الآية (18).
(2) القصص الآية (50).
(3) النحل الآية (44).
(4) الفتاوى (ص.7-9).(1/59)
- وقال رحمه الله ناصحاً الدعاة إلى الله: ومما ينبغي له أيضاً، بل يجب، هو اهتمامه بمسألة العقيدة، فهي أهم كل شيء، ولاسيما وقد انهارت من قلوب الكثير من الناس كما وقع لبعض الشباب الصاعد بسبب أنه لم يدرسها أصلاً أو درسها دراسة غير كافية أو منحرفة، أو كما وقع لبعض الشباب البريء، وكثير من الشيوخ والنساء والكهول، حيث يعتقدون اعتقادات ضالة لا يقرها ديننا الحنيف، ومن أجل هذه العقيدة، بعث الله الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، إلى أقوامهم ليعبدوا الله مخلصين له الدين، صارخين فيهم: مَا { لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ } غَيْرُهُ وكلنا نعلم ما وصلت إليه عقيدة الشعوب من عبادة القبور والقباب، مما تضيق من ذكره الصدور، ومن أعجب ما يستغرب، أن هذا القرآن الكريم، وإن كان مرّ على نزوله أربعة عشر قرناً، وهو يقرأ في كلّ وقت وحين، مندّداً ببطلان علة عابد الأصنام حيث قالوا: مَا { نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ } زُلْفَى (1) قلت: ومع تكرارها بالألسنة، وعلى الآذان والعقول والأفهام، لازال عباد القبور والقباب، يتعللون بتلك العلة، فقد امتزجت بقلوبهم وعقولهم، ولذلك فاستئصالها من عقولهم أمر عسير، يحتاج إلى عناء كبير وحكمة وتبصّر، وخبرة باقتلاع جذورها من صدورهم، إذ ليست مرضاً كالأمراض العاديّة التي تعالج بالحبوب أو السوائل أو المسكنات، بل تحتاج إلى عملية جراحية، وأطباء ماهرين في اقتلاع ذلك بحكمة وأناة وصبر، وأنتم أيها العلماء والمرشدون وأمثالكم، هم الصالحون لإزالة ذلك المرض، فهيئوا لذلك نفوسكم، وسووا لها صفوفكم ووحدوا خطتكم ومعكم الله ورسوله والمؤمنون، وَلَقَدْ { سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (173) (2) ،
__________
(1) الزمر الآية (3).
(2) الصافات الآيات (171-173)..(1/60)
ومما ينبغي له كذلك، أن يقتصر على موضوع واحد بحيث يستحضر عناصره وأصوله، ويحلله تحليلاً سهلاً مبسطاً مع ضرب الأمثال ما استطاع، بحيث يتحدث إلى القلوب، فتنجذب إليه قبل الآذان، وأن يتجنب الألفاظ القاسية الشديدة التي ينفر منها الطبع ولا يستلذها الإحساس والسمع، فصاحبها كالطبيب اللبيب يستعمل لمريضه الدواء المر واللسان الحلو، ومما ينبغي له الاقتصار على الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، وما أكثرهما ولله الحمد، ففيهما كل كفاية، وذلك مخافة أن تحدثهم بالحديث الضعيف، فيسألوا غيرك، وما أكثر هذا الصنف من الناس، فإذا ما أخبرهم بضعفه، فإن هذا الضعف يشملك أنت أيضاً فيصير الكلّ ضعيفاً فترتفع الثقة منك وعدم الاطمئنان إليك، فحذار حذار. (1)
__________
(1) الفتاوى (ص.88-90).(1/61)
وقال رحمه الله بعد ذكر قول الأئمة في نبذ التقليد: فهذه أقوالهم وأفعالهم، وهم قادة الأمة وسادتها، فليتأمل المتأمل المنصف ذلك وليقس عليه أفعال الناس اليوم وأقوالهم من ملازمتهم لهذا التقليد الأعمى حتى ولو خالف الكتاب والسنة، وهذا الشيء عشناه وشاهدناه، ولم نجد أيام دراستنا إلا مثل هذا التقليد، إلى أن قيّض الله تعالى لهذا الشعب المغربيّ النبيل أحد أبنائه البررة الإمام شيخنا وشيخ الإسلام المحدث الحافظ، أبا شعيب الدكالي رحمه الله وجزاه خير ما يجازي به كل مصلح، فقد كانت دروسه برداً وسلاماً على قلوب المنتبهين والحائرين وجحيماً على المقلدين الجامدين، حيث حمل على البدعة والتقليد، وندّد بأصحابهما أيما تنديد، فانبثقت من درسه عدة دروس، اشتاقت لسماعها الكثير من النفوس، وخفقت أعلام السنة في المدن والبوادي وغنّى لها كل من الرائح والغادي، وأدبرت فلول البدعة تتعثر في أثواب الخجل والوجل، وتمت كلمة الله عز وجل، فله على هذا الشعب الفضل العظيم، وسيلقى جزاء ذلك عند الله الغفور الرحيم، فزالت بذلك عن كثير من القلوب الغباوة، وعن أعين الكثير الغشاوة، فالواجب على من بيدهم مقاليد أمور المسلمين أن يسعوا لجمع كل من فيه أهلية المجتهد أو حتى نصف المجتهد على القول به، لينظروا أو يسيروا في هذا الطريق السويّ بدافع الضرورة، أو لما حدث ويحدث في جميع بلاد الإسلام من وقائع ومستحدثات. (1)
وقال في تقريظه لرسالة ابن تاويت التطواني حول البناء على القبور والصلاة إليها: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. أما بعد:
__________
(1) الفتاوى (ص.187-188).(1/62)
فقد راجعت ما كتبه وحرره فضيلة الفقيه العلامة أحمد بن محمد بن تاويت التطواني في رسالته المسماة 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور والصلاة بالزوايا'؛ رادا فيها على من أجاز ذلك معتمدا على قول الشيخ خليل والمدونة أولا، وسكوت علماء فاس على تنبيه الناس على صحة صلاتهم بضريح المولى إدريس وغيره ثانيا.
ولقد أجاد حفظه الله وأتى بالنصوص المستمدة من الينبوع الصافي السلسبيل؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يشفي الغليل ويبرئ العليل.
وأسمع لو نادى حيا ... ولكن لا حياة لمن يُنادي
ِqs9ur { عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } (1) إذ التقليد الأعمى سرى في أمزجتهم وعقولهم، وامتزج بدمهم ولحمهم، فلا تنفع فيهم أدلة الكتاب الكريم ولا سنة رسوله، ولا أقوال وأفعال الخلفاء الراشدين، ولا العشرة المبشرين بالجنة، ولا سائر الصحابة والتابعين وأتباعهم الذين هم خير القرون بشهادته - صلى الله عليه وسلم - .
هذا، وإنني كنت سئلت عن مثل ما جاء في الرسالة المذكورة من بعض النواحي، فأجبت بمثل ما أتى في هاته الرسالة، كما أنني كنت أقرر ذلك غير ما مرة سواء في الدروس أو في المجتمعات. ومع ذلك لا زالوا نائمين وعن التذركة معرضين، ثم إنه كيف يعقل أن يترك كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعصوم من الخطإ؛ وفعله وتقريره إلى قول فلان وسكوت فلان وفلان؟ وهل يتصور أن يرجح سكوت العلماء، ويرمى بما نطق به هذا الرسول الكريم وطبقه في أقواله وأفعاله، ويضرب بذلك كله عرض الحائط؟ رَبَّنَا { لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } (8) (2) .
__________
(1) الأنفال الآية (23).
(2) آل عمران الآية (8).(1/63)
ثم هل هذا منهم يعد عنادا وتحديا لكلام الله تعالى في قوله: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) وفي قوله: لَقَدْ { كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ } الْآَخِرَ (2) وفي قوله: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (3) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث؟ فإن كان الأمر كذلك فإني أخشى عليهم من قول الله تعالى كما في سورة المجادلة: إِنَّ { الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } (4) إلخ. وفيها أيضا: إِنَّ { الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } (20) (5) إلخ. وقد تكرر نهي الله تعالى في كثير من آيات كتابه عن التقليد. ففي سورة البقرة: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (170) (6) وفي سورة المائدة: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (104) (7) وفي سورة لقمان: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } (21) (8)
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) الأحزاب الآية (21).
(3) النور الآية (63).
(4) المجادلة الآية (5).
(5) المجادلة الآية (20).
(6) البقرة الآية (170).
(7) المائدة الآية (104).
(8) لقمان الآية (21)..(1/64)
وفي سورة الزخرف: بَلْ { قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (25) (1) إلى غير ذلك.
__________
(1) الزخرف الآيات (22-25).(1/65)
ونحن من جهتنا لا نحب أن نثير هنا الجدال والإكثار من قيل وقال. فالصبح واضح لكل ذي عينين، وإنما نقول لهم: ارجعوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، فهما الأصلان الأولان لهذا التشريع الإسلامي الحكيم؛ الصالح لكل زمان ومكان وشخص. إذ فيهما من الأسرار الإلهية ما هو كفيل بإسعاد البشرية، وفيهما ما بينه رسول الله عليه السلام، امتثالا لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا { إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) (1) ومن جملة ما بينه شروط سائر العبادات؛ فمن أداها بشروطها فقد امتثل الأمر، ومن لم يطبقها فلا عبادة له؛ إذ من المعلوم أن الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. ففي الصلاة مثلا بينها بأقواله وطبقها بأفعاله وأكد ذلك قائلا: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2) ، ومن جملة أقواله النهي عن الصلاة في المقابر كما وضحه صاحب الرسالة، وفي الصوم قال: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" (3) ، وفي الحج: "خذو عني مناسككم" (4) ، وأكد ذلك بفعله إلخ.
__________
(1) النحل الآية (44).
(2) أخرجه أحمد (5/53) والبخاري (2/142/631) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) رواه ابن ماجة (1/539/1690) والنسائي في الكبرى (2/239/3249) من حديث أبي هريرة. وصححه الحاكم (1/431) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وابن خزيمة (3/242/1997).
(4) أحمد (3/301) ومسلم (2/405/1970) والترمذي (3/234/886) والنسائي (5/298/3062) وابن ماجه (2/1006/3023).(1/66)
والله تعالى لما كرر المحافظة على الصلاة فقال في سورة البقرة: حَافِظُوا { عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ } الْوُسْطَى (1) إلخ. وفي الأنعام: وَهُمْ { عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (92) (2) وفي سورة المؤمنون: وَالَّذِينَ { هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (9) (3) وإني لأتعجب كثيرا لهذا المصلي المسكين الذي يتعب نفسه في استعمال الطهارة، وفي خروجه إلى الصلوات ولكن يوقعها وهو مخالف لأوامر ربه في قوله: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (4) ومخالف لنهي نبيه كما جاء في أحاديث تلك الرسالة.
هذه نصيحتنا لإخواننا المسلمين، إذ نحن ملزمون بأدائها عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الدين النصيحة" (5) وعملا بقوله تعالى: وَالْعَصْرِ { (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } (3) (6) ونحن نرجو الله تعالى أن لا نكون نحن ولا هم من الخاسرين. هذا ما يتعلق بالصلاة على القبور قدمتها لأهميتها. أما البناء على القبور سنقول فيه ما قلنا في شأن الصلاة، إذ كل ذلك مخالف للشرع، كما قاله وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما هو مبين كذلك في الرسالة المشار إليها، فلا داعي للتطويل بجلب الأولى على ذلك، والاستدلال فَمَاذَا { بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } (7) .
كما له فتاوى في بدعية رفع الصوت وراء الجنائز، وبدعية قراءة القرآن جماعة وغيرها.
موقفه من المشركين:
__________
(1) البقرة الآية (238).
(2) الأنعام الآية (92).
(3) المؤمنون الآية (9).
(4) الحشر الآية (7).
(5) أخرجه من حديث تميم الداري: أحمد (4/102) ومسلم (1/74/55) وأبو داود (5/233-234/4944) والنسائي (7/176-177/4208و4209).
(6) سورة العصر.
(7) يونس الآية (32).(1/67)
- له رحمه الله 'التحريف والتدجيل في كتابي التوراة والإنجيل' بيّن فيه ما وقع من التحريف في التوراة والإنجيل وأنهما لم يبقيا على أصلهما الصحيح. وهذا الأمر أوضح من أين يذكر، فإن الله جلّ وعلا قد ذكره في كتابه، ومع ذلك نجد من يشكّ أو يشكّك في ذلك، فيدعو الناس إلى التقارب المزعوم بين الأديان السماوية، وكأنها لا زالت على ما كانت عليه، فلينتبه العاقل لهذا!.
موقفه من الصوفية:
قال: أما ما ذكره السائل من ذلك الرقص الفظيع والتلفظ بقولهم: "هي الله" فذاك شيء شنيع، فتبّاً له من تعبير، وتعالى الله عن فحش ذلك الضمير، أفلا يخشى الإنسان من هذا، والله تعالى يقول: قُلْ { هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } (65) (1) ، وقال: ذَلِكَ { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (62) (2) إلخ.
فكيف إذاً يحصل الخشوع الذي يظنه السائل، وهم على الحالة الموصوفة، بل ذلك شيء آخر أصون القلم عن تسطيره، وخير لهم كذلك أن يجتمعوا على ذكر الله تعالى، ولاسيما بالأذكار الواردة عن الرسول عليه السلام. (3)
مبارك بن عبدالمحسن بن باز (4) (أواخر القرن الرابع عشر الهجري)
الشيخ مبارك بن عبدالمحسن بن باز. ولد في بلدة الحلوة سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، ونشأ فيها. قرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ إسحاق بن عبدالرحمن والشيخ إبراهيم بن عبداللطيف والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ وغيرهم.
__________
(1) الأنعام الآية (65).
(2) الحج الآية (62).
(3) الفتاوى (ص.118-119).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/425-426).(1/68)
كان والده هو قاضي بلدة الحلوة، فلما توفي تولى القضاء بعده، ثم تقلب في قضاء عدة بلدان آخرها قضاء مقاطعة الشعيب. كان رحمه الله أحد العلماء الذين بعثهم الإمام عبدالعزيز بن سعود لمناظرة علماء مكة في مسائل التوحيد. توفي رحمه الله في بلدة الحلوة في آخر القرن الرابع عشر الهجري.
موقفه من المشركين:
جاء في علماء نجد: ولما تولى الإمام عبدالعزيز بن سعود على الحجاز عينه قاضيا في الطائف، وهو أحد وفد العلماء الذين بعثهم الإمام عبدالعزيز ابن سعود ليناظروا علماء مكة في مسائل تتعلق بتحقيق التوحيد، وهذا قبل ولاية الإمام عبدالعزيز بن سعود عليها، فاجتمعوا بهم وناظروهم، وظهر الحق بالجانب السعودي النجدي. (1)
محمد أسلم الباكستاني (حوالي 1400 هـ)
الشيخ محمد أسلم عرفته طالبا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية وكان رحمه الله من الطلبة المحبين لمنهج السلف وتخرج من الجامعة الإسلامية، وذهب داعية إلى كندا، وكان مجتهدا في الدعوة إلى الله، ويعتبر أول من كتب عن جماعة التبليغ، وكان كتابه دراسة على جماعة التبليغ، تقدم به لنيل الإجازة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية، وهو بعنوان 'جماعة التبليغ عقائدها وأفكارها ومشايخها'. وكان هذا الكتاب أصلا لكل كاتب على هذه الجماعة في بيان ضلالاتها وخرافاتها وعداوتها للمنهاج السلفي. وهو الذي اعتمده شيخنا الهلالي رحمه الله في كتابه السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ على أخطائهم.
مات رحمه الله مقتولا في كندا على يد جماعة أثيمة عاملها الله بما تستحق.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) علماء نجد (5/426).(1/69)
قال رحمه الله في معرض رده على الديوبندي شيخ طائفة التبليغ: "استدلاله بالآية المحرفة": كل واحد يعرف الشيخ محمود حسن ديوبندي "يسمونه شيخ الهند" الذي كتب كتاب 'إيضاح الأدلة' ردا على عالم سلفي استدل على رد التقليد بآية: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (59) (1) . فقام الشيخ محمود حسن فرد على العالم المذكور، واستشهد بنفس الآية على ادعائه، لكن زاد فيها: ((وإلى أولي الأمر منكم)) زاعما أن هذا من الآية، مع أنه ليس من الآية. ثم قال: هذا هو السبب لقوله تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ ((وإلى أولي الأمر منكم..)) والظاهر أن (أولي الأمر) في الآية غير الأنبياء، فانظر إلى الآية يتضح بها أن الأنبياء وأولي الأمر كلهم يجب اتباعهم. -ثم بدأ معترضا- أنك قد عرفت: فَرُدُّوهُ { إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } ، ولم تعرف إلى الآن أن القرآن الذي وجدت فيه هذه الآية [توجد فيه الآية] المذكورة التي استدللت بها، وليس بعجيب أن ترى التعارض بين الآيتين جهد عادتك، فنفتي بأن تكون إحداهما ناسخة والأخرى منسوخة. انتهى
ويثار السؤال على هذا الاستدلال بأن الآية الثانية التي زاد فيها الشيخ محمود حسن الديوبندي واستدل بها في أي جزء من القرآن وفي أي مصحف؟! وقد نشر الكتاب باسم الشيخ محمود حسن، والأغلب أنه نشر في قيد حياته وقرأه تلامذته من العلماء والمشايخ، ومن الديوبنديين وجماعة التبليغ، فهل وفق أحدهم أن يصلح هذه الهفوة "التحريف"؟. (2)
__________
(1) النساء الآبة (59).
(2) السراج المنير لتقي الدين الهلالي (ص.54-55).(1/70)
-وقال في ترجمة أحد شيوخ جماعة التبليغ -الشيخ محمد يوسف البنوري الحنفي الديوبندي الجشتي-: إنه من شيوخ جماعة التبليغ، وحكي عنه خرافات كثيرة من مكالمة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ومن ذلك: أنه يؤيد ابن عربي الحاتمي القائل بوحدة الوجود،كما أنشد في كتاب الفتوحات المكية من شعره، بل من بعره:
العبد رب والرب عبد إن قلت عبد فذاك حق ... يا ليت شعري من المكلف أو قلت رب أنى يكلف
وقال فيه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في داليته المشهورة التي مدح بها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله تعالى:
وأكفر أهل الأرض من ظن أنه مسماه كل الكائنات بأسرها ... إله تعالى الله جل عن الند من الكلب والخنزير والفهد والقرد (1)
عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر (2) (1401 هـ)
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر بن محمد بن جاسر، ولد في شهر محرم سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف في بلد أشيقر، ونشأ بها وطلب العلم، فلازم الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى ملازمة تامة دامت ست عشرة سنة، وقرأ عليه كتبا كثيرة في التوحيد والنحو والفقه والحديث والتفسير، كما أخذ عن الشيخ العالم محمد الطيب الأنصاري المدني. تولى القضاء بالمستعجلة بمكة سنة خمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم بالطائف ثم بالمدينة النبوية، فمكث بها سبع سنين، ثم صار رئيسا لمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضوا في مجلس القضاء.
توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعمائة وألف، وصلي عليه في المسجد الحرام بمكة المكرمة.
موقفه من الجهمية:
له: 'تنبيه النبيه والغبي فيما التبس على الشيخ المغربي'.
رد فيها على شيخ مغربي أنكر تكليم الله لموسى، وزعم أن جبريل عليه الصلاة والسلام إنما أظهر لموسى كلام الله من اللوح المحفوظ. (3)
__________
(1) السراج المنير (ص.80).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/193-199).
(3) علماء نجد (4/196).(1/71)
عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن حميد (1) (1402 هـ)
الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حميد، من آل حسين بن عثمان. ولد في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، في بلدة معكال من الرياض، وكف بصره في طفولته، وطلب العلم، فأخذ عن مشايخ كبار أمثال الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ سعد بن عتيق والشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وغيرهم. عين قاضيا في الرياض، ثم نقل إلى قضاء مقاطعة سدير، ثم إلى مقاطعة قصيم، ثم عين رئيسا للرئاسة العامة للإشراف الديني على المسجد الحرام، ثم رئيسا لمجلس القضاء.
لازم الشيخ محمد بن إبراهيم ملازمة تامة، فأصبح من كبار علماء الإسلام، وكان ولاة الأمور يجلونه ويعظمونه لسعة علمه، حتى قال في حقه الملك عبدالعزيز آل سعود: لو كنت جاعلا القضاء والإمارة جميعا في يد رجل واحد، لكان ذلك هو الشيخ عبدالله بن حميد.
قال الشيخ عبدالله البسام: شخصية سماحة الشيخ عبدالله تتميز بعدة صفات يصعب إجمالها، فإذا أردنا أن نعدد صفاته ومميزاته لاحتجنا لعدة مؤلفات فهو كبير في أشياء كثيرة، كبير في شخصيته وعلمه الغزير فهو يتميز عن الآخرين بعدة صفات وسمات تجعله مميزا عن غيره، فهو يتميز بالذكاء والدهاء والعقل الحكيم وقوة الرزانة وغير ذلك من الصفات العديدة التي كنت أدعو الله عز وجل أن أحصل على أية صفة منها.
كان رحمه الله حاد الذكاء، جيد الفهم، واسع الاطلاع، ما زال خادما للعلم حتى توفي سنة اثنتين وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'الدعوة إلى الجهاد في الكتاب والسنة'.
2- 'كمال الشريعة وشمولها لكل ما يحتاجه البشر'.
3- 'دفاع عن الإسلام'. (2) وغيرها.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/431-445) وإتحاف النبلاء (1/161-169).
(2) علماء نجد (4/440).(1/72)
جاء في علماء نجد خلال ثمانية قرون: رزقه الله بصيرة نافذة، يعرف الدعاة الحقيقيين الناصحين المخلصين، بحيث يميزهم من أهل التمويه والخداع، لا يمكن أن يُستغفل، فهو كيّس فطِن، يزوره الكثير من أهل العلم، وممن ينتسبون إلى جمعيات وأحزاب من الشرق والغرب، فيتعرف المصيبَ من غيره.
وكان يرى اتحاد المسلمين هو العلاج الوحيد لنصرة المسلمين، وأن الإسلام ليس فيه تحزب ولا تفرق، وهو بهذه النظرة البعيدة نال إعجاب المسلمين عامة، وثقة شعب المملكة خاصة.
وكان يحرص على توجيه الشباب ونصحهم بالتعقل والرزانة، فالشباب في الغالب تكون عندهم عجلة، وعدم تفكير في العواقب، مع حبهم للخير، وحرصهم على الدعوة إلى الله، فكان رحمه الله يشجعهم، ولكنه ينصحهم بالتثبت والهدوء، وعدم العجلة، ويحذرهم من التهور، ويحثّهم على الاستقامة، والتأدب بآداب العلماء، وينصحهم بسلوك العلماء، وعلى ألا يأخذوا العلم إلا عن أهله المعروفين، وألا يأخذوه عن الجهال والأدعياء.
وكان رحمه الله يكره الفتن، ويكره إثارتها، ويجعل قاعدة: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح" نصب عينيه. (1)
يوسف بن عبدالمحسن أبا بطين (2) (1403 هـ)
الشيخ يوسف بن عبدالمحسن بن إبراهيم بن عبدالعزيز أبا بطين، ولد في الزبير سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن والده الشيخ عبدالمحسن أبا بطين والشيخ محمد بن سند وغيرهما. له مؤلفات تدل على تمكنه وسعة اطلاعه.
توفي رحمه الله في بلده الزبير سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة.
موقفه من الخوارج:
جاء في كتاب علماء نجد (3) : ألف كتابا بين فيه مذهب الخوارج، وفساد عقيدتهم ورد عليهم رد العالم المتمكن، وقد طبع الكتاب وحصلت منه الفائدة.
أحمد الخريصي (بعد 1403 هـ)
__________
(1) علماء نجد (4/438-439).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/507-508).
(3) علماء نجد (6/507-508).(1/73)
تخرج من كلية القرويين قديما، ومن دار الحديث الحسنية بالرباط، وكان أستاذا بالمعهد العلمي بمكناس، وانخرط في سلك العدلية، واشتغل لمدة سنتين مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ابتداء من إحدى وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله متعقبا على ما كتبه أحمد بن المواز في مشروعية الاحتفال بالمولد: (الأعياد الشرعية اثنان لا ثالث لهما. وبالنسبة للنص الثاني:
1- فقول أحمد بن المواز: "أن أول من احتفل بالمولد في المغرب أبو يعقوب المريني"، يرد بأن قرار أبي يعقوب المريني لا يضفي صفة المشروعية على الاحتفال بالمولد النبوي، إذ الاحتفال ليس بمصلحة دنيوية تدخل في نطاق الدليل المرسل الملائم لتصرفات الشرع، بحيث يصح لولي الأمر البت فيه، وإنما هو عبادة يرجع في شأنها إلى التوقيف فلا عبادة إلا على أساس نص.
2- وقوله: "..وإلحاقه بأعياد المسلمين.." صريح في أن الاحتفال بالمولد النبوي تقرر بصفة رسمية عيدا ثالثا من أعياد المسلمين.
وهذا هو المعروف بمغربنا الأقصى إلى -الآن- يحتفلون بثلاثة أعياد: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد المولد النبوي يوم 12 من ربيع الأول. وهذا هو المعتقد لدى عامة الناس بما فيهم سلطة حاكمة وعلماء إلا الأقل من القليل يعرفه بدعة، ولكن لايستطيع أن يجهر بالحق لأنه مقيد بدافع من الدوافع مما أشار إليها الشوكاني أعلاه..
إن اعتقاد اليوم الثاني عشر من ربيع الأول كعيد ثالث؛ اعتقاد خاطئ لايستند إلى دليل، بل يعتبر اتخاذا لشرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان بما لم يخصه به الله، الشيء الذي يؤدي إلى وقوع ما وقع فيه أهل الكتاب..(1/74)
على أن النص على حصر الأعياد الشرعية في عيدين واضح لا يقبل التأويل، فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبان فيهما فقال: "أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر". أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح (1) .
إن الأعياد -كما قلنا أعلاه- شريعة من الشرائع يجب فيها الاتباع لا الابتداع، وما أكثر الأحداث، والوقائع والعهود والانتصارات التي مرت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلال إبلاغه الدعوة إلى الناس، وهي مذكورة في سيره ومغازيه - صلى الله عليه وسلم - .
مثل: غزوة بدر، وحنين، والخندق، وبيعة الرضوان، وفتح مكة، ووقت الهجرة ودخول المدينة.. إلى غير ذلك..
ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باتخاذ أيامها أعيادا، أو ذكريات، ولا فعلها خلفاؤه الراشدون، ولا الدول الإسلامية ذات القرون الثلاثة الأولى المفضلة...
وإنما يفعل مثل هذه الموالد النصارى، الذين يتخذون أيام أحداث عيسى عليه السلام أعيادا ..حتى أصبحت كل الدول الإسلامية وبعض الأفراد من شعوبها في عصرنا الحاضر تقلد أوروبا المسيحية في إقامة الأعياد للموالد والوقائع والأحداث..
وفي هذا المعنى ورد الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم"، قلنا: يا رسول الله؟ اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" (2) .
__________
(1) أخرجه: أحمد (3/250) وأبو داود (1/675/1134) والنسائي (3/199/1555) والحاكم (1/294) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي".
(2) أخرجه من حديث أبي سعيد: أحمد (3/84،89) والبخاري (13/371/7320) ومسلم (4/2054/2669).(1/75)
3- وقوله: "...وكان الاهتمام بذلك عند كثير من شيوخ التربية" بمقتضى أن المتصوفة هم الذين قرروا بدعة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لنفوذهم المعنوي على الجمهور..
4- وقوله: "..وكان عدد من الناس يحتفلون له في اليوم السابع من المولد لكونه يوم عقيقة مولانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأهل القصر الكبير ومن وافقهم..
يقتضي أن الاحتفال بيوم 12 من ربيع الأول لم يكن متفقا عليه بالمغرب الأقصى.. فها نحن نرى سكان القصر الكبير الذي كان أحد معاقل المتصوفة، وبقية الجهات التابعة له كانوا يحتفلون باليوم السابع، أي يوم الثامن عشر من ربيع الأول، الأمر الذي يؤكد مدى استيلاء الجهل على الناس، مما جعلهم منقادين لأهوائهم، وإيحاءات شياطينهم.. (1)
- وقال داحضا شبهة تعلق بها أصحاب الاحتفال بالمولد:" غير أنهم أجابوا: أنهم قصدوا بـ "الاحتفال" التعبير عن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي واجبة على كل مسلم؛ وجوبا مقدما على نفسه وولده ووالده والناس أجمعين..
ورد بأن ما قصدوه خطأ، وأن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي في الاتباع لا في الابتداع، وأن الاتباع المطلوب شرعا هو اتباع أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، وقد قال تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (80) (2) وقال عز من قائل: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (3) .
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.120-122).
(2) النساء الآية (80).
(3) آل عمران الآية (31).(1/76)
إن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تعبر عنها تلك المظاهر المزرية، التي تتجلى في المهرجانات التي تقام عادة بهذه المناسبة بين ساحات المدن والقرى الغاصة بحلقات أهل الفساد والبدع، والمتمثلة في قرع الطبول، ونفخ المزامير والأبواق، وشدخ الرؤوس، والضرب على الصدور والزعق، وشق الجيوب، والتشبه بالحيوانات الشاردة أو المفترسة من كل ما يفعله الجهلة الهمج.
كما لا تعبر عنها تلك الاحتفالات التي تقام في الأضرحة وبعض الأربطة التي أسسها الطرقيون، كمساجد للضرار تضايق المساجد المؤسسة على تقوى من الله، فتتلى فيها المدائح، والتلاوات بأصوات رخيمة عذبة وترنمات يتبارى فيها المنشدون بألبستهم الفضفاضة، ومماويلهم وتقاطيعهم الموسيقية..
كلا ..لا يعبر عن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا هذا ولا ذاك..وإنما الذي يقرره المسلم الغيور هو القول: بأن تلك المظاهر محادة لله ورسوله، وضرب من الخلف في مقتضيات كتاب الله وما جاء به محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه من محجة بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. (1)
- وقال: فنحن المسلمين اليوم أحوج ما كنا إلى إدراك العبرة من مولد الرسول عليه السلام لكن لا في نطاق حب الرسول المزعوم الذي يكتسي مظهرا مزريا يتجلى في تلك المهرجانات التي تقام عادة بهذه المناسبة بين ساحات المدن والقرى الغاصة بحلقات أهل الفساد والبدع والضلالات والتي لو بعث الرسول لتبرأ من إسلامهم المزعوم، ولا في نطاق الاحتفالات التي تقام في الأضرحة وبعض الزوايا فتتلى فيه القصص والمدائح النبوية بأصوات رخيمة عذبة يترنح لها عشاق الطرب والتي لا تعدو في الواقع حد المتعة والسلوى.
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (163-164).(1/77)
فهذه لايصح أن تكون تعبيرا عن حب الرسول إذ المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره لا يغنيه أبدا أن يترنم بعدة قصائد في الأمداح النبوية أو يستمع إليها ليس ذاك هو إكنان حب الرسول الذي ينبغي أن ندرك مغزاه...
ولكن حب الرسول هو أسمى من تلك القشور، وترك اللباب المهجور، فإن حب الرسول في الرجوع إلى اللباب: إلى كتاب الله واتباع سنته والعمل بروح شريعته، إلى سلوك المرء في تقويم نفسه وإصلاح شأنه في عباداته وعاداته إلى جمع كلمة المسلمين من أقصى الشرق إلى المحيط، وإلغاء الحواجز المصطنعة بين المسلمين.. المؤمنون إخوة في كل قارة لا جنسية في الإسلام لا أقلية في الإسلام لا جالية في الإسلام المؤمنون كتلة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم..
موقفه من الصوفية:
ألف رحمه الله كتابه 'المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي' تحدث فيه عن نشأة التصوف وتطورهم عبر التاريخ، وتسارعهم إلى البدع والمبتدعات، وإغراقهم في ذلك.
- قال رحمه الله ردّا على المتصوفة اختراعهم للمولد: إن من يفكر في أسباب هذه البدعة أو كيف لصقت بالمسلمين وأعاد بالذاكرة إلى الوراء مستعرضا عصور انحطاط المسلمين سوف لا يجد ذلك إلا من ابتكارات المتصوفة الذين دأبوا على إطلاق العنان لخيالاتهم في اختراع التوسلات والأذكار والتصليات، وإنشاء الأحزاب ودلائل الخيرات.. إلى غير ذلك من كل ما يشغل ويلهي عن كتاب الله تعالى، الأمر الذي يتعين معه القول: بأنه لا بلية أصابت المسلمين في عباداتهم وعقائدهم أخطر من بلية المتصوفة، إذ من بابهم دخلت على المسلمين تصورات ومفاهيم أجنبية غريبة، لا عهد لهم بها في ماضيهم النقي المجيد، ومن بابهم دخلت الوثنية، وبدعة إقامة الموالد ومواسم الأضرحة والمهرجانات على عقائد المسلمين مما سنقف على نماذج منها إن شاء الله تعالى. (1)
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.7).(1/78)
- وقال: وقد يأخذك العجب، وتستغرب أشد الاستغراب، إذا قلت لك: إن المتصوفة إذا ما أعوزهم الدليل فإنهم لا يتورعون أن يدعموا احتجاجهم على تبني الفكرة ولو بالرواية عن إبليس اللعين.
ولكن يزول استغرابك وتواجهك الحقيقة المرة، إذا أوقفتك على النص، خاصة وقد رواه زعيم متصوفة المتأخرين، ألا وهو أبو حامد الغزالي رحمه الله، وسجله في كتابه 'إحياء علوم الدين'.
فقد نص في كتاب العلم من إحياء علوم الدين تحت عنوان: (الباب السادس في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء) على ما يلي: "وحكي عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم، فرجعوا إليه محسورين، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء، ما نصيب منهم شيئا، وقد أتعبونا، فقال: إنكم لا تقدرون عليهم، قد صحبوا نبيهم، وشهدوا تنزيل ربهم، ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين، فقالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب، فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء لصحة توحيدهم، واتباعهم لسنة نبيهم، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم تلعبون بهم وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم، لم يستغفروا فيغفر لهم، ولا يتوبون، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال: فجاء بعد القرن الأول فبث فيهم الأهواء، وزين لهم البدع، فاستحلوها، واتخذوها دينا لا يستغفرون الله منها، ولا يتوبون عنها، فسلط الله عليهم الأعداء، وقادوهم حيث شاءوا".(1/79)
إن أبا حامد الغزالي -وكان ذكي الفؤاد- عندما وقع في المصيدة وأصبح مستهدفا للنقد اللاذع الذي استوجبه فقدان السند عن إبليس اللعين حاول التخلص بالجواب الآتي، ولكنه جواب بارد لا تسخنه إلا حرارة النقد كما يقول لدى مناقشته لمذهب الروافض وعقائدهم الباطلة: "في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف" ولنصغي إليه، وهو يتساءل ويجيب في العبارات التالية: "فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس وهو لم يشاهد إبليس، ولا اجتمع به، ولا حدثه بذلك؟.
فاعلم: أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت، تارة على سبيل الإلهام: بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون، وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة، وتارة في اليقظة، وعلى سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة، كما يكون في المنام، وهذا على درجات، وهي من درجات النبوة العالية، كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك، ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول فالجهل خير من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى (ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبياء، وكان خارجا عن الدين بالكلية). (1)
ثم استرسل الخريصي رحمه الله يرد هذا الهراء.
أبو عبدالله محمد أعظم بن فضل الدين الجوندلوي (2) (1405 هـ)
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.33-36).
(2) انظر كتاب كوكبة من أئمة الهدى للقريوتي (ص.21-36).(1/80)
الشيخ العلامة محمد أعظم بن فضل الدين، أبو عبدالله الجوندلوي، ولد في قرية "جوندلانوالا" بباكستان يوم الخميس في رمضان سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف. حفظ القرآن الكريم في صباه، ودرس على عدد من الشيوخ كالشيخ عبدالجبار الغزنوي والشيخ محمد حسين الهزاروي والشيخ عبدالمنان ابن شرف الدين الوزير آبادي وغيرهم. اعتنى رحمه الله بصحيح البخاري عناية كبيرة، حيث درسه أكثر من خمسين مرة، وكان شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية. وله تلاميذ كثيرون أخذوا عنه واستفادوا منه كالعلامة عبيدالله المباركفوري والشيخ محمد عطاء الله حنيف والحافظ عبدالله الفيروز فوري والشيخ أبي البركات أحمد المدراسي وغيرهم كثير. وله مؤلفات تدل على علو كعبه في العلوم.
توفي رحمه الله في الرابع عشر من رمضان لعام خمسة وأربعمائة وألف للهجرة وله تسعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
هذا الشيخ من القطر الهندي الذي أشرقت فيه شمس السنة يوم أن كان العالم الإسلامي يعيش في ظلام التقليد والجهل، وكان لهذا القطر من رجال حفظ الله بهم السنة النبوية والتراث النبوي، وقد استوفى ذكرهم في مؤلف خاص الشيخ الفاضل عبدالرحمن بن عبدالجبار الفريوائي، سماه 'جهود أهل الحديث في الهند' والكتاب مطبوع، وسأقتصر على نماذج منهم ممن عرفته اهتم كثيرا بالعقيدة السلفية، فهذا المعنون له منهم.
قال عبدالرحمن بن عبدالجبار في مسودة له في هذا الشيخ: كان الشيخ سلفي المنهج والاعتقاد، على طريق أهل السنة والحديث، وكان شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية كما يرى من مصنفاته.
وقال في موضع آخر: واشتغل في هذه الرحلة بكتب الجهابذة المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الرشيد ابن القيم. ثم ذكر من آثاره العقائدية:
1- 'رسالة في ختم النبوة' رد فيها على القاديانية.
2- 'إثبات التوحيد' رد فيه على مؤلف لأحد النصارى اسمه إثبات التثليت.
3- 'تحفة الإخوان في الكلام والعقائد'.(1/81)
4- 'رسالة في رد حسن القصد في عمل المولد للسيوطي'.
5- 'رسالة في الرد على منكري الحديث'.
6- 'كتاب في الرد على النصرانية'.
7- 'الإصلاح في الرد على أهل البدع'.
8- 'زبدة البيان في تنقيح حقيقة الإيمان وتحقيق زيادته والنقصان'.
تقي الدين الهلالي (1) (1406 هـ)
شيخنا الإمام محمد تقي الدين الهلالي الحسني السجلماسي، الداعية إلى التوحيد، الناشر للسنة، نفع الله بدعوته أهل المشرق والمغرب. ولد سنة إحدى عشر وثلاثمائة وألف بالفيضة القديمة وتسمى "الفرخ" من أرض سجلماسة المعروفة بتافيلالت من بلاد المغرب. قرأ القرآن على جده ووالده، فحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة. رحل طالبا للعلم إلى كل من القاهرة والهند والعراق ثم إلى المملكة العربية السعودية، حيث عين مراقبا للمدرسين مدة سنتين، ثم مدرسا في المسجد الحرام والمعهد السعودي لمدة سنة. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف هجرية حصل على رسالة الدكتوراه في ترجمة 'مقدمة كتاب الجماهير في الجواهر' للبيروني، مع التعليق عليها. وفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة توجه الشيخ إلى الحج، فالتقى بالعلامة عبدالعزيز بن باز، فعين أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبقي فيها إلى سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
كان لدعوته المباركة الأثر الكبير في الهند، وفي العراق، وفي أوربا عموما، وأما المغرب فنور دعوته أشرق في كثير من مدن المغرب وقراه، ونحن -بحمد الله- من ثمرة دعوته. عرفته في صغر سني، وتتلمذت عليه، وقرأت عليه النحو والحديث واللغة والعقيدة والفقه. وكان فحلا لا يجارى، فشعره يحاكي الأقدمين، ولغته كأنه رضع العربية من ثدي أمه.
__________
(1) مقدمة كتابه سبيل الرشاد في هدي خير العباد بقلم عمر بن محمد بن محسن (1/13-18).(1/82)
وأما مواقفه الصادقة فتذكرنا بمواقف كبار أئمة السلف، وقد استمر في دعوته التي تتصف بالصدق والأمانة إلى أن لقي ربه سنة ست وأربعمائة وألف للهجرة، عليه رحمة الله. وقد ترك مؤلفات تدل على منهاجه القويم منها: 'سبيل الرشاد' و'حكم تارك الصلاة' و'الصبح السافر في حكم صلاة المسافر' و'الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق' وكتاب 'الدعوة إلى الله' و'القاضي العدل في حكم البناء على القبور' نشر في المنار لمحمد رشيد رضا، وغيرها كثير.
موقفه من المبتدعة:
موقفه من بدعة قراءة القرآن على الأموات:(1/83)
- قال محمد تقي الدين عقب حديث ابن عباس في القبرين اللذين مر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنهما يعذبان (1) : ولو كانت قراءة القرآن للأموات مشروعة ونافعة لقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من القرآن وجعل ثوابه لهما، ولاقتدى به أصحابه ففعلوا مثل ذلك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور القبور كثيرا ولم يقرأ على أهلها شيئا من القرآن، مع أن قراءته لا حَدَّ لثوابها، بل كان يدعو لهم ويعلم أصحابه إذا رأوا القبور ذلك الدعاء (2) كما يعلمهم السورة من القرآن، وقد تقدم لفظه. ومن الأدلة على أن قراءة القرآن وجعل ثوابها غير مشروعة، حديث أبي هريرة المتقدم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث من ولد صالح يدعو له" الحديث (3) ، ولم يقل: يقرأ عليه القرآن أو ادعوا المتأكلين بالقرآن ويعطيهم أجرة ليقرؤوا ختمة من القرآن ويجعلوا ثوابها لوالده كما يفعل أهل هذا الزمان الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. (4)
__________
(1) أخرجه أحمد (1/255) والبخاري (1/427/218) ومسلم (1/240-241/292) وأبو داود (1/25-26/20) والترمذي (1/102/70) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (4/412/2068) وابن ماجه (1/125/347).
(2) أحمد (5/353،359-360) ومسلم (2/671/975) والنسائي (4/399/2039) وابن ماجه (1/494/1547) من حديث بريدة.
(3) أحمد (2/372) ومسلم (3/1255/1631) وأبو داود (3/300/2880) والترمذي (3/660/1376) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/561-562/3653) وابن ماجه (1/88-89/242) بلفظ آخر أتم.
(4) سبيل الرشاد (6/160-161)(1/84)
- وقال: من عجائب ما يقع في المغرب وينسب إلى الإسلام، والإسلام بريء منه، شيء يسمونه الفدية وهو شائع عند الجهلة، يدعو أولياء الميت جماعة من البطالين المحتالين ليعملوا لهم "فدية" للميت تنقذه من العذاب وتجعله من أهل الجنة! فإذا كان قبره حفرة من النار ينقلب في الحين روضة من رياض الجنة، وذلك أن أولئك البطالين يذكرون لا إله إلا الله سبعين ألف مرة، يتقاسمون العدد فيما بينهم، كل واحد بضعة آلاف، فيطعمهم ذلك المسكين، ويعطي كل واحد منهم شيئا من الدراهم يأكلها سحتا، قال الله تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (254) (1) .اهـ (2)
وله قصيدة في خمسة وتسعين بيتا في ذم من عارض القرآن والسنة:
منها:
ومن يَقْل سنات الرسول فإنه ... يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر
ويسأله فيه نكير ومنكر ... وما من جواب عنده غير لا أدري
وذي سنة الجبار في كل من غدا ... يحارب دين الله في السر والجهر
ألم تدر أن الله ناصر دينه ... وموقع أهل البغي في داره الخسر
وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره ... بكيد فرد الله كيده في النحر
وتنصر إشراكا وفسقا وبدعة ... وناصر هذي خاسر أبد الدهر
دعا المصطفى قدما عليه بلعنة ... ومن يلعن المختار فهو إلى شر
وتلعنه الأملاك من فوق سبعة ... كذلك أهل الأرض في السهل والوعر
ومنها:
وما نحن إلا خادمون لسنة ... أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر
وخادم سنات الرسول حياته ... كخادمها من بعد ما صار في القبر
وما غاب إلا شخصه عن عيوننا ... وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر
فيا مبغضي هدي النبي ألا أبشروا ... بخزي على خزي وقهر على قهر
سلكتم سبيلا قد قفاها أمامكم ... أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
وعاقبة المتبوع حتم لتابع ... كما لزم الإحراق للقابض الجمر
__________
(1) البقرة الآية (254).
(2) سبيل الرشاد (6/161).(1/85)
فإن أنتم كذبتم بوعيده ... فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر
فصب عليهم ربهم سوط نقمة ... فصاروا أحاديث المقيمين والسفر
"فيارب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم" إليك الأمر في العسرواليسر
قلوا سنة المختار يبغون محوها ... وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفرى
هم استضعفونا اليوم من أجل أننا ... قليل وقد يعلو القليل إلى الكثر
ولا سيما إن كان لله قائما ... وأعداؤه للبغي من جهلها تجري
وإدراك إحدى الحسنيين محقق ... لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
ومن ظن أن الله مخلف وعده ... وخاذل أنصار النبي بذا العصر
فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل ... عريض القفا بين الورى مظلم الفكر
تكفل بالنصر العلي لحزبه ... حياتهم هذي وفي موقف الحشر
ففي غافر قد جاء ذلك واضحا ... ولكنه يخفى على الفدم والغمر
سلام على أنصار سنة أحمد ... فهم أولياء الله في كل ما دهر
إليهم أجوب البر والبحر قاصدا ... فرؤيتهم تشفي السقيم من الضر
هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا ... عن الحق بالبرهان والبيض والسمر
هم خلفوا المختار في نشرسنة ... بفعل وأقوال تلألأ كالدر
هم جردوا التوحيد من كل نزغة ... من الشرك والإلحاد والزيغ والنكر
فلا قبة تبنى على قبر ميت ... ولم يعبدوا قبرا بذبح ولا نذر
ولا بطواف أو بتقبيل تربة ... فذلك فعل المشركين ذوي الكفر
ولا رحلوا يوما لغير ثلاثة ... مساجد خصت بالفضائل والأجر
ولم يستغيثوا في الشدائد كلها ... بغير إله الناس ذي الخلق والأمر
ومنها:
ومن ظن تقليد الأئمة منجيا ... فأفتى بتقليد فيا له من غر
كمنتحل عذرا ليغفر ذنبه ... أضاف له جرما تجدد بالعذر
ألا إنما التقليد جهل وظلمة ... وطالبه خلو من العلم والخبر
كطالب ورد بعدما شفه الظما ... جرى خلف آل لاح في مهمه قفر
فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضيا ... فإياك والتقليد فهو الذي يزري
وجرد سيوفا من براهين قد سمت ... عن الحدس والتخمين والسخف والهتر
وطرفك سرح في الكتاب فإنه ... رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
ومن بعده فاعلق بسنة أحمد ... فأنوارها تسمو على الشمس والبدر(1/86)
ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة ... كما حلت الميتات أكلا لمضطر
ومهما بدا أن القضاء على خطا ... أقيم فبادر للرجوع على الفور
ومن يقض بالتقليد فهو على شفا ... كعشوا غدت في كافر حالك تسري
ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى ... وفي النحل نص جاء في غاية الزجر
لعمرك ما التقليد للجهل شافيا ... وأما نصوص الوحي فهي التي تبري
وصل وسلم يا إلهي على النبي ... صلاة تدوم الدهر طيبة النشر
فدونكها بكرا عروبا خريدة ... مهفهفة غيدى عروسا من الشعر
يضيء ظلام الليل نور جمالها ... وليس لها إلا القراءة من مهري
قصدت بها نصرا لسنة أحمد ... وناصرها لا شك يظفر بالنصر
وعدتها تسعون من بعد خمسة ... وأختمها بالحمد لله والشكر (1)
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية: 'الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية'.
قال فيه رحمه الله: اعلم أن التيجانيين رووا عن شيخهم فضائل تحصل للمتعلقين به مصادمة للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وزعموا أن الشيخ التجاني كتب تلك الفضائل بيده وسلمها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه أن يقرأها ويضمنها له فقرأها وضمنها له، وقع ذلك يقظة لا مناما انظر صفحة 44 من الجزء الثاني من الرماح، وهذه الفضائل زعموا أن الله يعطيهم إياها بسبب تعلقهم بشيخهم، وسأسرد هنا هذه الفضائل وعددها تسع وثلاثون، أربع عشرة فضيلة تحصل لكل من اعتقد فيه الخير ولم يعترض على طريقه وكان محبا له ولأصحابه ولكل من أطعمه أو سقاه أو قضى له حاجة إذا استمر على محبته حتى الموت وإن لم يأخذ ورده ولم يصر من أصحاب طريقته وسائر الفضائل، وهي خمس وعشرون خاصة بمن أخذ الطريقة والتزم شروطها:
الفضيلة الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن لهم أن يموتوا على الإيمان والإسلام.
الفضيلة الثانية: أن يخفف الله عنهم سكرات الموت.
الفضيلة الثالثة: لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم.
__________
(1) سبيل الرشاد (4/230-232).(1/87)
الفضيلة الرابعة: أن يؤمنهم الله تعالى من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة.
الخامسة: أن يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر.
السادسة: أن يؤدي الله تعالى عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم.
السابعة: أن لا يحاسبهم الله تعالى ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير يوم القيامة.
الثامنة: أن يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم القيامة.
التاسعة: أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة.
العاشرة: أن يسقيهم الله تعالى من حوضه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة.
الحادية عشرة: أن يدخلهم الله تعالى الجنة بغير حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى.
الثانية عشرة: أن يجعلهم الله تعالى مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس وجنة عدن.
الثالثة عشرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب كل من كان محبا له.
الرابعة عشرة: أن محبه لا يموت حتى يكون وليا، قال -أي أحمد التجاني-: قد أخبرني سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - أن كل من أحبني فهو حبيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يموت حتى يكون وليا قطعا، وقال لي سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - : أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين، وأنت حبيبي ومن أحبك حبيبي، وكل من أخذ وردك فهو محرر من النار، وقال: أبشروا أن كل من كان في محبتنا إلى أن مات عليها يبعث من الآمنين على أي حالة كان، ما لم يلبس حلة الأمان من مكر الله وقال: وأما من كان محبا ولم يأخذ الورد فلا يخرج من الدنيا حتى يكون من الأولياء.
ثم قلت في الرد على هذه الأباطيل في صفحة 86 ما نصه:(1/88)
قال محمد تقي الدين:لم يستوف صاحب الرماح الفضائل التي وعد بذكرها؛ بل اقتصر على ذكر ثلاث وثلاثين، وفي ما ذكره من الطوام والضلالات ما لا يبقي شكا في أن هذه الطريقة على الحال الراهنة يستحيل أن تجتمع في قلب شخص واحد مع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين الحنيف المبني على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وسنعقب عليها بالنقد والنقض حتى يتضح بطلانها وتنجلي ظلمتها، بحول الله وقوته وحسن توفيقه.
اعلم أيها القارىء الموفق لمعرفة الحق واتباعه مع من كان وحيث كان أن ما ذكره صاحب الرماح من الفضائل بزعمه له ولإخوانه في الطريقة ولشيخهم بزعمهم مردود من وجوه بعضها إجمالي وبعضها تفصيلي، ولنبدأ بالإجمالي فنقول:
كل ما نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار هو من شر أقسام الموضوع المفترى وقد خاب من افترى، فإن الأمة بعلمائها وأئمتها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن تقوم الساعة، أجمعت الأمة على أنه لا طريق لتلقي خبر من الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالسماع والمشاهدة في حياته الدنيوية، أو بواسطة الثقات الأثبات بالسند المتصل، وما ذكروه من الأخبار ليس له سند أصلا وما زعموه من السماع كذب بإجماع الأئمة، ومن خرق إجماعهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم، وكان مشاقا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومتبعا غير سبيل المؤمنين، ومن ذلك أن تلك الأخبار مناقضة لكتاب الله وللأخبار الصحيحة المروية بأسانيد كالشمس معلومة التواتر أو الصحة العالية، إذا قرأت ما تقدم من الرد تبين لك من خلاله فساد تلك الأخبار وبطلانها واضمحلالها. (1)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) الهدية الهادية (ص.81-87).(1/89)
قال محمد تقي الدين: لقد من الله علي وأعانني على ختم هذا القسم، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبمحبتنا واتباعنا لحبيبه وخليله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، أن يعينني على القسم الثالث، ويجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ولما كنت أنقل كلام الأئمة كنت أمر بأشعار في الرد على المقلدين وذم طريقتهم ومدح اتباع الكتاب والسنة، فرأيت أن أؤخرها وأجعلها خاتمة لهذا القسم يستمتع بها من حبب الله له الاتباع وكره إليه التقليد، وهذه هي وأول ما أبدأ به القصيدة المقصورة نظمتها في مصر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة (1) :
تركت الطريق طريق الجفا ... وأقبلت أتبع المصطفى
وسنته وكتاب الإله ... وأصحابه أنجم الاهتدا
وأتباعهم أينما وجدوا ... سواء نأى عصرهم أم دنا
سواء ذووالشرق أم غربنا ... وأهل الخيام وأهل القرى
وليس يجوز بمذهبنا اتـ ... ـباع لغير فدع من هذى
ولسنا نؤول لفظ الحديـ ... ـث والذكر إلا بما قد أتى
فما هلك الناس إلا بما ... تؤوله زمرة الاعتدا
فنحن على مذهب السابقيـ ... ـن من رضي الله عنهم علا
ومن حاد عن نهجهم قد هوى ... سواء درى ذاك أم ما درى
فخير الهدى هدى خير الورى ... وشر الأمور اتباع الهوى
فلا تتصوف ولا تتكلف ... ولا تلج إلا لرب العلا
ولا تدع من دونه أحدا ... فليس ولي سواه يرى
أغير الإله أرى لي وليا ... إذا قد ضللت طريق الهدى
أأتخذ الأولياء وربي ... بمحكم ذكره عنهم نهى
ولو مرسلين ولو صالحين ... ولو طائرين بأوج السما
ولا يعبدالله إلا بما ... أتى في شريعته وارتضى
ومن زعم العلم غير الكتاب ... وغير الحديث الصحيح افترى
ولا فضل في ديننا لأرسطو ... ولا لابن رشد ومن قد قفا
فتوحيد ربي بمنزله ... غني عن المنطق المرتأى
فإن أرسطو وأتباعه ... عدو لدين إله الورى
وإن هم رأوا حكما أحكموها ... أخذنا بها في أمور الدنى
ومهما وجدنا الحديث الصحيح ... عبدنا به من له المنتهى
وليس له من وسيلة إلا ... علوم اصطلاح وعلم اللغى
__________
(1) سبيل الرشاد (4/212-214).(1/90)
فعلم الكلام وبعض الأصول ... ظلام يجران كل العنا
ولا نستغيث بغير الإله ... ومن يستغث بالعباد غوى
ونعتقد الله سبحانه ... على عرشه ذي التعالي استوى
ولسنا نؤول ذاك بقهر ... ولا غيره مثل من قد مضى
وأن البخاري في كتبه ... قد أحسن للناس دون امترا
عليها اعتكف ثم منها اقتطف ... تجد كل ما رمته من منى
ومسلم لا تنس تأليفه ... فنعم الكتاب الوثيق العرى
وإن خضت في غير دينك فاسلك ... بعلم غزير وإلا فلا
ولا تعتبر كل كتب عليها ... فقد مزجوها بما يرتمى
فجد وخذ زبد ما سطروا ... ودع ما تراه معيبا سدى
وما قد يسمونه باطنا ... فباللام يقرأه من درى
فإن الشريعة قد أكملت ... وقد بينت مثل شمس الضحى
فما مات خير الورى أحمد ... إلى أن جلاها بغير خفا
وما أحد من أهيل النفاق ... نجا فاصبر إن نلت منهم أذى
ولا تبن في تربة قبة ... ومهما تراها فهدم البنا
فقد عبدوها وما فطنوا ... و وافقهم علماء الشقا
وقد ألفوا في عبادتها ... بدون احتشام بدون حيا
لتدع الإله بما قد روى الثقات ... الهداة عن المجتبى
وإن البخاري روى في الصحيح ... دعاء وذكرا به الاكتفا
وحاذر من الشرك فهو بذا الز ... مان بكل النواحي فشا
ولا قطب نعلمه غير نجم ... يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا ... يكون مقيما بغار حرا
يمد الأنام ويجري الشؤو ... ن في الكون تالك أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل سنة ... أتت من صحيح الحديث بذا
فخذ بالنصوص ولا تبتدع ... وفي عدم النص قس ما جلا
وليس لنا مذهب لازم ... سوى مذهب المصطفى المرتضى
عليه الصلاة وأزكى السلام ... سلاما يدوم بغير انتها
ويشمل آلا وصحبا كراما ... ومن قد قفاهم بنهج الصفا
موقفه من أهل الكلام:
دع الكلام فما فيه سوى الخطل ... وانبذ مجالسه تحفظ من العلل
فهو شر ابتداع جاء بالخلل ... وخل سمعك عن بلوى أخي جدل
شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
الله يعلم كم قد سيق من ضرر ... للناس من أجله في البدو والحضر
أقبح بها بدعة تدني إلى الشرر ... ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر
ولا أتت عن أبي هر ولا أنس(1/91)
وكم دماء غدت في الناس مهرقة ... فهو الكلام بكسر ساء مخرقة
فلا ترى فيه شمس الحق مشرقة ... إلا هوى وخصومات ملفقة
ليست برطب إذا عدت ولا يبس
داء كما جرب في الناس منتشر ... وكتبه بين أهل العلم تستطر
ذر بدعة عند أهل الحق تحتقر ... فلا يغرك من أربابها هذر
أجدى وجدك منها نغمة الجرس
نأوا عن الحق بالأوهام وانطلقوا ... في مهمه بلقع ما فيه مرتفق
وجادلوا بأباطيل بها مرقوا ... أعرهم أذنا صما إذا نطقوا
وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
وأبعد عن الرأي بعدا يعدك الخطر ... فهو السحاب ولكن ما به مطر
الرأي أغصان سدر ما بها ثمر ... ما العلم إلا كتاب الله أو أثر
يجلو بنور سناه كل ملتبس (1)
- قال رحمه الله: وفي الصحيح من حديث قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه" (2) وأخرجه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة بإسناد قوي عن ثابت عن أنس وفيه: "فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي تبارك وتعالى وهو على كرسيه أو سريره فأخر له ساجدا" وذكر الحديث. قال محمد تقي الدين: وهذا الحديث أيضا صريح في أن الله فوق عرشه، اللهم اشهد علينا بأننا آمنا به، فيا ويل من كذب به وأنكر معناه. (3)
__________
(1) سبيل الرشاد (4/220-221).
(2) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/116) والبخاري (13/519-520/7440) ومسلم (1/180-181/193) وابن ماجه (2/1442-1443/4312).
(3) سبيل الرشاد (5/78).(1/92)
- وقال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإنه يتقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل" (1) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري. قال محمد تقي الدين: وماذا يقول الجهمي في هذا الحديث الذي يدل على صعود الصدقة إلى الله تعالى فيأخذها بيمينه أيؤمن به أم يكفر به؟ فإن آمن به فقد فاز وربح وإن كفر به فتعسا له. (2)
- قال محمد تقي الدين: في هذا الحديث -يعني حديث الجارية (3) - السؤال عن الله تعالى بـ (أين) ومنعه الخوارج وسائر الفرق المعطلة كالمعتزلة والمتأخرين من الأشعرية، وزعموا أن من سأل عن الله بأين فهو مجسم واختلفوا في كفره وفسقه ومعصيته، فيلزمهم نسبة ذلك إلى نبي الله الذي جاءنا بالإيمان، فقبح الله علما يفضي إلى مثل هذا، وفيه -إقرار النبي عليه الصلاة والسلام- بأن الله في السماء وأنكرته المعطلة واختلفوا في كفر معتقده، فيا ويلهم ماذا جنوا على أنفسهم بسبب جهلهم وعمى بصائرهم فنعوذ بالله من الخذلان. (4)
إحسان إلهي ظهير (5) (1407 هـ)
__________
(1) رواه أحمد (2/418و538) والبخاري (3/354/1410) ومسلم (2/702/1014) والترمذي (3/49/661) والنسائي (5/60-61/2524) وابن ماجه (1/590/1842) بلفظ: "ولا يقبل" بدل "ولا يصعد". ورواه البخاري (13/511/7430) تعليقا. ووصله أحمد (2/331و431) بلفظ الكتاب.
(2) سبيل الرشاد (5/75-76).
(3) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ).
(4) سبيل الرشاد (5/70-71).
(5) انظر تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (1/23). والعدد (105) من مجلة الجندي المسلم التي تصدر عن وزارة الدفاع السعودية.(1/93)
إحسان إلهي ظهير من كبار علماء باكستان، ولد في "سيالكوت" عام ستين وثلاثمائة بعد الألف للهجرة. حفظ القرآن في التاسعة من عمره وأكمل دراسته في الجامعة السلفية بفيصل آباد، حصل على الليسانس في الشريعة من الجامعة الإسلامية في المدينة وكان ترتيبه الأول على طلبة الجامعة. ثم رجع إلى باكستان، وانتظم في جامعة البنجاب كلية الحقوق والعلوم السياسية، وعين في ذلك الوقت خطيبا في أكبر مساجد أهل الحديث بلاهور، وحصل على ست شهادات ما جستير في الشريعة، واللغة العربية، والفارسية والأردية والسياسة من جامعة البنجاب وكذلك حصل على شهادة الحقوق من كراتشي. وكان رئيسا لمجمع البحوث الإسلامية ورئيسا لتحرير مجلة (ترجمان الحديث) التابعة لجمعية أهل الحديث بلاهور في باكستان، وكذلك مديرا لتحرير مجلة أهل الحديث الأسبوعية.
وفي الثالث والعشرين من شهر رجب سنة سبع وأربعمائة وألف كان الشيخ يلقي محاضرة بمقر جمعيته بمناسبة ندوة العلماء وكان أمامه مزهرية وضع بداخلها قنبلة موقوتة انفجرت فأصابت الشيخ بإصابات بليغة وقتلت سبعة من العلماء في الحال ومات اثنان آخران بعد مدة، وبقي الشيخ أربعة أيام في باكستان، ثم نقل إلى الرياض باقتراح من الشيخ ابن باز رحمه الله وأدخل المستشفى العسكري لكن روحه فاضت إلى ربها في الأول من شعبان فنقل إلى المدينة ودفن بالبقيع بالقرب من الصحابة رضي الله عنهم الذين نذر حياته للدفاع عنهم وبيان فضائلهم. فرحمة الله عليه.
موقفه من المبتدعة:(1/94)
- قال: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، نبي الهدى والرحمة وعلى آله وأصحابه الطاهرين البررة. وبعد، فإنه أشاع في هذا الزمان كلمة "الاتحاد والوحدة" كثير من دعاة الشقاق والفرقة، وكثر استعمالها حتى كاد ينخدع بها السذج من المسلمين الذين لا يعرفون ما وراءها من كيد ودس ودهاء. فالقاديانية عميلة الاستعمار الصليبي في القارة الهندية الباكستانية، وسمة العار على جبهة المسلمين المشرقة، تستعمل هذه الكلمة لكي يتسع لها الطريق لنفث السموم في نفوس المسلمين. والبهائية وليدة الروس، والإنكليز، والنزعات الشيعية، تريد بهذه الكلمة نفسها غزو الشيعة في إيرانها وعراقها. والشيعة ربيبة اليهود في بلاد الإسلام، يستعملون هذه الكلمة أيضا عند افتضاح أمرها، واكتشاف حقيقتها، وإماطة اللثام عن وجهها. فليست هذه الكلمة، إلا كلمة حق أريد بها الباطل، كما نقل عن علي -رضي الله عنه- أنه لما سمع قول الخوارج "لا حكم إلا لله" قال: كلمة حق أريد بها الباطل، نعم لا حكم إلا لله". وقال: "سيأتي عليكم بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل". فهذا هو الزمان الذي أشار إليه علي في قوله، فما أكثر الكذب فيه وما أفظعه.(1/95)
ولقد بدأ الشيعة منذ قريب ينشرون كتبا ملفقة مزورة في بلاد الإسلام، يدعون فيها إلى التقرب إلى أهل السنة، ولكن الصحيح أنهم يريدون بها تقريب أهل السنة إليهم بترك عقائدهم، ومعتقداتهم في الله، وفي رسوله، وأصحابه الذين جاهدوا تحت رايته، وأزواجه الطاهرات اللائي صاحبنه بمعروف، وفي الكتاب الذي أنزله الله عليه من اللوح المحفوظ، نعم يريدون أن يترك المسلمون كل هذا، ويعتقدوا ما نسجته أيدي اليهودية الأثيمة من الخرافات، والترهات في الله، أنه يحصل له "البداء"، وفي كتاب الله أنه محرف ومغير فيه، وأن يعتقدوا في رسول الله أن عليا وأولاده أفضل منه، وفي أصحابه حملة هذا الدين أنهم كانوا خونة مرتدين ومنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأن يعتقدوا في أزواج النبي وأمهات المؤمنين، ومنهن الطيبة، الطاهرة، بشهادة من الله في كتابه، أنهن خن الله ورسوله، وفي أئمة الدين، من مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والبخاري، أنهم كانوا كفرة ملعونين -رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين-. نعم يريدون هذا، وما الله بغافل عما يعملون. فكل من عرف هذا وقام في وجههم، ورد عليهم، صاحوا عليه ونادوا بالوحدة والاتحاد، ورددوا قول الله عز وجل: وَلَا { تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (1) .
__________
(1) الأنفال الآية (46).(1/96)
فبعدا للوحدة التي تقام على حساب الإسلام، وسحقا للاتحاد الذي بني على الطعن في محمد النبي، وأصحابه، وأزواجه -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، فقد علمنا الله عز وجل في كتابه الذي نعتقد فيه أن حرفا منه لم يتغير ولم يتبدل، وما زيد عليه كلمة، ولا نقص منه حرف، علمنا فيه أن كفار مكة طلبوا أيضا من رسول الله الصادق الأمين، عدم الفرقة والاختلاف حين دعاهم إلى عبادة الله وحده مخلصين له الدين، ونبذ آلهتهم، فأجابهم بأمر من الله: قُلْ { يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (6) (1) وقال: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (2) . وقال: وَلَنَا { أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } (139) (3) . وقال: وَمَا { يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) '@دjà9$#ںwur وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } (22) (4) .
__________
(1) الكافرون الآيات (1-6).
(2) يوسف الآية (108).
(3) البقرة الآية (139).
(4) فاطر الآيات (19-22).(1/97)
نعم يمكن الوحدة إن أرادوها، ويمكن الاتحاد إن طلبوه، بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهما، حسب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (1) . نعم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فتعالوا إلى هذه الكلمة، كلمة الوحدة، والاتحاد، إلى قول الله عز وجل وقول نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - . فلنرفع الخلاف ولنقض على النزاع، فهيا بنا إلى الوحدة أيها القوم. فاتركوا سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خيار خلق الله، الذين بشرهم الله بالجنة في كتابه المجيد حيث قال: وَالسَّابِقُونَ { الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (100) (2) . وقال: * { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ } الشَّجَرَةِ (3) وقال رسوله الناطق بالوحي: "لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني" (4) وقال عليه السلام: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (5) .
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) التوبة الآية (100).
(3) الفتح الآية (18).
(4) الترمذي (5/651-652/3858) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع برقم (6277).
(5) أحمد (5/54،55) والترمذي (5/653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وابن حبان (16/244/7256)..قال المناوي في فيض القدير (2/98): "فيه عبدالرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف. وفي الميزان: في الحديث اضطراب". انظر الضعيفة (2901).(1/98)
ويمكن الاتحاد بالاعتراف أن كلام الله المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأن من قال فيه بتحريف وتغيير كان ضالا مضلا خارجا عن الإسلام، تعالوا فلنتفق ونتحد على هذا. (1)
- وقال: وأما المولد فقد صرح العلماء أن أول من أحدث هذه البدعة كان مظفر الدين بن زين الدين صاحب الإربل. كان ملكا مسرفا فأمر علماء زمانه أن يعملوا باستنباطهم واجتهادهم وأن لا يتبعوا لمذهب غيرهم، حتى مالت إليه جماعة من العلماء وطائفة من الفضلاء، وكان يحتفل بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الربيع الأول، وهو أول من أحدث من الملوك هذا العمل. وكان ينفق كل سنة على مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ثلاثمائة ألف. وكان معينه ومساعده على هذه البدعة أبو الخطاب عمر بن دحية: اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة ووجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب 'التنوير في مولد السراج المنير' وقرأ عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار. ونقل الإمام ابن كثير عن السبط في ابن دحية هذا: وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة منهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلا عليه، فلما أكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه.
__________
(1) الشيعة والسنة (5-9).(1/99)
وقد كتب عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني ما خلاصته: إنه كان كذابا كثير الكذب وضاعا، كثير الوقيعة في الأئمة وفي السلف من العلماء، خبيث اللسان، أحمق، شديد الكبر، قليل النظر في أمور الدين متهاونا -ونقل ذلك عن الحافظ ضياء، ثم كتب-: وحدثني علي بن الحسين أبو العلاء الأصبهاني وناهيك به جلالة ونبلا، قال: لما قدم ابن دحية علينا أصبهان نزل على أبي في الخانكاه، فكان يكرمه ويبجله فدخل على والدي يوما ومعه سجادة فقبلها ووضعها بين يديه وقال: صليت على هذه السجادة كذا وكذا ألف ركعة وختمت القرآن في جوف الكعبة، قال: فأخذها والدي وقبلها ووضعها على رأسه وقبلها منه مبتهجا بها، فلما كان آخر النهار حضر عندنا رجل من أهل أصبهان، فتحدث عندنا إلى أن اتفق أن قال: كان الفقيه المغربي الذي عندكم اليوم في السوق اشترى سجادة حسنة بكذا وكذا فأمر والدي بإحضار السجادة، فقال الرجل: أي والله هذه، فسكت والدي وسقط ابن دحية من عينيه. فذاك كان الملك وهذا كان مساعده في تأسيس هذه البدعة الشنيعة التي اخترعوها مضاهين النصارى، لأن يكون لهم عيد ميلاد النبي كما يوجد عندهم عيد ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم وعند القوم عادة أنه يقومون عند قراءة المولد وذكره ويقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حضر في مجلس ذكر مولده فنستقبله قائما، ثم ينشدون هذا البيت المشهور، نذكره بنصه في اللغة الأردية.
دم بدم برهو درود ... حضرت بهي هين يهان موجود
صلوا صلوا على النبي ... فإنه حضر هاهنا(1/100)
ويقول أحد علماء القوم: يجب القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - . ويعملون هذه الفعلة على حساب ذلك النبي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه من كان يمنع عن القيام حتى وأيام حياته الميمونة بقوله: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" (1) . ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك) (2) .اهـ (3)
- وقال في حديثه عن البريلوية: وللمحافظة على تجارتهم هذه أعموا أبصارهم وصموا آذانهم وختموا على قلوبهم كي لا تنفلت من أيديهم هذه الأغنام المدرارة الساذجة، فحرموا عليهم الاستماع إلى أحد من الموحدين، المتبعين كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإصغاء إليهم، والمجالسة معهم، والاختلاط بهم، والحضور في خطباتهم واجتماعاتهم، والنظر في كتبهم، كي لا يعقل المغفل، ويتنور من أحيط بالظلام، ويتعلم من رغب عن الجهل فقال قائلهم: حرام على المسلمين أن يقرؤوا كتب الوهابيين وأن ينظروا فيها. ومن جالس الوهابية أو اختلط بهم لا يجوز مناكحته. وغير ذلك.
__________
(1) أحمد (4/93،100) وأبو داود (5/397-398/5229) والترمذي (5/84/2755) وقال: "هذا حديث حسن". والبخاري في الأدب المفرد برقم (977). وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (357).
(2) أحمد (3/132) والترمذي (5/84/2754) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". والبخاري في الأدب المفرد (946).
(3) البريلوية (129-131).(1/101)
ولم تكن هذه الاحتياطات كلها إلا للحفاظ على جهالاتهم ومناصبهم النافعة المفيدة في آن واحد، ولكن من أراد الله هدايته والخير به فلم يمنعه هذا الحصار لأن يخرج من الظلمات إلى النور وَمَنْ { لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (40) (1) . وإليكم النصوص من تعاليم القوم، وأتبعنا كل واحدة منها بالرد عليها من كتب الأحناف، لأن القوم يدعون انتسابهم إلى الحنفية، كي يعرف أن هؤلاء الناس ليس لهم من الأمر شيء، فلا الكتاب يؤيدهم، ولا السنة تناصرهم، ولا الفقه الحنفي يحالفهم، فإنهم ليسوا على دليل وبرهان، بل هم حقيقة أخلافا لأسلاف عرفوا في الجاهلية الأولى بالمشركين والوثنيين، وفي الجاهلية المتأخرة عبدة القبور والخرافيين والبدعيين، لاختلافهم بعض الاختلاف معهم في لون البدعات وصورها حسب الاختلاف الإقليمي والجغرافي، لأن العالمية للسنة، فسنة رسول الله في جميع البلدان والمدن وفي جميع أقطار الأرض وأطرافها سنة واحدة، لأن مصدرها واحد وهو ذات الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه. وأما البدعة فتختلف وتتنوع باختلاف المكان والزمان، وبحسب القطر والإقليم، وبحسب المقتضيات والمتطلبات، ولأن مصدرها أشخاص متعددون متنوعون حسب الأغراض والأهواء، ومختلفون حسب الذوق والمزاج، فالسنة عليها توثيق: وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) (2) ، والبدعة هي مصداق: وَلَوْ { كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) (3) .اهـ (4)
__________
(1) النور الآية (40).
(2) النجم الآيتان (3و4).
(3) النساء الآية (82).
(4) البريلوية (113-115).(1/102)
- وقال: فكل شيء أحدث في الإسلام ولا يؤيده آية من كتاب الله أو أمر من رسول الله فهو مردود. "من أحدث في أمرنا هذا فهو رد" (1) . وقال: "فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" (2) . ولو كان ذلك من الدين أو من المستحسن لما ترك الله بيانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تفصيله. فعدم وروده ووجوده في الكتاب والسنة يدل على أنه ليس من الدين. ولو كان من الدين ولم يرد ذكره فيهما لما كان الدين كاملا. (3)
موقفه من المشركين:
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ) وابن رجب سنة (795هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن ابراهيم آل الشيخ سنة (1389هـ).
(3) البريلوية (161).(1/103)
- قال في حديثه عن القاديانية: والعجب كل العجب أن الفئة الضالة المضلة التي لم تستطع مع كل إمدادات الاستعمار والحكومة الانكليزية أوان سلطتها أن تضم إليها في القارة الهندية، حيث يقع مركزها إلا أشخاصا معدودين، ممن نشؤوا في أحضان الاستعمار طوال سبعين سنة، ولا يزيد عددهم عن الألوف، ومساجدهم عن العشرات، ومدارسهم عن الأعداد المفردة، وهذا لأن المسلمين قد عرفوا حقيقتهم، واكتشفوا أمرهم، وفي إفريقيا وغيرها دعاة الإسلام غير موفورين، لم؟ هل المسلمون صاروا فقراء إلى هذا الحد حتى لم يستطيعوا إرسال المبلغين إلى تلك البلاد؟ أم ماذا؟ ينبغي أن يتفكر كل منا جواب هذا، وأن يسمح لي فأقول جهرا: إن كل شيء موفور عند المسلمين، أكثر ما كانت قبل، ولكن الفكر للإسلام والتألم له والنهوض به والدفاع عنه والتضحية في سبيله صارت مفقودة فينا، ونحن نرى أنفسنا بكل خير وفي كل خير ما دام لم يصبنا نحن، أولادنا، وأشقائنا، وأسرتنا، وعائلتنا أي أذى، وأما الإسلام فيكون في خطر والمسلمون يكونون في طوفان، طوفان الكفر والارتداد، طوفان الضلالة والإلحاد فلا يهمنا ما دام الطوفان بعيدا عن أبوابنا. فهذا عين الضلالة، وقد وصف الله عز وجل أمة محمد عليه السلام بقوله: كُنْتُمْ { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (1) وقد أهملنا هذه المنزلة وهذه المكرمة وفقدنا ميزة الخيرية. فتيقظوا أيها المسلمون. وتنبهوا، أليس من المبكي أن تغزو هذه الفئة الكثير من بلاد العالم الإسلامي بينما كان المسلمون في يقظة لكل عدو وحربا على كل ضلال وفساد للقضاء عليه في موطنه. فالمسئولية مشتركة كل بقدره. وإن العمل ضد القاديانية لإيقاف خطرها أمر يحتمه ويوجبه كل من الدين، والسياسة، والوطنية.
أما الدين: فبتحريفها العقائد، وهدمها لأركان الإسلام.
__________
(1) آل عمران الآية (110).(1/104)
وأما السياسة: فلكونها الجسر الواسع للاستعمار في كل شعب تحل فيه كما أنشأها وعاهدها.
وأما الوطنية: فكما بين الكاتب الهندوسي الكبير وكشف شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال حينما رد على جواهر لآل نهرو في تدعيمه إياها. (1)
موقفه من الرافضة:
هذا العلَم الذي سخر قلمه ولسانه للذب عن المنهج السلفي، وتقويض أركان أهل الضلال والبدع خاصة الرافضة اللعينة، فقد تصدى لها الشيخ رحمه الله بكل ما أوتي من قوة وجهد، وألف في ذلك المؤلفات العظيمة منها:
1- 'الشيعة والتشيع'.
2- 'الشيعة والقرآن'.
3- 'الشيعة والسنة'.
4- 'الشيعة وأهل البيت'.
5- 'الإسماعيلية'.
وكلها مطبوعة ومتداولة ولله الحمد والمنة.
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية: 'التصوف المنشأ والمصادر'. وهو مطبوع.
- قال في مقدمته رحمه الله: كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية، وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة، ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع، وتأملت في القوم ورسائلهم، وتوغلت في جماعاتهم وطرقهم، وحققت في سيرهم وتراجمهم، أنه لا اعتدال عندهم كالشيعة تماما، فإن الاعتدال فيهم كالعنقاء في الطيور، والشيعي لا يعد شيعيا إلا حين ما يكون مغاليا متطرفا، وكذلك الصوفي تماما، فمن لا يعتقد اتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن أن يعد صوفيا ووليا من أولياء الله.
__________
(1) القاديانية (15-17).(1/105)
ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة 'التصوف بين الاعتدال والتطرف' ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل، وأبرر بعض مواقفهم، وأجد المعاذير للبعض الأخرى، ولكنني بعد قراءتي الطويلة العميقة العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف، وجدت نفسي، إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأتبع كل شيطان مريد -ولا جعلني الله منهم- وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم، وأتقي الله وأكون مع الصادقين- وجعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه. (1)
- وقال: فإن التصوف أمر زائد وطارئ على الزهد، وله كيانه وهيئته، نظامه وأصوله، قواعده وأسسه، كتبه ومؤلفاته، ورسائله ومصنفاته، كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا.
فإن الزهد عبارة عن ترجيح الآخرة على الدنيا، والتصوف اسم لترك الدنيا تماما.
والزهد هو تجنب الحرام، والاقتصاد في الحلال، والتمتع بنعم الله بالكفاف، وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والإخوان والخلان.
والتصوف تحريم الحلال، وترك الطيبات، والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان، وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر.
فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب والسنة، وليس التصوف كذلك، لذلك احتيج لبيانه إلى 'التعرف لمذهب أهل التصوف' و'قواعد التصوف' و'الرسالة القشيرية' و'اللمع' و'قوت القلوب' و'عوارف المعارف' وغيرها من الكتب. (2)
- وقال: فخلاصة الكلام أن الجميع متفقون على حداثة هذا الاسم، وعدم وجوده في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالحين.
__________
(1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.6-7).
(2) التصوف المنشأ والمصادر (ص.9-10).(1/106)
نعم، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد خلق الله في الدنيا وزخارفها، وأصحابه على سيرته وطريقته، يعدون الدنيا وما فيها لهوا ولعبا، زائلة فانية، والأموال والأولاد فتنة ابتلي المؤمنون بها، فلم يكونوا يجعلون أكبر همهم إلا ابتغاء مرضاة الله، يرجون لقاءه وثوابه، ويخافون غضبه وعقابه، آخذين من الدنيا ما أباح الله لهم أخذه، ومجتنبين عنها ما نهى الله عنه، سالكين مسلك الاعتدال، منتهجين منهج المقتصد، غير باغين ولا عادين، ولا مفرطين ولا متطرفين، وعلى رأسهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الراشدون، وبقية العشرة المبشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ثم عامة الأصحاب، على ترتيب الأفضلية كما مر سابقا في الفصل الأول من هذا الباب.
وتبعهم في ذلك التابعون لهم بإحسان، وأتباع التابعين، أصحاب خير القرون، المشهود لهم بالخير والفضيلة، ولم يكن لهؤلاء كلهم في غير رسول الله أسوة ولا قدوة، الذي قال فيه جل وعلا: أَلَمْ { يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ Wxح !%tو فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا ں@ح !$،،9$# فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } (11) (1) . والذي إذا وجد طعاما فأكل وشكر، وإذا لم يجد فرضي وصبر، وأحب لبس الثياب البيض، واكتسب جبة رومية، ونهى عن التصدق بأكثر من ثلث المال، وأمر بحفظ حقوق النفس والأهل والولد، ونهى عن تعذيب النفس وإتعاب الجسد فوق الطاقة، وكما أنه نهى هو نفسه عن قيام الليل كله، لإراحة الجسد والبدن، وحرض متبعيه على طلب الحلال، وطلب الحسنات في الدنيا والآخرة، ومنع الله تعالى من التعنت والتطرف في ترك الدنيا وطيباتها في آيات كثيرة في القرآن الكريم، سنوردها في موضعها من الكلام إن شاء الله.
__________
(1) الضحى من الآية 6 إلى آخر السورة.(1/107)
ثم خلف من بعدهم خلف فتطرفوا، وذهبوا بعيدا في نعيم الدنيا وزخارفها، وفتحت عليهم أبواب الترف والرخاء، ودرت عليهم الأرض والسماء، وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها، وفتحت عليهم الآفاق، فانغمسوا في زخارفها وملذاتها، وبخاصة العرب الفاتحون الغزاة، والغالبون الظاهرون، فحصل رد الفعل، وفي نفوس المغلوبين المغزوين والمقهورين، من الموالي والفرس والمفلسين وأصحاب النفوس الضعيفة المتوانية خاصة، فهربوا عن الحياة ومناضلتها، وجدها وكدها، ولجأوا إلى الخانقاوات والتكايا والزوايا والرباطات، فرارا من المبارزة والمناضلة، وصبغوا هذا الفرار والانهزام ورد الفعل صبغة دينية، ولون قداسة وطهارة، وتنزه وقرابة، كما كان هنالك أسباب ودوافع ومؤثرات أخرى، وكذلك أيدى خفية دفعتهم إلى تكوين فلسفة جديدة للحياة، وطراز آخر من المشرب والمسلك، وأسلوب جديد للعيش والمعاش، فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص، وبطائفة مخصوصة، اعتنقه قوم، وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير، وتدبر عميق كمسلك الزهد، ووسيلة التقرب إلى الله، غير عارفين بالأسس التي قام عليها هذا المشرب، والقواعد التي أسس عليها هذا المذهب، بسذاجة فطرية، وطيبة طبيعية، كما تستر بقناعه، وتنقب بنقابه بعض آخرون لهدم الإسلام وكيانه، وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام، وأفكارهما من جانب، والزرادشتية والمجوسية والشعوبية من جانب آخر، وكذلك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى، وتقويض أركان الإسلام وإلغاء تعاليم سيد الرسل - صلى الله عليه وسلم - ، ونسخ الإسلام وإبطال شريعته بنعرة وحدة الوجود، ووحدة الأديان، وإجراء النبوة، وترجيح من يسمى بالولي على أنبياء الله ورسله، ومخالفة العلم، والتفريق بين الشريعة والحقيقة، وترويج الحكايات والأباطيل والأساطير، باسم الكرامات والخوارق وغير ذلك من الخرافات والترهات. (1)
__________
(1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.43-45).(1/108)
- وقال: ولقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج، وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل، خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها. تقليدا لهم واتباعا لسنتهم، واقتداء لمسالكهم ومشاربهم، مخالفين أوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الناسخ لجميع الشرائع والأديان، المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات، فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة، فيقول جل من قائل: وَإِنْ { خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (3) (1) . وقال: وَأَنْكِحُوا { الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ِNà6ح !$tBخ)ur إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (32) (2) . وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل: وَمِنْ { آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (21) (3) . ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: إن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرنهم فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش.
__________
(1) النساء الآية (3).
(2) النور الآية (32).
(3) الروم الآية (21).(1/109)
وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني" (1) . وقال: "تزوجوا الولود والودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" (2) . وقال عليه الصلاة والسلام: "حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة" (3) . وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يأتى أحدنا شهوته ويكون فيها له أجر؟. قال: "أفرأيتم لو وضعه في حرام، هل عليه وزر؟" قالوا نعم. قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (4) . وما أحسن ما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: (ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع، ثم قال: لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله. لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء، وكان يختار النكاح ويحث عليه، وينهى عن التبتل، فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق. ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: "حبب إلي النساء". فهذه هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين لشرع الله: الكتاب والسنة.
__________
(1) تقدم ضمن مواقف إسماعيل بن محمد الأصبهاني سنة (535هـ).
(2) أحمد (3/158) وابن حبان (9/338/4028 الإحسان) وأورده الهيثمي في المجمع (258) وحسن إسناده.
(3) أحمد (3/128و199و285) والنسائي (7/72/3949) والحاكم (2/160) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي والبيهقي (7/78) من حديث أنس.
(4) أحمد (5/167و168) ومسلم (2/697-698/1006) وأبو داود (5/406-407/5243).(1/110)
وتلك هي أقوال الصوفية، التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب، والمنهل الصافي، بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك، ونساك الجينية، ورهبان المسيحية. وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا يحتاج إلى كثير من البيان. (1)
عبدالعزيز بن ناصر بن عبدالله بن رشيد (2) (1408 هـ)
الشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن عبدالله بن عبدالعزيز بن رشيد بن حدجان، من آل حصنان. ولد في بلدة الرس سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف، ونشأ فيها، ثم رحل إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ. ثم سافر إلى مكة المكرمة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، فصار مدرسا في المسجد الحرام، ثم صار قاضيا في بلجرشي، وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عين مدرسا في المعهد العلمي بالرياض. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف عين رئيسا لهيئة التمييز بالرياض. وله مؤلفات تدل على سعة علمه واطلاعه الواسع في العلوم الشرعية.
توفي رحمه الله سنة ثمان وأربعمائة وألف.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1- 'التنبيهات السنية في شرح العقيدة الواسطية'.
2- 'القول الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى'. (3)
أبو يوسف عبدالرحمن عبدالصمد (4) (1408 هـ)
الشيخ العلم عبدالرحمن بن يوسف بن محمود بن حسين بن علي بن عبدالصمد، ولد في بلدة عنبتا قضاء طولكرم التابعة لنابلس في فلسطين. نشأ يتيما لا أب ولا أم وهو دون التاسعة من عمره.
__________
(1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.61-62).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/531-534).
(3) علماء نجد (3/534).
(4) 'المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف عبدالرحمن عبدالصمد' بقلم إبراهيم الساجر. وتتمة الأعلام (1/283-284) لمحمد خير رمضان يوسف. وإتمام الأعلام (ص.151) لنزار أباظه ومحمد رياض المالح.(1/111)
خرج من فلسطين إلى لبنان فسوريا وبها تصوف على طريقة الرفاعية حتى منَّ الله عليه بمعرفة الحق الواضح الأبلج، فتبرأ من التصوف وأهله وحذر منهم.
درس في المعهد العلمي بالرياض الذي افتتح عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، تعرف على عدة مشايخ على رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وبقي في الرياض تسع سنوات حتى التحق بالجامعة الإسلامية حين افتتاحها سنة ثمانين وثلاثمائة وألف.
ثم رجع إلى سوريا فعمل إماما وخطيبا في مناطق مختلفة، ثم رحل إلى الكويت وبقي فيها مدة، إلى أن وجهت له دعوة من الجمعية الإسلامية في ملبورن بأستراليا، فأجاب دعوتهم ورحل إليهم، فتوفي رحمه الله هناك بأستراليا ودفن بها في مساء الخميس سبعة عشر شوال سنة ثمان وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له رسالة ماتعة بعنوان: 'أسئلة طال حولها الجدل'. وهي رسالة تشف عن منهج صاحبها الرقراق.
- قال رحمه الله فيها: مما لا شك فيه عندي في أن جميع البدع الشرعية المنسوبة إلى الدين بشتى ألوانها وصورها كلها ضلالة وفي النار، لأنها تشريع لم يأذن به الله، وحدث في الدين ما أنزل الله به من سلطان، وتحريف للكلم عن مواضعه، وإساءة في فهم قواعد الشرع العامة، وتلاعب في نصوص الدين الإسلامي الحنيف، وتمسك بما تشابه منه ابتغاء الفتنة وضرارا وتفريقا بين المؤمنين،وتمزيقا لشملهم.
لكن الله جلت قدرته أبى إلا أن يحفظ دينه ويعلي كلمته، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المبطلون، ويحق الحق بكلماته ويزهق الباطل وأهله. فكان حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى- على جميعها بأنها ضلالة وفي النار، وكذلك الخلفاء والصحابة والأئمة رضوان الله عليهم أجمعين ورثوا ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - وحذروا أتباعهم من اتخاذ البدع والعمل بها. (1)
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.54).(1/112)
- ثم قال بعد ذكر الأدلة على ذلك وكلام الأئمة المعتبرين: وخلاصة القول: أنه قد ثبت أن جميع بدع العبادات كلها ضلالة وكلها في النار، وأنه لا يوجد في البدع الشرعية ما يمدح، وليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كلها سيئة ومذمومة ومن زعم ذلك فينطبق عليه قول الإمام مالك رحمه الله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة). وتقسيم من قسمها منصب على بدع العادات والبدعة اللغوية لا غير كالمنخل والأشنان ونحو ذلك من بدع العادات، ومعلوم أن الأمة متفقة على أن الخير كله في اتباع من سلف والشر كله في ابتداع من خلف، وأن الابتداع في الدين شر كله وليس فيه ما يمدح، والله تعالى أعلم. (1)
- وقال رحمه الله في شأن التقليد: مما لا شك فيه أن المتأخرين قد نسبوا إلى الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين (مذاهب) وتعارفوا فيما بينهم على صحة ما نسبوه إليهم من تلك المذاهب وعرفوها بأنها عبارة عن (كتب المذهب) سواء نسبت للإمام نفسه أو إلى أحد تلامذته أو لأحد من مجتهدي المذهب، وسواء أكانت أصولا أو فروعا، متونا أو حواشي أو شروحا، وألزم أولئك المتأخرون أتباعهم بالتقيد التام بالمذهب وبأخذ جميع ما فيه من مسائل وغيرها، وعدوا الخارج عنها ولو بمسألة واحدة خارجا عن المذهب وعدوه ملفقا ومرقعا.
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.59).(1/113)
لكن الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين براء من كل ذلك، وبعيدون كل البعد عن أن يدعوا لأنفسهم مذهبا معينا على النحو المعروف اليوم ويلزموا أتباعهم بأن يلتزموه ويفرضوا عليهم أن يتقيدوا بأقوالهم وأفعالهم واجتهاداتهم وأن يأمروهم بعدم الخروج عنها، حاشاهم من ذلك ونعيذهم بالله أن يقع منهم مثل ذلك. بل الذي حصل منهم على العكس مما يدعيه المتأخرون، إنهم زجروا أتباعهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم من الأئمة قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا) من إيقاظ الهمم للفلاني صفحة 113 وأعلام الموقعين (2/302) وقال: (رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار) ذكره ابن عبدالبر في الجامع (2/149) وللمزيد راجع مقدمة صفة صلاة النبي للألباني.
وقال الإمام مالك: (ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ابن عبدالبر في الجامع (2/91). وقال: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ابن عبدالبر (2/32).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل أن يدعها لقول أحد) راجع صفة صلاة النبي للألباني (المقدمة ص 29-30). وقال: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت) المرجع السابق.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: (ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا، وأرى الرأي غدا واتركه بعد غد) نفس المرجع.(1/114)
هذا ما قاله هؤلاء الفضلاء ودُوِّنَ عنهم رضوان الله عليهم أجمعين، وبهذا أمروا أتباعهم، لا كما يزعمه المقلدة.
صحيح أن كلمة المذهب قد وردت في معرض كلامهم وجرت على بعض ألسنتهم مثل قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ومعلوم أن كلمة (المذهب) مأخوذة من ذهب يذهب ذهابا ومذهبا فهو ذاهب، ومقصودهم من هذه العبارة أنهم إذا وجدوا حديثا صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة ما ذهبوا إليه وتمسكوا به وعملوا بما فيه وتركوا آراء الرجال وأقيستهم. وبعد التتبع والاستقراء وجدنا جميع مذاهبهم تقوم على ثلاثة أركان:
الأول: صحة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني: إذا خالفت أقوالهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رددنا أقوالهم وأخذنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثالث: إذا صح الحديث في مسألة ما بخلاف ما قالوا رجعوا عما قالوه في حياتهم وبعد موتهم. (1)
إلى أن قال: فالذي يُلزم الناس باتباع مذهب معين ويحملهم على التقيد بجميع ما فيه من المسائل وعدم الخروج عنه دون المذاهب الأخرى فإنه غير موفق للصواب ومخالف لجميع مذاهب الأئمة أنفسهم، بل يكون جاهلا أو صاحب هوى متبعا لهواه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وهنا نسأل الذي يلزم الناس باتباع مذهب معين والتقيد به دون المذاهب الأخرى؟ هل يعتقد بعصمة من يدعو الناس لاتباع مذهبه؟ وهل أحاط صاحب ذلك المذهب بجميع تعاليم الإسلام كما أنزلها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كاملة وتامة؟.
فإن قال بعصمة صاحب المذهب وعدم الخطأ وأنه أحاط بجميع تعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة ولم يعزب عنه منها شيء فقد خالف الواقع المحسوس وما اتفقت عليه الأمة. وإن قال بعدم العصمة وبجواز الخطأ عليه وأنه لم يحط بجميع تعاليم الإسلام، فنقول له:كيف تلزم الناس بأن يتقيدوا بأقوال تحتمل الخطأ والصواب وبإسلام غير متكامل؟؟؟
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.132-134).(1/115)
وفي الحقيقة أن القول بإلزام الناس بمذهب واحد معين لا يعدو عن كونه نظرية من نسج الخيال ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، يكذبها الواقع واقع الإسلام وواقع المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة وتردها الأصول التي أصّلها أصحاب المذاهب أنفسهم. (1)
- وله أيضا كتاب 'الرسالة العظمى' لكنه لم يتمه.
وله ردود وتعقبات على كثير من الرسائل منها:
- 'تبسيط عقائد المسلمين' لحسن أيوب.
- 'نحو كلمة سواء وحوار كريم' لعبدالله نجيب.
- 'الإمام الشيرازي' لمحمد حسن هيتو. وغيرها.
موقفه من الجهمية:
له رسالة في التوحيد.
قال فيها رحمه الله: أقول: فأي محادة لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر عند الله من ملحد يسمع قول الله: وَتَوَكَّلْ { عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا } يَمُوتُ (2) اللَّهُ { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (3) ويقول: (لا أقول حي ولا لا حي) ويسمع قول الله: عَالِمُ { الْغَيْبِ } وَالشَّهَادَةِ الآية (4) وقوله: إِن { اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } (38) (5) ويقول: (لا أقول عالم ولا لا عالم).
ولكن الحقيقة كل الحقيقة فَإِنَّهَا { لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (46) (6) وحسبهم قول الله: إِنَّ { الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } (20) (7) .
وهم القائلون: (سميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة ومريد بلا إرادة ومقتدر بلا قدرة... إلخ).
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.136-137).
(2) الفرقان الآية (58).
(3) البقرة الآية (256).
(4) الأنعام الآية (73).
(5) فاطر الآية (38).
(6) الحج الآية (46).
(7) المجادلة الآية (20).(1/116)
فرارا منهم من تعدد القديم زعموا. ونكتفي بالرد عليهم بما قاله الفاضل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل، فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن نقول هو أسود إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد. وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات استحال أن نقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك ولم يقم بها علم ولا قدرة) [1/309 أضواء البيان]. وهنا أسأل أتباع هؤلاء سؤالا على النمط الذي وجه إلى بشر المريسي في فتنة خلق القرآن. فأقول: "قولكم لا نقول عالم ولا لا عالم وحي ولا لا حي وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة وقادر بلا قدرة... إلخ" هل هذا القول من الدين الذي أكمله الله وأتمه ورضيه لنا دينا أم لا؟
فإن قلتم: من الدين، نقول لكم: هل علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم جهله؟ فإن قلتم: جهله، نقول لكم إنكم قد نسبتم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهل في الدين.
شيء من الدين جهله النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمتموه أنتم، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وإن قلتم علمه: نقول لكم: هل علّمه أحدا من أصحابه رضوان الله عليهم أم سكت عنه؟ فإن قلتم: علمه، نقول لكم: من روى هذا عنه - صلى الله عليه وسلم - ؟ وفي أي الكتب روى؟ ودونكم خرط القتاد أن تثبتوا ذلك وأنى لكم التناوش.
وإن قلتم سكت عنه ولم يعلمه أحد من أصحابه، نقول لكم: شيء سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلمه أحدا من أصحابه وسكت عنه الخلفاء والصحابة وسكت عنه التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا ولم يعلموه أحدا من العالمين ألا يسعكم السكوت عنه؟ لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم.(1/117)
وهذا السؤال يصلح أن يسأل به عن كل قول قاله الزنادقة والباطنية الحاقدة وعلماء الكلام وكذلك أتباع المشبهة والمجسمة والمعطلة والمؤولة والواقفية والمفوضة وغيرهم ولله الحمد والمنة. (1)
- وقال رحمه الله ردا على المؤولة، ومبينا فساد مذهبهم: أقول في مقالتهم هذه أن ظواهر هذه الصفات والمتبادر للذهب والسابق إلى الفهم من معاني الاستواء والنزول... هو مشابهة صفات المخلوقين... إلخ. إساءة الظن بالله جل وعلا واتهام لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف يسوغ بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أن في كلام الله الذي أنزله في كتابه ووصف به نفسه ما ظاهره التشبيه والكفر، ويتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم بيان ما ظاهره الكفر والتشبيه للأمة، مع أنه مأمور بتبليغ الرسالة للناس كافة وتبيين لهم ما نزل إليهم، وكيف يخطر ببال مسلم أن استواء الله على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة ووجهه ويده ورضاه وغضبه... إلخ يشبه صفات المخلوقين وهو القائل جل وعلا: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) .
ولكن أبى الزنادقة والباطنية الحاقدة وأفراخ الفلاسفة الملحدين وتلامذة المتكلمين واليهود المارقين، أبوا إلا الدس في هذا الدين الحنيف وزعزعة عقائد المسلمين، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. (3)
أسامة بن توفيق القصاص (4) (1408 هـ)
__________
(1) المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف (ص.50-52).
(2) الشورى الآية (11).
(3) المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف (ص.59).
(4) من مقدمة كتابه 'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين' بقلم الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق.(1/118)
الشاب الهمام العالم أسامة بن توفيق القصاص الداعية الفريد، وضع رحمه الله نفسه في خدمة العلم، ورفع منار التوحيد الخالص، والتعريف بالله الواحد، والتصدي بكل قوة لفرقة ضلت وانحرفت عن فهم صفات ربها وألحدت في أسمائه، وكفرت المسلمين، وسبت وشتمت علماء الإسلام واستحلت دماء الموحدين، وعاثت في الأرض فسادا... وأن هذا الجهبذ رحمه الله رحمة واسعة كان يعلم أن وراء بيان الحق وإنكار منكر هذه الطائفة الضالة أن يعرض نفسه للقتل. ومع ذلك فإنه لم يأبه لذلك، بل قال في كتابه هذا: (لقد هددوني بالقتل، وأوعزوا إلى أحدهم بالفعل، وهم يجهلون أنني أرضى بأن يطاح برأسي مقابل رأسهم وهم يظنون أن الله غافل عما يفعلون، أو أن المسلمين عنهم لاهون... ألا إن الصبح قريب، وسبحان ربنا القائل: قُلْ { لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } (1) .
قتلته رحمه الله فرقة الأحباش الضالة المنحرفة بطرابلس الشام. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
من تآليفه 'إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة' و'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين'.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) التوبة الآيتان (51و52).(1/119)
قال في كتابه 'إشراقة الشرعة' راد على من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة، وأدحض فيه شبههم الواهية: فاعلم أخي أن حثالة من الناس حملت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول بعض الصحابة، بل وقول بعض العلماء، على فهمها المعوج، لتضرب بذلك السنة الصريحة الواضحة، بل لتضرب الدين بالدين كفعل الزنادقة الملحدين الذين كان دأبهم أن يشككوا الناس في إسلامهم؛ وهكذا فالفعل شاهد المقصد. وغاية ما في الأمر أن بعض العلماء المتأخرين قال بتقسيم البدعة، وتبعه على ذلك من تبعه، ولكن تذرع من لا فهم عنده بهذا الأمر ليقول: إن بعض الابتداع في الدين يكون حسنا أو واجبا أو ما شابه، رافعا هذا القول لواء، وظانا أن بعض السنة يعاضده ويسانده ففرح المسكين، واستمال بذلك قلوب العامة... (1)
- وقال أيضا: عليك أن تعرف أخي أن الابتداع معناه أحد أمرين:
... إما أن الله تعالى لم يكمل الدين؛ وهذا كفر، إذ يقول الله سبحانه: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) .
وإما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخفق ولم يبلغ الرسالة حق التبليغ؛ وهذا اتهام له بالخيانة، وهو كفر، فالله تعالى امتدحه وجعله خاتم الرسل، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم" (3) .
__________
(1) إشراقة الشرعة (ص.13).
(2) المائدة الآية (3).
(3) أخرجه: أحمد (2/161) ومسلم (3/1472-1473/1844) والنسائي (7/172-173/4202) وابن ماجه (2/1306-1307/3956). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.(1/120)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به" (1) . وقالت عائشة لمسروق رضي الله عنهما: "ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا مما نزل عليه فقد كذب" (2) .
وقال مالك رحمه الله في هذا الشأن وهو عالم دار الهجرة: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (3) ، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا).
فمن ابتدع إذا كان هذا معنى فعله، وهو أنه متهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيانة لدين الله وحاشاه.
وكذلك ليس لأحد أن يقول عن شيء هذا أمر صغير أو حسن، لأن الوصف لا وزن له مع قبح الفعل وهو الابتداع؛ لأن البدعة مضاهية للشريعة، والتشريع من حق الشارع. ومن قال عما لم يكن مشروعا: هذا حسن، فكأنما نصب نفسه إلها أو ندا لله تعالى، وكذلك العقل فهو مناط التكليف، ولم يقل أحد هو مناط التشريع، ولو كان ذلك من حقوقه لما كان هناك من دافع إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل، إذ كل منا عندئذ يتخذ دينا يتعبد به بمحض اختياره. وهذا كله باطل، فالدين واحد وهو كامل لا يحتاج إلى من يزيد عليه، وليس للبشر ولا للملائكة ولا للجن أن يتصرفوا فيه بالزيادة والنقصان، فإذا كان هذا ليس من حق الرسل، فكيف يكون من حق من هو دونهم؟!
__________
(1) أخرجه: الشافعي في الرسالة: (ص.87) فقرة (289)، وعنه البيهقي (7/76) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/270) مرسلا عن المطلب بن حنطب. قال الشيخ الألباني إسناده مرسل حسن، وذكر للحديث شواهد يتقوى بها (الصحيحة: 4/417).
(2) أحمد (6/49،50) والبخاري (8/349/4612) ومسلم (1/159/177) والترمذي (5/3068-3069/3278).
(3) المائدة الآية (3).(1/121)
قال الله تعالى في رسوله اللأعظم: وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) (1) .
فهذا الوصف الرباني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين لنا أن كلامه لم يكن من عنده، بل هو وحي من الله، ويؤكد وجوب اتباع القرآن والسنة، لكونهما خاليين من هواه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن هنا كانا دينا يتعبد به ويلتزم. فكيف يتعبد إذاً بقول الرجال وأهواء الجهال؟!! اللهم غفرا. (2)
- وقال: ومن أشنع وأبشع ما يسمع من الكلام قول بعض الجهال -إذا ما نهيته عن بدعة-: (أهذا الأمر الصغير بدعة؟) فمشكلة هؤلاء أن أحدهم ينظر إلى البدعة في شكلها لا فعلها، ولو فقهوا معناها لأدركوا قيمة هذا النهي ولكن هيهات، فقد غلفت قلوبهم غشاوة الاستحسان، فأصبحوا لا يفرقون بين السنة والبدعة بخلاف السني فإن قلبه مرآة صافية، إذا ما عرضت له نكتة سوداء سارع إلى حكها، لأنها تظهر بوضوح لنصاعة القلب وطهره، وليعلم الجاهل بأن الأمر إن كان تافها في عينه لا يحتاج إلى نهي فإنه لا بد ولا ريب سيترسخ في يوم من الأيام حتى يصبح عند الناس سنة، وهذا خطر جسيم، لأن شرائع أو طبائع البشر تصبح بذلك دينا، والإسلام لا يقبل الزيادة أو النقصان. (3)
- وقال: فالمبتدع كما ترى سفيه أحمق وعقله مغلق، يظن بفعله أنه يؤجر ويثاب، ولا يدري ما ينتظره من العقاب، وهو يحتج على نهيك بقول ساقط وخيم، وهو أنه يصلي أو يذكر أو يصوم، ويتجاهل أن هذه العبادات لها كيفيات وأوقات، فإن خرجت عنها استحق صاحبها العقوبات وخرجت عن كونها قربات. (4)
وقال (5) :
عصابة ظهرت في الدين مفتتنة ... قالت وجدنا وجدنا بدعة حسنه
وكان تقسيم بعض الناس عمدتَها ... مع أنه لغوي عند من وزنه
تعسا لها جهلت أن كل محدثة ... في الشرع مذمومة قد خالفت سننه
__________
(1) النجم الآيتان (3و4).
(2) إشراقة الشرعة (ص.15-17).
(3) إشراقة الشرعة (ص.86).
(4) إشراقة الشرعة (ص.94).
(5) إشراقة الشرعة (ص.99-103).(1/122)
إذ لم يفرق بقول منه ينصرها ... بل قوله (كل) يعني كلها نتنه
وإن من صحبوا المختار سائرهم ... نصوا على قبحها ردا على الخونه
حتى الذي صنعوا من قوله حججا ... وحرفوا قصده قد حوربت زَمَنَه
لم يعرفوا عمرا يا ويح نظرتهم ... فكيف يهدون إذ أفهامهم زَمِنَه
هو المداوي صبيغا من ضلالته ... بضرب عرجونة وهو الذي سجنه
قلنا لهم بحديث المصطفى اعتصموا ... فعصمة المرء بالقرآن إن قرنه
لكنهم أعرضوا عن قولنا عجبا ... يستحسنون بأهواء لهم عفنه
كم من حقائق عن أحوالهم ظهرت ... إن رمت تعرفها سل أنفسا فطنه
فقد كشفنا معاني فعلهم ولذا ... تعلق القلب بالمأثور واحتضنه
النفس جامحة مثل الحصان فإن ... تتركه يهلك لذا أحكم له رسنه
ما الابتداع سوى أهواء صاحبها فكل مبتدع لا بد متبع ... لأنه مظهر ما النفس مختزنه
وديننا آية أو سنة أبدا ... لها فما خرجت عن كونها وثنه
فذاك موطننا لانرتضي بدلا ... دوما على مثل هذا الروح مئتمنه
فيه الأمان فهلا كنت زائره ... وإن رأى غيرنا في غيره وطنه
لا تحتقر أهل من دانوا بمنهجنا ... حتى تسائل عما فيه من سكنه
في الله حدتهم هذي مزيتهم ... حتى وإن خرجت ألفاظهم خشنه
فالحق غايتهم والصدق رايتهم ... عند التعدي أتبقى النفس متزنهه؟
الشرع بالنص لا بالقول تعرفه ... ماذا يروم الفتى بعد الذي أمنه
كم باطل فيه ألفاظ منمقة ... فلن يكون لأقوال الرجال زنه
وكم طوائف هلكى في ضلالتها ... وكم خبيث يرى في عصبة لسنه
فالمحدثات كموج فيه ملتطم ... هذا الزمان عصيب فاجتنب فتنه
أمواجه بالهوى لا بالهوا اضطربت ... يا ويل خائضه هلا درى جننه
فيها الهلاك بغير المصطفى ونجا ... أثارها فئة للدين ممتهنه
أهل الحديث هم الناجون وحدهم يا قبح شانئهم لو فيه من خفر ... من كان متخذا آثاره سفنه
فهل سلا غضبة الجبار مبتدع ... وسط الخضم وإن لاقوا به محنه
ومستحق لهذا من طغى وبغى ... لكان منه لسان السوء قد دفنه
تراه عند لقاء الرعن مبتهجا ... وَيْلُمِّهِ كم رسول الله قد لعنه
فلا تجالس عدوا للحديث فكم ... إذ تلك مهنته بالسوء مرتهنه(1/123)
أنقذ بذلك من أمسى ضحيتهم ... وإن يلاقي مداري سنة طعنه
وإن أصابك من جراء ذا ضرر ... بسمه محدث من صاحب حقنه
من كان متبعا نهج الرسول أخي هيء وليدك وازرع فيه سنته ... وقل ليصرف عن أقوالهم أذنه
هذي الرعاية أعلى في جلالتها ... فهب لغيرك نصحا وانتظر ثمنه
عود بنيك لزوم الاقتداء به ... إلى النهاية سنيا ترى كفنه
يا ويحهم نحن حراس العقيدة كم ... كذا بحب الصحاب امزج له لبنه
نحن الهداة علينا واجب ولذا ... من أن تنمي أو ترعى له بدنه
يا عزنا عندما نلقى الإله غدا ... حتى يكونوا رجالا بالعلى قمنه
فأين هم؟ يا لهم زادوا ببدعتهم ... تخشى العيون لغدر الجهل وطء سنه
لاشك أنهم ليسوا بذا معنا ... منا القلوب بهذا الأمر ممتحنه
إن قيل ما فعلوا؟ قلنا قد اتخذوا ... وقد أباح لنا من فضله عدنه
على البناء الذي لم يفتقد لبنه
بل مع زبانية للنار هم خزنه
لهم مشائخ كالأحبار والكهنه
موقفه من الجهمية:
له كتاب: 'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين'. أو 'إثبات علو الرحمن من قول فرعون لهامان' كما سماه في مقدمته، وهو مطبوع متداول في جزءين، طبع دار الهجرة.
قرر فيه صفة (العلو) لله عز وجل بالأدلة السمعية: القرآن والسنة والآثار وضمنها نقولا عن الأئمة في الأخذ بهذه الأدلة.
وناقش فيه المخالفين بالحجج العقلية، قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: أبدأ بعون الله تعالى فأقول: إنه من المصائب الكبرى ما يردده أتباع الجهمية في عصرنا الحاضر، وهو إنكار علو الله تعالى على خلقه، وإنكار استوائه على عرشه، معتمدين بذلك على عقول بعض الجهال، الذين أخذوا دينهم عن المحاولات الفلسفية، والسفسطات الكلامية، وراحوا يردون دين الله بالشبهات، مما أدخل على فطر بعض الناس شوائب كثيرة، حتى اجترؤوا على كلام الله وكلام رسوله، وظنوا أن هذا تنزيها لله سبحانه وتعالى وما هو بتنزيه فقد ظنوا التعطيل تنزيها، فعبدوا العدم، وقالوا أقوالا، لا يجرؤ على ذكرها القلم.(1/124)
لقد أعاد التاريخ نفسه، ولملم معه بعض شتات الانحراف، فرمى على درب الزمان، نسخة ممسوخة، لو قلبتها بين يديك، وأمعنت فيها النظر، لنظرت فيها نماذج، من بعض أنواع البشر.
إن كان قد عير التاريخ، بمثل جهم بن صفوان، وبشر المريسي، والجعد ابن درهم، وغيرهم من رموز الضلال.
فلايزال العار آخذا بصفحة عنقه، ودامغا على جبهته، ولكن بصور أخرى لتلك الرموز.
ها هم اليوم أفراخ الجهمية يتخذون لأنفسهم رؤوسا، ليسلكوا تلك الطريق، التي عجز عن سلوكها أربابهم، لعلهم ينجحون في المهمة المستحيلة، ويا ليتهم يعودون عن غيهم إلى الرشد، ويدركون تلك الحقيقة.. حقيقة الوعد.
نعم، حقيقة الوعد من الله بحفظ هذا الدين، فلينظروا كيف قيض الله عبر العصور، وعلى امتداد الزمان لهذا الدين، من ينافح عنه، ويذب كل دخيل، جاعلا من نفسه سياجا يقي صفاءه من الكدر، ويحمي سماحته من شياطين الجن والبشر، كيلا يحولوا بساطته إلى رمز خفي، تنقطع دون فهمه أعناق المطي.
لقد اتخذ بعضهم شيخا لهم الذي قال مدعيا كما قال غيره:
اثنان من يعذلني فيهما ... فهو على التحقيق مني بري
حب أبي بكر إمام الهدى ... ثم اعتقادي مذهب الأشعري
قلت: هذا زعم منك، وإني لأقول لك:
بل أنت لا تصدق يا عبدري ... ها جئت بالمذموم والمنكر
إن كنت بالتعطيل له تابعا ... قد عاد عن تعطيله الأشعري
أو كنت في شك وفي ريبة ... فانظر لهذا "كذب المفتري"
قد صور التاريخ عارا، بدى ... في صورة من صور الأعصر
مثل المريسي وجهم نرى ... فيك وفي سيدك الكوثري
لقد غفل الإمبراطور وعصابته، عن أن صفات الله لا تقاس بصفات المخلوقين، ولم يدركوا ما لعلوه سبحانه فوق خلقه، من آيات العظمة التي لا تحصى. فكيف يرد الدين لقول الجاحدين والجاهلين؟!! سبحانك ربي! هذا بهتان عظيم.
وقد فصل الله آياته وأحكمها، فهي هدى ونور للمتقين، الذين أرادوا الله، إذن كيف يدعونها لقواعد فلسفية بنيت على المقاييس!؟ ففي كتاب الله، فصل المقال، يهرع إليه عند النزاع.(1/125)
فالله تعالى يقول: الر { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (1) (1) ويقول سبحانه: أَأَنْتُمْ { أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } (2) فهو في كتابه المفصل والمحكم، وصف نفسه بالعلو، ثم جئتم أنتم تنكرون آَللَّهُ { أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } (59) (3) قُلِ { اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } (4) .
إنكم تردون الحق بحجج متهافتة وواهية، كلها مبنية على المقاييس، وكل ذلك وحي من الشيطان، كما أوحى إلى مشركي مكة أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشاة، تصبح ميتة: من قتلها؟ فقال: "الله قتلها" (5) فأوحى إليهم أن يقولوا له: "ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم إذن أحسن من الله؟" فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ { الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } (121) (6) .
فنحن لا نحب الجدال والمراء، لأن الله ما غضب على قوم إلا أورثهم الجدل، ويعلم الله أنني عندما أسير في الطريق، أتذكر قول الله تعالى: وَقُلْ { رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } (98) (7) .
ولكن الحاجة في بعض الأحيان، تستدعي المجابهة والمواجهة، ولاسيما عندما يوجد معهم، بعض المساكين، الذين يلبسون عليهم الحقائق، ويزرعون في أذهانهم الشبهات.
__________
(1) هود الآية (1).
(2) البقرة الآية (140).
(3) يونس الآية (59).
(4) الزمر الآية (14).
(5) أخرجه: أبو داود (3/245/2818) والترمذي (5/246/3069) وحسنه والنسائي في الكبرى (6/342/11171) وابن ماجه (2/7059/3173).
(6) الأنعام الآية (121).
(7) المؤمنون الآيتان (97و98).(1/126)
وبفضل الله تعالى -وهو ينصر دينه- تسقط حججهم في كل جلسة مناظرة، الواحدة تلو الأخرى، والله يقول: فَسَيُنْفِقُونَهَا { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } (1) .
وقد عرفت بحكم الاحتكاك المتواصل بهم، والممارسات المتلاحقة، أنهم لا يأخذون بظاهر النصوص، فهم يقرون بوجود الآيات والأحاديث، لكن يتأولون ذلك على غير حقيقته، الأمر الذي دفعني إلى أن أرد عليهم ردا عقليا، يخصهم، لعلهم يرجعون عما هم فيه من التحريف، والله يعلم أنني لم أكن محبا لما خط قلمي، لميلي إلى أسلوب النصوص، ولكن الحاجة ماسة، وتستدعي مثل هذا النوع من الردود، وهو أمر بحسب الضرورة، لا سيما أن المسلم بحكم طبيعته، لا ينبغي -في حيز العلاقات- أن يخلو من رابطتين:
رابطة العبادة، وتكون بين العبد والمعبود.
ورابطة الدعوة إلى العبادة، وتكون بين العبد والعبد.
وليس في التوحيد أنانية، حتى يستأثر العبد به دون سواه، بل عليه أن يوحد الله، وأن يدعو غيره إلى توحيده.
هذا، ولما عرفت من أنهم لا ينكرون النصوص، بل يؤولونها، كان الأمر مستدعيا، أن يرد عليهم رد يلزمون به، وإن كان عقليا، والضرورة تعظم عندما يعلم المسلم أن رجوع أحدهم عن غيه، إنما هو رجوع لخلق معه، بل إحالة دون وقوع أناس في هذا الشرك، لأن أحدهم لابد من أن يدعو إلى ضلاله أناسا كثيرين.
وقام بتوجيه مثل هذه الردود، علماء عظماء، وعلى رأسهم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، ونرى ذلك في رده الذي أقام به الحجة على الجهمية والزنادقة، حيث قال رضي الله تعالى عنه: (إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لابد له من واحد منهما.
__________
(1) الأنفال الآية (38).(1/127)
إن زعم أن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا كفرا أيضا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة).
وهذا من نمط الردود العقلية، دعت إليه الحاجة والضرورة.. وقد يكون واجبا في بعض الأحيان كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وكان العلماء الأوائل قد ردوا على أربابهم بالنصوص، ولما كانت هناك شبهات أخرى حادثة عند هؤلاء الموجودين بين أرجلنا، دعت الحاجة إلى أن يرد عليهم بالنصوص أيضا، مع إسقاط تأويلاتهم وتحريفاتهم، ورد شبهاتهم بالحجج والبراهين، وهذا ما حبذه الكثير من أهل الحق، وهو أن يرد عليهم بالآيات والأحاديث مع رد تأويلاتهم لها، لا الاكتفاء بسردها.
وما كان ضلالهم إلا بالظن واتباع الهوى، والله تبارك وتعالى يقول: إِنْ { يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } (23) (1) .
فقد أرادوا تنزيه الله بعقولهم وأهوائهم، ونصبوا أنفسهم حاكما على الله، يثبتون له ما يشاؤون، وينفون عنه ما يختارون، فكان مثلهم كمثل الَّذِينَ { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (2) .
فهؤلاء هم الأخسرون أعمالا، وهم في الدنيا عمي: وَمَنْ { كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } (72) (3) .
وهذا ما عزمنا على القيام به، مستعينين بالله تعالى.
__________
(1) النجم الآية (23).
(2) الكهف الآية (104).
(3) الإسراء الآية (72).(1/128)
ولا يمكننا تجاهل ذلك الفرق العظيم بينهم وبين أجدادهم، فهم يقولون (الله ليس في مكان على الإطلاق) فهو عندهم، ليس فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا خلف، ولا أمام، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه. ولا داخل العالم ولا خارجه. وهكذا شبهوا الرب سبحانه بالعدم.
فكان هذان الفريقان بين الإفراط والتفريط.
أو ليس كان يسعهم أن يكونوا على منهاج أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقولون: ربنا في السماء، كما أخبر وأنزل، فيرفعون أيديهم إليه، ويسألونه الهدى والتقى، والعفاف والغنى، ولكن ماذا نقول!!
فلا اعتراض على قدر الله الذي من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأما الذين يؤمنون بكتاب الله تعالى، أي الذي يتبعون ما فيه فهؤلاء اتبعوا الهدى، إذ يقول المولى: الم { (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } (2) (1) وهم يزدادون من هدى الله كلما ازداد اتباعهم له.
ك‰ƒج"tƒur { اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } (2) ، فهذا الهدى لا يأتي إلا باتباع ما أنزل وبالإيمان به على الحقيقة التي نزل بها، لا تأويل ولا تعطيل، لأن الله أنزل الكتاب ليبين الحق وينير السبيل ...
وها قد أضفت إلى صواعق العلماء صاعقة جديدة، فيها من الحقائق والبراهين النقلية عن الله وعن رسوله وعن علماء الأمة، ما يدمر الأكاذيب والأباطيل، لاسيما أن الرسالة الأولى التي ناقشتهم فيها بالعقل، كانت تحتاج إلى الأصل، وهو أن يؤخذ الدين بالنقل لا بالعقل، ولكن سبحان الله! فقد كانت الظروف والدوافع إلى إخراج تلك قبل هذه كثيرة.
__________
(1) البقرة الآيتان (1و2).
(2) مريم الآية (76).(1/129)
وفي هذه الرسالة برهان لكبارهم وصغارهم، فمن جحد بعدها، فلا أظن أنه يؤمن بحقيقة آية من آيات الله، وقد اتبعت فيها أسلوبا مجديا، يناسب الشبهات الجديدة التي أوردوها، إذ ذكرت الأدلة من الآيات والسنن ثم جاوبت عن كل عذر اعتذروا به أو تذرعوا، وأبطلت كل مذهب ذهبوا إليه، وكشفت الستار عن شبهات يطرحونها بين الناس ليلبسوا عليهم دينهم، فكبلت أقوالهم بقيود الكتاب والسنة، ومدلول العربية التي خاطب الله بها عباده في قرآنه العزيز. (1)
محمد جميل غازي (1409 هـ)
الشيخ محمد جميل غازي ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، بقرية كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ بمصر، وقد حصل على الشهادة الابتدائية بتفوق في عام ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف من المعهد الأحمدي بطنطا، ثم أكمل دراسته بنفس المعهد وبعد حصوله على العالمية "ليسانس اللغة العربية" في عام ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف عمل الشيخ موظفا بوزارة الثقافة بمحافظة المنصورة، ثم انتقل للعمل بالقاهرة، فاتسع نشاطه وذاع صيته.
حصل الشيخ على درجة الماجستير في الآداب، ثم الدكتوراة في عام اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف بامتياز مع مرتبة الشرف، وكان موضوعها: 'تحقيق كتاب: لأبي هلال العسكري'.
ترأس الشيخ مجلس إدارة المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة بعد أن أسسه.
هذا، وقد وصل الشيخ إلى درجة "كبير الباحثين" في المجلس الأعلى للفنون والآداب، كما تم اختياره -قبل وفاته- عضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وله مؤلفات عديدة من بينها: 'مفردات القرآن الكريم' و'الطلاق شريعة محكمة لا أهواء متحكمة' و'الصوفية: الوجه الآخر'.
وتوفي رحمه الله في الأول من ربيع الأول عام تسع وأربعمائة وألف، وتظل القضية التي شغلت حياته هي: محاربة البدع والخرافات، وكشف أوهام الصوفية، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونشر العلم الصحيح بين الناس.
__________
(1) إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين (ص.6-23).(1/130)
موقفه من المبتدعة:
له تقدمة على كتاب 'العواصم من القواصم' لابن العربي، قال فيها: وينبغي لنا، ويجمل بنا، أن نتوقف عند هذه النقطة من هذه المقدمة لنقول: إن ثراء الثقافة الإسلامية.. وإن باب الاجتهاد المفتوح على مصاريعه فيها.. وإن ترحيبها المستمر بكل الأمم والشعوب.. إن كل أولئك كان مدخلا تسللت منه رواسب ثقافات، وبقايا اعتقادات ومزيج من الخرافات التي لا تتفق مع الإسلام في الشكل أو في الموضوع. أرأيت إلى النهر العظيم، وهو يهدر في مجراه.. وينساب قويا عظيما ليروي الظماء من البشر والحيوان والطير والقفار.. أرأيت إلى هذا المنهل العذب وعطائه العظيم.. كذلك.. نهر الثقافة الإسلامية.. ثم.. أرأيت إلى ما يعلق بهذا النهر من غثاء.. ونباتات طفيلية.. وجنادل وصخور ناتئة من شطآنه.. أو ملقاة في سبيل مده الهادر. كذلك.. نهر الثقافة الإسلامية. وإذا كان كل نهر في حاجة إلى من يطهر مجراه.. ويعمقه.. ويزيل ما علق بمجراه، من كل ما يعوق تدفقه واندفاعه فكذلك الإسلام.. وهذا هو دور المجددين الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" (1) .. وكلمة (من) لا تعني مجددا واحدا.. بل تعني عشرات، ومئات، وألوف المجددين.. على طول الزمان.. وعرض المكان. والتجديد يكون لأمر الدين لا للدين نفسه. وأمر الدين كله يتسع ليشمل كل المعارف التي فجرها هذا الدين، سواء أكانت في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم أصول الدنيا.. إن الأمم الكثيرة والأملاء التي لا تكاد تنتهي حصرا واستقصاء من الداخلين في هذا الدين..
__________
(1) أبو داود (4/480/4291) والحاكم (4/522) وقال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (559): "سكت عليه الحاكم والذهبي، وأما المناوي فنقل عنه أنه صححه، فلعله سقط ذلك من النسخة المطبوعة من المستدرك، والسند صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم".(1/131)
قد جروا معهم عن قصد أو عن غير قصد، بحسن نية أو بسوء نية.. مجموعة من الأفكار، والاتجاهات، والمأثورات الشعبية، والأساطير القومية والاتجاهات السياسية، والانتماءات الحزبية. وكل ذلك -وغيره كثير- شكل ركاما من الدخيل الذي ألصق بالثقافة الإسلامية إلصاقا.. ومثل من نسميه بالخرافات والبدع والأقاصيص. ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- معبرا للتصورات الباهتة، والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبا ضد حزب، وتعين فريقا على فريق، إن "الرواية التاريخية" أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم يقتلون بها.. ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم.. وإذا كانت "الحرب الباردة" تعتمد على "الإشاعة" و"الأكاذيب".. فإن "الإشاعة" و"الأكاذيب" تحولت إلى روايات تاريخية.. بل إلى روايات حديثية.. يضعها الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو يوقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته رضوان الله عليهم.. وإن الله الذي تعهد بحفظ "ذكره" و"وحيه" قيض لهذه الثقافة من ينفي عنها الخبث والعبث والضلال والتضليل والزيف والدخيل. (1)
عبدالله بن محمد بن أحمد بن الدويش (2) (1409 هـ)
الشيخ عبدالله بن محمد بن أحمد بن محمد الدويش، ولد بمدينة الزلفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف، ونشأ نشأة صالحة، ورحل إلى مدينة بريدة طالبا للعلم، فحصله وأصبح من أعلامه. وكان رحمه الله آية في الحفظ وكان مكبا على كتب السلف الصالح، ولذلك تجده شديد التأثر بهم وبأحوالهم. وكان أشد تأثرا بشيخي الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب وتلاميذهما من أئمة الدعوة.
__________
(1) العواصم من القواصم (8-9).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/386-391).(1/132)
قال الشيخ عبدالله البسام: وكان واسع الأفق، جيد الفهم والحفظ لما يقرأ ويلقى عليه، وشاهد ذلك بروزه في وقت قصير، فقد قيل إنه يحفظ الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث، وكان عنده من كل فن طرف جيد، لأنه كان مكبا على دراسة هذه الفنون، فكان عالما بالعقيدة والتوحيد والتفسير والفقه والنحو. من شيوخه الشيخ صالح بن أحمد الخريص والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز التويجري وغيرهم. جلس للتدريس والإفادة، فنفع الله بعلمه، وله مؤلفات مفيدة ونافعة.
توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه، وذلك سنة تسع وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'التوضيح المفيد لشرح مسائل كتاب التوحيد'.
2- 'دفاع أهل السنة والإيمان عن حديث خلق آدم على صورة الرحمن'.
3- 'الألفاظ الموضحات لأخطاء دلائل الخيرات'.
4- 'المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال'.
5- 'الزوائد على مسائل الجاهلية'. (1)
عبد الله كنون (1409 هـ)
رئيس رابطة علماء المغرب وأمينها العام. ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة بفاس، حفظ القرآن صغيرا، ثم التحق بالقرويين للدراسة بها، وبعدها رحل مع والده إلى طنجة. من شيوخه الذين تأثر بهم أبو شعيب الدكالي.
__________
(1) علماء نجد (4/390-391).(1/133)
أسس المعهد الإسلامي بطنجة وكان أستاذا بالمعهد العالي بتطوان، ثم مديرا لمعهد الحسن الثاني، ثم عين وزيرا للعدل، شارك في تأسيس الجمعية الوطنية الأولى بقيادة محمد عبدالكريم الخطابي، عين سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وسنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وسنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، واختير أيضا عضوا بالمجمع العلمي العراقي، وشارك في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، أسندت إليه رئاسة صحيفة الميثاق لسان رابطة العلماء.
توفي في الخامس من شهر ذي الحجة سنة تسع وأربعمائة وألف للهجرة.
له نحو خمسين كتابا منها:
1-'أدب الفقهاء'.
2- 'الإسلام أهدى'.
3- 'إسلام رائد'.
4- 'ترتيب أحاديث الشهاب لابن الحسن القلعي'.
5- 'تفسير سور المفصل من القرآن الكريم'.
6- 'تفسير الفاتحة'.
7- 'الرد القرآني على كتاب: هل يمكن الاعتقاد بالقرآن'.
8- 'فضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين'.
9- 'مفاهيم إسلامية'.
10- 'النبوغ المغربي'.
11- 'التعاشيب'. وكلها منشور مطبوع. (1)
موقفه من المبتدعة:
- قال في مقدمته لفتاوى محمد كنوني المذكوري: تعتبر مهمة الإفتاء مسؤولية دينية ودنيوية معا، فالمفتي مخبر عن الله كما يقول الفقهاء، أي عن شرعه وأحكام دينه، وهو بمقتضى ذلك يجب أن لا يصدر فتوى إلا بعد التحري والمبالغة في تحرير مناط المسألة والتماس الدليل الشرعي عليها.
ومن حيث أن الفتوى تتعلق بأحكام المعاملات، كما تتعلق بأحكام العبادات، فتمنع بها حقوق وتستباح حرمات؛ فإن المفتي يتحمل بذلك عبئا ثقيلا من أمر الدين والدنيا.
__________
(1) تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (2/15).(1/134)
وكانت الفتوى قبل اليوم تدور في فلك المذهب وقواعده، وتعتمد أقوال علمائه وحاملي رايته، لا تكاد تخرج عن ذلك إلا نادرا حينما يكون الدليل الشرعي واضحا وبمتناول الجميع، أما اليوم وبعد أن نشرت كتب السنة وشروحها وكتب الخلاف العالي والمذاهب الفقهية المتعددة، وأصبحت متداولة بين أيدي الناس، واطلع الفقهاء وطلبة العلم على ما بها من أدلة ومدارك تخالف ما كانوا يعهدونه ويتمسكون به في بعض المسائل؛ فإن المفتي الآن صار مطالبا بتخريج المسألة على مقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة وما في حكمهما، ومقارنة المذاهب وأقوال الأئمة والترجيح بينها.
- وفي معرض كلامه عن دولة المرابطين بالمغرب واهتمامهم بالفقه والفقهاء قال: على أن اهتمام المرابطين بعلوم الدين كان يزينه وصف شريف، وخلق نبيل هو تشبعه بالروح السلفي المتسامح، الخالص من شوائب التنطع والتعمق، وعدم مجاراته للخلافات المذهبية والبدع والأهواء التي كانت حينئذ تنخر جسم الوحدة الإسلامية بالشرق. (1)
- وقال في معرض تحقيقه لمسألة نسبة الدولة الموحدية لمذهب الظاهرية خلص إلى نفيه عنهم ثم قال: وإنما كان الفقهاء ينسبونهم إليها تشنيعا عليهم كما يقال اليوم في كل من كان سلفي العقيدة: إنه وهابي تنكيتا عليه وتنفيرا من مذهبه. (2)
موقفه من الصوفية:
- قال: فأما الطرقي فلا كلام لنا عليه، ومهما بلغ ما بلغ من العلم والفقه ودراسة الحديث، لا يمكن أن يعد من أتباع السنة أو الداعين إليها إلا إذا قلبت الحقائق وغيرت المفاهيم خصوصا إذا كان غاليا في الطرقية كما هو شأن الكثير ممن أدركناهم وعرفنا أحوالهم. (3)
__________
(1) النبوغ المغربي (ص.68).
(2) المصدر السابق (ص.125).
(3) مجلة دعوة الحق العدد السابع (ص.7)/السنة 1969م.(1/135)
- وقال عن دعوة الشيخ أبي شعيب الدكالي أيضا: وقد تخرج بالشيخ عدد وفير من أهل العلم وامتاز منهم بالخصوص في علم الحديث والدعوة إلى السنة أفراد معدودون ولكن قلّ منهم من سار على نهجه واتبع طريقه، فهذا شيخ متمكن من المادة الحديثية واصطلاح المحدثين ولكنه طرقي لم يرفع رأسا لما كان أستاذه يصوبه من أسهم النقد إلى الطرقيين وبدعهم ودعاويهم... وعاد كثير من الطرقيين إلى ما كانوا عليه من اعتقادات باطلة وشعارات لا أصل لها من السنة. (1)
الخميني الرافضي الخبيث (1409 هـ)
لقد حمل الخميني لواء الكيد لأهل الإسلام أهل السنة، كلما أتيحت له الفرصة نال منهم ومن أخيارهم، وإن حاول جاهدا كتم ذلك تقية ونفاقا، إلا أن ما سطرته يده من الكتب والرسائل تطفح بالحقد على أهل السنة عامة، والبغض لهم، والتربص بهم الدوائر، ووصفهم بكل ألقاب السوء كالكفر والردة والنفاق وغيرها.
وهو على مذهب الروافض الغلاة الاثنى عشرية الجعفرية، كما صرح بذلك حيث يقول في دستوره الذي وضعه لدولته في المادة الثانية عشرة: (الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنى عشري، وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد) (2) .
وهذه الشهادة منه على نفسه كافية لمعرفة الخميني الاثنى عشري، على وجه الحقيقة، وهذا الاعتراف قد يُلبَّس به على كثير من المغفلين فيقول أحدهم مثلا: إنما يدعو الخميني إلى الإسلام، فأي عيب في ذلك؟
فنقول وبالله التوفيق: أي إسلام تعني أنت؟ هل هو إسلام أبي بكر وعمر وجميع الصحب والآل؟ فبالطبع ستقول: نعم، فأقول: من هنا أُصبتَ. فليس هذا هو إسلام الخميني!! إنما الإسلام المزعوم عنده هو التكذيب أولا بمصادرنا الأصيلة كتابا وسنة جملة وتفصيلا،ثم تكفير خيار هذه الأمة من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحب، وهكذا كل من خالف ما هم عليه إلى قيام الساعة.
__________
(1) المصدر السابق (ص.9).
(2) الدستور (ص.23).(1/136)
وإليك أقوال الخميني من كتبه تدل على ما قلنا:
1- قوله بتحريف القرآن الذي بين أيدينا، وزعمه بوجود مصحف فاطمة الملهم من عند الله:
أصدر الخميني بمشاركة خمسة من علمائهم وآياتهم وثيقة كفرية يكفرون فيها أبا بكر وعمر، ويسمونهما بصنمي قريش؛ يتهمونهما بتحريف الكتاب -وسيأتي ذكر الوثيقة بتمامها- والشاهد منها هنا قولهم فيها: "وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرفا كتابك". ثم قالوا أيضا: "اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها". فهذا تصريح منه ومن أمثاله يدل دلالة واضحة على أن قرآننا لم يكن من عند الله بكماله وتمامه، وإنما زاد الصحابة فيه ونقصوا وحرفوا. فما جواب أهل الإيمان عن هذه الفرية؟!.
وهذا ليس بغريب عن الخميني؛ لأن مصادره التي يأخذ منها علمه مملوءة بهذا الزيف والكذب والافتراء، على رأسها كتاب الكافي للكليني، وكتاب مستدرك الوسائل للطبرسي وهو صاحب كتاب 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' وكذلك يأخذ من الوسائل للحر العاملي، والخميني شديد الترضي على هؤلاء.
كما يفخر الخميني بمصحف فاطمة الملفق، ويزعم أن الله ألهمها إياها، فقال في وصيته العالمية (1) السياسية: "ونحن نفخر بأن الأدعية وهي القرآن الصاعد وفيها الحياة إنما هي من فيض أئمتنا المعصومين، وعندنا مناجاة الأئمة الشعبانية ودعاء الحسين بن علي عليهما السلام في عرفات، وعندنا الصحيفة السجادية زبور آل محمد والصحيفة الفاطمية وهي الكتاب الذي ألهمه الله سبحانه وتعالى للزهراء المرضية".
__________
(1) نشرتها صحيفة 'كيهان الإيرانية' الصادرة باللغة العربية في عددها الصادر في 13 ذي القعدة 1409هـ الموافق لـ 17 حزيران 1989م بعنوان: نص الوصية الإلهية السياسية للإمام القائد قدس الله سره. ونشرتها أيضا مؤسسة الإمام الخميني الثقافية طهران (ص.12) بعنوان: الإمام الخميني، النداء الأخير.(1/137)
وقال: "والحديث الآخر يقول فيه: إن جبرائيل كان يأتي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بأنباء من الغيب، فيقوم أمير المؤمنين بتدوينها، وهذا هو مصحف فاطمة". (1)
2- موقفه من السنة وكتبها ورواتها:
لا يعترف الخميني بكتب السنة المعلومة عندنا كصحيح البخاري وصحيح مسلم والموطإ وغيرها. والسبب في ذلك أن رواتها ونقلتها عنده كلهم كذابون منافقون لا يخافون الله، غيروا وبدلوا تبعا لأهوائهم وأغراضهم. فلذلك فإن الخميني تبعا للشيعة الروافض لهم كتب تخصهم مخالفة لكتب أهل السنة، قال الخميني وهو يقرر الدستور في مادته الثانية أن نظامهم يقوم: "على أساس الكتاب وسنة المعصومين" (2) . فأين سنة سيد المرسلين؟!.
3- موقفه من الصحب الأخيار:
لقد طعن هذا الخبيث في أفضل الأمة بعد نبيها أبي بكر الصديق وكذا في عمر وعثمان رضي الله عنهم، بل وكفرهم ولعنهم، فما بالك بقوله في غيرهم من أهل الإسلام، فإليك بعض أقواله:
- "إننا هنا لا شأن لنا بالشيخين وما قاما به من مخالفات للقرآن، ومن تلاعب بأحكام الإله، وما حللاه وحرماه من عندهما، وما مارساه من ظلم ضد فاطمة ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وضد أولاده، ولكننا نشير إلى جهلهما بأحكام الإله والدين.
فقد قام أبو بكر بقطع اليد اليسرى لأحد اللصوص، وأحرق شخصا آخر؛ مع أن ذلك كان حراما.. وكان يجهل أحكام القاصرين، والإرث، ولم يطبق أحكام الله في خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة وأخذ زوجته في تلك الليلة نفسها.
__________
(1) كشف الأسرار (ص.143).
(2) الدستور (ص.20).(1/138)
أما عمر؛ فإن أعماله أكثر من أن تعد وتحصى، فقد أمر برجم امرأة حامل، وأخرى مجنونة، مع أن أمير المؤمنين نهاه عن ذلك، وأخطأ مرة فيما يخص أحكام المهر، فصححت إحدى النسوة - من خلف الحجب - خطأه، فقال عمر في ذلك: جميع الناس يعرفون أحكام الله خيرا مني، حتى النسوة الكائنات خلف الحجب، وخالف تعاليم الله والنبي، فحرم متعة الحج والنساء، وأحرق باب بيت الرسول. أما عثمان ومعاوية ويزيد، فإن الجميع يعرفونهم جيدا". (1)
- "نورد هنا مخالفات عمر لما ورد في القرآن، لنبين بأن معارضة القرآن لدى هؤلاء كانت أمرا هينا، ونؤكد بأنهم كانوا سيخالفون القرآن أيضا فيما إذا كان قد تحدث بصراحة عن الإمامة". (2)
- "وأغمض عينيه، وفي أذنيه كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية، والنابعة من أعمال الكفر والزندقة، والمخالفة لآيات ورد ذكرها في القرآن الكريم". (3)
- "دعاء صنمي قريش: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلبا دينك وحرفا كتابك وأحبا أعداءك وجحدا آلاءك وعطلا أحكامك وأبطلا فرائضك وألحدا في آياتك وعاديا أولياءك وواليا أعداءك وخربا بلادك وأفسدا عبادك.
اللهم العنهما واتباعهما وأولياءهما وأشياعهما ومحبيهما فقد أخربا بيت النبوة وردما بابه ونقضا سقفه وألحقا سماءه بأرضه وعاليه بسافله وظاهره بباطنه واستأصلا أهله وأبادا أنصاره وقتلا أطفاله وأخليا منبره من وصيه، ووارث علمه وجحدا إمامته وأشركا بربهما..! فعظم ذنبهما وخلدهما في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر.
__________
(1) كشف الأسرار له (ص.126-127).
(2) كشف الأسرار (ص.135).
(3) كشف الأسرار (ص.137-138).(1/139)
اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه وحق أخفوه ومنبر علوه ومؤمن أرجوه ومنافق ولوه وولي آذوه وطريق أووه وصادق طردوه وكافر نصروه وإمام قهروه وفرض غيروه وأثر أنكروه وشر آثروه ودم أراقوه وخير بدلوه وكفر نصبوه وكذب دلسوه وإرث غصبوه وفيء اقتطعوه وسحت أكلوه وخمس استحلوه وباطل أسسوه وجور بسطوه ونفاق أسروه وغدر أضمروه وظلم نشروه ووعد أخلفوه وأمانة خانوه وعهد نقضوه وحلال حرموه وحرام أحلوه وبطن فتقوه وجنين أسقطوه وضلع دقوه وصك مزقوه وشمل بددوه وعزيز أذلوه وذليل أعزوه وذو حق منعوه وكذب دلسوه وحكم قلبوه وإمام خالفوه!
اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيروها وأحكام عطلوها ورسوم قطعوها ووصية بدلوها وأمور ضيعوها وبيعة نكثوها وشهادات كتموها ودعوات أبطلوها وبينة أنكروها وحيلة أحدثوها وخيانة أوردوها وعقبة ارتقوها ودباب دحرجوها وأزيان لزموها اللهم العنهم في مكنون السر وظاهر العلانية لعنا كثيرا أبدا دائما دائبا سرمدا لا انقطاع لعدده ولا نفاد لأمده لعنا يعود أوله ولا ينقطع آخره لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلمين لهم والمائلين إليهم والناهقين باحتجاجهم والناهضين بأجنحتهم والمقتدين بكلامهم والمصدقين بأحكامهم..!.
قل أربع مرات: اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين.
ثم تقول أربع مرات: اللهم العنهم جميعا! اللهم صل على محمد وآل محمد فأغنني بحلالك عن حرامك وأعذني من الفقر رب إني أسأت وظلمت نفسي واعترفت بذنبي وها أنا ذا بين يديك فخذ لنفسك رضاها من نفسي لك العتبى لا أعود، فإن عدت فعد علي بالمغفرة والعفو لك بفضلك وجودك بمغفرتك وكرمك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين". (1)
__________
(1) نص الوثيقة التي أشرنا إليها سابقا، انظر تحفة العوام مقبول (ص.422-423) المطبوع في لاهور.(1/140)
- "إننا لا نعبد إلها يقيم بناء شامخا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه ويجلس يزيدا ومعاوية وعثمان وسواهم من العتاة في مواقع الإمارة على الناس، ولا يقوم بتقرير مصير الأمة بعد وفاة نبيه". (1)
- "وتشير كتب التاريخ أن هذا الكفر صدر عن عمر بن الخطاب، وأن البعض قد أيده في ذلك، ولم يسمحوا للنبي بأن يكتب ما يريد". (2)
- "مثل هؤلاء (3) الأفراد الجهال الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موقع الإمامة، وأن يكونوا ضمن أولي الأمر". (4)
- "ويشهد التاريخ بأنه فيما كان هؤلاء منشغلين بدفن الرسول؛ فإن اجتماع السقيفة اختار أبا بكر للحكم، فتم بذلك وضع الأساس بشكل خاطئ". (5)
وأما قوله في عثمان ومعاوية وسمرة بن جندب فأكثر من أن يذكر، ولعل العاقل يكفيه المثال والمثالان.
4- ادعاؤه أن الأولياء في مرتبة تفوق مرتبة الأنبياء بكثير:
قال الخميني: وأن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وقد ورد عنهم (ع): أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل. (6)
ويكفينا ردا عليه ما قاله الإمام القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا: "وكذلك نقطع بتكفير غلاة الروافض في قولهم أن الأئمة أفضل من الأنبياء". (7)
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغلاتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء". (8)
كما زعم الخميني أن الأئمة عندهم لا يلحقهم السهو والنسيان، فقال: لأن الأئمة الذين لا تتصور فيهم السهو أو الغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين. (9)
__________
(1) كشف الأسرار (ص.123-124)
(2) كشف الأسرار (ص.176).
(3) يعني بذلك الصحابة.
(4) كشف الأسرار (ص.127).
(5) كشف الأسرار (ص.128).
(6) الحكومة الإسلامية للخميني (ص.52).
(7) الشفا (2/290).
(8) منهاج السنة (1/177).
(9) الحكومة الإسلامية (ص.91).(1/141)
5- تعصب الخميني لشعبه، وتفضيل شعبه على العالمين:
لقد ضاهى الخميني اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار، لايدانيهم أحد في فضلهم ومرتبتهم، فادعى هو كذلك أن شعبه هو الشعب المختار الذي انتهت له السيادة والريادة. فقال في وصيته العالمية السياسية السابقة: إنني أقولها وبجرأة إن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر هو أفضل من شعب الحجاز في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشعب الكوفة والعراق على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما، فأهل الحجاز وكذا المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يطيعونه، وبذرائع شتى كانوا يتهربون من القتال، حتى إن الله تعالى أنبههم في آيات من سورة التوبة وأوعدهم بالعذاب، بل وافتروا عليه حتى دعا عليهم كما يروى. (1)
- وقال أيضا في خطاب له بمناسبة عيد النوروز -من أعياد الفرس- لسنة اثنتين وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، الذي يحتفل به في الحادي والعشرين من آذار من كل عام: أقول صراحة بأنه لا يوجد شعب كشعب إيران، ولا مجلس كمجلس إيران، ولا شرطة كشرطة إيران، مند صدر تاريخ العالم وحتى يومنا هذا.. من أفضل العهود في الإسلام عهد الرسول الأكرم، ففي عهد الرسول الأكرم عندما كان في مكة لم تكن هناك حكومة، وعندما جاء إلى المدينة وقامت الحكومة تعرفون جميعكم بأن جميع الذين كانوا معه ماذا كانوا يعملون معه؟ لقد كانوا يتذرعون بشتى الذرائع، يعودون (من الجهاد) بذريعة ما. لقد كان النبي في عهده مظلوما أكثر من الآن لم يكن يطيعونه.
__________
(1) سبق ذكر المرجع.(1/142)
أقول: ماذا ينتظر العالم الإسلامي من الخميني وهذه تصريحاته وبجرأة وصراحة، والخمينيون الذين هم على منواله كثر -لا كثرهم الله- كلهم يحملون الحقد الدفين للعروبة والإسلام، ويتمنون جميعا مجيء يوم ينقضون فيه على أهل الإسلام قاطبة ليفتكوا بهم، لأنهم في نظرهم أسوأ من اليهود والنصارى، بل ومن الملاحدة والزنادقة.
فأي تقارب يكون مع هؤلاء؟!
وأي أخوة تكون مع هؤلاء؟!
فقد تقدم معنا بحمد الله في هذه المسيرة المباركة موقف علماء السنة من هؤلاء، فما علينا إلا أن نحتذي حذوهم ونقتفي أثرهم، لنرجع العزة إلى أنفسنا، ولنسود العالم بديننا دين الحق والسماحة، ولنهتم بمقدساتنا ونغار عليها، بل ندافع وننافح قدر استطاعتنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
صالح بن إبراهيم بن محمد البليهي (1) (1410 هـ)
الشيخ صالح بن إبراهيم بن محمد بن مانع البليهي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف في قرية الشماسية، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة بريدة عام خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وأخذ على علمائها منهم الشيخ عمر بن محمد بن سليم ولازمه، والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم العبادي وغيرهم. قرأ القرآن في مدرسة أهلية ثم اشتغل مع والده في التجارة ثم الزراعة وبعد ذلك تفرغ لطلب العلم. عين مدرسا في المعهد العلمي ببريدة عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم إماما بمسجد الوزان عام أربع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة ودرّس فيه العلوم الشرعية، وعندما تأسست كلية الشريعة بالقصيم أصبح محاضرا بها. كان رحمه الله كريم النفس، متواضعا، قائما بأعمال البر والخير، أخذ عنه علماء أجلاء منهم الشيخ صالح الفوزان والشيخ إبراهيم الدباسي وعبدالله المسند وعبدالسلام بن برجس وغيرهم.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/430-434) وإتحاف النبلاء (1/173-186) ومجلة الفرقان الكويتية (العدد 303).(1/143)
قال أحد أبنائه: كان رحمه الله سمح المحيا دمث الأخلاق، عليه سيما الوقار وهيبة العلماء واسع البال طويل المدى، رؤوفا بالكبار لطيفا باشا ذا بسمة عند المقابلة حريصا على الشباب والأخذ بأيديهم إلى ساحل النجاة، وكان كريما شجاعا في ذات الله غيورا على محارمه.
توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة عشر وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة
- قال: السلف هم الوسط:
السلف: وهم أهل السنة والجماعة أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هم الوسط في فرق الأمة، كما أن هذه الأمة هي الوسط في الأمم. قال تعالى: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً } وَسَطًا (1) أي: عدلاً خياراً.
وعقيدة أهل السنة والجماعة: هي العقيدة الصافية، السالمة من الإلحاد والتحريف، والتعطيل والتمثيل، والتكييف. نعم هذه الأمة هي الوسط في فرق الأمة، فلا غلو، ولا جفاء، ولا إفراط، ولا تفريط.
فأهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة، والمشبهة؛ فالمعطلة جفوا، والمشبهة غلوا؛ المعطلة هم المعتزلة والجهمية، عطلوا الله من صفاته اللائقة به.
والمشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. وهم بعض اليهود، والبعض من الكرامية، وغلاة الشيعة.
فقالوا ما معناه: الله له وجه ويد ورجل كواحد من خلقه، وحتى نقل الشهرستاني في كتابه 'الملل والنحل' عن داود الجواربي أنه قال: أعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك. وقال: إن معبوده جسم، ولحم، ودم، وله جوارح، وأعضاء من يد ورجل، ورأس، ولسان. تعالى الله عن قول المعطلة والمشبهة علواً كبيراً.
أما أهل السنة: فأثبتوا لله الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات.
__________
(1) البقرة الآية (143).(1/144)
وأيضاً؛ أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية، فالجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد؛ الجبرية في طرف، والقدرية في الطرف الآخر. الجبرية غلوا في إثبات القدر، فزعموا أن العبد مجبور على فعله، فلا إرادة له ولا قصد، ولا اختيار. فإذا فعل طاعة أو فعل معصية، فإنما ذلك فعل الله، تعالى الله عن هذا الفجور وهذا الزور علواً كبيراً.
أما القدرية: وهم المعتزلة، فغلوا في نفي القدر، فقالوا ما معناه: أفعال العباد من الطاعات والمعاصي، لم تدخل تحت قضاء الله ومشيئته وقدره، إنما العباد هم الذين يفعلونها، بقصد منهم واختيار، فعليه؛ العبد هو الذي يخلق فعل نفسه. فلازم قولهم هو أن الله لا يقدر أن يهدى ضالاً، ولا يضل مهتدياً. وهذا القول، وهذا المذهب من أخبث المذاهب، وأبعدها عن الحق والصواب.
عقيدة السلف:
إذا عرف ما تقدم؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة هي حق بين باطلين، وهدىً بين ضلالتين، فالله تعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم، ومقدر أرزاقهم وآجالهم، هو خالق العبيد ولا يكون في ملكه ما لا يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لَا { يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (23) (1) .
وأيضاً: أهل السنة والجماعة وسط بين المرجئة، وبين المعتزلة والخوارج. فالمرجئة جفوا، والمعتزلة والخوارج غلوا، وفي أثناء هذا الجزء يأتي الكلام على هذه الطوائف الضالة، إن شاء الله تعالى.
والمرجئة كما يأتي نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير. أي: تأخير الأعمال عن الإيمان.
فعند المرجئة الخالصة: الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب، والناس في الإيمان سواء، فإيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء، والمؤمنين الأتقياء.
وبناءً على ذلك؛ فلا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فلازم قول المرجئة هو أن من فعل شيئاً من كبائر الذنوب وترك الواجبات أو شيئاً منها، لا يضر ذلك، وهذا يؤدي إلى الانسلاخ من دين الإسلام.
__________
(1) الأنبياء الآية (23).(1/145)
أما المعتزلة والخوارج فقد غلوا، فقالوا ما معناه: من فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ومات ولم يتب منها، فهو من المخلدين في نار جهنم، على خلاف بين الطائفتين؛ فعند الخوارج: هو كافر وحلال الدم والمال. وعند المعتزلة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين.
وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء المرجئة، وغلو الخوارج والمعتزلة؛ فالإيمان نية وقول وعمل، يزيد بطاعة الله وينقص معصيته. فمن فعل كبيرة، يقال في حقه: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان. وإذا مات ولم يتب، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله بعدله عذبه في نار جهنم بقدر ذنبه وجريمته، ولا يخلد في النار، لا يخلِّد فيها إلا الكافرين، والمشركين. هذا هو معتقد السلف الصالحين، وأهل السنة والجماعة أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الحمد لله على قول الحق، واعتقاده والعمل به، والدعوة إليه.
وأيضاً، أهل السنة والجماعة وسط بين غلو الرافضة، وجفاء الخوارج؛ لأن الرافضة والخوارج في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طرفي نقيض.
فالرافضة: غلوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل البيت، غلواً جاوز الحد والمشروع.
وأما الخوارج: فإنهم كفروا علياً، ومن كان موالياً له. وإذا عرف ذلك، فأهل السنة ولله الحمد والمنة، دائماً وأبداً بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط، مع العلم أن الرافضة قبحهم الله يسبون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويلعنونهم ويكفرونهم.(1/146)
وأهل السنة يحبون جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوالونهم ويدعون الله لهم، ويترحمون الله لهم، ويسألونه لهم المغفرة والرضوان؛ لأنهم رضي الله عنهم؛ هم صفوة هذه الأمة وخيارها، أبرها أقوالاً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً، قوم لا كان ولا يكون مثلهم، اختارهم الله لصحبة نبيه ولنصر دينه. وبعد ما استنارت قلوبهم بالإيمان، صاروا رضي الله عنهم مضرب المثل في عبادة الله، وفي الزهد والورع، والخشية، والتقوى، والصدق، والأمانة، والشجاعة، فهم الرجال إذا ذكر الرجال. رِجَالٌ { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (23) (1) ، رَبَّنَا { اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (10) (2) .
وأيضاً هذه الأمة الإسلامية وسط بين غلو النصارى، وجفاء اليهود. فالنصارى غلوا في عيسى، فقالوا: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. وقالت اليهود: عيسى ولد زنا. فعلى اليهود لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين.
والمسلمون يقولون: عيسى هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. والحمد لله الذي عافانا من الفلسفة والسفسطة، والشطح، والشقشقة، ومن التعطيل والتمثيل، ومن البدع والأباطيل. ونسأله تعالى الثبات على الحق، والعمل به. (3)
- وقال أيضا: الاختلاف مصيبة:
الخلاف والاختلاف بين الأفراد والمجتمعات الإسلامية مصيبة. الاختلاف مصيبة كبرى، ومحنة عظمى. [و]الخلاف من حيث هو شر وفتنة وشقاء وبلاء وعناء.
الاختلاف نقمة، والاتفاق رحمة، وبالأخص الخلاف في المسائل العقائدية التي هي الأصل في شريعة الإسلام.
__________
(1) الأحزاب الآية (23).
(2) الحشر الآية (10).
(3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/308-313).(1/147)
أما الخلاف في المسائل الفروعية -فالأمر في ذلك أسهل-: فإذا كان على طريق الاجتهاد وتحري الصواب في المسائل الغامضة فلا بأس بذلك.
أما إذا كان على طريقة الهوى والتعصب للمذاهب، وأقوال الرجال، فهو مذموم شرعاً وعقلاً وفطرةً.
وأما ما يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختلاف أمتي رحمة" فهذا الحديث ليس له خطام ولا زمام، فلا أصل له (1) . قال تعالى: وَلَا { تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (2) ، وقال تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (3) ، وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (4) ، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا { بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (5) ، وقال تعالى: * { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (6) .
والآيات في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف كثيرة، وكذا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالوفاق، والنهي عن الشقاق، كثيرة جداً، سواء كان الاختلاف في العقائد وأصل الديانة أو غير ذلك.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها (7) .
وعلى سبيل العموم؛ ليس للمسلمين عز ولا نصر إلا إذا حصل بينهم اتفاق ووفاق، وتكاتف وتساند. فهذا الحديث فيه رد على كل من ابتدع في دين الله ما ليس منه.
__________
(1) وكذا قال الشيخ الألباني في الضعيفة (57).
(2) الأنفال الآية (46).
(3) الأنعام الآية (159).
(4) الأنعام الآية (153).
(5) آل عمران الآية (103).
(6) الشورى الآية (13).
(7) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ).(1/148)
وفي حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي، يقول - صلى الله عليه وسلم - : "فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
ومن أعظم الحدث: الحدث في العقائد الإلهية، وكذا الحدث في العبادات والأحكام الشرعية، فلا مسرح للعقول، ولا مجال للفهوم في ذات الله، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في دينه وشرعه، إنما الواجب التعلم والفهم ثم العمل بدين الإسلام كله.
فلا بد من التمسك والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في كل شيء عقيدة وعبادة، وأحكاماً وأخلاقاً، وهذا هو الذي به عز المسلمين، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، والله وليّ التوفيق.
وفخر المسلمين وعزهم ونصرهم، على اليهود وغير اليهود من أعداء الإسلام والمسلمين، لا يتحقق إلا إذا عملوا بشريعة الإسلام، قولاً وعملاً واعتقاداً، مع نبذ الأحقاد والضغائن، ويحل محل ذلك الوفاق والمحبة والائتلاف، والتكاتف والتساند، والأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية. حقق الله ذلك بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وفضله. اللهم صلّ وسلم وبارك على -من أمر بالائتلاف ونهى عن الاختلاف- نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (2)
موقفه من المشركين:
- له من الآثار السلفية: 'عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين' وهو مطبوع متداول، نفع الله به نفعا عظيما.
- قال رحمه الله فيه: الإلحاد في لغة العرب: هو الميل، ومنه لحد القبر. وهو أنواع: فمنه إلحاد المشركين وعبدة الأوثان: حيث اشتقوا لمعبوداتهم أسماءً من أسماء الله، كاللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/343-345).(1/149)
ومنه: إلحاد الجهمية الذين عطلوا الله من صفاته، ومن معاني أسمائه وحقائقها. فالله تعالى أثبت لنفسه السمع والبصر والوجه واليدين والاستواء على العرش والمجيء والقدرة والمشيئة وغير ذلك من صفات الله، والمعتزلة والجهمية تنكر ذلك.
ومنه إلحاد المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. والله تعالى حذر من الإلحاد، وعاب الملحدين في أربع آيات: في سورة النحل آية 103، وفي سورة الأعراف آية 180، وفي سورة فصلت آية 40، وفي سورة الحج آية 25. وبإعانة الله يأتي الكلام على المعطلة والمشبهة في الجزء الثاني.
ومن أنواع الإلحاد إلحاد الدهرية الذين أنكروا وجود الله تعالى.
ومن أنواع الإلحاد المذموم شرعاً وعقلاً: إلحاد النصارى، حيث قالوا: الله ثالث ثلاثة.
ومنه إلحاد اليهود قالوا من كفرهم وتكذيبهم وغرورهم: الله فقير ويده مغلولة.
وعلى سبيل العموم: كل من كذب بما جاء عن الله، أو عن رسوله فهو ملحد. وكذا من تأول وحرّف ما جاء عن الله أو جاء عن رسوله فهو ملحد ومجرم أثيم. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال: ومعتقد أهل السنة والجماعة: لا يشهد لأحد بجنة، ولا نار، إلا لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كالعشرة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك، وسعيد ابن زيد، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين.
وموالاة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ومحبتهم دين وإحسان وإيمان، وبغضهم وسبهم كفر ونفاق وطغيان. (2)
- وقال رحمه الله: الشيعة:
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/89-90).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/9).(1/150)
أو باسم آخر: الرافضة، وهو ألصق بهم. وأول من ابتدع الرفض عبدالله بن سبأ اليهودي المنافق الزنديق، أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، ثم انتشر هذا المذهب الخبيث. وقد قال ابن سبأ لعلي رضي الله عنه: أنت الإله حقاً.
والشيعة: اسم لكل من فضّل علياً على الخلفاء الراشدين، [ومنهم] الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
الشيعة هم من طوائف الضلال، الشيعة لهم أقوال شنيعة، واعتقادات باطلة. الشيعة عداوتهم للمسلمين عظيمة، قديماً وحديثاً.
وسموا بهذا الاسم -بزعم منهم- أنهم شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليسوا كذلك، بل هم أعداء لعلي وأعداء لأهل البيت؛ لأنهم غلوا فيهم غلواً جاوز الحد والمشروع، ورفعوهم فوق طبقة البشر. وكما يأتي خلاف أهل السنة مع الرافضة خلاف في أصول الدين، وفروعه، فلا لقاء ولا موافقة، حتى تشيب مفارق الغربان.
والرافضة: هم الشيعة أو طائفة منهم، وسموا بهذا الاسم؛ لأنهم بعدما بايعوا زيد بن علي، قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر. فأبى، وقال: كانا وزيري جدي، بل أتولاّهما وأتبرّأ ممن تبرّأ منهما. فتركوه ورفضوه، وأرفضوا عنه. والنسبة: رافضي، والرافضة شر من وطئ الحصاء، ولا يقر لهم قرار حتى يعيدوها وثنية قرمطية مجوسية. مكر وخداع، والمكر يحيق بأهله.
ووقاحة الرافضة ومعائبهم ومخازيهم كثيرة جداً، ولا يصدق بما يعتقدونه ويقولونه إلا من طالع كتبهم. فمن ذلك ما صرح به الشاطبي في كتابه 'الاعتصام' (الجزء الثاني، ص.181)، قال: الفرقة الثانية: الشيعة، وهم اثنتان وعشرون فرقة، يكفر بعضهم بعضاً. اهـ كلامه.
وأكثر الشيعة يعتقدون أن الحكام والمحكومين من المسلمين كلهم ضُلاّل وعلى غير هدى.
ومن أصول الدين عند الرافضة: تأويل آيات القرآن، وصرف معانيها، إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى غير ما فهمه منها علماء الإسلام والمسلمين.(1/151)
ولا شك بأن هذه جريمة كبرى، وإلحاد في آيات القرآن، حيث أجازت الشيعة لأنفسهم تحريف آيات القرآن، على حسب أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ومقاصدهم الباطلة.
ومن معتقدات الشيعة وأعمالهم الخبيثة: التقيّة، فيظهر الموافقة، وهو بخلاف ذلك، وهذه هي أعمال المنافقين. وذلك مكر وخداع، وخيانة، ونفاق. فالتقية دين الشيعة، والنفاق ركن أصيل في عقيدتهم. وحيث أن التقية من أصول دين الرافضة، فقد كذبوا وزوروا على جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: التقية ديني ودين آبائي.
وبدع الشيعة المنكرة، ومذاهبهم الخبيثة كثيرة وكثيرة، ومن اعتقد أو قال: إن القرآن زيد فيه ونقص منه فلا شك في كفره وإلحاده.
ومن مخازي الشيعة ووقاحتهم: هو أنهم يعتقدون ويصرحون بأن القرآن الكريم محرف، وزيد فيه ونقص منه. ففي سنة 1292هـ ألّف الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي كتاباً أسماه: 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' جمع فيه النصوص عن علماء الشيعة في مختلف العصور بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه. وقد طبع الكتاب في إيران سنة 1298هـ. والطبرسي هو من كبار علماء النجف، والطبرسي معظم عند الرافضة. وتوفي 1320هـ. وكثير من علماء الشيعة صرحوا بأن القرآن نقص منه وزيد فيه.
ولا شك بأن هذا تكذيب لله تعالى، ومن كذّب الله فهو كافر. يقول جل شأنه: إِنَّا { نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) (1) . وقد أجمع المسلمون بأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان، ومن التغيير والتبديل، محفوظ من عبث العابثين وكيد الكائدين. والواقع شاهد بذلك، والحمد لله رب العالمين. مضى على القرآن 1402 سنة ولا زيد في القرآن ولا نقص منه ولا حرف واحد، ومن قال أو اعتقد أن القرآن زيد فيه أو نقص منه فهو كافر بإجماع المسلمين.
__________
(1) الحجر الآية (9).(1/152)
والشيعة قد بلغت الغاية في الوقاحة والخبث، فإنه مما يتدينون به: لعن صحابة الرسول، ولعن أبي بكر وعمر، بل يبغضون ويسبون كل من ليس بشيعي. فيلعن الشيعة أبا بكر وعمر وعثمان، وكل من تولى الحكم في الإسلام غير علي، بل من خبث الشيعة يسمون أبا بكر وعمر: الجبت والطاغوت، وصنمي قريش.
ذكر بعض هذه النقاط الشيخ محب الدين الخطيب في رسالة له أسماها: 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'.
وقال الشيخ ابن تيمية: الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بالبشر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأول من ابتدع الرفض عبدالله بن سبأ اليهودي، وكان منافقاً زنديقاً، أراد بذلك إفساد دين الإسلام. وقال أيضاً شيخ الإسلام: وليس في فرق الأمة أكثر كذباً واختلافاً من الرافضة من حين نبغوا. (1)
- وقال: ومن أعظم منكرات الرافضة: هو أن أكثرهم يعتقد أن الحج إلى قبر علي رضي الله عنه في النجف، والحج إلى قبر الحسين في كربلاء أفضل من الحج إلى مكة، مع العلم أن قبر علي ليس في النجف، بل دفن رضي الله عنه في قصر الكوفة. وكذا قبر الحسين لم يثبت أنه في كربلاء.
ومن بدع الرافضة: لا يرون صلاة الجماعة، وفي هذا تكذيب لله ورسوله، ومن كذّب الله أو رسوله فقد كفر.
ومن بدع الشيعة وضلالهم: هو أنهم جهميون في الصفات، وقدريون في أفعال العباد.
ومن بدع الرافضة: لا يرون غسل القدمين في الوضوء. وفي هذا تكذيب لفعل الرسول وقوله، وقد أجمع المسلمون على وجوب غسل القدمين.
ومن بدع الرافضة: أكثرهم لا يقيمون صلاة الجمعة لعدم وجود الإمام العادل، والعادل: هو مهديهم المنتظر في زعمهم.
ومن بدع الرافضة لا يرون المسح على الخفين، وما أنكر الشيعة هذه السنة الثابتة عن الرسول إلا من زيغ قلوبهم، وفساد أقيستهم وآرائهم.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/349-352).(1/153)
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على جواز المسح على الخفين. ولا عبرة بخلاف الرافضة. قال النووي: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر لحاجة أو غيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، والزَّمِن الذي لا يمشي. وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يُعتدّ بخلافهما.
وقد روى سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين. اهـ
وقال الحسن: روى المسح سبعون نفساً فعلاً منه عليه السلام، وقولاً.
وقال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح على الخفين شيء؛ فيه أربعون حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والرافضة كذبت الرسول في المسح على الخفين، وكذبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحكام شريعة الإسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن من كذب الرسول فهو كافر بالله، كما أن من عصى الرسول فقد عصى الله، والشيعة كذبت بما ثبت عن الرسول في تحريم المتعة، ومن وقاحة الشيعة: إباحة المتعة متعة النساء.
وقد حكى غير واحد من علماء الإسلام الإجماع على تحريمها؛ لأن الرسول عليه السلام حرمها عن أمر من الله جل شأنه، فهي حرام، لما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، من حديث سبرة الجهني: "أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة، فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فيلخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" (1) .
وعن علي رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية" متفق عليه (2) .
__________
(1) أخرجه: أحمد (3/406) ومسلم (2/1025/1406) والنسائي (5/437/3368).
(2) أخرجه: أحمد (1/79) والبخاري (9/207/5115) ومسلم (2/1027/1407) والترمذي (3/429/1121) والنسائي (6/436/3366) وابن ماجه (1/630/1961).(1/154)
والأحاديث التي هي صحيحة وصريحة في تحريم المتعة بعد إباحتها كثيرة. وعبدالله بن عباس -رضي الله عنه- رجع عنه القول بإباحتها، كما في سنن الترمذي (3/430).
قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة. وقال ابن بطال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل، سواء كان قبل الدخول أم بعده. وقال القاضي عياض: وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريم المتعة إلا الروافض. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. اهـ (1)
- وقال: والشيعة الشنيعة تبغض أبا بكر وتلعنه، فعلى الشيعة ما تستحقه من غضب الله وسخطه ولعنته. وهذه الآية -يعني: قوله تعالى: إِلَّا { تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } (2) - فيها دليل على أن الشيعة كذّبوا الله ورسوله، ومن كذّب الله، أو كذّب رسوله فقد كفر بالله.
وقال تعالى: وَالَّذِي { جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (33) (3) الذي جاء بالصدق هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والذي صدّق به هو أبو بكر رضي الله عنه. قال بهذا القول كثير من علماء التفسير. (4)
- وقال: ومن معائب الشيعة ومخازيهم: عيبهم وكراهتهم لصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وأكثر الشيعة لا يؤمنون بالأحاديث المذكورة في الصحيحين والسنن والمسانيد ولا يعملون بها.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/355-357).
(2) التوبة الآية (40).
(3) الزمر الآية (33).
(4) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/359).(1/155)
فمن حماقة الشيعة وضلالهم: لا يقبلون الأحاديث التي رواها الصحابة ولا يعملون بها، والله يقول: * { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } (18) (1) ، وكان الصحابة ألفاً وخمسمائة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعثمان. وكان ذلك عام الحديبية سنة ست من الهجرة. وهذا الرضاء من الله لجميع الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان.
والرافضة لا تؤمن، بل تكذّب بما ذكره الله في هذه الآية الكريمة، ومن كذّب بشيء من القرآن فلا شك في كفره وإلحاده، وليس بغريب من الرافضة؛ لأنهم مجوس، والمجوس أعداء للإسلام والمسلمين دائماً وأبداً.
فصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرُّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأصدقها لهجةً، وأقواها إيماناً، قوم هم مضرب المثل في العبادة والزهادة، والتقى والخشية لله تعالى، وعلماء وحكماء، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا رضي الله عنهم رهباناً في ليلهم، أُسوداً في نهارهم في ميادين الحروب جهاداً في سبيل الله. قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ومؤازرته، ونصر دينه وتبليغ رسالته. قوم مدحهم الله وأثنى عليهم، ونوّه بذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن.
فدع الرافضة! دعهم في ضلالهم يعمهون! دعهم للحقد يحرق قلوبهم والغيظ يأكل نفوسهم!
__________
(1) الفتح الآية (18).(1/156)
قال جل شأنه: مُحَمَّدٌ { رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (29) (1) والشيعة تنكر ذلك وتكذّبه، ومن كذّب الله أو كذّب رسوله فهو كافر بإجماع المسلمين. (2)
ويعتقد أهل السنة والجماعة: أن أفضل هذه الأمة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم صحابة الرسول؛ قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ومؤازرته، ونصر دينه.
وأفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين.
وقد قال عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه من حديث حذيفة (3) .
وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم الذين بايعوا في الحديبية بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، رضي الله عن صحابة الرسول وأرضاهم أجمعين.
والذين سجلوا أحاديث الرسول كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد كل منهم يعقد ترجمة خاصة بالصحابة ثم يسوق بعض الأحاديث الواردة في فضائل القوم.
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/360-362).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).(1/157)
وأهل السنة والجماعة يتولون أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويستغفرون لهن، وهن أزواج الرسول في الآخرة.
وأفضلهن عائشة وخديجة رضي الله عنهن. ومن سبّ الصحابة أو واحداً منه، أو واحدة من أزواج الرسول، فهو ضالّ مضلّ، أضلّ من حمار أهله.
والذين يسبون الصحابة ويشتمونهم هم الشيعة الشنيعة، ويشتمون ويسبون زوجات الرسول وخاصة عائشة وحفصة فعلى الشيعة ما يستحقونه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومما هو معروف وشائع وذائع؛ أن أكثر الصوفية يعبدون ويؤلهون أصحاب القبور، ويعظمونهم أعظم من تعظيمهم لله تعالى فيدعونهم، ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، اعتقادا منهم: بأنهم يسمعون وينفعون ويضرون، ويجيبون دعاء من دعاهم. ومن فعل ذلك أو اعتقد جوازه فهو من المشركين.
وأعظم من ذلك: أن أكثر الصوفية من أهل وحدة الوجود، ملاحدة زنادقة، لا يؤمنون بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه؛ بل يعتقدون بأن هذا الوجود هو الله.
وعلماء الإسلام الذين بينوا أباطيل الصوفية وردوا عليهم هم -والحمد لله- خلق كثير وجم غفير، ومنهم عبدالرحمن الوكيل، وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية في كتابه 'هذه هي الصوفية'. (2)
- وقد أورد منه نقولا ثم قال: هذا الكتاب عظيم في تحري الحق والصواب، وعظيم في تحقيقه وتنقيحه، وتنظيمه وإتقانه، وعظيم في أسلوبه الرائع البديع.
فمن أراد الاطلاع على ما عند الصوفية من مخالفات لما يعتقده أهل السنة، فليراجع هذا الكتاب، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل؛ مع العلم أننا والحمد لله أعطينا القارئ -وفقنا الله وإياه- فكرة يستفاد منها مخالفة الصوفية لما يعتقده ويعمل به أهل السنة والجماعة.
تنبيه:
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/9-11).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/500-501).(1/158)
الذي أراه وأعتقده: هو أن الصوفية ليسوا على حد سواء في الاعتقاد والأقوال والأعمال؛ فمنهم زنادقة ملاحدة، قالوا بوحدة الوجود، وآمنوا بها ودعوا إليها.
ومنهم من يؤمن بوحدانية الله تعالى، ولكنهم يعظمون ساداتهم وكبراءهم من الأموات، ويعتقدون أنهم ينفعون ويشفعون ويضرون، ولهم قدرة ونفوذ وتصرف في هذا الكون، ولا شك أن هذا كفر بالله وخروج من دين الإسلام.
وكثير من الصوفية يتبركون ويتوسلون بأصحاب القبور، وبعض الصوفية يتعبدون لله بألفاظ وأوراد مبتدعة في دين الإسلام، وبعضهم يتعبد بألفاظ مفردة كقولهم: هو هو هو، أو: الله، الله، الله. ويزعم بعض الصوفية أن "لا إله إلا الله" ذكر العامة، و"الله" ذكر الخاصة، و"هو" ذكر خاصة الخاصة.
وبعضهم يتعبدون الله بالرقص والأغاني، والتصفيق والشهيق، والشخير والنخير. وبدع الصوفية وشطحاتهم والمنكرات التي تقولها الصوفية وتفعلها؛ كثيرة وكثيرة.
وطوائف الصوفية كثيرة، منهم: الشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية، والتيجانية، والجيلانية، والجنيدات. ونعوذ بالله من كل بدعة وضلالة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
وبعض الصوفية زنادقة وملاحدة، يقولون ولا يستحون -وقديما قيل: "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" (2) - يقولون: من بلغ الغاية في الولاية، سقطت التكاليف، وحلت له المحرمات.
__________
(1) سبق قريبا.
(2) أخرجه أحمد (4/121) والبخاري (6/638/3483-3484) وابن ماجة (2/1400/4183) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.(1/159)
قال أبو محمد ابن حزم في كتابه في الملل والنحل: ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل. وقال: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها؛ من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها؛ من الزنا والخمر وغير ذلك. واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا: إننا نرى الله ونكلمه، وكلما قذف في نفوسنا فهو حق. ثم ذكر أبو محمد ابن حزم عن الصوفية أشياء كثيرة من الخرافات والمنكرات.
وكتب الصوفية هي الشواهد على ما عندهم من كفر وشرك وإلحاد. (1)
موقفه من الجهمية:
- له: 'إثبات علو الله تعالى'. (2)
- قال: ويؤمن أهل السنة بصفات الله العلية، ومن صفاته تعالى: الكلام، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والعينان، والمحبة، والرضاء، والغضب، والاستواء على العرش، والنزول، والمجيء، والقدرة، والإرادة، والمشيئة، وغير ذلك من صفات الله تعالى التي تليق بجلال الله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
يؤمن أهل السنة والجماعة بصفات الله جل وعلا على الحقيقة، لا ما تقوله المعتزلة والجهمية بأن ذلك على المجاز. (3)
- وقال رحمه الله: وأيضاً: أهل السنة والجماعة يصدّقون ويؤمنون بأن الله جل شأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟" (4) . ينزل الله تبارك متى شاء كيف شاء، ولا تكييف، ولا تمثيل. والجهمية والمعتزلة والأشاعرة كما كذّبوا برؤية الله تعالى كذّبوا بنزول الله جل شأنه.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/505-507).
(2) علماء نجد (2/433).
(3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/4).
(4) تقدم ضمن مواقف عبدالعزيز بن الماجشون سنة (164هـ).(1/160)
ورؤية الله ثابتة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فالمؤمنون يرون ربهم عياناً بأبصارهم، وذلك في عرصات القيامة، ويرونه تعالى بعد دخول الجنان، في جنة النعيم. ورؤية الله تعالى هي أعظم سرور، وأتمّ نعيم لأولياء الله تعالى. (1)
- وقال: الله جل وعلا -كما هو صريح القرآن وصريح السنة- له أسماء وله صفات، وأسماء الله جل شأنه حسنى، وأسماء الله -كما يأتي- ليست محصورة في تسع وتسعين اسماً. وبتوفيق الله وإعانته نذكر من أسماء الله ثلاثة وثلاثين اسماً في أول الجزء الثاني.
والله تعالى -كما هو صريح القرآن وصريح سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - له صفات، صفات لائقة بعظمته، ومجده، وكبريائه. صفات يجب إثباتها لله كما أثبتها الله لنفسه في القرآن، وكما أثبتها الرسول لربه في سنته المطهرة.
صفات يجب إثباتها لله على الحقيقة لا على المجاز، خلافاً للمعتزلة، والجهمية، والماتريدية، والأشاعرة، والقدرية.
فما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجب إثباته إثباتاً من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل. لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) .
ومن صفات الله تعالى: الكلام، والرحمة، والغضب، والرضاء، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والمجيء، والنزول، والاستواء على العرش، وغير ذلك. والله جل شأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل بإثبات مفصل ونفي مجمل. (3)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/8).
(2) الشورى الآية (11).
(3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/331-332).(1/161)
- قال رحمه الله: ومن عقائد أهل السنة: أن من ولاّه الله أمر المسلمين، فطاعته واجبة بشرط أن يكون مسلماً. والخروج عليه، وشقّ عصا المسلمين معصية لله وجريمة كبرى وذنب عظيم إلا إذا أمر ولي الأمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأهل السنة والجماعة هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
ومن عقائد أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة إذا مات قبل أن يتوب، ولم يكن مستحلاً لما فعله، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله عذّبه بعدله، بقدر ذنبه وجريمته، في نار جهنم، ولا يخلد فيها.
والمعتزلة والخوارج خالفوا نصوص الكتاب والسنة، فحكموا بأن صاحب الكبيرة من المخلدين في نار جهنم، فلا يخرج منها، لا برحمة أرحم الراحمين، ولا بشفاعة الشافعين، إذا مات قبل أن يتوب من جريمته.
موقفه من المرجئة:
قال: وصريح القرآن والسنة وهو معتقد أهل السنة والجماعة؛ أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله، وينقص بمعصيته.
والناس متفاوتون في الإيمان، فليسوا على حد سواء، كما قالت ذلك الطائفة المشهورة بالمرجئة. ويأتي بيان مذهب المرجئة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
ومجرد الإيمان لا يكفي، فلا بد من العمل؛ وعند المرجئة الأعمال الصالحة ليست من الإيمان. ومذهب المرجئة زور وباطل، تبطله وتردّه نصوص الكتاب والسنة؛ فعند المرجئة إيمان المرسلين والمؤمنين كإيمان المجرمين والفاسقين.(1/162)
نعم لا بد من العمل بدين الإسلام. ففي سبعين آية من آيات القرآن الكريم يقرن الله بين الإيمان والعمل. مثل قوله تعالى: وَيَوْمَ { تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } (16) (1) .اهـ (2)
موقفه من القدرية:
- قال: أشكل على كثير من طلبة العلم هل العبد مخير أو مسير؟ والذي يظهر لي أن العبد ليس بمخير ولا مسير؛ لأننا إذا قلنا إن العبد مخير، دخلنا في مذهب القدرية الذين قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، وإن قلنا العبد مسير، دخلنا في مذهب الجبرية. فالذي ينبغي أن يقال: العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته.
الجبرية:
والجبر لغة: هو الإلزام.
والجبرية هم من طوائف الضلال، وهم من أتباع الجهم بن صفوان. وسموا بهذا الاسم لأنهم قالوا: نحن مجبورون على أفعالنا، وفي قول الجبرية تعطيل لأحكام الإسلام فلازم قولهم: لا يقتل القاتل، ولا تقطع يد السارق، ولا يرجم الزاني، ولا يقام في الإسلام حد، فمن فعل جريمة لا عتب عليه، ولا لوم.
ومن هذه الزاوية نعرف أن القدرية والجبرية في طرفي نقيض؛ فالقدرية جفوا، حيث قالوا: إن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي لم تكن داخلة تحت قضاء الله وقدره، بل هم الذين شاؤوها وفعلوها، استقلالاً واختياراً منهم لها.
فالقدرية جفوا حيث أبطلوها ما قضاه الله وقدره. وتقدمت الأدلة التي فيها الرد على القدرية، ولله الحمد والمنة.
أما الجبرية فهم غلوا في إثبات القدر، وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء القدرية، وغلو الجبرية.
__________
(1) الروم الآيات (14-16).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/43).(1/163)
وهكذا أهل السنة دائماً، والحمد لله، وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء.
نعم كما تقدم، الجبرية غلوا في إثبات القدر، فاعتقدوا أن العباد، لا مشيئة لهم ولا قصد ولا اختيار، بل إذا فعلوا طاعة أو معصية، فهم مجبورون عليها. فعلى قول الجبرية: الطاعات والمعاصي عين فعل الرب، لا أفعالهم. وهذا القول معرف بطلانه بالضرورة من دين الإسلام.
فعند الجبرية حركات العبد وسكناته وأفعاله اضطرارية، كحركة الأشجار وأغصانها وأوراقها بالرياح التي تصفقها يمنةً ويسرةً، فإنها تضطرب وتمايل من غير اختيارها.
وكحركة المرتعش الذي أصابه مرض الفالج، فإنه يضطرب ويتحرك من غير اختيار منه ولا قصد. هذا قول الجبرية الخالصة.
وهذا القول كذب على الله، وزور وباطل، فالله أعظم وأجل قدراً من أن يجبر أحداً على ذنب ثم يعذبه عليه.
وكتاب الله، وسنة رسوله، والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة، كلها حجج وبراهين على بطلان ما تعتقده وتقوله الجبرية الخالصة. (1)
- وقال أيضا: وكما أشرنا سابقاً: معتقد أهل السنة والجماعة هو أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها ليست مستقلة، بل هي تابعة لإرادة الله ومشيئته، وكتاب الله، وسنة رسوله، وقول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعقل، والفطرة، في الجميع ردّ وإبطال لما تعتقده وتقوله الجبرية.
قال تعالى: لِمَنْ { شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (29) (2) ، وقال تعالى: مَنْ { عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (46) (3) . فهذه الآية الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور على فعل الطاعات والمعاصي.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/303-305).
(2) التكوير الآيتان (28و29).
(3) فصلت الآية (46).(1/164)
نعم العبد ليس بمجبور، قال تعالى: إِنَّا { أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } (41) (1) .
والآيات القرآنية التي فيها الرد على الجبرية كثيرة جداً. فبعد تتبع المصحف من سورة الفاتحة إلى (قل أعوذ برب الناس) وجدنا 77 سبعاً وسبعين آية، كلها صريحة في الرد على الجبرية.
__________
(1) الزمر الآية (41).(1/165)
ولا ريب بأنه يوجد في القرآن الكريم أكثر من هذا العدد؛ وإلى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، سبع آيات: قال تعالى: مَا { أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } (79) (1) ، وقال تعالى: وَذَرُوا { ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } (120) (2) ، وقال جل وعلا: وَإِذَا { فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (28) (3) ، وقال تعالى: إِنْ { أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (4) فالعبد له قصد واختيار فليس بمجبور، وقال تعالى: مَنْ { كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (45) (5) ، وقال جل شأنه: قُلْ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } (108) (6) ، وقال تعالى: إِنَّ { اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (44) (7) .
__________
(1) النساء الآية (79).
(2) الأنعام الآية (120).
(3) الأعراف الآية (28).
(4) الإسراء الآية (7).
(5) الروم الآيتان (44و45).
(6) يونس الآية (108).
(7) يونس الآية (44).(1/166)
فهذه الآيات الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور، فالعبد يفعل الطاعات والمعاصي بقصده واختياره، ولا يخرج عن قضاء الله وقدره.
وأحاديث الرسول التي فيها إبطال لقول الجبرية كثيرة وشهيرة والحمد لله رب العالمين. فالرسول جلد في الخمر، وقطع يد السارق، ورجم في الزنا. (1)
علي بن عبدالله بن علي الحواس (2) (1410 هـ)
الشيخ علي بن عبدالله بن علي الحواس العساف، ولد في بريدة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن الشيخ محمد الصالح المطوع والشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ عبدالعزيز العبادي. عين مدرسا في المعهد العلمي بحائل، ثم مدرسا في الأحساء، ثم عين موجها دينيا في جامعة الإمام محمد بن سعود. كان رحمه الله موصوفا بالتواضع والابتعاد عن الدنيا ومناصبها، حسن الصوت، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر. له مؤلفات أكثرها ردود.
توفي رحمه الله سنة عشر وأربعمائة وألف، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'بيان أن المثل الأعلى خاص لربنا وحده تبارك وتعالى'. وهو رد على من قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى في السيرة والمنهج. (3) وهو رد على من قال إن معية الله لخلقه معية ذاتية.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية: 'النقول الواضحة الجلية عن السلف الصالح في معنى المعية الإلهية الحقيقية'. (4)
جميل الرحمن (5) (1412 هـ)
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/306-308).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/229-235).
(3) علماء نجد (5/230).
(4) علماء نجد (5/230).
(5) مجلة المجاهد (العدد الخامس والثلاثون ص.8-11).(1/167)
الشيخ محمد حسين بن عبدالمنان، المعروف بجميل الرحمن. ولد سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة. في قرية وادي بيج بولاية كنر. طلب العلم مبكرا، فأخذ عن الشيخ عبدالخالق اللغة الفارسية والأردية وعن الشيخ عبدالمنان السلفي الحديث وغيره وعن الشيخ محمد طاهر البنجشيري التوحيد والتفسير. كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في نشر الدعوة السلفية في أفغانستان بشكل كبير، ثم ضيق عليه فهاجر إلى باكستان، وبعد تحرير كنر عاد الشيخ، فأعلن فيها الإمارة الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر فيها بالصلاة وقضى على مزارع الحشيش وغيره، فدب الأمن والسلام، لكن أعداء التوحيد لم يسرهم هذا الأمر، فقاموا باغتياله على يد رجل يدعى أشرف بن أنور بن محمد النيلي من الحاقدين على الدعوة السلفية وذلك قبل ظهيرة الجمعة، صفر عام اثني عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فرحمه الله رحمة واسعة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله يبين عقيدته ومنهجه: ونرى هجر أهل البدع والمعاصي واجبا لقوله تعالى: لَا { تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ } وَرَسُولَهُ (1) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك (2) وكذلك النصح لهم وتحذيرهم من البدعة واجب. ونرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وتعليم الكتاب والسنة، وتفقيه الناس وتثقيفهم في دينهم. (3)
__________
(1) المجادلة الآية (22).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبدالبر سنة (463هـ).
(3) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (20).(1/168)
- وقال أيضا: ونستدل في المسائل العلمية والعملية بكتاب الله وبسنة رسوله، ثم بالإجماع، ثم بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، حسب القواعد والأصول التي سلك عليها السلف الصالح ومجتهدو الأمة، ونرى أن الخروج عن منهجهم في فهم الكتاب والسنة من الابتداع والزندقة. ونرى الرجوع في موارد الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وليس الفصل بين الحق والباطل إلا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا هو سبيل المؤمنين في القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، وسبيل مجتهدي الأمة والأئمة الأربعة رحمهم الله، وكانوا ينفرون عن التقليد وينهون عنه. حيث قال الإمام مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وقال: "ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي". وقال الإمام أبو حنيفة: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذنا" -وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وقال الشافعي: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد". وقال تلميذه الإمام المزني في أول مختصر كتاب الأم: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله: "لأقربه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق". وقال الإمام أحمد رحمه الله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة". هذه عقيدتنا ومنهجنا ندعو إليه، ونرى أنه لا صلاح للجهاد إلا به، مع إخلاص التوحيد ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .(1/169)
ذلك هو سبيل النصر وسبيل تأليف القلوب وتوحيد الصفوف وسبيل التمكين في الأرض، نسأل الله تعالى لنا ولكافة المسلمين الهداية والرشاد والحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا تسليما كثيرا. (1)
- ومن الأسئلة التي وجهت إليه ما يلي:
السؤال: أنتم متهمون بانتهاج السلفية للوصول إلى مآرب سياسية وهي الوصول إلى الرياسة والزعامة؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. الجواب عن هذا السؤال من أربعة أوجه:
__________
(1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (21).(1/170)
الوجه الأول: نعم إن رفع الصوت بالدعوة إلى الحق تارة يكون ناشئا عن داعية حب الرياسة وطلبها في نفس الإنسان، وتارة يكون ناشئا عن داعية إحساس المسئولية أمام الله، وكذلك التهمة التي يرمى بها الدعاة قد تكون ناشئة من الشبهة وعدم الفهم، وقد تكون ناشئة من أغراض سياسية عدوانية مثل صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباعه ولبس الدين عليهم. فإذا نظرت في تاريخ الإنسانية من بدئه إلى يومنا هذا لا تجد داعيا رفع صوته بالدعوة ولو كان محفوفا بالبينات إلا رمي بالاتهامات والافتراءات. فهؤلاء قوم نوح عليه السلام يقولون عنه: يُرِيدُ { أَنْ يَتَفَضَّلَ } عَلَيْكُمْ (1) ويقولون له: إِنَّا { لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (60) (2) معنى يتفضل أي: يتقدم ويترأس عليكم. وهؤلاء قوم فرعون قالوا لموسى وهارون عليهما السلام: قَالُوا { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي } الْأَرْضِ (3) ومعنى الكبرياء في الأرض: الرياسة. وهكذا قال كبراء الناس في مكة: وَانْطَلَقَ { الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } (6) (4) ، ومعنى ضنَسy´ { } يُرَادُ أي أن محمدا أراد بهذه الدعوة أن تكون له الرياسة عليكم، كما في التفسير. فظهر أن اتهام الدعوة بطلب الرياسة هو اتهام قديم من عهد نوح عليه السلام وليس بمحدث، فالدعوة والتهمة سنتان من سنن الله الجارية. فهذه سنة من السنن الشرعية وتلك سنة من السنن الكونية والقدرية، وكلتاهما متآخيتان، كلما وجدت الدعوة رميت بالتهمة، يقول الله تعالى عن سنته الخالدة: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } (5)
__________
(1) المؤمنون الآية (24).
(2) الأعراف الآية (60).
(3) يونس الآية (78).
(4) ص الآية (6).
(5) الفرقان الآية (31)..(1/171)
وقوله سبحانه: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } (1) ، وكل من سلك طريق الأنبياء في الدعوة لابد وأن يلاقي ما لاقوه من التهم. فنقول لإزالتها إن السلف الصالح هم: الصحابة والتابعون رضي الله عنهم الذين هم خير القرون بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهجهم في الدين هو المنهج الحق الذي تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وساروا عليه، ولا تصير الأمة المسلمة مستحقة للبشارة التي بشر الله سبحانه وتعالى بها في قوله إلا بحسب الظاهر، قال الله تعالى: وَقُلِ { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ڑcr-ٹژنIy™ur إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (105) (2) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة" رواه البخاري (3) . ونحن نرى أن هذه الاتهامات بطلب الرياسة، قد رمانا بها المخالفون لمآرب سياسية تستهدف صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباع دعوة الحق بالطعن في نية الدعاة، فليحذر كل مسلم من هذا، ولتكن له معاييره الشرعية في التفريق بين الحق والباطل، ولا يكن إمعة.
__________
(1) الأنعام الآية (112).
(2) التوبة الآية (105).
(3) 5/315/2641).(1/172)
الوجه الثاني: إن جريرتنا عند المخالفين لنا أننا تكلمنا عندما سكتوا، وواجهنا الناس بالحقيقة عندما داهنوهم، ونصحناهم عندما غشوهم بعدم بذل النصح والإصلاح، حيث إننا نرى أن ما أصابنا وأصاب بلادنا من الغزو الكافر والدمار هو عقوبة من الله سبحانه لنا بسبب تفشي المنكرات فينا مع عدم الإصلاح، فتحققت فينا سنة من سنن الله الخالدة وهي قوله تعالى: وَمَا { كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (117) (1) وقوله سبحانه: وَمَا { كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (59) (2) ، فإذا عم الظلم وقل المصلحون فقد أذن الله بالهلاك، أما العقاب الذي سلطه الله علينا فهو العدو الروسي الكافر وعملاؤه من الأفغان الملحدين، وتحققت فينا سنة أخرى من سنة الله الخالدة وَكَذَلِكَ { نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (129) (3) وهو المعنى المذكور في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند سيره لفتح فارس: "واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا. فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله الكفار والمجوس، فَجَاسُوا { خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } (5) (4) ، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم".
__________
(1) هود الآية (117).
(2) القصص الآية (59).
(3) الأنعام الآية (129).
(4) الإسراء الآية (5).(1/173)
وقول عمر رضي الله عنه (فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم): قد تكرر وقوعه في الأمة الإسلامية، حيث تسلط الصليبيون على ممالك الأندلس الإسلامية فمحوها من الوجود وصارت اليوم بلادا صليبية كافرة، وتسلط التتار (المغول) الكفار على دولة الخلافة العباسية فدمروا مدينة بغداد وذبحوا الخليفة العباسي، وتسلط الصليبيون مرة أخرى على دولة الخلافة العثمانية حتى محوها وأزالوا الخلافة، وتسلط الروس الشيوعيون على بلاد التركستان وبخارى وسمرقند الإسلامية فحولوها إلى ديار كفر، ولم يقل أحد إن هذه الممالك الإسلامية الهالكة كانت ممالك كافرة أو مشركة، ولكن لما فشت فيها المعاصي والمنكرات سلط الله عليهم من هو شر منهم، وما يحدث اليوم في أفغانستان هو مثل آخر، سلط الله الروس الكافرين على الأفغان بمعاصيهم، فإما أن نستدرك أمرنا اليوم بالتوبة والإخلاص والطاعة، وإما أن ينتهي الأمر بزوال الإسلام وظهور الشيوعية، كما حدث في بخارى وسمرقند، نعوذ بالله من سخطه ونقمته. قال تعالى: وَمَا { أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (30) (1) وقال تعالى: مَا { أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } (2) وقال سبحانه: فَكَيْفَ { إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } (62) (3) ، وأي معصية أعظم من مخالفة اعتقاد سلف الأمة ومنهجهم، قال الله تعالى: وَمَا { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (36) (4) ،
__________
(1) الشورى الآية (30).
(2) النساء الآية (79).
(3) النساء الآية (62).
(4) الأحزاب الآية (36)..(1/174)
وقال تعالى: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (115) (1) ، فكيف بمن يردون الأحاديث الصحيحة بأنها تخالف المذهب، فيقدمون آراء الرجال على الكتاب والسنة، ويجعلون آراء الرجال وقياساتهم حاكمة على الكتاب والسنة بالقبول أو الرد، ويتبعون في ذلك قاعدة تقول: (كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ). فكيف بمن يجوز الاستغاثة والتبرك بالموتى، وكيف بمن يرون أن الله سبحانه موجود في كل مكان، ويردون النصوص التي تثبت أن الله سبحانه في السماء، وهم يعلمون هذا لأطفالهم جيلا بعد جيل اتباعا لما وجدوا عليه آباءهم. وهذا ليس مقام حصر مخالفاتهم الشرعية بل هي أمثلة منها. وقد قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (2) وقد خالفنا نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة فأصابتنا الفتنة والعذاب في الدنيا بحلول العدو ببلادنا، فدمر وشرد وأهلك ما يعجز عنه الوصف، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره. فالواجب علينا أن نعلم أن ما نزل بنا هو مثل ما نزل بكثير من الممالك الإسلامية الهالكة، وأن علينا أن نتدارك أمرنا حتى لا تكون نهايتنا كنهايتهم. قال الله تعالى: ظَهَرَ { الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (41) (3) وقال تعالى: وَلَقَدْ { أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } (42) (4)
__________
(1) النساء الآية (115).
(2) النور الآية (63).
(3) الروم الآية (41).
(4) الأنعام الآية (42)..(1/175)
فنحن الآن في إمهال من الله، إما أن نرجع ونتضرع، وإما أن يحيق بنا ما حاق بالأمم الظالمة. فإذا كان ما سبق هو حقيقة الأمر في أفغانستان، وقمنا بدعوة شرعية إصلاحية لرد الأمة إلى طريقة السلف، طريق النجاة والفلاح، حتى يرفع الله سبحانه نقمته وغضبه عنا وحتى نكون أهلا لرضاه سبحانه، فكيف يظن بأن هذه الدعوة لأغراض سياسية، فحسبنا الله عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.(1/176)
الوجه الثالث: مما سبق يتبين لك ضرورة الدعوة والإصلاح في بلادنا استدراكا للأمر قبل فوات الأوان، ونحن من هذا المفهوم انتصارا لدين الله الحق ولعقيدة التوحيد، قد قمنا بتأليف جماعتنا امتثالا لقوله تعالى: وَلْتَكُنْ { مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (104) (1) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وَلْتَكُنْ { مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى } الْخَيْرِ ثم قال: "الخير اتباع القرآن وسنتي" (2) رواه ابن مردويه، والمقصود أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (3) وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (4) ، فجماعتنا قامت للدعوة وللجهاد وكلاهما مقدم واجب لا يحتمل التأخير. ونحن نطمع في نصر الله سبحانه الذي وعد به من ينصر دينه ويدعو إليه في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ { اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } (5)
__________
(1) آل عمران الآية (104).
(2) ذكره السيوطي في الدر ونسبه لابن مردويه.
(3) أحمد (3/10،20،49،50) ومسلم (1/69/49) وأبو داود (1/677-678/1140) والترمذي (4/407-408/2172) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/485-486/5023) وابن ماجه (1/406/1275) من حديث أبي سعيد الخدري وليس من حديث أبي هريرة.
(4) مسلم (1/69-70/50) من حديث عبدالله بن مسعود.
(5) الحج الآية (40)..(1/177)
كذلك فإن جماعتنا قامت بجمع شمل أهل الحديث المستضعفين وقد قال الله تعالى: وَمَا { لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } (75) (1) . فإذا كانت حماية المستضعفين أصحاب العقيدة الصادقة موجبة للقتال أفلا تكون موجبة لتكوين جماعة تكفلهم حتى يبلغوا رسالة ربهم؟ وكذلك فإن من أهداف جماعتنا تربية أطفالنا وأطفال الشهداء على منهج السلف الصالح الذي لا ينتهج بفضل الله إلا في مدارسنا، ونحن نقوم بدعوتنا إعذارا إلى الله سبحانه كما قال سبحانه: قَالُوا { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (164) (2) . ونطمع في النجاة من نقمة الله وسخطه في الدنيا والآخرة حسب وعده الصادق فَلَمَّا { نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } (165) (3) ونحن علينا الدعوة والبلاغ أما هداية القلوب فبيد الله وحده لا شريك له إِنَّكَ { لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (4) وقال سبحانه: وَلَوْ { شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (35) (5) . ونحن مستمرون بعون الله في دعوتنا غير مبالين بتهم المخالفين وافتراءاتهم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله، ويقولون إن دعوتنا هي تنفيذ لمخططات أعداء الإسلام لضرب الجهاد، وأن الجهاد لن يؤتي ثماره إلا بالإصلاح الشرعي الذي ندعو إليه.
__________
(1) النساء الآية (75).
(2) الأعراف الآية (164).
(3) الأعراف الآية (165).
(4) القصص الآية (56).
(5) الأنعام الآية (35).(1/178)
والحمد لله رب العالمين، ونحن لم نفرق الصفوف، ولم ندع لإلقاء السلاح حتى يتم الإصلاح، فكيف يقال إن الدعوة السلفية وضعها الأعداء لضرب الجهاد.
الوجه الرابع: مما سبق تتبين لك الدواعي الشرعية التي دعت إلى إنشاء جماعتنا لا نبالي بعد ذلك تهمة طلب الرياسة التي هي من مواريث أعداء الرسل لصد الناس عن الحق واتباعه، بقي أن تعلم هنا أن الإمارة في هذا الدين ليست مذمومة ألبته وليست منهيا عنها لمن يقوم بحقها بل قد ترتقي أحيانا إلى مرتبة الاستحباب أو الوجوب الشرعي إذا دعت ضرورة صيانة الملة وحماية الأمة إلى ذلك وقال الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: اجْعَلْنِي { عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } (55) (1) ووردت الأحاديث بالبشارة العظيمة للإمام العادل.
تم الجواب ولله الحمد والفضل والمنة. (2)
__________
(1) يوسف الآية (55).
(2) جماعة الدعوة للقرآن والسنة (25-31).(1/179)
- السؤال: يقال إن أسلوبكم في الدعوة إلى العقيدة الصحيحة أسلوب فظ منفر؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. نحن نعلم أن من واجبات الدعوة أن يراعي الداعي حال المخاطب، وأن يختار أسلوبا لينا غير فظ ولا منفر، يقول الله تعالى: فَقُولَا { لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (44) (1) . ويقول الله تعالى: فَبِمَا { رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (2) . ويقول الله سبحانه: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (3) . ونحن لا نخرج عن تلك الحدود تعظيما لأمر الله عز وجل، واقتداء بأنبيائه عليهم الصلوات من الله والسلام. فالذين يطعنوننا بالفظاظة والشدة -إن كانوا من أصحاب العقيدة الصحيحة ويعرفون من واجب الدعوة إليها يؤدون حقها ويقفون موقفا صريحا بحيث يعرف الناس من عقيدتهم ودعوتهم ويرون في أسلوبنا من الفظاظة، فعليهم أن يصلحوا ما رأوا ويهدوننا إلى أسلوب مناسب متلطف لأننا لسنا ندعي أن أسلوبنا أسلوب جيد راقي في الدعوة إلى أقصى ما ينبغي أن يكون عليه طريق الدعوة، بل يحسب هذا من شأن الأنبياء عليهم السلام لأنهم معصومون في التبليغ والرسالة بعصمة الله، ومؤيدون بوحي الله، غاية ما ندعي ونتيقن أن عقيدتنا عقيدة صحيحة. وأن الدعوة إليها واجبة ويجب علينا أن نختار من بين أساليب الدعوة التي نعرفها أسلوبا جامعا للجهات المناسبة ومحفوفا بما يتوفر في دواعي الإجابة والقبول، وإن كانوا ممن يخالف في العقيدة والدعوة أو الدعوة وحدها، فهؤلاء لا يريدون من الطعن بالفظاظة إلا مخالفة أصل الدعوة ومحاربتها بأسلوب ماكر.
__________
(1) طه الآية (44).
(2) آل عمران الآية (159).
(3) النحل الآية (125).(1/180)
فنقول لهؤلاء تعالوا لنبحث أصل القضية وهي قضية العقيدة والدعوة، ثم بعد القضاء والاتفاق نبحث في كيفية أسلوب الدعوة ونختار بالاتفاق من أساليب الدعوة أسلوبا رضيا عندكم، أما إذا كنتم في اختلاف من مبدأ الأمر أو كنتم اخترتم موقف السكوت والمداهنة فلا ينبغي أن تطعنوا في طريق الدعوة الحقة، بل حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الآخرين. فبعد وضوح ما مر من داعية الطعن نقول: إن أصحاب البدع والأهواء دائما يقابلون أهل السنة بالفظاظة والغلظة، ويكفرون من خالف أهواءهم، ويخرجونهم من الملة ولا يصلون خلفهم بل لا يجوزون ذلك، ويفتون بجواز قتلهم ويحرضون عامة المسلمين على قتلهم وإيذائهم، وهذا واضح لكل من يعرف من أحوال المبتدعين من سالف الزمان. فنقول لهؤلاء الذين ينسبوننا إلى الفظاظة كيف تحاسبوننا بالقض والقضيض وتغمضون عن عدوان أهل الأهواء وفظاظتهم. يقول الله تعالى: وَلَا { يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (8) (1) .اهـ (2)
موقفه من المشركين:
قال رحمه الله مجيبا على سؤال: يشيع عنكم بعض الناس أنكم تكفرون المسلمين والمجاهدين، فما قولكم في هذا؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
هذا القول بهتان وافتراء علينا، وهو أحد الأساليب التي تستغل لمحاربة دعوتنا وتنفير العامة عنا وإغراء أهل العلم بنا. والذين يشيعون عنا هذا صنفان من الناس:
__________
(1) المائدة الآية (8).
(2) جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة (47-48).(1/181)
الصنف الأول: إذا سمعوا منا أن التمائم ودعاء غير الله والاستغاثة بالأولياء والخوف والرجاء من غير الله من أعمال الكفر والشرك، وأن اعتقاد أن غير الله يملك للناس نفعا أو ضرا اعتقاد شرك، وأن إنكار صفة الفوقية والعلو لله سبحانه يستلزم الحلول والاتحاد أو عدم وجود الله، وأن القول بأن ما نقرأ من كلام الله ليس كلام الله حقيقة بل يحسب كلام الله مجازا، من الأقوال الكفرية. وإن وجدت هذه الأشياء فيمن يقر بكلمة الشهادتين ويصوم ويصلي ويلتزم الطاعة فيظن هؤلاء أننا نحكم على مرتكبي تلك الأعمال والعقائد بالكفر، وليس الأمر كما توهموا، فإن الحكم بكون العمل كفرا وشركا لا يستلزم الحكم بكون المرتكبين له كافرين في جميع الأحوال.
فإن كلا من أعمال الكفر وعقائد الشرك لا يخرج من يقر بالشهادتين من الملة والإسلام إلا بعد إقامة الحجة عليه، وأن لا يبقى له عذر جهل أو شبهة ومع ذلك يعاند ويستمر في أعمال الكفر وعقائد الشرك.
الصنف الثاني: يعلمون أن دعوتنا دعوة حقة وأنا لا نحكم بكفر المسلمين ولا المجاهدين لكنهم أخذتهم العزة والأغراض السياسية والمادية فيبهتون ويفترون ويشيعون عنا، والله يعلم إنهم لكاذبون، وهؤلاء نذكرهم بالترهيبات التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تجرمنهم الأغراض السياسية والمادية على ألا يعدلوا. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. (1)
- وجاء في مجلة المجاهد:
المجاهد: هل يوجد في كنر أضرحة وقبور ظاهرة، وبعضها يعبد كما هو الحال في أكثر ولايات أفغانستان أم لا؟
__________
(1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (ص.44-45).(1/182)
الشيخ: إن دعوة التوحيد قامت في كنر من أكثر من خمس وثلاثين سنة فأكثر الناس والحمد لله يعتقدون العقيدة الصحيحة، ويحبون اتباع السنة، وإن كان فيهم من تأثر بالعقيدة الشركية، وقد وجدت القبور والأضرحة قبل دعوة التوحيد وما زال بعضها قائما، إلا أننا بدأنا في إزالته يوما بعد يوم، ولكن بصورة غير منظمة، فحتى الآن لم توظف لجنة تطوف على جميع المناطق لإزالة هذه الأضرحة وتسوية القبور. (1)
- وفيها أيضا:
المجاهد: هل تأمن الإمارة الآن من هجوم الشيوعيين؟
الشيخ: لا شك أننا لم ولن نأمن هجوم الشيوعيين، لأن الحرب قائمة بيننا وبينهم، غاية الأمر أن المحافظة بكاملها قد حررت، والمجاهدون متمركزون على الثغور مرابطون فإن حدث أي هجوم على كنر قام الجميع للدفاع، وإن لم يقم الشيوعيون بالهجوم فنحن نضع الآن الخطط للهجوم عليهم، ليستمر الجهاد ولترفع راية لا إله إلا الله عالية براقة فوق جبال أفغانستان.
__________
(1) مجلة المجاهد (العدد 30/ص.15).(1/183)
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له" (1) . فإن استمرار القيام بفريضة الجهاد أمر نراه من صلب عقيدتنا؛ فإن الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
وهناك جهادان:
جهاد داخلي: وهو دعوة الناس إلى العقيدة والتوحيد والدعوة إلى الكتاب والسنة بين المجاهدين وغيرهم واستتباب الأمن، وذيوع الروح الإسلامية في جميع الأوساط وفي جميع المجالات.
والجهاد الثاني: هو جهاد العدو الخارجي الكافر الشيوعي وغيره، فنحن لم ولن نكتفي -بإذن الله- بتحرير كنر وإقامة شرع الله بها حتى تكون جميع الأرض عامرة بشرع الله عز وجل. (2)
محمد نسيب الرفاعي (3) (1413 هـ)
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/50) وابن أبي شيبة (4/212/19401) وعبد بن حميد (رقم848) وابن الأعرابي في معجمه (6/336/1137) والبيهقي في الشعب (2/75/1199) والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/142/766) والهروي في ذم الكلام (ص.124) كلهم من طريق ابن ثوبان عن حسن بن عطية عن أبي منيب عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وذكره الهيثمي في المجمع (5/267) وفي (6/49) فعزاه مرة إلى الطبراني ومرة إلى أحمد وقال: "وفيه عبدالرحمن بن ثابت، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره وبقية رجاله ثقات". قال الذهبي في السير (15/509): "إسناده صالح". وعلقه البخاري في صحيحه (6/122) قوله: "ويذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "جعل رزقي تحت ظل رمحي.." الحديث، وأخرج الطرف الأخير منه "من تشبه بقوم فهو منهم": أبو داود (4/314/4031). وقال العراقي في تخريج الإحياء (2/676/797): "وسنده صحيح". وقال ابن تيمية في الاقتضاء (1/236): "وهذا إسناد جيد". وللحديث شواهد من حديث أبي هريرة وأنس وحذيفة والأوزاعي مرسلا.
(2) مجلة المجاهد (العدد30/ص.15-16).
(3) إتمام الأعلام لنزار أباظه ومحمد رياض المالح (ص.273).(1/184)
محمد نسيب بن عبدالرزاق بن محيي الدين الرفاعي: من علماء حلب، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف، وتعلم بها وتتلمذ لكبار علمائها وعلماء دمشق. عمل مراقبا ومدرسا في الكلية الإسلامية ودار الأيتام الإسلامية بمسقط رأسه، وشارك في مقاومة الفرنسيين فاعتقل وسجن بقلعة راشيا في البقاع الغربي وفي معتقل الميّة والميّة جنوب صيدا، وتعرف في أثناء ذلك على العلامة مصطفى السباعي والأديب عمر أبي النصر فأثرا فيه إذ ترك التصوف والطريقة الرفاعية التي كان يأخذ بها، وأسس بعد الإفراج عنه جمعية الدعوة السلفية للصراط المستقيم. وغادر إلى لبنان عام إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وسبعين وتسعمائة وألف ميلادي؛ داعيا وأخذ ينشر الكتب بالاشتراك، ثم أقام في الأردن حتى وفاته سنة ثلاثة عشر وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'التفسير الواضح على نهج السلف الصالح'، وهو مخطوط كما أشار إلى ذلك صاحبا إتمام الأعلام.
2- 'تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير'، وقد نفع الله به كثيرا، إلا أنه يحتاج إلى زيادة تنقيح لأحاديثه.
3- 'التوصل إلى حقيقة التوسل'.(1/185)
- قال رحمه الله تعليقا على قوله تعالى: لَا { إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (1) : قلت: أي إن عليكم أن تعرضوا الإسلام في عقيدته السمحة الهادية المهدية على الناس. وعلى الناس أن يتدبروها ويطلعوا على أدلتها وحججها وبراهينها التي هي في مستوى مفاهيمهم ولا شك. لأن الله تعالى جعل الإسلام من السهولة والسماحة لدرجة: أن الناس في مقدورهم بما وهبهم الله من عقل وفهم أن يتدبروه على اختلاف درجاتهم في ذلك... اللهم إلا أن يكون مجنونا أو ما يشبه فلا يكون مكلفا. وما سوى ذلك من الإنس والجن فمكلفون أن يفهموا ويتدبروا كما أراد الله وأمر فإن اتخذوه دينا يسره الله لهم وأعانهم على ذلك. ومن ركب رأسه، وتعصب لباطله رغم فهم الأدلة، وأعرض عن الإسلام فإن الله تعالى جزاء طغيانه: يُعمي قلبه، ويختم على سمعه وبصره جزاء وفاقا وذلك كقوله تعالى: فَأَمَّا { مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (10) (2) .اهـ (3)
- وقال عقب قول ابن كثير: [أي تفهِمون الناس معانيه وتعلمونهم أحكامه وأوامره ونواهيه، لا أن تحفظوا ألفاظه فحسب...] قال: قلت: لقد صار حفظ ألفاظ القرآن فقط في زماننا، صنعة عند الذين اتخذوا قراءة القرآن في الحفلات والمآتم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه! وهو لا يتجاوز حناجرهم. وسموا ظلما بالقراء..!!! وما القراء في مفهوم الشرع، إلا العلماء والفقهاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا إليه راجعون. (4)
موقفه من المشركين:
__________
(1) البقرة الآية (256).
(2) الليل الآيات (5-10).
(3) هامش تيسير العلي القدير (1/220).
(4) هامش تيسير العلي القدير (1/286).(1/186)
- قال رحمه الله: هؤلاء الملاحدة هم أهل وحدة الوجود التي هي نهاية حقائق علم التصوف وآخر درجات الحقيقة عندهم وهي مرتبة الوصول بأن يعتقد الواصل إليها أنه بلغ الحقيقة...!!! وهي الاعتقاد بأن الخالق عين المخلوق مهما تعددت الأشكال والذوات. فالكل واحد وهو الله...!!! فإذا أصبح العبد ربا فمن يعبد...؟ أيعبد نفسه ... ؟ وهنا تسقط التكاليف نعوذ بالله من الكفر والخذلان، وسوء المنقلب، ومن همز الشيطان ونفثه؛ فإن من يشرفه الله بالإسلام ويذوق حلاوته، ثم يختار مرارة هذا المنقلب الشركي المخيف فهو أهل لأحط دركات جهنم، وأعظم عذاب أهل السعير. (1)
- وقال رحمه الله: قلت: إن فكرة العودة إلى الدنيا مرة ثانية مع أنها عقيدة الكافرين الأول... ما يزال بين المسلمين من يقول بهذه العودة إلى الدنيا ويجعلون هذا لأوليائهم عندما ينادونهم ويستغيثون بهم لتفريج الكرب!! فيعتقدون أنهم يحضرون حالا لنجدتهم في هيآت مختلفة ويدعون أنهم يرونهم ويكلمونهم، فتأمل يا أخي المسلم كم هو أثر إبليس اللعين في نفوسهم إلى درجة جعلهم يعتقدون بعقيدة الكفار السابقين وهم يظنون أنهم ما يزالون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يقولونها ترادادا من غير فهم بدليل أنهم ينقضونها وهم لا يشعرون، وذلك بدعائهم واستغاثتهم بغير الله في أمور لا يكشفها عنهم إلا الله تعالى، وإن ما يرونه من الخيالات ما هي إلا الشيطان تمثل لهم بمن ينادون ليزيدهم طغيانا وتثبيتا في الشرك؛ نعوذ بالله من الخذلان وسوء المنقلب. اللهم ثبتنا على: إِيَّاكَ { نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (5) (2) .اهـ (3)
- وله رد على قصيدة البردة سماه: نقد قصيدة البردة لما في بعض أبياتها من البدعة والكفر والردة.
موقفه من الصوفية:
__________
(1) هامش تيسير العلي القدير (2/570).
(2) الفاتحة الآية (5).
(3) هامش تيسير العلي القدير (3/568).(1/187)
كان رحمه الله رفاعي الطريقة كما تقدم معنا، لكنه لما علم الحق وتشبع به، ترك التصوف وراءه ظهريا، وهجره إلى غير رجعة، ويكفي الصوفية عارا وخزيا رجوع أئمتهم وروادهم إلى الحق، فارين منهم، وما رأينا عاقلا عالما فارا إليهم.
قال رحمه الله: فما يقول أهل الطرق الذين يضربون أنفسهم بالحديد (الشيش) ويزعمون أنهم يتحسون السم ادعاء منهم أن هذه من (الكرامات..؟!!) زعموا.. ألا فليتوبوا إلى الله، وإلا فإن الخاتمة السيئة تنتظرهم، ونار جهنم ترتقبهم. (1)
موقفه من الجهمية:
له كتاب 'الباقيات الصالحات في شرح الأسماء والصفات'.
- قال رحمه الله: قلت: فما بال الذين يقولون -والعياذ بالله- (إن الله في كل مكان) ولا يخفى ما في هذا الكلام من معاني الحلول والاتحاد والوحدة تعالى الله عن ذلك، وهناك من يقول: (أن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف وليس هو في داخل الكون ولا في خارجه) وهذا كما لا يخفى، وصف للمعدوم والعياذ بالله، والقولان من دسائس اليهود لعنهم الله. (2)
__________
(1) هامش تيسير العلي القدير (1/379).
(2) هامش تيسير العلي القدير (1/422).(1/188)
- وقال عند قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ { مَنْ فِي } السَّمَاءِ (1) : قلت: وهذه الآية من جملة الآيات الدالات على أن ذات الله في السماء؛ ولا يلزم من قوله: أَأَمِنْتُمْ { مَنْ فِي } السَّمَاءِ أن يكون الله داخل السماء، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فالله أكبر مِن السموات ومِن كل شيء. وليس معنى الآية أن السماء تحتويه سبحانه وتعالى لأن (في) ليست الظرفية، إنما هي تفيد العلو. أي بمعنى (على) ومثل هذا وارد في القرآن كقوله تعالى على لسان فرعون: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ { فِي جُذُوعِ } النَّخْلِ (2) أي في أعالي جذوع النخل لا في داخلها. وعقيدة علو ذات الله، هي عقيدة السلف الصالح بخلاف عقيدة الخلف التي تقول أن الله في كل مكان خسيسا كان أم نفيسا، أو أن الله ليس فوقا ولا تحتا، ولا يمينا ولا شمالا ولا أماما ولا خلفا ولا هو داخل العالم ولا خارجه. وهذه صفات المعدوم والعياذ بالله تعالى من الكفر والضلال. فما أهدى عقيدة السلف الصالح! كيف لا والسلف الصالح هم محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والقرون الخيرة التي شهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية. فنحن نؤمن يقينا أن ذات الله في السماء أي فوق السماء، وفوق العرش وفوق الكرسي، بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل ولا تجسيم. إنها فوقية حقيقية تليق بجلاله وعظمته. وهو مع خلقه جميعا في صفاته العلى أينما كانوا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. (3)
__________
(1) الملك الآية (16).
(2) طه الآية (71).
(3) هامش تيسير العلي القدير (4/402).(1/189)
- وقال عند قوله تعالى: يَدُ { اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1) : ويد الله صفة له، معلومة الحقيقة، مجهولة الكيفية، لا هي نعمته ولا قدرته، إنما هي يده صفة له حقيقة لا كالأيدي لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) يد تليق بجلاله وعظمته تعالى وتقدس. (3)
موقفه من القدرية:
__________
(1) الفتح الآية (10).
(2) الشورى الآية (11).
(3) هامش تيسير العلي القدير (4/197).(1/190)
قال رحمه الله: لا شك ولا ريب أنه لا راد لإرادة الله تعالى فالذي لا يريده لا يمكن أن يكون قطعا. والذي يريده لا بد أنه واقع قطعا. ولا تكون حركة ولا سكنة إلا بإرادته، وإلا فيكون هناك مريد يغالب إرادة الله؛ وتنزه الله سبحانه أن يكون في الكون مريد غيره يغالبه. فالذي آمن ما آمن إلا بإرادة الله، والذي كفر ما كفر إلا بإرادة الله، ولكن يجب أن لا يفهم من هذا أن هذه الإرادة مجبرة على فعل الخير أو الشر، بمعنى أنه ليس للعبد أية إرادة فإن فعل خيرا فهو مجبر عليه أو فعل شرا فهو مجبر عليه.. لا وألف لا.. لأن إرادة الله غير أوامره، فإن الله أراد وما أمر، أراد لأنه لا يمكن أن يكون شيء إلا بإرادته، وما أمر لأنه لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولما كان الله تعالى أمر بأوامر ونهى عن نواهي من أجل أن يطاع فإن أطيع فللمطيع الجنة، وإن عُصي فللعاصي النار. وجعل للمكلف عقلا مميزا للخير من الشر فإن فعل الخير فلأنه مختار بذلك، ولولا اختياره هذا ما استحق عليه الجنة. وإن فعل الشر فلأنه مختار أيضا، ولولا اختياره هذا ما استحق عليه النار. فإن كان مجبرا على فعله ما استحق جنة ولا نارا. فمن أجل أن يستحق المكلف جزاء عمله جعله الله مخيرا فيما كلفه به، وكل ما فعله، خيرا كان أو شرا، هو بإرادته تعالى لأن الله تعالى يقدر على أن يمنع عبده من فعل الشر، كما أنه يقدر أن يمنع عبده من فعل الخير، ولكن لما سبق الوعد بالجنة إن فعل الخير، والوعيد بالنار إن فعل الشر، كان من حكمته تعالى، أن يكون عبده مخيرا لا مجبرا، لأنه إذا كان مخيرا وفعل الخير فهو يستحق الجنة بفعله وعمله واختياره، وإن فعل الشر فهو يستحق النار بعمله واختياره، وإن كان مجبرا على ذلك فأي نعيم أو عذاب يستحق..؟(1/191)
فلكي لا يكون للناس على الله الحجة جعلهم مخيرين في عمل الخير والشر، هذا ضمن دائرة التكليف الذي يحصل بوجود العقل والتمييز، لأن على العقل مدار التكليف أما الأمور التي لا يستطيع العقل أن يبدي فيها أو يعيد وخارجة عن نطاق التكليف فالمخلوق مجبر في هذا المضمار وبالله التوفيق. (1)
حمود بن عبدالله بن حمود التويجري (2) (1413 هـ)
الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود بن عبدالرحمن التويجري من آل جبارة، ولد في مدينة المجمعة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف. طلب العلم منذ صباه، فقرأ مختصرات في التوحيد والحديث والفقه والنحو. ثم لازم حلقة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، فاستفاد منه وأجازه إجازة مطولة بالرواية عنه كتب الصحاح والمسانيد والسنن وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وقرأ على الشيخ قاضي مكة سليمان بن حمدان، ثم عين قاضيا ببلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم ببلدة الزلفي. وكان رحمه الله يوصف بالتقى والصلاح وحسن العشرة والتواضع، وكان قويا في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، مجانبا لأهل البدع والأهواء، ومنكرا عليهم. وممن أخذ عنه عبدالله الرومي وعبدالله بن محمد بن محمود وناصر الضريري وغيرهم. اعتنى بالبحث والتأليف، وبلغت مؤلفاته أكثر من خمسين مؤلفا.
توفي رحمه الله في مدينة الرياض سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1- 'الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر'.
2- 'إثبات علو الله على خلقه'. (3)
عبدالله بن محمد بن عبدالله الخليفي (4) (1414 هـ)
__________
(1) هامش تيسير العلي القدير (2/159-160).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/141-145) وإتحاف النبلاء (1/189-197).
(3) علماء نجد (2/143).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/472-479) وإتحاف النبلاء (1/201-215).(1/192)
الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن الخليفي، ولد في بلدة البكيرية بمنطقة القصيم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف، وأخذ العلم عن والده والشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ والشيخ عبدالعزيز بن سبيل والشيخ محمد بن مقبل وغيرهم. عندما بلغ الخامسة عشر من عمره، أصبح إماما في مسجد في البكيرية، ثم استدعاه الأمير فيصل بن عبدالعزيز ليكون إماما خاصا به في مدينة الطائف، ثم أصبح إماما للمسجد الحرام سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فمكث فيه قرابة أربعين سنة. وكان رحمه الله يتميز بحسن الصوت، أحبه العامة والخاصة وله أعمال خيرية كثيرة يعرفها الناس.
قال الشيخ صالح بن حميد: كان رحمه الله عالما فذا، طيب المعشر، تقيا ورعا، يعامل الناس بالمعاملة الحسنة، بذل الكثير في سبيل الدعوة الإسلامية ونشرها من خلال خطبه في المسجد الحرام، وعمله في المجال التربوي بوزارة المعارف.
توفي رحمه الله سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف، وقد رثاه مجموعة من العلماء والشعراء.
موقفه من المبتدعة:
له: 'القول المبين في رد بدع المبتدعين'. (1)
أحمد بن محمد ابن تاويت (2) (1414 هـ)
أحمد بن محمد بن عمر ابن تاويت الودراسي النجار التطواني، ولد في شهر ذي الحجة عام إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، حفظ القرآن والمتون على أبيه. ومن شيوخه: أبو بكر زنيبر، وأحمد العمراوي، وأحمد الكنسوسي، وغيرهم.
كان قاضيا لتطوان وأستاذا بمعهدها الديني، ثم مديرا له، وعين أيضا أستاذا بكلية أصول الدين وعميدا بها، ثم أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية مدة سنتين باقتراح من الشيخ عبدالله كنون، وله اشتغال جيد بالفقه وأصوله يميل إلى العمل بالدليل.
توفي رحمه الله في التاسع من ربيع الأول عام أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
__________
(1) علماء نجد (4/474).
(2) 'إتحاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين' لمحمد بن الفاطمي السلمي ابن الحاج (ص.25).(1/193)
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله: قبح الله التقليد الأعمى الذي يؤدي بصاحبه إلى أن يقبل عقله تعارض الآي المحكمة أو السنة الصحيحة وقول مقلَّد، ثم يرجح أخيرا قولا معرضا للخطأ على قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - ، بدعوى أن الإمام ما خالف إلا لدليل قام عنده، فيدعون المحقق الموجود لمشكوك محتمل مفقود، وينسون أو يتناسون قول الله تعالى: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) ، وقوله عز وجل: لَقَدْ { كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ } حَسَنَةٌ (2) الآية، وهكذا شأنهم في كل ما يجدونه في المذهب مخالفا للكتاب والسنة، مع أن الأئمة رضي الله عنهم تبرؤوا كلهم من هذا كما تقف على تصريحاتهم بذلك إن شاء الله.
وقد نقل الإمام أبو الحسن السندي الحنفي 1138هـ في حواشيه على سنن ابن ماجة قولة عبدالله بن عمر المشهورة: (أرأيت إن كان أبي نهى عنها -المتعة في الحج- وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أمر أبي يتبع أم أمر رسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ). وقولة ابنه سالم في مسألة استعمال الطيب قبيل الإحرام وقبل الإفاضة: (سنة رسول الله أحق أن تتبع) فخالف رضي الله عنه رأي أبيه وجده لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثم قال السندي رحمه الله ما نصه: وغالب أهل الزمان على خلافاتهم إذا جاءهم حديث يخالف قول إمامهم يقولون: لعل هذا الحديث، قد بلغ الإمام وخالفه بما هو أقوى عنده منه، وقد روى ابن عمر حديث: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (3) فقال له بعض ولده: نحن اليوم نمنعهن، فسبه سبا ما سمع مثله، وهجره إلى أن مات. انتهى كلام السندي...
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) الأحزاب الآية (21).
(3) تقدم ضمن مواقف عبدالله بن عمر سنة (73هـ).(1/194)
ومن الدواهي ما قام به بعض المتفقهة في السنين القريبة من إلقائه خطبة الجمعة ببعض زوايا تطوان مؤيدا جواز الصلاة بالزوايا ذات الأضرحة والقبور ولو جمعة؛ بالقرآن والسنة القولية والفعلية، ثم إجماع الصحابة رضي الله عنهم -هكذا قال-، وزعم أيضا -عفا الله عنا وعنه- أن الأحاديث الواردة بالنهي عن الصلاة على القبور ضعيفة، وعلى فرض صحتها وسلامتها فهي محمولة على خوف عبادة الموتى. إلى آخر ما أتى به من هراء وترهات، كَبُرَتْ { كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } (5) (1) .
وايم الله إن ضرر هذا الفريق من المسمين بالفقهاء والعلماء على المسلمين لعظيم، وللبلية بهم شديدة؛ لأن العامة يغترون بهم ويظنون أنهم على حق فيما سكتوا عنه من البدع والعصيان، فيعتمدون على ذلك فيضلون، ويوم القيامة يحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. (2)
__________
(1) الكهف الآية (5).
(2) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.40-42).(1/195)
- قال في ذم التقليد: ولو اتبعنا سنة رسول الله وهديه الذي أمرنا بالاقتداء به، ووصية إمامنا مالك رضي الله عنه ونصيحته الذهبية.. في قولته المشهورة: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وما قاله الإمام؛ مثله للأئمة الثلاثة. قال الشافعي رحمه الله: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت"، وقال أيضا: "أجمع المسلمون -أي علماؤهم- على أن من استبان له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد". ولذا قال هو وأبو حنيفة رضي الله عنه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: "من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة" -أي هلك-.
فالأئمة -كما ترى- كلهم متفقون على وجوب التمسك بالسنة والرجوع إليها، وترك كل قول يخالفها مهما كان القائل عليما؛ فإن شأنه - صلى الله عليه وسلم - أعظم، وسبيله أقوم. فمخالفة الأئمة رضي الله عنهم في بعض آرائهم وأقوالهم لأجل آية محكمة أو سنة صحيحة لا تعد خروجا عن المذهب؛ بل اتباعا لهم وعملا بما نصحوا ووصوا به أتباعهم من لزوم الرجوع إليها، وبذلك يكونون قد خرجوا من عهدة اتباعهم وتقليدهم على الخطأ؛ فجزاهم الله أفضل الجزاء وأوفره على اجتهادهم الواسع الشامل لمسائل الدين وأحكامه، وخدمتهم الصادقة للإسلام ونصيحتهم الخالصة للمسلمين.(1/196)
وقد أوجب ذلك على المسلمين القرآن وصحيح الأخبار، قال تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (1) الآيات، وقال عز وجل: وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا } بِاللَّهِ (2) إلى أن قال: إِنَّمَا { كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (3) الآية. وقال - صلى الله عليه وسلم - : "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد" (4) الحديث.اهـ (5)
موقفه من المشركين:
له: كتاب 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نشرها مصطفى شعشوع ضمن كتاب حول شخصية المؤلف، وقد قرظها محمد كنوني المذكوري -عضو رابطة علماء المغرب ومفتيها- ومن قوله هناك: "ولقد أجاد حفظه الله وأتى بالنصوص المستمدة من الينبوع الصافي السلسبيل كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يشفي الغليل ويبرئ العليل، واسمع لو نادى حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي".
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) النور الآية (47).
(3) النور الآية (51).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (32هـ).
(5) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.54-57).(1/197)
وقد قرر رحمه الله في كتابه هذا وجوب المبادرة لهدم القباب التي على القبور، لأنها أضر من مساجد الضرار، ووجوب إزالة القناديل والسرج التي على القبور، وعدم النذر والوقف لها. وحشد فيه رحمه الله الأحاديث والآثار وأقوال الفقهاء المبينة لحرمة هذا العمل الشنيع، ومن بين أقواله العظيمة في ذلك؛ قوله: ..فلا مرية أنها بدعة يهودية منهي عنها ومحذر منها بنص الحديث الصحيح الشريف، وأصحابها وأنصارها محادون لله والرسول؛ لا سند لهم إلا فعل الأمراء الجهلاء والفقهاء الجبناء، ويا ما أكثرهم اليوم وقبل اليوم. (1)
محمد المكي الناصري (1414 هـ)
هو أبو عبدالله محمد المكي بن اليمني بن سعيد الناصري ولد بالرباط في الرابع عشر من شوال عام أربع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة.
تتلمذ على شيوخ كثير من أشهرهم: أبو شعيب الدكالي والمدني بن الحسني ومحمد السائح والحجوي الثعالبي وشقيقه محمد الناصري، ومن المشارقة: مصطفى عبدالرزاق ومنصور فهمي ويوسف كرم وعبدالوهاب عزام.
كانت له جهود في مقاومة المستعمر الفرنسي والإسباني بالمغرب ونفي بسبب ذلك عدة مرات.
من آثاره:
1- 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة' وهو في بيان الخرافات والبدع الطرقية الصوفية (2) .
2- 'حرب صليبية في مراكش'.
3- 'فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى'.
4- 'الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية'.
5- 'التيسير في أحاديث التفسير'.
6- 'مكانة الاجتهاد في الإسلام'.
7- 'كيف نجدد رسالة الإسلام'.
8- 'تاريخ التشريع الإسلامي'.
__________
(1) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.53).
(2) وهو أول ما ألف وقد اجتمع بعض أشياخ الزوايا فردوا عليه في مسودة باسم أحدهم وهو الشرقي وسموها 'غاية الانتصار ونهاية الانكسار' فانتفض أخوه للحق والدين وهو محمد بن اليمني الناصري فرد عليها برسالة 'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار'.(1/198)
9- 'نظام الفتوى في العالم الإسلامي'. وغيرها كثير.
عين رئيسا للمجلس العلمي بالرباط وسلا، ووزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، وأمينا عاما لرابطة علماء المغرب، اشتهر بحلقات التفسير بالإذاعة المغربية.
توفي في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه شيخه وشقيقه محمد بن اليمني الناصري: "أول من جاهر بين أقرانه في هذا الوسط المغربي -الذي تعود أهله السكون والسكوت والتسليم للرجال على كل حال- بالدعوة إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطهير العقائد من الخرافات، وذم البدع ومحاربة أهلها من غير أن يخش في الله لومة لائم، أو عذل عذول بحب البدع هائم". (1)
__________
(1) ضرب نطاق الحصار (ص 19).(1/199)
- قال في مطلع كتابه 'إظهار الحقيقة': أما بعد: فإنه في هذا العصر الزاهر الذي اهتمت الأمم فيه بإحياء ما كان لها من المفاخر والمآثر، قد اتسعت مدارك شبان المسلمين وتفتحت بينهم أزهار العلوم، وانقشع ما غشى أعينهم من كثيف السحب ومتلبد الغيوم، التي طالما حالت بينهم وبين ولوج أبواب العلوم والعرفان، وأوقعتهم في مهاوي الهلاك والخسران، فكثر التباحث والتفاوض بينهم في أسباب الترقي إلى ذروة الكمال، وإرجاع ما كان لهم من العز والعظمة والجلال، إلى أن وقفوا على الغاية المقصودة، والضالة المنشودة، فعلموا أن السبب الوحيد في ذلك، والوسيلة الموصلة إلى بلوغ ما هنالك، هو اتباع الكتاب العزيز واقتفاء المشرع الأعظم، وعدم العدول عما أتى به - صلى الله عليه وسلم - ، فسارعوا إلى القيام بهذا الأمر العظيم، وحملوا الناس على اتباع السنة والخروج عما هم فيه من مورد البدع الوخيم، وغدا كل واحد منهم ينشر دعوته بين مواطنيه، ويفيدهم ما عنده في هذا الموضوع من المعلومات، ويبين لهم أحسن الوسائل لمقاومة البدع وأسهل الطرقات، رغبة في الترقي إلى ذروة المجد والشرف والعروج في معارج الرقي والمكرمات، حتى لم يبق إشكال لدى جل الوطنيين في أن الحق هو ما هم عليه، والصراط المستقيم هو ما يدعون إليه، فاتفقت آراؤهم على ذلك المبدإ الحميد، وسلكوه غير ملتفتين إلى من خالفهم من كل متعصب جامد وجاهل وبليد؛ فلما رأيت ذلك منهم حملتني الغيرة الدينية على أن انخرط في سلكهم وأعينهم (وإن لم أكن أهلا للإعانة) بتقييد موجز مفيد، فشرعت في ذلك، مستعينا بالله تعالى على سلوك تلك المسالك، ملخصا له من بعض مقالات نصراء الإسلام وحماة الدين -إلى أن قال- اعلم أن ما حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين: قسم تقتضيه أصول الدين وتتناوله أدلة الشرع الكريم وهذا من الدين قطعا.(1/200)
وقسم لا تقتضيه أصول الدين ولا تتناوله أدلة الشرع وهذا هو المسمى بالبدعة والضلالة وهو المردود على صاحبه لقيام البرهان على منعه من الكتاب والسنة" -ثم ساق الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ثم قال: "إلى غير ما ذكر من الأحاديث الواردة في رد البدع على مبتدعيها وذمهم والحط من مقامهم، والأخبار الطافحة بالحض على التمسك بالكتاب والسنة والإجماع، ونبذ ما خالف هذه الأصول من البدع المحدثة في الدين، المنافية للشريعة الإسلامية؛ إذ الخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع.
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع
اتبع صراط المصطفى في كل ما واعلم بأن الحق ما كانت عليـ من أكمل الدين القويم وبين الـ ... ياتي وخل وساوس الشيطان
ــه صحابة المبعوث من عدنان
ـحجج التي يهدي بها الثقلان
واطلب نجاتك إن نفسك والهوى نار يراها ذو الجهالة جنة ويظل فيها مثل صاحب بدعة ... بحران في الدركات يلتقيان ويخوض فيها في حميم ءان يتخيل الجنات في النيران
لا تبتدع فلسوف تصلى النار مذ ... موما ومأخوذا على العصيان
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ولذ بكتاب الله والسنة التي ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح
أتت عن رسول الله تنجو وتربح
فقول رسول الله أزكى وأشرح
وإذا اقتديت فبالكتاب وسنة الـ ثم الصحابة عند عدمك سنة ... ـمبعوث بالدين الحنيف الزاهر
فأولاك أهل نهى وأهل بصائر
فتابع الصالح ممن سلفا ... وجانب البدعة ممن خلفا
فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
فبالسنة الغراء كن متمسكا تمسك بها مسك البخيل بماله وإياك مما أحدث الناس بعدها ... هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
وعض عليها بالنواجذ تسلم
فمرتع هاتيك الحوادث أوخم(1/201)
فالاتباع أصل الفضائل كلها، وأس الكمالات بأسرها. والابتداع رأس الفضائح والمصائب، والسبب في اضمحلال الأمم وانحطاطها، وما يصب من اللعنات عليها ويحل بها كل لحظة من القوارع والنوائب. (1)
- ذكر في كتابه 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة' مقدمة حافلة في الحض على اتباع الوحيين الكتاب والسنة والحذر من البدعة والمبتدعة، فساق آيات كثيرة وأحاديث عديدة -مع ما يشوب بعضها من ضعف- وآثار سلفية وأشعار مرضية، وفي سياق بيان أن سبب تخلف الأمة هو الابتعاد عن الأصلين الشريفين قال: فاتباع الأصول الدينية المبرأة من محدثات البدع، هو السبب في نهوض الأمة وارتقائها، وشفائها من أدوائها.
والذي نراه من عارض خللها، وهبوطها عن مكانتها، إنما نشأ عن طرح تلك الأصول ونبذها ظهريا، وحدوث بدع ليست من الدين في شيء؛ أقامها دعاة البدع مقام تلك الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين، وعما أتى لأجله وأعدته الحكمة الإلهية له.
__________
(1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.5-12).(1/202)
فاستبدلوا بالشريعة مذاهب وتقاليد هم بها عاملون فَتَقَطَّعُوا { أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (53) (1) وغرتهم الحياة الدنيا، فطغوا بالميزان، وغرهم بالله الغرور، فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث، دون العمل الصالح والسعي الحثيث، فكانت عزتهم ذلا، وكثرتهم قلا، ومكروا السيئات؛ فقادوا العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين، بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين وَمَا { هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } (13) (2) ففسدت بذلك الأعمال والنيات، واتكل الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على نصرة الحق، فخلا الجو للأمراء الظالمين، والرؤساء الغارّين، وفسد بذلك على الأمة أمر الدنيا والدين.
طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان فاختاروا الظلمات على النور، وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور، وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور. (3)
__________
(1) المؤمنون الآية (53).
(2) العنكبوت الآيتان (12و13).
(3) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.15-17).(1/203)
- وقال رحمه الله: لا بد أن نقف وقفة ولو قصيرة عند قوله: يُضِلُّ { بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } (26) (1) . ذلك أن كثيراً من الناس عندما تسبق إلى نفوسهم فكرة من الأفكار يتعصبون لها، ويجمدون عليها، ويعتقدونها اعتقاداً أعمى، فإذا أُلقي إليهم بفكرة جديدة قالوا: قُلُوبُنَا { غُلْفٌ } . كما أن كثيراً من الناس عندما يتورطون في نوع مرذول من أنواع السلوك، ويألفون جوّه العفن، يصبحون أكثر الناس حذراً ومخافة من كل فكرة صالحة تلقي الأضواء على ما هم عليه من انحراف وشذوذ، باعتبار أن الفكرة الجديدة قد تكشف معايبهم، وتفضح أسرارهم، وتخرجهم عن مألوفاتهم التي أصبحوا أسراء لها، وتجعلهم حقراء مرذولين أمام أنفسهم أولاً، وأمام الناس أخيراً، وهكذا لا يكتفي الفاسقون بإقفال أسماعهم عن سماع أية فكرة صالحة؛ بل يتصدون لها بالمقاومة والمحاربة سراً وعلناً، وبذلك يزدادون فسقاً على فسق، وانحرافاً فوق انحراف، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة وَمَا { يُضِلُّ بِهِ إِلَّا } الْفَاسِقِينَ فقد أثبتت لهم هذه الآية صفة الفسوق أولاً وسابقاً، وبتأثير هذه الصفة الملازمة لهم والمسيطرة عليهم زادوا عتواً وضلالاً، إذ الجريمة تدفع إلى أختها، والسيئة تعين على مثلها، على حد قوله تعالى: فِي { قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } (2) وذلك بعكس (المتّقين) الذين لازمتهم صفة التقوى، فانفعالهم من تلقاء أنفسهم يكون مزيداً من الهداية، ومزيداً من الرشد...
__________
(1) البقرة الآية (16).
(2) البقرة الآية (10).(1/204)
وأما فساد الفاسقين وإفسادهم في الأرض، فيتجلّى في سعيهم إلى تحطيم جميع المقدسات، وفي استهانتهم الظاهرة والباطنة بجميع القيم، وفي اعتدائهم المتوالي على حقوق الأفراد والجماعات، وفي إجبارهم للغير على الرضى بالفساد والعيش في ظله، ويتجلّى بالأخص في محاربتهم لأوامر الله وانتهاكهم لحرماته، والعمل بالخصوص على إقصاء تعاليمه وطردها من جميع مجالات العيش ومواكب الحياة.
وهذه الصفات الثلاث التي وصف الله بها (الفاسقين)؛ من خيانة للعهد، وقسوة في القلب، وإفساد في الأرض، كانت ولا تزال هي شعار الفاسقين لا تتخلف واحدة منها عن الأخرى في أي عصر ولا في أي جيل. (1)
- وقال: والحل القرآني والعملي لكل تنازع يطرأ بين المسلمين كما نص عليه كتاب الله؛ هو الرجوع إلى الله ورسوله، والنظر فيما أوجب التنازع بينهم، على ضوء ما في كتاب الله وسنة رسوله، واستخراج الحل الإسلامي الملائم من تعاليمهما وتوجيهاتهما، ومن القياس على نصوص الدين وسوابقه في عهد الرسالة وعهد الخلافة الراشدة، وبذلك يهتدي المسلمون إلى حل واحد يرضاه الجميع، ويلتزم طاعته الجميع، وما دام المرجع فيه هو الله ورسوله فلا غالب ولا مغلوب، ولا منتصر ولا منهزم، وإنما تكون كلمة الله وحدها هي العليا ثُمَّ { لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (2) وهذا هو معنى قوله تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (3) على غرار قوله تعالى في آية أخرى: وَمَا { اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (4) .
__________
(1) التيسير في أحاديث التفسير (1/31-34).
(2) النساء الآية (65).
(3) النساء الآية (59).
(4) الشورى الآية (10).(1/205)
ثم جاء التعقيب على هذا الإرشاد الإلهي بأنه هو خير وسيلة وأحسن طريقة لفض النزاع بين المسلمين إذا طرأ عليهم ما يدفع إليه، وأنه أحسن عاقبة ومآلاً، وفي ذلك إيماء إلى أن أيّة وسيلة أخرى قد يقع عليها الاختيار خارج هذا الإطار، لا تكون ناجعة ولا نافعة ولا حاسمة للنزاع، وإلى هذا يشير قوله تعالى: ذَلِكَ { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (59) (1) .اهـ (2)
موقفه من المشركين
- قال في سياق ذكر بعض البدع الشركية:
ذكر شيء مما فشا في الإسلام من البدع وإيضاح بعض ما نشأ عنها:
نظرا لغفلة علماء الدين وتهاونهم في الهدى والإرشاد، وميل الجهلة الطغام إلى كل مبتدع غريب؛ ولو أداهم إلى مشاركة المشركين فيه لصعوبة التكاليف الشرعية عليهم، وضعوا أوضاعا تشابه أعمال المشركين في الصورة أو في الحكم، وقاموا بها لسهولتها عليهم حيث لم يدخلوا بسببها تحت أمر غيرهم حتى أوشكت حالتهم أن تصير شبيهة بحالة المشركين، وعاد بينهم الدين غريبا كما بدأ واختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا حسب اجتهاد كل واحد منهم، ووفور ذكائه، وقوة فكره، وحدة ذهنه.
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) التيسير في أحاديث التفسير (1/348-349).(1/206)
فمنهم الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس، واتخاذ الدرابيز والكسا المذهبة، وتعليق الستور والأثاث النفيسة، وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى، وسوق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدرانها، والتمسح بها، وحمل ترابها تبركا، والسجود لها، وتقبيلها، واستلام أركانها، والطواف حولها، والنذر لأهلها، وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج -كما يزعمون- فيقولون عند زيارتهم: (قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان إلا ما قضيت لي حاجتي) جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم؛ مع أن الميت قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف لمن استغاث به، أو سأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها؛ فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واستعانة ذلك الميت وسؤاله لم يجعلهما سبحانه سببا لإذنه، وإنما السبب في إذنه كمال التوحيد، فجاء هذا بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، على أن الميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له، كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس أولئك القبوريون هذا، وزاروهم زيارة العبادة لقضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم قريبة من أن تصير أوثانا تعبد، وقد شاع هذا بين المسلمين وذاع وعم كل ما يستوطنون به من البقاع. (1)
__________
(1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.19-20).(1/207)
- وقال: إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زوراً وبهتاناً إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية؛ قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعاً تاماً منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها؛ فإنما تدعي زوراً وتقول بهتاناً.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم؛ فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيّرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوّهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهراً ومظهراً. (1)
- وقال عند قوله تعالى: أَفَحَسِبَ { الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } (2) : وفي هذه الخاتمة يستنكر كتاب الله من جديد موقف المشركين الذي يتخذون من عباده أولياء، يوالونهم ويعبدونهم من دون الله، فيجعلونهم محل الخوف والرجاء، ويعتقدون أن بِيَدِهم المنع والعطاء، ناسين أن العابد والمعبود في هذه الحالة سيّان، إذ في العجز والضعف والافتقار إلى الله خالق الخلق ورازقهم، لا يفترق إنسان عن إنسان، وإقبال العاجز الفقير على عبادة عاجز فقير مثله نوع من خَوَر الرأي، وضرب من العبودية والهوان. (3)
موقفه من الصوفية
__________
(1) التيسير في أحاديث التفسير (1/83).
(2) الكهف الآية (102).
(3) التيسير في أحاديث التفسير (4/20).(1/208)
- قال في عد بعض البدع الفاشية: ومنهم جماعات اتخذوا دين الله لهوا ولعبا، فجعلوا منه القيام والرقص حالة الذكر الجهري، ظانين أن ما يفعلونه من الرقص حالة الذكر عبادة، مع أن من ظن ذلك تجب عليه التوبة؛ فإن ناظر على ذلك وقال إنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى يخالف الإجماع؛ فيكون عاصيا آثما، إن لم يكن كافرا بناء على القول بتكفير مخالف الإجماع.
وكيف يعتقد من أودع الله فيه نور العقل أن الشطح وما شابهه مما يعبد الله به، مع تيقنه أن ذلك مجرد لهو ولعب؟
متى علم الناس في ديننا وأن يأكل المر أكل الحما وقالوا سكرنا بحب الإلـ كذلك البهائم إن أشبعت فيا للعقول ويا للنهى تهان مساجدنا بالسما ... بأن الغنا سنة تتبع
ر ويرقص في الجمع حتى يقع
ـه وما أسكر القوم إلا القصع
يُرقصها ريها والشبع
ألا منكر منكم للبدع ع وتكرم عن مثل ذاك البيع
ومما يزيد الطين بلة، والطنبور نغمة، أنهم يخلون ذكر الله وقتئذ بإنشاد مدائح أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه سيد المتواضعين حتى لنفسه الشريفة فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبدالله ورسوله" (1) .
ولا تسأل عن تغاليهم في الاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوهم إلى الكفر والزندقة والمروق من الدين؛ لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش هي قولهم (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). وهي كما ترى أخف شركا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادا بأصوات عالية مجتمعة وقلوب محترقة خاشعة. ومنهم أقوام كثيرون اصطلحوا على جعل يوم من السنة مخصوصا بفضيلة أكل اللحوم النيئة، والطواف في الأسواق، ودق الطبول والنفخ في الأبواق، وتلطيخ الثياب بالدماء المسفوحة طول يومهم الذي يكونون فيه قرناء الشيطان، مع أكل الزجاج والشوك والحيات والعقارب وشرب القطران.
__________
(1) أحمد (1/47و55) والبخاري (6/591/3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(1/209)
ويزيدهم قبحا وبشاعة وتمكنا في الهمجية ما يتمثلون به من الحيوانات البهيمية، ويتشبهون به من الوحوش الضارية، فيشخصون للإنسان كل ما امتازت به تلك الحيوانات بغاية البراعة والإتقان، ويستميلون نفوس الراءين ويسترعون أسماعهم بما يحسنون به تلك الأدوار من أنواع المهايتات والصياح، ويجوزون الشوارع الواسعة، ذات الأطراف الشاسعة على هذه الحالة البشيعة المنظر، مختلطين بالنساء، حاملين الرايات الشيطانية جاعلين أبناء شيوخهم وسطهم راكبين على عتاق الخيل، لابسين أحسن ما عندهم من الثياب، محفوفين بالعز والتأييد والمهابة والإقبال منظورين بعين التعظيم والإجلال؛ وذلك ليستمطروا بهم سحائب فضلات الجهال، من النساء والرجال، الذين يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم -حسب زعمهم- في ذلك اليوم المشهود عند الشياطين، المحبوب عند أعداء الأمة والدين، ولينالوا بركة أولئك الأوباش الطغام الذين ينزل عليهم من الإعانات الشيطانية، والإمدادات الجارية طبق الأهواء النفسانية ما لا يحصى بِعَدّ، ولا يقف عند حد.
ومثل هؤلاء الرعاع: قوم آخرون؛ أبشع منهم منظرا وأقبح حالة، يطوفون بالأسواق ويضربون الطبول، وينفخون في الأبواق مثل سابقيهم، إلا أن هؤلاء يشدخون رءوسهم أثناء تطوفهم، ويضربونها ويسيلون دماءها بالأسلحة والفئوس والقلال، وغيرها من أنواع الآلات المحددة التي لا أقدر على وصفها مما يتخذونه قصدا للقيام بهذا الأمر الفظيع.(1/210)
ويستعينون على كل ما ذكر بشرب المسكرات، واستعمال المرقدات والمخدرات، وهم سواء مع من ذكرناهم سابقا وقدمنا وصفهم في هذا الفعل القبيح والعمل السمج؛ ولكن مع هذا كله؛ فقد حصلوا على مراكز عظمى في القلوب، واستعمروا متسعات كبيرة كانت فارغة في النفوس؛ لما لهم من القدرة على تملك المشاعر، والسيطرة على الإحساس والوجدان، بأساليب الخداع التي يستعملونها وطرق التدليس التي يسلكونها، حتى إنهم سموا أفعالهم تلك بالحضرة موهمين بذلك أنهم وقتئذ يكونون في حضرة الله تعالى، وحاشا لله، فماهم إلا في حضرة الشيطان لعنه الله، محى الله مددهم وعددهم.
وليس العجب من انتشار ذلك بين العامة الذين هم كالأنعام، في كل الأمم والأقوام، بل العجب دخوله على كثير ممن يدعون أنهم من الخواص والعلماء، وانتصارهم لأهله، كأنه من غريز الكمالات في الدين الإسلامي؛ حتى أصاب جسم الأمة الإسلامية بسبب ذلك أمراض فعالة، وسرت في عروقها سموم قتالة:
أولها: احتجاب نور الشريعة عن أنظار العالم الإسلامي وراء ستر تقليد من لا علاقة له بالدين.
ثانيها: شيوع البدع والأحداث ونزولها منزلة أمهات المسائل الدينية.
ثالثها: استكانة النفوس لتلك البدع والركوع أمامها من العلماء جهلا أو تجاهلا، أو تأولا أو تقولا، ومن العامة تقليدا لهم.
رابعها: قعود أهل الإيمان والنظر الصحيح عن بيان حقيقة الدين الإسلامي خوفا من علماء السوء -وهم كثيرون- أن يثيروا العامة عليهم كما اتفق ذلك لكثير من أهل العلم الصحيح المتقدمين، وبعض العلماء الموجودين.
خامسها: وقوع المسلمين في الحيرة إذا توجه عليهم اعتراض في أمر وقامت عليهم حجة العقل في قبحه ظنا منهم أن ما هم عليه هو الدين.(1/211)
وهذه الأمراض والأعراض كافية؛ لأن تفقد الدين حياته الأدبية -لا قدر الله-، ولولا أن أصول الدين محفوظة من التغيير والتبديل لم تصل إليها يد عابث لما بلغنا شيء من حقائق الدين، ولاندثر كما اندثر غيره من الأديان التي نالت أصولها أيد المتلاعبين -والأمر لله ما شاء فعل. (1)
- وقال عن الآثار السيئة للتصوف المنتشر في بلاد المغرب وشؤمه على البلاد والعباد: ...إن كل ما أصابنا من أنواع الانحطاط والجمود والفشل والافتراق، والتنازع والتباغض، والتحاسد والشقاق؛ إنما هو من نتائج بدع المتصوفة المبطلين التي اتبعناهم فيها، واعتكفنا معهم على إقامتها، وسرت في نفوسنا سريان الدم في العروق، فلا شك أن النفس الحية الثائرة على الأكاذيب والأباطيل تشمئز من ذلك، وتسعى بجد واجتهاد في مقاومته، وتستعمل جميع الوسائل لحسم مادته وإزالته... (2)
- وقال رحمه الله في معرض حديثه عن قصة موسى والخضر: ومن المفيد في هذا المقام القضاء على بعض الشبه والأوهام، ذلك أن الاعتراضات التي اعترض بها موسى على تصرفات صاحبه إنما لم يكن لها قبول؛ لأن تصرفات صاحبه صدرت على مقتضى ما أُوحي إليه من عند الله، ولم تصدر منه عن رأيه الخاص ومحض هواه، ولذلك لم يُعدّ عمله خروجاً على شريعة موسى عليه السلام، وأقرّه موسى في النهاية على تأويله وفارقه بسلام، اقتناعاً منه بقوله دفاعاً عن نفسه: وَمَا { فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } (82) (3) .
__________
(1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.22-26).
(2) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.41).
(3) الكهف الآية (82).(1/212)
لكن في حالة ما إذا أكمل الله دينه، وانقطع الوحي الإلهي بالمرة، وختمت الرسالة إلى الأبد، كما هو الحال بالنسبة للرسالة المحمدية التي هي خاتمة الرسالات، إذ لا نبي بعد نبينا ولا رسول؛ فإنه لا يقبل من أحد من المسلمين مهما كانت درجته في العلم والصلاح والولاية أيّ قول أو فعل مخالف لنصوص الوحي الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله، فنصوص الشريعة حاكمة على ما سواها، ومهيمنة على ما عداها، وكل ما يصدر عن الناس من الأقوال والأفعال لا بد أن يوزن بميزانها، فما وافقها كان مقبولاً، وما خالفها كان مرفوضاً، ومن هنا كان كل ما يَخْرِم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً ليس بحق في نفسه؛ بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، حسبما نص عليه الشاطبي في 'الموافقات'، قال تعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) .اهـ (2)
عبدالرزاق عفيفي (3) (1415 هـ)
الشيخ الإمام عبدالرزاق بن عفيفي بن عطية العفيفي النوبي الأصل. ولد في شهر رجب من عام ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة في مدينة ششور من البلاد المصرية. طلب العلم منذ الصغر فدرس في الأزهر الشريف، ثم تولى رئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، ثم رئيسا عاما لها. وفي عام ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، سافر الشيخ إلى المملكة العربية السعودية حاجا، فاستقر بها، شاغلا مناصب عدة في التعليم وغيره. تتلمذ عليه الشيخ محمد بن العثيمين والشيخ عبدالعزيز آل الشيخ وإبراهيم آل الشيخ والشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ صالح البسام وغيرهم.
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) التيسير في أحاديث التفسير (4/10-11).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/275) والإتحاف (2/11) ومجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1415هـ/ص.24-46).(1/213)
قال فيه الشيخ عبدالعزيز ابن عبدالله آل الشيخ: الشيخ أحد الأعلام الفضلاء الذين هيأ الله لهم فرصة تربية الأجيال، وهو أحد العلماء الذين عرفوا بالجد والاجتهاد والإخلاص في أداء الواجب، وهو ذو علم واسع. وقال الشيخ صالح الفوزان: إن شيخنا الشيخ عبدالرزاق عفيفي -يرحمه الله- شخصية علمية فذة، فهو شيخ المدرسين، وقدوة العلماء السلفيين في هذا الوقت، له الفضل -بعد الله- على كل متعلمي هذا الجيل ممن تخرجوا في الدراسات الشرعية في التفسير والحديث والعقيدة والأصول. وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: إنه من أفاضل العلماء، ومن القلائل الذين نرى منهم سمت أهل العلم وأدبهم ولطفهم وأناتهم وفقههم.
توفي رحمه الله سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف، وصلي عليه في جامع الإمام تركي، وكانت جنازته مشهودة، ودفن في مقبرة العود في الرياض.
موقفه من المبتدعة:
بعد أن تحدث رحمه الله عن أعداء الإسلام والأساليب التي يستعملونها لبث أفكارهم وشبههم -وذكر بعضها-.(1/214)
قال: وغيرها من الشبه التي زانوها واستولوا بها على عقول البسطاء، وأحيانا ينتحلون أحاديث ينسبونها زورا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويلقونها على مسامع الأغرار وأهل الغفلة والجهل بفن الحديث من الذين لا يستطيعون التمييز بين صحيحه ومكذوبه، بل يصغون لكل ما نسب إليه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لحسن ظنهم بالرواة، وظنهم أنه لا يجرؤ أحد على الكذب على المشرع، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن ينصر دينه وينجز وعده، إِنَّا { نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) (1) ، ويأبى الحق إلا أن يصرع الباطل على يد النقاد من رجال الحديث وعلماء الرواية؛ بكلاءة هذا الفن وحفظه بتدوينه وتمييز الأصيل من الدخيل، والكشف عن أحوال الرجال جرحا وتعديلا يقظة وغفلة؛ إلا أن بعض رجال العلم من بعد أهملوا هذا الميراث الثمين، ولم يسلكوا سبل سلفهم في رد الفروع إلى الأصول، ولم يسيروا على ضوء مباحث الأولين في رد الشبه والأحاديث المفتراة؛ فغمرهم ظلام الإفك، وطغى عليهم التلبيس فتخبطوا في كثير من مباحثهم، وأكثروا من الاحتمالات التي لا داعي لها ولا حاجة إليها، فضعفت كلمتهم أمام المحرفين والمشبهين الملحدين. وإن ما ترزح تحته الأمم الإسلامية اليوم؛ من تفرق في الكلمة، وانحراف في الرأي، وضعف في الدفاع، وتأخر إلى الوراء حين يتقدم غيرهم؛ ليس كل ذلك إلا نتيجة غفلتهم عن تراث السلف الصالح وسلوكهم لغير خطتهم علما وعملا.
__________
(1) الحجر الآية (9).(1/215)
ولقد راجت شبه الملحدين من جديد رواجا مخيفا جمد إزاءه المسلمون، ولو أنهم رجعوا إلى أقوال سلفهم الصالح وسلكوا طريقهم، لردوا كيد الكائدين إلى نحورهم؛ فإنه ما من شبهة تذاع اليوم إلا وقد سبق إليها شياطين الملحدين السابقين في العصور الأولى، ووقفها وردها وأبطلها أجلة علماء السلف ببراعة فائقة؛ فلا سبيل أرشد من سبيلهم، ولا هدي أقوم مما كانوا عليه؛ فالخير كل الخير في العودة إلى كتاب الله تعالى تلاوة له وتفقها فيه، وإلى أحاديث المصطفى صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - دراية ورواية، والفتيا بهذين الأصلين وعرض أعمال الناس عليهما؛ فهذا هو الفلاح والرشاد الذي ليس بعده رشاد. (1)
- ومن مقالاته رحمه الله:
من أسباب الانحراف والصدود عن الحق:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فللصدود عن الحق أسباب عديدة وموانع كثيرة؛ منها: الغرور الفكري والتقليد عن غير بينة وبصيرة، وتحكم العادات السيئة في النفوس، والأنفة والاستكبار، والحسد الممقوت، وطاغوت الافتتان بالمركز والجاه وكثرة المال، وما إلى ذلك، وكلها أمراض أخلاقية وبيلة، وأدواء مستعصية فتاكة، والحديث عنها يطول؛ فليكن حديثي في هذه الحلقة عن الغرور الفكري. الغرور الفكري هو إعجاب الإنسان بعقله، وافتتانه برأيه، وإنزاله فوق منزلته، وإعطاؤه من القداسة ما ليس بأهل له حتى يتدخل فيما لا يعنيه، وما ليس في وسعه وحدود طاقته؛ فيعارض العبد ربه في خلقه وتشريعه، فضلا عن معارضته لنظرائه ومن هو أوسع منه فكرا وأكثر تجربة من العلماء. لقد وجد الشيطان منفذا لوسوسته في اغترار قوم بعقولهم وعلومهم؛ فاستهواهم، وزين لهم أن يخوضوا فيما ليس من شأنهم، وأن يهجموا على بحث ما ليس في وسعهم بحثه. (2)
__________
(1) إتحاف النبلاء (2/198-199).
(2) إتحاف النبلاء (2/187-188).(1/216)
- وقال رحمه الله: الحكم فيمن رد السنة جملة -أي كلها- فهو كافر، فمن لم يقبل منها إلا ما كان في القرآن فهو كافر، لأنه معارض للقرآن، مناقض لآيات القرآن: والله تعالى يقول: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } (1) ، ويقول تعالى: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) ويقول تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (92) (3) . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (59) (4) ويقول تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ } اللَّهُ (5) ،
__________
(1) آل عمران الآية (32).
(2) الحشر الآية (7).
(3) المائدة الآية (92).
(4) النساء الآية (59).
(5) آل عمران الآية (31)..(1/217)
فقوله: } فَاتَّبِعُونِي { هذا عام، فحد المفعول طريق من طرق إفادة العموم، وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ } فَخُذُوهُ، وما من صيغ العموم، وقوله: أَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ } تَنَازَعْتُمْ أي: تنازع الرعية، وأولو الأمر من العلماء والحكام فِي { } شَيْءٍ فردوه إلى الله والرسول، فلم يجعله إلى الله وحده، بل جعله إلى الله وإلى الرسول، ورده إلى الله رده إلى كتاب الله، ورده إلى الرسول بعد وفاته رده إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فدعواه أنه يعمل بالقرآن عقيدة وعملا ويرد السنة جملة -هذه الطائفة التي تسمي نفسها (القرآنية)- دعوة باطلة، وهو مناقض لنفسه لأنه كذب آيات القرآن التي فيها الأمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ ما جاء به، وطاعته فيما جاء به من عند الله عموما دون أن يخص آيات القرآن، ثم هو في الوقت نفسه كيف يصلي؟ وكيف يحدد أوقات الصلوات؟ وكيف يصوم؟، وعن أي شيء يصوم؟ وتفاصيل الصيام كيف يعرفها؟ وكيف يحج بيت الله الحرام؟ فليس هناك إلا أركان محدودة من الحج في سورة البقرة، وكذلك أين أنصبة الزكاة؟ وكيف يزكي؟ كل هذه التفاصيل موجودة في السنة وليست في القرآن. فمن يدعي أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة فإنه مغالط ومناقض لنفسه، ومناقض للقرآن، لأنه رد آياته الكثيرة التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام والأخذ بما جاء به، ومناقض لإجماع المسلمين ولإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جميعا لم يشذ واحد منهم عن الأخذ بالسنة، فإذا هو كافر بالقرآن وإن ادعى أنه مؤمن به، والكافر بآية منه كالكافر بكل آياته، كافر بالإجماع منكر له أي إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فما فيهم واحد شذ عن السنة وأنكرها جملة، وإذا أنكر أحدهم شيئا فإنما ينكر حديثا من جهة الراوي لا من جهة أنه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: السنة.(1/218)
وهذا أيضا لا يقوى على أن يقوم بالصلوات الخمس على وجهها المعلوم من الدين بالضرورة، فصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة الصبح ركعتان لا يجد هذا في كتاب الله فمن أين جاء هذا؟ ما جاء إلا من تعليم جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه، فمن أين يأتي بهذا؟ فهذا مجمل الرد عليه، وإثبات أنه كافر بالقرآن، كافر بالإجماع اليقيني، كافر بالمعلوم من الدين بالضرورة، من مثل أن ركعات الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان، وكافر أيضا بتفاصيل الصيام لأنها ليست في القرآن، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فلذلك كان كافرا. (1)
- وقال رحمه الله في جماعة التبليغ: الواقع أنهم مبتدعة ومحرفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم، وخروجهم ليس في سبيل الله، ولكنه في سبيل إلياس، هم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعون إلى إلياس شيخهم في بنجلادش، أما الخروج بقصد الدعوة إلى الإسلام فهو جهاد في سبيل الله، وليس هذا هو خروج جماعة التبليغ، وأنا أعرف جماعة التبليغ من زمان قديم، وهم المبتدعة في أي مكان كانوا. هم في مصر، وإسرائيل (2) ، وأمريكا، والسعودية، كلهم مرتبطون بشيخهم إلياس. (3)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: وتطرف البراهمة، فأحالوا أن يصطفي الله نبيا ويبعث من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادا على العقل في التمييز بين المصالح والمفاسد، واكتفاء بما يدركه مما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرا كانت أو شرا، إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم.
__________
(1) فتاوى ورسائل (303-305).
(2) هذه التسمية الأولى أن لا تطلق على دولة يهود فإن في ذلك تزكية لهم وانظر في ذلك معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر بن عبدالله أبي زيد (93).
(3) فتاوى ورسائل (372-373)(1/219)
وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد، وحاجة العالم إلى رسالة تحقيقا لمصالحهم، مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم، فليس إرسالهم عبثا، بل هو مقتضى الحكمة والعدالة. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: يرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالا للنصوص الواردة في فضلهم، وأن بغضهم نفاق وضلال لكونه معارضا لذلك، ومع ذلك فهم لا يتجاوزون الحد في حبهم أو في حب أحد منهم لقوله تعالى: قُلْ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي } دِينِكُمْ (2) ولا يخطئون أحدا منهم، ولا يتبرءون منه، ولهذا ورد عن جماعة من السلف كأبي سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي، أنهم قالوا: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، ومعنى ذلك أن الشهادة على مسلم معين أنه كافر أو من أهل النار، بدون دليل يرشد إلى الحكم عليه بذلك بدعة، وأن البراءة من بعض الصحابة بدعة. (3)
- وقال رحمه الله: والمراد بالشيعة هنا: كل من شايع علي بن أبي طالب خاصة، وقال بالنص على إمامته، وقصر الإمامة على آل البيت. وقال بعصمة الأئمة من الكبائر، والصغائر، والخطأ، وقال: لا ولاء لعلي إلا بالبراء من غيره من الخلفاء الذين في عصره قولا وفعلا، وعقيدة، إلا في حال التقية. وقد يثبت بعض الزيدية الولاء دون البراء.
فهذه أصول الشيعة التي يشترك فيها جميع فرقهم، وإن اختلفت كل فرقة عن الأخرى في بعض المسائل، فمن قال ممن ينتسب إلى الإسلام بهذه الأصول فهو شيعي. وإن خالفهم فيما سواها ومن قال بشيء منها، ففيه من التشيع بحسبه. (4)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، وتقتضيه حكمته فضلا من الله ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط والمذهب الحق.
__________
(1) فتاوى ورسائل (180).
(2) المائدة الآية (77).
(3) فتاوى ورسائل عبدالرزاق عفيفي (321-322).
(4) فتاوى ورسائل عبدالرزاق عفيفي (337).(1/220)
وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله إبانة للحق، وإقامة للعدل ورعاية للأصلح، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين وبناء الأحكام عليهما -ولو لم يرد شرع- وهو أصل فاسد. (1)
- وقال رحمه الله: ولا يغترن إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعا، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينا، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موضعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا -ثقة بعقله- واطمئنانا إلى القواعد التي أصلها بتفكيره، واتهاما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو تحديدا لمهمة رسالته وتضييقا لدائرة ما يجب اتباعه فيه، واتهاما لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا.
فإن في ذلك قلبا للحقائق، وإهدارا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على أصولها إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات، فأي عقل يجعل أصلا يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلا.
أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الاستواء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القبول بالجبر؟
أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟
أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال؟
__________
(1) فتاوى ورسائل (ص.180).(1/221)
أم عقل من قالوا بوحدة الوجود... إلخ. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: خرج جماعة من المسلمين على الخليفة الثالث عثمان ابن عفان لأمور نقموها منه، وأحداث أنكروها عليه، ومازال بهم اللجاج في الخصومة معه حتى قتلوه. ولما انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب كان ممن اختلف عليه وقاتله طلحة بن عبيدالله القرشي، والزبير بن العوام، فأما الزبير فقتله ابن جرموز، وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله، وكانت معهما عائشة -رضي الله عنها- على جمل لها، ولكنها رجعت سالمة مكرمة لم يعترض عليها أحد، وتسمى هذه الموقعة بـ "موقعة الجمل" (2) . واختلف على علي -أيضا- معاوية ومن تبعه -رضي الله عنهم- ودارت الحرب بين الفريقين حتى كان التحكيم الذي زاد الفتنة اشتعالا ودب الخلاف في جيش علي، وخرج عليه ممن كان من أنصاره فرقة تعرف بالحرورية وبالشراة. واشتهرت باسم الخوارج.
وحديث العلماء في الفرق الإسلامية عن الخوارج إنما هو عن هؤلاء الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- من أجل التحكيم. أما طلحة والزبير، ومعاوية، ومن تبعهم، فلم يعرفوا عند علماء المسلمين بهذا الاسم.
ثم صارت كلمة الخوارج تطلق على كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين اتفقت الجماعة على إمامته في أي عصر من العصور دون أن يأتي ذلك الإمام بكفر ظاهر ليس له عليه حجة وإذن، فأول من أحدث هذه البدعة في هذه الأمة الجماعة التي خرجت على علي بن أبي طالب سنة 39هـ، وأشدهم في التمرد، والخروج عليه، الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، والذي دعاهم إلى ذلك مسألة التحكيم المشهورة في التاريخ، ورضا الملومة به مع أنهم الذين أمروه به، واضطروه إليه، ثم أنكروه عليه فقالوا: لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله.
ورؤوسهم ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة، وعنها تتفرع فرقهم.
__________
(1) فتاوى ورسائل (ص.313).
(2) وقعت سنة (36هـ).(1/222)
ومن أصولهم التي اشتركت فيها فرقهم، البراءة من علي، وعثمان وطلحة والزبير، وعائشة، وابن عباس -رضي الله عنهم- وتكفيرهم.
والقول بأن الخلافة ليست في بني هاشم فقط، كما تقول الشيعة، لا في قريش فقط، كما يقول أهل السنة، بل في الأمة عربها وعجمها، فمن كان أهلا لها علما واستقامة في نفسه، وعدالة في الأمة جاز أن يختار إماما للمسلمين.
ومن أصولهم: الخروج على أئمة الجور، وكل من ارتكب منهم كبيرة. ولذلك سموا بالخوارج. والإيمان عندهم: عقيدة، وقول، وعمل.
وقد وافقوا في هذا أهل السنة في الجملة، وخالفوا غيرهم من الطوائف. ومن أصولهم -أيضا-: التكفير بالكبائر، فمن ارتكب كبيرة فهو كافر، وتخليد من ارتكب كبيرة في النار إلا النجدات في الأخيرين. ولذا سموا وعيدية.
ومن أصولهم -أيضا-: القول بخلق القرآن وإنكار أن يكون الله قادرا على أن يظلم. وتوقف التشريع والتكليف على إرسال الرسل، وتقديم السمع على العقل على تقدير التعارض، فمن وافقهم في هذه الأصول فهو منهم وإن خالفهم في غيرها، ومن وافقهم في بعضها، ففيه منهم بقدر ذلك. وقد اجتمعوا بحروراء برئاسة عبدالله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبدالله بن وهب الراسبي، وعروة بن حدير، ويزيد بن عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية. وكانوا في اثني عشر ألف رجل، فقاتلهم علي يوم النهروان، فما نجا منهم إلا أقل من عشرة، فر منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى موزان، فظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع.
وأول من بويع منهم بالخلافة عبدالله بن وهب الراسبي، فتبرأ من الحكمين، وممن رضي بهما، وكفر هو ومن بايعه عليا لتحكيمه الرجال ورضاه بذلك. (1)
موقفه من المرجئة:
سئل الشيخ: الإيمان الركن هل يزيد وينقص كالإيمان الواجب والمستحب؟
__________
(1) فتاوى ورسائل (331-333).(1/223)
فقال الشيخ رحمه الله: نعم بدليل عموم قوله تعالى: فَزَادَتْهُمْ { } إِيمَانًا (1) وقوله: لِيَزْدَادُوا { } إِيمَانًا (2) وهذا يعم جميع أقسام الإيمان. (3)
أبو عبدالله شمس الدين بن محمد الأفعاني (4) (بعد سنة 1415 هـ)
أبو عبدالله شمس الدين بن محمد أشرف بن قيصر، الأفغاني السلطاني المدني السلفي، ولد حوالي سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، قرأ في صغره على والده القرآن ومبادئ النحو والصرف وشيئا من الفقه الحنفي ثم توفي والده فصار يتيما.
واصل دراسته في أفغانستان وباكستان إلى أن رحل إلى الديار السعودية، فدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية حتى حصل شهادة "ليسانس" وشهادة "ماجستير" ثم الدكتوراه.
أسس رحمه الله الجامعة الأثرية ببشاور.
موقفه من المبتدعة:
له تآليف كثيرة يذب فيها عن منهج أهل الحديث، ويرد فيها على من خالفه من أهل الزيغ والضلال منها:
1- 'الألفية السلفية المجتناة من القصيدة النونية'.
2- 'الإرشاد والتسديد في مباحث الاجتهاد والتقليد'.
3- 'السير الحثيث إلى فضل أهل الحديث'.
4- 'إطفاء المحن والفتن بإحياء الآثار والسنن'.
5- 'القواعد واللمع لمعرفة العوائد والبدع'.
6- 'منهج السلف في الرد على بدع الخلف'.
7- 'عمدة العُدّة لكشف الأستار عن أسرار أبي غدة'.
8- 'الاجتهاد في الرد على البدع من أفضل الجهاد'.
وغيرها من تآليفه التي تصب في هذا المضمار، ولعل مجرد ذكر التآليف السابقة يغني عن تفصيل القول فيها.
موقفه من المشركين:
له من الآثار:
1- 'جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية'. في ثلاث مجلدات ضخمة.
2- 'الفريد الوحيد لقمع الشرك وحماية التوحيد'.
3- 'إزاحة القناع عن مكر أهل الشرك والابتداع'.
__________
(1) التوبة الآية (124).
(2) الفتح الآية (4).
(3) فتاوى ورسائل الشيخ عبدالرزاق عفيفي (ص.371).
(4) مقتطف من سيرة ذاتية للمؤلف نفسه، انظر 'عداء الماتوريدية للعقيدة السلفية' (1/151-157).(1/224)
قال رحمه الله في خاتمة كتابه 'جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية': لقد وصلت في التفتيش والتنقيب لجمع مادة هذا الكتاب وتصنيفه إلى عدة من النتائج، وفيما يلي ذكر أهمها:
1- أن القبورية أشد بلاء وأعظم محنة على الإسلام والمسلمين من جميع فرق أهل القبلة.
2- لأنهم جمعوا بين التعطيل والتشبيه، وناقضوا توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية؛ بل عارضوا توحيد الربوبية أيضا.
3- أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بغير الله تعالى.
4- أن القبورية أعظم عبادة وأكثر خشوعا للأموات منهم لخالق البريات.
5- القبورية والصوفية، والمتكلمون إخوان أشقاء خلطاء في كثير من الشركيات والخرافات.
6- القبورية جعلوا توحيد الألوهية عينا لتوحيد الربوبية؛ كإخوانهم المتكلمين.
7- فالغاية العظمى عندهم هي توحيد الربوبية.
8- القبورية جانبوا الجادة الصحيحة في تفسير المطالب العظيمة من التوحيد، والشرك والعبادة والتوسل والاستغاثة ونحوها؛ حيث حرفوها إلى معان أخرى تدعم وثنيتهم.
9- أهم عقيدة للقبورية هو الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات، أما بقية عقادئهم فهي وسائل إلى تحقيق هذه الغاية.
10- تبرقعت القبورية لتنفيذ خططهم المدبرة ضلالا وإضلالا بتعظيم الأنبياء والأولياء وحبهم.
11- فارتكبوا أنواعا من الإشراك تحت ستار الولاية والكرامة والحب والتعظيم.
12- سمت القبورية عقائدهم الفاسدة بأسماء برّاقة؛ حيث سموا الإشراك بالله بالتعظيم للأولياء وزيارة قبورهم، والاستغاثة بغير الله بالتوسل، وتصرف الأولياء في الكون بالكرامة، وعلم الغيب لهم بالمكاشفة، ونحوها.
13- القبورية فرقة بعيدة المدى، هي أم كثير من الطوائف الباطلة عبر القرون، فهي بدأت في عهد نوح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتطورت؛ فكانت الأمم الخالية من عاد وثمود ومدين والفلاسفة اليونانية واليهود والنصارى ومشركي العرب وأمثالهم كلهم قبورية.(1/225)
14- ولكن أعني بالقبورية قبورية هذه الأمة، وهي شاملة للروافض والباطنية والمتفلسفة في الإسلام والصوفية الطرقية والشيعة والزيدية، وكثيرا من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة.
إلى أن قال:
38- إن القبورية من الفرق الضالة الباطلة، الموجودة في واقعنا الماضي وحياتنا المعاصرة، المنتشرة في العباد والبلاد بالكثرة الكاثرة، وليست من الفرق المنقرضة كما يزعم ذلك بعض الجهلة الضالة المضلة.
39- القبورية لهم طرق ومكر ودهاء وخطط مدبرة لنشر عقائدهم الباطلة بشتى الطرق، وهم يظهرون بأسماء شتى ودعوات متنوعة، تارة باسم الإصلاح والإرشاد والتبليغ وتهذيب الأخلاق، وتارة في صورة منظمة سياسية أو جهادية، وتارة في لون تأسيس الجامعات لنشر العلم والمعارف؛ فهم طرق وألوان، وأنواع وأفنان ولهم ظلم وعدوان وبغي وبهتان وسلطان، ولهم اهتمام ونشاط لتحقيق ما هم عليه من التفريط والإفراط.
40 - أن كثيرا من القبورية قد تظاهروا بالتوحيد والسنة، وهم في الحقيقة على توحيد الماتريدية الجهمية وعلى سنة الصوفية النقشبندية الخرافية؛ كالديوبندية التبليغية؛ لا ينتبه لهم إلا المتمكن من العقيدة السلفية، الحكيم المجرب العارف بواقع هذه الأمة عامة وحقيقة القبورية خاصة.
41- لعلماء الحنفية جهود عظيمة بإبطال عقائد القبورية وقطع دابرهم وقلع شبهاتهم وقمع جموعهم وكسر جنودهم، ولهم في ذلك مؤلفات مفيدة نافعة كثيرة بلغات شتى، ولا سيما العربية والفارسية والأردية والأفغانية، مع ما في غالبها من العقائد الماتريدية والأفكار الصوفية.
فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسامحهم.
42- وهذا دليل على أن أئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية ليسوا منفردين بالرد على القبورية، بل شاركهم في ذلك هؤلاء الأعلام من الحنفية.
فلست وحيدا يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنود كالسيول تدفق
والله المستعان وعليه التكلان. (1)
__________
(1) جهود علماء الحنفية (3/1667-1675).(1/226)
موقفه من الصوفية:
قال: وهذا المثال ينطبق على كتاب 'تبليغى نصاب' الذي هو كالمصحف للتبليغية، ففيه نفع قليل انتفع به كثير من الناس ولكنه مشوب بشر كثير وخرافات قبورية صوفية، وهذا النقد في غاية من الإنصاف وعلى محكم الأساس قُلْ { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ } لِلنَّاسِ (1) .
وعلى هذا المنوال كتاب 'المثنوى' للرومي الحنفي إمام الطريقة الصوفية المولوية، الذي تهافت عليه كثير من الحنفية الرومية والتركية والإيرانية والأفغانية والهندية، فقد بالغوا في إكبار هذا الكتاب الخرافي إلى حد سموه 'قرآن البهلوي'، ولقد بالغ مؤلفه المولوي الرومي الصوفي الحنفي في إجلال كتابه المثنوي وإكبار هذا المعدن الخرافي. فقال: "وهو أصول أصول أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، يشرق إشراقا أنور من الإصباح...، يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، وإنه شفاء الصدور وجلاء الأحزان، وكشاف القرآن...، بأيدي سفرة كرام بررة، يمنعون أن لا يمسه إلا المطهرون، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..".
قلت: هذا كما ترى فيه مضارعة ومضاهئة ومصارعة للقرآن، مع ما فيه من الضلال والإضلال والعدوان والبهتان.
أقول: وللحنفية المولوية، الصوفية الرومية التركية، عجائب أخرى في إجلال المثنوى، وغرائب أخرى في إكبار هذا الكتاب الخرافي. (2)
موقفه من الجهمية:
لقد سخر قلمه رحمه الله لدحض شبه الجهمية غابرها وحاضرها، فألف مؤلفات تدل على ذلك منها:
1- 'تنبيه الساه اللاه على علو الله'.
2- 'تقويل التأويل'.
3- 'موقف اللصوص من النصوص'.
4- 'طبقات الماتريدية وأشقائهم الأشعرية'.
5- 'الجارية إلى تحقيق حديث الجارية'.
6- 'الحملات القسورية على ثرثريات الجهمية'.
__________
(1) البقرة الآية (219).
(2) عداء الماتريدية للعقيدة السلفية (1/53-54).(1/227)
7- 'عداء الماتريدية للعقيدة السلفية وموقفهم من الأسماء والصفات اللهية'. في ثلاث مجلدات.
8- 'الصارم البأسي على الكلام النفسي'.
موقفه من الخوارج:
له كتاب: 'مصاعد المعارج في عقيدة الخوارج'.
محمد أمان الجامي (1) (1416 هـ)
الشيخ العلامة محمد أمان الجامي بن علي جامي علي، أبو أحمد. ولد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف بقرية طغاطاب في منطقة هرر بالحبشة. نشأ الشيخ نشأة علمية حيث حفظ القرآن الكريم ودرس العربية والفقه على مذهب الإمام الشافعي. ثم رحل إلى مكة وتعرف على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ولازمه واستفاد منه، وأخذ عن العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن الإفريقي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ حماد الأنصاري والشيخ عبدالرحمن السعدي وغيرهم رحمهم الله.
قال الشيخ ابن باز عنه: معروف لدي بالعلم والفضل وحسن العقيدة، والنشاط في الدعوة إلى الله سبحانه، والتحذير من البدع والخرافات. وقال الشيخ محمد عبدالوهاب مرزوق البنا: ولقد كان رحمه الله على خير ما نحب من حسن الخلق وسلامة العقيدة وطيب العشرة. وقال الشيخ عمر بن محمد فلاته: كان رحمه الله صادق اللهجة، عظيم الانتماء لمذهب أهل السنة، قوي الإرادة داعيا إلى الله بقوله وعمله ولسانه. وقال الشيخ عبدالمحسن العباد: عرفت الشيخ محمد أمان بن علي الجامي طالبا في معهد الرياض العلمي ثم مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة في المرحلة الثانوية ثم في المرحلة الجامعية، عرفته حسن العقيدة، سليم الاتجاه، وله عناية في بيان العقيدة على مذهب السلف، والتحذير من البدع وذلك في دروسه ومحاضرات وكتاباته.
__________
(1) مختصر ترجمة فضيلة الشيخ محمد أمان الجامي لتلميذه مصطفى بن عبدالقادر الفلاني.(1/228)
من تلاميذه الشيخ علي بن ناصر فقيهي والشيخ ربيع المدخلي والشيخ عبدالقادر السندي والشيخ صالح السحيمي والشيخ بكر أبو زيد وغيرهم كثير. ومن مؤلفاته رحمه الله كتاب 'الصفات الإلهية' وكتاب 'أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام' ورسالة 'حقيقة الديمقراطية وأنها ليست من الإسلام' وغيرها.
توفي رحمه الله يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فصلي عليه بعد الظهر ودفن في بقيع الغرقد بالمدينة النبوية.
موقفه من المبتدعة:
- قال: حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموسا لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالا أمناء ونقادا أذكياء يدركون من العلل الخفية ما يعجز عن إدراكها غيرهم. منهم من قاموا بدراستها وحفظها سندا ومتنا، وجمعها، ومنهم من عمدوا إلى غربلتها وتصفيتها حتى يتبين المقبول من المردود. ومنهم من دققوا في أحوال الرواة حتى إنهم يدرسون أحوالهم راويا راويا، بل حتى إنهم ليعرفون آباءهم وأجدادهم ومشايخهم، وتلامذتهم الذين حدثوا عنهم، إلى آخر تلك الخدمة الفريدة التي قدمت ولا تزال تقدم للسنة المطهرة، ولله الحمد والمنة. (1)
__________
(1) الصفات الإلهية (29-30).(1/229)
- وقال: ويتضح مما تقدم أن مدلول السلفية أصبح اصطلاحا معروفا يطلق على طريقة الرعيل الأول ومن يقتدون بهم في تلقي العلم، وطريقة فهمه وبطبيعة الدعوة إليه. فلم يعد إذا محصورا في دور تاريخي معين. بل يجب أن يفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة وهم أصحاب هذا المنهج وهي لا تزال باقية إلى يوم القيامة أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أمتي منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم" (1) .اهـ (2)
- وقال: وما يمتاز به المنهج السلفي، أن الذين ينهجونه لا يختلفون إلا في الأسلوب والتعبير على اختلاف أزمنتهم ومشاكلهم. وذلك راجع لوحدة المصدر لدعوتهم، وهو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة الموضحة لمعاني النصوص، إذ هم الذين حضروا نزول الوحي وفهموا النصوص فور نزولها، قبل أن يطول عليها العهد، ولذلك يحرص اللاحقون من السلف أن يقتدوا بالسابقين. (3)
- قال رحمه الله: بعد أن استعرضنا الأدلة النقلية والعقلية لإثبات حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، بل أثبتنا أنه لا فرق بين الأحاديث المتواترة وبين أخبار الآحاد في هذا الباب.
نرى أن نتبع ذلك بمناقشة موقف أولئك الذين ضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم الذين زعموا وجوب الاكتفاء بالقرآن دون السنة، أو جواز ذلك في باب الأسماء والصفات خاصة، وفي إثبات جميع الأحكام عامة، فنقول وبالله التوفيق:
إبطال شبه الزاعمين الاكتفاء بالقرآن دون السنة:
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبدالله بن المبارك سنة (181هـ).
(2) الصفات الإلهية (64-65).
(3) الصفات الإلهية (ص.112).(1/230)
على الرغم من إجماع الأمة الإسلامية على أن السنة صنو القرآن، وأنها هي الحكمة المذكورة في القرآن في عديد من الآيات، وعلى الرغم مما هو معروف من أن الدين الإسلامي مستمد من الكتاب والسنة معا عقيدة وأحكاما، على الرغم من كل ذلك، لم تسلم السنة من أقلام بعض المتهورين المتطرفين، ولفرط جهلهم أطلقوا على أنفسهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن -في زعمهم- المكتفون به، المستغنون عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) بناء على زعمهم. ولكن التفسير المطابق لواقعهم -إذا نظرنا إلى تصرفاتهم- أنهم المخالفون للقرآن، اتباعا للهوى، وتقليدا لبعض الزنادقة التقليد الأعمى. لأنهم في واقعهم قد خرجوا على القرآن بخروجهم على السنة لأنهما كالشيء الواحد من حيث العمل بهما، إذ السنة تفسير القرآن، ولأن القرآن نفسه يدعو إلى الأخذ بالسنة والعمل بها إيجابا وسلبا. إذ يقول الله عز وجل: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) . والأمر بأخذ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل كل ما صحت به السنة المطهرة من الأحكام وإثبات صفات الله وإثبات المعاد وغير ذلك، ورد في القرآن أو لم يرد لأن ذلك من مقتضى الإيمان بالرسول ورسالته. ومما لا شك فيه أنه لا يتم الإيمان بالقرآن إلا بالإيمان الصادق بمن أنزل عليه القرآن، والإيمان به - صلى الله عليه وسلم - إنما يعني تصديقه في أخباره واتباع أوامره ونواهيه، وقد أوجب الله طاعته على وجه الاستقلال في قوله تعالى: أَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (2) . وهو أمر لا يختلف فيه اثنان مسلمان، وأما هؤلاء القرآنيون الجدد فليس لهم سلف فيما ذهبوا إليه إلا غلاة الرافضة والزنادقة الذين في قلوبهم مرض كراهة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورضي الله عن أصحاب رسوله.
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (59).(1/231)
وهؤلاء الروافض مرضى القلوب زعموا -وبئس ما زعموا- وجوب الاكتفاء بالقرآن والاستغناء عن السنة مطلقا في أصول الدين وفروعه، لأن الأحاديث -في زعمهم- رواية قوم كفار حيث كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن جبريل أخطأ فنزل بها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بدل أن ينزل بها إلى علي رضي الله عنه، وهذا الزعم الفاسد والقولة الجريئة هي أساس شبهة الروافض في رد الأحاديث النبوية، وهي شبهة مختلقة كما ترى.
ومن لوازم رأيهم الفاسد هذا: أن أمر الوحي مضطرب فلا يصدر من لدن عليم حكيم الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بل يتصرف فيه ملك الوحي كما يشاء ويختار، ينزل بالوحي على من يشاء ويعدل عمن يشاء بالوحي، كما يفهم من قول هؤلاء الروافض أن ملك الوحي نفسه غير معصوم أو غير أمين على الوحي وعلى أداء أمانة الرسالة. إذاً فما مدى إيمان الروافض بالله أولا، ثم بالملائكة والنبيين عامة، وبخاتم النبيين خاصة، وبالكتاب الذي نزل عليه؟
وبعد: فلقد حاول هؤلاء الزنادقة والروافض إزالة السنن من الوجود والقضاء عليها -لو استطاعوا- أو أن يجعلوا وجودها وجودا شكليا فاقدا للقيمة. إلا أنهم لم ينالوا خيرا ولم يستطيعوا أن ينالوا من السنة شيئا، فانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل (أحد) مثلا فأخذ يحوم حوله وفي سفحه لينقل من أحجاره حجرا حجرا، ظنا منه أنه يمكنه بصنيعه هذا قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافا بيده أو بدلوه محاولا بذلك أن ينفد البحر أو ينقص.
وما من شك أن هذا المسكين سوف تنتهي أوقاته ويجيء أجله المحدود والمحتوم، والجبل باق مكانه شامخا ليصعد أصحاب الخبرة ويترددوا بين شعابه ليعثروا على ما قد يخفى على غيرهم، بين تلك الشعاب المتنوعة التي لا يفطن لها غيرهم، إذ لكل ميدان رجال.(1/232)
كما يبقى البحر ثابتا مكانه ليغوصه الغواصون من رجال هذا الشأن، فيخرجوا للناس اللآلي والدرر من مسائل علم الحديث النافعة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هذه نهاية محاولة الروافض ومن يسيرون في ركابهم وقد أرادوا أن يجدوا ما يتعللون به من الأخبار التي تشهد لما ذهبوا إليه من قريب أو من بعيد، فعثروا في أثناء بحثهم على كلام باطل بطلان مذهبهم ونصه هكذا: (ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فإني لم أقله) (1) وكل من له نظر في هذا العلم الشريف يدرك أن هذا الكلام ليس من منطق الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا يظهر عليه نور النبوة -كما ترى- وعلى الرغم من ذلك فإن القوم قد طاروا به فرحا، ظنا منهم أنه نافع لهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفلتوا بحديثهم هذا من أيدي حراس السنة الذين لم تنم عيونهم الساهرة حفاظا على السنة، بل عثروا على حديثهم ذلك فأعلنوا عنه أنه من أباطيلهم ودسائسهم، حتى عرفه الناس على حقيقته بعد أن سجلوه في كتبهم، فأجروا له (عمليتهم) الخاصة، وفندوه وجرحوه وعروه أمام القراء حتى انكشف حاله، فلله الحمد والمنة.
يقول السيوطي في رسالته الطليقة 'مفتاح الجنة' (ص.214 وما بعدها): قال البيهقي: باب بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن، قال الشافعي رحمه الله: احتج علي بعض من رد الأخبار بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله) فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير أو كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. اهـ كلام الشافعي.
__________
(1) سيأتي تخريجه قريبا.(1/233)
قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا اليهود، فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي المنبر فخطب الناس فقال بأن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني (1) قال البيهقي: خالد مجهول وأبو جعفر ليس صحابيا، فالحديث منقطع. وقال الشافعي ليس يخالف الحديث القرآن ولكن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين معنى ما أراد خاصا أو عاما، وناسخا ومنسوخا.
ثم التزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن الله قبل، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي نقولا كثيرة في هذا الصدد نختار منها الآتي:
1- قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل نص الكتاب.
ثانيها: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
__________
(1) أخرجه: الطبراني في الكبير (12/316/13224) من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبدالله عن عبدالله ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/170) وقال بعد عزوه للطبراني: "وفيه أبو حاضر عبدالملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث". وتعقبه الشيخ الألباني، بأن أبا حاضر هذا ليس هو عبدالملك بن عبد ربه. وأبو حاضر هذا عداده في المجهولين ذكر ذلك ابن عبدالبر في الاستغناء (ترجمة 1548). وكذا الذهبي في الميزان وابن حجر في اللسان. والحديث أعله الشيخ الألباني في الضعيفة (1088) بأربع علل.(1/234)
ثالثها: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه له ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من التشريع، لأن الله تعالى ذكره قال: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) وقال: وَأَحَلَّ { اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (2) فما أحل وحرم مما بين فيه عن الله كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فثبتت سنته بفرض الله تعالى.
ومنهم من قال: كل ما سن، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى". انتهى كلام الشافعي. وقال الشافعي في موضع آخر: "كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقا، ولم يجعل له في اتباع سنن نبيه مخرجا".
__________
(1) النساء الآية (29).
(2) البقرة الآية (275).(1/235)
قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والبيان أن طاعته طاعته" ثم ساق الآيات التالية: قال الله: إِنَّ { الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى ¾دmإ،ّےtR? وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } (10) (1) وقال عز من قائل: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) إلى غيرهما من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعة رسوله طاعته سبحانه، وأن معصيته معصيته تعالى. ثم أورد البيهقي رحمه الله (3) حديث أبي رافع رضي الله عنه: قال رسول الله: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (4) .
__________
(1) الفتح الآية (10).
(2) النساء الآية (80).
(3) 7/76).
(4) أحمد (6/8) وأبو داود (5/12/4605) والترمذي (5/36/2663) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/6-7/13). والحاكم (1/108-109) وقال: "قد أقام سفيان بن عيينة هذا الإسناد وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والذي عندي أنهما تركاه لاختلاف المصريين في هذا الإسناد" ووافقه الذهبي.(1/236)
ومن حديث المقدام بن معدي كرب قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم أشياء يوم خيبر كالحمار الأهلي وغيره ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يوشك أن يقعد رجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" (1) ثم قال البيهقي رحمه الله: وهذا خبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد، ومما قاله الإمام البيهقي في هذا المقام: ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته بعد تعليمه من شهده أمر دينهم: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي محفوظ سنة (1361هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف فالح الدوسري سنة (1392هـ).(1/237)
هذا... وإذا كانت شبهة الروافض والزنادقة في رد أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - زاعمين الاكتفاء بالقرآن -ما تقدم ذكره من موقفهم العدائي من الصحابة- فما حجة القرآنيين الجدد؟ فليس لهم شبهة تذكر إلا ما كان من حب الظهور -ولو على حساب الكفر برسول الله- أو مجرد التقليد الأعمى، أو ما كانت من عداء كامن للإسلام لم يمكن إظهاره إلا في هذه الصورة، ومهما يكن من أمرهم فإن القرآنيين الجدد أصل مذهبهم راجع إلى ما كان عليه غلاة الروافض. وقد عرفت شبهتهم فبئس التابع والمتبوع أو المُقَلِّد والمُقَلَّد، وبعد أن ذكر الإمام السيوطي في رسالته 'مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة' شبهتهم تلك، قال مستهجنا لها ومستقبحا: "ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا الرأي الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار"، إلى أن قال: "وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم ومناظرتهم وتصانيفهم" ثم ساق من نصوص كلامهم الشيء الكثير في الرسالة المذكورة، ولابن خزيمة كلام نفيس في هذا المعنى.
وبعد: فدعوى الاكتفاء بالقرآن ومحاولة الاستغناء عن السنة إنما تعني الاستغناء عن الإسلام، أي تعني (الكفر) بأسلوب ملتو غير صريح لأمر ما، فأصحاب هذه الفكرة لا حظ لهم في الإسلام ما لم يراجعوا الإسلام من جديد.(1/238)
وبعد أن استعرضنا أدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض أهل العلم في أن السنة صنو القرآن، ولا يفرق بينهما، فلنناقش هؤلاء الزاعمين عقليا ومن واقع حياة المسلمين في عباداتهم، ومعاملاتهم، فهل يمكنهم الاكتفاء بالقرآن دون أن يجدوا أنفسهم مضطرين لمراجعة السنة في كثير من عباداتهم ومعاملاتهم، حيث يجدون في السنة تفصيل ما أجمل في القرآن -وما أكثره- وتقييد ما أطلق وعمم فيه. بل ربما وجدوا أحكاما جديدة هم بحاجة إليها لم يرد ذكرها في القرآن كما يجدون بعض الصفات الإلهية جاءت بها السنة ولم يرد لها ذكر في القرآن. إن الواقع الذي يعيشه المسلمون يجيب على هذا التساؤل، وفي القرآن آيات يأمر الله فيها نبيه أن يبين للناس القرآن الذي أنزل عليه، إذ يقول الله عز وجل: * { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (1) ويقول سبحانه: وَأَنْزَلْنَا { إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ } إِلَيْهِمْ (2) ويقول سبحانه آمرا لأتباعه وحاثا لهم على طاعته: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (3) . مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (4) .
وهذه الأوامر القرآنية والتوجيهات الإلهية تشير إلى أن هناك بيانا يقوم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن على أتباعه طاعته، وأن يأخذوا ما يأتي به ويأمرهم به، وعليهم أن ينتهوا عما ينهاهم عنه، لأن طاعته من طاعة الله عز وجل، ولأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
__________
(1) المائدة الآية (67).
(2) النحل الآية (44).
(3) الحشر الآية (7).
(4) النساء الآية (80).(1/239)
وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير، منها: أن الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام جاءت في القرآن مجملة هكذا: أَقِيمُوا { } الصَّلَاةَ (1) فيا ترى كيف يقيم القرآنيون الصلاة؟! فسوف لا يجدون صفة الصلاة وكيفيتها، وبيان عدد ركعاتها ومحل الجهر والسر فيها وغير ذلك من هيئات الصلاة، إلا في السنة الفعلية أو القولية. فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشيرا إلى هذا المعنى: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2) .
ولو تركنا الكلام في الصلاة، وانتقلنا إلى الزكاة لوجدنا القرآن قد أجمل أمر الزكاة كما أجمل أمر الصلاة، إذ نجد القرآن يقول: وَأَقِيمُوا { الصَّلَاةَ وَآَتُوا } الزَّكَاةَ (3) . وَآَتُوا { حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (4) لتقوم السنة ببيان الأموال التي تجب فيها الزكاة وبيان أنصبة الزكاة، والمقدار المأخوذ من كل نصاب على اختلاف الأموال، وهكذا نجد في باب الصيام أحكاما لم ترد في القرآن، وبينتها السنة، منها: حكم من أتى امرأته في نهار رمضان وهو صائم ما الذي يجب عليه؟ ومن أكل في رمضان أو شرب ناسيا ماذا يصنع؟ هل يتم صيامه أو يفطر؟
أما الحج فمؤتمر إسلامي عام وضع له القرآن الخطوط العريضة، فقامت السنة ببيان تفاصيله من أوله إلى آخره، ولو تتبعنا الأبواب الفقهية من باب الطهارة إلى آخر باب في الفقه لوجدنا السنة وهي تبين ما أجمل في القرآن، أو تأتي بجديد على ضوء الآيات السالفة الذكر.
__________
(1) الأنعام الآية (72).
(2) أخرجه: أحمد (5/53) من حديث مالك بن الحويرث وأخرجه البخاري (2/142/631) مطولا وفيه قصة.
(3) البقرة الآية (43).
(4) الأنعام الآية (141).(1/240)
ولو تركنا الأحكام الفقهية وانتقلنا إلى مباحث العقيدة لوجدنا للسنة دورها الذي لا ينكره إلا من يجهلها أو لا يؤمن بها، إذ نجد صفات الله تعالى إما ثابتة بالكتاب والسنة معا مع الدليل العقلي التابع للدليل النقلي، وإما ثابتة بالسنة الصحيحة، ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم مثل الفرح والضحك والنزول والقدم مثلا.
فلا أظن الزاعم الاكتفاء بالقرآن يجد مفرا بعد هذا البيان إلا إلى أحد أمرين:
1- الإيمان والاستسلام، وهو خير له وأسلم بأن يعامل السنة معاملته للقرآن باعتبارها تفسيرا للقرآن.
2- الكفر بالقرآن والسنة مَعا دون محاولة تفريق بينهما، وهو غير عملي كما ترى ويمكن أن يقال: إنه إيمان شكلي ببعض الوحي، وكفر سافر ببعض. (1)
موقفه من الجهمية:
له 'الصفات الإلهية في الكتاب والسنة'، بين فيها مذهب السلف رضي الله عنهم ونافح عنه رحمه الله ودافع، كما أنه رد مذهب الخلف من معطلة ومؤولة ومشبهة. فلله دره من إمام رحمه الله وله كذلك رسالة لطيفة أسماها: 'العقيدة الإسلامية وتاريخها'.
موقفه من القدرية:
قال في 'العقيدة الإسلامية وتاريخها': ويدخل في المطالب الإلهية الإيمان بقدر الله السابق وقضائه النافذ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأن ما أصاب العبد في علم الله لا يخطئه، وما أخطأه في علمه لا يصيبه، إذ لا يقع شيء في ملكه دون قدره وقضائه وفعله.
__________
(1) الصفات الإلهية (47-56)(1/241)
وذلك لقوله تعالى: قُلْ { لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (51) (1) وقوله تعالى: مَا { يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (2) (2) والآيات والأحاديث في وجوب الإيمان بالقدر والقضاء كثيرة جدا كما لا يخفى، وهذا المقدار الذي ذكرناه يكفي في الإيمان بالقدر، مع الكف عن الخوض في أسرار الرب تعالى في قدره وقضائه وأفعاله التي لا تصدر إلا عن حكمة، فكما لا يجوز السؤال عن كيفية صفاته تعالى بـ (كيف)، كذلك لا يجوز السؤال عن أسرار قدره وقضائه بـ (لماذا) أو بـ (لم)، فلا يجوز للمؤمن أن يقول: لم خلق الله هذا، ولم أعطى فلانا ومنع فلانا، مثلا. بل يجب الإيمان بأنه سبحانه لا يخلق ولا يرزق ولا يعطي ولا يمنع ولا يحيي ولا يميت إلا لحكمة، وليس ذلك لمجرد تعلق الإرادة بالمفعول، كما يزعم بعض أهل الكلام ذلك (وهم الأشاعرة الكلابية).
وقد ثبت عن غير واحد من السلف الصالح قولهم: (القدر سر الله، فلا نكشفه)، فالتعرض لهذا السر الإلهي مزلة الأقدام، ومن أسباب الزيغ والضلال، فليحذر كل الحذر. (3)
محمد بهجة الأثري (4) (1416 هـ)
__________
(1) التوبة الآية (51).
(2) فاطر الآية (2).
(3) العقيدة الإسلامية وتاريخها (ص.10-11).
(4) إتمام الإعلام لنزار أباظة ومحمد رياض المالح (ص.224-225).(1/242)
محمد بهجة بن محمود بن عبدالقادر العراقي المعروف بالأثري، ولد سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. من أشهر مشايخه محمود شكري الآلوسي، وعلي علاء الدين الآلوسي. ولشدة ولعه بالحديث والآثار لقّبه شيخه محمود شكري الآلوسي بالأثري. كان عضواً في المجلس الأعلى الاستشاري بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية بانتخاب من الملك سعود سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة. نال عدة أوسمة، وكان كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف العراقية، عين عضوا بالمجمع العلمي العراقي والمصري والسوري.
له 'أعلام العراق'، و'تاريخ مساجد بغداد' (تهذيب)، و'المجمل في تاريخ الأدب العربي'، و'المدخل في تاريخ الأدب العربي'، و'دعوة التوحيد والسنة'، و'محمد بن عبدالوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث' (وقد طبعتها جامعة الإمام بالرياض).
مات رحمه الله عام ست عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في تأييده لرسالة القسام والقصاب التي قررا فيها بدعية الجهر بالذكر في تشييع الجنائز: الدين الإسلامي يكفل للبشر السعادة في كل زمان ومكان، ويفي بحاجيّاته في كل عصر ومصر؛ لانطباقه على نواميس العمران، وابتناء أحكامه على قواعد محكمة، لا تكاد تزعزعها الأعاصير والعواصف، كما يشهد بذلك فلاسفة الاجتماع وعلماء العمران.(1/243)
وقد نال الصدر الأول من السعادة التامة، والملك الكبير، والسلطان العظيم ما لا يقوم بوصفه البيان، ولا يمتري فيه إنسان، ذلك بما نفخه هذا الدين فيهم من روح العلم والعمل، والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، حتى إذا دار الزمان دورته؛ دسّ أناسٌ من أعداء الدين أنفسَهم فيه، وتزيّوا بزيّ أهله، وصاروا يعملون على هدمه بما يضعون من أحاديث، ويدسون من روايات ليس لها أقل حظ من الصحة والصدق، ففشت بذلك البدع والأهواء، وثارت أعاصير القلاقل والفتن بين المسلمين، وكثر بينهم الشقاق، وزاد النفاق، حتى إذا انشقت عصا وحدتهم، وانقسموا إلى فِرق وأحزاب، كل حزب فرح بما لديه، وكلّ فرقة تكفّر الأخرى؛ لمخالفتها لها في المشرب ومباينتها إياها في المذهب.
ظل أهل الإسلام على هذه الحالة حينا من الدهر، والعدو يتربص بهم الدوائر، وَهُمْ { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (1) ، لا يكادون يشعرون بحالتهم، ولا يعلمون أيان مصيرهم، حتى قيض الله في هذا العصر فئة من عقلاء الأمة وحكمائها، أحسّت بالخطر المحدق، فأهابت بالأمة وأخذت تسعى لمحو الخرافات المتغلغلة في أعماق النفوس، وإعفاء آثار البدع والمحدثات التي غص بها العالم الإسلامي، وصارت شارةَ عارٍ في جبين الإسلام، هذا إلى أعمال أخرى عظيمة لها مقام غير هذا المقام.
نجحت هذه الفئة بعض النجاح فيما دعت إليه من تنقية الدين من الشوائب، وأيقظت أذهان كثير من الناس، وصار لها أتباع ومريدون، ينشرون دعوتها، ويعززون كلمتها، ويدعون إلى اطراح ما لم يرد به الدين، مما عليه عامة المسلمين على ما لاقت من المقاومة والمناهضة من فريق المبتدعة: أولئك الذي مني الإسلام بهم ومنوا به!
__________
(1) الكهف الآية (104).(1/244)
هؤلاء المخرّقون أو أولئك الجامدون على المحدثات، العاضّون عليها بالنواجذ: قوم عالة، نشؤوا على المسكنة، فاتّخذوا الدين أحبولة يصطادون بها طائر الرزق، وآنسوا من أهله الغافلين ميلا لهم، وتعلقا بأذيالهم -وما أشد تعلق العامة بمن يظهر لهم التقوى!- فاتخذوا لهم منهم جنة، تقيهم من سلاح أهل الإصلاح الماضي، وتحفظ لهم منزلتهم الموهومة، فهم أبداً، ينزلون على إرادة الرعاع، ولا يخالفون لهم أمرا خشية من نفورهم، ومحافظة على مكانتهم عندهم، فهؤلاء القوم عقبة في سبيل المصلحين كؤود، ولو تسنّى لرجال الإصلاح القضاء عليهم؛ لرأيت النساء يدخلون في دين الله أفواجاً، ولابد أن يأتي يوم يظهر الله فيه -على أيدي المصلحين- دينه الذي ارتضاه، ويتم نوره.
على أن هؤلاء المبتدعين، فضلا عن حرصهم على حفظ مكانتهم عند الرعاع، قوم استأنسوا بظلام الجهل، وأخلدوا إلى المسكنة والذل، حتى طبع الله على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم يتأذى بصرهم من نور العلم، ويعزّ عليهم الخروج من غيابة الجبّ إلى استنشاق الهواء الطلق في هذا الفضاء الواسع المترامي الأطراف، وهم -مع ذلك كله- لا يخجلون من دعوى أنهم رجال الإصلاح والصلاح، وأن سعادة البشر لا تتم إلا باتباع مناهجهم وسبُلهم! ويعلم الله أنهم ليسوا إلا حشرات سامة، تحارب السعادة والبُلَهْنيّة (1) ، وتمزق أشلاء الإنسانية بسمّها الناقع، وشرها المستطير، وأن محدثاتهم لأضرّ على الدين من طعنات ألدّ أعدائه، وأجلب للشرور إليه من أشد مناوئيه.
أجل! فإنه لولا محدثاتهم المخزية التي شوّهوا بها الدين، وتفهيمهم الدين للناس تفهيما مقلوبا لما تجرأ أحد على الطعن فيه، ولما خسر كل يوم عدداً من أبنائه غير قليل.
__________
(1) الرخاء وسعة العيش.(1/245)
وليس ما يرتكبه هؤلاء جهاراً، ليلاً ونهاراً، من ضروب الموبقات، ويجرأون عليه من مقاومة المصلحين جهلاً وعدواناً بضروب الوسائل، بخافٍ على أحد، وقد كنت إخال أن للعراق النصيب الأوفر والحظ الأكبر، من هؤلاء المبتدعة حتى إذا كُتبت الرحلة لي في هذه الأيام إلى بلاد الشام، ووقفت عن كثب على أحوال قادتهم، واطلعت على بعض ما لهم من المؤلفات في الدعوة إلى حشوهم، والتهويل على المصلحين؛ دهشت مما رأيت، وعجبت لانقياد العامة لهم وتألّبهم على كل من يحضّونهم على مناهضته من رجال الإصلاح الديني والعلمي، إن حقّاً، وإن باطلاً، حتى كأن الشاعر العربي قد قصدهم بقوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا!
ومن جملة الأمور التي وقفت عليها: أن عالماً من رجال الإصلاح سئل عن (حكم الصياح في التهليل والتكبير، وغيرهما أمام الجنائز)، فأفتى بأنه "مكروه تحريما، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلا بآية قرآنية، وحديث صحيح وأقوال الفقهاء"، وسأل هذا المستفتي عن السؤال نفسه رجلاً آخر ينتمي في الظاهر إلى العلم، فأجاب بالسلب، ونفى ما قرره الأول نفيا رجما بالغيب، وتهجما على الحق بقول الزور، ولم يكتف بذلك وحده، بل تجاوز حدود الأدب والإنصاف، ورمى الرجل بالزيغ والضلال، وأسند إليه ما لم يقل به، ولم يجر به قلمه، شأن أصحاب الهوى والإفك، وأن في قصة الإفك لعبرة لقوم يعلمون.
إن هذه المسألة، وكذا مسألة المولد النبوي، ونظائرها؛ لمن الأمور البديهية، التي لا يحسن بمنتم إلى العلم وشاد شيئا من الفقه، أن ينازع أو يختلف فيها، ومن نازع فقد أعرب عن جهل عريق، وفهاهة باقلية، وجهالة غبشانية!
فقد أجمعت كلمة المحققين من السلف والخلف على إنكار هذه البدع التي لم ينزّل الله بها من سلطان، ولم يختلف منهم قط اثنان.(1/246)
وإن فيما ساقه الأستاذان الجليلان: الشيخ كامل القصّاب، والشيخ عز الدين القسّام، من الأدلة الشافية، والنقول الوافية، عن فطاحل علماء المذاهب الأربعة في رسالتهما: 'النقد والبيان في الردّ على خزيران' -الذي أعرب عن مبلغ علمه وفهمه للدين- لَغُنية عن سرد ما نعرفه من أقوال المحققين في هذه المسائل، وعسى أن يتروّى خزيران وشيخه في رسالة الفاضلين، فيستعينا بها على الرجوع إلى الحق، ويعلنا للناس خطأهما المطلق؛ لئلا يزل معهما من يزل ممن يحسّن الظنّ بهما، ويرجع في فهم أمور الدين إليهما...!
على أن الجدال في مثل هذه المسائل البسيطة، أصبح في هذا العصر -عصر المسابقة والمباراة، عصر الصناعات والمخترعات-، ضربا من المضحكات، التي يخجل أن يفوه بها عاقل، وإنني لأعتقد أن الأستاذين الهمامين: القصاب والقسّام -وهما هما- ما كانا ليبحثا في هذه المسألة ويؤلّفا لها رسالة، لولا وجوب نصرة الحقّ، ودحر شبه المضلّين في الدين.
سدّد الله خطوات الجميع، ووفّقنا إلى ما فيه خير الأمة، والسلام على من اتّبع الهدى. (1)
- وقال في كتابه: 'دعوة التوحيد والسنة': وأشهد مخلصا أن بين سيرة محمد بن عبدالوهاب ودعوته، ولأسمها: الدعوة التجديدية، رحما واشجة، وآصرة وثيقة محكمة يبدوان من غير تكلف للرؤية في هذا التطابق التام بين الفكر والتطبيق، وبين ضلاعة الدعوة وضلاعة صاحب الدعوة وشخصيته المتميزة بأنواع من الصفات الأصلية، ومنها ضلاعة تكوينه البدني وضلاعة إيمانه، وصلابته، وتمسّكه بالسّنة.
وقال: ما الصنع العظيم الذي صنعه محمد بن عبدالوهاب؟ الجواب عن هذا السؤال الكبير، يصوغه واقع التاريخ وحقائقه، ولست أنا من يصوغه.
__________
(1) النقد والبيان (ص.167-171) ضمن 'السلفيون والقضية الفلسطينية'.(1/247)
واقع التاريخ يقرر في صراحة ووضوح بيان أنه الرجل الذي أيقظ العملاق العربي المسلم من سبات في جزيرة العرب دام دهراً داهراً، وأشعره وجوده الحيّ الفاعل، وأعاد إليه دينه الصحيح، ودولته العزيزة المؤمنة، ودفعه إلى الحياة الفاعلة ليعيد سيرة الصدر الأول عزائم وعظائم وفتوحاً..
ويقرر غير منازَع أنه رجل التوحيد والوحدة، والثائر الأكبر الذي رفض التفرق في الدين رفضا حاسماً، فلم يكن من جنس من يأتون بالدعوات ليضيفوا إلى أرقام المذاهب والطرائق المِزَق رقما جديداً، يزيد العدد ويكثره، ولكنه أوجب إلغاء هذه الأرقام، ودعا لتحقيق الرقم الفرد وحده: الرقم الذي لا يقبل التجزئة كالجوهر الفرد، ألا وهو الإسلام. والإسلام طريقة واحدة لا تتفرع ولا تتعدّد.
فلما أفسد التوحيد، وزالت الوحدة، ذهب التفرق في العقيدة بهذا المجد العظيم.. فجاء محمد بن عبدالوهاب داعياً للعودة إلى الأصل الذي قام عليه ذلك المجد وعلا سمكه وعزّ وطال، وقد حقق ما أراده في جزيرة العرب، وأشاع اليقظة في العالم المسلم، وكان لدعوته في كل صقع أثر مشهود.. فهذا هو الصنع العظيم، الذي صنعه الرجل العظيم. (1)
- وقال رحمه الله: وأما الدعوة السنية السلفية التي هي المظهر الصحيح للعقائد السنية قبل أن تغشاها التحريفات والبدع فقد كانت خلفها قوة عربية صغيرة في أواسط الجزيرة العربية، بدأ ظهورها في أواخر الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وهي تحاول استعادة سلطان سياسي كبير ذاهب.. (2)
- بين أن حرب الأتراك لهذه الدعوة السلفية كانت بالقتال والدعاية ثم قال: قامت حرب الدعاية على تأليف الكتب والرسائل في تشويه صورة الإصلاح الذي تتبناه..
__________
(1) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18-20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).
(2) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18-20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).(1/248)
وقد قوبلت هذه الرسائل والكتب بمثلها -من علماء نجد والعراق والشام ومصر والهند- بدافع ديني؛ فكانت هذه الحركة وما نتج عنها من آثار قيمة من أكبر المظاهر العقلية التي ظهرت في عصر النهضة؛ زعزعت الناس عن المألوف من البدع والخرافات، ووجهت العقول إلى منابع الإسلام الصحيح كتاب الله وسنة الرسول وهدي السلف الصالح، ولذلك نعتت بـ"السلفية" كما هي طبيعتها، وبـ"الوهابية" على سبيل التنفير. (1)
عبدالله بن زيد بن عبدالله آل محمود (2) (1417 هـ)
الشيخ عبدالله بن زيد بن عبدالله بن راشد بن محمود، ولد في حوطة بني تميم سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف، ونشأ بها، وتلقى مبادئ العلم على يد الشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ والقاضي عبدالعزيز بن محمد الشثري. رحل إلى قطر، فلازم الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع ثلاث سنين. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة تولى القضاء في قطر، فعرف عنه العدل والنزاهة وتحري الصواب.
وكان رحمه الله معروفا بكثرة الحفظ وسرعة الاستحضار، فقد كان يحفظ بلوغ المرام وألفية السيوطي في الحديث وألفية ابن مالك وقطر الندى والكثير من الأحاديث النبوية بأسانيدها، وله اطلاع على كتب اليهود والنصارى والملل الأخرى.
__________
(1) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18-20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/120-133).(1/249)
قال الشيخ عبدالله البسام: وهو حنبلي المذهب سلفي العقيدة، ومن أشد المتحمسين لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وقال أيضا: كان الشيخ من المدافعين المجاهدين في سبيل رفع راية الإسلام ومحاربة البدع والمنكرات، وكانت له مواقف كثيرة من نصيحة الحاكمين إلى تطبيق الإسلام، والعمل به، وقد كافح بلسانه وقلمه في سبيل الاحتفاظ بعقيدة الأمة طاهرة نقية عن البدع والانحرافات، وكان لا يتردد في نصح أولياء أمور المسلمين بما يراه مخالفا للشرع، أو ضارا بمجموع الأمة.
توفي رحمه الله في قطر في شهر شوال سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'كلمة الحق في الاحتفال بمولد سيد الخلق'، رد فيه على رسالة: 'الاحتفال بذكر النعم واجب' لأحد المؤلفين حاول من خلاله تبرير الاحتفال بالمولد النبوي.
2- 'عقيدة الإسلام والمسلمين'. (1)
موقفه من القدرية:
من آثاره السلفية:
- كتاب 'الإيمان بالقضاء والقدر'. (2)
صالح بن علي بن غصون رحمه الله (3) (1419 هـ)
هو الشيخ صالح بن علي بن غصون من قبيلة آل حميدان، وهبة من أهل الرس بالقصيم. ولد عام إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي والده وله من العمر ثلاث عشرة عاماً، وبعد سنتين كف بصره. سافر إلى الرياض ولازم مجالس سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم، وكذلك أخذ عن فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم الفرائض.
عين قاضياً في سدير، وكانت له دروس علمية. انتقل بعد ذلك إلى محكمة شقراء وتوابعها، ثم انتقل إلى رئاسة محاكم الأحساء، ثم عمل في محكمة التمييز.
__________
(1) علماء نجد (4/129).
(2) علماء نجد (4/129).
(3) كتاب قتل الغيلة للمترجم.(1/250)
عين عضوا في هيئة كبار العلماء يوم تشكلها. وكان له صلة بأصحاب الفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، والشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبدالله ابن حميد رحمهم الله، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وكان متعاوناً مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سدير والوشم والأحساء أثناء عمله. وكان له مشاركة في برنامج نور على الدرب في الإذاعة القرآن الكريم.
توفي رحمه الله بعد موسم الحج سنة تسع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من الخوارج:
سئل رحمه الله: في السنتين الماضيتين نسمع بعض الدعاة يدندن حول مسألة وسائل الدعوة وإنكار المنكر ويدخلون فيها المظاهرات، والاغتيالات، والمسيرات وربما أدخلها بعضهم في باب الجهاد الإسلامي. نرجوا بيان ما إذا كانت هذه الأمور من الوسائل الشرعية أم تدخل في نطاق البدع المذمومة والوسائل الممنوعة؟
ونرجوا توضيح المعاملة الشرعية لمن يدعو إلى هذه الأعمال، ومن يقول بها ويدعو إليها؟(1/251)
فأجاب رحمه الله: الحمد لله: معروف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والإرشاد من أصل دين الله عز وجل، ولكن الله جل وعلا قال في محكم كتابه العزيز: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (1) ولما أرسل عز وجل موسى وهارون إلى فرعون قال: فَقُولَا { لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (44) (2) والنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالحكمة وأمر بأن يسلك الداعية الحكمة وأن يتحلى بالصبر، هذا في القرآن العزيز في سورة العصر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } اجب. فالداعي إلى الله عز وجل والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه أن يتحلى بالصبر وعليه أن يحتسب الأجر والثواب وعليه أيضاً أن يتحمل ما قد يسمع أو ما قد يناله في سبيل دعوته، وأما أن الإنسان يسلك مسلك العنف أو أن يسلك مسلك والعياذ بالله أذى الناس أو مسلك التشويش أو مسلك الخلافات والنزاعات وتفريق الكلمة، فهذه أمور شيطانية وهي أصل دعوة الخوارج، هم الذين ينكرون المنكر بالسلاح وينكرون الأمور التي لا يرونها وتخالف معتقداتهم بالقتال وبسفك الدماء وبتكفير الناس وما إلى ذلك من أمور، ففرق بين دعوة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلفنا الصالح وبين دعوة الخوارج ومن نهج منهجهم وجرى مجراهم، دعوة الصحابة بالحكمة وبالموعظة وببيان الحق وبالصبر وبالتحلي واحتساب الأجر والثواب، ودعوة الخوارج بقتال الناس وسفك دمائهم وتكفيرهم وتفريق الكلمة وتمزيق صفوف المسلمين، هذه أعمال خبيثة، وأعمال محدثة.
__________
(1) النحل الآية (125).
(2) طه الآية (44).(1/252)
والأولى للذين يدعون إلى هذه الأمور يُجانبونَ ويُبعد عنهم ويساء بهم الظن، هؤلاء فرقوا كلمة المسلمين، الجماعة رحمة والفرقة نقمة وعذاب والعياذ بالله، ولو اجتمع أهل بلد واحد على الخير واجتمعوا على كلمة واحدة لكان لهم مكانة وكانت لهم هيبة.
لكن أهل البلد الآن أحزاب وشيع، تمزقوا واختلفوا ودخل عليهم الأعداء من أنفسهم ومن بعضهم على بعض، هذا مسلكٌ بدعي ومسلك خبيث ومسلك مثلما تقدم، أنه جاء عن طريق الذين شقوا العصا والذين قاتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة وأهل بيعة الرضوان، قاتلوه يريدون الإصلاح وهم رأس الفساد ورأس البدعة ورأس الشقاق فهم الذين فرقوا كلمة المسلمين وأضعفوا جانب المسلمين، وهكذا أيضاً حتى الذي يقول بها ويتبناها ويحسنها فهذا سيئ المعتقد ويجب أن يبتعد عنه.
واعلم والعياذ بالله أن شخصاً ضاراً لأمته ولجلسائه ولمن هو من بينهم. والكلمة الحق أن يكون المسلم عامل بناء وداعيا للخير وملتمسا للخير تماماً ويقول الحق ويدعو بالتي هي أحسن وباللين.
ويحسن الظن بإخوانه ويعلم أن الكمال منالٌ صعب، وأن المعصوم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن لو ذهب هؤلاء لم يأتِ أحسن منهم، فلو ذهب هؤلاء الناس الموجودون سواء منهم الحكام أو المسؤولون أو طلبة العلم أو الشعب، لو ذهب هذا كله، شعب أي بلد. لجاء أسوأ منه فإنه لا يأتي عامٌ إلا والذي بعده شرٌ منه. فالذي يريد من الناس أن يصلوا إلى درجة الكمال أو أن يكونوا معصومين من الأخطاء والسيئات، هذا إنسان ضال، هؤلاء هم الخوارج. هؤلاء هم الذين فرقوا كلمة الناس وآذوهم، هذه مقاصد المناوئين لأهل السنة والجماعة بالبدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة وسائر ألوان أهل الشر والبدع.(1/253)
عبدالعزيز بن باز (1) (1420 هـ)
الشيخ الفاضل عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله آل باز. ولد في الرياض في شهر ذي الحجة عام ثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة. فقد بصره بسبب مرض ألم به سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة. أخذ عن محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ ومحمد بن إبراهيم وصالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حسين آل الشيخ وسعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق، وغيرهم. ولي القضاء فمكث فيه أربعة عشر عاما تقريبا، ثم مدرسا بالكليات والمعاهد العلمية، ثم نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ورئيسا لهيئة كبار العلماء، ومفتيا عاما للمملكة، وغيرها من الوظائف والمناصب الشامخة. كان رحمه الله علما من أعلام الدعوة السلفية، ومصباحا من مصابيح الهدى، تخرج على يده أجلة العلماء، وعرف بحدة الذكاء وسيلان الذهن وسرعة الإجابة، مع رحابة صدر وسماحة خاطر.
__________
(1) إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/283-285) ومقدمة مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز (1/9-12) وإمام العصر للدكتور الزهراني ومجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1415هـ/ص.44-46).(1/254)
قلت: الشيخ الإمام البحر العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز. عرفته بالجامعة الإسلامية لما قدمت طالبا بالمعهد الثانوي، زرته في مكتبه غير ما مرة، وكان على عادته متواضعا يستقبل كل الفئات، الصغيرة والكبيرة، وهو فيما علمت ممن جمع بين العلم والعمل، وكأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كلهم من أبنائه ومن فلذات أكباده، يسأل عن كبيرهم واحدا واحدا ويدعو لعمومهم بالتوفيق والهداية، شخص لا يعرف الملل ولا تسمع من فيه الشكاوى، منهاجه الاحتساب في كل خطوات حياته، نحسبه كذلك والله حسيبه، أمواله التي تصل إلى يده كلها تنفق على طلبة العلم والمحتاجين من أهل الإسلام. ورغم ما يصل إلى يده من كثرة الأموال على يد المحسنين من الملوك وكبار الأغنياء، ومع ذلك تجد الشيخ رحمه الله يحتاج إلى من يدفع له الديون لينفقها في حاجة المسلمين. ليله ونهاره؛ إما في الفتوى وإما في الدرس، وإما في المحاضرة والتوجيه، وإما في الدروس العلمية والقراءة في الكتب السلفية. فما رأيت للشيخ رحمه الله -مع كثرة الالتصاق به في الجامعة الإسلامية وبالرياض وهو يتولى رئاسة الإفتاء والبحوث العلمية- وقتا يستجم فيه ويستريح استراحة يخرج فيها عن دائرة العمل الذي يتقرب به إلى الله، رغم أن الملوك والكبار يأخذون فرصة استجمام يستريحون فيها من عناء الأشغال وأتعاب الدنيا، وأما الشيخ رحمه الله فكأنه يتتبع خطوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها، لا تجد له لحظة من حياته إلا وهي مصحوبة بعمل يتقرب به إلى الله.(1/255)
وفي الليلة التي توفي فيها رحمه الله، أصدر فيها فتاوى وشفاعات للمسلمين، فكان رحمه الله نموذجا عمليا وعلميا مع كل الأحوال، فهو ناصح لولاة الأمور، ومساعد لهم على تطبيق شرع الله في تلك البلاد، وهو ناصح للعلماء ومستشير لهم في كل القضايا الكبرى، فكم ترأس من مؤتمر للعلماء في الجامعة الإسلامية وفي جدة وفي الرياض وفي مكة، وكان هذا دأبه رحمه الله، يسير بالأمة الإسلامية نحو الأفضل، وما من مكرمة علمية أو دعوية أو فقهية أو جهادية إلا وتجد للشيخ عبدالعزيز رحمه الله يدا بيضاء، وكم انتفع العالم الإسلامي وغير الإسلامي من سماحته رحمه الله. وإن القلم ليعجز عن الوفاء بأوصاف هذا الإمام، وقد جمع الله له رحمه الله من أوصاف الخير ما لم يجمعه لعالم معاصر له. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وجزى الله آل سعود الذين كانوا بجانبه في كل طلباته رحمه الله التي يخدم بها الأمة الإسلامية.
وإن معرفتي بالشيخ في دروسه في البخاري في المسجد النبوي وفي حلقات الطائف وفي دروسه في المسجد الكبير بالرياض، وإني تشرفت بالتتلمذ عليه مدة طويلة، وأعتبر الشيخ من النوادر الذين يقل في العالم الإسلامي أمثالهم، والله تبارك وتعالى ذو الفضل الواسع يخص بفضله من يشاء وكيف يشاء. اللهم أسكنه فسيح الجنان واجعله في أعلى عليين، إنك سميع مجيب.
وقال فيه الشيخ عبدالرزاق عفيفي: يغلب على مؤلفاته وضوح المعنى وسهولة العبارة وحسن الاختيار مع قوة الحجة والاستدلال وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وحدة الذكاء وسيلان الذهن. وقال أيضا: نبغ في كثير من علوم الشريعة، وخاصة الحديث متنا وسندا، والتوحيد على طريق السلف، والفقه على مذهب الحنابلة حتى صار فيها من العلماء المبرزين.(1/256)
وقال فيه الشيخ عطية محمد سالم: كان علامة في الحديث والفقه والتوحيد، وكان موسوعة في هذه العلوم ومبرزا فيها. وقال أيضا: لا أعتقد مهما تحدثنا عن الشيخ ابن باز أن نوفيه حقه في التعريف به، ولكن كان يرحمه الله علما عالميا، وطودا أشم، وجبلا يتميز بتوحيده وحلمه، وكان لا يتحزب ولا يتعصب في البحث وفي المسائل الخلافية، إنما يبحث بمقتضاه الخاص ويتكلم فيه برأيه.
توفي الشيخ رحمه الله قبل فجر يوم الخميس في اليوم السابع والعشرين من شهر محرم لعام عشرين وأربعمائة وألف من الهجرة في مدينة الطائف، ورثاه مجموعة من العلماء والشعراء.
موقفه من المبتدعة:(1/257)
قال: ومن المعلوم أن كتاب الله عز وجل من أوله إلى آخره، فيه الذكرى، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التذكير بأسباب النجاة والسعادة، وفيه العظة والترغيب والترهيب؛ فجدير بالمسلمين جميعا أن يعتنوا بتدبره وتعقله، وأن يكثروا من تلاوته لمعرفة ما أمر الله به وما نهى عنه، حتى يعلم المؤمن ما أمر الله به فيمتثله، ويبتعد عما نهى الله عنه. فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه الدلالة على كل خير والتحذير من كل شر، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والتحذير من سيء الأخلاق وسيء الأعمال، يقول سبحانه: إِنَّ { هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ } أَقْوَمُ (1) أي إلى الطريقة والسبيل التي هي أهدى السبل وأقومها وأصلحها، وقال سبحانه: قُلْ { هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } (2) ، وقال تعالى: كِتَابٌ { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (29) (3) ، وقال تعالى: وَأُوحِيَ { إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } (4) . فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه العظة والذكرى. فوصيتي لنفسي وللجميع ومن يسمع كلمتي أو تبلغه: العناية بهذا الكتاب العظيم، فهو أشرف كتاب، وأعظم كتاب، وهو خاتم الكتب المنزلة من السماء، ومن تدبره وتعقله بقصد طلب الهداية، ومعرفة الحق، وفقه الله وهداه. وأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم، بيان حق الله على عباده، وبيان ضد ذلك. هذا أعظم موضوع اشتمل عليه القرآن، وهو بيان حقه سبحانه على عباده من توحيده، وإخلاص العبادة له، وإفراده بالعبادة، وبيان ضد ذلك من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، وأنواع الكفر والضلال.
__________
(1) الإسراء الآية (9).
(2) فصلت الآية (44).
(3) ص الآية (29).
(4) الأنعام الآية (19).(1/258)
ولو لم يكن في تدبر هذا الكتاب العظيم إلا العلم بهذا الواجب العظيم، وتدبر ما ذكره الله في ذلك، لكان ذلك خيرا عظيما، وفضلا كبيرا، فكيف وفيه الدلالة على كل خير، والترهيب من كل شر، كما تقدم. ثم بعد ذلك العناية بالسنة: فإنها الأصل الثاني، والوحي الثاني، وفيها التفسير لكتاب الله والدلالة على ما قد يخفى من كلامه سبحانه، فهي الموضحة لكتاب الله كما قال الله عز وجل: وَأَنْزَلْنَا { إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) (1) . ويقول سبحانه: وَمَا { أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا } فِيهِ (2) فهو أنزل لدعوة الناس إلى الخير، وتعليمهم سبيل النجاة، وتحذيرهم من سبل الهلاك، وأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس ما أنزل إليهم، وأن يشرح لهم ما اشتبه عليهم. فلم يزل عليه الصلاة والسلام من حين بعثه الله إلى أن توفاه سبحانه يدعو الناس إلى ما دل عليه كتاب الله، ويشرح لهم ما دل عليه، ويحذرهم مما نهى عنه. وكانت المدة من حين بعثه الله إلى أن توفاه ثلاثا وعشرين سنة، كلها دعوة وبيان وترهيب وترغيب، إلى أن نقل إلى الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام. (3)
__________
(1) النحل الآية (44).
(2) النحل الآية (64).
(3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/29-30).(1/259)
- وقال: وإذا علم أن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والعرافين ونحوهم ينافي الإيمان بالله عز وجل؛ وهو كفر وظلم وفسق؛ يقول الله تعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (44) (1) ويقول: وَكَتَبْنَا { عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (45) (2) ويقول: وَلْيَحْكُمْ { أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (47) (3) . وبين تعالى أن الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، وأن الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، يقول سبحانه: وَأَنِ { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (50) (4) . وإن القارئ لهذه الآية والمتدبر لها يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله، أكد بمؤكدات ثمانية:
الأول: الأمر به في قوله تعالى: وَأَنْ { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ } ھ!$#.
__________
(1) المائدة الآية (44).
(2) المائدة الآية (45).
(3) المائدة الآية (47).
(4) المائدة الآيتان (49و50).(1/260)
الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال، وذلك في قوله: وَلَا { تَتَّبِعْ } ِNèduن!#uq÷dr&.
الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، بقوله سبحانه: وَاحْذَرْهُمْ { أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } .
الرابع: أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: فَإِنْ { تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } .
الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله، فإن الشكور من عباد الله قليل، يقول تعالى: وَإِنَّ { كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } احزب.
السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية، يقول سبحانه: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ } .
السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول عز وجل: وَمَنْ { أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ } $VJُ3مm.
الثامن: أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم يقول سبحانه: وَمَنْ { أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } اخةب. (1)
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/80-82).(1/261)
- وقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد. والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره، لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولا التابعون لهم بالإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (2) ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع، والعمل بها، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (3) ، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (4) ، وقال سبحانه: لَقَدْ { كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو ©!# وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (21) (5) .
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي رحمه الله سنة (418هـ).
(3) الحشر الآية (7).
(4) النور الآية (63).
(5) الأحزاب الآية (21).(1/262)
وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ { الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (100) (1) ، وقال تعالى: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) . والآيات في هذا المعنى كثيرة، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة.
__________
(1) التوبة الآية (100).
(2) المائدة الآية (3).(1/263)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة، ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم" (1) رواه مسلم في صحيحه، ومعلوم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه، لبينه - صلى الله عليه وسلم - للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم؛ فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين؛ وقد جاء في معناهما أحاديث أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (2) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/191) ومسلم (3/14721-1473/1844) والنسائي (7/172-173/4202) وابن ماجه (2/1306-1307/3956).
(2) أحمد (3/310-311و319و371) ومسلم (2/592/867) والنسائي (3/209-210/1577) وابن ماجه (1/17/45) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.(1/264)
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر وظنوا أنها من البدع الحسنة. والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (59) (1) وقال تعالى: وَمَا { اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (2) . وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه.
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) الشورى الآية (10).(1/265)
وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود، والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات، التي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: وَقَالُوا { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (111) (1) وقال تعالى: وَإِنْ { تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (2) .اهـ (3)
موقفه من المشركين:
جاء في مجموع فتاويه: بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن أو في الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
__________
(1) البقرة الآية (111).
(2) الأنعام الآية (116).
(3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/183-186).(1/266)
إن الواجب الإسلامي والنصيحة لله ولعباده، كل ذلك، يوجب علينا بيان حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن بأنه متناقض، أو مشتمل على بعض الخرافات، وفيمن طعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأي نوع من أنواع الطعن غيرة لله سبحانه، وغضبا له -عز وجل- وانتصارا لكتابه العزيز، ولرسوله الكريم، وأداء لبعض حقه علينا، سواء كان ما ذكر عن أي شخص واقعا أم كان غير واقع، وسواء أعلن إنكاره له، أو التوبة منه، أم لم يعلن ذلك، إذ المقصود بيان حكم الله فيمن أقدم على شيء مما ذكرنا من التنقص لكتاب الله، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فنقول: قد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع الأمة على أن كتاب الله سبحانه محكم غاية الإحكام، وعلى أنه كله كلام الله عز وجل ومنزل من عنده، وليس فيه شيء من الخرافات والكذب، كما دلت الأدلة المذكورة على وجوب تعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره ونصرته، ودلت أيضا على أن الطعن في كتاب الله أو في جناب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر أكبر، وردة عن الإسلام، وإليك أيها القارئ الكريم بيان ذلك:(1/267)
قال الله تعالى في سورة يونس: الر { تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } (1) (1) وقال في أول سورة هود: الر { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (1) (2) ، وقال عز وجل في أول سورة لقمان: الم { (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } (2) (3) وذكر علماء التفسير رحمهم الله في تفسير هذه الآيات، أن معنى ذلك: أنه متقن الألفاظ والمعاني، مشتمل على الأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع المستقيمة، وأنه الحاكم بين العباد فيما يختلفون فيه، كما قال الله سبحانه: كَانَ { النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (4) الآية، وقال سبحانه: أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ } بَيْنَهُمْ (5) الآية.
__________
(1) يونس الآية (1).
(2) هود الآية (1).
(3) لقمان الآيتان (1و2).
(4) البقرة الآية (213).
(5) آل عمران الآية (23).(1/268)
فكيف يكون محكم الألفاظ والمعاني، وحاكما بين الناس، وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات؟! وكيف يكون محكما وموثوقا به إذا كان الرسول الذي جاء به إنسانا بسيطا لا يفرق بين الحق والخرافة؟! فعلم بذلك أن من وصف القرآن بالتناقض أو بالاشتمال على بعض الخرافات أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا فإنه متنقص لكتاب الله، ومكذب لخبر الله، وقادح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كمال عقله؛ فيكون بذلك كافرا مرتدا عن الإسلام إن كان مسلما قبل أن يقول هذه المقالة، وقال الله سبحانه في أول سورة يوسف: الر { تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } (3) (1) وقال سبحانه في سورة الزمر: اللَّهُ { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا } مُتَشَابِهًا (2) الآية، ومعنى } مُتَشَابِهًا { في هذه الآية -عند أهل العلم- يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا؛ فكيف يكون بهذا المعنى؟! وكيف يكون أحسن الحديث وأحسن القصص وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!.
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبه: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - " (3) ، فمن طعن في القرآن بما ذكرنا أو غيره من أنواع المطاعن فهو مكذب لله عز وجل في وصفه لكتابه بأنه أحسن القصص وأحسن الحديث. ومكذب للرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: إنه خير الحديث.
__________
(1) يوسف الآيات (1-3).
(2) الزمر الآية (23).
(3) تقدم تخريجه قريبا.(1/269)
وقال سبحانه وتعالى في وصف القرآن الكريم: تَنْزِيلٌ { مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (2) (1) ، وقال: وَإِنَّهُ { لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } (193) (2) وقال: وَهَذَا { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ } مُبَارَكٌ (3) وقال: إِنَّا { نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) (4) وقال: إِنَّ { الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (42) (5) إلى أمثال هذه الآيات الكثيرة في كتاب الله، فمن زعم أنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات التي أدخلها فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما تلقاه من بادية الصحراء أو غيرهم فقد زعم أن بعضه غير منزل من عند الله وأنه غير محفوظ، كما أنه بذلك قد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه كذب على الله وأدخل في كتابه ما ليس منه، وهو مع ذلك يقول للناس: إن القرآن كلام الله، وهذا غاية في الطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالكذب على الله وعلى عباده، وهذا من أقبح الكفر والضلال والظلم، كما قال الله سبحانه: * { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } (32) (6) وقال عز وجل: وَمَنْ { أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ } شَيْءٌ (7)
__________
(1) فصلت الآية (2).
(2) الشعراء الآيتان (192و193).
(3) الأنعام الآية (155).
(4) الحجر الآية (9).
(5) فصلت الآيتان (41و42).
(6) الزمر الآية (32).
(7) الأنعام الآية (93)..(1/270)
الآية، وقال تعالى: قُلْ { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1) الآية. (2)
- وقال رحمه الله في الرد على أبيات لبعض الكاتبات نشرتها صحيفة المجتمع الكويتية: ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده.
__________
(1) التوبة الآيتان (65و66).
(2) مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز (1/93-95).(1/271)
والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم، أو دعا الأصنام أو الأشجار، أو الأحجار أو غير ذلك من المخلوقات، أو استغاث بهم، أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور، أو صلى لهم، أوسجد لهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، وجعلهم أندادا له سبحانه، وهذا يناقض هذا الأصل، وينافي معنى لا إله إلا الله، كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمدا رسول الله، وقد قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا { إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } (23) (1) وهذه الأعمال هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل، وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله، فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته (2) . وهذه الكاتبة قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضت عن رب العالمين، الذي بيده النصر والضر والنفع، وليس بيد غيره شيء من ذلك. ولا شك أن هذا ظلم عظيم وخيم، وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه، ووعد من يدعوه بالاستجابة، وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم، كما قال عز وجل: وَقَالَ { رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (60) (3) أي صاغرين ذليلين.
__________
(1) الفرقان الآية (23).
(2) أخرجه أحمد (6/240) والبخاري (5/377/2697) ومسلم (3/1343/1718) وأبو داود (5/12/4606) وابن ماجه (1/7/14).
(3) غافر الآية (60).(1/272)
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم، فإذا كانت هذه حال من استكبر عن دعاء الله، فكيف تكون حال من دعا غيره، وأعرض عنه، وهو سبحانه القريب المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، كما قال سبحانه: وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (186) (1) وقد أخبر الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أن الدعاء هو العبادة (2) ، وقال لابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله". أخرجه الترمذي وغيره (3) .
__________
(1) البقرة الآية (186).
(2) أخرجه من حديث النعمان بن بشير: أحمد (4/267) وأبو داود (2/161/1479) والترمذي (5/349/3247) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (6/450/11464) وابن ماجه (2/1258/3828)، وصححه ابن حبان (3/172/890) والحاكم (1/490-491) ووافقه الذهبي. وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي.
(3) أحمد (1/293) والترمذي (4/575-576/2516) من حديث ابن عباس وقال: "حسن صحيح".(1/273)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" رواه البخاري (1) . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الذنب أعظم قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" (2) والند هو النظير والمثيل. فكل من دعا غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم، فقد اتخذه ندا، سواء كان نبيا أو وليا، أو ملكا أو جنيا، أو صنما أو غير ذلك من المخلوقات. (3)
حكم من يطالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية:
- قال رحمه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما بعد: فقد ورد إلي سؤال من بعض الإخوة الباكستانيين هذا ملخصه:
ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية، ويحاربون حكم الإسلام، وما حكم الذين يساعدونهم في هذا المطلب، ويذمون من يطالب بحكم الإسلام، ويلمزونهم ويفترون عليهم، وهل يجوز اتخاذ هؤلاء أئمة وخطباء في مساجد المسلمين؟
__________
(1) أحمد (1/374) والبخاري (8/229/4497) ومسلم (1/94/92) من حديث عبدالله بن مسعود.
(2) أحمد (1/434) والبخاري (8/207/4477) ومسلم (1/90/86) وأبو داود (2/732-733/2310) والترمذي (5/314/3182) والنسائي (7/103-104/4024) من حديث ابن مسعود.
(3) مجموع الفتاوى (1/154-155).(1/274)
والجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، لا ريب أن الواجب على أئمة المسلمين وقادتهم أن يحكموا الشريعة الإسلامية في جميع شؤونهم، وأن يحاربوا ما خالفها، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء الإسلام، ليس فيه نزاع بحمد الله، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة معلومة عند أهل العلم، منها قوله سبحانه: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) وقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (59) (2) وقوله سبحانه: وَمَا { اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (3) وقوله سبحانه: أَفَحُكْمَ { الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (50) (4) وقوله سبحانه: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (44) (5) وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (45) (6) وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (47) (7) . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) النساء الآية (59).
(3) الشورى الآية (10).
(4) المائدة الآية (50).
(5) المائدة الآية (44).
(6) المائدة الآية (45).
(7) المائدة الآية (47).(1/275)
وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر؛ كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال. وبما ذكرناه من الأدلة القرآنية، وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره، أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام، كفار ضلال، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبا وإماما في مسجد من مساجد المسلمين، ولا تصح الصلاة خلفهم، وكل من ساعدهم على ضلالهم، وحسن ما يدعون إليه، وذم دعاة الإسلام ولمزهم، فهو كافر ضال، حكمه حكم الطائفة الملحدة، التي سار في ركابها وأيدها في طلبها. وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة، فهو كافر مثلهم، كما قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (51) (1) وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (23) (2) .
__________
(1) المائدة الآية (51).
(2) التوبة الآية (23).(1/276)
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يكبت أعداء الإسلام، ويفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويكفي المسلمين شرهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
س: ما رأيكم في المسلمين الذين يحتكمون إلى القوانين الوضعية مع وجود القرآن الكريم والسنة المطهرة بين أظهرهم؟
ج: رأيي في هذا الصنف من الناس الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين، في الوقت الذي يتحاكمون فيه إلى غير ما أنزل الله، ويرون شريعة الله غير كافية، ولا صالحة للحكم في هذا العصر. هو ما قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم حيث يقول سبحانه وتعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) ويقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (44) (2) وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (45) (3) وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (47) (4) إذا، فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفارا ظالمين فاسقين، كما جاء في الآيات السابقة وغيرها، وقوله عز وجل: أَفَحُكْمَ { الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (50) (5) والله الموفق. (6)
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) المائدة الآية (44).
(3) المائدة الآية (45).
(4) المائدة الآية (47).
(5) المائدة الآية (50).
(6) مجموع الفتاوى (1/273-275).(1/277)
- وقال رحمه الله: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام؛ وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف. وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) . وقال تعالى: أَفَحُكْمَ { الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (50) (2) ، وقال تعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (44) (3) وقال تعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (45) (4) ، وقال تعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (47) (5)
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) المائدة الآية (50).
(3) المائدة الآية (44).
(4) المائدة الآية (45).
(5) المائدة الآية (47)..(1/278)
وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها، كما قال عز وجل: قَدْ { كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } وَحْدَهُ (1) .اهـ (2)
التحذير من بناء المساجد على القبور:
- قال رحمه الله: وسئلت هل يجوز أن يبنى على موضع أهل الكهف مسجد؟ فأجبت قائلا: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد فقد اطلعت على ما نشر في العدد الثالث من مجلة رابطة العلوم الإسلامية في باب (أخبار المسلمين في شهر).
إن رابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية تنوي إشادة مسجد على الكهف الذي اكتشف حديثا في قرية الرحيب، وهو الكهف الذي يقال إن أهل الكهف الوارد ذكرهم في القرآن الكريم رقدوا فيه- انتهى.
__________
(1) الممتحنة الآية (4).
(2) مجموع الفتاوى (1/305-306).(1/279)
ولواجب النصح لله ولعباده رأيت أن أوجه كلمة في المجلة نفسها لرابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية مضمونها نصيحة الرابطة عن تنفيذ ما نوته من إشادة مسجد على الكهف المذكور. وما ذاك إلا لأن إشادة المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وآثارهم مما جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بالمنع منه والتحذير عنه، ولعن من فعله لكونه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين، والواقع شاهد بصحة ما جاءت به الشريعة ودليل على أنها من عند الله عز وجل وبرهان ساطع وحجة قاطعة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن الله وبلغه الأمة. وكل من تأمل أحوال العالم الإسلامي وما حصل فيه من الشرك والغلو بسبب إشادة المساجد على الأضرحة وتعظيمها، وفرشها وتجميلها واتخاذ السدنة لها علم يقينا أنها من وسائل الشرك وأن من محاسن الشريعة الإسلامية المنع منها والتحذير من إشادتها ومما ورد في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (1) . وفي الصحيحين أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال - صلى الله عليه وسلم - : "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" (2)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (728هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد ابن اليمني سنة (1391هـ)..(1/280)
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" (1) والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد نص الأئمة من علماء المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم على النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وحذروا من ذلك عملا بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصحا للأمة وتحذيرا لها أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من غلاة اليهود والنصارى وأشباههم من ضلال هذه الأمة. (2)
حكم إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم:
__________
(1) مسلم (1/377/532).
(2) مجموع الفتاوى (1/433-435).(1/281)
- قال رحمه الله: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شاع بين كثير من الناس أن هناك من يتعلق بالكهان والمنجمين والسحرة والعرافين وأشباههم، لمعرفة المستقبل والحظ وطلب الزواج والنجاح في الامتحان وغير ذلك من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها كما قال تعالى: عَالِمُ { الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } (27) (1) وقال سبحانه: قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } (65) (2) . فالكهان والعرافون والسحرة وأمثالهم قد بين الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ضلالهم وسوء عاقبتهم في الآخرة، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإنما يكذبون على الناس ويقولون على الله غير الحق وهم يعلمون، قال تعالى: وَاتَّبَعُوا { مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (102) (3)
__________
(1) الجن الآيتان (26و27).
(2) النمل الآية (65).
(3) البقرة الآية (102)..(1/282)
وقال سبحانه: وَأَلْقِ { مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } (69) (1) وقال تعالى: * { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (118) (2) . فهذه الآيات وأمثالها تبين خسارة الساحر ومآله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يأتي بخير، وأن ما يتعلمه أو يعلمه غيره يضر صاحبه ولا ينفعه، كما نبه سبحانه أن عملهم باطل، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" متفق على صحته (3) .
__________
(1) طه الآية (69).
(2) الأعراف الآيتان (117و118).
(3) البخاري (5/494/2766) ومسلم (1/92/89) وأبو داود (3/294-295/2874) والنسائي (6/568/3673) من حديث أبي هريرة.(1/283)
وهذا يدل على عظم جريمة السحر لأن الله قرنه بالشرك، وأخبر أنه من الموبقات وهي المهلكات، والسحر كفر لأنه لا يتوصل إليه إلا بالكفر، كما قال تعالى: وَمَا { يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } (1) . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" (2) . وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل السحرة من الرجال والنساء؛ وهكذا صح عن جندب الخير الأزدي رضي الله عنه أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بعض السحرة؛ وصح عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه فيخلطوا معها مائة كذبة" رواه البخاري (3) .
__________
(1) البقرة الآية (102).
(2) أخرجه الترمذي (4/49/1460) والحاكم (4/360) من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الخير مرفوعا. قال الحاكم: "صحيح الإسناد، وإن كان الشيخان قد تركا حديث إسماعيل بن مسلم، فإنه غريب صحيح"، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن المكي يضعف في الحديث ... والصحيح عن جندب موقوفا". والحديث ضعف إسناده الحافظ في الفتح (10/290).
(3) أحمد (6/87) والبخاري (10/266/5762) ومسلم (4/1750/2228).(1/284)
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" رواه أبو داود وإسناده صحيح (1) . وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه" (2) . وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى كما تقدم، وذلك لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الجن والتقرب إليهم بما يطلبون من ذبح وغيره من أنواع العبادة، وعبادتهم شرك بالله عز وجل. فالكاهن من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، كما ورد بالحديث الذي مر ذكره، ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك، وكذا من يفتح الكتاب زعما منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب وهم كفار بهذا الاعتقاد؛ لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله تعالى: قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (3) وقوله: * { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } (4)
__________
(1) أحمد (1/227و311) وأبو داود (4/226-227/3905) وابن ماجه (2/1228/3726) من حديث ابن عباس، وصحح إسناده النووي في الرياض (ص.574) والعراقي في تخريج الإحياء (5/2159/3404)
(2) رواه النسائي (7/128/4090) من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا، وابن عدي (4/342). قال المنذري في الترغيب (4/32): "رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع من أبي هريرة عند الجمهور". وقال الذهبي في الميزان (2/378): "هذا الحديث لا يصح للين عباد، وانقطاعه".
(3) النمل الآية (65).
(4) الأنعام الآية (59)..(1/285)
وقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى } إِلَيَّ الآية (1) . ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر. (2)
- وقال رحمه الله في الرد على رشاد خليفة المنكر للسنة: وإن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة، والقول بعدم الحاجة إليها: كفر وردة عن الإسلام، لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولايجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير من فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة لقول الله عز وجل: إِنَّ { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (160) (3) . وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى 'مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة' فقال: (اعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر أن كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة) انتهى المقصود. (4)
حكم الشريعة في غلام أحمد برويز:
__________
(1) الأنعام الآية (50).
(2) مجموع الفتاوى (2/118-121).
(3) البقرة الآيتان (159و160).
(4) مجموع الفتاوى (2/403-404).(1/286)
قال رحمه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته (مجلة الحج) في عددها الثاني الصادر في 16 شعبان عام 1382هـ من الاستفتاء المقدم إليها من أخينا العلامة الشيخ محمد يوسف البنوري مدير المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي عن حكم الشريعة الإسلامية في غلام أحمد برويز الذي ظهر أخيرا في بلاد الهند، وعن حكم معتقداته التي قدم فضيلة المستفتي نماذج منها لاستفتائه، وعن حكم من اعتنق تلك العقائد واعتقدها ودعا إليها إلخ..؟
والجواب: كل من تأمل تلك النماذج التي ذكرها المستفتي في استفتائه من عقائد غلام أحمد برويز وهي عشرون أنموذجا موضحة في الاستفتاء المنشور في المجلة المذكورة، كل من تأمل هذه النماذج المشار إليها من ذوي العلم والبصيرة يعلم علما قطعيا لا يحتمل الشك بوجه ما أن معتنقها ومعتقدها والداعي إليها كافر كفرا أكبر مرتد عن الإسلام يجب أن يستتاب، فإن تاب توبة ظاهرة، وكذب نفسه تكذيبا ظاهرا ينشر في الصحف المحلية كما نشر فيها الباطل من تلك العقائد الزائفة، وإلا وجب على ولي الأمر للمسلمين قتله. وهذا شيء معلوم من دين الإسلام بالضرورة، والأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم كثيرة جدا لا يمكن استقصاؤها في هذا الجواب. وكل أنموذج من تلك النماذج التي قدمها المستفتي من عقائد غلام أحمد برويز يوجب كفره وردته عن الإسلام عند علماء الشريعة الإسلامية.(1/287)
وإلى القارئ الكريم نبذة من تلك النماذج التي أشرنا إليها ليعلم مدى بشاعتها وشناعتها وبعدها عن الإسلام، وأن معتقدها لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بما أخبر الله به عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الآخرة والجنة والنار، وليعلم أيضا أن معتقدها بعيد كل البعد عما جاءت به الرسل، شديد العداوة والحقد والكيد للإسلام والمسلمين، بارع في المكر والتلبيس، متجرد من الحياء والأدب، نسأل الله تعالى العافية والسلامة لنا وللمسلمين من شر ما ابتلي به هذا الزنديق الملحد.
النموذج الأول: من عقائد الملحد غلام أحمد برويز على ما نشرته المجلة المذكورة في الاستفتاء المنوه عنه آنفا يقول: إن جميع ما ورد في القرآن الكريم من الصدقات والتوريث وما إلى ذلك من الأحكام المالية كل ذلك مؤقت تدريجي إنما يتدرج به إلى دور مستقل يسميه هو نظام الربوبية، فإذا جاء ذلك الوقت تنتهي هذه الأحكام لأنها كانت مؤقتة غير مستقلة.
النموذج الثاني: أن الرسول والذين معه قد استنبطوا من القرآن أحكاما فكانت شريعة، وهكذا كل من جاء بعده من أعضاء شورائية لحكومة مركزية لهم أن يستنبطوا أحكاما من القرآن، فتكون تلك الأحكام شريعة ذلك العصر، وليسوا مكلفين بتلك الشريعة السابقة. ثم لا تختص تلك بباب واحد بل العبادات والمعاملات والأخلاق كلها يجري فيه ذلك، ومن أجل ذلك القرآن لم يعين تفصيلات العبادة. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/268-269).(1/288)
- وقال رحمه الله: ومن العقائد المضادة للحق: ما يعتقده بعض المتصوفة من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شؤون العالم، ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث، وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شر من شرك جاهلية العرب؛ لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيخلصون لله العبادة، كما قال الله سبحانه: فَإِذَا { رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } (65) (1) . أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده كما قال سبحانه: وَلَئِنْ { سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (2) . وقال تعالى: قُلْ { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } (31) (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين:
إحداهما: شرك بعضهم في الربوبية.
__________
(1) العنكبوت الآية (65).
(2) الزخرف الآية (87).
(3) يونس الآية (31).(1/289)
والثانية: شركهم في الرخاء والشدة، كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر أحوالهم، ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما في مصر، وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن، وابن عربي في الشام، والشيخ عبدالقادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله سبحانه أن يردهم إلى رشدهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك والقضاء عليه ووسائله، إنه سميع قريب. (1)
- وقال رحمه الله: ومن أنواع الردة العقدية التي يعتقدها بقلبه وإن لم يتكلم بها ولم يفعل، بل بقلبه يعتقد: إذا اعتقد بقلبه أن الله جل وعلا فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئا، هذا كفر -بمجرد هذه العقيدة- بإجماع المسلمين.
أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد بعث ولا نشور، وأن كل ما جاء في هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جنة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفر وردة عن الإسلام -نعوذ بالله من ذلك- وتكون أعماله باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة.
وهكذا لو اعتقد بقلبه -ولو لم يتكلم- أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصادق، أو أنه ليس بخاتم الأنبياء وأن بعده أنبياء، أو اعتقد أن مسيلمة الكذاب نبي صادق، فإنه يكون كافرا بهذه العقيدة.
أو اعتقد بقلبه أن نوحا أو موسى أو عيسى أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون أو أحدا منهم، هذا ردة عن الإسلام.
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/26-27).(1/290)
أو اعتقد أنه لا بأس أن يدعى مع الله غيره، كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مرتدا عن الإسلام، لأن الله تعالى يقول: ذَلِكَ { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ } الْبَاطِلُ (1) ، وقال سبحانه: وَإِلَهُكُمْ { إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } (163) (2) ، وقال: إِيَّاكَ { نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (5) (3) ، وقال: * { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا } إِيَّاهُ (4) ، وقال: فَادْعُوا { اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (14) (5) ، وقال سبحانه: وَلَقَدْ { أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (65) (6) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فمن زعم أو اعتقد أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره، من ملك أو نبي أو شجر أو جن أو غير ذلك فهو كافر. وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافرا بالقول والعقيدة جميعا، وإن فعل ذلك ودعا غير الله واستغاث بغير الله صار كافرا بالقول والعمل والعقيدة جميعا، نسأل الله العافية من ذلك.
ومما يدخل في هذا: ما يفعله عُبَّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي، المدد المدد، يا سيدي، الغوث الغوث، أنا بجوارك، اشف مريضي، ورُدَّ غائبي، وأصلح قلبي. يخاطبون الأموات الذين يسمونهم: الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نسوا الله وأشركوا معه غيره -تعالى الله عن ذلك- فهذا كفر قولي وعقدي وفعلي.
__________
(1) الحج الآية (62).
(2) البقرة الآية (163).
(3) الفاتحة الآية (5).
(4) الإسراء الآية (23).
(5) غافر الآية (14).
(6) الزمر الآية (65).(1/291)
وبعضهم ينادي من مكان بعيد وفي أمصار متباعدة: يا رسول الله، انصرني... ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله، اشف مريضي، يا رسول الله، المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصرنا على أعدائنا.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي والعملي. وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به صار شركا قوليا وفعليا وعقديا، نسأل الله العافية من ذلك.
وهذا واقع في دول وبلدان كثيرة، وكان واقعا في هذه البلاد، كان واقعا في الرياض والدرعية قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، فقد كانت لهم آلهة في الرياض والدرعية وغيرهما، أشجار تعبد من دون الله، وأناس يقال: إنهم من الأولياء يعبدونهم مع الله، وقبور تعبد مع الله. وكان قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه موجودا في الجُبَيْلة حيث قتل في حروب الردة أيام مسيلمة، كان قبره يعبد من دون الله حتى هدم ذلك القبر، ونسي اليوم والحمد لله، بأسباب دعوة الشيخ محمد، قدس الله روحه وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل الجزاء.
وقد كان في نجد والحجاز من الشرك العظيم والاعتقادات الباطلة، ودعوة غير الله ما لا يعد ولا يحصى، فلما جاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي: قبل ما يزيد عن مائتي سنة، دعا إلى الله وأرشد الناس، فعاداه كثير من العلماء الجهلة وأهل الهوى، لكن الله أيَّده بعلماء الحق، وبآل سعود -رحم الله الجميع- فدعا إلى الله، وأرشد الناس إلى توحيد الله، وبين لهم: أن عبادة الجن والأحجار والأولياء والصالحين وغيرهم شرك من عمل الجاهلية، وأنها أعمال أبي جهل وأمثاله من كفار قريش في عبادتهم اللات والعزى ومناة وعبادة القبور، هذه هي أعمالهم.(1/292)
فبين -رحمه الله- للناس وهدى الله على يديه من هدى، ثم عمت الدعوة بلاد نجد والحجاز وبقية الجزيرة العربية، وانتشر فيها التوحيد والإيمان، وترك الناس الشرك بالله وعبادة القبور والأولياء بعد أن كانوا يعبدونها إلا من رحم الله، بل كان بعضهم يعبد أناسا مجانين لا عقول لهم، ويسمونهم: أولياء، وهذا من عظيم جهلهم الذي كانوا واقعين فيه. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (8/17-20).(1/293)
- وقال رحمه الله: التوحيد موضوع عظيم هو أساس الملة وأساس جميع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. ولا ريب أن هذا المقام جدير بالعناية، وإنما ضل من ضل، وهلك من هلك بسبب إعراضه عن هذا الأصل وجهله به وعمله بخلافه، وكان المشركون قد جهلوا هذا الأمر من توحيد العبادة الذي هو الأساس الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وخلق من أجله الثقلان "الجن والإنس"، وظنوا أن ما هم عليه من الشرك دين صالح وقربة يتقربون بها إلى الله مع أنه أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وظنوا بجهلهم وإعراضهم وتقليدهم لآبائهم ومن قبلهم من الضالين أنه دين وقربة وحق، وأنكروا على الرسل وقاتلوهم على هذا الأساس الباطل كما قال سبحانه: إِنَّهُمُ { اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } (30) (1) وقال جل وعلا: وَيَعْبُدُونَ { مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2) وقال سبحانه: وَالَّذِينَ { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } (3) (3) . وأول من وقع في هذا البلاء واعتقد هذا الشرك: قوم نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهم أول الأمم الواقعة في الشرك، وقلدهم من بعدهم. وكان سبب ذلك: الغلو في الصالحين، وأنهم غلوا في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء رجالا صالحين فيهم، فماتوا في زمن متقارب فأسفوا عليهم أسفا عظيما، وحزنوا عليهم حزنا شديدا، فزين لهم الشيطان الغلو فيهم وتصويرهم ونصب صورهم في مجالسهم، وقال لعلكم بهذا تسيرون على طريقتهم.
__________
(1) الأعراف الآية (30).
(2) يونس الآية (18).
(3) الزمر الآية (3).(1/294)
وفي ذلك هلاكهم وهلاك من بعدهم، فلما طال عليهم الأمر عبدوهم. وقال جماعة من السلف: فلما هلك أولئك وجاء من بعدهم عبدت هذه الأصنام، وأنزل الله فيهم جل وعلا قوله سبحانه: وَقَالُوا { لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } (25) (1) . فالغلو في الصالحين من البشر وفي الملائكة والأنبياء والجن والأصنام هو أصل هذا البلاء، والله بين على أيدي الرسل أن الواجب عبادته وحده سبحانه، وأنه الإله الحق، وأنه لا يجوز اتخاذ الوسائط بينه وبين عباده، بل يجب أن يعبد وحده مباشرة من دون واسطة، وأرسل الرسل وأنزل الكتب بذلك، وخلق الثقلين لذلك قال تعالى: وَمَا { خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (56) (2) ، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ } قَبْلِكُمْ (3) ، وقال عز وجل: * { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (4) . وقال سبحانه: إِيَّاكَ { نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (5) (5) ، وقال عز وجل: وَلَقَدْ { بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (6) .
__________
(1) نوح الآيات (23-25).
(2) الذاريات الآية (56).
(3) البقرة الآية (21).
(4) الإسراء الآية (23).
(5) الفاتحة الآية (5).
(6) النحل الآية (36).(1/295)
وهذا المقام -أعني مقام التوحيد- دائما وأبدا يحتاج إلى مزيد العناية بتوجيه الناس إلى دين الله وتوحيده وإخلاص العبادة له، لأن الشرك هو أعظم الذنوب وقد وقع فيه أكثر الناس قديما وحديثا، فالواجب بيانه للناس والتحذير منه في كل وقت، وذلك بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه والنهي عن الشرك وبيان أنواعه للناس حتى يحذروه، وقد قام خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك أكمل قيام في مكة والمدينة، ومع هذا فقد ملئت الدنيا من هذا الشرك بسبب علماء السوء ودعاة الضلالة وإعراض الأكثر عن دين الله وعدم تفقههم في الدين، وعدم إقبالهم على الحق، وحسن ظنهم بدعاة الباطل ودعاة الشرك إلا من رحم الله، كما قال الله سبحانه: وَمَا { أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } (103) (1) ، وقال تعالى: وَلَقَدْ { صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (20) (2) وقال عز وجل: وَإِنْ { تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } (116) (3) .
__________
(1) يوسف الآية (103).
(2) سبأ الآية (20).
(3) الأنعام الآية (116).(1/296)
فلهذا انتشر الشرك في الأمم بعد نوح في عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم شعيب وقوم لوط، ومن بعدهم من سائر الأمم، وصاروا يقلد بعضهم بعضا يقولون: إِنَّا { وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (22) (1) . وإذا كان هذا البلاء قد عم وطم ولم يسلم منه إلا القليل، فالواجب على أهل العلم أن يقدموه على غيره -أعني بيان التوحيد وضده-، وأن تكون عنايتهم به أكثر من كل نوع من أنواع العلم لأنه الأساس، فإذا فسد هذا الأساس وخرب بالشرك بطل غيره من الأعمال، كما قال سبحانه: وَلَوْ { أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (88) (2) وقال سبحانه: وَلَقَدْ { أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (66) (3) والصوم والحج وغير ذلك من العبادات لا تنفع. (4)
موقفه من الرافضة:
- سئل رحمه الله: من خلال معرفة سماحتكم بتاريخ الرافضة، ما هو موقفكم من مبدأ التقريب بين أهل السنة وبينهم؟
__________
(1) الزخرف الآية (22).
(2) الأنعام الآية (88).
(3) الزمر الآيتان (65و66).
(4) مجموع الفتاوى (9/63-66).(1/297)
فأجاب: التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن، لأن العقيدة مختلفة، فعقيدة أهل السنة والجماعة: توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يدعى معه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الغيب. ومن عقيدة أهل السنة: محبة الصحابة رضي الله عنهم جميعا والترضي عنهم، والإيمان بأنهم أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وأن أفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عن الجميع. والرافضة خلاف ذلك، فلا يمكن الجمع بينهما كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وأهل السنة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها.
- ثم سئل رحمه الله: هل يمكن التعامل معهم لضرب العدو الخارجي كالشيوعية وغيرها؟
فأجاب: لا أرى ذلك ممكنا، بل يجب على أهل السنة أن يتحدوا وأن يكونوا أمة واحدة وجسدا واحدا، وأن يدعوا الرافضة أن يلتزموا بما دل عليه كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحق، فإذا التزموا بذلك صاروا إخواننا وعلينا أن نتعاون معهم، أما ما داموا مصرين على ما هم عليه من بغض الصحابة، وسب الصحابة إلا نفرا قليلا، وسب الصديق وعمر، وعبادة أهل البيت كعلي رضي الله عنه وفاطمة والحسن والحسين، واعتقادهم في الأئمة الاثنى عشرة أنهم معصومون وأنهم يعلمون الغيب، كل هذا من أبطل الباطل، وكل هذا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة. (1)
موقفه من الصوفية:
- سأله رحمه الله سائل من سوريا قال: يوجد ناس عندنا يقولون: إننا أبناء الشيخ عيسى أو أبناء غيره من الشيوخ المعروفين عندنا، ويأتون يسألون الناس وقد لبسوا لباسا أخضر على رؤوسهم من حرير، في أيديهم أسياخ من حديد، إذا أعطيتهم أرضيتهم، وإذا لم تعطهم غضبوا وضربوا أنفسهم بهذا الحديد في بطونهم وفي رؤوسهم؟
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/156-157).(1/298)
فأجاب: هؤلاء من بعض الطوائف التي تسمى الصوفية، وهؤلاء يلعبون على الناس ويخدعونهم، بزعمهم أنهم أولاد فلان أو فلان، ويزعمون أنهم يستحقون على الناس المساعدة، وهؤلاء ينبغي منعهم من هذا العمل وتأديبهم عليه من جهة الدولة، لما في ذلك من كف شرهم عن الناس على السؤال بهذه الطريقة المنكرة.
ولا يعطى مثل هؤلاء، لأن عطاءهم يشجعهم.. وإذا ضربوا أنفسهم فلا حرج عليك من ذلك، وإنما الحرج عليهم. والواجب نصيحتهم وتحذيرهم من هذا العمل المنكر، وهو من التشويش والتلبيس الذي يخدعون به الناس، وهم في الحقيقة يعملون هذه الأمور الشيطانية بتزيين من الشيطان وتلبيس منه، وهو ما يسمى بالتقمير، وهو من أنواع السحر، يفعلون هذا الشيء في رأي الناظر، وهم لا يفعلونه في الحقيقة، ولو فعلوه حقيقة لضرهم، لأن السلاح والحديد وأشباه ذلك يضر الإنسان إذا ضرب به نفسه، ولكنهم يسحرون العيون بما يفعلون، كما ذكر الله عن سحرة فرعون، حيث قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: فَلَمَّا { أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } (116) (1) ، وقال تعالى في سورة طه: قَالُوا { يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } (66) (2) فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يساعدوا مثل هؤلاء، لأن مساعدتهم معناها مساعدة على المنكر وعلى التلبيس وعلى الشعوذة وعلى إيذاء المسلمين وخداعهم.
فالواجب منع هؤلاء والقضاء على منكرهم هذا، وحسم مادتهم بالأدب البليغ، أو السجن من جهة الدولة، حتى يرتدعوا عن هذا العمل.. وفق الله قادة المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده. (3)
__________
(1) الأعراف الآية (116).
(2) طه الآية (66).
(3) مجموع الفتاوى (3/447-448).(1/299)
- وقال رحمه الله: قد دلت الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الكلام كلمة التوحيد: وهي لا إله إلا الله، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله" (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (2) . وقد ذكر الله في كتابه العظيم هذه الكلمة في مواضع كثيرة، منها قوله سبحانه: شَهِدَ { اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا } هُوَ (3) ، وقوله عز وجل: فَاعْلَمْ { أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ } لِذَنْبِكَ (4) .
والمشروع للمسلمين جميعا أن يذكروا الله بهذا اللفظ: لا إله إلا الله، ويضاف إلى ذلك: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كل هذا من الكلام الطيب المشروع.
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/445) والبخاري (1/71/9) ومسلم (1/63/35) وأبو داود (5/55-56/4676) والترمذي (5/12/2614) والنسائي (8/484/5020) وابن ماجه (1/22/57) كلهم من حديث أبي هريرة إلا أنه اختلف في لفظه فمنهم من يرويه بلفظ: بضع وستون ومنهم من يرويه بلفظ بضع وسبعون ومنهم من يرويه على الشك.
(2) أحمد (5/10) ومسلم (3/1685/2137) وابن ماجه (2/1253/3811) والنسائي في الكبرى (6/211/10681) من حديث سمرة بن جندب.
(3) آل عمران الآية (18).
(4) محمد الآية (19).(1/300)
أما قول الصوفية: (الله الله)، أو (هو هو)، فهذا من البدع، ولا يجوز التقيد بذلك، لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فصار بدعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه (2) .
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فهو رد" أي: فهو مردود، ولا يجوز العمل به ولا يقبل. فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتعبدوا بشيء لم يشرعه الله، للأحاديث المذكورة وما جاء في معناها لقول الله سبحانه منكرا على المشركين: أَمْ { لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (3) . وفق الله الجميع لما يرضيه. (4)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) أخرجه أحمد (6/180) ومسلم (3/1343-1344/1718(18)) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (6/240) والبخاري (5/377/2697) ومسلم (3/1343/1718) وأبو داود (5/12/4606) وابن ماجه (1/7/14).
(3) الشورى الآية (21).
(4) مجموع الفتاوى (8/399-400).(1/301)
- قال رحمه الله: عقيدتي التي أدين الله بها وأسأله سبحانه أن يتوفاني عليها هي: الإيمان بأنه سبحانه هو الإله الحق المستحق للعبادة، وأنه سبحانه فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته بلا كيف، وأنه سبحانه يوصف بالعلو فوق جميع الخلق، كما قال سبحانه: الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (1) ، وقال عز وجل: إِن { رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى } الْعَرْشِ الآية (2) ، وقال عز وجل في آخر آية الكرسي: وَلَا { يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (255) (3) ، وقال عز وجل: فَالْحُكْمُ { لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } (12) (4) ، وقال سبحانه: إِلَيْهِ { يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأومن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، كما قال عز وجل: وَلِلَّهِ { الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (6) .
__________
(1) طه الآية (5).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) البقرة الآية (255).
(4) غافر الآية (12).
(5) فاطر الآية (10).
(6) الأعراف الآية (180).(1/302)
والواجب على جميع المسلمين: هو الإيمان بأسمائه وصفاته الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وإثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كما قال سبحانه: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (1) ، وقال عز وجل: فَلَا { تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (74) (2) ، وقال سبحانه: قُلْ { هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد } (4) (3) ، وهي توقيفية لا يجوز إثبات شيء منها لله إلا بنص من القرآن أو من السنة الصحيحة، لأنه سبحانه أعلم بنفسه وأعلم بما يليق به، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم به، وهو المبلغ عنه، ولا ينطق عن الهوى، كما قال الله سبحانه: وَالنَّجْمِ { إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) (4) .
وأومن بأن القرآن كلامه عز وجل وليس بمخلوق، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، وأومن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك مما كان وما سيكون، مما دل عليه القرآن الكريم، أو جاءت به السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والله المسؤول أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق ولاة أمرهم ويصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (5)
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) النحل الآية (74).
(3) سورة الإخلاص.
(4) النجم الآيات (1-4).
(5) مجموع الفتاوى (8/43-45).(1/303)
- وقال رحمه الله ردا على سؤال في صفة النزول: هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو القائل عليه الصلاة والسلام: "ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر" متفق على صحته (1) ، وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، فهو ينزل كما يشاء، ولا يلزم من ذلك خلو العرش فهو نزول يليق به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا، وهذا شيء يختص به تعالى، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) ، وقال جل وعلا: يَعْلَمُ { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (3) ، وقال عز وجل في آية الكرسي: وَلَا { يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } (4) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من السيارة خلت منه السيارة، فهذا قياس فاسد له، لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته.
كما أننا نقول استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله، وإنما نقول: استوى استواء يليق بجلاله وعظمته.
__________
(1) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) الشورى الآية (11).
(3) طه الآية (110).
(4) البقرة الآية (255).(1/304)
ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية حتى قالوا: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا كذا ولا كذا، حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية؛ ولهذا ذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول،و الإيمان بذلك واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني: عن الكيفية. ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن شيخ مالك رحمه الله: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان بذلك واجب)، ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل كثيرة عديدة، وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص، وأن لا نزيد على ذلك. وهكذا نقول: يسمع ويتكلم، ويبصر ويغضب، ويرضى على وجه يليق به سبحانه، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو. وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة وطريق العلم، وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه سبحانه وتعالى. والله سبحانه ولي التوفيق. (1)
- وقال رحمه الله: من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ س.خ وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
__________
(1) مجموع الفتاوى (9/76-77).(1/305)
فقد وصلني كتابكم الكريم الذي ذكرتم فيه أنكم أثناء تحقيقكم لكتاب 'فضائل الأوقات' للبيهقي مر عليكم هذا النص: (سمعت أبا عبدالله الحافظ يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن عبدالله المزي يقول: حديث النزول (1) قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله: وَجَاءَ { رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } (22) (2) والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله بلا تشبيه جل عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا.اهـ
ولا شك أن هذا القول باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فإن الله سبحانه قد أثبت لنفسه المجيء، وكما أخبر عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالنزول ولم يبين لنا سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيفية النزول ولا كيفية المجيء. فوجب الكف عن ذلك، كما وسع السلف الصالح رضي الله عنهم ذلك، ولم يزيدوا على ما جاء في النصوص. فالواجب السير على منهاجهم ولزوم طريقهم في إثبات الصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة بلا كيف، مع الإيمان بأنه سبحانه لا كفو له ولا شبيه له ولا مثيل له كما قال عز وجل: وَلَمْ { يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد } (4) (3) ، فَلَا { تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (4) ، لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (5) . ومعلوم أن نفي الحركة والانتقال دخول في التكييف بغير علم، ونحن ممنوعون من ذلك لعدم علمنا بكيفية صفاته سبحانه، لأنه عز وجل لم يخبرنا بذلك ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) الفجر الآية (22).
(3) الإخلاص الآية (4).
(4) النحل الآية (74).
(5) الشورى الآية (11).(1/306)
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به والثبات على الحق والسلامة من مضلات الفتن إنه سميع قريب.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: فالخوارج كَفَّروا بالمعاصي، وخَلَّدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة، وأنهم في النار مخلدون فيها؛ ولكن قالوا: إنهم في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين، وكله ضلال.
والذي عليه أهل السنة -وهو الحق- أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلها، فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمر لا يكفر، ولكن يكون عاصيا ضعيف الإيمان فاسقا تقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية وقال: إنها حلال.
وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل، ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه، يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان" (2) . هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفوا مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة، بالطرق الطيبة الحكيمة، وبالجدال بالتي هي أحسن، حتى ينجحوا، وحتى يقل الشر أو يزول ويكثر الخير. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/54-55).
(2) أخرجه أخرجه أحمد (3/68و73) والبخاري (8/84/4351) ومسلم (2/741-742/1064) وأبو داود (5/121-122/4764) والنسائي (5/92-93/2577).
(3) مجموع الفتاوى (8/205).(1/307)
- قال في تعليقه على العقيدة الطحاوية: قوله: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله): مراده رحمه الله: أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه؛ كالزنا، وشرب الخمر، والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك. فإن استحله كفر؛ لكونه بذلك مكذبا لله ولرسوله، خارجا عن دينه. أما إذا لم يستحل ذلك؛ فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك، حسبما جاء في الشرع المطهر. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخواج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل. فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني: بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار. وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماعة سلف الأمة. وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا وبالله التوفيق. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: ولهذا لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره" (2) ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي أصول الإيمان، وهي في نفسها أصول الدين كله، لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لا بد منه لصحة الإسلام لكن قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، ولهذا قال الله عز وجل في حق الأعراب: قُلْ { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا } أَسْلَمْنَا (3) .
__________
(1) بهامش حاشية ابن عتيق (ص.52).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(3) الحجرات الآية (14).(1/308)
فلما كان إيمانهم ليس بكامل، بل إيمان ناقص لم يستكمل واجبات الإيمان نفى عنهم الإيمان يعني به الكامل لأنه ينفى عمن ترك بعض الواجبات كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (1) ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" (2) إلى غير ذلك، والمقصود أن الإيمان يقتضي العمل الظاهر، كما أن الإسلام بدون إيمان من عمل المنافقين، فالإيمان الكامل الواجب يقتضي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، فإذا قصر في ذلك جاز أن ينفى عنه ذلك الإيمان بتقصيره كما نفي عن الأعراب بقوله تعالى: قُلْ { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا } أَسْلَمْنَا (3) وكما نفي عمن ذكر في الأحاديث السابقة.
__________
(1) أخرجه: أحمد (3/176) والبخاري (1/78/13) ومسلم (1/67/45) والترمذي (4/575/2515) وابن ماجه (1/26/66) من حديث أنس
(2) أخرجه: أحمد (2/267) والبخاري (10/651و652/6136و6138) ومسلم (1/68/47) وأبو داود (5/358/5154) والترمذي (4/569/2500) من حديث أبي هريرة.
(3) الحجرات الآية (14).(1/309)
والخلاصة أن الله سبحانه ورسوله نفيا الإيمان عن بعض من ترك بعض واجبات الإيمان وأثبتا له الإسلام، فهذه الأصول الستة هي أصول الدين كله، فمن أتى بها مع الأعمال الظاهرة صار مسلماً مؤمناً، ومن لم يأت بها فلا إسلام له ولا إيمان؛ كالمنافقين فإنهم لما أظهروا الإسلام وادعوا الإيمان وصلوا مع الناس وحجوا مع الناس وجاهدوا مع الناس إلى غير ذلك، ولكنهم في الباطن ليسوا مع المسلمين بل هم في جانب والمسلمون في جانب، لأنهم مكذبون لله ورسوله، منكرون لما جاءت به الرسل في الباطن، متظاهرون بالإسلام لحظوظهم العاجلة ولمقاصد معروفة أكذبهم الله في ذلك، وصاروا كفاراً ضلالاً، بل صاروا أكفر وأشر ممن أعلن كفره، ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار، وما ذاك إلا لأن خطرهم أعظم؛ لأن المسلم يظن أنهم إخوته وأنهم على دينه وربما أفشى إليهم بعض الأسرار، فضروا المسلمين وخانوهم، فصار كفرهم أشد وضررهم أعظم.
وهكذا من ادعى الإيمان بهذه الأصول ثم لم يؤدِّ شرائع الإسلام الظاهرة، فلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو لم يصل، أو لم يصم، أو لم يزك، أو لم يحج، أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة التي أوجبها الله عليه، فإن ذلك دليل على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه. فقد ينتفي الإيمان بالكلية كما ينتفي بترك الشهادتين إجماعاً، وقد لا ينتفي أصله ولكن ينتفي تمامه وكماله لعدم أدائه ذلك الواجب المعين كالصوم والحج مع الاستطاعة والزكاة ونحو ذلك من الأمور عند جمهور أهل العلم؛ فإنّ تركها فسق وضلال ولكن ليس ردة عن الإسلام عند أكثرهم إذا لم يجحد وجوبها. (1)
__________
(1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/160-162).(1/310)
- قال رحمه الله معلقا على قول الطحاوي: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان): هذا التعريف فيه نظر وقصور!! والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصر. وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها، فراجعها إن شئت. وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة. وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوي. ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان. (1)
موقفه من القدرية:
له رسائل وفتاوى في العقيدة والدفاع عن حياضها، جمع بعض تلامذته كثيرا من ذلك، منها ما جمعه الشيخ عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار في عدة أجزاء منها ثلاثة في العقيدة، عقد فيها بابا في القضاء والقدر (2) ، بين فيه الشيخ ابن باز أهمية الإيمان بالقضاء والقدر وأنه الركن السادس من أركان الإيمان فقال: قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة: على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة، التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دلت على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
__________
(1) العقيدة الطحاوية تعليق ابن باز (ص.60).
(2) من (2/475) إلى (2/502).(1/311)
ومن ذلك قوله عز وجل: أَلَمْ { تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (70) (1) ، وقوله تعالى: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (22) (2) ، وقال تعالى: إِنَّا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } بِقَدَرٍ (3) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله". قال: صدقت. الحديث. وهذا لفظ مسلم (4) . وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فأجابه بقوله: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" فقال له جبرائيل: صدقت (5) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:
__________
(1) الحج الآية (70).
(2) الحديد الآية (22).
(3) القمر الآية (49).
(4) أحمد (2/426) والبخاري (1/153/50) ومسلم (1/39/9) والنسائي (8/475-476/5006) وابن ماجه (1/25/64). وأخرجه أبو داود (5/74/4698) مختصرا.
(5) تقدم تخريجه في مواقف يحيى بن يعمر سنة (89هـ).(1/312)