قال الحافظ محب الدين بن النجار في تاريخه: كتبت عنه ببغداد ونيسابور ودمشق، وهو حافظ متقن ثبت ثقة صدوق نبيل حجة عالم بالحديث وأحوال الرجال، وله مجموعات وتخريجات، وهو ورع تقي زاهد عابد محتاط في أكل الحلال مجاهد في سبيل الله، ولعمري ما رأت عيناي مثله في نزاهته وعفته وحسن سيرته وطريقته في طلب العلم.
قال الذهبي رحمه الله: ولم يزل ملازما للعلم والرواية والتأليف إلى أن مات، وتصانيفه نافعة مهذبة، أنشأ مدرسة إلى جانب الجامع المظفري، وكان يبني فيها بيده. ويتقنع باليسير، ويجتهد في فعل الخير، ونشر السنة، وفيه تعبد وانجماع عن الناس، وكان كثير البر والمواساة، دائم التهجد، أمارا بالمعروف، بهي النظر، مليح الشيبة، محببا إلى الموافق والمخالف، مشتغلا بنفسه رضي الله عنه.
توفي يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون ودفن به رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله: وقد أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن كل محدثة بدعة (1) ، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (2) ، وأن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذارع. (3)
وقد كثر في زماننا هذا البدع، فظهرت وعمل بها خلق كثير من الناس، وزاولها طريقا إلى الله تعالى، فمن ذلك:
__________
(1) تقدم تخريجه مطولا ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).(1/290)
حضور الغناء والمزامير والرقص، ومؤاخاة النسوان، والحضور مع المُردان، حتى إن بعضهم ليرى ذلك أفضل من الصلاة وقراءة القرآن، فنعوذ بالله من الخذلان، ونستعينه على أداء الشكر وكثرة الذكر في جميع الأحيان، ونسأله بكرمه أن لا يجعل للشيطان علينا سلطانا، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ { يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } (1) الآية. (2)
آثاره السلفية:
'الأمر باتباع السنن واجتناب البدع'. وهو مطبوع في جزء صغير بتحقيق الشيخ علي بن حسن بن عبدالحميد الحلبي.
موقفه من الرافضة:
له كتاب: 'النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب'. وهو مطبوع ومتداول.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1- 'جزء في أحاديث الحرف والصوت'.
2- 'صفة النار'. جزءان
3- 'صفة الجنة'. ثلاثة أجزاء.
وذكر هذه جميعا ابن رجب في ذيل الطبقات (3) .
4- ذكر الحوض: ذكره الذهبي في السير (4) وابن رجب في ذيل الطبقات (5) وسماه طرق حديث الحوض النبوي.
عبدالله بن محمد الحنبلي (6) (643 هـ)
المحدث الحافظ أبو منصور عبدالله بن أبي الفضل محمد بن أبي محمد بن الوليد البغدادي أحد المكثرين والرحالين. سمع من عبدالعزيز بن الأخضر وابن منينا والحافظ عبدالقادر الرهاوي، وخلق. وأجاز لسليمان بن حمزة الحاكم، وأبي بكر بن أحمد بن عبدالدائم وعيسى المطعم وغيرهم من المتأخرين. قال الشريف أبو العباس الحسيني: كان حافظا مفيدا، أسمع الناس الكثير بقراءته، وكان مشهورا بسرعة القراءة وجودتها، وجمع وحدث. قال الذهبي: وهو من أئمة السنة له تواليف.
__________
(1) المائدة الآية (41).
(2) اتباع السنن واجتناب البدع (41).
(3) 2/239).
(4) 23/128).
(5) 2/239).
(6) السير (23/213-214) وتذكرة الحفاظ (4/1432) وشذرات الذهب (5/219) وذيل طبقات الحنابلة (2/233) وتاريخ الإسلام (حوادث 641-650/ص.172-173).(1/291)
توفي في ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ببغداد رحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
رسالة إلى السامري صاحب المستوعب، ينكر عليه فيها تأويله لبعض الصفات وقوله: إن أخبار الآحاد لا تثبت بها الصفات. (1)
ابن الصّلاح (2) (643 هـ)
الإمام، الحافظ، العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي. ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة بشرخان. سمع من أبي المظفر بن السمعاني بمرو ومن الإمامين فخر الدين بن عساكر وموفق الدين بن قدامة وعدة بدمشق. وحدث عنه الإمام شمس الدين بن نوح المقدسي والمحدث عبدالله بن يحيى الجزائري وكمال الدين أحمد بن أبي الفتح الشيباني وغيرهم. درس بالمدرسة الصلاحية ببيت المقدس مديدة ثم بالرواحية بدمشق مدة ثم بالأشرفية وكان شيخها ثم الشامية الصغرى. واشتغل وأفتى وجمع وألف، وتخرج به الأصحاب وكان من كبار الأئمة. ذكره المحدث عمر بن الحاجب في معجمه فقال: إمام ورع وافر العقل، حسن السمت، متبحر في الأصول والفروع، بالغ في الطلب حتى صار يضرب به المثل، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة. قال الذهبي: كان ذا جلالة عجيبة، ووقار وهيبة، وفصاحة، وعلم نافع، وكان متين الديانة سلفي الجملة، صحيح النحلة، كافا عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمنا بالله، وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، إلى أن قال رحمه الله: وكان مع تبحره في الفقه مجودا لما ينقله، قوي المادة من اللغة والعربية، متفننا في الحديث متصونا، مكبا على العلم عديم النظير في زمانه. توفي رحمه الله يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
موقفه من المشركين:
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (2/233).
(2) السير (23/140-144) ووفيات الأعيان (3/243-245) وتذكرة الحفاظ (4/1430-1433) والبداية والنهاية (13/179-180) وشذرات الذهب (5/221).(1/292)
موقفه من كتب الفلسفة والمنطق:
جاء في فتاوى ابن الصلاح: مسألة: فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليما وتعلما، وهل المنطق جملة وتفصيلا مما أباح الشارع تعليمه وتعلمه؟ والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك أو أباحوا الاشتغال به أو سوغوا الاشتغال به أم لا؟
وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات المنطقية أم لا؟
وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا؟ وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرا به ما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره؟
وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفا بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم، فهل يجب على سلطان تلك البلاد عزله وكفاية الناس شره؟
أجاب رضي الله عنه: الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه -أظلم قلبه- عن نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره ذاكر، وكلما غفل عن ذكره غافل مع انتشار آياته المستبينة، ومعجزاته المستنيرة، حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها فجمع منها ألف معجزة، وعددناه مقصرا، إذ فوق ذلك بأضعاف لا تحصى، فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره - صلى الله عليه وسلم - بل لم تزل تتجدد بعده - صلى الله عليه وسلم - على تعاقب العصور...
وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه وطهرهم من أوضاره.(1/293)
وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية.
والحمد لله، فالافتقار إلى المنطق أصلا، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم، والسبيل الأسلم الأطهر كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به، فالواجب على السلطان -أعزه الله وأعز به الإسلام وأهله- أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أوالإسلام، لتخمد نارهم، وتنمحي آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله، ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله، ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم، فإن حاله يكذبه، والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملة، والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم. (1)
" التعليق:
__________
(1) فتاوى ابن الصلاح (1/209-212).(1/294)
اختص الله تعالى بإحياء الموتى من قبورهم وجعله آية لبعض الأنبياء، وإلا أحيينا ابن الصلاح من قبره وتجولنا به في العالم الإسلامي، وأوقفناه على جامعة انتدبت نفسها للقيام بهذه المهمة التي سل سيفه من أجلها، ولعقدنا له لقاءات مع آلاف الناس الذين يتبنون هذا الفكر الشاذ المحير والمتحير، ولمررنا به على أكبر المدارس غير التي تقدم ذكرها، والتي نصبت نفسها حامية للعلوم الشرعية، لكن جعلت من أهم مناهجها المنطق والفلسفة بل لا تدرس العقيدة، على هذا السبيل الأزهر والزيتونة والقرويين ولأوقفناه على آلاف المكتبات الخاصة والعامة، ولرأى ما يسوؤه من الحال والاعتناء بهذه العلوم الكافرة، وما أدري ماذا سيفعل الشيخ بشهادة الدكتوراه وما دونها من الشواهد في هذا الباب، التي تخول لصاحبها التدريس في الجامعات لنشر كفره وإلحاده بين أبناء الأمة الإسلامية حتى يعم الإلحاد في أرباع المعمورة.
موقفه من الجهمية:
قال شيخ الإسلام: إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا. (1)
موقفه من المرجئة:
__________
(1) الفتاوى (9/7).(1/295)
جاء في مجموع الفتاوى: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله" إلى آخره؛ "والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" إلى آخره (1) . قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأربع لكونها أظهر شعائر الإسلام ومعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده أو انحلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث. وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، مقومات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس (2) بالشهادتين، والصلاة والزكاة، والصوم، وإعطاء الخمس من المغنم؛ ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة، لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (3) واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(2) أحمد (1/228) والبخاري (1/172/53) ومسلم (1/46/17) وأبو داود (4/94/3692) والترمذي (5/9-10/2611) والنسائي (8/495/5046) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).(1/296)
قال: فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، قال: فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون؛ وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في فتاويه: مسألة: فيمن يعتقد أن في ملك الله سبحانه وتعالى ما لا يرضاه ولا يريده فهل هو مخطئ أو مصيب في هذا القول والاعتقاد أم لا؟.
أجاب -رضي الله عنه-: أصاب في قوله أنه يوجد ما لا يرضاه تبارك وتعالى مثل الكفر، قال الله تعالى: وَلَا { يَرْضَى لِعِبَادِهِ } الْكُفْرَ (2) وضل وابتدع في قوله: أنه يوجد ما لا يريده، بل ذلك محال، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وفرق بين الرضا والإرادة، ثم ما لكم والخوض في هذا البحر المغرق. عليكم بالعمل ففيه شغل شاغل والله أعلم. (3)
أحمد بن عيسى بن قدامة المقدسي (4) (643 هـ)
الإمام الحافظ المتقن سيف الدين أبو العباس أحمد بن مجد الدين عيسى ابن الإمام موفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي. ولد سنة خمس وستمائة.
وسمع أبا اليمن الكندي وابن ملاعب وأحمد بن عبدالله السلمي العطار وابن أبي لقمة، وتخرج بخاله الحافظ ضياء الدين. رحل إلى بغداد، وصنف وخرج، وكان ثقة حجة، بصيرا بالحديث ورجاله، عاملا بالأثر، صاحب عبادة وتهجد وإنابة. روى عنه أبو بكر أحمد بن محمد الدشتي وغيره.
__________
(1) الفتاوى (7/361-362).
(2) الزمر الآية (7).
(3) فتاوى ومسائل ابن الصلاح (1/214-215).
(4) السير (23/118-119) وتاريخ الإسلام (حوادث 641-650/ص.152-153) والذيل على طبقات الحنابلة (2/241) والوافي بالوفيات (7/273) وتذكرة الحفاظ (4/1449-1447) وشذرات الذهب (5/217).(1/297)
قال الذهبي: وكان ثقة ثبتا، ذكيا، سلفيا، تقيا، ذا ورع وتقوى، ومحاسنه جمة، وتعبد وتأله، ومروءة تامة، وقول بالحق، ونهي عن المنكر، ولو عاش لساد في العلم والعدل، فرحمه الله تعالى. توفي في أول شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون، وله ثمان وثلاثون سنة.
موقفه من الصوفية:
قال الذهبي: ألف السيف رحمه الله تعالى مجلدا كبيرا في الرد على الحافظ محمد بن طاهر المقدسي لإباحته للسماع، وفي أماكن من كتاب ابن طاهر في صفوة أهل التصوف، وقد اختصرت هذا الكتاب على مقدار الربع، وانتفعت كثيرا بتعاليق الحافظ سيف الدين. (1)
وله أيضا مصنف في الاعتقاد، فيه آثار كثيرة وفوائد. (2)
موقف بدر الدين صاحب الموصل
من ابن عدي الضال الصوفي (644 هـ)
قال الذهبي: كان هذا من رجال العالم دهاء وهمة وسموا، له فضيلة وأدب وتواليف في التصوف الفاسد، وله أتباع لا ينحصرون وجلالة عجيبة. بلغ من تعظيمهم له أن واعظا أتاه فتكلم بين يديه، فبكى تاج العارفين وغشي عليه، فوثب كردي، وذبح الواعظ، فأفاق الشيخ فرأى الواعظ يختبط في دمه، فقال: أيش هذا؟ فقالوا: أي شيء هذا من الكلاب حتى يبكي سيدي الشيخ. وزاد تمكن الشيخ حتى خاف منه بدر الدين صاحب الموصل، فتحيل عليه حتى اصطاده، وخنقه بالموصل؛ خوفا من غائلته. وهناك جهلة يعتقدون أن الشيخ حسنا لا بد أن يرجع إلى الدنيا، وكان يلوح في نظمه بالإلحاد، ويزعم أنه رأى رب العزة عيانا، واعتقاده ضلالة. (3)
أبو عبدالله الطَّرَّاز (4) (645 هـ)
__________
(1) التذكرة (4/1447) وانظر ذيل طبقات الحنابلة (4/241).
(2) ذيل الطبقات (4/241).
(3) السير (23/223-224).
(4) السير (23/258-261) وتاريخ الإسلام (حوادث 641-650/ص.293) والديباج المذهب (2/277-279) وغاية النهاية (2/144) وشجرة النور الزكية (1/182-183).(1/298)
الإمام العلامة المقرئ محمد بن سعيد بن علي بن يوسف، أبو عبدالله الأنصاري الأندلسي الغرناطي، يعرف بالطراز. سمع أبا القاسم بن سمحون وعلي بن جابر وطائفة، وأجاز له أبو اليمن الكندي. روى عنه أبو عبدالله الطنجالي، وحميد القرطبي، وأبو إسحاق البلفيقي والكاتب أبو الحسن بن فرج.
قال ابن الزبير: وكان ضابطا متقنا، ومفيدا حافلا، بارع الخط، حسن الوراقة، عارفا بالأسانيد والطرق والرجال وطبقاتهم، مقدما عارفا بالقراءات، مشاركا في علوم العربية والفقه والأصول، كاتبا نبيلا، مجموعا فاضلا متخلقا، ثقة عدلا، كتب بخطه كثيرا وأمهات. وقال ابن فرحون: كان رحمه الله تعالى مقرئا جليلا، ومحدثا حافلا، به ختم بالمغرب هذا الباب ألبتة. تجرد آخر عمره إلى كتاب مشارق الأنوار للقاضي عياض، وكان قد تركه في مبيضته، فجمع عليه أصولا حافلة وأمهات هائلة من الأغربة وكتب اللغات، وعكف على ذلك مدة، وبالغ في البحث والتفتيش، حتى تخلص الكتاب على أتم وجه، وبرزت محاسنه. توفي رحمه الله في شوال سنة خمس وأربعين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير أنه وصى أن لا يقرأ على قبره ولا يبنى عليه، وكان ممن وضع الله له ودا في قلوب عباده، معظما عند جميع الناس خصوصا في غير بلده، ولقد كان من أشد الناس غيرة على السنة وأهلها وأبغضهم في أهل الأهواء والبدع. (1)
موقف السلف من
الحريري علي بن أبي الحسن (645 هـ)
__________
(1) السير (23/260).(1/299)
قال الذهبي: قرأت بخط السيف الحافظ: كان الحريري من أفتن شيء وأضره على الإسلام، تظهر منه الزندقة والاستهزاء بالشرع، بلغني من الثقات أشياء يستعظم ذكرها من الزندقة والجرأة على الله، وكان مستخفا بأمر الصلوات. وحدثني أبو إسحاق الصريفيني، قال: قلت للحريري: ما الحجة في الرقص؟ قال: إِذَا { زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } (1) (1) وكان يطعم وينفق ويتبعه كل مريب. شهد عليه خلق كثير بما يوجب القتل، ولم يقدم السلطان على قتله، بل سجنه مرتين ... وعندي مجموع من كلام الشيخ الحريري، فيه: إذا دخل مريدي بلاد الروم، وتنصر، وأكل الخنزير، وشرب الخمر كان في شغلي. وسأله رجل: أي الطرق أقرب إلى الله؟ قال: اترك السير وقد وصلت. وقال لأصحابه: بايعوني على أن نموت يهود ونحشر إلى النار حتى لا يصحبني أحد لعلة. وقال: لو قدم علي من قتل ولدي وهو بذلك طيب وجدني أطيب منه... وقال علي بن أنجب في تاريخه: الفقير الحريري شيخ عجيب، كان يعاشر الأحداث، كان يقال عنه: إنه مباحي ولم تكن له مراقبة، كان يخرب، والفقهاء ينكرون فعله، وكان له قبول عظيم. وروي عن الحريري: لو ضربنا عنقك على هذا القول ولعناك لاعتقدنا أنا مصيبون... (2)
يوسف بن خليل (3) (648 هـ)
__________
(1) الزلزلة الآية (1).
(2) السير (23/224-226).
(3) السير (23/151-155) وتاريخ الإسلام (حوادث 641-650/ص.406-408) وتذكرة الحفاظ (4/1410) الذيل على طبقات الحنابلة (2/244-245) وشذرات الذهب (5/243-244).(1/300)
الإمام المحدث الصادق الرحالة شيخ المحدثين راوية الإسلام أبو الحجاج شمس الدين يوسف بن خليل بن قراجا عبدالله الدمشقي الأدمي الإسكاف، نزيل حلب وشيخها. ولد في سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وتشاغل بطلب الرزق حتى كبر وقارب الثلاثين ثم بعد ذلك حبب إليه الحديث. وعني بالرواية وسمع الكثير، وكتب بخطه المتقن شيئا كثيرا. وكان ذا علم حسن ومعرفة جيدة ومشاركة قوية في الإسناد والمتن. سمع من يحيى الثقفي ومحمد بن صدقة وأبي طاهر الخشوعي وأقرانهم، وصحب الحافظ عبدالغني وتخرج به مدة. ورحل إلى البلدان، وسمع بها. حدث عنه الحافظ بن الأنماطي، والبرزالي والقوصي، وابن العديم وابنه وعدة. وكان حسن الأخلاق مرضي السيرة، خرج لنفسه الثمانيات، وأجزاء عوالي كعوالي هشام بن عروة والأعمش وما اجتمع فيه أربعة من الصحابة، وكان ينطوي على سنة وخير، روى كتبا كبارا للمتقدمين، وانقطع بموته سماع أشياء كثيرة لخراب أصبهان. توفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة وله ثلاث وتسعون سنة.
موقفه من الصوفية:
قال الذهبي: بلغني أنه كان يذم الحريري (الصوفي) وطريقة أصحابه. (1)
علي بن محمد الشَّارِي (2) ( 649 هـ)
__________
(1) السير (23/154).
(2) السير (23/275-278) وتاريخ الإسلام (حوادث 641-650/ص.424-425) وغاية النهاية (1/574-575) والوافي بالوفيات (22/95).(1/301)
الإمام الحافظ المقرئ شيخ المغرب، علي بن محمد بن يحيى، أبو الحسن الغافقي الشاري ثم السبتي، نزيل مالقة. وشارة: بليدة من عمل مرسية، شرق الأندلس. ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. قرأ القراءات إلا بعضها على والده وعلى يحيى بن محمد الهوزني وأبي محمد بن عبيد الله الحجري، وأخذ العربية من أبي ذر الخشني وأبي الحسن بن خروف، وأجاز له الإمام أبو زيد السهيلي. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير وأثنى عليه، وسمع منه شيئا كثيرا. قال تلميذه ابن الزبير: وكان ثقة، متحريا، ضابطا عارفا بالأسانيد والرجال والطرق، بقية صالحة وذخيرة نافعة، رحلت إليه فقرأت عليه كثيرا، وتلوت عليه... حسن النية، من أهل المروءة والفضل التام والدين القويم، منصفا، متواضعا، حسن الظن بالمسلمين، محبا في الحديث وأهله. وقال ابن رشيد: أحيا الشاري بسبتة العلم حيا وميتا، وحصل الكتب بأغلى الأثمان، وكان له عظمة في النفوس. توفي رحمه الله بمالقة في التاسع والعشرين من رمضان سنة تسع وأربعين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: كان منافرا لأهل البدع والأهواء، معروفا بذلك... محبا في الحديث وأهله. (1)
موقف السلف من
الخونجي محمد بن ناماور (649 هـ)
قال ابن تيمية رحمه الله: والخونجي المصنف في أسرار المنطق الذي سمى كتابه 'كشف الأسرار' يقول لما حضره الموت: أموت ولم أعرف شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الممتنع، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت ولم أعرف شيئا - حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت. (2)
" التعليق:
انظر رحمك الله إلى مآل سعي هؤلاء، كيف اغتر المساكين باتباع سراب حسبوه ماء. فجعلوا -زيفا- ينهلون منه ويرتوون، حتى إذا حضرهم الموت التفتوا يمينا وشمالا فلم يجدوا شيئا، فوجدوا الله عنده فوفاهم الحساب. نسأل الله السلامة.
موقف السلف من
سبط ابن الجوزي يوسف بن قزغلي وتلبسه بالرفض (654 هـ)
__________
(1) السير (23/276).
(2) درء التعارض (1/162).(1/302)
جاء في المنهاج: ...وإن أرادَ سبَطه يوسف بن قزغلي صاحب التاريخ المسمى بـ 'مرآة الزمان' وصاحب الكتاب المصنف في 'الاثنى عشر' الذي سماه 'إعلام الخواص'، فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعا من الغث والسمين، ويحتج في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، وكان يصنف بحسب مقاصد الناس: يصنف للشيعة ما يناسبهم ليعوضوه بذلك، ويُصنف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك ؟ قال: في أي مدينة؟
ولهذا يوجد في بعض كتبه (ثلب) الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم. (1)
وجاء في الميزان: وما أظنه بثقة فيما ينقله، بل يجنف ويجازف، ثم إنه ترفض، وله مؤلف في ذلك. نسأل الله العافية.
مات سنة أربع وخمسين وستمائة بدمشق، قال الشيخ محيي الدين السوسي: لما بلغ جدي موت سبط ابن الجوزي قال: لا رحمه الله، كان رافضيا. (2)
المُرْسِي (3) (655 هـ)
__________
(1) منهاج السنة (4/97-98).
(2) ميزان الاعتدال (4/471).
(3) معجم الأدباء (18/209-213) والسير (23/312-318) وتاريخ الإسلام (حوادث 651-660/ص.211-214) والوافي بالوفيات (3/354-355) وشذرات الذهب (5/269).(1/303)
الإمام العلامة البارع القدوة المفسر المحدث النحوي ذو الفنون شرف الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن أبي الفضل السلمي المرسي الأندلسي. ولد بمرسية في أول سنة تسعين وخمسمائة. سمع الموطأ من المحدث الحجري، وسمع من ابن الفرس، وحج ثم أكثر الأسفار، وسمع من عدة مشايخ، وكتب وجمع من الكتب النفيسة كثيرا، ومهما فتح به عليه صرفه في ثمن الكتب، وكان متضلعا في العلم جيد الفهم، متين الديانة. حدث عنه ابن النجار والدمياطي والقاضي الحنبلي والفزاري وأبو الفضل الإربلي وعدة. وكان زاهدا متورعا كثير العبادة. قال أبو شامة: كان متقنا، محقق البحث، كثير الحج، مقتصدا في أموره. وقال عمر بن الحاجب: سألت الحافظ بن عبدالواحد عن المرسي فقال: فقيه، مناظر نحوي، من أهل السنة، صحبنا في الرحلة، وما رأينا منه إلا خيرا. توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة.
موقفه من الجهمية:
قال ابن النجار: أنشدني لنفسه:
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الضلالة والغواية والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إن اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بلم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال الرسول وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا (1)
موقف السلف من
ابن أبي الحديد أبي حامد عبدالحميد بن عبدالله (655 هـ)
قال شيخ الإسلام: وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب، كقوله:
فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول، فما ... ربحت إلا أذى السفر
فلحى الله الألى زعموا ... أنك المعروف بالنظر
كذبوا، إن الذي ذكروا ... خارج عن قوة البشر
هذا مع إنشاده:
وحقك لو أدخلتني النار قلت ... للذين بها: قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في علوم كثيرة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه
__________
(1) السير (23/314).(1/304)
أما قلتم: من كان فينا مجاهدا ... سيكرم مثواه ويعذب شربه؟
أما رد شك ابن الخطيب وزيغه ... وتمويهه في الدين إذ جل خطبه
وآية حب الصب أن يعذب الأسى ... إذا كان من يهوى عليه يصبه (1)
الصرصري (2) (656 هـ)
الشيخ العلامة القدوة أبو زكرياء يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري الأصل، نسبة إلى صرصر بفتح الصادين المهملتين، قرية على فرسخين من بغداد. ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قرأ القرآن بالروايات على أصحاب ابن عساكر البطائحي وسمع الحديث من الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي الزاهد، وأجاز له الشيخ عبدالمغيث الحربي وغيره. وسمع منه الحافظ الدمياطي وحدث عنه وذكره في معجمه. إليه المنتهى في معرفة اللغة وحسن الشعر وديوانه، ومدائحه سائرة وكان حسان وقته، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم الكافي الذي ألفه موفق الدين ابن قدامة ومختصر الخرقي، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة. وكان صالحا قدوة كثير التلاوة عظيم الاجتهاد، صبورا قنوعا، وكان شديدا في السنة، منحرفا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة ومدح أهلها وذم مخالفيها. وتوفي رحمه الله مقتولا سنة ست وخمسين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله في داليته التي أولها:
واها لفرط حرارة لا تبرد ... ولواعج بين الحشا تتوقد
في كل يوم سنة مدروسة ... بين الأنام وبدعة تتجدد
صدق النبي ولم يزل متسربلا ... بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد
إذ قال يفترق الضلال ثلاثة ... زيدت على السبعين قولا يسند
وقضى بأسباب النجاة لفرقة ... تسعى بسنة مهتدين وتحفد
فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة ... فاقبل مقالة ناصح يتقلد
إياك والبدع المضلة إنها ... تهدي إلى نار الجحيم وتورد
وعليك بالسنن المنيرة فاقفها ... فهي المحجة والطريق الأقصد
__________
(1) درء التعارض (1/161).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 651-660/303-306) وفوات الوفيات (4/298-319) والبداية (13/211) وشذرات اللذهب (5/285-286).(1/305)
فالأكثرون بمبدعات عقولهم ... نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا
منهم أناس في الضلال تجمعوا ... وبسب أصحاب النبي تفردوا
قد فارقوا جمع الهدى وجماعة الإسـ ... ـلام واجتنبوا الهدى وتمردوا
بالله يا أنصار دين محمد ... نوجوا على الدين الحنيف وعددوا
لعبت بدينكم الروافض جهرة ... وتألبوا في دحضه وتحشدوا
نصبوا حبائلهم بكل بلية ... وتغلظوا في المعضلات وشددوا
ورموا خيار الخلق بالكذب الذي ... هم أهله، لا من رموه وأفسدوا
عابوا الصحاب وهم أجل مراتبا ... في الفخر في أفق السماء وأمجد
ولرتبة الصديق جف لسانهم ... يبغون وهي من التناول أبعد
أو ما هو السباق في عرف العلى ... ولقد زكى من قبل منه المحتد
ولقد أشار بذكره رب العلى ... فثناؤه في المكرمات مسدد
نطق الكتاب بمجده الأعلى ففي ... آي الحديد مناقب لا تنفد
(لا يستوي منكم) وفيها مقنع ... و(الليل) يثبت فضله ويؤكد
و(براءة) تثني بصحبته وهل ... يزرى على الصديق إلا ملحد
أو ما هو الأتقى الذي استولى عـ ... ـلى الإخلاص طارف ماله والمتلد
لما مضى لسبيله خير الورى ... وحوى شمائله صفيح ملحد
منع الأعاريب الزكاة لفقده ... وارتد منهم حائر متردد
وتوقدت نار الضلال وخالطت ... إبليس أطماع كوامن رصد
فرمى أبو بكر بصدق عزيمة ... وثبات إيمان ورأي يحمد
فتمزقت عصب الضلال وأشرقت ... شمس الهدى وتقوم المتأود
وهو الموفق للصواب كأنما ... ملك يصوب قوله ويسدد
بوفاقه آي الكتاب تنزلت ... وبفضله نطق المشفع أحمد
لو كان من بعدي نبيا كنته ... خبرا صحيحا في الرواية يسند
وبعدله الأمثال تضرب في الورى ... وفتوحه في كل قطر توجد
وتمام فضلها جوار المصطفى ... في تربة فيها الملائك تحشد
وتعمقوا في سب عثمان الذي ... ألفاه كُفُوًا لابنتيه محمد
ولبيعة الرضوان مد شماله ... عوض اليمين وهي منه أوكد
وحباه في بدر بسهم مجاهد ... إذ فاته بالعذر ذاك المشهد
من هذه من بعض غر صفاته ... ما ضره ما قال فيه الحسد
ثم ادعوا حب الإمام المرتضى ... هيهات مطلبهم عليهم يبعد
أنى وقد جحدوا الذين بفضلهم ... أثنى أبو الحسن الإمام السيد(1/306)
ما في علاه مقالة لمخالف ... فمسائل الإجماع فيه تعقد
ولنحن أولى بالإمام وحبه ... عقد ندين به الإله مؤكد
وولاؤه لا يستقيم ببغضهم ... واضرب لهم مثلا يغيظ ويكمد
مثل الذي جحد ابن مريم وادعى ... حب الكليم وتلك دعوى تفسد
وبقذف عائشة الطهور تجشموا ... أمرا تظل له الفرائص ترعد
تنزيهها في سبع عشرة آية ... والرافضي بضد ذلك يشهد
لو أن أمر المسلمين إليهم ... لم يبق في هذي البسيطة مسجد
ولو استطاعوا لا سعت بمرامهم ... قدم ولا امتدت بكفهم يد
لم يبق للإسلام ما بين الورى ... علم يسود ولا لواء يعقد
علقوا بحبل الكفر واعتصموا به ... والعالقون بحبله لم يسعدوا
موقفه من الجهمية:
كان يحيى الصرصري من الشعراء، وله قصائد كثيرة ذكر بعضها ابن القيم في اجتماع الجيوش. (1)
قال رحمه الله في قصيدته اللامية التي نظم فيها اعتقاد الشافعي -رضي الله عنه- التي أولها:
أيشعر حزب الجهم ذاك المضلل ... بأني حرب للعدى غير أفكل
تشن عليهم غيرتي وحميتي ... لدين الهدى غارات أشوس مقبل
فوقع قريضي في صميم قلوبهم ... أشد عليهم من سنان ومنصل
أفوق عليهم حين أنظر نحوهم ... مقاتل تصمي منهم كل مقتل
هم انحرفوا عن منهج الحق سالكي ... مهالك من تحريفهم والتأول
لقد برئ الحبر ابن إدريس منهم ... براءة موسى من يهود محول
ويعقد عند الشافعي يمين مَنْ ... غدا حالفا بالمصحف المتقبل
فهذا دليل منه إذ كان لا يرى ... انعقادا بمخلوق لخلق مؤبل
ومذهبه في الاستواء كمالك ... وكالسلف الأبرار أهل التفضل
ومستويا بالذات من فوق عرشه ... ولا تقل: استولى، فمن قال يبطل
فذلك زنديق يقابل قسوة ... لذي خطل راوي لعيب معطل
وهو بان منه خلقه وهو بائن ... من الخلق، محض للخفي مع الجلي
وأقرب من حبل الوريد مفسِّرا ... وما كان معناه به العلم فاعقل
علا في السماء الله فوق عباده ... دليلك في القرآن غير مقلل
وإثبات إيمان الجويرية اتخذ ... دليلا عليه مسند غير مرسل (2)
__________
(1) 280-286).
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية (282).(1/307)
وقال رحمه الله في قصيدته اللامية يهجو ابن خنفر الجهمي الخبيث:
نبذ الكتاب وراء ظهر واقتدى ... شيخ الضلالة للصفات يعطل
وعقيدة الملعون أن المصحف المكنـ ... ــون منبوذ تطؤه الأرجل
ما قالت الكفار مثل مقالته ... وكذا النصارى واليهود الضلل
آل الجحود به إلى واد لظى ... للغاية السفلى فبئس الموئل
وزعمت أن الحنبلي مجسم ... حاشا لمثل الحنبلي يمثل
بل يورد الأخبار إذ كانت تصححها ... الرواة عن الثقات وتنقل
إن المهيمن ليس تمضي ليلة ... إلا وفي الأسحار فيها ينزل
قد قالها خير الورى في صحبه ... لم ينكروا هذا ولم يتأولوا
وتقبلوها مع غزارة علمهم ... أفأنت أم تلك العصابة أعقل (1)
وقال رحمه الله في داليته (2) :
وأشدهم كفرا جهول يدعي ... علم الأصول وفاسق متزهد
فَهُمُو وإن وهنوا أشد مضرة ... في الدين من فأر السفين وأفسد
وإذا سألت فقيههم عن مذهب ... قال: اعتزال في الشريعة يلحد
كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى ... منها ففر إلى جحيم يوقد
إن المقال بالاعتزال لخطة ... عمياء حل بها الغواة المرد
هجموا على سبل الهدى بعقولهم ... ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا
صم إذا ذكر الحديث لديهم ... نفروا كأن لم يسمعوه وأبعدوا
واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت ... أسد العرين فهن منهم شردوا
إلى أن قال:
والجاحد الجهمي أسوأ منهما ... حالا وأخبث في القياس وأفسد
أمسى لرب العرش قال منزها ... من أن يكون عليه رب يعبد
ونفى القرآن برأيه والمصحف ... الأعلى المطهر عنده يتوسد
وإذا ذكرت له على العرش استوى ... قال: هو استولى، يحيل ويخلد
فإلى من الأيدي تمد تضرعا ... وبأي شيء في الدجى يتهجد
ومن الذي هو للقضاء منزل ... وإليه أعمال البرية تصعد
وبما ينزل جبرائيل مصدقا ... ولأي معجزة الخصوم تبلد
ومن الذي استولى عليه بقهره ... إن كان فوق العرش ضد أيد
جلت صفات الحق عن تأويلهم ... وتقدست عما يقول الملحد
لما نفوا تنزيهه بقياسهم ... ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية (283).
(2) اجتماع الجيوش (285-286).(1/308)
ويقول: لا سمع ولا بصر ولا ... وجه لربك، ذي الجلال ولا يد
من كان هذا وصفه لإلهه ... فأراه للأصنام سرا يسجد
الحق أثبتها بنص كتابه ... ورسوله، وعدا المنافق يجحد
فمن الذي أولى بأخذ كلامه ... جهم أم الله العلي الأمجد
والصحب لم يتأولوا لسماعها ... فهم إلى التأويل أم هو أرشد
هو مشرك ويظن جهلا أنه ... في نفي أوصاف الإله موحد
يدعو من اتبع الحديث مشبها ... هيهات ليس مشبها من يسند
لكنه يروي الحديث كما أتى ... من غير تأويل ولا يتردد
وإذا العقائد بالضلال تخالفت ... فعقيدة المهدي أحمد أحمد
هي حجة الله المنيرة فاعتصم ... بحبالها لا يلهينك مفسد
إن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى ... ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا
ما زال يقفو راشدا أثر الهدى ... ويروم أسباب النجاة ويجهد
حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة ... ما فوقها لمن ابتغاها مصعد
نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل ... في فتنة نيرانها تتوقد
ما صده ضرب السياط ولا ثنى ... عزماته ماضي الغرار مهند
فهناه حب ليس فيه تعصب ... لكن محبة مخلص يتودد
وودادنا للشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ليس فيه تردد
أبو العباس بن عمر القرطبي (1) (656 هـ)
الفقيه المحدث أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر، أبو العباس ضياء الدين الأنصاري القرطبي. ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وسمع بها من علي بن محمد اليحصبي وأبي محمد بن عبدالله بن سليمان بن حوط الله، وبتلمسان من محمد بن عبدالرحمن التجيبي، وبمصر من أبي إبراهيم عوض بن محمود تقي الدين.
__________
(1) تاريخ الإسلام (حوادث 651-660/ص.224-226) والوافي بالوفيات (7/264-265) والديباج المذهب (1/240) والبداية والنهاية (13/226) وشذرات الذهب (5/273-274).(1/309)
قال الذهبي: كان بارعا في الفقه والعربية، عارفا بالحديث. وقال ابن فرحون: كان من الأئمة المشهورين والعلماء المعروفين، جامعا لمعرفة علوم، منها: علم الحديث والفقه والعربية وغير ذلك. أخذ عنه أبو عبدالله محمد بن أحمد القرطبي المفسر وأبو محمد عبدالمؤمن الدمياطي وأبو الحسن بن يحيى القرشي. له كتاب المفهم في شرح ما أشكل من تلخيص كتاب مسلم وتلخيص صحيح مسلم ومختصر البخاري والإعلام بمعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها.
تنبيه: سقط القرطبي في حمأة التأويل على عادة الأشاعرة، فأول صفة العلو واليد والإصبع وغيرها.
توفي رحمه الله بالإسكندرية في رابع عشر ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في مسألة قراءة القرآن بالألحان: وقد أجاز ذلك أبو حنيفة وجماعة من السلف، وقال بجوازه الشافعي في التحزين وكرهه مالك وأكثر العلماء، ولا يشك في أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يغير التلحين لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو ينبهم معناه بترديد الأصوات، والتقطيعات، وتكرر النغمات، حتى لا يفهم السامع ما يقرؤه القارئ، فهذا مما لا يشك فيه أنه حرام فأما إذا سلم من تلك الأمور، وحذا به حذو أساليب الغناء والتطريب، والتحزين فهو الذي اختلف فيه، فنقول: إن ذلك لا يجوز لوجهين:(1/310)
أحدهما: أن كيفية قراءة القرآن نقلت إلينا نقلاً متواتراً، وليس فيها شيء مما يشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، فينبغي ألا يجوز غيرها، وإنما قلنا ذلك، لأنا قرأنا القرآن على مشايخنا، وهم العدد الكثير، والجم الغفير، ومشايخنا على مشايخهم، وهكذا إلى العصر الكريم، وتلقينا عنهم كيفية قراءته بالمشافهة، فلو كان التلحين فيه مشروعاً لتعلموه من مشايخهم، ولنقلوه عنهم، كما نقلوا عنهم المد والقصر وما بين اللفظين والإمالة والفتح والإدغام والإظهار، وكيفية إخراج الحروف على مخارجها، فإنه لما نقله الخلف عن السلف وعلموا عليه اتصل ذلك لنا وتلقناه عنهم، وهذا جاء مع توفر الدواعي على النقل وكثرة المتعمقين من القراء الغالين في كيفية قراءته، ومع ذلك فلم ينقل عن أحد من القراء المشاهير ولا عن الرواة عنهم شيء من ذلك، فدل ذلك على أن تلحين القرآن ما كان معروفاً عندهم، ولا معمولاً به فيما بينهم، فوجب ألا يعمل به، ولا يعرج عليه، فإنه أمر محدث، "وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1) ، كما قاله - صلى الله عليه وسلم - . (2)
- وقال في رده لشبهة النظر إلى المعنى، وهو أنه قراءته بالألحان ينشط السامع، وتطيب له القراءة فينتفي عنه الملل... قال: إنا لا نسلم أن كل ما استخرج خشوعاً ورقّةً وبكاءً يكون مندوباً إليه ولا مباحاً، فإن ذلك ينتقض بالأوتار وبعض المزامير، والندب في النياحة فإنها تستخرج كل ذلك، وهي محرمة.
سلمنا ذلك، لكنها تجر أيضاً إلى أمور ممنوعة كما سيأتي، وإذا أمكن أن يحصل منها مصلحة ومفسدة، وليست إحداهما راجحة منع الكل اتقاءً للمفسدة، وترجيحاً لجانبها فينبغي أن لا يكون التطريب بالقرآن مشروعاً.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف القاسم بن محمد سنة (106هـ).
(2) كشف القناع (ص.113-114).(1/311)
سلمنا أن كل ما ذكروه من الاستدلال بالنوعين صحيح، لكنهما إنما يفيدان غلبة الظن فإنها ظواهر وقياس، غير أنهما في مقابلة المتواتر المقطوع به، وهو مما قدمناه من أن كيفية القراءة المتواترة ليس فيها تلحين ولا تطريب، فلا يكون ذلك مشروعاً، فإنها زيادة على القدر المتواتر إذ لم يقرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على من نقل القرآن عنه فيكون مقطوعاً بنفيها، وبهذه الطريق قطعنا بنفي صلاة سادسة، وبنفي ركعة رابعة في المغرب، إذ قد نقل كل ذلك بالعمل المتواتر، فليلزم نفي غيره، والله أعلم.
وأما الوجه الثاني: من الوجهين السابقين، فهو أن قراءة القرآن بألحان الشعر تؤدي إلى أمور ممنوعة فيكون ممنوعاً.
أولها: الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك أن التلحين لا بد فيه من ترنين وتمطيط، وذلك يقتضي الزيادة في المدات، والحروف ولا بد فيه من تقطيع وتقصير وذلك يقتضي النقصان.
وثانيها: تشبيه القرآن بالغناء الذي هو لهو ولعب وهزل، وقد نزه الله تعالى القرآن عن كل ذلك بقوله تعالى: إِنَّهُ { لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } (14) (1) .
وثالثها: تشبيهه بالشعر، وقد نزهه الله عن الشعر وأحواله بقوله: إِنَّهُ { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } (2) وبقوله: وَمَا { عَلَّمْنَاهُ } الشِّعْرَ (3) .
ورابعها: أنه يؤدي إلى إبهام معانيه، وإعجامها على سامعيه، فقد سمعنا التلحين له ولم نعرف ما يقولون إلا بعد أن سمعنا كلمة أو كلمتين من القرآن، فعرفنا أن الذي يغنونه قرآن وحاشى المجيز للقراءة بالألحان من الفقهاء أن يجيز تلك القراءة الشنعاء، ولو سمع عمر بن الخطاب تلك القراءة مرة لعلا دماغ قارئها بالدرة، فقد ثبت بتلك المسائل ما ذهب إليه مالك. (4)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) الطارق الآيتان (13و14).
(2) الحاقة الآيتان (40و41).
(3) يس الآية (69).
(4) كشف القناع (ص.118-120).(1/312)
- لقد أفرد الشيخ رحمه الله كتاب 'كشف القناع عن حكم الوجد والسماع' في الرد على هذه الطائفة فقال في خطبته:
فاعلم وفقنا الله وإياك، إن شياطين الإنس والجان، من الزنادقة والبطالين المجان، لم يزالوا يعادون أهل الأديان على مرّ الحقب، وتوالي الأزمان، من غير فتور ولا توان، يلقون الشبه على العلماء، ويستذلون أغمار الضعفاء، فأما العلماء فلا يزالون كاشفين عن تمويههم، ومظهرين تلبيس تضليلهم، فكلما هبت رياح الباطل أسكنها زعازع الدلائل، كل ذلك وفاء بمضمون وَمِمَّنْ { خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } (181) (1) .
__________
(1) الأعراف الآية (181).(1/313)
وأما الضعفاء، فقد تم للشياطين والزنادقة عليهم مرامهم، وأصمتهم سهامهم، وجرت عليهم أحكامهم، فهم يسلكون بهم أيه سلكوا، ويهلكونهم فيمن أهلكوا، حتى وسموهم وهم لا يشعرون بسمة الرعاع الغثر الذين لا يعقلون، فلما تمت عليهم حيل مكرهم، وحصلوا في قبضتهم، وأسرهم، وضحكوا منهم، وسخروا بهم، حتى انتهى الحال بطائفة من المنتمين إلى الخير، والعبادة، والزهد، والإرادة، إلى أن اعتقدوا أن الرقص بالأكمام، والاهتزاز بالأردان، على صلاصل الطارات، وتقطيع المزامير والشبابات، بأرق الأصوات والتلحينات، من أفضل العبادات، وأجلّ القربات، وزعموا أن ذلك يحصل لهم من المشاهدات السنية، والأذواق الحالية، والمكاشفات الإلهية، ما لا يصفه واصف، ولا يدرك كنهه إلا عارف، فجعلوا ذلك شعارهم، ودثارهم، وقطعوا في ذلك ليلهم ونهارهم، واكتفوا بذلك عن المجاهدات والأوراد، بل قالوا: قد وصلنا إلى المطلوب، وظفرنا بالمراد، وسموا ذلك بالسماع، وأتوا في ذلك بما تنفر عنه العقول، وتمجه الأسماع، وهذه كلها نتائج الجهل الصميم، والفهم السقيم، والطبع غير المستقيم، الجانح عن الخيرات والعبادات، الجانح إلى اللهو والشهوات، مع تزيين الشياطين المطيعة وتسويل النفوس المردية، وحيل الزنادقة المضنية، والعصمة من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (1)
__________
(1) كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص.40-42).(1/314)
- وقال في السماع عند الصوفية: فأما الصوفية: فمتقدموهم كانوا يطلقون السماع على فهم يقع لأحدهم بغتة، يكون عنده وجد وغيبة، سواء كان ذلك في نظم أو نثر أو غيرهما، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وأما عند الملقبين اليوم بالصوفية في هذه الديار، فهو عبارة عن مجموع أمور جديرة بالإنكار وذلك أنهم يستدعون المعروفين بصنعة الغناء، وإن كانوا مشتهرين بالمفاسد والفحشاء ومعهم آلات اللهو المعروفة عند أهل البطالة والمجون واللغو، كالمزامير، والشبابات، والصلاصل والطارات، حتى إذا غصت المجالس بسكانها وأحضرت الأطعمة والحلاوات بألوانها، فأكلوا ملء بطونهم حتى لا يجدوا مساغاً لنفسهم ولا لمغنيهم، قد شغلهم استلذاذ تلك المآكل والنهم الذي هو أشغل شاغل عن اتقاء الحرام وخبث المواكل، فاندفع المغنون بتلك الأصوات والنغمات، وحركوا على مطابقته تلك المزامير والآلات، فحينئذٍ يذهب الحياء والوقار، ويختلط الشيوخ بالصغار، ويقوم الحاضرون على قدم، ويطربون طرب من شرب بنت الكرم، مع بنات الكرم فمنهم المشير بالأكمام والمتحرك بالأردان، والراقص رقص المجان، ومنهم من يكون له زعيق وزئير، و¨bخ) { أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (19) (1) ، لاسيما إن كان هناك شاهد، فكلهم له ساجد، وعليه متواجد ولحظ النفس الشهوانية واجد، ولتقوى الله والحياء منه فاقد، فيا للإسلام لهذا الداء العقام، كيف يرتاب أحد من عقلاء الأنام في أن مجموع هذا السماع حرام، وأن حضوره من الذنوب العظام، وإن هؤلاء على القطع والبت، كما قال الله تعالى: سَمَّاعُونَ { لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } (2) لكن من غلبت عليه الأهواء، ركب عميا، وخبط خبط عشواء، ومن منع الأسماع والأبصار، استوى في حقه الليل والنهار، نسأل الله تعالى الوقاية من الخذلان، وكفاية أحوال المبتدعين المجان.
__________
(1) لقمان الآية (19).
(2) المائدة الآية (42).(1/315)
تنبيه: لا يخفى أن هذا السماع الذي وصفناه بجملته لا يختلف في تحريمه وفحشه، لكنا نشرع -إن شاء الله- في بيان أحكام أفراد مسائله على التفصيل، ونذكرها مسألة مسألة، فنبين منها الصحيح من السقيم، والمعوج من المستقيم، والزلال من الآل، والحرام من الحلال، فإنه قد يخالف حكم الجملة حكم الأفراد، ومن الله المعونة والإمداد، والتوفيق إلى الحق والإرشاد. (1)
- وقال: إن الغناء على الصفة التي ذكرناها، يجر إلى ما يجر إليه الخمر من المفاسد فيكون حراماً كالخمر، وإنما قلنا ذلك، لأنه يذهب الحياء والوقار، ويخل بالعقول والفعال وكل ذلك مشاهد لمن يحضره، وذلك أنك ترى الرجل الكبير القدر العظيم المنصب على سمة العقلاء، ووقار الفضلاء وأبهة أهل الدين، وسيماء المتقين، حتى إذا حضره ولابس أهله، زال حياؤه ووقاره، وبدأ تغيره واصفراره، فيبعث بيديه ويجبذ صاحبه ويجره إليه، ويضرب برجليه، ويهز منكبيه، حتى إذا أخذ السماع منه مأخذه وخالطه وأشربه، قام فرقص رقص المجان، وتعاطى حركات المخانيث والنسوان، وربما يصعق ويصيح ويغط، ولا غطيط الذبيح، ويتغشاه غشاوات حتى يظن أنه قد مات، وقد لا يرجع إلى عقله إلا بعد أوقات، وربما ضيع واجبات، أو فرط في صلوات، حتى إذا أفاق من غشيته، وصحا من سكرته، وعاد إلى حياته وهيئته، وذكر له ما كان منه في تلك الحال خجل من ذلك، ولا خجلة من قبيح الفعال، وهذه أفعال الخمر، فيلزم أن يحكم بتحريمه كما يحكم بتحريمها والله أعلم.
__________
(1) كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص.44-46).(1/316)
فإن أنكر منكر أن يكون الأمر كما ذكرنا فليشاهده حتى يصح له ما وصفناه وكيف ينكر ما يشهد به العيان، ويعرفه من المباشرين له كل إنسان وقد مضى على ذلك في وصاياهم الحكماء ونظمه في شعرهم الشعراء، ولذلك قال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل كفعل المسكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا).
وعلى هذا المعنى نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لأنجشة الحادي: "رويدك رفقاً بالقوارير" (1) قال الراوي يعني ضعفة النساء، مع أنه حداء ليس فيه من الطرب ما في الغناء الذي فرضنا الكلام فيه، وقد صرح بعض الشعراء بهذا المعنى فقال وغنى:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم ترفيهم إلا نشاوى ... سروراً والسرور هناك صاح
إذا لبى أخو اللذات فيه ... ينادى اللهو حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئاً ... أرقناها لألحاظ ملاح (2)
__________
(1) أخرجه: أحمد (3/252) والبخاري (10/725/6210) ومسلم (4/1811/2323(70)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) كشف القناع (ص.93-96).(1/317)
- وقال في الوجد والتواجد: التواجد: استدعاء الوجد لضرب من الاختيار، وذلك أنهم إذا اجتمعوا للسماع فمنهم المتكلف حركة ظاهرة مستجلباً بذلك حضور باطنه فيميل يميناً وشمالاً، ويترنح يميناً وشمالاً ويحرك رأسه ومنكبيه، ويضرب صدره، ويصفق بيديه إلى أن يستغرقه -بزعمه- الوجد فيغيب عن الوجد بما يلوح له من المشاهد والشهود، حتى إذا أفاق من غشيته أخذ يخبر بما لاح له في مشاهدته، فمنهم من ينطق بمثل ما منعه الكليم، ومنهم من يصرح بنفس المكالمة والتكليم، ومنهم من يشير إلى سُبْحَانَ { الَّذِي } أَسْرَى (1) ، ويرمز إلى فَأَوْحَى { إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } (10) (2) ، وربما صرح بعضهم بنفي التعداد وقضى بالاتحاد.
قال الشيخ -رحمه الله-: وهذه أفعال مليمة واجتماعات ذميمة، وأحوال صادة عن اعتقادات سقيمة، فما هي إلا أهواء دحيضة وعقول مريضة، ودعوى عريضة ويدلك على ما ذكرناه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا على شيء من تلك الأساليب والطرائق، ولا اقتحموا تلك المهامه والمضايق، ولا نطقوا بتلك العبارات، ولا ارتضوا تلك الإشارات، ولا اجتمعوا لذلك، ولا حوموا على شيء مما هنالك، مع أنهم قدوة العارفين، وخيرة الله من العالمين، الفاهمون عن الله، الآخذون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم له لحمل أمانته وبيان شريعته، فلو كان الأمر على ما اخترعه أصحاب التواجد، لكان أولئك الملأ أول سابق إليه وأول واجد، وتناطقوا بتلك العبارات، وأشاروا بتلك الإشارات، ولفشا ذلك في السابقين المتشرعين، كما فشا في المتأخرين المبتدعين، فلما لم يكن شيء من ذلك، علمنا أنه من المحدثات التي هي بدع وضلالات. (3)
__________
(1) الإسراء الآية (1).
(2) النجم الآية (10).
(3) كشف القناع (ص.153-154).(1/318)
- قال في الفصل الثاني في بيان سماع السلف وأحوالهم عنده: اعلم وقانا الله وإياك بدع المبتدعين، ونزغات الزائغين أن سماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، إنما كان القرآن، فإياه يتدارسون وفيه يتفاوضون، ومعانيه يتفهمون، يستعذبونه في صلواتهم، ويأنسون به في خلواتهم، ويتمسكون به في محاولاتهم ويلجؤون إليه في جميع حالاتهم، فإذا سمعوه أنصتوا إليه كما أمروا، وإذا قرؤوه تدبروا واعتبروا، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتبسوا أحكامه، يتخلقون بأخلاقه، ويعملون على وفاقه، علماً منهم بأنه طريق النجاة ونيل الدرجات، وتلاوته أفضل العبادات، وأجل القربات، فإنه حبل الله المتين، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم، هكذا قاله من عليه الصلاة والسلام والتسليم (1) ، وكان لهم عند سماعه من الأحوال ما قاله ذو الجلال: الَّذِينَ { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (2) (2) وقال تعالى: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (124) (3) وقال تعالى: تَقْشَعِرُّ { مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (4)
__________
(1) حديث الحارث الأعور في فضل القرآن، وهو حديث ضعيف. أخرجه: الترمذي ((5/185-159)2906) وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال". والدارمي (2/435).
(2) الأنفال الآية (2).
(3) التوبة الآية (124).
(4) الزمر الآية (23)..(1/319)
وقال تعالى: أَلَا { بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا } الصَّالِحَاتِ (1) ، وقال تعالى: وَإِذَا { سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (83) (2) وقال تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) } (109) (3) ، وقال تعالى حكاية عن الجن: وَإِذْ { صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } (29) (4) الآية، وقال تعالى: وَإِذَا { قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (204) (5) .
__________
(1) الرعد الآيتان (28و29).
(2) المائدة الآية (83).
(3) الإسراء الآيات (107-109).
(4) الأحقاف الآية (29).
(5) الأعراف الآية (204).(1/320)
وفي الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى وقرأ سمع له أزيز كأزيز المرجل (1) ، وقرأ عليه عبدالله بن مسعود سورة النساء، حتى إذا بلغ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } (41) (2) دمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: حسبك (3) ، وفيه عن حذيفة أنه صلى معه ليلة فقرأ فافتتح البقرة، قال حذيفة فقلت: يركع عند المائة، فمضى فقلت عند المائتين فمضى حتى ختمها ثم افتتح بسورة النساء حتى كملها ثم افتتح سورة آل عمران فختمها يقرأ مترسلاً كلما مر بآية فيه تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوذ. (4)
وفي كتاب أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة بقوله تعالى: إِنْ { تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (118) (5) فما زال يكررها حتى أصبح (6) ، ثم قرأها في صلاة الصبح...
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/25،26) وأبو داود (1/557/904) والنسائي (3/18/1213) وصححه ابن حبان (3/30-31/753) والحاكم (1/264) ووافقه الذهبي من حديث عبدالله بن الشخير.
(2) النساء الآية (41).
(3) تقدم تخريجه في مواقف ابن مسعود رضي الله عنه سنة (32هـ) (في ترجمته).
(4) أخرجه من حديث حذيفة: أحمد (5/384) ومسلم (1/536/772) والنسائي (3/250/1663).
وأخرجه مختصراً: أبو داود ((1/543)871) والترمذي (2/48-49/262-263) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/429/1351).
(5) المائدة الآية (118).
(6) أخرجه: أحمد (5/170و177) والنسائي (2/519/1009) وابن ماجه (1/429/1350) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات". وصححه الحاكم (1/241). ووافقه الذهبي من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(1/321)
وقد ثبت أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سرية فبات ربيئة لأصحابه فقام يصلي فجاءه العدو فرماه بسهم فأصابه فلم يتحرك من موضعه ولم يقطع صلاته، ثم رماه بسهم آخر فلم يقطع صلاته، ثم رماه فلم يقطع حتى أكمل السورة وسلم وأعلم أصحابه فعدلوه على ذلك فقال ما معناه: والله لو أتى على نفسي ما قطعت تلك السورة لأني وجدت حلاوتها. (1)
وقد تقدم من حديث العرباض بن سارية أنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. (2)
وفي حديث حنظلة الأسيدي أنه لقيه أبو بكر وهو يقول: نافق حنظلة، فقال: مالك؟ فقال: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على طرقكم وفي فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة". (3)
فهذا سمعهم وسماعهم، وشرعهم وشراعهم، ليس فيه شيء من اللهو واللعب، ولا بين أحوالهم وأحوال المجان والمخانيث تشابه ولا سبب. (4)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) علقه البخاري (1/371 (الفتح)) ووصله أحمد (3/343-344،359) وأبو داود (1/136-137/198) وصححه ابن حبان (3/375-376/1096) وابن خزيمة (1/24-25/36) والحاكم (1/156-157) ووافقه الذهبي من حديث جابر رضي الله عنه. وانظر صحيح أبي داود (1/357).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ).
(3) تقدم في مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (13هـ).
(4) كشف القناع (ص.179-184).(1/322)
قال القرطبي في المفهم في شرح حديث "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (1) : وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع، أو بالأوصاف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؟ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته، فإن العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: لَيْسَ {
__________
(1) أحمد (6/55) والبخاري (5/134/2457) ومسلم (4/2054/2668) والترمذي (5/198/2976) والنسائي (8/639/5438) عن عائشة رضي الله عنها.(1/323)
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (1) ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك، مع أنك تدرك بها. وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به.
__________
(1) الشورى الآية (11).(1/324)
ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه قبلناه، واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السلف، وما سواها مهاو وتلف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشغل، والدين قد فرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك. وقال الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في علم الكلام. وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وأصل ذلك: أنهم ما قنعوا بما بعثت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرجه الترمذي: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" (1) .
__________
(1) أحمد (5/252؛256) والترمذي (5/353/3253) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/19/48) والحاكم (2/447-448) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.(1/325)
اهـ (1)
موقفه من الخوارج:
قال: في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "سبق الفرث والدم". وبظاهر هذا التشبيه تمسك من حكم بتكفيرهم من أئمتنا. وقد توقف في تكفيرهم كثير من العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "فيتمارى في الفوق" وهذا يقضي بأنه يشك في أمرهم فيتوقف فيهم، وكأن القول الأول أظهر من الحديث. فعلى القول بتكفيرهم: يقاتلون، ويقتلون، وتسبى أموالهم. وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج. وعلى قول من لا يكفرهم: لا يجهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم. ولا تقتل أسراهم ولا تستباح أموالهم. وكل هذا إذا خالفوا المسلمين، وشقوا عصاهم، ونصبوا راية الحرب. فأما من استتر ببدعته منهم، ولم ينصب راية الحرب؛ ولم يخرج عن الجماعة: فهل يقتل بعد الاستتابة، أو لا يقتل؟ وإنما يجتهد في رد بدعته، ورده عنها. اختلف في ذلك. وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله: أن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئا. (2)
__________
(1) المفهم (6/690-692).
(2) المفهم (3/110-111).(1/326)
وقال: وقوله: "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان" هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان دليلا من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك: أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة، وقالوا: نفي لهم بذمتهم. وعدلوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين. وهذا كله من آثار عبادات الجهال الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق. وكفى بذلك: أن مقدمهم رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ونسبه إلى الجور، ولو تبصر لأبصر عن قرب أنه لا يتصور الظلم والجور في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما لا يتصور في حق الله تعالى؛ إذ الموجودات كلها ملك لله تعالى، ولا يستحق أحد عليه حقا، فلا يتصور في حقه شيء من ذلك. والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ حكم الله تعالى، فلا يتصور في حقه من ذلك ما لا يتصور في حق مرسله. ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة إيمانه، وبأنه من أهل الجنة، كعلي وغيره من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ مع ما وقع في الشريعة، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ورسوله لهم، وثنائه على علي والصحابة عموما وخصوصا. (1)
__________
(1) المفهم (3/114-115).(1/327)
وقال: وقوله: "محلقة رؤوسهم" وفي حديث آخر: "سيماهم التحليق" أي: جعلوا ذلك علامة لهم على رفضهم زينة الدنيا. وشعارا ليعرفوا به، كما يفعل البعض من رهبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم. وقد جاء في وصفهم مرفوعا: "سيماهم التسبيد" أي: الحلق يقال: سبد رأسه؛ إذا حلقه. وهذا كله منهم جهل بما يزهد فيه، وما لا يزهد فيه، وابتداع منهم في دين الله تعالى شيئا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه. فلم يرو عن واحد منهم: أنهم اتسموا بذلك، ولا حلقوا رؤوسهم، في غير إحلال، ولا حاجة. (1)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله: ولأهل العلم فيه تأويلان:
أحدهما: أن هذا العموم يراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من أهل الكبائر، ممن يشاء الله تعالى أن يغفر له ابتداء؛ من غير توبة كانت منهم ولا سبب يقتضي ذلك، غير محض كرم الله تعالى وفضله، كما دل عليه قوله تعالى: وَيَغْفِرُ { مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (2) . وهذا على مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للمبتدعة المانعين تَفَضُّلَ الله تعالى بذلك، وهو مذهب مردود بالأدلة القطعية العقلية والنقلية، وبَسْط ذلك في علم الكلام.
وثانيهما: أنهم لا يُحجبون عن الجنة بعد الخروج من النار. وتكون فائدته الإخبار بخلود كل من دخل الجنة فيها، وأنه لا يُحجب عنها، ولا عن شيء من نعيمها، والله تعالى أعلم. (3)
وقال: ومن باب: لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب
هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين: إن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً. (4)
__________
(1) المفهم (3/122).
(2) النساء الآية (48).
(3) المفهم (1/199-200).
(4) المفهم (1/204).(1/328)
وقال أيضا: وقوله في حديث معاذ: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرّمه الله على النار" (1) هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم عن جميع رواته فيما علمته، وقد زاد البخاري فيه: "صدقاً من قلبه" وهي زيادة حسنة تنص على صحة ما تضمّنته الترجمة المتقدمة، وعلى فساد مذهب المرجئة كما قد قدّمناه. (2)
وقال: قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل عن أفضل الأعمال: "الإيمان بالله" يدل على أن الإيمان من جملة الأعمال وهو داخل فيها، وهو إطلاق صحيح لغة وشرعا، فإنه عمل القلب وكسبه، وقد بينا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه منقسم إلى ما يكون عن برهان وعن غير برهان، ولا يُلتفت لخلاف مَن قال: إن الإيمان لا يُسمى عملاً؛ لجهله بما ذكرناه، ولا يخفى أن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال كلها؛ لأنه متقدم عليها، وشرط في صحتها، ولأنه من الصفات المتعلقة، وشرفها بحسب متعلقاتها، ومتعلق الإيمان هو الله تعالى وكتبه ورسله. ولا أشرف من ذلك، فلا أشرف في الأعمال من الإيمان ولا أفضل منه. (3)
__________
(1) أخرجه البخاري (1/300-301/128) ومسلم (1/61/32).
(2) المفهم (1/208).
(3) المفهم (1/275).(1/329)
وقال: قوله: "اعط فلاناً فإنه مؤمن فقال: "أو مسلم"" دليل على صحة ما قدمناه من الفرق بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وأن الإيمان من أعمال الباطن، وأن الإسلام من أعمال الجوارح الظاهرة، وفيه رد على غلاة المرجئة والكرامية؛ حيث حكموا بصحة الإيمان لمن نطق بالشهادتين وإن لم يعتقد بقلبه، وهو قول باطل قطعا؛ لأنه تسويغ للنفاق، وفيه حجة لمن يقول: "أنا مؤمن" بغير استثناء، وهي مسألة اختلف فيها السلف، فمنهم المجيز والمانع، وسبب الخلاف النظر إلى الحال أو إلى المآل، فمن مَنَعَ خاف من حصول شك في الحال أو تزكية، ومن أجاز صرف الاستثناء إلى الاستقبال، وهو غيب في الحال، إذ لا يدري بما يختم له، والصواب: الجواز إذا أمن الشك والتزكية، فإنه تفويض إلى الله تعالى. (1)
موقف السلف من
الوزير ابن العلقمي الرافضي (656 هـ)
__________
(1) المفهم (1/366).(1/330)
جاء في البداية والنهاية: ...وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة، نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير. فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع، الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات. ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هولاكو خان -لعنه الله- ثم أعاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة. فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية، ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هلاكوخان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغي والجواهر والأشياء النفيسة. وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة. وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك. وحسنوا له قتل الخليفة. فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله. ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي.(1/331)
وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزع من أيدي الاسماعيلية، وكان النصير وزير لشمس الشموس ... ثم ذكر الشيخ المصيبة مفصلة والله المستعان. (1)
وجاء في السير: وعمل ابن العلقمي على ترك الجمعات، وأن يبني مدرسة على مذهب الرافضة، فما بلغ أمله، وأقيمت الجمعات. (2)
" التعليق:
هل هناك درس أكبر من هذا الذي لقنه "فضيلة الإمام" ابن العلقمي مع فضيلة نصير الطوسي للمسلمين؟ هل يجوز للمسلمين أن يغفلوا هذه الحقائق التاريخية ويتجاهلونها ويأتي مثقفوهم ويقولون: الشيعة إخواننا والفرق بيننا وبينهم يسير كالفرق بين الشافعي والمالكي؟! وهذا أيضا فيه عقوبة للخليفة كيف يثق بهؤلاء ويقربهم إليه ويعتمدهم ويجعلهم في مرتبة الوزارة ولم يلتفت إلى خبث هذا المجرم وما يفعله بعسكر الخليفة؟
وقد عبر الحافظ ابن كثير عن ذلك فقال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره وأذله بعد العزة القعساء وجعله "حوشكاشا" للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء. (3)
" التعليق:
__________
(1) البداية والنهاية (13/214-215).
(2) السير (23/183).
(3) البداية والنهاية (13/215).(1/332)
سبحان الله! التاريخ تتكرر حوادثه وتتشابه أفعاله وأقواله، ويصرفها الله كيف يشاء، الآن الروافض يخدعون عامة المسلمين في كل البلاد: تعالوا نتعاون على إزالة إسرائيل من القدس. ولغفلة الناس يحسبونهم صادقين، والحقيقة: تعالوا معنا حتى نمحي السنة من وجه الأرض، ونقيم المجوسية متعاونة مع اليهودية والنصرانية والله المستعان.
موقف السلف من
يوسف القميني (657 هـ)
جاء في السير: الشيخ يوسف القميني الموله بدمشق، كان للناس في هذا اعتقاد زائد لما يسمعون من مكاشفته التي تجري على لسانه كما يتم للكاهن سواء في نطقه بالمغيبات. كان يأوي إلى القمامين والمزابل التي هي مأوى الشياطين، ويمشي حافيا، ويكنس الزبل بثيابه النجسة ببوله، ويترنح في مشيه، وله أكمام طوال، ورأسه مكشوف، والصبيان يعبثون به، وكان طويل السكوت، قليل التبسم، يأوي إلى قمين حمام نور الدين، وقد صار باطنه مأوى لقرينه، ويجري فيه مجرى الدم، ويتكلم فيخضع له كل تالف ويعتقد أنه ولي لله، فلا قوة إلا بالله. وقد رأيت غير واحد من هذا النمط الذين زال عقلهم أو نقص يتقلبون في النجاسات، ولا يصلون، ولا يصومون، وبالفحش ينطقون، ولهم كشف كما والله للرهبان كشف وكما للساحر كشف وكما لمن يصرع كشف، وكمالمن يأكل الحية ويدخل النار حال مع ارتكابه للفواحش، فوالله ما ارتبطوا على مسيلمة والأسود إلا لإتيانهم بالمغيبات. (1)
الملك المظفر قُطُز (2) (658 هـ)
__________
(1) السير (23/302-303).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 651-660/ص.352-355) والسير (23/200-201) والبداية والنهاية (13/238-239) وشذرات الذهب (5/293) والنجوم الزاهرة (7/72 وما بعدها).(1/333)
السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبدالله المعزي التركي. كان أكبر مماليك المعز أيبك التركماني ثم صار نائب السلطنة لولده المنصور، وكان بطلا شجاعا، مقداما حازما حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، قال الذهبي: وله اليد البيضاء في جهاد التتار. وكان محببا إلى الرعية، حسن السيرة، ناصحا للإسلام وأهله، بويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. بعدما دهم التتار الشام، فعزل الصبي من الملك (المنصور). وثب عليه بعض الأمراء وهو راجع إلى مصر فقتل في سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة. ولم يكمل سنة في السلطنة رحمه الله.
موقفه من المشركين:(1/334)
قال ابن كثير: والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة، وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو، فأبى إلا أن يناجزه سريعا، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالا شديدا، وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل، فأمر المظفر بضرب عنقه، واستأمن الأشرف صاحب حمص، وكان مع التتار، وقد جعله هولاكو خان نائبا على الشام كله، فأمنه الملك المظفر ورد إليه حمص، وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها، وأطلق سلمية للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان.(1/335)
فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدا، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب، فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها، فاحترق دور كثيرة إلى النصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. (1)
الكامل ناصر الدين محمد بن شهاب الدين (2) (658 هـ)
الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك، المظفر شهاب الدين، غازي ابن السلطان، الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب. تملك ميافارقين وغيرها بعد أبيه سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان شابا عاقلا شجاعا مهيبا محسنا إلى رعيته، مجاهدا غازيا، دينا تقيا، حميد الطريقة. حاصره عسكر هولاكو نحوا من عشرين شهرا. وقتل رحمه الله تعالى على يد اللعين هولاكو -بعد ما سب هولاكو وبصق في وجهه- سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان شديد البأس قوي النفس.
موقفه من المشركين:
__________
(1) البداية (13/234).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 651-660/ص.366-368) والسير (23/201-202) والوافي بالوفيات (4/306-307) وشذرات الذهب (5/295) والنجوم الزاهرة (7/91).(1/336)
جاء في السير عن الشيخ محمود بن عبدالكريم الفارقي قال: سار الكامل إلى قلاع بنواحي آمد فأخذها، ثم نقل إليها أهله، وكان أبي في خدمته، فرحل بنا إلى قلعة منها، فعبرت التتار علينا، فاستنزلوا أهل الملك الكامل بالأمان من قلعة أخرى، وردوا بهم علينا، وأنا صبي مميز، وحاصروا ميافارقين أشهرا، فنزل عليهم الثلج، وهلك بعضهم، وكان الكامل يبرز إليهم ويقاتلهم، وينكي فيهم فهابوه، ثم بنوا عليهم سورا بإزاء البلد بأبرجة، ونفدت الأقوات، حتى كان الرجل يموت فيؤكل، ووقع فيهم الموت، وفتر عنهم التتار وصابروهم، فخرج إليهم غلام أو أكثر، وجلوا للتتار أمر البلد، فما صدقوا، ثم قربوا من السور وبقوا أياما لا يجسرون على الهجوم، فدلى إليهم مملوك للكامل حبالا فطلعوا إلى السور فبقوا أسبوعا لا يجسرون، وبقي بالبلد نحو التسعين بعد ألوف من الناس، فدخلت التتار دار الكامل وأمنوه، وأتوا به هولاكو بالرها، فإذا هو يشرب الخمر، فناول الكامل كأسا فأبى، وقال: هذا حرام، فقال لامرأته: ناوليه أنت، فناولته فأبى، وشتم وبصق -فيما قيل- في وجه هولاكو. وكان الكامل ممن سار قبل ذلك، ورأى القان الكبير، وفي اصطلاحهم من رأى وجه القان لا يقتل، فلما واجه هولاكو بهذا استشاط غضبا وقتله. ثم قال: وكان الكامل شديد البأس، قوي النفس، لم ينقهر للتتار بحيث إنهم أخذوا أولاده من حصنهم، وأتوه بهم إلى تحت سور ميافارقين، وكلموه أن يسلم البلد بالأمان فقال: ما لكم عندي إلا السيف. (1)
العز بن عبدالسلام (2) (660 هـ)
__________
(1) السير (23/201-202).
(2) البداية (13/235-236) وشذرات الذهب (5/301-302) وطبقات الشافعية (5/80).(1/337)
الشيخ عز الدين بن عبدالسلام أبو محمدالسلمي الدمشقي الشافعي، شيخ المذهب، ومفيد أهله، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة. سمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ عبداللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبدالله الرصافي وغيرهم. وسمع منه تلامذته شيخ الإسلام ابن دقيق العيد وهو الذي لقب الشيخ عز الدين سلطان العلماء، والإمام علاء الدين أبو الحين الباجي والشيخ تاج الدين ابن الفركاح والحافظ أبو محمد الدمياطي وغيرهم.
قرأ الأصول على الآمدي وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد. ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة. وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالأشعار مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، وعزل نفسه من القضاء في آخر حياته، وعزله السلطان من الخطابة، فلزم بيته. وبالجملة فشهرته تغني عن الإطناب في وصفه. له مؤلفات عديدة، تظهر عليها آثار الأشعرية والتصوف، منها كتابه قواعد الأحكام وكتاب ملحة الاعتقاد. وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه ذلك، رحم الله الجميع.
توفي رحمه الله بمصر في جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وحضر جنازته الخاص والعام، ولما بلغ السلطان خبر موته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعة لأنه لو أمر الناس فيَّ بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الاعتصام: ونص أيضا عز الدين بن عبدالسلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة. (1)
__________
(1) الاعتصام (1/36).(1/338)
- وجاء في الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة الدمشقي: واتفق أن ولي الخطابة والإمامة بجامع دمشق حرسها الله تعالى في سنة سبع وثلاثين وستمائة، أحق الناس بها يومئذ الفقيه المفتي، ناصر السنة، مظهر الحق؛ أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام أيده الله بحراسة، وقواه على طاعته، فجرى في إحياء السنن وإماتة البدع على عادته، فلما قرب دخول شهر رجب، أظهر للناس أمر صلاة الرغائب، وأنها بدعة منكرة، وأن حديثها كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخطب بذلك على المنبر يوم جمعة، وأعلم الناس أنه لا يصليها، ونهاهم عن صلاتها، ووضع في ذلك جزءا لطيفا سماه 'الترغيب عن صلاة الرغائب'. حذر الناس فيه من ركوب البدع، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرع، وأراد فطام الناس عنها قولا وفعلا، فشق ذلك على العوام، وكثير من المتميزين الطغام، اغترارا منهم بمجرد كونها صلاة -فهي طاعة وقربة، فلماذا ينهى عنها- وركونا إلى ذلك الحديث الباطل، وشق على سلطان البلد وأتباعه إبطالها، فصنف لهم بعض مفتي البلد جزءا في تقريرها، وتحسين حالها، وإلحاقها بالبدع الحسنة من جهة كونها صلاة، ورام نقض رد الجزء في تصنيفه هذا، فرد عليه الفقيه أبو محمد أحسن رد، وبين أنه هو الذي أفتى فيما تقدم بالفتيتين المقدم ذكرهما، فخالف ما كان أفتى به أولا، وجاء بما وافق هوى السلطان، وعوام الزمان، وهو من العلماء الصالحين، والأئمة المفتين ولكن الله تعالى قال: وهو أصدق القائلين: لِنَبْلُوَهُمْ { أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (7) (1) وَلَكِنْ { لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } (2) وَجَعَلْنَا { بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } (20) (3) .اهـ (4)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) الكهف الآية (7).
(2) محمد الآية (4).
(3) الفرقان الآية (20).
(4) الباعث (149).(1/339)
جاء في نقض المنطق عنه قال: ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان، ويعزر فاعله تعزيرا بليغا رادعا. وأما لبس الحلق والدمالج والسلاسل والأغلال، والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة. وشر الأمور محدثاتها، وهي لهم في الدنيا، وهي لباس أهل النار، وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك، ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات، ولا تقبيل القبور، ويعزر فاعله. ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا. والمؤمن لا يكون لعَّانا، وما أقربه من عود اللعنة عليه. قال: ولا تحل الصلاة عند القبور، ولا المشي عليها من الرجال والنساء، ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) .اهـ (2)
تنبيه: هذا الرجل اشتهر بالعلم، وسماه من كتب في ترجمته: سلطان العلماء. وقد أطال ابن السبكي في ترجمته في طبقات الشافعية. غير أنه لم يكن سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات. وله أفعال مع الصوفية تدل على اقتناعه بهم. وكان معروفا بعداوته للحنابلة. وكثير ممن ألف في البدع وتأييدها يعتمد عليه في تقسيم البدع إلى الأحكام الخمسة المعروفة، وهو تقسيم باطل لا معنى له، مصادم لعموم النصوص. وقد رده الشاطبي في الاعتصام وغيره من أهل العلم.
عبد الرزاق أبو محمد الجزري (3) (661 هـ)
__________
(1) سيأتي تخريجه قريبا.
(2) نقض المنطق (14-15).
(3) تذكرة الحفاظ (4/1452-1455) وتاريخ الإسلام (حوادث 661-670/ص.72-74) والبداية والنهاية (13/254) وذيل طبقات الحنابلة (2/274-276).(1/340)
عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الجزري أبو محمد، الإمام الحافظ، مولده برأس عين الخابور سنة تسع وثمانين وخمسمائة. سمع من عبدالعزيز ابن منينا وطبقته، وأبي اليمن الكندي وطبقته، وأبي المجد القزويني وغيرهم، وسمع منه: ولده العدل شمس الدين محمد والدمياطي في معجمه وغير واحد. صنف تفسيرا حسنا روى فيه بأسانيده، وكان إماما محدثا فقيها أديبا شاعرا دينا صالحا وافر الحرمة. ولي مشيخة دار الحديث بالموصل توفي في سنة إحدى وستين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
قال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة والآثار، ويصدع بالسنة عند المخالفين من الرافضة وغيرهم. (1)
أبو البقاء النَّابُلْسِي (2) (663 هـ)
خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو البقاء النابلسي ثم الدمشقي. ولد بنابلس سنة خمس وثمانين وخمسمائة. سمع من بهاء الدين القاسم بن عساكر ومحمد بن الخصيب وحنبل وطائفة. روى عنه الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وأخوه الخطيب شرف الدين، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. كتب وحصل الأصول النفيسة، ونظر في اللغة والعربية، كان إماما متقنا ذكيا فطنا ظريفا، عالما بصناعة الحديث، حافظا لأسماء الرجال، وكان حسن الأخلاق، حلو النادرة صاحب مزاح ونوادر. قال ابن جماعة: أحد المحدثين المشهورين والحفاظ المعروفين، كان خيرا صالحا، حسن الأخلاق، ملازما لقراءة الحديث والنظر في الأسانيد. توفي رحمه الله في سلخ جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(2) تذكرة الحفاظ (4/1447-1448) وتاريخ الإسلام (حوادث 661-670/ص.145-147) وفوات الوفيات (1/403-404) والبداية والنهاية (13/259-260).(1/341)
جاء في المنهاج: وكان من أهل العلم أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسى رحمه الله، سأله بعض الشيعة عن قتال علي الجن، فقال: أنتم معشر الشيعة ليس لكم عقل، أيما أفضل عندكم: عمر أو علي؟ فقالوا: بل علي. فقال: إذا كان الجمهور يروون عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال لعمر: ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك (1) فإذا كان الشيطان يهرب من عمر، فكيف يقاتل عليا؟ (2)
أبو شَامَة الدِّمَشْقِي (3) (665 هـ)
عبدالرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان، أبو شامة المقدسي الأصل، الدمشقي الشافعي الفقيه المقرئ النحوي المؤرخ، صاحب التصانيف، ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة بدمشق، وسمي بأبي شامة لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر. سمع من موفق الدين المقدسي، وداود بن ملاعب، وأحمد بن عبدالله السلمي، وكريمة عز الدين بن عبدالسلام، وطائفة. وسمع منه الشيخ أحمد اللبان، وبرهان الدين الإسكندراني، وشرف الدين الفراوي الخطيب، وجماعة. ختم القرآن وله دون عشر سنين، وأتقن فن القراءة على السخاوي، وله ست عشرة سنة، وسمع الكثير حتى عد في الحفاظ، وكان مع براعته في العلوم متواضعا، تاركا للتكلف، ثقة في النقل؛ وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، ولي مشيخة الإقراء بالتربة الأشرفية، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، ووقف كتبه بخزانة العادلية، وشرط أن لا تخرج، فاحترقت جملة وجرت له محنة في سابع جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة، توفي من جرائها في تاسع عشر رمضان رحمه الله رحمة واسعة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) أحمد (1/171،182،187) والبخاري (6/417/3294) ومسلم (4/1863-1864/2396) والنسائي في عمل اليوم والليلة (231-232/ح207).
(2) منهاج السنة (8/162).
(3) البداية والنهاية (13/264-265) وتذكرة الحفاظ (4/1460) وفوات الوفيات (2/269) وشذرات الذهب (5/318-319) وتاريخ الإسلام (حوادث 661-670/ص.194-197).(1/342)
له كتاب 'الباعث على إنكار البدع والحوادث'، وهو وإن كان فيه بعض ما يخالف عقيدة السلف كقوله بالمولد. فهو كتاب يمكن أن يستفيد منه السلفي في ذم البدع.
وقد طبع الكتاب مرارا.
- قال فيه: وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فمن بعدهم أهل زمانهم البدع ومحدثات الأمور، وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع ما يرتفع معه النزاع. قال الله تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (1) .
وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (153) (2) . وهذا نص فيما نحن فيه. (3)
- وقال: ومن اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- إنكار المنكر، وإحياء السنن، وإماتة البدع، ففي ذلك أفضل أجر، وأجمل ذكر. (4)
__________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) الباعث (53).
(4) الباعث (76).(1/343)
- وقال: فقد بان ووضح -بتوفيق الله تعالى- صحة إنكار من أنكر شيئا من هذه البدع، وإن كان صلاة ومسجدا، ولا مبالاة بشناعة جاهل يقول: كيف يؤمر بتبطيل صلاة وتخريب مسجد، فما وازنه إلا وزان من يقول: كيف يؤمر بتخريب مسجد، إذا سمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرب مسجد الضرار (1) ، ومن يقول كيف ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإذا سمع حديث علي رضي الله عنه المخرج في الصحيح: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ القرآن في الركوع والسجود (2) .
فاتباع السنة أولى من اقتحام البدعة، وإن كانت صلاة في الصورة، فبركة اتباع السنة أكثر فائدة، وأعظم أجرا. (3)
- وقال: ومما ابتدع وروي به، واستميلت قلوب الجهال والعوام بسببه: التماوت في المشي والكلام، حتى صار ذلك شعارا لمن يريد أن يظن فيه التنسك والتورع، فليعلم أن الدين خلاف ذلك، وهو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم السلف الصالح. (4)
محمد بن أحمد القرطبي (5) (671 هـ)
محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي المالكي أبو عبدالله القرطبي -صاحب التفسير- كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعينهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف. سمع من ابن رواج، ومن ابن الجميزي، والشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي شارح مسلم ولم يتمه. وروى عنه ولده شهاب الدين أحمد.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور لابن اسحاق وابن مردويه من حديث أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وابن عباس.
(2) مسلم (1/348/480) وأبو داود (4/322-323/4044و4045) والترمذي (2/49-50/264) والنسائي (2/531-532/1039-1043).
(3) الباعث (214-215).
(4) الباعث (245).
(5) الديباج المذهب (2/308-309) ونفح الطيب (2/210-212) وشذرات الذهب (5/335) والوافي بالوفيات (2/122-123) وطبقات المفسرين للداودي (2/65-66).(1/344)
قال الذهبي: إمام متقن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته، وكثرة اطلاعه ووفور فضله. وكان القرطبي رحمه الله أشعري العقيدة في باب الأسماء والصفات، وعمدته في ذلك كبار الأشاعرة كالجويني وابن الباقلاني والرازي وغيرهم.
من مؤلفاته: الجامع لأحكام القرآن، الكتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى، التذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأمور الآخرة وغيرها. توفي في شوال من سنة إحدى وسبعين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في الجامع لأحكام القرآن: الثامنة: اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع كما قاله مَن بَعُد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة: الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع.(1/345)
وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن سلمة (1) الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: "اختر منهن أربعا وفارق سائرهن" (2) . في كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اختر منهن أربعا" (3) . (4)
وقال في شرح قوله تعالى: مُحَمَّدٌ { رَسُولُ اللَّهِ } الآية (5) من سورة الفتح: الخامسة: روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأ مالك هذه الآية: مُحَمَّدٌ { رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ } مَعَهُ حتى بلغ يُعْجِبُ { الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } (6) . فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية؛ ذكره الخطيب أبو بكر.
__________
(1) في الاصل: بن أمية والصواب ما أثبتناه.
(2) مالك (2/586/76) عن ابن شهاب مرسلا. ووصله أحمد (2/13،14) والترمذي (3/435/1128) وابن ماجه (1/628/1953)، وعزاه الحافظ في التلخيص للنسائي (3/169)، وصححه ابن حبان (9/465-466/4157).
(3) أبو داود (2/677/2241) وابن ماجه (1/628/1952) وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله بمجموع طرقه. انظر الإرواء (6/295-296).
(4) الجامع لأحكام القرآن (5/13).
(5) رقم (29).
(6) الفتح الآية (29).(1/346)
قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ { رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى } الْكُفَّارِ (1) الآية. وقال: * { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ } الشَّجَرَةِ (2) إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى: رِجَالٌ { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } (3) . وقال: لِلْفُقَرَاءِ { الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ } وَرِضْوَانًا إلى قوله: أُولَئِكَ { هُمُ الصَّادِقُونَ } (8) (4) ، ثم قال عزّ من قائل: وَالَّذِينَ { تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ } قَبْلِهِمْ إلى قوله: فَأُولَئِكَ { هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (9) (5) . وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم" وقال: "لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه". قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مدّ أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد؛ فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعُشْرِ عَشِير، وللخُمس خَميس، وللتسع تَسيع، وللثّمن ثَمين، وللسّبع سَبيع، وللسّدس سَدِيس، وللرّبع رَبيع، ولم تقل العرب للثّلث ثليث...
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) الفتح الآية (18).
(3) الأحزاب الآية (23).
(4) الحشر الآية (8).
(5) الحشر الآية (9).(1/347)
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة؛ فحذارِ من الوقوع في أحد منهم، كما فعل مَن طعن في الدين فقال: إن المُعوِّذتين ليستا من القرآن، وما صحّ حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطّرحة. وهذا ردّ لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطالٌ لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجُهَني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً. فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومتى ألحِق واحد منهم تكذيباً فقد سُبّ؛ لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظمُ من الكذب، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سبّ أصحابه؛ فالمكذّب لأصغرهم -ولا صغير فيهم- داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وألزمها كلَّ مَن سبّ واحداً من أصحابه أو طعن عليه.(1/348)
وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعَلَت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يُقبل هذا الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن أبا هريرة مُتَّهم فيما يرويه، وصرّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مُغْضِب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب؛ فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنّط وتكفّن فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيّك، وأجللت نبيّك أن يطعن على أصحابه، فسَلِّمْني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسيّ من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النِّطْع؛ فلما بَصُرَ بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقّاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به؛ إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كلّه مردود غير مقبول؛ فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله! وأمر لي بعشرة آلاف درهم.(1/349)
قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم؛ فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك؛ ثم تغيّرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء؛ فلا بدّ من البحث. وهذا مردود؛ فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعليّ وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكّاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: مَغْفِرَةً { وَأَجْرًا عَظِيمًا } (29) (1) . وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القُدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيّهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم؛ إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة الحجرات مبيّنة إن شاء الله تعالى.
علي بن وضاح الشهراياني (2) (672 هـ)
كمال الدين أبو الحسن بن أبي بكر علي بن محمد بن محمد بن أبي سعيد بن وضاح الشهراياني، نزيل بغداد، الفقيه الحنبلي. ولد في رجب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بشهرايان. سمع الصحيحين وغيرهما من عدة شيوخ، وسمع منه ابن حصين الفخري، والحافظ الدمياطي، وأبو الحسن البندنيجي، وإبراهيم الجعبري المقرئ، وخلق كثير.
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) شذرات الذهب (5/336) وذيل طبقات الحنابلة (2/282).(1/350)
قال ابن رجب: عني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الحسن، وسمع الكتب الكبار، واشتغل بالعلم ببغداد، وتفقه وبرع في العربية، وشارك في فنون من العلم. وقال الإمام صفي الدين عبدالمؤمن بن عبدالحق: كان شيخا صالحا، منور الوجه، كيسا، طيب الأخلاق، سمح النفس، صحب المشايخ والصالحين، وكان عالما بالفقه والفرائض والأحاديث. وله إجازات من جماعة كثيرين، منهم الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وأبو محمد بن عمرو بن الصلاح وغيرهما.
توفي رحمه الله، ليلة الجمعة ثالث صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
'الدليل الواضح في اقتفاء نهج السلف الصالح'.
ذكره في ذيل الطبقات (1) .
موقفه من المشركين:
من آثاره: 'الرد على أهل الإلحاد'. (2)
الإمام النووي (3) (676 هـ)
الإمام الحافظ محيي الدين يحيى بن شرف بن مرا بن حسن، أبو زكريا الحزامي النووي، ذو التصانيف النافعة. ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة بقرية نوى من أعمال دمشق بالشام. قال الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي: رأيت الشيخ محيي الدين -وهو ابن عشر سنين- بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن.
__________
(1) 4/283).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (4/283).
(3) السير (17/321-324)[دار الفكر]، تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين لابن العطار، المنهل العذب الروي في ترجمة الإمام النووي للسخاوي، المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي للسيوطي، البداية والنهاية (13/294) وشذرات الذهب (5/354-355). وانظر الردود والتعقبات للشيخ مشهور سلمان.(1/351)
حفظ القرآن وقد ناهز الاحتلام، وحفظ كتاب التنبيه وشيئا من المهذب، وكلاهما للشيرازي. أخذ عن الشيخ إسحاق بن أحمد المغربي، وعبدالرحمن بن نوح المقدسي، وأبي حفص عمر بن أسعد الرَّبعَي، والشيخ أبي البقاء النابلسي وغيرهم. قال عنه الذهبي: أكب على طلب العلم ليلا ونهارا اشتغالا، فضرب به المثل، وهجر النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته إلا بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة، أو التردد إلى الشيوخ، وترك كل رفاهية وتنعم، مع تقوى وقناعة وورع وحسن مراقبة لله في السر والعلانية.
وذكر الشيخ أبو الحسن علي بن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنتي عشر درسا على المشايخ، شرحا وتصحيحا، درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جني في النحو، ودرسا في إصلاح المنطق لابن السكيت في اللغة، ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين. وكان يعلق جميع ما يتعلق بها من شرح لمشكل، وتوضيح لعبارة، وضبط لغة وبيان لغريب.
تخرج به جماعة من العلماء منهم: أبو عبدالله محمد بن أبي إسحاق الكناني، وابن النقيب، وأحمد بن فرح الإشبيلي، وسليمان بن هلال الجعفري وغيرهم. درس في المدرسة الإقبالية نيابة عن الشيخ أحمد بن خلكان، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية حتى وفاته سنة ست وسبعين وستمائة للهجرة.
من مؤلفاته رحمه الله شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، والمجموع شرح المهذب، والأذكار، وروضة الطالبين وغيرها.
تنبيه: أول النووي رحمه الله بعض الصفات لا سيما الفعلية منها، وفوض معناها، ونسب هذا القول إلى جمهور السلف، وخاصة في شرحه على صحيح مسلم. لذلك قال الذهبي: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، وإمراراها كما جاءت، وربما تأول قليلا في شرح مسلم. وقال السخاوي: وصرح اليافعي والتاج السبكي رحمهما الله أنه أشعري.
موقفه من الخوارج:(1/352)
قال رحمه الله: قولها: (حرورية أنت) (1) هو بفتح المهملة وضم الراء الأولى وهي: نسبة الى حروراء، وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعاني: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به قال الهروى تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها. فمعنى قول عائشة رضي الله عنها، أن طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض، وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة هو استفهام إنكار، أي هذه طريقة الحرورية، وبئست الطريقة. (2)
وقال: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : "والتارك لدينه المفارق للجماعة" (3) فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، وكذا الخوارج، والله أعلم. (4)
وقال أيضا: قوله: "نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ" (5) فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين، وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي التحكيم وأقام الحجة عليهم. (6)
وقال: الباب الثاني: في قتال البغاة.
__________
(1) تقدم ضمن مواقف عائشة رضي الله عنها سنة (57هـ).
(2) شرح مسلم (4/24).
(3) تقدم ضمن مواقف الأوزاعي سنة (157هـ).
(4) شرح مسلم (11/137).
(5) تقدم ضمن مواقف سعد بن معاذ رضي الله عنه سنة (5هـ).
(6) شرح مسلم (12/79).(1/353)
وفيه أطراف: الأول في صفتهم. الباغي في اصطلاح العلماء: هو المخالف للإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء و(3) عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة قبلت توبته، وترك قتاله، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة، ثم أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وبأن الباغين ليسوا بفسقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل، ومنهم من يسميهم عصاة، ولا يسميهم فسقة ويقول: ليس كل معصية بفسق، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الإمام، وفي مخالفته كحديث "من حمل علينا السلاح فليس منا" (1) وحديث "من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" (2) ، وحديث "من خرج من الطاعة والجماعة فميتته جاهلية" (3) كلها محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الإمام بلا عذر ولا تأويل.
__________
(1) تقدم ضمن مواقف عوف بن أبي جميلة سنة (146هـ).
(2) أخرجه مسلم (3/1478/1851).
(3) تقدم ضمن مواقف القاضي عبدالوهاب سنة (422هـ).(1/354)
فصل: الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد، والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة، فنصف البغاة بما يتميزون به، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين. أما البغاة فتعتبر فيهم خصلتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام، أو منع الحق المتوجه عليهم، فلو خرج قوم عن الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل، سواء كان حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين، عنادا أو مكابرة، ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة، وكذا المرتدون، ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنونا فهو معتبر، وإن كان بطلانه مقطوعا به فوجهان: أوفقهما لإطلاق الأكثرين أنه لا يعتبر كتأويل المرتدين وشبهتهم، والثاني: يعتبر، ويكفي تغليظهم فيه، وقد يغلط الإنسان في القطعيات.
فرع: الخوارج صنف من المبتدعة، يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر وخلد في النار، ويطعنون لذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات، قال الشافعي وجماهير الأصحاب رضي الله عنهم: لو أظهر قوم رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات، وكفروا الإمام ومن معه، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الإمام لم يقتلوا، ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا، وإن عرضوا ففي تعزيرهم وجهان:
قلت: أصحهما لا يعزرون قاله الجرجاني، وقطع به صاحب التنبيه. والله أعلم، ولو بعث الإمام إليهم واليا فقتلوه فعليهم القصاص. وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطريق لأنه شهر السلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق؟ وجهان، قلت: أصحهما لا يتحتم، والله أعلم. (1)
موقفه من المرجئة:
__________
(1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/50-51).(1/355)
قال رحمه الله: أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا، وأن الأعمال من الإيمان أم لا، وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه.
ثم ساق أقوال الخطابي والبغوي وابن بطال وابن الصلاح وغيرهم، ثم قال: فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً. قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها. قالوا: وفي هذا توفيق بين ظاهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء، وإن كان ظاهراً حسناً فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال. وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم، فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إنكاره ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل. والله أعلم.(1/356)
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الله تعالى: وَمَا { كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (1) أجمعوا على أن المراد صلاتكم، وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات، والله أعلم. (2)
طه بن إبراهيم الهمذاني (3) (677 هـ)
طه بن إبراهيم بن أبي بكر، الشيخ جمال الدين أبو محمد الإربلي، الفقيه الشافعي. ولد بإربل سنة بضع وتسعين وخمسمائة. سمع محمد بن عمار وغيره، وروى عنه الدمياطي والدواداري وغيرهما، كان أديبا فاضلا شاعرا، ومات في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وستمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن كثير: من إنشاده:
دع النجوم لطرقي يعيش بها إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك
عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا (4)
عبد الساتر بن عبدالحميد الحنبلي (5) (679 هـ)
الإمام الفقيه تقي الدين أبو الفضل عبدالساتر بن عبدالحميد بن محمد ابن ماضي المقدسي الحنبلي. ولد سنة ثمان وستمائة. سمع موسى بن عبدالقادر، والشيخ الموفق وجماعة. روى عنه ابن الخباز وخطيب أفرى علي الكتاني.
قال الإمام الذهبي: رأيت له مصنفا في الصفات غالبه جيد. وقال: تلطخ بالتجسيم وكان بريئا منه. لكنه كان لهجا بإيراد الصفات، والتحرش بالخصوم، ومن صير ذلك ديدنه رمي بالتجسيم، كما أن من تتبع غرائب الحديث كذب.
يحكي عنه المبغضون أشياء لا تصح نعوذ بالله منها. مات سنة تسع وسبعين وستمائة، عن نيف وسبعين سنة.
موقفه من الجهمية:
__________
(1) البقرة الآية (143).
(2) شرح مسلم (1/129-133).
(3) فوات الوفيات (2/130-131) والبداية والنهاية (13/297-298) والنجوم الزاهرة (7/281) وشذرات الذهب (5/357-358).
(4) البداية (13/297).
(5) السير (17/313) والعبر (2/310) وشذرات الذهب (5/363-364).(1/357)
قال الذهبي: حدثني الشيخ إبراهيم بن بركات أن بعض الأشعرية قال لعبد الساتر: يا شيخ أنت تقول إن الله استوى على العرش؟ فقال: لا والله، لكن الله تعالى قاله، والرسول عليه السلام بلغه، وأنا صدقته وأنت رددته، فبهت ذلك الرجل. (1)
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: عني بالسنة. وجمع فيها. وناظر الخصوم وكفرهم. وكان صاحب جرأة، وتحرق على الأشعرية، فرموه بالتجسيم. قال الذهبي: ورأيت له مصنفا في الصفات. فلم أر به بأسا. (2)
الصاحب علاء الدين صاحب الديوان (3) (681 هـ)
عَطَا مَلِك بن محمد بهاء الدين بن محمد الجويني الخراساني، علاء الدين، صاحب ديوان بغداد. أخو الصاحب والوزير شمس الدين. تأدب بخراسان، ولزم النظم والنثر، والمكارم والسؤدد، وكان فيه عدل ورفق بالرعية حيث أسقط المغارم عن الفلاحين، ولمَّ شعث الناس، وعُمِّرت بغداد به، وكان له إحسان إلى الفقهاء والفضلاء. وقيل في كرمه وجوده الشيء الكثير حتى قال بعض الناس: كانت بغداد أيام الصاحب علاء الدين أجود ما كانت أيام الخليفة. ولما عاد منكوتمر (من أبناء هولاكوخان) مهزوما من الشام، حُمِل علاء الدين معهم إلى همذان، وهناك مات أبغا ومنكوتمر واختفى الأخوان علاء الدين وشمس الدين، فتوفي علاء الدين بعد الخفية بشهر سنة إحدى وثمانين وستمائة وقيل سنة ثلاث وثمانين، ثم ظفر أرغون (الملك الجديد) بالوزير شمس الدين فقتله.
موقفه من المشركين:
__________
(1) السير (17/313).
(2) ذيل الطبقات (2/299).
(3) السير (الجزء المفقود/333-335) وفوات الوفيات (2/452-453) والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (2/156و164) والعبر (2/318) وشذرات الذهب (5/382-383).(1/358)
- قال ابن كثير: وفيها -أي سنة ستة وستين وستمائة- قتل الصاحبُ علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية، حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب، فقال ابن الخشكري: يا مولانا اسمع شيئا جديدا، وأعرض عن شيء له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لإنسان معه: استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنهم، ثم قال انزعوا عنه ثيابه، فسلبوها وهو يخاصمهم ويقول: إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال: اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه. (1)
- وقال أيضا: وفيها -أي سنة اثنتين وسبعين وستمائة- فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شابا من أولاد التجار يقال له لي قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه والإشارات لابن سينا، ونظر في النجوم، ثم ادعى أنه عيسى بن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيا، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيرا، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه. (2)
محمد بن أحمد القَسْطَلاَنِي (3) (686 هـ)
__________
(1) البداية (13/267).
(2) البداية (13/281).
(3) الوافي بالوفيات (2/132-134) وفوات الوفيات (3/310-312) والبداية والنهاية (13/328) وشذرات الذهب (5/397).(1/359)
محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبدالله بن ميمون، الإمام قطب الدين القسطلاني أبو بكر التَّوْزَرِي الأصل، المصري، ثم المكي، ثم المالكي الشافعي. ولد بمصر سنة أربع عشرة وستمائة. وسمع من ابن البناء، وابن الزبيدي ومحمد بن نصر بن الحصري، وطائفة كثيرة. وروى عنه الدمياطي، والمزي، والبرزالي، وخلق. كان شيخا عالما زاهدا عابدا، كريم النفس، كثير الإيثار، حسن الأخلاق، قليل المثال، ولي مشيخة الكاملية إلى أن مات رحمه الله سنة ست وثمانين وستمائة.
موقفه من المشركين:
ذكر شيخ الإسلام عن أبي الحسن علي بن قرباص: أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فوجده يصنف كتابا. فقال: ما هذا؟ فقال: هذا في الرد على ابن سبعين، وابن الفارض وأبي الحسن الجزلي، والعفيف التلمساني. (1)
ابن النفيس علي بن أبي الحزم (2) (687 هـ)
إمام الطب علاء الدين بن أبي الحزم بن النفيس القرشي الدمشقي الطبيب صاحب التصانيف. ولد بدمشق واشتغل على المهذب الدخوار شيخ الأطباء. وساد أهل زمانه، وكان لا يضاهى ولا يجارى في هذا الشأن استبحارا واستكثارا واستنباطا واستحضارا. ذكره الإمام أبو حيان فقال: كان يصنف من صدره من غير مراجعة. قرأت عليه جملة من الهداية وكان يقررها أحسن تقرير، وصنف في الفقه وأصوله وفي العربية وفي الحديث وعلم البيان.
قيل: أشير عليه أن يتداوي بخمر فقال: لا ألقى الله وفي بطني منه شيء. توفي سنة سبع وثمانين وستمائة.
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام: كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف.
__________
(1) الفتاوى (2/243).
(2) السير (17/238-239) والنجوم الزاهرة (7/377) والسلوك (2/209) والشذرات (5/401) والبداية والنهاية (13/331) والعبر (2/325).(1/360)
قال ابن تيمية عقيبه: يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة. (1)
إبراهيم بن معضاد (2) (687 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد الجعبري الزاهد الواعظ المذكر. سمع الحديث من أبي الحسن السخاوي بالشام، وقدم القاهرة، وحدث بها فسمع منه أبو حيان شيخ ابن عماد الحنبلي.
كان لكلامه وقع في القلوب لصدقه وإخلاصه وصدعه بالحق. مات سنة سبع وثمانين وستمائة عن سبع وثمانين سنة وشهر.
موقفه من الصوفية:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان الشيخ إبراهيم بن معضاد يقول -لمن رآه من هؤلاء كاليونسية والأحمدية- يا خنازير. يا أبناء الخنازير. ما أرى لله ورسوله عندكم رائحة بَلْ { يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } (52) (3) كل منهم يريد أن يحدثه قلبه عن ربه فيأخذ عن الله بلا واسطة الرسول وَإِذَا { جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } (4) .اهـ (5)
الأمير نوروز (6) (696 هـ)
نوروز نائب القان غازان محمود.كان دينا مسلما عالي الهمة، وهو الذي اجتهد وحرص وبالغ في أمر غازان حتى أسلم وملكه البلاد. ثم إنه وقع بينهما ما وقع مما أدى إلى قتل الأمير نوروز رحمه الله سنة ست وتسعين وستمائة.
موقفه من المشركين:
__________
(1) درء التعارض (1/203).
(2) العبر (2/325) وشذرات الذهب (5/399-400).
(3) المدثر الآية (52).
(4) الأنعام الآية (124).
(5) مجموع الفتاوى (13/224).
(6) أعيان العصر (4/2134-2135).(1/361)
قال ابن تيمية: كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله، ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام، والتزم له أن ينصره إذا أسلم، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم، وهدم البذخانات، وكسر الأصنام، ومزق سدنتها كل ممزق، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم. (1)
هبة الله القِفْطِي (2) (697 هـ)
القاضي أبو القاسم بهاء الدين هبة الله بن عبدالله بن سيد الكل القفطي نسبة إلى فقط بلد بصعيد مصر، واختلف في مولده فقيل سنة ستمائة أو إحدى وستمائة، وقيل في أواخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ولعل الأقرب إحدى وستمائة -كما في طبقات الشافعية-.
سمع من الشيخ مجد الدين القشيري، والإمام شمس الدين الأصبهاني، والفقيه أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، وغيرهم، وسمع منه تقي الدين ابن دقيق العيد، والدشناوي، وطلحة بن تقي الدين القشيري وغيرهم.
برع في الفقه والأصول والنحو والفرائض والجبر والمقابلة والحديث وانتفع به الناس، وتخرجت به الطلبة، وولي قضاء أسنا وتدريس المدرسة المعزية بها، وترك القضاء أخيرا، واستمر على العلم والعبادة إلى أن توفي رحمه الله بأسنا سنة سبع وتسعين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في شذرات الذهب: وولى قضاء أسنا، وتدريس المدرسة المعزية بها، وكانت أسنا مشحونة بالروافض، فقام في نصرة السنة وأصلح الله به خلقا، وهمت الروافض بقتله فحماه الله منهم. (3)
وله من الآثار:
1- 'النصائح المفترضة في فضائح الرافضة'.
المصدر: كشف الظنون (4) وطبقات الشافعية لابن السبكي (5) .
__________
(1) المنهاج (3/447-448).
(2) شذرات الذهب (5/439) طبقات الشافعية الكبرى (5/163) وكشف الظنون (2/1955).
(3) شذرات الذهب (5/439-440).
(4) 2/1955).
(5) 5/164).(1/362)
2- 'الأنباء المستطابة في فضائل الصحابة والقرابة'.
المصدر: كشف الظنون (1) وطبقات الشافعية لابن السبكي (2) .
الدباغ القيرواني (3) (699 هـ)
عبدالرحمن بن محمد بن علي، أبو زيد الأنصاري الأسيدي القيرواني المعروف بالدباغ. ولد سنة خمس وستمائة. أخذ عن أعلام منهم: والده، وأبو عبدالله المعروف بالحنفي، وعن أبي عمر عثمان بن سفيان المعروف بابن شقر، وأبي المكارم محمد بن أحمد بن يوسف بن موسى، وغيرهم. وهم أكثر من ثمانين شيخا، وله برنامج فيه أسماؤهم وما روى عنهم.
قال العبدري في رحلته: لقيته يوم ورودنا القيروان، فرأيت شيخا زكيا حصيفا، ذا سمت وهيئة وسكون ظاهر، محبا لأهل العلم، حسن الرجاء، بر اللقاء، لم يؤثر الكبر في جسمه على علو سنه، ولا تغير شيء من ذهنه وحواسه.
له من المؤلفات: 'معالم الإيمان وروضات الرضوان في مناقب المشهورين من صلحاء القيروان'، وتاريخ ملوك الإسلام، وجلاء الأفكار في مناقب الأنصار وغيرها.
توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين وستمائة عن أربع وتسعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) 1/171).
(2) 5/164).
(3) تذكرة الحفاظ (4/1489) وشجرة النور الزكية (1/193) والحال السندسية في الأخبار التونسية (1/249-256) والأعلام للزركلي (3/329).(1/363)
قال في معالم الإيمان: وأما فضل القيروان عموما فمعلوم على تعاقب الزمان، متداول بين الأمم لا يختلف فيه اثنان، ناهيك من قوم سلفهم الأول أفاضل الصحابة والتابعين الذين فتح الله بهم أقطار المغارب، وجالت في أرجائه منهم أفضل الجيوش والكتائب، وعلى أيديهم أسلم سائره، وانتصفت من طائفة الكفر جنود الحق وعساكره، وأما من جاء بعدهم فعلماء الدين، والقدوة لسائر المسلمين، مصابيح الظلام، وأئمة الاقتداء، وهم الذين كانت تشد إليهم الإبل، وبالجملة فالذي كان أهل القيروان عليه قديما من قوة الإيمان بالله، والانتصار للحق، والصبر على الأذى في الله، والجهاد لإعزاز الدين، والقيام بالرد على أهل الأهواء بالدلائل القاطعة. والحجج الدامغة لتثبيت عقائد عامة الموحدين، فقد ناضلوا بالسيوف، وجادلوا باللسان في تقرير الدين وتثبيت قواعد اليقين، فذلك كله شيء لا يسعه ديوان، ولا يمليه لسان، قد امتحنوا باستيلاء الخوارج عليهم من الصفرية والإباضية، وكذلك امتحنوا بخلق القرآن في زمن الواثق، وعزم محمد بن الأغلب على قتل محمد ابن سعيد، فما زالوا على اعتقاد أهل السنة، وصبروا على الأذى في دين الله وما زادهم إلا يقينا وبصيرة في دينهم، ولما استولى العبيديون على إفريقية وانضافت إليهم طوائف كثيرة من أهل الشيع الغالبة، قدموا عليهم من البلاد متوسلين إليهم بحب أهل البيت والتعصب لهم، حتى ولوهم الولايات ورفعوا منازلهم، ثم أظهروا مذهبهم الفاسد في سب الصحابة رضوان الله عليهم وتبديل الشرائع والإضرار بأهل السنة، مثل محمد بن عمر المروزي لعنه الله، وعبدالله بن محمد الكاتب، ومحمد بن أبي سعيد، حتى كشف الله أستارهم فقتلوا بالعذاب،وبعد ذلك هجم أهل القيروان على هؤلاء الأشرار بعد ما تولى المعز بن باديس، فقتلوهم عن آخرهم وطهر الله القيروان من رجسهم والحمد لله رب العالمين.(1/364)
ولم يزل أهل القيروان في جهاد مع الفرق الضالة والفئة المارقة، ولم يزل الشيخ الأوحد أبو عثمان سعيد بن الحداد، وأبو محمد عبدالله بن إسحاق التبان، يناظران على مذهب أهل السنة ويرون ذلك من أعظم الجهاد، حتى أخمد الله نارهم، وقل عددهم، وظهر حزب الحق،وأعلا الله كلمته، والحمد لله رب العالمين. (1)
أبو محمد ابن أبي جمرة (2) (699 هـ)
عبدالله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، أبو محمد المحدث الراوية المقرئ. أخذ عن جماعة منهم أبو الحسن الزيات، وأخذ عنه صاحب المدخل ابن الحاج.
له جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري، وشرحه بهجة النفوس.
قال عنه ابن كثير: كان قوالا بالحق، أمارا بالمعروف، ونهاء عن المنكر.
وله ميل إلى التصوف واضح خصوصا في كتابه بهجة النفوس.
توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين وستمائة هجرية، وقيل سنة خمس وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) معالم الإيمان (1/24-25).
(2) البداية والنهاية (13/366) وشجرة النور الزكية (1/199) والأعلام للزركلي (4/89).(1/365)
قال في كتابه 'بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها'، وهو شرح مختصر صحيح البخاري المسمى جمع النهاية في بدء الخير والغاية -ويظهر من خلال هذا الشرح صوفية الرجل- وله كلمات في الذب عن السنة وذم البدعة، منها ما قاله عند شرح حديث: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض" (1) : ويؤخذ بقوة الكلام من مفهوم هذا الحديث الندب على توفية أفعال البر على اختلاف أنواعها من فرض وسنة وندب إلى غير ذلك من أنواعه، إذ أن بذلك يحصل للعبد بفضل الله هذه المنزلة الرفيعة ويفهم منه أيضا كثرة الحذر وشدة النهي عن المعاصي والبدع التي بها يحرم العبد هذه المنزلة الجليلة. (2)
أحمد بن إبراهيم (3) (708 هـ)
الحافظ أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبو جعفر الأندلسي النحوي. ولد سنة سبع وعشرين وستمائة. وتلا بالسبع على أبي الحسن الشاري، وسمع منه ومن إسحاق بن إبراهيم الطوسي والمؤرخ أحمد بن يوسف بن فرتون وأبي الوليد إسماعيل بن يحيى الأزدي وأبي الحسين بن السراج وغيرهم، وبه تخرج أبو حيان. قال ابن ناصر الدين: كان نحويا حافظا علامة، أستاذ القراء ثقة عمدة. وقال الكمال جعفر:كان ثقة قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قامعا لأهل البدع، وله مع ملوك عصره وقائع وكان معظما عند الخاصة والعامة، حسن التعلم ناصحا. توفي رحمه الله سنة ثمان وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
__________
(1) أحمد (2/514) والبخاري (6/373/3209) ومسلم (4/2030/2637) والترمذي (5/297-298/3161) من حديث أبي هريرة.
(2) بهجة النفوس (4/282).
(3) العبر (2/365) والدرر الكامنة (1/84-86) والبدر الطالع (1/33-35) وشذرات الذهب (6/16).(1/366)
جاء في البدر الطالع: من مناقبه أن الفازاري الساحر ادعى النبوة فقام عليه فاستظهر عليه بتقربه إلى أميرها بالسحر، وأوذي أبو جعفر فتحول إلى غرناطة، فاتفق قدوم الفازاري رسولا من أمير (مالقه)، فاجتمع أبو جعفر بصاحب غرناطة، ووصف له حال الفازاري، فأذن له إذا انصرف بجواب رسالته أن يخرج إليه ببعض أهل البلد، ويطالبه من نائب الشرع، ففعل، فثبت عليه الحد، وحكم بقتله، فضرب بالسيف فلم يؤثر فيه. فقال أبو جعفر جردوه، فجردوه فوجدوا جسده مكتوبا فغسل، ثم وجد تحت لسانه حجرا لطيفا فنزعه، فعمل فيه السيف فقتله. قال بعض من ترجمه -أي أحمد بن إبراهيم الأندلسي- كان ثقة قائما بالمعروف والنهي عن المنكر، دامغا لأهل البدع. وله مع ملوك عصره وقائع، وكان معظما عند الخاصة والعامة. (1)
مسعود بن أحمد (2) (711 هـ)
__________
(1) البدر الطالع (1/34-35) والدرر الكامنة (1/85-86).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/362) وشذرات الذهب (6/28-29) والبداية والنهاية (14/67) وتذكرة الحفاظ (4/1495).(1/367)
سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود أبو محمد وأبو عبدالرحمن، الحافظ قاضي الحنابلة الحارثي، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وستمائة. سمع بمصر من الرضى بن البرهان، والنجيب الحراثي، وجماعة من أصحاب البوصيري وطبقته، وبالإسكندرية من عثمان بن عوف، وابن الفرات، وبدمشق من أبي زكريا بن الصيرفي، وخلق من هذه الطبقة. سمع منه: إسماعيل ابن الخباز -وهو أسن منه- وأبو الحجاج المزي وأبو محمد البرزالي. عني بالحديث. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وخرج لجماعة من الشيوخ معاجم، ودرس بعدة أماكن، كالمنصورية، وجامع الحاكم، وولي القضاء سنتين ونصفا، وكان سنيا أثريا، متمسكا بالحديث، قال الذهبي: وكان عارفا بمذهبه ثقة متقنا صيتا مليح الشكل، فصيح العبارة، وافر التجمل، كبير القدر حج غير مرة وشرح بعض السنن لأبي داود. وانتقل إلى الله في سحر يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة بالقاهرة رحمه الله.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين عنه قال: الحمد لله، ما ذكر من الكلام المنسوب إلى الكتاب المذكور -أي الفصوص- يتضمن الكفر. ومن صدق به فقد تضمن تصديقه بما هو كفر يجب في ذلك الرجوع عنه، والتلفظ بالشهادتين عنده. وحق على كل من سمع ذلك إنكاره. ويجب محو ذلك وما كان مثله وقريبا منه من هذا الكتاب، ولا يترك بحيث يطلع عليه، فإن في ذلك ضررا عظيما على من لم يستحكم الإيمان في قلبه، وربما كان في الكتاب تمويهات وعبارات مزخرفة وإشارات إلى ذلك لا يعرفه كل أحد فيعظم الضرر. وكل هذه التمويهات ضلالات وزندقة. والحق إنما هو في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقول القائل: إنه أخرج الكتاب بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنام رآه، فكذب منه على رؤياه للنبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
__________
(1) العقد الثمين (2/284).(1/368)
محمد بن يوسف الجَزَرِي (1) (711 هـ)
محمد بن يوسف بن عبدالله بن محمود الجزري المصري أبو عبدالله. ولد في حدود سنة ثلاثين وقيل سبع وثلاثين وستمائة بجزيرة ابن عمر. سمع من الشيخ شمس الدين الأصبهاني شارح المحصول في العقليات، ومن أبي المعالي أحمد بن إسحاق الأبرقوهي. وسمع منه: السبكي، وانتفع به الناس. كان خطيبا بالجامع الصالحي بمصر ثم بالجامع الطولوني وكان إماما في الأصلين والفقه والنحو والمنطق والبيان والطب ودرس بالمعزية والشريفية، وانتصب للإقراء فكان لا يفرغ لنفسه ساعة واحدة، ويقرأ عليه المسلمون واليهود والنصارى، وكان حسن الصورة مليح الشكل حلو العبارة كريم الأخلاق يسعى في قضاء حوائج الناس، ويبذل جاهه لمن يقصده. توفي بمصر في سادس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين عنه قال -في الرد على ابن عربي الصوفي-: الحمد لله. قوله: فإن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانا، تشبيه وكذب باطل، وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر لا يقر قائله عليه. وقوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، كلام باطل متناقض، وهو كفر. وقوله في قوم هود: إنهم حصلوا في عين القرب، افتراء على الله ورد لقوله فيهم. وقوله: زال البعد وصيرورة جهنم في حقهم نعيما، كذب وتكذيب للشرائع، بل الحق ما أخبر الله به من بقائهم في العذاب.
__________
(1) طبقات الشافعية (6/31) والوافي بالوفيات (5/263) الدرر الكامنة (4/299) وشذرات الذهب (6/42).(1/369)
وأما من يصدقه فيما قاله -لعلمه بما قال- فحكمه كحكمه من التضليل والتكفير إن كان عالما، فإن كان ممن لا علم له فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه عنه مهما أمكن، وإنكاره الوعيد في حق سائر العبيد كذب ورد لإجماع المسلمين، وإنجاز من الله عز وجل للعقوبة، فقد دلت الشريعة دلالة ناطقة أن لابد من عذاب طائفة من عصاة المؤمنين، ومنكر ذلك يكفر عصمنا الله من سوء الاعتقاد وإنكار المعاد والله أعلم. (1)
" التعليق:
من قرأ هذا الجواب -الذي يثلج الصدر على كتاب الفصوص للزنديق ابن عربي- يحمد الله تعالى على وجود أمثال هؤلاء العلماء القائمين لله بالحق، والرادين للباطل مهما كان قائله، ويكشفون حاله سواء تلبس بولاية أو صوفية أو حب آل البيت إلى غير ذلك من الأشكال التي يتلبس بها المبتدعة، فعليك يا ابن عربي ما تستحق من ربك، لقد ضل بك خلق كثير في كل وقت وحين وما يزال المثقفون الآن والدعاة يقولون: الولي الكبير سيدي ابن عربي. هداهم الله للتعرف على عقيدتهم الحقة.
عماد الدين الحزامي (2) (711 هـ)
__________
(1) العقد الثمين (2/284-285).
(2) طبقات الحنابلة (4/358-360) وشذرات الذهب (6/24-25).(1/370)
أحمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن عماد الدين أبو العباس الشيخ القدوة ابن شيخ الحزامية الواسطي الشافعي. ولد في حادي عشر أو ثاني عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة بشرقي واسط. اجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره، وصاحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية حين قدم دمشق واستفاد منه. كان يقرأ الكافي على الشيخ مجد الدين الحراني، وكتب عنه الذهبي والبرزالي، وسمع منه جماعة من شيوخ ابن رجب وغيرهم. تفقه وتأدب ولقي المشايخ وتزهد وتعبد. كان ابن تيمية رحمه الله يعظمه ويجله، وكتب إليه كتابا من مصر أوله: إلى شيخنا الإمام العارف القدوة السالك. كان ذا ورع وإخلاص ومنابذة للاتحادية وذوي العقول والمبتدعة، وكان داعية إلى السنة، وكان يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار ما يدفع به الضرورة، وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ بينهم، وتأثر بهم في تصوفهم إلى أن وفق له شيخ الإسلام ابن تيمية، فدله على مطالعة السيرة النبوية، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، فتخلى عن جميع أحوالهم وطرائقهم وسلوكهم، واقتفى آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه. وكان محبا لأهل الحديث، معظما لهم، وأوقاته محفوظة. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي آخر نهار السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وسبعمائة بالمارستان الصغير بدمشق.
موقفه من الصوفية:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ الشيخ عماد الدين بينهم، وألهمه الله من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره. وقرأ شيئا من الفقه على مذهب الشافعي.(1/371)
ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة منهم. وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، ...واقتفى طريقتهم وهديهم.
ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحبه، فدله على مطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخصها واختصرها، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولا وفروعا، وشرع في الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم. (1)
له من الآثار:
جزء في الرد على الاتحادية والمبتدعة، انظر ذيل طبقات الحنابلة (2) .
أم زينب فاطمة بنت عباس (3) (714 هـ)
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (4/359).
(2) 4/360).
(3) البداية والنهاية (14/74-75) وشذرات الذهب (6/34) وذيل طبقات الحنابلة (2/467-468) والدرر الكامنة (3/226).(1/372)
فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح البغدادية أم زينب الواعظة العالمة المسندة المفتية، الخيرة الصالحة، المتقنة المحققة الكاملة الفاضلة، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية. أخذت عن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وغيره من المقادسة، وكانت تحضر مجلس الشيخ ابن تيمية وتستفيد منه وانتفع بها نساء أهل دمشق حيث ختّمت كثيرا منهن القرآن. كان ابن تيمية يثني عليها ويتعجب من حرصها وذكائها ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها. وكانت آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، وقل من أنجب من النساء مثلها. توفيت ليلة عرفة سنة أربع عشرة وسبعمائة، رحمها الله تعالى.
موقفها من الصوفية:
جاء في البداية والنهاية: ... وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان. وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال. وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي خَتَّمَتْ نساء كثيرا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته آمين. (1)
" التعليق:
والحمد لله الذي أوجد حتى من النساء من يدافع عن العقيدة السلفية. وغير هذه الصالحة كثيرات، ولكن لعل المؤرخين بخلوا بنقلهن إلينا. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
موقف السلف من
محمد بن الحسن الزنديق (717 هـ)
__________
(1) البداية والنهاية (14/74-75).(1/373)
جاء في البداية والنهاية: وفي هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعي علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتارة يدعي أنه محمد بن عبدالله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف، وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال تلك الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين. وقال لهم: لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها. ونادى في تلك البلاد: إن بالمقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي، الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا وعملوا أمرا عظيما جدا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتل المهدي أضلهم، وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب السعير، كما قال تعالى: z`دBur { ؤ¨$¨Z9$# `tB مAد‰"pgن† 'خû "!$# خژِچtَخ/ 5Où=دم كىخ6®Ktƒur ¨@à2 9`"sـّx© 7‰ƒجچ¨B اجب |=دGن. دmّn=tم ¼çm¯Rr& `tB çnwuqs? ¼çm¯Rr'sù ¼م&-#إزمƒ دmƒد‰ِku‰ur 4'n<خ) ة>#xtم خژچدè،،9$# } احب (1) .اهـ (2)
محمد بن قوام (3) (718 هـ)
__________
(1) الحج الآيتان (3و4).
(2) البداية (14/85-86).
(3) العبر (2/384) والبداية والنهاية (14/91-92) والدرر الكامنة (4/124) وشذرات الذهب (6/49).(1/374)
الشيخ الصالح أبو عبدالله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن أبي بكر بن قوام البالسي. ولد سنة خمسين وستمائة ببالس. سمع من أصحاب ابن طبرزد. قال ابن كثير: كان حسن العقيدة وطويته صحيحة، محبا للحديث وآثار السلف. وقال الذهبي: كان محمود الطريقة، متين الديانة. وقال: كان ذا همة وجلادة وذكر وعبادة، لكنه أَضَرَّ وثقل سمعه. توفي رحمه الله سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وحضر جنازته خلق كثير، من جملتهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
موقفه من المبتدعة:
جاء في البداية والنهاية: قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة، وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل، فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادى عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة، ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه. (1)
محمد بن حَنَش (2) (719 هـ)
محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش اليماني. ولد بعد سنة خمسين وستمائة. وقرأ على علماء عصره حتى برع في فنون عدة وبلغ رتبة الاجتهاد وأخذ عنه جماعة من أكابر العلماء كالإمام محمد بن المطهر، وله مصنفات. وكان زاهدا عابدا فصيح العبارة سريع الجواب، مستحضرا للفنون محققا في جميع مباحثه توفي سنة تسع عشرة وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
آثاره السلفية:
'القاطعة في الرد على الباطنية'. (3)
شرف الدين أبو عبدالله ابن النجيح (4) (723 هـ)
__________
(1) البداية (14/68).
(2) البدر الطالع (2/277) الأعلام (7/138) ومعجم المؤلفين (12/98).
(3) البدر الطالع (2/277).
(4) الدرر الكامنة (3/443-444) وشذرات الذهب (6/61) والبداية والنهاية (14/114) وذيل طبقات الحنابلة (2/376).(1/375)
محمد بن سعد الله بن عبدالأحد شرف الدين أبو عبدالله الحراني المعروف بابن النجيح الحنبلي. سمع من الفطر بن البخاري وزينب بنت مكي وتفقه ولازم ابن تيمية وأذن له. طلب الحديث وقرأ بنفسه وتفقه وأفتى. كان صحيح الذهن جيد المشاركة في العلوم، من خيار الناس وعقلائهم وعلمائهم. كان مع شيخ الإسلام في مواطن كبار صعبة، لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا مشكور السيرة جيد العقل والفهم عظيم الديانة والزهد. ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة بوادي بني سالم، وحمل إلى المدينة النبوية على أعناق الرجال ودفن بالبقيع رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
محنته وصبره على عقيدته السلفية:
قال الحافظ ابن كثير: قد صحب شيخَنا العلامة تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبة لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات... (1)
شهاب الدين ابن مري (2) (كان حيا سنة 725 هـ)
الشيخ أحمد بن محمد بن مري شهاب الدين البعلبكي الحنبلي. كان رحمه الله في بداية أمره منحرفا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم اجتمع به فأحبه، وأصبح من المدافعين عنه، وعن عقيدته السلفية. رحل إلى مصر واجتمع بالأمير بدر الدين خبكلي بن الباب فأذن له بالتحديث بجامع الأمير شرف الدين حسين بن جندربحكر جوهر النوبي وحدث أيضا بجامع عمرو ابن العاص. وقعت له محنة مع العوام، فمنعه القاضي المالكي من الجلوس في سادس عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ثم حبس وضرب ثم سفر وأهله إلى بلد الخليل. وكان يتردد على دمشق.
موقفه من المبتدعة:
محنته بسبب عقيدته السلفية:
__________
(1) 14/114).
(2) البداية والنهاية (14/121) وأعيان العصر (1/231) والدرر الكامنة (1/302-303).(1/376)
جاء في البداية والنهاية: وفيها منع الشيخ شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر على طريقة الشيخ تقي الدين ابن تيمية. وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء ثم سُفِّرَ إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق، وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات. (1)
موقفه من المشركين والصوفية:
محنته بسبب عقيدته السلفية:
جاء في الدرر الكامنة: أحمد بن محمد بن مري البعلي الحنبلي كان منحرفا عن ابن تيمية، ثم اجتمع به، فأحبه وتتلمذ له وكتب مصنفاته، وسلك طريقه في الحط على الصوفية، ثم إنه تكلم في مسألة التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي مسألة الزيارة وغيرهما على طريق ابن تيمية فوثب به جماعة من العامة ومن يتعصب للصوفية وأرادوا قتله فهرب فرفعوا أمره إلى القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي فطلبه وتغيب عنه فأرسل إليه وأحضره وسجنه ومنعه من الجلوس وذلك بعد أن عقد له مجلس بين يدي السلطان وذلك في ربيع الآخر سنة 725هـ فأثنى عليه بدر الدين ابن جنكلي وبدر الدين ابن جماعة وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير -إيدمر- الحظيري، فحط عليه وعلى شيخه وتفاوض هو وجنكلي حتى كادت تكون فتنة ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب فأغلظ القول للفخر ناظر الجيش وذكر أنه يسعى للصوفية بغير علم، وأنهم تعصبوا عليه بالباطل فآل الأمر إلى تمكين المالكي منه، فضربه بحضرته ضربا مبرحا حتى أدماه ثم شهره على حمار أركبه مقلوبا ثم نودي عليه: هذا جزاء من يتكلم في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكادت العامة تقتله ثم أعيد إلى السجن ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن سفر من القاهرة إلى الخليل فرحل بأهله وأقام به ... (2)
موقف السلف من
الزنادقة (726 هـ)
__________
(1) 14/121).
(2) الدرر الكامنة (1/302-303).(1/377)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس. قال الشيخ علم الدين البرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن. قال وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة. قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن. وعنده نباهة وفهم، وكان منزلا في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزا للإسلام وذلا للزنادقة وأهل البدع. قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضرا يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك. (1)
" التعليق:
جزى الله خيرا علماء المسلمين وأمراءهم الذين ما تركوا زنديقا إلا صلبوه أو ضربوا عنقه إلا من هرب وفلت. واليوم لو أردت أن تطبق حد الزندقة في بلاد المسلمين التي عطلت الحدود الشرعية بالكلية إلا من شاء الله منها، فلا أدري كم يصفو لك من هذا؟! لأن الإلحاد الذي هو أكبر الزندقة يدرس في المدارس، وما أهداف الشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين وأذنابهم إلا نشره في المجتمعات الإسلامية. ولهذا هم لا يحبون أن يسمعوا شيئا يسمى إسلاما، لأن فيه تطبيق حد الزندقة على أمثالهم ممن يأكلون دريهمات روسيا والصين وغيرها من دول الزندقة.
شرف الدين ابن تيمية (2) ( 727 هـ)
__________
(1) البداية (14/127).
(2) الدرر الكامنة (2/266) وشذرات الذهب (6/76) وذيل طبقات الحنابلة (2/382) والوافي بالوفيات (17/240).(1/378)
عبدالله بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن الخضر بن تيمية الحراني شرف الدين أبو محمد الدمشقي أخو الشيخ الإمام العلامة تقي الدين. ولد في حادي عشر محرم سنة ست وستين وستمائة بحران. سمع من ابن أبي اليسر وابن علان وابن الصيرفي وابن أبي عمر وخلق كثير وسمع منه الطلبة. ذكره الذهبي في معجم شيوخه. فقال: كان إماما بارعا، فقيها عارفا بالمذهب وأصوله وأصول الديانات، عارفا بدقائق العربية، وبالفرائض والحساب والهيئة، كثير المحفوظ، له مشاركة جيدة في الحديث، ومشاهير الأئمة والحوادث، ويعرف قطعة كثيرة من السيرة، وكان متقنا للمناظرة وقواعدها، والخلاف. وكان حلو المحاضرة متواضعا، كثير العبادة والخير ذا حظ من صدق وإخلاص وتوجه وعرفان، وانقطاع بالكلية عن الناس، قانعا بيسير اللباس. سمع المسند والصحيحين وكتب السنن، وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى. سئل عنه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني فقال: هو بارع في فنون عديدة من الفقه، والنحو والأصول، ملازم لأنواع الخير، وتعليم العلم، حسن العبارة قوي في دينه، جيد التفقه مستحضر لمذهبه، مليح البحث، صحيح الذهن، قوي الفهم، رحمه الله تعالى. وكان أخوه يتأدب معه ويحترمه. تمرض أياما ومات يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة بدمشق. وكانت جنازته مشهودة، وحمل على الرؤوس.
موقفه من الجهمية:
جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه -يعني من ذي الحجة سنة ست وسبعمائة- طلب أخوا الشيخ تقي الدين: شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان: سلار وحضر ابن مخلوف المالكي، وطال بينهم كلام كثير، فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام وفي مسألة النزول. (1)
__________
(1) البداية والنهاية (14/45).(1/379)
شيخ الإسلام ابن تيمية (1) (728 هـ)
إن يكن في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مجددون -وهم فيها- فمن أفضلهم شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبدالحليم، جدد الله به السنة وأمات به البدعة. أحيا ما اندثر من آثار السلف، ولم يكن من أصحاب الزوايا وأرباب الصوامع التكايا، ولكن كان إماما معلما، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر باليد واللسان والقلب. فتح الله به قلوبا غلفا، وآذانا صما، فجعل الله له ذكرا في الأولين والآخرين، وكان حقا من أئمة الدين، الذين يدعون إلى الحق وبه يعدلون، وأثمرت دعوته تلامذة أبرارا، حملوا رسالته ونشروا دعوته، وكانوا فحولا في الحفظ والفقه والدعوة إلى العقيدة السلفية. بذل نفسه في سبيل الله، وهانت عليه حتى مات في السجن في سبيل عقيدته السلفية.
وقد أشبع الباحثون في القديم والحديث شخصية الشيخ دراسة وبحثا، سواء منهم الأعداء أو المحبون، المسلمون أو الكافرون، حتى إنه بلغني أن جامعة باريز الغربية خصصت مستشرقا لدراسة شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد سجلت فيه رسائل علمية في عدة جامعات، ونيلت بها درجات علمية في الدكتوراه والماجستير. وقد كتب كثير من الكتاب في جزئيات من المسائل التي تناولها الشيخ في كثير من بحوثه وفتاواه، كالتصوف والتأويل والفلسفة وغير ذلك مما هو معروف. لكن ينبغي للقارئ أن يكون على حذر من هؤلاء الكتاب، فإن المُحْدثين منهم أكثرهم غير سلفيين، كصاحب 'المدرسة السلفية' وهي رسالة علمية في جامعة الأزهر، فإنها من أخبث ما كتب عن الشيخ وقواعده السلفية. وإن أطال الله في العمر، ألقمته حجرا. ولعل بعض طلبة العلم النشيطين يسبقني إلى ذلك.
__________
(1) البداية والنهاية (14/141-146) والرد الوافر (56-225) والوافي بالوفيات (7/15-33) وتذكرة الحفاظ (4/1496-1498) والدرر الكامنة (1/144-160) وشذرات الذهب (6/80-86) والبدر الطالع (1/63-72).(1/1)
ونقول في التعريف به على وجه الاختصار: هو أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، أبو العباس، الإمام العالم المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدث، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط. ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران. سمع من ابن عبدالدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان وشمس الدين الحنبلي وابن أبي الخير وابن علان وخلق كثير، وقرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث واشتغل بالعلوم حتى صار من الأئمة الأعلام؛ كان عالما باختلاف العلماء، وأعرف الناس بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، متضلعا في الأصول والفروع والنحو واللغة، وله التصانيف الكثيرة.
قال الذهبي: وبرع في التفسير والحديث والاختلاف والأصلين، وكان يتوقد ذكاء، ما رأيت أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارا لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو السنن، كأن ذلك نصب عينيه وعلى طرف لسانه. قال: وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الدين، ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة، فكان لا يشق فيها غباره، مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس.
قال الحافظ المزي: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أتبع لهما منه.
وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.
وقال ابن عبدالهادي: الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين.(1/2)
وقال ابن كثير: وبالجملة؛ كان -رحمه الله- من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضا مغفور له. توفي رحمه الله تعالى محبوسا في قلعة دمشق سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
فمن أقواله رحمه الله:
- اعلم أن هذه القاعدة وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها. وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة. بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح (نعمت البدعة هذه) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليست بمكروهة، أو هي حسنة، للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس؛ وربما يضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع: إما بأن يجعل ما اعتاد هو ومن يعرفه إجماعا، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من إِذَا { قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا } (1) . وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها؛ والغرض: أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين، أو المتأولين في الجملة. ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان:
أحدهما: أن يقولوا: إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح؛ بل قد يكون حسنا، فهذا مما يقوله بعضهم.
__________
(1) المائدة الآية (104).(1/3)
المقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة: هذه البدعة حسنة، لأن فيها من المصلحة كيت وكيت. وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.
والجواب: أما القول: "إن شر الأمور محدثاتها، وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، والتحذير من الأمور المحدثات. فهذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه. وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص.
__________
(1) سيأتي تخريجه قريبا.(1/4)
فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوي موجبا للنهي. ثم المخصص هو الأدلة الشرعية، من الكتاب والسنة والإجماع، نصا واستنباطا، وأما عادة بعض البلاد، أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء، أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك، فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يعارض به. ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها، بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها، فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل، ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد، أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟! وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم، مع ما أوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترأسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل، عن غير روية، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكون فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين؟!(1/5)
والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وقد يبدي ذو العلم والدين فيها مستندا آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعمله لها ليس مستندا إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وإن كانت شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ورسوله، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره، ودفعا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة، إنما هي إبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم والجدل، والكلام والعمل.
وأيضا فلا يجوز حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : "كل بدعة ضلالة" على البدعة التي نهى عنه بخصوصها، لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم، سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه، سواء كان مفعولا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن، وما نهى عنه، فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله: "كل بدعة ضلالة" بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب أو العجم فهو ضلالة. ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة.. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء. (1)
ثم ذكر هذه المفاسد من خمسة أوجه في المقام الأول في الرد عليهم ثم بسط القول في المقام الثاني إلى أن قال:
__________
(1) الاقتضاء (2/582-586).(1/6)
ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية، وهي قوله: "كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل، بل الذي يقال فيما ثبت أنه حسن من الأعمال التي قد يقال هي بدعة-: إن هذا العمل المعين -مثلا- ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود. وهذا الجواب فيه نظر: فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصده -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام. (1)
__________
(1) الاقتضاء (2/587-588).(1/7)
- وقال: وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع -من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا (1) . مع اختلاف الناس في مولده- فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. (2)
- وقال: ودين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل.
__________
(1) هذا القول لا يسلم لشيخ الإسلام رحمه الله وقد رد عليه الشيخ حامد الفقي ضمن تعليقه على الاقتضاء ونقلنا رده هذا في مواقفه رضي الله عنه فلينظر هناك.
(2) الاقتضاء (2/615-616).(1/8)
وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس، كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجا عن دين الإسلام. فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. (1)
- وقال: والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل. (2)
- وقال: وتارة يجعلون -يعني أهل الكلام- إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: (طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم)، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل؛ وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/189-190).
(2) مجموع الفتاوى (2/230).(1/9)
ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرا للسلف -كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج- ولا تفسيقا لهم -كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم- كان تجهيلا لهم وتخطئة وتضليلا، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقا، فزعما: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة؛ ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة -في الأعمال والأقوال والاعتقاد، وغيرها من كل فضيلة، أن خيرها-: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه (1) ، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم؛ كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات. فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، وقال غيره: (عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامنٌ لم يعلموه). (2)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف إسماعيل الأصبهاني سنة (535هـ).
(2) مجموع الفتاوى (4/157-158).(1/10)
- وقال: ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضا؛ إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار، فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (1)
- وقال: وأهل السنة في الإسلام؛ كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم؛ وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة؛ وأئمة أهل البدع، أضر على الأمة من أهل الذنوب. ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة، وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة؛ فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم -وهم يظنونها هدى، فيطيعونها- ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/119).
(2) مجموع الفتاوى (7/284-285).(1/11)
- وقال: فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين، وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام، كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم. وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس؛ ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله. (1)
- وقال: ومن البدع المنكرة: تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم، كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك، فإن هذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها، بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها. وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا، فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر، كفر هؤلاء وهؤلاء. وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها، هو من الجهل والظلم، وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/357).
(2) الأنعام الآية (159).(1/12)
والثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه، فإن الله سبحانه قال: رَبَّنَا { لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (1) وثبت في الصحيح أن الله قال: "قد فعلت" (2) وقال تعالى: وَلَيْسَ { عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ } بِهِ (3) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان" وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره. (4)
__________
(1) البقرة الآية (286).
(2) أخرجه أحمد (1/233) ومسلم (1/116/126) والترمذي (5/206/2992) والنسائي في الكبرى (6/307/11059) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) الأحزاب الآية (5).
(4) أخرجه ابن ماجه (1/659/2045) من طريق الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: وقال البوصيري: "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن عمير في الطريق الثاني -يشير إلى طريق الطحاوي والبيهقي والحاكم- وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس". وقال الحافظ في الفتح (5/201-202): "وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي في فوائده بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجه ورجاله ثقات إلا أنه أعل بعلة غير قادحة فإنه من رواية الوليد عن الأوزاعي عن عطاء عنه، وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فزاد (عبيد بن عمير) بين عطاء وابن عباس". وأخرجه أيضا الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/95) والدارقطني (4/170-171) وابن حبان (16/202/7219) والطبراني في الصغير (1/282/752) والبيهقي (7/356) والحاكم (2/198) وابن حزم في الأحكام (5/149) من طريق بشر بن بكر وأيوب بن سويد قالا: ثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس به. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي". والحديث حسنه النووي في الأربعين وأقره الحافظ في التلخيص الحبير (1/281)..وقال البيهقي: "جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات". وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (2/64-65) وابن رجب في شرح الأربعين (361) والسخاوي في المقاصد الحسنة (228-230) وقال: "ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا".(1/13)
وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع. (1)
- وقال: فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين: الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعا لما أمر الله به، فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك. قال الله تعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (2) ، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" (3) رواه أبو حاتم في صحيحه. وفي الصحيح أن عمر قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من نفسي. قال: "الآن يا عمر" (4) . وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (5) وقال تعالى: قُلْ { إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } (6)
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/684-685).
(2) النساء الآية (65).
(3) سيأتي تخريجه في مواقف ابن كثير سنة (774هـ).
(4) أخرجه أحمد (4/233و336) والبخاري (11/641/6632).
(5) أخرجه أحمد (3/177و275) والبخاري (1/80/15) ومسلم (1/67/44) والنسائي (8/488/5028) وابن ماجه (1/26/67 من حديث أنس رضي الله عنه.
(6) براءة الآية (24)..(1/14)
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله ويسلم له، ويكون هواه تبعا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله، فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له؟! (1)
- وقال: وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كل بدعة ضلالة" متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة، والمتصوفة، والمتعبدة؛ إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة. (2)
- وقال: فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى ولا يصلى خلفه، قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/288).
(2) مجموع الفتاوى (10/370-371).
(3) مجموع الفتاوى (10/376-377).(1/15)
- وقال: وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة. والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1) ، وقال تعالى: اتَّبِعُوا { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } (2) . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: "إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (3) . وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى" (4) . وفي الصحيح: "أنه قيل لعبدالله بن أبي أوفى: هل وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ قال: لا، قيل: فلم، وقد كتب الوصية على الناس؟ قال: "وصى بكتاب الله" (5) .
__________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) الأعراف الآية (3).
(3) سيأتي تخريجه قريبا.
(4) أخرجه مسلم: (2/890/1218) وأبو داود (2/462/1905) وابن ماجه (2/1025/3074) كلهم من حديث جابر الطويل في حجة الوداع بلفظ "...وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ ... ".
(5) أخرجه: أحمد (4/381) والبخاري (5/448/2740) ومسلم (3/1256/1634) والترمذي (4/376/2119) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (6/550/3622) وابن ماجه (2/900/2696).(1/16)
وقد قال تعالى: كَانَ { النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (1) ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (2) ، ومثل هذا كثير. وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضا، فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. (3)
__________
(1) البقرة الآية (213).
(2) النساء الآية (59).
(3) درء التعارض (1/234-235).(1/17)
- وقال: وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: "إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (1) . فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينصب لهم كلاما يوالى عليه ويعادى، غير كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. (2)
__________
(1) أحمد (3/310-311و319و371) ومسلم (2/592/867) والنسائي (3/209-210/1577) وابن ماجه (1/17/45) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(2) درء التعارض (1/272) ومجموع الفتاوى (20/164) بنحوه.(1/18)
- وقال في مناظرته للبطائحية: وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: "إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (1) . وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" وفي رواية: "وكل ضلالة في النار" (2) .
فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثا في ذم الزنا، فقلت: هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقا يعتقدون تحريم ماهم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله. وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.
__________
(1) تقدم تخريجه قريبا.
(2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).(1/19)
قلت مخاطبا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان كلما أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - جلده الحد، فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله". (1) قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه.
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض- أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" وفي رواية: "لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل" وفي رواية: "شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه". (2)
__________
(1) أخرجه البخاري (12/89/6780).
(2) أخرجه: أحمد (3/68و73) والبخاري (8/84/4351) ومسلم (2/741-742/1064) وأبو داود (5/121-122/4764) والنسائي (5/92-93/2577).(1/20)
قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر، أخذ شيخهم عبدالله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز -يعني أتباع أحمد ابن الرفاعي-، فقلت منكرا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذا (1) الزرجنة تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله؟! فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب -فإن فيهم من الغلو، والشرك، والمروق عن الشريعة، ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم، أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف، حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم- وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم، فَكِيدُونِي { جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } (55) (2) .
__________
(1) بالأصل "يا ذو" والصواب ما أثبتناه.
(2) هود الآية (55).(1/21)
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتبا صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك. وأعيد الكلام: أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. (1)
- وقال: فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ. (2)
- وقال: فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علما يقينيا؛ وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك: مثل من كان سائرا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها، ولا يعرف منتهاها؛ وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك.
وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة؛ فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة، إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنا من كان، فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور مالا يحصيه إلا العليم بذات الصدور!! (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/471-475).
(2) مجموع الفتاوى (8/425).
(3) مجموع الفتاوى (13/258-259).(1/22)
- وقال: وإنما المقصود هنا التنبيه على الجمل، فإن كثيرا من الناس يقرأ كتبا مصنفة في أصول الدين وأصول الفقه بل في تفسير القرآن والحديث ولا يجد فيها القول الموافق للكتاب والسنة الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، بل يجد أقوالا كل منها فيه نوع من الفساد والتناقض، فيحار ما الذي يؤمن به في هذا الباب؟! وما الذي جاء به الرسول، وما هو الحق والصدق، إذ لم يجد في تلك الأقوال ما يحصل به ذلك؟! وإنما الهدى فيما جاء به الرسول الذي قال الله فيه: وَإِنَّكَ { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } (53) (1) .اهـ (2)
- وقال: ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في البيان، وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه: كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ ما يكون، وأتم ما يكون، وأعظم ما يكون بيانا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك. فمن وقر هذا في قلبه لم يقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى: يَرْفَعِ { اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (3) . فنسأل الله أن يجعلنا وإخواننا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان. (4)
__________
(1) الشورى الآيتان (52و53).
(2) مجموع الفتاوى (17/102).
(3) المجادلة الآية (11).
(4) مجموع الفتاوى (17/129).(1/23)
- وقال: فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. (1)
- وقال: ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا، أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به، مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة. (2)
- وقال: ويجب أن يعلم: أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه؛ بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام، فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
وقد أوجب الله على المؤمنين: الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/161-162).
(2) مجموع الفتاوى (20/163).
(3) مجموع الفتاوى (20/164-165).(1/24)
- وقال: ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فتجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإلهيات، مع أن كثيرا منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البين ما لا ريب فيه؛ كما ذكر في غير هذا الموضع. وأما كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي، وبرقلس، وثامسطيوس، والفارابي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير، والتقصير العظيم، ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يستقصى.
وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضا من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي، وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم.
وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء، كأتباع حسين النجار، وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي.
وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد ابن كلاب وأبي عبدالله محمد بن عبدالله بن كرام، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم.(1/25)
بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء، وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائما يجد في كلامهم ما يراه هو باطلا، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلا وعلما ودينا، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحدا من هؤلاء يقول: إذا تعارض قولي وقول متبوعي قدمت قولي مطلقا، لكنه إذا تبين له أحيانا الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه. فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟! وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم رأيه على نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أنباء الغيب التي ضل فيها عامة من دخل فيها بمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدى الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب. (1)
موقفه من المشركين:
كان الشيخ رضي الله عنه معارضا للشرك ومظاهره، وكم له من الأيادي البيضاء في ذلك بالفعل وباللسان وبالقلم، وسأذكر نماذج من فعله بيده الشريفة ثم نعرج على ذكر المحنة.
__________
(1) درء التعارض (1/151-155).(1/26)
- جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر بعينه -أي رجب-، راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما. وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه. (1)
- قال ابن كثير: وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيدا منصورا. (2)
- وجاء في الكواكب الدرية: (ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها) قالوا: لما كان سنة ست وعشرين وسبعمائة، وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكثر القيل والقال بسبب العثور على جواب الشيخ الآتي، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه، ونقل عنه ما لم يقله، وحصلت فتنة طار شررها في الآفاق، واشتد الأمر، وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار الشامية والمصرية، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن منهم من كانت له همة.
وأما الشيخ رحمه الله فكان ثابت الجأش، قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه.
ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ، فقال أحدهم: ينفى. فنفي القائل.
وقال آخر: يقطع لسانه، فقطع لسان القائل. وقال آخر: يعزر، فعزر القائل.
وقال آخر يحبس فحبس القائل، أخبر بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها.
__________
(1) البداية والنهاية (14/36).
(2) البداية (14/37).(1/27)
واجتمع جماعة آخرون بمصر، وقاموا في هذه القضية قياما عظيما، واجتمعوا بالسلطان، وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك، وأرضى خاطرهم بالأمر بحبسه.
فلما كان يوم الاثنين سادس شعبان من السنة المذكورة، ورد مرسوم السلطان بأن يكون في القلعة، وأحضر للشيخ مركوب، فأظهر السرور بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم، فركب إلى القلعة، وأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته.
وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور، قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك، وبمنعه من الفتيا ... (1)
ثم ذكر السؤال الذي وجه إلى الشيخ، وأجوبة الشيخ على السؤال، وهي معروفة بحمد الله فلا نطيل بنقلها.
وله من المواقف المنثورة في كتبه ما يشرف هذه المسيرة التاريخية:
- وقال رحمه الله في بيان ضلال ابن سينا: وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض...
والمقصود هنا: أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة: كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه ...
__________
(1) الكواكب الدرية (148-149).(1/28)
وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه: مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك. (1)
- وقال: والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره: الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ "الحدوث" عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى. والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس.
وهذا القول، إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله. وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق، وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبرا بهذا الاعتبار -كما فعل ابن رشد وابن سينا- جعلوه موجبا بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكنا. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (9/133-135) باختصار.
(2) درء التعارض (1/126-127).(1/29)
- وقال: وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية.
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعالي فيهم: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ 5Oح Iw } (1) . ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن، مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك، كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. (2)
__________
(1) المائدة الآية (54).
(2) درء التعارض (8/239).(1/30)
- وقال: وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيدا، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن إظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب؛ فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه.
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد، وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. (1)
__________
(1) درء التعارض (8/241-243).(1/31)
- وقال: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد: التوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم إخراج الحوادث كلها عن فعله.
وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه: وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا. وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. (1)
- وقال: وحدثني غير مرة رجل، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر، دروسا من 'المحصل' لابن الخطيب، وأشياء من 'إشارات' ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير. وكان له نور وهدى، ورؤيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك.
و'إشارات' ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا، بخلاف 'المحصل' يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود. قال فكتبت عليه:
محصل في أصول الدين حاصله أصل الضلالات والشك المبين فما ... من بعد تحصيله أصل بلا دين
فيه فأكثره وحي الشياطين
قلت: وقد سئلت أن أكتب على 'المحصل' ما يعرف به الحق فيما ذكره، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه. وكذلك تكلمت على ما في 'الإشارات' في مواضع أخر. (2)
__________
(1) درء التعارض (8/246-247).
(2) المنهاج (5/433-434).(1/32)
- وقال: والمقصود هنا: أن 'الزنديق' في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم. أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة.
ومن الناس من يقول: 'الزنديق' هو الجاحد المعطل، وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس؛ ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه: هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة، فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله: إِنَّمَا { النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } (1) ، وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله: الَّذِينَ { كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ } الْعَذَابِ (2) .
فهذا "أصل" ينبغي معرفته فإنه مهم في هذا الباب. فإن كثيرا ممن تكلم في "مسائل الإيمان والكفر" -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم؛ بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. ومن تدبر هذا، علم أن كثيرا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد يكون منافقا زنديقا، يظهر خلاف ما يبطن. (3)
__________
(1) التوبة الآية (37).
(2) النحل الآية (88).
(3) مجموع الفتاوى (7/471-472).(1/33)
- قال: فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (1) .اهـ (2)
- وقال: وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته، أعني الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين. كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة ... (3)
- وقال: إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس عيون الخفافيش بالنهار. فاحذر مثل هؤلاء، وعليك بصحبة أتباع الرسل المؤيدين بنور الهدى وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية، العالمين العاملين أُولَئِكَ { حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (22) (4) .اهـ (5)
- وسئل عن 'كتب المنطق'. فأجاب: أما 'كتب المنطق' فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية. وقال بعض الناس: إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد. فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا:
أما عقلا: فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني.
__________
(1) البقرة الآية (165).
(2) مجموع الفتاوى (10/267).
(3) مجموع الفتاوى (9/186).
(4) المجادلة الآية (22).
(5) مجموع الفتاوى (11/697).(1/34)
وأما شرعا: فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان.
وأما هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم، وفساد علومهم.
وقول من قال إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية، وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع، وقد بين ذلك علماء المسلمين والله أعلم. (1)
- وقال: وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورا به إيجابا أو استحبابا، أو منهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه.
وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى (9/269-270).(1/35)
فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، ويسأل بالذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، ويسأل بالطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا، وسائر ما أقسم الله به في كتابه.
فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته. فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته ورحمته، وحكمته وعظمته وعزته. فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه. ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع. بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك؛ بل ذلك شرك منهي عنه.
ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله؛ كالشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، والمسيح، والعزير، وغير ذلك مما عبد من دون الله، ومما لم يعبد من دونه.(1/36)
ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات، أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام. ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالإقسام والعزائم التي تكتب في الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون؛ بل ويقال: إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم، والإقسام التي يقسم بها، على الجن مشروعة في دين الإسلام. وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين.
وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم.
قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت" (1) وقال: "لاتحلفوا إلا بالله" (2) ، وفي السنن عنه أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (3) .
__________
(1) أحمد (2/11 و17) والبخاري (11/649/6646) ومسلم (3/1266/1646(3)) وأبو داود (3/569/3249) والترمذي (4/93/1534) والنسائي (7/7و8/3775) وابن ماجه (1/677/2094) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (3/569/3248) والنسائي (7/8/3778) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن حبان (10/199/4357).
(3) أحمد (2/125) وأبو داود (3/570/3251) والترمذي (4/93-94/1535) وقال: "حديث حسن".
وصححه ابن حبان (10/199-200/4358) والحاكم (1/18) و(4/297) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.(1/37)
فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، ولا فرق بين نبي ونبي. (1)
- وقال: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان:
صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة.
وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها -من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة- يزعمون أنها من ذات الله، وهؤلاء أشر قولا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه. ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد. وقد كفر الله النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد حتى في فرعون وهامان وقارون؟ وكلما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن الله ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة. (2)
- وقال: وتحرير القول فيه: إن الساب -أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان مسلما: فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/289-291).
(2) مجموع الفتاوى (4/221-222).
(3) الصارم المسلول (10).(1/38)
- وقال: أما من اقترن بسبه -أي الصحابة- دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرئيل في الرسالة؛ فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم -مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك- فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامتهم؛ فهذا لا ريب أيضا في كفره، لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا، فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي كُنْتُمْ { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } لِلنَّاسِ (1) ، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارا أو فساقا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات، وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب، وما جاء فيه من الإثم والعقاب.
__________
(1) آل عمران الآية (110).(1/39)
وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من تردد فيه. (1)
- وقال شيخ الإسلام رحمه الله: والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون: ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود، وهو واجب بنفسه. وهو القول الذي أظهره فرعون، لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الاسم، فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله، وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله، وأولئك يحسبون أن الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود، وأولئك لا يقولون هذا، وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق، وأولئك ليس لهم توجه إليه. وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه منها: العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر والسحاب والحيوان والنبات والمعدن، وغير ذلك من الصور والأعراض، فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة، ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت. فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة، ليست واجبة ولا ممتنعة. (2)
__________
(1) الصارم المسلول (590-591).
(2) درء التعارض (3/163-164).(1/40)
- وقال: وكلام ابن عربي صاحب 'فصوص الحكم'، وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله. فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك. وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه. وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم، ومن كان كذلك فهو أحد رجلين: إما مؤمن عليم، علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام؛ فذمهم وعاداهم. وإما زنديق منافق، علم حقيقة أمرهم، وأظهر ما يظهرون، وكان من أئمتهم. فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون، الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار. والأول من أتباع الرسل والأنبياء، كآل إبراهيم، الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره. (1)
__________
(1) درء التعارض (8/243-244).(1/41)
- وقال: ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء -أي الأشاعرة- يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له؛ فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن؛ وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء، وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء؛ وأنه صحيح عندهم. (1)
- وقال: بل نقول قولا عاما كليا: إن النصوص الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعارضها قط صريح معقول، فضلا عن أن يكون مقدما عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقلية. (2)
__________
(1) درء التعارض (1/6-8).
(2) درء التعارض (1/155-156).(1/42)
- وقال: وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفه، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ (1)
- وقال: وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر، كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته، كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك. (2)
- قال: إن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة، ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، هؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا.
وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى. (3)
__________
(1) درء التعارض (1/157-158).
(2) درء التعارض (1/315).
(3) مجموع الفتاوى (12/496-497).(1/43)
- وقال: إذ صاحب كتاب 'مشكاة الأنوار' إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى بن عمران النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل "خلع النعلين" الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة، وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي. وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة، ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكان السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يقال لي: قُمْ { فَأَنْذِرْ } (2) (1) وكان ابن سبعين يقول: لقد زَرَب ابن آمنة حيث قال: "لا نبي بعدي"، ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه في: 'خلع النعلين، واقتباس النور من موضع القدمين' من مثل هذا الكلام. ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى، كما فعل صاحب 'الفصوص' ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق.
__________
(1) المدثر الآية (2).(1/44)
وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع، لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين، بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع، فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضة مما نفر الجمهور عن مثل هؤلاء، بخلاف جنس أهل الفقر والزهد، ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصوف وفقير وناسك وغير هؤلاء، فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة، يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفى من إلحاد ملاحدة الشيعة، وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم، كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال للعفيف التلمساني: أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني. والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا. (1)
- وقال: فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به: تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به، وألحد في أسماء الله وآياته.
وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة، الذين ذمهم السلف والأئمة، لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع -الذين هم أبعد عن السنة منهم- بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان، ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد، وأخذوا يقولون إنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده -تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا- لأنها أصل السمعيات.
__________
(1) درء التعارض (1/317-319).(1/45)
وإذا حقق الأمر عليهم، وجد الأمر بالعكس، وأنه لا يتم الإيمان بالرسول والجهاد لأعدائه، إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات، وتبين أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول، لا يناقضه ولا يعارضه، وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة، وينقطع الكفار، فتحصل مطابقة العقل للسمع، وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد، ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول، واتباع صريح المعقول، والتمييز بين البينات والشبهات. (1)
__________
(1) درء التعارض (1/373-374).(1/46)
- وقال رحمه الله: ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف -بعضهم مع بعض- تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام الأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة، وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله: "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام". ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء، ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطعن في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي. وإذا أمعن النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة: (قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق، وكان في قلبه غل على أهل الإسلام) بل قالوا: (علماء الكلام زنادقة). (1)
- وقال في كلام أهل الكلام المذموم: يطولون في الحدود والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه، ثم يكون ما طولوا به مانعا من التعريف والبيان، فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق، فلم يصل إلى مكة. (2)
__________
(1) درء التعارض (2/205-206).
(2) درء التعارض (3/191-192).(1/47)
- وقال: والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعون أن كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، هذا اضطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات، بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته، ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة، تورطوا معهم في مجاراتهم، وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا.
والفلسفة هي باطن الباطنية، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء من نوع من الإلحاد، في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه. (1)
- وقال: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين، ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا، والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا، بكلام فيه تلبيس وتدليس. (2)
- وقال رحمه الله -يبين أن الرد على أهل الباطل من أعظم الجهاد-: والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم، وبين ضلالهم، كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. (3)
__________
(1) درء التعارض (3/269).
(2) درء التعارض (3/427).
(3) درء التعارض (4/206).(1/48)
- وقال رحمه الله -يبين أن عامة أهل الكلام مقلدة-: فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين به أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك، عظمت موافقته للرسول.
ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع من العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا. وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم فيها.(1/49)
وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبى الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه. وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذا حال الأمم الضالة،كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر. وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة. وكذلك النصارى تعظم ما هو من هذا الباب. وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون: الصفات الذاتية والعرضية، والمقوم والمقسم، والمادة والهيولي، والتركيب من الكم ومن الكيف، وأنواع ذلك من العبارات، عظمها قبل أن يتصور معانيها، ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم. ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله، ويسمونها عقليات، وإنما هي عندهم تقليديات، قلدوا فيها ناسا يعلمون أنهم ليسوا معصومين، وإذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك، بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة، ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل، أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفى عليه مثل هذا؟! أو أن يقول مثل هذا؟! وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى: إِنْ { هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) (1) قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز، ورضوا بقبول قول لا يعلمون حقيقته، وهو مع هذا يقبل أقوالا لا يعلم حقيقتها، وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون.
__________
(1) النجم الآية (4).(1/50)
وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة -ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم، وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم- إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به، فر إلى التقليد، ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات، والإعراض عن الشرعيات. ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال الله: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } (3) (1) . وكما قال تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } (8) (2) . وكما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ { أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (110) (3) . وكما قال: أَمْ { تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } (44) (4) . وكما قال تعالى: وَيَوْمَ { يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } (29) (5)
__________
(1) الحج الآية (3).
(2) الحج الآية (8).
(3) الأنعام الآية (110).
(4) الفرقان الآية (44).
(5) الفرقان الآيتان (27و29)..(1/51)
وكما قال: يَوْمَ { تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } (68) (1) . وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء. ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره. بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد، قال تعالى: وَلَوْ { كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) (2) .اهـ (3)
__________
(1) الأحزاب الآيات (66-68).
(2) النساء الآية (82).
(3) درء التعارض (5/315-318).(1/52)
- وقال: فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم، يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، -كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم- خيرا من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه، -وإن كانت نسبته إلى الله كذبا، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا الجليل- عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيرا من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع كما يضحك الناس من أمثاله. وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا -إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل. (1)
__________
(1) درء التعارض (5/364-365).(1/53)
- وقال: وهم فيما خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص، في حيرة وشبهة وشك، من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات إقدامهم، كان في حيرة وشك، ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء، فهو يدع تقليد النبي المعصوم، وإجماع المؤمنين المعصوم، ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة، الذين هم في شك وحيرة، ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه، فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة، وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية، وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة.
وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء، بخلاف أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتبعين له، فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول، هو الموافق لصريح المعقول، وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض. (1)
__________
(1) درء التعارض (7/283-284).(1/54)
- وقال: وهذا موجود في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والإلهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو، وأن محمدا رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصورا ولا تصديقا، فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها. وأما المطالب العالية، والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول. (1)
- وقال: ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية- كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسبا ودينا، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل. وقولهم في الصفات صريح قول جهم، بل وشرا منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم، تلقيا عن سلفهم الدهرية، وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع، فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فأصحاب 'الإشارات'، هم من جنس هؤلاء، لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد. (2)
__________
(1) درء التعارض (9/67-68).
(2) درء التعارض (10/60-61).(1/55)
- وقال في رده على مذهب الرازي ومن سار عليه: فيقال: من العجائب، بل من أعظم المصائب، أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا المذهب، الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا، بل الحوادث تحدث بلا خالق، وفي إبطال أديان أهل الملل وسائر العقلاء من الأولين والآخرين. لكن هذه الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول، بل تخرج أصحابها عن العقل والدين، كخروج الشعرة من العجين، إما بالجحد والتكذيب، وإما بالشك والريب؛ احتجنا إلى بيان بطلانها، للحاجة إلى مجاهدة أهلها، وبيان فسادها من أصلها، إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان، ما لا يحيط به إلا الرحمن. (1)
__________
(1) المنهاج (1/259).(1/56)
- وقال: والولي على أصله الفاسد -يعني ابن عربي- يأخذ عن الله بلا واسطة، لأنه يأخذ عن عقله، وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة، إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي، والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا للمخلوقات، بل هو وجود مطلق، أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية، وقد يقولون: هو وجود المخلوقات أو حال فيها، أو لا هذا ولا هذا. فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي: النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية، ويسمونها القوة القدسية، فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة. وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة، وهؤلاء -يعني الروافض- يعظمون أمر الإمامة، حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء، والإمام أعظم من النبي، كما يقوله الإسماعيلية. وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا، ويقولون: إنه يختص بقوة قدسية، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي، ويزعمون أن النبوة مكتسبة، وهؤلاء يقولون: إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات، من حصلت له فهو نبي: أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولي العالم، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله، ومرئيا في نفسه، ومسموعا في نفسه. هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة، وعنه أخذ ذلك الغزالي في كتبه 'المضنون به على غير أهلها'. (1)
__________
(1) المنهاج (8/22-24).(1/57)
- وجاء في مجموع الفتاوى: وحدثني الثقة أنه قرأ عليه 'فصوص الحكم' لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين. فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول، وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه: هذا أيضا هو ذات الله؟ فقال: وهل ثم شيء خارج عنها؟ نعم، الجميع في ذاته.
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدا فينافقه، فلم يثبت الخالق وإن كان في الباطن مقرا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض، والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار كما قال: فَلَمَّا { جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (14) (1) .
__________
(1) النمل الآيتان (13و14).(1/58)
وأما هؤلاء، فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال، يحسبون أنهم على حق وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندا مظهرا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جهال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر. وحدثني الشيخ "عبد السيد" الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلاما، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له: الشرف البلاسي يطلب منه المعرفة والعلم. قال: فدعاني إلى هذا المذهب، فقلت له: قولكم يشبه قول فرعون. قال: ونحن على قول فرعون. فقلت لعبد السيد: واعترف لك بهذا؟ قال: نعم، وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب فقلت له: هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون فحدثني بهذا، فقلت له: ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يحتاج إلى بينة، قال عبد السيد: فقلت له: لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون فقال: ولم؟ قلت: لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد -وكان هذا قبل أن يسلم-: نفعتك اليهودية يهودي خير من فرعوني. (1)
كلمة الشيخ في تائية ابن الفارض:
جاء في نقض المنطق: وابن الفارض -من متأخري الاتحادية- صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك. الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد. (2)
" التعليق:
هذه القصيدة اليوم، هي قرآن كثير من المتصوفة، ينشدونها في محافلهم وموالدهم وأمكنة بدعهم، ويعتبرون ذلك من أعظم الذكر، وأحيانا يرفقونها باسم الله على حسب تغنيهم.
__________
(1) مجموع الفتاوى (13/186-188).
(2) نقض المنطق (ص.62).(1/59)
- وله رسالة بعنوان 'الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم' تكلم فيها عن ابن عربي وكتبه وأصحابه. وقد لخصه التقي الفاسي في كتابه 'العقد الثمين' ومن تلخيصه أنقل: قال الفاسي: ثم قال ابن تيمية: فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو 'فصوص الحكم' وأمثاله، مثل صاحبه الصدر القونوي التلمساني، وابن سبعين، والششتري، وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من حسن وقبيح، ومدح وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق.
ثم قال ابن تيمية: ويكفيك بكفرهم أن من أخف أقوالهم: إن فرعون مات مؤمنا بريئا من الذنوب، كما قال -يعني ابن عربي-: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث قبل أن كتب عليه شيء من الآثام، والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق.
واستدل ابن تيمية على ذلك بما تقوم به الحجة، ثم قال: فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس والجن، أو من هو من أعظم أعدائه، فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه حال في كل مكان، فكان مما أنكروه عليهم، أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فكيف من جعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟(1/60)
ثم قال ابن تيمية: وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن أولئك غاية كفرهم أن جعلوه مثل المخلوقات، لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المحدثات، وجعلوه نفس المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بها كل فاجر وكافر وكل شيطان، وكل سبع وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، ثم قال: وهؤلاء يقولون إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم حيث قالوا: إن الله هو المسيح، فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله سبحانه وتعالى، ومعلوم شتم النصارى لله وكفرهم به، وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء، ولما قرأوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم، قال له قائل: إن هذا الكتاب يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا هذا، يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له قائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي؟ قال: لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، وهؤلاء إذا قيل: مقالتهم إنها كفر، لم يفهم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم، ولهذا قيل لرئيسهم: أنت نصيري، قال: نصير جزء مني.(1/61)
ثم قال ابن تيمية: وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المسلمين، أن من قال عن أحد من البشر: إنه جزء من الله، فإنه كافر في جميع الملل، إذ النصارى لم تقل هذا، وإن كان قولهم من أعظم الكفر، لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي أجزاء الخالق، ولا إن الخالق هو المخلوق، ولا إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار بين جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله كما قال تعالى: قَدْ { كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } وَحْدَهُ (1) واستدل على ذلك بآيات أخر.
__________
(1) الممتحنة الآية (4).(1/62)
ثم قال: فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها، مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حين عبد، فإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوة المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم كفرا من كفر عباد الأصنام، فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا: مَا { نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ } زُلْفَى (1) وقال تعالى: أَمِ { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } (43) (2) .
وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: وَلَئِنْ { سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (3) . واستدل على ذلك بغير هذه الآية.
__________
(1) الزمر الآية (3).
(2) الزمر الآية (43).
(3) الزمر الآية (38).(1/63)
ثم قال: وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره، وأن الأصنام من الله تعالى بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان، ومنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة. ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسماوات والأرض ربا غيرهما هو خالقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسماوات والأرض وسائر المخلوقات مغاير للسماوات والأرض وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق. ولهذا جعل أهل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم، وجعلهم في القرب، وجعل أهل النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله تعالى قصته من أعداء الله تعالى، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم فهو أكفر من اليهود والنصارى.
وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم، فإنهم من جنس القرامطة الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل ...(1/64)
وفي كتبه مثل الفتوحات المكية وأمثالها من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب، ثم قال: لم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر، ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لا يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتشيعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم، ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا أو جاهلا ضالا، وهكذا هؤلاء الاتحادية، فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهم الذين يبهمون قولهم ومخالفتهم لدين الإسلام، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم وأخذ يعتذر عنهم أو لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، ومن قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشائخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا، ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم، كقطاع الطرق، وكالتتار الذين يأخذون أموالهم ويبقون على دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أطم وأعظم من أن يوصف.
ثم قال: ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم عرف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم، وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيا، فإنه يعرف كذب نفسه فيما قال، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا، فهو أكفر من النصارى. (1)
" التعليق:
__________
(1) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (2/279-283).(1/65)
لله درك يا شيخ الإسلام، ما أحسن هذه الأحكام النابعة عن علم واستقراء، لا عن جهل وعاطفة. فإن هؤلاء الذين وصفت حالهم وبينت لنا وللمسلمين وحكامهم كيف ينبغي أن نتعامل معهم. فإن كتبهم ملأت أسواق المسلمين، ومكتباتهم، وصار الرجل يوصي صاحبه باقتناء 'الفتوحات المكية' و'فصوص الحكم' بل كتب ذلك في الجرائد والمجلات. فلا أدري متى ينتبه المسلمون من هذه الغفلة، ومتى يخرجون من هذه الجهالة العمياء، يلقبون هذا الزنديق بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وكل ما ورد من ألفاظ كفرية أولوها وزعموا أنهم هم أصحاب الذوق.
- وقال في حديثه عن القبوريين: وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستنزلهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة والرجاء لغير الله، والرغبة إليه ويشدون الرحال: إما إلى قبر لنبي أو صاحب أو صالح. أو من يظن أنه نبي، أو صاحب أو صالح. داعين له راغبين إليه. إلى أن قال: ومن أكابرهم من يقول: (الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان -مع استدبار الكعبة- قبلة الخاصة) وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين. (1)
- وقال: من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة. وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار (2) ، إذ الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف: من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا. (3)
__________
(1) الاقتضاء (2/841-843).
(2) وقد ذكر رحمه الله بعضها قبل هذا، فلتنظر هنالك.
(3) الاقتضاء (1/295).(1/66)
- وقال: ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرا أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين، أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر، وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع هذا لأمته.
وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها: أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له، أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.
وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا قبر الخليل، ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم؛ بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/161-162).(1/67)
- وقال: وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء. فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة، لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا فعلها الصحابة، لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك.
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرما منهيا عنه، ولكان صاحبه متعرضا لغضب الله ولعنته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (1) وقال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا" (2) . وقال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد (2/246) وابن سعد (2/241-242) وأبو يعلى (12/33-34/6681) والحميدي (2/445/1025) وأبو نعيم (7/317) كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وتمامه: لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (25) وأورد له شاهدين مرسلين: الأول عن زيد بن أسلم، والآخر عن عطاء. قال ابن عبدالبر تعليقا على مرسل عطاء في التمهيد (فتح البر: 1/281): "فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات".
(2) أحمد (2/284) والبخاري (1/700/437) ومسلم (1/376/530) وأبو داود (3/553/3227) والنسائي (4/401/2046) وفي الكبرى (4/257/7092) من طرق عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (1/377-378/532) من حديث جندب بن عبدالله.(1/68)
فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت، والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات، وقضاء الحاجات، وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/166-167).(1/69)
- وقال: وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة؛ فهذا لا نعرفه قولا لأحد. وبعده قول من يقول: ما ثم عذاب أصلا وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار. وربما احتج بعضهم بقوله: ذَلِكَ { يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } (1) فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له، كما توهم الصبي الصغير. ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخوف للعقلاء المميزين، لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف، وهذا شبيه بما تقول "الملاحدة" المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له، فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة. و"هذا القول" مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، فتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن، حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون.
__________
(1) الزمر الآية (16).(1/70)
فلو كان -والعياذ بالله- دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزوما لطاعة أمره -سرا وعلانية- ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم -كأبي بكر وعمر كانوا أعظمهم لزوما للطاعة سرا وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم، باطنا وظاهرا، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور و(3)ا على السالك حتى يصير عارفا محققا في زعمهم؛ وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى: وَاعْبُدْ { رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (99) (1) زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت، وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار: وَكُنَّا { نَخُوضُ مَعَ tûüإزح !$sƒّ:$# (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (48) (2) .اهـ (3)
- وقال: وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولا الطاعة والمعصية، ثم شهد طاعة بلا معصية -يريد بذلك طاعة القدر- كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع الإرادة. ثم ينتقلون "إلى المشهد الثالث" لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان. وفيها من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب. (4)
__________
(1) الحجر الآية (99).
(2) المدثر الآيات (45-48).
(3) مجموع الفتاوى (7/501-503).
(4) مجموع الفتاوى (7/504).(1/71)
- وقال: و'المتفلسفة' أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئا نزرا قليلا، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط والجهل المركب؛ فإن كلامهم في الطبيعيات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. فإن كلامهم في "واجب الوجود" ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في "العقول" و"النفوس" التي تزعم أتباعهم من أهل الملل، أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل؛ وليس الأمر كذلك، بل زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه -لكنه معلول له- وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله، بكثير كثير. (1)
- وقال: وأما قول الشاعر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى فشاهد حقا حين يشهده الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
بأن صلاة العارفين من الكفر
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/586-587).(1/72)
فهذا الكلام -مع أنه كفر- هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب؛ هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة؛ حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين، لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان. (1)
- وقال: وأما 'الإيمان بالرسول' فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه؛ ولهذا كان ركنا الإسلام: 'أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله'. ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق. والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد- تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به والعبادة له؛ فالنفاق يقع كثيرا في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته. والكفر: هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب أو استكبار، أو إباء أو إعراض؛ فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر. ثم هنا "نفاقان": نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة-.
__________
(1) مجموع الفتاوى (2/343).(1/73)
فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه: فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر -علما وعملا- وأنه يجوز تصديقه وطاعته؛ لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته؛ إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر، كما هو قول الصابئة الفلاسفة في هذه المسألة وفي غيرها؛ فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض؛ بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذبا؛ بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك؛ وهذا دين التتار ومن دخل معهم.
أما النفاق الذي هو دون هذا، فأن يطلب العلم لله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكا آخر: إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد؛ وإما من جهة التقليد؛ وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه؛ فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطنا وظاهرا بأن محمدا أكمل الخلق، وأفضل الخلق، وأنه رسول، وأنه أعلم الناس، لكن إذا لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته كفروا، وهذا كثير جدا لكن بسط الكلام في حكم هؤلاء له موضع غير هذا. (1)
- وقال: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله، فيسمون بعضهم عبد الكعبة، كما كان اسم عبدالرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات، وبعضهم عبد العزى وبعضهم عبد مناة وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله.
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/638-640).(1/74)
ونظير تسمية النصارى عبد المسيح. فغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعات من أصحابه: عبدالله وعبدالرحمن، كما سمى عبدالرحمن بن عوف ونحو هذا، وكما سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى فسماه عبدالرحمن، وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبدالقيوم.
ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابهيهم الغالين في المشائخ، فيقال هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس أو غلام ابن الرفاعي أو الحريري ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح، وفي نفوس المشركين من آلهتهم رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم، كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة، والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين.(1/75)
وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده: تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عبدالله وعبدالرحمن. كما قال تعالى: قُلِ { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } (1) فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى. وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا؛ غلب على أسمائهم التعبيد لله، كعبدالله؛ وعبدالرحمن، وعبد الغني؛ والسلام؛ والقاهر؛ واللطيف؛ والحكيم؛ والعزيز؛ والرحيم؛ والمحسن؛ والأحد؛ والواحد، والقادر؛ والكريم؛ والملك؛ والحق. وقد ثبت في صحيح مسلم عن نافع عن عبدالله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة" (2) وكان من شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه في الحروب: يا بني عبدالرحمن، يا بني عبدالله، يا بني عبيد الله، كما قالوا يوم بدر؛ وحنين؛ والفتح؛ والطائف؛ فكان شعار المهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبدالله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. (3)
__________
(1) الإسراء الآية (110).
(2) أخرجه أحمد (2/24) ومسلم (3/1682/2132) وأبو داود (5/236/4949) والترمذي (5/121/2833) وحسنه. وابن ماجه (2/1229/3728) من حديث ابن عمر.
(3) مجموع الفتاوى (1/378-380).(1/76)
- وقال: فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة، إلا ولا بد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ { كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) (1) . والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان، والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب: الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا، ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب: الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. فهذا أحد الوجهين وهو منع أن تكون هذه من المتشابه. (2)
- وقال رحمه الله في أبي معشر البلخي: وأبو معشر البلخي له 'مصحف القمر' يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. (3)
__________
(1) النساء الآية (82).
(2) مجموع الفتاوى (13/305).
(3) مجموع الفتاوى (17/507).(1/77)
- وقال في قوله تعالى: قُلِ { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } (22) (1) : بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شركة لهم، ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير، لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق، كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: استوح الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناد: يا شيخ، تقضى حاجتك. وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير. ونظير هذا، قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده.
والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، -ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت-، فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ. وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه. (2)
__________
(1) سبأ الآية (22).
(2) مجموع الفتاوى (18/322-323).(1/78)
- وقال في استعانة الإنس بالشياطين: والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه، وخلقه وبدنه وماله. والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام، وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم، فيقضون بعض أغراضه،كمن يعطي غيره مالا ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة. ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله -بالنجاسة- وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما -غيرهما- إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. ويكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم: إما تغوير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك. وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومن وقعت له ممن أعرفه، ما يطول حكايته، فإنهم كثيرون جدا. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/34-35).(1/79)
- وقال: والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانا مكاشفات، ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، لأن الشياطين تتنزل عليهم بها، وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر والكواكب، إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها، من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك، فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم، إما قتل بعض أعدائهم أو إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع. (1)
- وقال: وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع: فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا. وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق.
وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب: سلك مسلك التخييل، وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة.
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/41-42).(1/80)
وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا: إنهم كذبوا للمصلحة.
وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال: إنهم كذبوا للمصلحة، فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول: كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال: كذبوا لمصلحة الخلق، كما يحكى عن ابن التومرت وأمثاله.
ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حسن القصد، فإن النبي يقصد الخير، والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد، والنبي عندهم يكذب للمصلحة، إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب. (1)
- وقال: قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/157-158).
(2) مجموع الفتاوى (19/232-233).(1/81)
- وقال: فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية، لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل وهم أبعد عن متابعة الرسول. ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعي الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعي أنه أفضل من الرسول وأنه مستغن عن الرسول، وأن لهم إلى الله طرقا غير طريق الرسول، وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء الله مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكفر من اليهود والنصارى، وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك، وعند آخرين أن الرسول أمر أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له وقالوا: اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول: خويدمكم جاء ليسلم عليكم، فجبروا قلبه وأذنوا له بالدخول. فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودي ولا نصراني يقر بأنه رسول الله إلى الأميين، يقولون: إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص الله، وأن الله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع موسى، وهي حجة عليهم لا لهم، من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/275-276).(1/82)
- وقال: والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة؛ فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه، أو ناقصا لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم. (1)
- وقال: ونوح عليه السلام أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين.
__________
(1) درء التعارض (8/238).
(2) أحمد (3/116) والبخاري (13/519-520/7440) ومسلم (1/180-181/193) وابن ماجة (2/1442-1443/4312) من حديث أنس رضي الله عنه.(1/83)
وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هذه الأمة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه من الإنس غير عيسى وأمه: مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون: هذه تذكرنا بأولئك الصالحين. والشياطين تضلهم كما كانت تضل المشركين: تارة بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعى ويعبد، فيظن داعيه أنه قد أتى، أو يظن أن الله صور ملكا على صورته، فإن النصراني مثلا يدعو في الأسر وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا كيف يوجد في هذه الأماكن، فقال: هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين.
وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك فيظنه الشيخ نفسه أتى إن كان حيا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له. هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال: هذا ملك صوره الله على صورتي. وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم.(1/84)
ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك. وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم، مثل خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب، وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته فقرأه فإذا هو كلام الشياطين بعينه، وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به.(1/85)
وحكى لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكى خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك، واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين، والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض، فأمرته أن لا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش، وهذا يجري كثيرا في بلاد الكفر المحض، وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابه، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور الإسلام في التتار كثير جدا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته، قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلما يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش، وهذا كثير جدا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية، وبر وفجور. وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنا وظاهرا، أو يعرف ذلك مجملا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ورؤيا من الشيطان. (1)
موقفه من الرافضة:
قال الشيخ مرعي: فصل في توجه الشيخ إلى مصر ومحنته بها:
__________
(1) مجموع الفتاوى (17/456-459).(1/86)
- وسبب محنته وابتلائه قيامه في الله، والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة على غزو الكسروانيين الروافض وغيرهم من الدروز والنصيرية. وغزاهم بمن معه من المسلمين. وفتح بلادهم. وكاتب السلطان فيهم بحسم مادة شيوخهم الذين يضلونهم، والأمر بإقامة شعائر الإسلام وقراءة الأحاديث ونشر السنة ببلادهم كما مر ذكره. وكان استئصالهم في المحرم سنة خمس وسبعمائة. (1)
- جاء في درء التعارض: وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة، مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبدالله بن عباس، ومن لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين، والآخرين، بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء؟ فهم كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع، كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم. (2)
__________
(1) الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية (ص.126).
(2) درء تعارض العقل والنقل (5/69).(1/87)
- جاء في مجموع الفتاوى: والمقصود بهذا الأصل -أي طاعة الأنبياء والرسل طاعة مطلقة- أن من نصب إماما فأوجب طاعته مطلقا اعتقادا أو حالا فقد ضل في ذلك،كأئمة الضلال الرافضة الإمامية، حيث جعلوا في كل وقت إماما معصوما تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت، منهم من كان خليفة راشدا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو علي. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين، كعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق. ومنهم دون ذلك. (1)
- وجاء في الفتاوى الكبرى: فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. (2)
- وجاء في المنهاج: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم، والغلاة النصيرية وغير النصيرية، إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى. فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/69).
(2) الفتاوى الكبرى (5/47).
(3) منهاج السنة (8/486).(1/88)
- قال شيخ الإسلام في أثناء رده على ابن المطهر الرافضي: الثالث: أن يقال: الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكذبه غيرهم، وردوا من الصدق ما لم يرده غيرهم، وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم، مثل قولهم: إن قوله تعالى: إِنَّمَا { وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (55) (1) نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة. وقوله تعالى: مَرَجَ { } الْبَحْرَيْنِ (2) علي وفاطمة، يَخْرُجُ { مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } (22) (3) : الحسن والحسين، وَكُلَّ { شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } (12) (4) : علي بن أبي طالب، * { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ } عِمْرَانَ (5) : هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران، فَقَاتِلُوا { sp£Jح r& الْكُفْرِ } (6) : طلحة والزبير، وَالشَّجَرَةَ { الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ } (7) هم: بنوا أمية، إِنَّ { اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (8) : عائشة ولَئِنْ { أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ } عَمَلُكَ (9) : لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية.
__________
(1) المائدة الآية (55).
(2) الرحمن الآية (19).
(3) الرحمن الآية (22).
(4) يس الآية (12).
(5) آل عمران الآية (33).
(6) التوبة الآية (12).
(7) الإسراء الآية (60).
(8) البقرة الآية (67).
(9) الزمر الآية (65).(1/89)
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم، ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات، فهم أئمة التأويل، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه. ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات، والتكذيب بالحق منها، والتحريف لمعانيها، ما لا يوجد في صنف من المسلمين. فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد، وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه. (1)
وقال في رده على الحِلِّي الرافضي الذي يحتج بمن عرف بالإلحاد والزندقة:
- وفيه: فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها، كالفواحش والخمر، في مثل شهر رمضان، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، وسلكوا غير طريق المؤمنين، فهم كما قيل فيهم:
الدين يشكو بلية لا يشهدون صلاة ولا ترى الشرع إلا ويؤثرون عليه ... من فرقة فلسفية
إلا لأجل التقية
سياسة مدنية
مناهجا فلسفية
ولكن هذا حال الرافضة: دائما يعادون أولياء الله المتقين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويوالون الكفار والمنافقين. فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين، كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق، ومعاداة لأهل الإيمان.
__________
(1) منهاج السنة (3/403-405).(1/90)
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذاب المفتري، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان، وسائر السابقين الأولين والتابعين، وسائر أئمة المسلمين -من أهل العلم والدين- بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله، فيقول: "قال شيخنا الأعظم"، ويقول: "قدس الله روحه" مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله، ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين.
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى: أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } (52) (1) .
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب، إذ كانوا مقرين ببعض ما في الكتاب المنزل، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر، والطاغوت وهو [ما] يعبد من دون الله، فإنهم يعظمون الفلسفة المتضمنة لذلك، ويرون الدعاء والعبادة للموتى، واتخاذ المساجد على القبور، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك، ويقولون: "مناسك حج المشاهد".
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت.
__________
(1) النساء الآيتان (51و52).(1/91)
وهم يقولون لمن يقرون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوغين للشرك، هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فإنهم فضلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة، فقد عرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين، ومعاونتهم على قتال المسلمين، ما يعرفه الخاص والعام، حتى قيل: إنه ما اقتتل يهودي ومسلم، ولا نصراني ومسلم، ولا مشرك ومسلم، إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك. (1)
- وفيه: وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقا وعلما، وعملا وتبليغا، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين.
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله. ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة، لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين، لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى، فقبل معه الضلالة، وهذا أصل كل باطل. (2)
__________
(1) منهاج السنة (3/449-452).
(2) منهاج السنة (1/18).(1/92)
- وفيه: ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي، بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم، وكتبهم كلها شاهدة بذلك، وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك، مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة، وذكر جهلهم وضلالهم. وهم دائما يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى. كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة، فإنهم جهمية قدرية رافضة. وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله، والكتب مشحونة بذلك، ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية.
والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم، ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يتهم بمذهب الإمامية، فضلا عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن. (1)
- وفيه: وليس في شيوخ الرافضة إمام في شيء من علوم الإسلام، لا علم الحديث ولا الفقه ولا التفسير ولا القرآن، بل شيوخ الرافضة إما جاهل وإما زنديق، كشيوخ أهل الكتاب. (2)
- وفيه: ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين:
إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام، وهذا حال المعلم الأول للرافضة، أول من ابتدع الرفض، وحال أئمة الباطنية.
وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى، وهو الغالب على عامة الشيعة، إذا كانوا مسلمين في الباطن. (3)
- وفيه: والبدع مشتقة من الكفر، فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر.
__________
(1) منهاج السنة (4/130-131).
(2) منهاج السنة (7/286-287).
(3) منهاج السنة (6/115).(1/93)
وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة، فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم. فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل، وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله، وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة. وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة، وأدخل في الفتنة.
فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله.
وإذا كان الصحابة، ثم أهل الحديث والسنة المحضة، أولى بالهدى ودين الحق، وأبعد الطوائف عن الضلال والغي، فالرافضة بالعكس. (1)
- وفيه: [و]الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته، أو دخول الهوى والفرية في ذلك، كما فعلت الرافضة والنواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم. (2)
- وفيه: ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله، وسادات أهل الأرض، خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين، ويسلط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره، وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله. (3)
__________
(1) منهاج السنة (6/368-369).
(2) منهاج السنة (7/257).
(3) منهاج السنة (7/292).(1/94)
- وجاء في الاقتضاء: والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب، كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجمعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها، والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد، فقال تعالى: وَمَنْ { أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } (1) ولم يقل مشاهد الله وقال تعالى: قُلْ { أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ } مَسْجِدٍ (2) ولم يقل عند كل مشهد. وقال تعالى: مَا { كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } إلى قوله: إِنَّمَا { يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } (18) (3) ولم يقل مشاهد الله. بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ويرجو غير الله، ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك، وقال الله تعالى: وَمَسَاجِدُ { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } (4) ،
__________
(1) البقرة الآية (114).
(2) الأعراف الآية (29).
(3) التوبة الآيتان (17و18).
(4) الحج الآية (40)..(1/95)
وقال تعالى: فِي { بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (38) (1) . وقال تعالى: وَأَنَّ { الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (18) (2) ولم يقل: وأن المشاهد لله.
__________
(1) النور الآيات (36-38).
(2) الجن الآية (18).(1/96)
وكذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة كقوله في الحديث الصحيح: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة" (1) ولم يقل مشهدا، وقال أيضا في الحديث: "صلاة الرجل في المسجد تفضل عن صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة" (2) وقال في الحديث الصحيح: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم خرج إلى المسجد لا تنهزه إلا الصلاة، كانت خطواته إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث" (3) . وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها، ولم يأمر ببناء مشهد لا على قبر نبي، ولا غير قبر نبي، ولا على مقام نبي.
__________
(1) أحمد (1/70) والبخاري (1/716/450) ومسلم (1/378/533) والترمذي (2/134/318) وابن ماجه (1/243/736) كلهم من حديث عثمان بن عفان. وفي الباب عن عمرو بن عبسة وجابر وعلي وأبي ذر وعمر رضي الله عنهم.
(2) أحمد (2/252) والبخاري (2/166-167/647) ومسلم (1/459/649) وأبو داود (1/378-379/559) والترمذي (1/421/216) وابن ماجه (1/258/786).
(3) أحمد (2/252) والبخاري (2/166-167/647) ومسلم (1/459/649) وأبو داود (1/378-379/559) والترمذي (2/499-500/603) وابن ماجه (1/103/281).(1/97)
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه. (1)
- وقال رحمه الله: ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركا وبدعا، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم، ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة ولا جماعة، ولا يصلون فيها إن صلوا إلا أفرادا، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد، حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتابا سماه 'مناسك حج المشاهد' وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطوائف، وإن كان في غيرهم أيضا نوع من الشرك والكذب والبدع، لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، كان أعظم توحيدا لله وإخلاصا له في الدين، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك، فإذا كثر بعده عنه ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول. (2) ثم ذكر نحوا مما سبق نقله عنه آنفا.
__________
(1) الاقتضاء (2/751-753).
(2) مجموع الفتاوى (17/497-498).(1/98)
- وقال في أصل مذهب الرافضة: فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديا أظهر الإسلام نفاقا، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان. ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة. فإنه يكون الرجل واقفا، ثم يصير مفضلا، ثم يصير سبابا، ثم يصير غاليا، ثم يصير جاحدا معطلا. ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة، من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق.
فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدح في الرسول عليه السلام، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد؛ وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك، لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/428-429).(1/99)
فإذا ادعى المدعي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعى أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين.
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن (الولاية) أفضل من (النبوة) ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون. (1)
- وقال أيضا: فإن ابن عربي وأمثاله، وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة. (2)
- وقال: والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين؛ فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية؛ فهو من جنس النصارى وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم. (3)
وقال: فكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة، لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعا لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعا لما ورد عليه.
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/225).
(2) مجموع الفتاوى (11/233).
(3) مجموع الفتاوى (1/66).(1/100)
وهؤلاء الذين أخطأوا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول. وصار أحدهم يقول: أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقال له: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى. وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من الله؟ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان؟ (1)
- وقال: ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة كقول الغالية في علي، أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور المردان. ويقول أحدهم: إنما أنظر إلى صفات خالقي، وأشهدها في هذه الصورة، والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله. ولو قال مثل هذا الكلام في نبي كريم لكان كافرا، فكيف إذا قاله في صبي أمرد! فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (13/74).
(2) مجموع الفتاوى (15/424).(1/101)
- وجاء في الكواكب الدرية: ولما كان تاسع جمادى الأولى من سنة خمس، بالغ الشيخ في الرد على الفقراء الأحمدية والرفاعية بسبب خروجهم عن الشريعة بعد أن حضروا لنائب السلطنة، وشكوا من الشيخ، وطلبوا أن يسلم لهم حالهم، وأن لا يعارضهم، ولا ينكر عليهم. وطلبوا حضور الشيخ فلما حضر وقع بينهم كلام كثير فقال الشيخ -في كلام طويل-: إنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر، والسلوك، ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة، والكشف والتصرف، فيوجد في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع في الإسلام، والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الكاذبة، مثل ملامسة النار والحيات، وإظهار الدم واللادن والزعفران وماء الورد والعسل وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة كطلي أجسامهم لدخول النار بدهن الضفادع، وباطن قشر النرنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل وقال لهم بحضرة نائب السلطنة: أدخل أنا وهم النار، ومن احترق فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار بالحمام، فلما زيفهم الشيخ وأظهر تلبيسهم. قال: حتى لو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، وطرتم في الهواء ومشيتم على الماء لا عبرة بذلك مع مخالفة الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، وليس لأحد الخروج عن الشريعة ولا عن كتاب الله وسنة رسوله. (1)
__________
(1) الكواكب (ص.126-127).(1/102)
- وفي البداية والنهاية زيادة في القصة: ... فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتار، ليست تنفق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه. وصنف الشيخ جزءا في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة. (1)
" التعليق:
فلله در الشيخ ما أكثر علمه بأحوال الدجاجلة الذين يلبسون على الناس بهذه الخزعبلات، التي أكثرها مستند إلى السحر والشيطان، وأحواله الكاذبة. وما أكثرها في زماننا هذا، وأكثر رواجها على علماء المسلمين، وعامتهم يعدونها من الكرامات لأولياء الله، فيجد هؤلاء الشياطين كل التقدير والاحترام والله المستعان.
- وفي الكواكب الدرية: وقال الحافظ الذهبي: أقام بمصر يقرئ العلم واجتمع خلق عنده، إلى أن تكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهم ابن سبعين وابن عربي والقونوي وأشباههم، فتحزب عليه صوفية وفقراء وسعوا فيه، واجتمع خلائق من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا على أن يشتكوا الشيخ للسلطان، فطلع منهم خلق إلى القلعة وخلق تحت القلعة، وكانت لهم ضجة شديدة حتى قال السلطان: ما لهؤلاء؟ فقيل له: جاءوا من أجل الشيخ ابن تيمية يشكون منه، ويقولون: إنه يسب مشايخهم ويضع من قدرهم عند الناس، واستعانوا فيه وجلبوا عليه، ودخلوا على الأمراء في أمره، ولم يبقوا ممكنا. وأمر أن يعقد له مجلس بدار العدل، فعقد له يوم الثلاثاء في عشر شوال الأول سنة سبع وسبعمائة، وظهر في ذلك المجلس من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه وصدق توكله وبيان حجته ما يتجاوز الوصف، وكان وقتا مشهودا...
__________
(1) البداية والنهاية (14/38).(1/103)
وذكر علم الدين البرزالي وغيره، أن في شوال من سنة سبع وسبعمائة، شكا شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الآملي وابن عطاء، وجماعة نحو الخمسمائة من الشيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره، إلى الدولة فخيروه بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط، فأجابهم. فأركبوه خيل البريد ليلة ثامن عشر شوال، ثم أرسل خلفه من الغد بريد آخر، فرده على مرحلة من مصر، ورأوا مصلحتهم في اعتقاله، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء، فقال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. فقال قاضي القضاة: وفيه مصلحة له، واستناب شمس الدين التونسي المالكي، وأذن أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين، فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس. فأرسل إلى حبس القضاة بحارة الديلم، وأجلس في الموضع الذي جلس فيه تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن في أن يكون عنده من يخدمه، وكان كل ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة. (1)
" التعليق:
هكذا يظلم الشيخ بالسجون، مع اعترافهم أن الحق معه، ولكن إرضاء الغوغاء والحمقى يفعل ما يفعل، ولإخلاص الشيخ لعقيدته السلفية جعل الله له الفرج من كل ضيق. وكان السجن أفضل له، حتى تفرغ التفرغ الكامل، واستجمع ذهنه. ففتح الله عليه من جواهر العلم والفهم ما لم يصل له أن لو كان في بيته جالسا: كما صرح بذلك هو نفسه رضي الله عنه.
__________
(1) الكواكب (ص.133-134).(1/104)
- وقال رحمه الله: وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه: وَاقْصِدْ { فِي } مَشْيِكَ (1) وقال في كتابه: وَعِبَادُ { الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ } هَوْنًا (2) أي: بسكينة، ووقار.
وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة والسكينة. ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع. كسماع القرآن ونحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له: مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال: ورد علي الحال، وأنا سكران قيل له: إذا كان السبب محظورا، لم يكن السكران معذورا.
فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة، من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى والمشركين والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، ومن كان كاذبا فهو منافق ضال. (3)
موقفه من الجهمية:
إن مواقف الشيخ مع هذه النحلة وفروعها متعددة، وكتبه طافحة بالرد عليهم وتفنيد آرائهم بالحجج البينات من صحيح المنقول وصريح المعقول. نقتطف بعضا منها:
__________
(1) لقمان الآية (19).
(2) الفرقان الآية (63).
(3) مجموع الفتاوى (11/599-600).(1/105)
- قال: وأما الذي أقوله الآن وأكتبه -وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس-: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد -إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله. وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. (1)
- نموذج من مناظراته في العقيدة الواسطية رضي الله عنه:
قال: أما بعد: فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة، في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد.
فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة، قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشائخ، ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة. فقال لي: هذا المجلس عقد لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك، وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد. وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك.
فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أجمع عليه سلف الأمة. فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى (6/394).(1/106)
وأما الكتب، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير: أستاذ دار السلطان، يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أنه مكذوب.
وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد وغيره، فأجيبه بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك. فقلت: اكتبوا. فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب، فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر ومسائل الإيمان والوعيد والإمامة والتفضيل.
وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة: الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة، وأحبها ورضيها، ونهى عن المعصية وكرهها. والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بالذنوب ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحدا، وأن الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم عليا على عثمان: فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وذكرت هذا أو نحوه، فإني الآن قد بعد عهدي، ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك.
ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي، كما قد كذبوا علي غير مرة. وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون: كتم بعضه أو داهن ودارى. فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام.(1/107)
وقلت قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به، وغضبت غضبا شديدا، لكني أذكر أني قلت: أنا أعلم أن أقواما كذبوا علي وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟ حين تخلى عنه كل أحد ولا أحد ينطق بحجته، ولا أحد يجاهد عنه. وقمت مظهرا لحجته، مجاهدا عنه مرغبا فيه؟.
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في، فكيف يصنعون بغيري؟ ولو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف، لوجب عليه أن ينصفه. وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليوافقوا على افترائهم. وقلت كلاما أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به، فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين بأن يكتب ذلك.
وقلت أيضا: كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده؟ لكنني قلت أيضا بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف. ثم أرسلت من أحضرها ومعها كراريس بخطي من المنزل. فحضرت العقيدة الواسطية.
وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم علي من أرض واسط بعض قضاة نواحيها، شيخ يقال له: 'رضى الدين الواسطي' من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجا، وكان من أهل الخير والدين. وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي دولة التتار من غلبة الجهل والظلم، ودروس الدين والعلم. وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته. فاستعفيت من ذلك وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة. فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر. وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما.(1/108)
فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين، فقرأها على الحاضرين حرفا حرفا، والجماعة الحاضرون يسمعونها، ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضا يسأل عن مواضع فيها. وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك.
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس فإنه كثير لا ينضبط. فكان مما اعترض علي بعضهم -لما ذكر في أولها، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فقال:- ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده: أن هذا ينفي التأويل، الذي أثبته أهل التأويل، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوبا وإما جوازا.
فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: وَكَلَّمَ { اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (164) أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحا، ومثل تأويلات القرامطة، والباطنية وغيرهم من الجهمية، والرافضة، والقدرية، وغيرهم. فسكت وفي نفسه ما فيها. (1) ثم ذكر بقية المناظرة فلتنظر هناك.
" التعليق:
هذه المناظرة تعتبر وثيقة تاريخية كبرى في تاريخ العقيدة السلفية. ويستفاد منها:
* ما كان عليه الشيخ من التعظيم والتقدير في نفوس الجميع: الأمير والمأمور.
* اهتمام أولي الأمر في ذلك الوقت بأمور العقيدة، بينما الآن ربما لو تكلم شخص بمثل هذه الأمور، لأصبح مهزلة وسخرية في أعين أولي الأمر إلا من شاء الله.
* تصوير المجتمع الذي كان يغلي بالمبتدعة الذين امتهنوا التزوير على كبار السلفيين في ذلك الوقت.
* سبب تأليف العقيدة الواسطية.
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/160-165).(1/109)
- وقال: إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك، كلفظ الجسم، والجهة، والحيز، والجبر ونحو ذلك؛ بخلاف ألفاظ الرسول فإن مراده بها يعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه، ولو يعلم الرجل مراده لوجب عليه الإيمان بما قاله مجملا. ولو قدر معنى صحيح -والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر به- لم يحل لأحد أن يدخله في دين المسلمين، بخلاف ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن التصديق به واجب.
والأقوال المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة. ولما انتشر الكلام المحدث، ودخل فيه ما يناقض الكتاب والسنة، وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة؛ صار بيان مرادهم بتلك الألفاظ وما احتجوا به لذلك من لغة وعقل يبين للمؤمن ما يمنعه أن يقع في البدعة والضلال، أو يخلص منها -إن كان قد وقع- ويدفع عن نفسه في الباطن والظاهر ما يعارض إيمانه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. (1)
__________
(1) الفتاوى (5/432-433).(1/110)
- وقال في رده على المعتزلة والأشعرية: ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرا نافذا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء، علم قطعا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته، وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله؛ ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه، ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ والأشعرية مخانيث المعتزلة. وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث، ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب 'الإبانة' الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر، والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير. (1)
__________
(1) الفتاوى (6/359-360).(1/111)
- وقال: ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه. وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها. (1)
- وقال: وبيان أن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفى ما نفاه كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح؛ وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضا صريح المعقول، وكان أولى بمن قال الله فيه: وَقَالُوا { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (10) (2) . (3)
__________
(1) درء التعارض (1/76-77).
(2) الملك الآية (10).
(3) درء التعارض (1/100).(1/112)
- وقال: قال تعالى: كَانَ { النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (1) . فأنزل الله الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع. وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ (2)
__________
(1) البقرة الآية (213).
(2) درء التعارض (1/147).(1/113)
- وقال: وقولك: إنه يتعالى عن ذلك، فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ومنازعك يقول: إنك أنت الظالم المفتري على الله، الذي سلبته صفات الكمال، ووصفته بصفة الجهل، وقلت فيه المحال، وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال. وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال، ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين، وما فطر الله عليه عباده أجمعين، وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين، ووصفوا ربهم بأنه يسمع كلامهم، ويرى أعيانهم، ويسمع سرهم ونجواهم. وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك، ولم تجعل له علما سوى المخلوقات. والمخلوقات ليست علما باتفاق أهل الفطر السليمات، فتعالى الملك الحق عن قولك، وقول أمثالك المفترين الملحدين، أعداء الأنبياء شياطين الإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وأنت فليس لك دليل أصلا ينفي ذلك، فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته، لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفي به الصفات، كما نفيت العلم. (1)
- وقال: وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم، أحسن أحوالها أن تكون عوجاء طويلة، قد تهلك، وقد توصل، إذ لو كانت مستقيمة موصلة، لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟ (2)
محنة الشيخ بسبب العقيدة الحموية:
- جاء في الكواكب الدرية: وقال الشيخ علم الدين: وفي شهر ربيع أول من سنة ثمان وتسعين وستمائة، وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية. وكان الشروع فيها من أول الشهر واستمرت إلى آخر الشهر.
__________
(1) درء التعارض (10/76-77).
(2) درء التعارض (10/316).(1/114)
وملخصها: أنه كتب جوابا لسؤال سئل عنه من (حماة) في الصفات. فذكر فيه مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين. وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين. واجتمع به سيف الدين "جاغان" في حال نيابته بدمشق، وقيامه مقام نائب السلطنة. وامتثل أمره. وقبل قوله والتمس منه كثرة الاجتماع به. فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعته، مع ما كان عنده قبل ذلك من كراهية الشيخ وما ألمهم بظهوره وذكره الحسن. فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغا إلى الكلام فيه، لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم. فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف. ويعتقدونه الصواب. فأخذوا الجواب الذي كتبه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحدا واحدا. وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم وحاشاه من ذلك. ووافقهم على ذلك جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذ. ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية وطلب حضوره. وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه في الجواب إن العقائد ليس أمرها إليك، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي". فوصلت إليه هذه الرسالة فأوغروا خاطره، وشوشوا قلبه وقالوا: لم يحضر ورد عليك. فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة. فنودي في بعض البلد. ثم بادر سيف الدين "جاغان" وأرسل طائفة فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم. فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة. ثم طلب سيف الدين من قام في ذلك وسعى فيه. فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا. (1)
" التعليق:
__________
(1) الكواكب الدرية (113-114).(1/115)
وهكذا ينصر الله الحق ويحقه، مهما تضامن أهل البدع وتعاونوا على الإثم والعدوان، وَلَيَنْصُرَنَّ { اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } احةب. (1)
ولشيخ الإسلام مواقف من أهل الكلام كثيرة مشهورة ولآلئ جمة منثورة منها:
- قال: فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام. ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. (2)
- وقال: ولما ظهرت الجهمية -المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه- افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال:
فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته، مستو على عرشه بائن من خلقه،كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.
والقول الثاني قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من غيرهم.
__________
(1) الحج الآية (40).
(2) الفتاوى الكبرى (5/47).(1/116)
والقول الثالث قول حلولية الجهمية، الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية -أتباع حسين النجار- وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد: من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم، كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء. وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه. وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي-التي لا يوصف بها إلا المعدوم- لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء -عند نظره وبحثه- يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له هذا ينافي ذلك قال: هذا مقتضى عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.
والقول الرابع قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية -كأبي طالب المكي وأتباعه: كأبي الحكم بن برجان وأمثاله- ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا. وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخري الصوفية، ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد -لما سئل عن التوحيد- فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (2/297-299).(1/117)
- وقال: (فالجهمية) النفاة الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل الجميع عندهم متأول أو مفوض، وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص، كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي. (1)
- وقال: وفي القرآن من ذكر الاصطفاء والاجتباء والتقريب والمناجاة والمناداة والخلة ونحو ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة. وهذا مما اتفق عليه قدماء أهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة والعبادة والعلم والإيمان. وخالف في حقيقته قوم من الملحدة المنافقين المضارعين للصابئين ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنصارى، من الجهمية أو من فيه تجهم، وإن كان الغالب عليه السنة. فتارة ينكرون أن الله يخالل أحدا، أو يحب أحدا، أو يواد أحدا، أو يكلم أحدا، أو يتكلم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيفسرون ذلك تارة بإحسانه إلى عباده، وتارة بإرادته الإحسان إليهم، وتارة ينكرون أن الله يحب أو يخالل. ويحرفون الكلم عن مواضعه في محبة العبد له، بأنه إرادة طاعته، أو محبته على إحسانه. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/122).
(2) مجموع الفتاوى (2/437-438).(1/118)
- وقال: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ "جهم بن صفوان" بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه "بشر بن غياث" ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق. وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى "الخراءة" ويقول: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به" (1) "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (2) ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه.؟
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (13/227/16179) وهناد في الزهد (1/281/494) والبغوي (14/303-305/4111و4113) والحاكم (2/4) وابن أبي الدنيا في القناعة كما في الفتح (1/26) من طرق عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه ابن خزيمة في حديث علي بن حجر رقم (386) والبيهقي (7/76) والبغوي (14/302-303/4110) من حديث المطلب بن عبدالله رضي الله عنه. ورواه الطبراني في الكبير (2/155/1647) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1803).
(2) أخرجه أحمد (4/126) وابن ماجه (1/16/43) وأصله عند أبي داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/178/5) والحاكم (1/95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي، من حديث العرباض بن سارية.(1/119)
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟ (1)
- وقال: فلا مجاز في القرآن. بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف. (2)
- وقال: فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول، فإنه إذا كان في مكان، فالأمكنة منها عال وسافل. فهو في العالي عال، وفي السافل سافل. بل إذا قالوا إنه في كل مكان فجعلوا الأمكنة كلها محال له ظروفا وأوعية جعلوها في الحقيقة أعلى منه. فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه، والحاوي فوق المحوي. والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا: "إنه فوق العرش، وإنه في السماء فوق كل شيء"، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره، أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاء سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو فوق كل شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه، هو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (6/368-369).
(2) مجموع الفتاوى (7/113).
(3) مجموع الفتاوى (16/100).(1/120)
- وقال: قوله: كان ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات، وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون: إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل، وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر، وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، ويثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب 'الإرشاد' فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة، فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين، والعقل عاضد له معاون. فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف، وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم، ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه. ومن هنا طمع فيهم المعتزلة، وطمعت الفلاسفة في الطائفتين، بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول، وعن طلب الهدى من جهته، وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة، ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ما جاء به الشرع مطلقا، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون: "إنه لا يرجع إلى السمع في الصفات"، ولا يقولون: "الأدلة السمعية لا تفيد اليقين" بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم.(1/121)
وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس موقوفا على دليل الأعراض، وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل، وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول: إن هذا الدليل دليل الأعراض صحيح، لكن الاستدلال به بدعة، ولا حاجة إليه، فهؤلاء لا يقولون: إن دلالة السمع موقوفة عليه، لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة، وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه؟ وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب 'الإرشاد' وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة، تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات، لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون: إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار.(1/122)
فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولوا إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم، وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة المعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة؛ لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. (1)
- وقال: وقوله: وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الرسول -وهو المطابق للمعقول- لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس، والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام. والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات: رَبَّنَا { اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (10) (2) .اهـ (3)
__________
(1) درء التعارض (2/12-15).
(2) الحشر الآية (10).
(3) درء التعارض (2/308).(1/123)
- قال: وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا، مثل كتاب'المقالات' لأبي الحسن الأشعري، وكتاب 'الملل والنحل' للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم -فرأيت عامة الاختلاف التي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة- فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب.
كما قال أبو المعالي وقت السياق: (لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي).
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم.
وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بـ'نهاية الإقدام' في علم الكلام وقال: (قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول، ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها فلم أر إلا واضعا كف حائر ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
على ذقن أو قارعا سن نادم(1/124)
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها، وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة.
وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف والحيرة.
وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد، بل في الموضع الواحد منه؛ ينصر قولا، وفي موضع آخر منه -أو من كتاب آخر-؛ ينصر نقيضه!! ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك. ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله؛ ذكر على أن كلا منهما إشكال. وقد ذكرت كلامه، وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع.
فإن الله قد أرسل رسله بالحق، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله؛ وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه، ولم يتناقض. لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف، الذي لم يهتدوا معه إلى الحق، كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا.
والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، ومن الذي ذاق هذا الشراب؟
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(1/125)
وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: إِلَيْهِ { يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (1) الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (2) واقرأ في النفي: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (3) وَلَا { يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (4) ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي).
وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره. وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة، ليس هذا من خصائصه، فإن الحق واحد، ولا يخرج عما جاءت به الرسل، وهو الموافق لصريح العقل: فِطْرَةَ { اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (5) . وهؤلاء لا يعرفون ذلك، بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وهم مختلفون في الكتاب وَإِنَّ { الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (176) (6) .اهـ (7)
__________
(1) فاطر الآية (10).
(2) طه الآية (5).
(3) الشورى الآية (11).
(4) طه الآية (110).
(5) الروم الآية (30).
(6) البقرة الآية (176).
(7) المنهاج (5/268-272).(1/126)
- وقال: وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف -مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك- هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام: من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم: مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر الله بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل الله ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة. ونحو ذلك مما يقولونه: كقولهم إن كلام الله كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض. ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ. والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى: اللَّهُ { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } مَثَانِيَ (1) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيّ "أي آية في كتاب الله أعظم" (2) وقوله في الفاتحة: "لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" (3)
__________
(1) الزمر الآية (23).
(2) سيأتي تخريجه.
(3) أحمد (2/412-413) وعبدالله بن أحمد في زوائده على المسند (5/114-115) والترمذي (5/277-278/3125) والنسائي (2/477/913) وابن خزيمة (1/252/501) وابن حبان (الإحسان)(3/53/775) والحاكم (1/557) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وأخرجه الترمذي في موضع آخر (5/143-144/2875) مطولا وقال: "حديث حسن صحيح"، من حديث أبي هريرة عن أبي بن كعب رضي الله عنه..(1/127)
ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أبيا: "أي آية في كتاب الله أعظم؟" فأجابه أُبَي بأنها آية الكرسي فضرب بيده في صدره وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" (1) ولم يستشكل أُبَي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات. (2)
- وقال: والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله. فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني، ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة. وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لها، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة، يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم، ثم يتأولون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. وقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس. وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار، فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة. (3)
__________
(1) أحمد (5/141-142) ومسلم (1/556/810) وأبو داود (2/151/1460).
(2) مجموع الفتاوى (17/182-183).
(3) مجموع الفتاوى (17/355-356).(1/128)
- وقال: ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب وقد قال تعالى: وَإِنَّ { الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (176) (1) .اهـ (2)
__________
(1) البقرة الآية (176).
(2) درء التعارض (2/301).(1/129)
- وقال وهو يتحدث عن امتحان ابن تومرت: ... وإنه كان لهم يسمونه يوم الفرقان، فرق فيه بين أهل الجنة وأهل النار بزعمه، فصار كل من علموا أنه من أوليائهم جعلوه من أهل الجنة، وعصموا دمه، ومن علموا أنه من أعدائهم جعلوه من أهل النار، فاستحلوا دمه، واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية، الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة، يقرؤون القرآن والحديث كالصحيحين، والموطأ وغير ذلك، والفقه على مذهب أهل المدينة، فزعم أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم. واستحل أيضا أموالهم، وغير ذلك من المحرمات بهذا التأويل ونحوه، من جنس ما كانت تستحله الجهمية المعطلة -كالفلاسفة والمعتزلة، وسائر نفاة الصفات- من أهل السنة والجماعة، لما امتحنوا الناس في "خلافة المأمون" وأظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونفوا أن يكون لله علم، أو قدرة أو كلام أو مشيئة أو شيء من الصفات القائمة بذاته. وصار كل من وافقهم على هذا التعطيل عصموا دمه وماله، وولوه الولايات وأعطوه الرزق من بيت المال، وقبلوا شهادته وافتدوه من الأسر، ومن لم يوافقهم على أن القرآن مخلوق وما يتبع ذلك من بدعهم قتلوه، أو حبسوه أو ضربوه أو منعوه العطاء من بيت المال، ولم يولوه ولاية، ولم يقبلوا له شهادة، ولم يفدوه من الكفار، يقولون: هذا مشبه، هذا مجسم، لقوله: "إن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله استوى على العرش، ونحو ذلك. فدامت هذه المحنة على المسلمين بضع عشرة سنة، في أواخر خلافة المأمون، وخلافة أخيه المعتصم، والواثق بن المعتصم، ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/478-479).(1/130)
بدعة القول بخلق القرآن:
- قال رحمه الله: وإنما القول المتواتر عن أئمة السلف أنهم قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا مقالة الجهمية الذين جعلوا القرآن مخلوقا منفصلا عن الله، بل كفروا من قال ذلك، والكتب الموجودة فيها ألفاظهم بأسانيدها وغير أسانيدها كثيرة، مثل: كتاب 'الرد على الجهمية' للإمام أبي محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم، و'الرد على الجهمية' لعبدالله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، و'الرد على الجهمية' للحكم بن معبد الخزاعي، وكتاب 'السنة' لعبدالله بن أحمد بن حنبل، و'السنة' لحنبل ابن عم الإمام أحمد، و'السنة' لأبي داود السجستاني، و'السنة' للأثرم، و'السنة' لأبي بكر الخلال، و'السنة والرد على أهل الأهواء' لخشيش بن أصرم، و'الرد على الجهمية' لعثمان بن سعيد الدارمي، و'نقض عثمان بن سعيد، على الجهمي الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد'، و'كتاب التوحيد' لابن خزيمة، و'السنة' للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني،و'شرح أصول السنة' لأبي القاسم اللالكائي، و'الإبانة' لأبي عبدالله بن بطة، وكتب أبي عبدالله بن منده، و'السنة' لأبي ذر الهروي، و'الأسماء والصفات' للبيهقي، و'الأصول' لأبي عمر الطلمنكي، و'الفاروق' لأبي إسماعيل الأنصاري، و'الحجة' لأبي القاسم التيمي، إلى غير ذلك من المصنفات التي يطول تعدادها، التي يذكر مصنفوها العلماء الثقات مذاهب السلف بالأسانيد الثابتة عنهم بألفاظهم الكثيرة المتواترة التي تعرف منها أقوالهم، مع أنه من حين محنة الجهمية لأهل السنة -التي جرت في زمن أحمد بن حنبل لما صبر فيها الإمام أحمد، وقام بإظهار السنة، والصبر على محنة الجهمية حتى نصر الله الإسلام والسنة وأطفأ نار تلك الفتنة- ظهر في ديار الإسلام وانتشر بين الخاص والعام أن مذهب أهل السنة والحديث المتبعين للسلف من الصحابة والتابعين: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الذين أحدثوا في الإسلام القول بأن القرآن(1/131)
مخلوق هم الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، ومن اتبعه من المعتزلة وغيرهم من أصناف الجهمية، لم يقل هذا القول أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان. فهذا القول هو القول المعروف عن أهل السنة والجماعة، وهو القول بأن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. (1)
- وقال: وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره، فمن قال: إن الذي في المصحف ليس كلام الله، بل كلام غيره فهو ملحد مارق. ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى؟ (2)
- وقال: وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف. (3)
- وقال: وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش. (4)
__________
(1) مجموع الفتاوى (17/74-76).
(2) مجموع الفتاوى (12/276).
(3) مجموع الفتاوى (12/508).
(4) مجموع الفتاوى (1/367).(1/132)
- وقال: لو قال القائل: إذا قلنا: إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه، فيقال له: هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت: إن له علما حقيقة وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة، وبصرا حقيقة، وكلاما حقيقة وكذلك سائر ما أثبته من الصفات، فإن هذه الصفات هي في حقنا أعراض قائمة بجسم، فإذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات، وما يدخل في ذلك من التجسيم: فكذلك القول في الاستواء، ولا فرق.
فإن قلت: أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة في غير ذلك. قلت: ولكن هذا خطأ بإجماع الأمم: مسلمهم وكافرهم، وبإجماع أهل اللغات، فضلا عن أهل الشرائع والديانات، وهذا نظير قول من يقول: إن لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة في وجه الإنسان دون وجه الحيوان والملك والجني، أو لفظ العلم إنما استعمل حقيقة في علم الإنسان دون علم الملك والجني، ونحو ذلك، بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها، فالقدر المشترك هو النسبة، فنسبة علم الملك والجني ووجوههما إليه كنسبة علم الإنسان ووجهه إليه، وهكذا في سائر الصفات. (1)
- وقال: ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات. ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه، ويقولون: إنه في جوف السماء، وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه. وهؤلاء ضلال جهال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول. فالحلولية والمعطلة متقابلان. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/218-219).
(2) درء التعارض (7/7).(1/133)
- وسئل شيخ الإسلام عن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته" (1) ما معنى تردد الله؟
فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد.
والتحقيق: أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه ... فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
__________
(1) البخاري (11/414/6502).(1/134)
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح "حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره" (1) وقال تعالى: كُتِبَ { عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } (2) الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له، يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته. (3)
قوله في الشفاعة:
- قال: فالشفاعة نوعان:
أحدهما: الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون، ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم، وهي شرك.
__________
(1) أحمد (2/260) والبخاري (11/388/6487) ومسلم (4/2174/2823) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) البقرة الآية (216).
(3) مجموع الفتاوى (18/129-131).(1/135)
والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله. وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد. قال: "فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" (1) فإذا أذن له في الشفاعة شفع - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد الله أن يشفع فيه. (2)
- وقال: وله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات:
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضي بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم الشفاعة، حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن يستحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين، والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج الله تعالى من النار أقواما بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة. (3)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) تقدم ضمن مواقفه رحمه الله من الصوفية.
(2) مجموع الفتاوى (1/332).
(3) مجموع الفتاوى (3/147-148).(1/136)
- قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزما من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعا، وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فسادا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يدفع أدنى الفسادين بأعلاهما، بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" (1) .اهـ (2)
- وقال: وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون. ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه. وأهل البدع -مثل الخوارج- يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ويستحلون دمه. وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلا بباطل. (3)
__________
(1) أحمد (6/444-445) وأبو داود (5/218/4919) والترمذي (4/572-573/2509) وقال: "هذا حديث صحيح". البخاري في الأدب المفرد (391).
(2) الاستقامة (1/330).
(3) مجموع الفتاوى (16/96).(1/137)
- وقال: أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة، فإن أولهم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل (1) ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم وقتالهم (2) ، وقاتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مستفيضة بوصفهم وذمهم والأمر بقتالهم، قال أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة". (3)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) أحمد (3/68 و73) والبخاري (8/84/4351) ومسلم (2/741-742/1064) وأبو داود (5/121-122/4764) والنسائي (5/92-93/2577) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) تقدم تخريجه قريبا.(1/138)
ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم: أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: "اعدل فإنك لم تعدل"، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ويلك. ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل". فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفها وترك عدل، وقوله: "اعدل" أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة، أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل؛ لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف -بزعمهم- ظاهر القرآن. وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث الصادق المصدوق. وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة: إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن.(1/139)
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام حرب ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة؛ وجمهور المعتزلة؛ والجهمية؛ وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم. فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرا. (1)
- وقال: فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه -كالخوارج- طاعن في كتاب الله مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مفارق لجماعة المسلمين، وكان شيطان الخوارج مقموعا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه، وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا عليا ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" (2) .اهـ (3)
- قال: والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافرا؛ لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافرا، كان قوله شرا من قول الخوارج. (4)
- وقال: ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج. (5)
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/71-73).
(2) أحمد (3/32،97) ومسلم (2/745/1065(150)) وأبو داود (5/50/4667).
(3) مجموع الفتاوى (19/88-89).
(4) مجموع الفتاوى (20/164).
(5) مجموع الفتاوى (3/151).(1/140)
- وقال: والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/282).(1/141)
- وقال: فإن علي بن أبى طالب هو الذي قاتل المارقين وهم الخوارج الحرورية الذين كانوا من شيعة علي، ثم خرجوا عليه وكفروه وكفروا من والاه ونصبوا له العداوة، وقاتلوه ومن معه وهم الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة حيث قال فيهم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله يوم القيامة، آيتهم أن فيهم رجلا مخدج اليدين، له عضل عليها شعرات تدردر" (1) . وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرا، وقتله أحد رؤوسهم: عبدالرحمن بن ملجم المرادي. فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا: إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارا مرتدين، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة، وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح الله تعالى لهم، وثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، وإخباره بأنهم من أهل الجنة، ونحو ذلك من النصوص، ومن لم يقبل هذه الحجج، لم يمكنه أن يثبت إيمان علي ابن أبي طالب وأمثاله. (2)
__________
(1) مسلم (2/748-749/1066(156)) وأبو داود (5/125/4768).
(2) مجموع الفتاوى (4/467-468).(1/142)
- وقال: والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم، هم شر من الخوارج الذين نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتالهم ورغب فيه. وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته. ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - شمل الجميع، ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى، أو من باب كونهم في معناهم. فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة، ففي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن علي بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: "إذا حدثتكم عن رسول الله حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" (1) . وفى صحيح مسلم عن زيد بن وهب: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي -رضي الله عنه- الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض". والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس. فسيروا على اسم الله وذكر الحديث إلى آخره. (2)
__________
(1) أحمد (1/81) والبخاري (12/350/6930) ومسلم (2/746-747/1066(154)).
(2) تقدم قريبا.(1/143)
وفي مسلم (1) أيضا: عن عبدالله بن رافع كاتب علي رضى الله عنه، أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم -وأشار إلى حلقه- من أبغض خلق الله إليه، منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم علي بن طالب قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا. فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. وهذه العلامة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم. فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم "لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال" (2) . وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
__________
(1) 2/749/1066(157)).
(2) أخرجه من حديث أبي برزة رضي الله عنه: أحمد (4/421-422،424-425) والطيالسي (923) والنسائي (7/136-137/4114) وقال: "شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور". والحاكم (2/146-147) وصححه على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي. وقد أورد شريكا في الميزان (2/269) ثم قال: "بصري لا يعرف إلا برواية الأزرق بن قيس عنه".
ويشهد له حديث ابن عمر وفيه: " ... فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم أو طوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله عز وجل، فردد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع". أخرجه: أحمد (2/84) وابن ماجه (1/61-62/174). قال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، وقد احتج البخاري بجميع رواته". وهو عند الطبراني كما في المجمع (6/230) وحسن الهيثمي إسناده.(1/144)
وأيضا فالصفات إلى وصفها تعم غير ذلك العسكر، ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا مثل ما في الصحيحين عن أبى سلمة وعطاء ابن يسار أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية، هل سمعت رسول الله يذكرها؟ قال: لا أدرى؟ ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم -أو حلوقهم- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شيء من الدم؟ اللفظ لمسلم (1) . وفى الصحيحين أيضا عن أبى سعيد قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم، جاء عبدالله ذو الخويصرة التميمي -وفى راوية: أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. قال عمر بن الخطاب: ايذن لي فأضرب عنقه. قال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه -وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذة فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. وذكر ما في الحديث. (2)
فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم. ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
__________
(1) البخاري (12/350/6931) ومسلم (2/743-744/1064(147)).
(2) البخاري (6/766/3610) ومسلم (2/744/1064(148)).(1/145)
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام، حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية، وفى الصحيحين في حديث أبى سعيد: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" (1) . وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم، فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفى حديث أبى سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون فى فرقة من الناس، سيماهم التحليق. قال: "هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" (2) . وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم.
__________
(1) البخاري (6/463-464/3344) ومسلم (2/741-742/1064).
(2) البخاري (6/766/3610)و(13/655/7562) ومسلم (2/745/1065).(1/146)
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى (1) . ورواه البخاري من حديث عبدالله بن عمر (2) ، ورواه مسلم من حديث أبى ذر ورافع بن عمرو (3) ، وجابر بن عبدالله (4) ، وغيرهم. وروى النسائي عن أبى برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله يذكر الخوارج؟ قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني ورأيته بعيني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئا، فقام رجل من ورائه، فقال: يا محمد! ما عدلت في القسمة -رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان- فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا، وقال له: "والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل مني. ثم قال: يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة" (5) . وفى صحيح مسلم، عن عبدالله بن الصامت عن أبى ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن بعدي من أمتي -أو سيكون بعدي من أمتي- قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة. قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري -أخا الحكم بن عمرو الغفاري- قلت: ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله" (6) .
__________
(1) البخاري (12/360/6934) ومسلم (2/750/1068).
(2) البخاري (12/350/6932).
(3) سيأتي لفظه من كلام الشيخ.
(4) أحمد (3/353) ومسلم (2/740/1063) والبخاري مختصرا (6/292/3138) والنسائي في الكبرى (5/31/8087،8088) وابن ماجه في المقدمة (1/61/172).
(5) تقدم تخريجه قريبا.
(6) مسلم (2/750/1067).(1/147)
فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي -رضى الله عنه- وفى غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار، أي قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة. وكذلك الشرك أنواع مختلفة، وإن لم تكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك؛ لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه.
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما وجب قتال أولئك. (1)
موقفه من المرجئة:
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/494-499).(1/148)
- جاء في مجموع الفتاوى: إن المرجئة لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله، أخذوا يتكلمون في مسمى الإيمان والإسلام وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: وَمَا { أَنْتَ } بِمُؤْمِنٍ (1) أي بمصدق لنا. فيقال لهم: (اسم الإيمان) قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالى ومن يعادى، والدين كله تابع لهذا؛ وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله. ووكله إلى هاتين المقدمتين؟ ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن. ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من تواتر لفظ الكلمة، فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة. فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات، ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: "هاتان المقدمتان" كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا، صح المعنى، لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: (أقيموا الصلاة).
__________
(1) يوسف الآية (17).(1/149)
ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحا، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا. فكون اللفظ يرادف اللفظ؛ يراد دلالته على ذلك. (1)
- وقال: ومن قال: بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له؛ أو جزءا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها. (2)
- وقال رحمه الله في التدمرية: والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمنا، لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. (3)
- وقال: والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه. (4)
- وقال: والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية، ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة. (5)
- وقال: والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة:
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/288-290).
(2) مجموع الفتاوى (7/621).
(3) مجموع الفتاوى (3/103).
(4) مجموع الفتاوى (7/505)
(5) مجموع الفتاوى (7/555-556).(1/150)
أحدها: الأعمال الظاهرة، فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان. فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه، فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام، والعمل كما تقدم.
وأما قولهم: الزيادة في العمل الظاهر لا في موجبه ومقتضيه فهذا غلط، فإن التفاضل معلول الأشياء، ومقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثلت الأسباب الموجبة، لزم تماثل موجبها ومقتضاها، فتفاضل الناس في الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في موجب ذلك ومقتضيه، ومن هذا يتبين:(1/151)
الوجه الثاني: في زيادة الإيمان ونقصه، وهو زيادة أعمال القلوب ونقصها، فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر، والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" (1) ، وقال تعالى: قُلْ { إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } وَعَشِيرَتُكُمْ إلى قوله: أَحَبَّ { إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فَتَرَبَّصُوا (2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده" (3) وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (4) وقال له عمر يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر".
__________
(1) أحمد (3/103) والبخاري (1/82/16) ومسلم (1/66/43) والترمذي (5/16/2624) والنسائي (8/471-472/5003) وابن ماجه (2/1338-1339/4033) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) التوبة الآية (24).
(3) أحمد (6/181) والبخاري (13/342/7301) ومسلم (4/1829/2356) عن عائشة رضي الله عنها.
(4) أحمد (3/177و275) والبخاري (1/80/15) ومسلم (1/67/44) والنسائي (8/488/5028) وابن ماجه (1/26/67) من حديث أنس رضي الله عنه.(1/152)
وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ { آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (1) وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة، ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولا بدخول الزيادة والنقصان فيه، لما يجدون من ذلك في أنفسهم، ومن هذا قوله تعالى: الَّذِينَ { قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (173) (2) وإنما زادهم طمأنينة وسكونا.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" (3) .اهـ (4)
- وقال: الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا، وأكثر أهل السنة، وقالت المرجئة والمعتزلة، لا يجوز الاستثناء فيه بل هو شك، والاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم، وإن كنت تريد إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ } قُلُوبُهُمْ (5) فالله أعلم. (6)
__________
(1) البقرة الآية (165).
(2) آل عمران الآية (173).
(3) أحمد (2/472) وأبو داود (5/60/4682) والترمذي (3/466/1162) وقال: "حديث حسن صحيح". الحاكم (1/3) وصححه ووافقه الذهبي. ابن حبان الإحسان (2/227/479) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عائشة وابن عباس وغيرهم.
(4) مجموع الفتاوى (7/562-564).
(5) الأنفال الآية (2).
(6) مجموع الفتاوى (7/666).(1/153)
- وقال: وطوائف "أهل الأهواء" من الخوارج والمعتزلة، والجهمية والمرجئة، كراميهم وغير كراميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول؛ بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه مذموما من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه مسخوطا ملعونا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار. وحكي عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك. وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان؛ وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكرامية والكلابية والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار، ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه؛ لكن تنازعوا في اسمه، فقالت المرجئة: جهميتهم وغير جهميتهم: هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين وهل يطلق عليه اسم مؤمن؟ هذا فيه القولان، والصحيح التفصيل. فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة. قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.(1/154)
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة. قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه، ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، والذين لا يسمونه مؤمنا من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله: بِئْسَ { الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } (1) وقوله: أَفَمَنْ { كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا } (2) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (3) .اهـ (4)
موقفه من القدرية:
لقد أجاد شيخ الإسلام القول في بيان اعتقاد الفرقة الناجية في مسائل القدر ضمن العقيدة الواسطية.
- قال رحمه الله: وتؤمن الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين:
__________
(1) الحجرات الآية (11).
(2) السجدة الآية (18).
(3) تقدم تخريجه في مواقف أبي وائل شقيق بن سلمة سنة (82هـ).
(4) مجموع الفتاوى (7/353-355).(1/155)
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق: فأول ما خلق الله القلم، قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (1) . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ { تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (70) (2) وقال: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (22) (3) .
__________
(1) أحمد (5/317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في 'ظلال الجنة' (1/48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده" -يعني من كتاب 'السنة' لابن أبي عاصم-. وأخرجه أبو داود (5/76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه. فذكره. والترمذي (4/398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة. وأخرجه أيضا في (5/394-395/3319) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(2) الحج الآية (70).
(3) الحديد الآية (22).(1/156)
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: أكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد (1) ، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشية الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين، والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: لِمَنْ { شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (29) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد (1/382و430) والبخاري (6/373/3208) ومسلم (4/2036) وأبو داود (5/82-83/4708) والترمذي (4/388-389/2137) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/29/76).
(2) التكوير الآيتان (28و29).(1/157)
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة (1) ، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويُخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها. (2)
- وجاء في مجموع الفتاوى عنه قال: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني. فإن الله سبحانه خالق كل شيء، ورب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته.
وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم، فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته. وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق.
__________
(1) تقدم في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).
(2) مجموع الفتاوى (3/148-150).(1/158)
ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية، الذين رأوا الأفعال واقعة بمشيئته وقدرته، فقالوا: لَوْ { شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ } شَيْءٍ (1) ولو كره الله شيئا لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه، وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر، وجعلوا العبد مجبورا، والمجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه. فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، كفرا لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية. فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية، وبالآيات والسياسات العقلية. وأما الأولون: ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه. وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحدا أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه: أن لا يدفع ظلم ظالم، ولا يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته، ولا بأكثر منها. (2)
__________
(1) الأنعام الآية (148).
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/409-410).(1/159)
- وفيها: ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم، إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته، بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته. إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد. فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه، إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد: ما لا يعلمه إلا رب العباد. (1)
- وفيها سؤال في القدر أورده أحد علماء الذميين فقال:
أيا علماء الدين، ذمي دينكم إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم دعاني، وسد الباب عني، فهل إلى قضى بضلالي ثم قال: ارض بالقضا فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي؟ إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة وهل لي اختيار أن أخالف حكمه؟ ... تحير دلوه بأوضح حجة
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي؟
دخولي سبيل؟ بينوا لي قضيتي
فما أنا راض بالذي فيه شقوتي
فربي لا يرضى بشؤم بليتي
فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
فهل أنا عاص في اتباع المشيئة؟
فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا (2) :
الحمد لله رب العالمين:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/301).
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/245-255).(1/160)
سؤالك يا هذا سؤال معاند فهذا سؤال خاصم الملأ العلا ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ويدعى خصوم الله يوم معادهم سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا وأصل ضلال الخلق من كل فرقة فإنهم لم يفهموا حكمة له فإن جميع الكون أوجب فعله وذات إله الخلق واجبة بما مشيئته مع علمه، ثم قدرة وإبداعه ما شاء من مبدعاته ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة بل الحق أن الحكم لله وحده هو الملك المحمود في كل حالة فما شاء مولانا الإله فإنه وقدرته لا نقص فيها، وحكمه أريد بذا أن الحوادث كلها ومالكنا في كل ما قد أراده فإن له في الخلق رحمته سرت أمورا يحار العقل فيها إذا رأى فنؤمن أن الله عز بقدرة فنثبت هذا كله لإلهنا وهذا مقام طالما عجز الألى وتحقيق ما فيه بتبيين غوره هو المطلب الأقصى لوراد بحره لحاجته إلى بيان محقق وأسمائه الحسنى، وأحكام دينه وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا وقد قيل في هذا وخط كتابه فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال من وذاك سؤال يبطل العقل وجهه وفي الكون تخصيص كثير يدل من وإصداره عن واحد بعد واحد ولا ريب في تعليق كل مسبب بل الشأن في الأسباب، أسباب ما ترى وقولك: لم شاء الإله؟ هو الذي فإن المجوس القائلين بخالق سؤالهم عن علة السر، أوقعت وإن ملاحيد الفلاسفة الألى بغوا علة للكون بعد انعدامه وإن مبادي الشر في كل أمة بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ويكفيك نقضا: أن ما قد سألته فأنت تعيب الطاعنين جميعهم وتنحل من والاك صفوة مودة وحالهم في كل قول وفعلة وهبك كففت اللوم عن كل كافر فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ولا تغضبن يوما على سافك دما ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ولا مهلك للحرث والنسل عامدا وكف لسان اللوم عن كل مفسد وسهل سبيل الكاذبين تعمدا وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم وجادل عن الملعون، فرعون، إذ طغى وكل كفور مشرك بإلهه كعاد، ونمروذ، وقوم لصالح وخاصم لموسى، ثم سائر من أتى على كونهم قد جاهدوا(1/161)
الناس إذ بغوا وإلا فكل الخلق في كل لفظة وبطشة كف، أو تخطي قديمة همو تحت أقدار الإله وحكمه وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل فهل يمكن رفع الملام جميعه وترك عقوبات الذين قد اعتدوا فلا تُضْمَنَنْ نفس ومال بمثله وهل في عقول الناس أو في طباعهم ويكفيك نقضا: ما بجسم ابن آدم من الألم المقضي في غير حيلة إذا كان في هذا له حكمة، فما وكيف، ومن هذا عذاب مولد كآكل سم، أوجب الموت أكله فكفرك يا هذا، كسم أكلته ألست ترى في هذه الدار من جنى ولا عذر للجاني بتقدير خالق وتقدير رب الخلق للذنب موجب وما كان من جنس المتاب لرفعه كخير به تمحى الذنوب. ودعوة وقول حليف الشر: إني مقدر وتقديره للفعل يجلب نقمة فهل يَنْفَعَنْ عذر الملوم.(1/162)
بأنه أم الذم والتعذيب أوكد للذي فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى فدونك رب الخلق، فاقصده ضارعا وذلل قياد النفس للحق، واسمعن وما بان من حق فلا تتركنه ودع دين ذا العادات، لا تتبعنه ومن ضل عن حق فلا تقفونه هنالك تبدو طالعات من الهدى بملة إبراهيم، ذاك إمامنا فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي وأخبر عن رب العباد بأن من فهذي دلالات العباد لحائر وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من وحجة محتج بتقدير ربه وأما رضانا بالقضاء فإنما كسقم وفقر ثم ذل وغربة فأما الأفاعيل التي كرهت لنا وقد قال قوم من أولي العلم: لا رضا وقال فريق: نرتضي بقضائه وقال فريق نرتضي بإضافة كما أنها للرب خلق، وأنها فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ومعصية العبد المكلف تركه فإن إله الخلق حق مقاله كما أنهم في هذه الدار هكذا وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من الـ يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم وأمر إله الخلق بين ما به فمن كان من أهل السعادة أثرت ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ولا مخرج للعبد عما به قضى فليس بمجبور عديم الإرادة ومن أعجب الأشياء: خلق مشيئة فقولك: هل أختار تركا لحكمة؟ وأختار أن لا أختار فعل ضلالة وذا ممكن، لكنه متوقف فدونك، فافهم ما به قد أجبت من أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى وصلى إله الخلق، جل جلاله ... مخاصم رب العرش، باري البرية
قديما به إبليس، أصل البلية
على أم رأس هاويا في الحفيرة
إلى النار طرا، معشر القدرية
به الله أو ماروا به للشريعة
هو الخوض في فعل الإله بعلة
فصاروا على نوع من الجاهلية
مشيئة رب الخلق باري الخليقة لها من صفات واجبات قديمة
لوازم ذات الله قاضي القضية
بها حكمة فيه وأنواع رحمة
من المنكري آياته المستقيمة
له الخلق والأمر الذي في الشريعة
له الملك من غير انتقاص بشركة
يكون، وما لا لا يكون بحيلة
يعم فلا تخصيص في ذي القضية
بقدرته كانت، ومحض المشيئة(1/163)
له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة
ومن حكم فوق العقول الحكيمة
من الحكم العليا وكل عجيبة
وخلق وإبرام لحكم المشيئة
ونثبت ما في ذاك من كل حكمة
نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
وذا عسر في نظم هذي القصيدة
لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأفعاله في كل هذي الخليقة
وإلهامه للخلق أفضل نعمة
بيان شفاء للنفوس السقيمة
يقول: فلم قد كان في الأزلية؟
وتحريمه قد جاء في كل شرعة
له نوع عقل: أنه بإرادة
أو القول بالتجويز رمية حيرة
بما قبله من علة موجبية
وإصدارها عن حكم محض المشيئة
أزل عقول الخلق في قعر حفرة
لنفع، ورب مبدع للمضرة
أوائلهم في شبهة الثنوية
يقولون بالفعل القديم لعلة
فلم يجدوا ذاكم، فضلوا بضلة
ذوي ملة ميمونة نبوية
وجاء دروس البينات بفترة
من العذر مردود لدى كل فطرة
عليك، وترميهم بكل مذمة
وتبغض من ناواك من كل فرقة
كحالك يا هذا بأرجح حجة
وكل غوي خارج عن محجة
على الناس في نفس، ومال، وحرمة
ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا قاذف للمحصنات بزنية ولا حاكم للعالمين برشوة
ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة
على ربهم، من كل جاء بفرية
بروم فساد النوع، ثم الرياسة
فأغرق في اليم انتقاما بغضبة
وآخر طاغ كافر بنبوة
وقوم لنوح، ثم أصحاب الأيكة
من الأنبياء محييا للشريعة
ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة
ولحظة عين، أو تحرك شعرة
وكل حراك، بل وكل سكينة
كما أنت فيما قد أتيت بحجة
فعال ردى، طردا لهذي المقيسة
عن الناس طرا عند كل قبيحة
وترك الورى الإنصاف بين الرعية
ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
قبول لقول النذل: ما وجه حيلتي؟
صبي، ومجنون، وكل بهيمة
وفيما يشاء الله أكمل حكمة
يظن بخلق الفعل، ثم العقوبة؟ عن الفعل، فعل العبد عند الطبيعة؟
وكل بتقدير لرب البرية
وتعذيب نار. مثل جرعة غصة
يعاقب إما بالقضا أو بشرعة؟
كذلك في الأخرى بلا مثنوية
لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة(1/164)
عواقب أفعال العباد الخبيثة
تجاب من الجاني، ورب شفاعة
علي كقول الذئب: هذي طبيعتي
كتقديره الأشياء طرا بعلة
كذا طبعه أم هل يقال لعثرة؟
طبيعته فعلا لشرور الشنيعة؟
ينجيك من نار الإله العظيمة
مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
وعج عن سبيل الأمة الغضبية
وزن ما عليه الناسب المعدلية
تبشر من قد جاء بالحنيفية
ودين رسول الله خير البرية
به جاءت الرسل الكرام السجية
حوى كل خير في عموم الرسالة
غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
وأما هداه فهو فعل الربوبة
غدا عنه، بل يجزي بلا وجه حجة
تزيد عذابا،كاحتجاج مريضة
أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
وما كان من مؤذ، بدون جريمة
فلا ترتضى، مسخوطة لمشيئة
بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
إليه. وما فينا فنلقى بسخطة
لمخلوقة ليست كفعل الغريزة
ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة
لما أمر المولى وإن بمشيئة
بأن العباد في جحيم وجنة
بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
ـفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يقدره نحو العذاب بعزة
بأعمال صدق في رجاء وخشية
يسوق أولي التنعيم نحو السعادة
أوامره فيه بتيسير صنعة
بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ولكنه مختار حسن وسوأة
ولكنه شاء بخلق الإرادة
بها صار مختار الهدى بالضلالة
كقولك: هل أختار ترك المشيئة؟
ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
على ما يشاء الله من ذي المشيئة
معان، إذا انحلت بفهم غريزة
ولله رب الخلق أكمل مدحة
على المصطفى المختار خير البرية
" التعليق:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي في الدرة البهية عن هذه المنظومة: وهذا النظم: قد أتى فيه الشيخ بالعجب العجاب، وبين الحق الصريح، وكشف الشكوك والشبهات التي طالما خالطت قلوب أذكياء العلماء، وحيرت كثيرا من أهل العلم الفضلاء. (1)
__________
(1) الدرة البهية (ص.11).(1/165)
- قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: ومن أقر بالشرع، والأمر والنهي، والحسن والقبح، دون القدر وخلق الأفعال -كما عليه المعتزلة- فهو من القدرية المجوسية الذين شابهوا المجوس، وللمعتزلة من مشابهة المجوس واليهود نصيب وافر.
ومن أقر بالقضاء والقدر وخلق الأفعال وعموم الربوبية، وأنكر المعروف والمنكر، والهدى والضلال، والحسنات والسيئات، ففيه شبه من المشركين والصابئة. وكان الجهم بن صفوان ومن اتبعه كذلك لما ناظر أهل الهند، كما كان المعتزلة كذلك لما ناظروا المجوس (الفرس)، والمجوس أرجح من المشركين. فإن من أنكر الأمر والنهي، أو لم يقر بذلك، فهو مشرك صريح كافر -أكفر من اليهود والنصارى والمجوس- كما يوجد ذلك في كثير من المتكلمة والمتصوفة -أهل الإباحة ونحوهم. (1)
- وقال في حديثه عن إرادة الله: وإرادته قسمان: إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير.
فالقسم الأول: إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي، سواء وقعت أو لم تقع. كما في قوله: يُرِيدُ { اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } (2) وقوله: يُرِيدُ { اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ } الْعُسْرَ (3) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (16/238-239).
(2) النساء الآية (26).
(3) البقرة الآية (185).(1/166)
وأما القسم الثاني: وهو إرادة التقدير، فهي شاملة لجميع الكائنات، محيطة بجميع الحادثات، وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول، كما في قوله تعالى: فَمَنْ { يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا } حَرَجًا (1) وفي قوله: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ } رَبُّكُمْ (2) وفي قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ونظائره كثيرة.
__________
(1) الأنعام الآية (125).
(2) هود الآية (34).(1/167)
وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث، كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث، والسعيد من أراد منه تقديرا ما أراد به تشريعا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعا، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرا، ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور، مثل قريش الذين قالوا: لَوْ { شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى: كَذَلِكَ { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } (148) (1) . فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه وهي -الإرادة القدرية- فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية، ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا: فيكون قد رضيه وأمر به، قال الله: كَذَلِكَ { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ } قَبْلِهِمْ بالشرائع من الأمر والنهي حَتَّى { ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه. إِنْ { } تَتَّبِعُونَ في هذا إِلَّا { } الظَّنَّ وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه وَإِنْ { أَنْتُمْ إِلَّا } تَخْرُصُونَ أي تكذبون وتفترون بإبطال شريعته، قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } (2) على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلا منه وإحسانا، ويحرم من يشاء، لأن المتفضل له أن يتفضل، له أن لا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة.
__________
(1) الأنعام الآية (148).
(2) الأنعام الآية (149).(1/168)
وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرداته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضا بعقابها، كما أنه سبحانه قد يقدر على العبد أمراضا تعقبه آلاما، فالمرض بقدره والألم بقدره، فإذا قال العبد: قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض قد تقدمت الإرداة بالمرض فلا أتألم، وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي، أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب، وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه، بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضا، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال: بِمَا { أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي } الْأَرْضِ (1) وأما آدم فقال: رَبَّنَا { ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (23) (2) .
فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم -عليه السلام- أو نحوه. ومن أراد شقاوته اعتل بعلة إبليس أو نحوها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار، فقال له العقلاء: أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول: من أين كانت؟ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار، فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها، هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير، ولا يردها بالاستغفار والمعاذير. بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله، بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها. والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته، ولا تترك معصيته إلا بعصمته. (3)
__________
(1) الحجر الآية (39).
(2) الأعراف الآية (23).
(3) مجموع الفتاوى (8/197-200).(1/169)
- وقال: إن الناس -في باب خلق الرب وأمره ولم فعل ذلك- على طرفين ووسط: فالقدرية من المعتزلة وغيرهم قصدوا تعظيم الرب وتنزيهه عما ظنوه قبيحا من الأفعال وظلما، فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، ولم يجعلوه خالقا لكل شيء، ولا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، بل قالوا: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ثم إنهم وضعوا لربهم شريعة فيما يجب عليه ويحرم بالقياس على أنفسهم، وتكلموا في التعديل والتجويز بهذا القياس الفاسد الذي شبهوا فيه الخالق بالمخلوق، فضلوا وأضلوا.(1/170)
وقابلهم الجهمية الغلاة في الجبر، فأنكروا حكمة الله ورحمته، وقالوا: لم يخلق لحكمة، ولم يأمر بحكمة، وليس في القرآن "لام كي" لا في خلقه ولا في أمره. وزعموا أن قوله: وَسَخَّرَ { لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } جَمِيعًا (1) وڑYn=y{ { لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } جَمِيعًا (2) وقوله: وَلِلَّهِ { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } (31) (3) وقوله: وَلِتُكْمِلُوا { الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا } هَدَاكُمْ (4) وقوله: لِئَلَّا { يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ } الرُّسُلِ (5) -وأمثال ذلك- إنما اللام فيه لام العاقبة كقوله: فَالْتَقَطَهُ { آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا } وَحَزَنًا (6) وقول القائل: "لدوا للموت وابنوا للخراب". ولم يعلموا أن لام العاقبة إنما تصح ممن يكون جاهلا بعاقبة فعله كفرعون الذي لم يكن يدري ما ينتهي إليه أمر موسى، أو ممن يكون عاجزا عن رد عاقبة فعله، كعجز بني آدم عن دفع الموت عن أنفسهم والخراب عن ديارهم، فأما من هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو مريد لكل ما خلق: فيمتنع في حقه لام العاقبة التي تتضمن نفي العلم أو نفي القدرة. (7)
تاج الدين الفاكهاني (8) (731 هـ)
__________
(1) الجاثية الآية (13).
(2) البقرة الآية (29).
(3) النجم الآية (31).
(4) البقرة الآية (185).
(5) النساء الآية (165).
(6) القصص الآية (8).
(7) مجموع الفتاوى (17/99-101).
(8) الديباج المذهب (2/80) والدرر الكامنة (3/178-179) وشذرات الذهب (6/96-97).(1/171)
تاج الدين عمر بن عالم بن سالم اللخمي الإسكندري العلامة النحوي والفقيه المالكي. سمع علي بن طرخان والمكين الأسمر وعتيق العمري. ولد سنة أربع وخمسين وستمائة. قال ابن فرحون: وكان فقيها فاضلا، متفننا في الحديث، والفقه، والأصول، والعربية والأدب، وكان على حظ وافر من الدين المتين، والصلاح العظيم، واتباع السلف الصالح، حسن الأخلاق، صحب جماعة من الأولياء، وتخلق بأخلاقهم، وتأدب بآدابهم وحج غير مرة، وحدث ببعض مصنفاته. وقال البرزالي: رجل جيد كثير البر والتودد والتواضع من بيت كبير. توفي رحمه الله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
بدعة المولد النبوي:
له رسالة لطيفة في هذه البدعة سماها 'المورد في عمل المولد' وهي مطبوعة بتحقيق أبي الحارث الحلبي. وهذا نصها، قال الفاكهاني رحمه الله: الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين.
أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد: هل له أصل في الدين؟؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا، والإيضاح عنه معينا.(1/172)
فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين. بل هو بدعة، أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:
إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها، أو محرما.
وهو ليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون -فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحا، لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين.
فلم يبق إلا أن يكون مكروها، أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة، وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف.
لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف، والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الغانيات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.(1/173)
وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: إِنَّ { رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } (14) (1) .
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان.
وإنما يحل ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب. وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ.
ولله در شيخنا القشيري رحمه الله تعالى حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ وصار أهل العلم في وهدة حادوا عن الحق فما للذي فقلت للأبرار أهل التقى لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... ـمعروف في أيامنا الصعبه
وصار أهل الجهل في رتبه
سادوا به فيما مضى نسبه
والدين لما اشتدت الكربه
نوبتكم في زمن الغربه
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب.
هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.
وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
" التعليق:
هذه البدعة التي أحدثها الروافض ومن كان على شاكلتهم حاربها علماء السلف في كل وقت، وسيمر بنا إن شاء الله بعضهم، وكلام هذا الإمام يستحق أن يكتب بماء الذهب، حيث ذكر أن هذا المولد لا أصل له في دين الله إن خلا من المظاهر الشركية ومن سائر المحرمات؛ من أكل مال بالباطل، ومن وجود اختلاط، ومن وجود زنا ولواط، وتغن بالفحش. ومن زابور هذه المواسم ما يقول صاحبه مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم - :
فإن من جودك الدنيا وضرتها يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... ومن علومك علم اللوح والقلم
سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله:
__________
(1) الفجر الآية (14).(1/174)
هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء
وقوله:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وهكذا لو اجتنبت الصلوات المصحوبة بالشرك، التي يصفون فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف شركية، لو قام - صلى الله عليه وسلم - من قبره لقاتلهم كما كان يقاتل المشركين أعداء الله، لكان الحكم في ذلك كما ذكر هذا الإمام.
إبراهيم بن عمر الجُعْبُرِي (1) (732 هـ)
إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل بن أبي العباس، الشيخ العلامة، برهان الدين الجعبري، أبو إسحاق السلفي بفتحتين نسبة إلى طريقة السلف. ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر. تلا ببغداد بالسبع على أبي الحسن الوجوهي، وقرأ على تاج الدين بن يونس وغيرهما. اشتغل ببغداد، وقدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة.
قال عنه ابن كثير: كان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة والعفة والصيانة. وقال الذهبي: كان ساكنا وقورا ذكيا واسع العلم. صنف في القراءات والحديث والأصول والعربية والتاريخ وغير ذلك. توفي رحمه الله في رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
وكان يكتب بخطه -السَّلَفِي- فسئل عن ذلك: فقال بالفتح نسبة إلى طريق السلف. (2)
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: وحدثني تاج الدين الأنباري، الفقيه المصري الفاضل، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية، وهو شيخ نجس، يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله ...وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري: أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد:
__________
(1) معجم شيوخ الذهبي (116-117) والبداية والنهاية (14/167-168) وغاية النهاية (1/21) وفوات الوفيات (1/39) والدرر الكامنة (1/50) والوافي بالوفيات (6/73-76) ومعرفة القراء (2/743).
(2) انظر الدرر الكامنة (1/51).(1/175)
إن كان منزلي في الحب عندكم أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الأنباري، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي، وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان كيف الطريق؟ أين الطريق؟ (1)
عبدالرحمن القرامزي (2) (732 هـ)
عبدالرحمن بن أبي محمد بن سلطان القرامزي الفقيه العابد أبو محمد وأبو الفرج. ولد سنة أربع وأربعين وستمائة تقريبا، وقرأ بالراويات على الشيخ، الصقلي، وسمع من ابن عبدالدائم وابن النشبي والمجد بن عساكر وجماعة، وتفقه في المذهب، ثم تزهد وأقبل على العبادة والطاعة، وملازمة الجامع، وكثرة الصلوات به، واشتهر بذلك، وصار له قبول وقدر عند الأكابر.
موقفه من المشركين:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان قوي النفس لا يقوم لأحد. وله محبون. ومن حسناته أنه كان من اللعانين للاتحادية. (3)
بدر الدين بن جماعة (4) (733 هـ)
العالم شيخ الإسلام بدر الدين أبو عبدالله بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الحموي ثم المصري الشافعي. ولد سنة تسع وثلاثين وستمائة. روى عن جملة من الأئمة منهم: الرشيد العطار وابن عزون، وابن أبي اليسر، وأجاز له جماعة منهم ابن سلمة وابن البرادعي. سمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوما متعددة، وتقدم وساد أقرانه، وكان قوي المشاركة في علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير. تولى القضاء ومناصب أخرى. من أشعاره:
__________
(1) مجموع الفتاوى (2/246).
(2) طبقات الحنابلة (2/416) والدرر الكامنة (2/346) ومعجم شيوخ الذهبي (1/380-381) والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/109).
(3) 4/416).
(4) ذيل طبقات الحفاظ (107-109) وشذرات الذهب (6/105-106) والوافي بالوفيات (2/18-20) وفوات الوفيات (3/297-298) والبداية والنهاية (14/171) وطبقات الشافعية للسبكي (5/230-232).(1/176)
أعم خلائق الإنسان نفعا ... وأقربها إلى ما فيه راحه
أداء أمانة وعفاف نفس ... وصدق مقالة وسماح راحه
توفي رحمه الله سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين في الرد على ابن عربي من قول ابن جماعة: هذه الفصول المذكورة، وما أشبهها من هذا الباب بدعة وضلالة ومنكر وجهالة، لا يصغي إليها ولا يعرج عليها ذو دين، ثم قال: وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يأذن في المنام بما يخالف ويعاند الإسلام، بل ذلك من وسواس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته.
وقوله في آدم: إنه إنسان العين تشبيه لله تعالى بخلقه. وكذلك قوله الحق المنزه، هو الخلق المشبه، إن أراد بالحق رب العالمين فقد صرح بالتشبيه وتغالى فيه. وأما إنكاره ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد فهو كافر به عند علماء أهل التوحيد، وكذلك قوله في قوم نوح وهود، قول لغو باطل مردود. وإعدام ذلك وما شابه هذه الأبواب من نسخ هذا الكتاب من أوضح طرق الصواب، فإنها ألفاظ مزوقة وعبارات عن معان غير محققة. وإحداث في الدين ما ليس منه. فحكمه رده والإعراض عنه. (1)
ابن سيد الناس (2) (734 هـ)
__________
(1) العقد الثمين (2/283-284).
(2) شذرات الذهب (6/108-109) وطبقات الشافعية للسبكي (6/29-31) والدرر الكامنة (4/208-213) والوافي بالوفيات (1/289-311) والبداية والنهاية (14/178) وذيل طبقات الحفاظ (16-18).(1/177)
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحدث الأديب الناظم الناثر فتح الدين أبو الفتح، كان حافظا بارعا أديبا متفننا بليغا، حسن المحاورة، لطيف العبارة، فصيح الألفاظ، كامل الأدوات، جيد الفكرة، صحيح الذهن، لا تمل محاضرته. ولد في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وستمائة. وشيوخه كثر، منهم: أبو الفتح بن دقيق العيد، وأبو الحسن الغرافي وبهاء الدين بن النحاس. ومن تلاميذه المسند أبو الفرج الغزي، وصلاح الدين الصفدي، وأم محمد رقية ابنة علي، وغيرهم. قال البرزالي: كان أحد الأعيان معرفة وإتقانا وحفظا للحديث، وتفهما في علله، وأسانيده، عالما بصحيحه وسقيمه، مستحضرا للسيرة، له حظ في العربية، حسن التصنيف. قال ابن ناصر:كان إماما، حافظا عجيبا، مصنفا، بارعا، شاعرا أديبا. توفي رحمه الله في يوم السبت حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
العقيدة السلفية الموضوعة على الآي والأخبار والاقتفاء بالآثار النبوية.
ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية. (1)
محمد بن محمد بن الحاج (2) (737 هـ)
__________
(1) 14/178).
(2) مقدمة المدخل (1/2) وشجرة النور الزكية (1/218) والديباج (2/321).(1/178)
محمد بن محمد، أبو عبدالله العبدري الفاسي نزيل مصر. يعرف بابن الحاج، واشتهر بالزهد والورع، وكان فقيها عارفا بمذهب مالك. أخذ العلم عن أعلام منهم: أبو إسحاق المطماطي، وصحب أبا محمد بن أبي جمرة وانتفع به. وأخذ عنه الشيخ عبدالله المنوفي والشيخ خليل وغيرهما. صنف كتاب المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات، وبين فيه البدع المختلفة والعوائد المنتحلة، لكنه للأسف وقع في ما حذر منه، وجوز بعض البدع الشركية، كزيارة القبور، والتوسل بالأولياء، وطلب تفريج الكربات عند زيارة قبور الصالحين، والتوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد نبه على مواضع هذه البدع في المدخل الشيخ الفاضل محمد بن عبدالرحمن الخميس في رسالة قيمة بعنوان: المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل. توفي ابن الحاج بالقاهرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار ما ذكر في الترجمة: المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات وهو مطبوع طبعات متعددة، وفي وقت مبكر، وفيه ما يستفاد منه غير أنه فيه ما يحذر منه، ففيه كما ذكرت آنفا من دعوات صريحة إلى بعض البدع المنكرة لا سيما بدع القبورية وخرافاتهم وشركياتهم، فليكن القارئ منه على حذر، فإن الكتاب مشهور في الأوساط العلمية.
وقد تتبعه -كما ذكرت- أخونا الفاضل محمد بن عبدالرحمن الخميس، وأبان المواطن التي ينبغي أن تُحْذَرَ منه، في جزء صغير سماه 'المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل' وأتبع كل خرافة بما يناسب من التعليق فجزاه الله خيرا، ورأيت أن أورد هنا من هذه الخرافات شاهدا على ما قلنا:(1/179)
جاء في المدخل: وكذلك يدعو عند هذه القبور عند نازلة نزلت به أو بالمسلمين، ويتضرع إلى الله تعالى في زوالها وكشفها عنه وعنهم. وهذه صفة زيارة القبور عموما، فإن كان الميت المزار ممن ترجى بركته، فيتوسل إلى الله تعالى به، وكذلك يتوسل الزائر بمن يراه الميت (1) ممن ترجى بركته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل يبدأ بالتوسل إلى الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هو العمدة في التوسل، والأصل في هذا كله، والمشرع له، فيتوسل به - صلى الله عليه وسلم - وبمن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. (2)
وقال: ...ثم يتوسل بتلك المقابر، أعني بالصالحين منهم في قضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين، ولمن غاب عنه من إخوانه، ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر.فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم، فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه. (3)
وقال: ثم نرجع إلى ما كنا بسبيله من زيارة القبور فيما ذكر من الآداب، وهو في زيارة العلماء والصلحاء ومن يتبرك بهم.
__________
(1) هكذا بالأصل.
(2) المدخل (1/248).
(3) المدخل (1/249).(1/180)
وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره، لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله، ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثم يترحم على التابعين بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم، ويجزم بالإجابة ببركتهم، ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح.
وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ومن عجز عن الوصول إليهم، فليرسل بالسلام عليهم، ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه، ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم، ولا من توسل بهم، ولا من قصدهم، ولا من لجأ إليهم.
هذا الكلام في زيارة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عموما ... (1)
وهكذا استرسل الشيخ رحمه الله في هذا الهذيان، الذي أغنانا عنه الأئمة بالبيان، وكشفوا ما فيه من الغلط والانحراف، والمعصوم من عصمه الله، والله المستعان.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون (2) (741 هـ)
الملك الناصر محمد بن قلاوون بن عبدالله الصالحي بن المنصور. ولد سنة أربع وثمانين وستمائة. سمع من ست الوزراء وابن الشحنة، ووجدت له إجازة بخط البرزالي من ابن مشرف وعيسى المغاري وجماعة.
قال ابن جحر: كان مطاعا مهيبا عارفا بالأمور، يعظم أهل العلم والمناصب الشرعية؛ لا يقرر فيها إلا من يكون أهلا لها، ويتحرى لذلك ويبحث عنه.
__________
(1) المدخل (1/251-252).
(2) البداية والنهاية (14/202-203) وذيل العبر (2/431) والدرر الكامنة (4/144-148) وشذرات الذهب (6/134-135).(1/181)
كانت وفاته في تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين سبعمائة بالقلعة، وصلى عليه عزالدين ابن جماعة القاضي.
موقفه من المشركين:
- جاء في البداية والنهاية: قال البرزالي: وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لإفسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، ثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي. (1)
موقف السلف من
الدكاكي الزنديق (741 هـ)
إدعاؤه الإلهية وتنقصه الأنبياء:
__________
(1) البداية والنهاية (14/169).(1/182)
- قال ابن كثير: وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال، عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة، وحضرته يومئذ واجتمع القضاة والأعيان على العادة، وأحضر يومئذ عثمان الدكاكي قبحه الله تعالى، وادعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن الحلاج ولا عن ابن أبي العزاقر الشلمغاني، وقامت عليه البينة بدعوى الإلهية لعنه الله، وأشياء أخر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الريب من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية عليهم لعائن الله، ووقع منه في المجلس من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضا، وادعى أن له دوافع وقوادح في بعض الشهود، فرد إلى السجن مقيدا مغلولا مقبوحا، أمكن الله منه بقوته وتأييده، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أحضر عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة، وأقيم بين يدي الأمراء والقضاة وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك فتوجه عليه الحكم، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه: هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية،وكان يوما مشهودا بدار السعادة، حضر خلق من الأعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي الحافظ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحرضا في القضية جدا، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وخرج القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه في المجلس فحضروا قتل المذكور، وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره. (1)
__________
(1) البداية (14/201-202).(1/183)
أبو الحجاج جمال الدين المِزِّي (1) (742 هـ)
يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي القضاعي الكلبي الحلبي المولد، خاتمة الحفاظ ناقد الأسانيد والألفاظ. ولد في عاشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة. حفظ القرآن في صباه وتفقه للشافعي مدة وعني بشيء من الأصول. سمع أصحاب طبرزد والكندي وابن الحرستاني. سمع منه شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، وابن سيد الناس والذهبي، وغيرهم. وبه تخرج علم الدين البرزالي وابن عبدالهادي وعلاء الدين مغلطاي وآخرون.
قال الصفدي: كان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان، وحافظ العصر وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا، كان له مشروبا ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا. وقال أيضا ناقلا عن شيخه ابن سيد الناس في حق المزي: ووجدت بدمشق الإمام المعظم والحاكم الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر، ولا يتفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمدا آثار السلف الصالح، مجتهدا فيما نيط به في حفظ السنة من النصائح، معرضا عن الدنيا وأشباهها.
توفي رحمه الله في ثاني عشر شهر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) أعيان العصر (4/2209-2215) والدرر الكامنة (4/457) وتذكرة الحفاظ (4/1498) وشذرات الذهب (6/136-137) والبداية والنهاية (14/203-204) وفهرست الفهارس (1/107) وفوات الوفيات (4/353-355) وطبقات الشافعية للسبكي (6/251-267).(1/184)
- قال عنه الذهبي: وكان مأمون الصحبة، حسن المذاكرة، خيِّر الطوية، محبا للآثار، معظما لطريقة السلف، جيد المعتقد، وكان اغتر في شبيبته وصحب العفيف التلمساني، فلما تبين له ضلاله هجره، وتبرأ منه، وكان أوذي مرة واختفى بسبب إسماعه لتاريخ الخطيب، وأوذي أخرى بسبب قراءته كتاب خلق أفعال العباد. (1)
موقفه من المشركين:
- جاء في تذكرة الحفاظ: وقد لزم في وقت صحبة العفيف التلمساني فلما تبين له انحلاله واتحاده تبرأ منه وحط عليه. (2)
موقفه من الجهمية:
جاء في الدرر الكامنة: قال الذهبي: وكان يترخص في الأداء من غير الأصل ويصلح من حفظه. ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين ويعتمد في ذلك الإجازة. وكان يتمثل بقول ابن منده: يكفيك من الحديث شمه.
وأوذي مرة في سنة خمس بعد السبعمائة بسبب ابن تيمية، لأنه لما وقعت المناظرة له مع الشافعية وبحث مع الصفي الهندي ثم ابن الزملكاني بالقصر الأبلق، شرع المزي يقرأ كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وفيه فصل في الرد على الجهمية، فغضب بعض وقالوا: نحن المقصودون بهذا، فبلغ ذلك القاضي الشافعي يومئذ فأمر بسجنه، فتوجه ابن تيمية وأخرجه من السجن، فغضب النائب فأعيد، ثم أفرج عنه، وأمر النائب وهو الأفرم بأن ينادي بأن من يتكلم في العقائد يقتل. (3)
محمد بن عبدالهادي (4) (744 هـ)
__________
(1) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة (4/461) والصفدي في أعيان العصر (4/2212).
(2) تذكرة الحفاظ (4/1499).
(3) الدرر الكامنة (4/458). انظر السير (17/551) طبعة دار الفكر.
(4) شذرات الذهب (6/141) والبداية والنهاية (14/221-222) والوافي بالوفيات (2/161-162) وأعيان العصر (3/1547-1548) والدرر الكامنة (3/331-332) والبدر الطالع (2/108-109).(1/185)
الإمام الأوحد، الحافظ ذو الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبدالهادي المقدسي الجماعلي الأصل، ثم الصالحي، الحنبلي. ولد في شهر رجب سنة خمس وسبعمائة. من شيوخه القاضي تقي الدين أبو الفضل المقدسي وابن عبدالدائم، وسعد الدين بن سعد، وشيخ الإسلام ابن تيمية والمزي. ومن تلاميذه إسماعيل بن يوسف المقرئ وشمس الدين محمد بن المحب الصالحي المعروف بالصامت ومحمد بن علي الطوسي، وزين الدين العراقي.
قال الصفدي: الإمام القاضي المفنن الذكي النحرير شمس الدين الحنبلي... كان ذهنه صافيا وفكره بالمعضلات وافيا، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث، صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد. وقال ابن كثير: الإمام العلامة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين ... حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات، وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظا جيدا لأسماء الرجال وطرق الحديث، عارفا بالجرح والتعديل، بصيرا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن، مستقيما على طريقة السلف واتباع الكتاب والسنة، مثابرا على فعل الخيرات.
توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام العَلَم على قصر عمره نهل علما غزيرا، وكان رحمه الله سيفا مسلولا على المبتدعة، وقد تصدى لأكبر مبتدع في عصره ألا وهو السبكي، بل وألف في الرد عليه كتابا مستقلا أسماه الصارم المنكي -فأزعج به المبتدعة الأقدمين والمحدثين، حتى إنهم لخبثهم وحقدهم الدفين حاولوا مناقشة كلمة "المنكي"- وهو من الكتب السلفية التي لو كتبت بماء الذهب لَعُدَّ في حقها رخيصا، لما حواه في طياته من بيان لخبث المبتدعة عموما وحيلهم ومكرهم وتمويهاتهم، وهو مطبوع بحمد الله.(1/186)
- قال في مطلعه: أما بعد: فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطيّ إلى القبور، وذكر أنه كان قد سماه 'شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة' ثم زعم أنه اختار أن يسميه 'شفاء السقام في زيارة خير الأنام' فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة. ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وهو في الجملة لون عجيب وبناء غريب؛ تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين، فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدعيه أنه من جملة المقلدين، فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد. (1)
__________
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص.6-7).(1/187)
- إلى أن قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة؛ وخلط الحق بالباطل لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس، لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم والله المستعان. (1)
- وقال: أن تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره، والرضا بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قوله قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه، وقدم آراءهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله. ثم ينسب ورثة الرسول الواقفين مع أقواله المخالفين لما خالفها إلى ترك التعظيم، وأي إخلال بتعظيم، وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين، وقدم عليه آراء الرجال، وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول، وآراء الرجال على قوله. (2)
- إلى أن قال: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران.
__________
(1) الصارم المنكي (ص.9).
(2) الصارم المنكي (ص.339).(1/188)
أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلى الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم، ونهى أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان؛ ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلى إلى القبر، أو يتخذ مسجداً، أو عيداً، أو يوقد عليها سراج، وذم من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له: بئس الخطيب أنت، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وهديه، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة؛ وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب؛ الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان بل الأمر كله لله ...(1/189)
فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه؛ وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير؛ فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه، فالغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الآخر من وجه دون وجه؛ وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه، وإعلاء كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه.
وبالجملة: فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وحده والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله: فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده أو تأوله، أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، وهم يشهدون على أنفسهم بذلك.(1/190)
وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم، وأقوال متبوعهم على قوله؛ وأنه لا يستفاد من كلامه يقين؛ وأنه إذا عارضه الرجال قدمت عليه؛ وكان الحكم ما تحكم به؛ أفلا يستحي من الله من العقلاء من هذا حاله في أصول دينه وفرعه أن يتستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه؛ ويأبى الله ذلك ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون وَمَا { كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (34) (1) ، وَقُلِ { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (105) (2) .اهـ (3)
ومن كتبه السلفية كذلك:
- 'طبقات الحفاظ'، لا يزال مخطوطا.
- 'العقود الدرية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية'، وقد طبع بتحقيق الشيخ حامد الفقي رحمه الله.
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله ضمن رده على السبكي: والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أندادا من أهل معصيته ومخالفته لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلو في المسيح والتبرك به من جنس محبته وموالاته، وكذلك دعاؤهم للأنبياء الموتى كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم السلام، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم، وإنما هو من جنس معاداتهم، ولهذا يتبرؤون منهم يوم القيامة.
__________
(1) الأنفال الآية (34).
(2) التوبة الآية (105).
(3) الصارم المنكي (ص.341-343).(1/191)
وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه، قال تعالى: وَأَنْذِرْ { عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (216) (1) فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده، قال تعالى: قَدْ { كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } وَحْدَهُ (2) وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله، وما من الله به عليه، وما من على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر.
ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رئاسة، أو مأكلة لا ليزدادوا هم حبا وخيرا.
__________
(1) الشعراء الآيات (214-216).
(2) الممتحنة الآية (4).(1/192)
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد" (1) .
__________
(1) أحمد (1/405) وابن حبان (6/94/2325) وابن خزيمة (2/6-7/789) والطبراني (10/188/10413) والبزار (4/151/3420) من حديث ابن مسعود. وقال الهيثمي في المجمع (2/27): "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن". وقال في موضع آخر (8/13): "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح". وقال ابن تيمية في الاقتضاء (330): "إسناده جيد". والشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقا (13/17).(1/193)
وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه - صلى الله عليه وسلم - ، والأمر فوق ما ذكره أضعافا مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له، واتباع سنته والتأسي به، والاقتداء به ومحبتنا له وتعظيمنا له، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة، وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" (1) ، وقال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا" (2) ، وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (3) . وقال: "خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (4) ، وقال: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (5)
__________
(1) أحمد (2/234) والبخاري (3/81/1189) ومسلم (2/1014/1397) وأبو داود (2/529/2033) والنسائي (2/368/699) وابن ماجه (1/452/1409) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (6/34) والبخاري (1/700/435-436) ومسلم (1/377/531) والنسائي (2/370-371/702) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أنظر تخريجه ضمن مواقف حسين بن مهدي النعيمي سنة (1187هـ).
(4) أحمد (3/310-311 و319 و371) ومسلم (2/592/867) والنسائي (3/209-210/1577) وابن ماجه (1/17/45) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(5) أحمد (4/126) وأبو داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/16/43) والحاكم (1/95-96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي..(1/194)
إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول - صلى الله عليه وسلم - الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له. (1)
- وقال: وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا، ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي، أو الحسين، أو إلى قبور الأئمة كموسى والجواد، وغيرهما من الأئمة الأحد عشر، فإن الثاني عشر دخل السرداب عندهم، وهو حي إلى الآن ينتظر، ليس لهم غرض في الحج إلى قبر الخليل، وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، فلكل قوم هدى يخالف هدى الآخرين قال تعالى: فَأَقِمْ { وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (2) .
وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج، وتارة نظير الحج، وتارة بدلا عن الحج. (3)
__________
(1) الصارم المنكي (75-77).
(2) الروم الآيات (30-32).
(3) الصارم المنكي (84).(1/195)
- وقال: والمقصود هنا أن نعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه، وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي، ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة، أو اعتكاف، أو تعليم، أو تعلم، أو ذكر لله دعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره، فلم يكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره، لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه، وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما، قيل لمالك: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك أي يقفون على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلون عليه ويدعون له ولأبي بكر وعمر، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة والمرتين، أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.(1/196)
فقد كره مالك رحمه الله هذا وبين أنه لم يبلغه عن أهل العلم بالمدينة، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة، وإن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا بدون سائر الأمصار، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور، بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة، ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما يزار سائر القبور، فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن، وهذا لعلو قدره وشرفه، لا لكون غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين، فضلا عن الصحابة والتابعين، وعلماء المسلمين؛ بالمدينة وغيرها. (1)
__________
(1) الصارم المنكي (115-116).(1/197)
- وقال: والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل به غيرهم من أهل البدع، الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، وجهلوا السنة إذا رأوا أو سمعوا أمورا من الخوارق، فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين؛ كما أضل النصارى، وأهل البدع بمثل ذلك، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب ويدعون المحكم، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية، كما يسمع ويرى أمورا فيظن أنه رحماني، وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه، ولذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته، ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل إليهم صوتا يشبه صوته، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل، ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه: إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، ولا تستغيثوا بي لا في محياي ولا في مماتي، كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول: أنا من رجال الغيب، أو الأوتاد الأربعة، أو من السبعة أو الأربعين، أو يقول له: أنت منهم، إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله ويخاطبه عند القبر، كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور، كما يقع كثير من ذلك للمشركين، وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه إما النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعانقه هو وصاحباه، ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد.(1/198)
وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم.
وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه أضل من فعل به ذلك، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله، ومن كان أقل علما قال له: ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا، ومن عنده علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وابن عمر كان يسلم، ولم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة، لم يطمع الشيطان أن يقول لها: اذهبي إلى قبره، فسليه هل يورث، كما إنهم أيضا لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم: اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال: اطلبوا منه أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان، كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.(1/199)
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات،كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة، فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة بسرعة، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وأنه أراه من آياته الكبرى، وكان هذا من خصائصه، فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشياطين تخيل إليه معاريج شيطانية، كما خيلها لجماعة من المتأخرين.
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم ممن يظن أنها فضيلة للمتأخرين، ولم تكن فيهم، فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، وبسط هذا له موضع آخر. (1)
موقفه من الجهمية:
__________
(1) الصارم المنكي (300-303).(1/200)
- قال رحمه الله: واعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، وكذلك هم مجمعون على إثبات الإتيان والمجيء وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك.
وأما المعتزلة والجهمية فإنهم يردون ذلك ولا يقبلونه، وحديث النزول متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال عثمان بن سعيد الدارمي: هو أغيظ حديث للجهمية. وقال أبو عمر بن عبدالبر: هو حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. (1)
الذهبي (2) (748 هـ)
محمد بن أحمد بن عثمان الشيخ الإمام الحافظ الهمام، مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين، شمس الدين أبو عبدالله، التركماني الفارقي الأصل الدمشقي. ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وأجمع من ترجم له أنه حافظ عصره الذي تضرب له أكباد الإبل من شتى الأمصار. اسم على مسمى، فهو ذهبي استضاء به المسلمون عامة، والمحدثون خاصة، والسلفيون خاصة الخاصة، ترك ميراثا كبيرا في الحديث والرجال، وهو من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية باعترافه في تصريحاته في كثير من تآليفه. أسهم في الدفاع عن العقيدة السلفية بمؤلفاته الجيدة كالعلو والعرش، وأما مؤلفاته العامة فما تأتي مناسبة إلا وينتصر للعقيدة السلفية ويرد على المخالفين لها.
__________
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص.220).
(2) طبقات الشافعية للسبكي (5/216) والدرر الكامنة (3/336-338) والرد الوافر (65-73).(1/201)
قال تاج الدين السبكي في طبقاته: اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الوالد، لا خامس لهم في عصرهم، فأما أستاذنا أبو عبدالله فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، وَذَهَبُ العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها أخبار من حضرها، وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت.
قال ابن ناصر: كان إماما في القراءات، فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف. أنشدونا عنه لنفسه:
الفقه قال الله قال رسوله وحذار من نصب الخلاف جهالة ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
بين النبي وبين رأي فقيه
وله المؤلفات المفيدة والمختصرات الحسنة، والمصنفات السديدة. توفي رحمه الله تعالى عام ثمان وأربعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ وهو يتكلم عن عزة السنن وخمود البدع في الطبقة الخامسة: وفي زمان هذه الطبقة كان الإسلام وأهله في عز تام، وعلم غزير وأعلام الجهاد منثورة، والسنن مشهورة، والبدع مكبوتة، والقوالون بالحق كثير، والعباد متوافرون، والناس في بُلَهْنِيَّةٍ من العيش بالأمن، وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس، وإلى قريب مملكة الخطا، وبعض الهند وإلى الحبشة. (1)
- قال رحمه الله في السير: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة. فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبه. نسأل الله العافية. (2)
__________
(1) تذكرة الحفاظ (1/244).
(2) 8/144).(1/202)
- وقال: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا علم صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعيا إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء، قبول روايته والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدنا عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ.
وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها: أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم وحفظهم. (1)
- وقال: أنبئت عن أبي جعفر الطرسوسي عن ابن طاهر قال: لو أن محدثا من سائر الفرق أراد أن يروي حديثا واحدا بإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقه الكل في عقده، لم يسلم له ذلك، وأدى إلى انقطاع الزوائد رأسا، فكان اعتمادهم في العدالة على صحة السماع والثقة من الذي يروى عنه، وأن يكون عاقلا مميزا.
قال الذهبي: العمدة في ذلك صدق المسلم الراوي، فإن كان ذا بدعة أخذ عنه، والإعراض عنه أولى، ولا ينبغي الأخذ عن معروف بكبيرة، والله أعلم. (2)
- وقال: فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
__________
(1) السير (7/154).
(2) السير (19/368).(1/203)
وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا. (1)
- وقال: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر. فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا. وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين. فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر المأمون الخليفة- وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخب ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة، فإنه كان كذلك. وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يمهل. وهلك لعامه، وخلى بعده شرا وبلاء في الدين. فإن الأمة مازالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون، كان منهم وأظهر المقالة. (2)
__________
(1) الميزان (1/5-6).
(2) السير (11/236).(1/204)
- قال الذهبي: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن. (1)
- وقال: فيا لله العجب من عالم يقلد دينه إماما بعينه في كل ما قال، مع علمه بما يرد على مذهب إمامه من النصوص النبوية، فلا قوة إلا بالله. (2)
- وقال: وقد روي من وجوه متعددة، أن أبا بكر بن عياش مكث نحوا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة.
فعلق الذهبي على هذا القول: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى. فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عبدالله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال عليه السلام: "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" (3) . (4)
__________
(1) السير (20/45-46).
(2) التذكرة (1/16).
(3) أخرجه: أحمد (2/164،189،195) وأبو داود (2/113،116/1390-1394) والترمذي (5/182/2949) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/25/8067) وابن ماجه (1/428/1347) وابن حبان (الإحسان 3/35/758) كلهم من طريق يزيد بن عبدالله بن الشخير عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فذكره". وأصله عند البخاري (9/116/5054) ومسلم (2/812-813/1159).
(4) السير (8/503).(1/205)
- وقال: قال الحاكم: وسمعت الصبغي يقول: صام أبو عمرو الخفاف الدهر نيفا وثلاثين سنة. قلت: ليته أفطر وصام، فما خفي والله عليه النهي عن صيام الدهر (1) . ولكن له سلف، ولو صاموا أفضل الصوم، للزموا صوم داود عليه السلام. (2)
- وساق بالسند إلى علي رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها، يغلط أصحابه في الصلاة، والقوم يصلون) (3) .
قال الذهبي: هذا حديث صالح الإسناد، فيه النهي عن قراءة الأسباع التي في المساجد وقت صلوات الناس فيها، ففي ذلك تشويش بين على المصلين، هذا إذا قرؤوا قراءة جائزة مرتلة، فإن كانت قراءتهم دمجا وهذرمة وبلعا للكلمات، فهذا حرام مكرر، فقد -والله- عم الفساد، وظهرت البدع، وخفيت السنن، وقل القوال بالحق، بل لو نطق العالم بصدق وإخلاص، لعارضه عدة من علماء الوقت، ولمقتوه وجهلوه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. (4)
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/164) والبخاري (4/277/1977) ومسلم (2/814-815/1159[186]) والنسائي (4/521-522/2376) وابن ماجه (1/544/1706) كلهم من طريق أبي العباس عن عبدالله بن عمرو.
(2) السير (13/561).
(3) رواه أحمد (1/88) وأبو يعلى (1/384/497) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعا. وذكره الهيثمي في المجمع (2/265) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحارث وهو ضعيف". لكن معنى الحديث صح من وجه آخر. أخرجه أحمد (3/94). أبو داود (2/83/1332) من حديث أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة". وصححه ابن خزيمة (2/190/1162) وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (4/133-134/1603) بعد أن ذكر سند أبي داود: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
(4) السير (14/165-166).(1/206)
- ثم ساق أن أبا غسان كان عند علي بن الجعد فذكروا حديث: "إن ابني هذا سيد" (1) ، قال: "ما جعله الله سيدا".
قال الذهبي معلقا: أبو غسان لا أعرف حاله، فإن كان قد صدق، فلعل ابن الجعد قد تاب من هذه الورطة، بل جعله سيدا على رغم أنف كل جاهل، فإن من أصر على مثل هذا من الرد على سيد البشر، يكفر بلا مثنوية (2) .اهـ (3)
- وساق بالسند إلى محمد بن يحيى النيسابوري، حين بلغه وفاة أحمد، يقول: ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
قال الذهبي: تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع. (4)
- وقال: قال أبو نعيم الحافظ -وهو يتحدث عن محمد بن الفضل البلخي الصوفي-: سمع الكثير من قتيبة بن سعيد. وسمعت محمد بن عبدالله الرازي بنسا أنه سمعه يقول: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من العلم.
قال الذهبي: هذه نعوت رؤوس العرب والترك، وخلق من جهلة العامة، فلو عملوا بيسير ما عرفوا، لأفلحوا، ولو وقفوا عن العمل بالبدع لوفقوا، ولو فتشوا عن دينهم وسألوا أهل الذكر -لا أهل الحيل والمكر- لسعدوا، بل يعرضون عن التعلم تيها وكسلا، فواحدة من هذه الخلال مردية، فكيف بها إذا اجتمعت؟ فما ظنك إذا انضم إليها كبر، وفجور، وإجرام، وتجهرم على الله؟ نسأل الله العافية. (5)
__________
(1) أخرجه: أحمد (5/37-38) والبخاري (5/384/2704) وأبو داود (5/48-49/4662) والترمذي (5/616/3773) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/118-119/1409) من طرق عن الحسن أنه سمع أبا بكرة يقول: فذكر الحديث.
(2) أي: بلا استثناء. (قاله في اللسان 14/124).
(3) السير (10/464).
(4) السير (11/203-204).
(5) السير (14/525).(1/207)
- قال الذهبي في ترجمة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ: صدوق، كان بعد الخمسمائة لكنه كان يقول: الروح قديمة على رأي جهال الجبالنة، وشبهتهم قوله تعالى: قُلْ { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ } رَبِّي (1) قالوا: وأمره تعالى قديم، وهو شيء غير خلقه وتلوا أَلَا { لَهُ الْخَلْقُ } وَالْأَمْرُ (2) وَكَذَلِكَ { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ } أَمْرِنَا (3) .
وهذا من أردى البدع وأضلها، فقد علم الناس أن الحيوانات كلها مخلوقة، وأجسادها وأرواحها. (4)
- وقال في آخر ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي: توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين، فدفن بجنب والده، وكسروا منبره، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ، كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولا، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاما، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه، وكانت الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع.
قال الذهبي: هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين. (5)
__________
(1) الإسراء الآية (85).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) الشورى الآية (52).
(4) ميزان الاعتدال (1/86-87) وأشار إليه في السير (19/520).
(5) السير (18/476).(1/208)
- وقال: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله تعالى حيث يقول: وَالَّذِينَ { جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ } آَمَنُوا (1) فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأمة، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأمهات المؤمنين، وبنات نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وأهل بدر مع كونهم على مراتب، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح، ثم عموم المهاجرين والأنصار، كخالد بن الوليد والعباس وعبدالله بن عمرو، وهذه الحلبة، ثم سائر من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاهد معه، أو حج معه، أو سمع منه، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرات والمدنيات وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات.
__________
(1) الحشر الآية (10).(1/209)
فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نعرج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سُكْران (1) ؟
ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض، وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وهمه، أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الضعيف.
وإمامنا (2) ، فبحمد الله ثبت في الحديث، حافظ لما وعى، عديم الغلط (3) ، موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء، ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا، فقد أصابوا، وأجملوا، وهدوا، ووفقوا.
وأما أئمتنا اليوم وحكامنا، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى، فقد يقال: أحسنوا ووفقوا، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر.
وبكل حال؛ فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة. وفي الحديث الثابت: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليرزقهم ويعافيهم" (4) .
وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد.
__________
(1) هذا عجز بيت وهو:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران
(2) يعني الشافعي.
(3) قوله: عديم الغلط فيه إطراء زائد.
(4) أخرجه: البخاري (10/626/6099) ومسلم (4/2160/2804) كلاهما من طريق أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.(1/210)
ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة، وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه، وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل، وقد اعترف الإمام سحنون، وقال: لم يكن في الشافعي بدعة. فصدق والله، فرحم الله الشافعي، وأين مثل الشافعي والله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، رحمه الله تعالى. (1)
- وقال: وممن كان بعد المئتين من رؤوس المتكلمين والمعتزلة، بشر بن غياث المريسي العدوي، مولى آل زيد بن الخطاب، وأبو سهل بشر بن المعتمر الكوفي الأبرص، من كبار المعتزلة ومصنفيهم، وأبو معن ثمامة بن أشرس النميري البصري، وأبو الهذيل محمد بن العلاف البصري، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البصري النظام، وهشام بن الحكم الكوفي الرافضي المجسم، وضرار بن عمرو الذي تنسب الضرارية إليه، وأبو المعتمر معمر بن عباد وقيل: معمر بن عمرو البصري العطار، وهشام بن عمرو الفوطي، وداود الجواربي، والوليد بن أبان الكرابيسي، وابن كيسان الأصم، وأبو موسى الفراء البغدادي، وأبو موسى البصري الملقب بالمرداز، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وآخرون.
نعوذ بالله من البدع، وأن نقول على الله ما لا نعلم. (2)
__________
(1) السير (10/92-95).
(2) السير (10/441).(1/211)
- وقال: وأصل "المدونة" أسئلة. سألها أسد بن الفرات لابن القاسم. فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرا، وأسقط، ثم رتبها سحنون، وبوبها. واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها، بل رأي محض. وحكوا أن سحنون في أواخر الأمر علم عليها، وهم بإسقاطها وتهذيب "المدونة"، فأدركته المنية رحمه الله. فكبراء المالكية، يعرفون تلك المسائل، ويقررون منها ما قدروا عليه، ويوهنون ما ضعف دليله. فهي لها أسوة بغيرها من دوواين الفقه. وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر - صلى الله عليه وسلم - تسليما. فالعلم بحر بلا ساحل، وهو مفرق في الأمة، موجود لمن التمسه. (1)
- وقال: قال الشيخ محي الدين النواوي -وهو يتحدث عن محمد بن إبراهيم بن المنذر-: له من التحقيق في كتبه ما لا يقاربه فيه أحد، وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل.
قال الذهبي: ما يتقيد بمذهب واحد إلا مَنْ هو قاصر في التمكن من العلم كأكثر علماء زماننا، أو من هو متعصب، وهذا الإمام فهو من حملة الحجة، جار في مضمار ابن جرير، وابن سريج، وتلك الحلبة رحمهم الله. (2)
- وقال في الطبقة التاسعة من تذكرة الحفاظ: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي خلق كثير، وما ذكرنا عشرهم هنا، وأكثرهم مذكورون في تاريخي. وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أئمة أهل الرأي والفروع، وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة وأصحاب الكلام، الذين مشوا وراء المعقول وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية، وظهر في الفقهاء التقليد وتناقص الاجتهاد، فسبحان من له الخلق والأمر.
__________
(1) السير (12/68).
(2) السير (14/491).(1/212)
فبالله عليك يا شيخ، ارفق بنفسك، والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا، فما في من سميت أحد، ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا؛ أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال أن أعوزك المقال: من أحمد؟! وما ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟! هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه؟! وما أصوله؟! ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة. فاسكت بحلم أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو النافع -كذا- ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر والبلوى، فأعرض عنه وذره في غيه فعقباه إلى وبال. نسأل الله العفو والسلامة. (1)
" التعليق:
هذا كان في زمن الذهبي، الذي عاش مع الفحول والحفاظ في كل فن، مع ذلك أورد هذه الإيرادات، فماذا يكون في زمننا هذا الذي عم فيه البلاء؟ -نسأل الله العافية- ونطق فيه الرويبضة، وتمشيخ فيه الجهال، ولقب السفلة بالفقهاء، وعقدت لهم المجالس، ووضعت لهم الدور والمدارس والجامعات؛ لينشروا جهلهم وينثروا حقدهم على السنة وأهلها، وضيق فيه على أهل الحق الذين ليس لهم إلا الله معينا، فهو حسبنا وعليه توكلنا، وكفى به حسيبا ووكيلا وَمَنْ { يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ } حَسْبُهُ (2) .
موقفه من المشركين:
__________
(1) تذكرة الحفاظ (2/627-628).
(2) الطلاق الآية (3).(1/213)
- قال رحمه الله: وقد كان بعض الزنادقة، والطغام من التناسخية، اعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى، حل في أبي مسلم الخراساني المقتول، عندما رأوا من تجبره، واستيلائه على الممالك، وسفك للدماء. (1)
- وقال رحمه الله: وقد نهى عليه السلام أن يبنى على القبور، ولو اندفن الناس في بيوتهم، لصارت المقبرة والبيوت شيئا واحدا، والصلاة في المقبرة، فمنهي عنها نهي كراهية، أو نهي تحريم، وقد قال عليه السلام: "أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة" (2) . فناسب ذلك ألا تتخذ المساكن قبورا. وأما دفنه في بيت عائشة صلوات الله عليه وسلامه فمختص به، كما خص ببسط قطيفة تحته في لحده، وكما خص بأن صلوا عليه فرادى بلا إمام، فكان هو إمامهم حيا وميتا في الدنيا والآخرة، وكما خص بتأخير دفنه يومين، ويكره تأخير أمته، لأنه هو أمن عليه التغير بخلافنا، ثم إنهم أخروه حتى صلوا كلهم عليه داخل بيته، فطال لذلك الأمر، ولأنهم ترددوا شطر اليوم الأول في موته حتى قدم أبو بكر الصديق من السنح، فهذا كان سبب التأخير. (3)
- وقال رحمه الله في شأن الفلسفة: قال سعيد بن عفير: ما رأيت أخطب منه على هذه الأعواد -يعني إسماعيل بن صالح- كان جامعا لكل سؤدد، ويعرف الفلسفة، وضرب العود، والنجوم.
قلت: علمه هذا الجهل خير منه. (4)
- وقال: ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، - يعني السيدة نفيسة -ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية. (5)
- وقال رحمه الله تعليقا على قول الإمام أحمد في هشام بن عمار: طيَّاش خفيف.
__________
(1) السير (6/67).
(2) جزء من حديث طويل أخرجه: البخاري (2/273/731) ومسلم (1/539/781) وأبو داود (2/145/1447) والترمذي (2/312/450) مختصرا. والنسائي (3/219-220/1598) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه .
(3) السير (8/29-30).
(4) السير (8/359).
(5) السير (10/106).(1/214)
قلت: أما قول الإمام فيه: طياش، فلأنه بلغه عنه أنه قال في خطبته: الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه. فهذه الكلمة لا ينبغي إطلاقها، وإن كان لها معنى صحيح، لكن يحتج بها الحلولي والاتحادي. وما بلغنا أنه سبحانه وتعالى تجلى لشيء إلا بجبل الطور، فصيره دكا. وفي تجليه لنبينا - صلى الله عليه وسلم - اختلاف، أنكرته عائشة، وأثبته ابن عباس. (1)
- وقال رحمه الله: فتنة الزنج كانت عظيمة، وذلك أن بعض الشياطين الدهاة، كان طرقيا أو مؤدبا، له نظر في الشعر والأخبار، ويظهر من حاله الزندقة والمروق، ادعى أنه علوي، ودعا إلى نفسه، فالتف عليه قطاع طريق، والعبيد السود من غلمان أهل البصرة، حتى صار في عدة، وتحيلوا وحصلوا سيوفا وعصيا، ثم ثاروا على أطراف البلد فبدعوا وقتلوا، وقووا، وانضم إليهم كل مجرم، واستفحل الشر بهم؛ فسار جيش من العراق لحربهم، فكسروا الجيش، وأخذوا البصرة، واستباحوها، واشتد الخطب، وصار قائدهم الخبيث في جيش وأهبة كاملة، وعزم على أخذ بغداد، وبنى لنفسه مدينة عظيمة، وحار الخليفة المعتمد في نفسه، ودام البلاء بهذا الخبيث المارق ثلاث عشرة سنة، وهابته الجيوش، وجرت معه ملاحم ووقعات يطول شرحها. قد ذكرها المؤرخون إلى أن قتل. فالزنج هم عبارة عن عبيد البصرة الذين ثاروا معه. لا بارك الله فيهم. (2)
__________
(1) السير (11/431-432).
(2) السير (12/375).(1/215)
- وقال أيضا في خبيث الزنج: وكاد الخبيث أن يملك الدنيا، وكان كذابا ممخرقا ماكرا شجاعا داهية، ادعى أنه بعث إلى الخلق فرد الرسالة. وكان يدعي علم الغيب، لعنه الله.ودخلت سنة تسع [أي سنة 259هـ]، فعرض الموفق جيشه بواسط، وأما الخبيث فدخل البطائح، وبثق حوله الأنهار وتحصن، فهجم عليه الموفق، وأحرق وقتل فيهم، واستنقذ من السبايا، ورد إلى بغداد، فسار خبيث الزنج إلى الأهواز، فوضع السيف، وقتل نحوا من خمسين ألفا، وسبى أربعين ألفا، فسار لحربه موسى بن بغا فتحاربا بضعة عشر شهرا، وذهب تحت السيف خلائق من الفريقين. فإنا لله، وإنا إليه راجعون. (1)
- قال السلمي: وحكي عنه -أي الحلاج- أنه رئي واقفا في الموقف والناس في الدعاء، وهو يقول: أنزهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون.
__________
(1) السير (12/542).(1/216)
قال الذهبي عقبه: هذا عين الزندقة، فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة، فهل وحدوه تعالى إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قالها من قلبه فقد حرم ماله ودمه" (1) وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا برئ الصوفي منها، فهو ملعون زنديق، وهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعلم بهم. قال الله تعالى: وَمِنْ { أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ } مَرَّتَيْنِ (2) فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته، فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل أن من رآه المسلمون صالحا محسنا، فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن من رآه المسلمون فاجرا أو منافقا أو مبطلا، فهو كذلك، وأن من كان طائفة من الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله،وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين.
__________
(1) رواه مسلم (1/53/23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
(2) التوبة الآية (101).(1/217)
ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا علىمسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج،وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم، -فتدبر- يا عبدالله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق ذلك، وحاسب نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان -والحالة هذه- محقا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا. (1)
- وجاء في السير: قال ابن باكويه: سمعت ابن خفيف يسأل: ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط. فقيل له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين. فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدا، فليس في الدنيا توحيد.
__________
(1) السير (14/342-345).(1/218)
قال الذهبي عقبه: هذا غلط من ابن خفيف، فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح: الله الله في دمي، فأنا على الإسلام. وتبرأ مما سوى الإسلام. والزنديق فيوحد الله علانية، ولكن الزندقة في سره. والمنافقون فقد كانوا يوحدون ويصومون ويصلون علانية، والنفاق في قلوبهم، والحلاج فما كان حمارا حتى يظهر الزندقة بإزاء ابن خفيف وأمثاله، بل كان يبوح بذلك لمن استوثق من رباطه، ويمكن أن يكون تزندق في وقت، ومرق وادعى الإلهية، وعمل السحر والمخاريق الباطلة مدة، ثم لما نزل به البلاء ورأى الموت الأحمر أسلم ورجع إلى الحق، والله أعلم بسره، ولكن مقالته نبرأ إلى الله منها، فإنها محض الكفر، نسأل الله العفو والعافية، فإنه يعتقد حلول البارئ -عز وجل- في بعض الأشراف، تعالى الله عن ذلك. (1)
- وقال رحمه الله: وهو رأس الفلاسفة الإسلامية -أي ابن سينا- لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة. وله كتاب 'الشفاء' وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب 'المنقذ من الضلال'، وكفر الفارابي. (2)
- وقال وهو يتحدث عن أبي العلاء: ومن أردإ تواليفه 'رسالة الغفران' في مجلد، قد احتوت على مزدكة وفراغ، و'رسالة الملائكة'، و'رسالة الطير' على ذلك الأنموذج، وديوانه 'سقط الزند' مشهور، وله 'لزوم ما لا يلزم' من نظمه. (3)
- وقال عنه أيضا: قيل: إنه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
قال الذهبي عقبه: الفلاسفة يعدون اتخاذ الولد وإخراجه إلى الدنيا جناية عليه، ويظهر لي من حال هذا المخذول أنه متحير لم يجزم بنحلة. اللهم فاحفظ علينا إيماننا. (4)
__________
(1) السير (14/351).
(2) السير (17/535).
(3) السير (18/25).
(4) السير (18/36).(1/219)
- وقال في رتن الهندي: شيخ كبير من أبناء التسعين. تجرأ على الله، وزعم بقلة حياء أنه من الصحابة، وأنه ابن ست مئة سنة وخمسين سنة، فراج أمره على من لا يدري. وقد أفردته في جزء، وهتكت باطله. (1)
- وقال في ابن الفارض: شاعر الوقت شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي ثم المصري صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية. توفي سنة اثنتين وثلاثين، وله ست وخمسون سنة... فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. (2)
- وقال في الحسن بن الصباح الإسماعيلي الملقب بألكيا، صاحب الدعوة النزارية وجَدُّ أصحاب قلعة ألموت:
كان من كبار الزنادقة، ومن دهاة العالم، وله أخبار يطول شرحها لخصتها في تاريخي الكبير، في حوادث سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وأصله من مرو، وقد أكثر التطواف ما بين مصر إلى بلد كاشغر؛ يغوي الخلق ويضل الجهلة، إلى أن صار منه ما صار. وكان قوي المشاركة في الفلسفة والهندسة، كثير المكر والحيل، بعيد الغور، لا بارك الله فيه. (3)
- وقال في الحسين بن عبدالله بن سيناء، أبي علي الرئيس: ما أعلمه روى شيئا من العلم، ولو روى لما حلت الرواية عنه؛ لأنه فلسفي النحلة ضال. (4)
__________
(1) السير (22/367).
(2) السير (22/368).
(3) الميزان (1/500).
(4) الميزان (1/539).(1/220)
- وجاء في الميزان: قال ابن معين: كان عبدالمجيد أصلح كتب ابن علية عن ابن جريج، فقيل ليحيى: كان عبدالمجيد بهذا المحل؟ فقال: كان عالما بكتب ابن جريج، إلا أنه لم يكن يبذل نفسه للحديث. ونقم على عبدالمجيد أنه أفتى الرشيد بقتل وكيع؛ والحديث حدثناه قتيبة، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبدالله البهي -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات لم يدفن حتى ربا بطنه وانثنت خنصراه (1) . قال قتيبة: حدث به وكيع بمكة، وكان سنة حج فيها الرشيد؛ فقدموه إليه، فدعا الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد فقال: يجب أن يقتل، فإنه لم يرو هذا إلا وفي قلبه غش للنبي - صلى الله عليه وسلم - . فسأل الرشيد سفيان، فقال: لا يجب عليه القتل، رجل سمع حديثا فرواه، والمدينة شديدة الحر. توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين فترك إلى ليلة الأربعاء؛ فمن ذلك تغير.
__________
(1) رواه ابن عدي في الكامل (5/344) وذكره الذهبي في السير (9/160) وقال: "خبر منكر ومنقطع".(1/221)
قال الذهبي عقبه: النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر، (وهو بشر) يأكل ويشرب وينام، ويقضي حاجته، ويمرض ويتداوى، ويتسوك ليطيب فمه؛ فهو في هذا كسائر المؤمنين، فلما مات -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - عمل به كما يعمل بالبشر من الغسل والتنظيف والكفن واللحد والدفن، لكن ما زال طيبا مطيبا، حيا وميتا، وارتخاء أصابعه المقدسة، وانثناؤها، وربو بطنه ليس معنا نص على انتفائه؛ والحي قد يحصل له ريح وينتفخ منه جوفه، فلا يعد هذا -إن كان قد وقع- عيبا؛ وإنما معنا نص على أنه لا يبلى، وأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام (1) ؛ بل ويقع هذا لبعض الشهداء رضي الله عنهم. أما من روى حديث عبدالله البهي ليغض به من منصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا زنديق، بل لو روى الشخص حديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر (2) ، وحاول بذلك تنقصا كفر وتزندق؛ وكذا لو روى حديث أنه سلم من اثنتين (3) ،
__________
(1) أحمد (4/8) وأبو داود (1/635/1047) واللفظ له. والنسائي (3/101-102/1373) وابن ماجه (1/345/1085) من حديث أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قال: قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت، فقال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء. وصححه ابن خزيمة (3/118/1733) وابن حبان (3/190-191/910) والحاكم (1/278) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
(2) أحمد (6/63-96) والبخاري (10/272/5763) ومسلم (4/1719-1720/2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) أحمد (2/248) والبخاري (2/261/714) ومسلم (1/403/573) وأبو داود (1/612-614/1008) والترمذي (2/247/399) والنسائي (3/26-27/1224) وابن ماجه (1/383/1214) من حديث أبي هريرة..(1/222)
وقال: ما درى كم صلى يقصد بقوله شينه ونحو ذلك كفر؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون (1) ؛ فالغلو والإطراء منهي عنه، والأدب والتوقير واجب، فإذا اشتبه الإطراء بالتوقير توقف العالم وتورع، وسأل من هو أعلم منه حتى يتبين له الحق، فيقول به، وإلا فالسكوت واسع له، ويكفيه التوقير المنصوص عليه في أحاديث لا تحصى، وكذا يكفيه مجانبة الغلو الذي ارتكبه النصارى في عيسى؛ ما رضوا له بالنبوة حتى رفعوه إلى الإلهية وإلى الوالدية، وانتهكوا رتبة الربوبية الصمدية، فضلوا وخسروا؛ فإن إطراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدي إلى إساءة الأدب على الرب. نسأل الله تعالى أن يعصمنا بالتقوى، وأن يحفظ علينا حبنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يرضى. (2)
- وقال رحمه الله: وكذلك من أمعن النظر في 'فصوص الحكم'، أو أنعم التأمل لاح له العجب؛ فإن الذكي إذا تأمل من ذلك الأقوال والنظائر والأشباه؛ فهو أحد رجلين: إما من الاتحادية في الباطن، وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر. نسأل الله العفو، وأن يكتب الإيمان في قلوبنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر! لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن، يصلي بها الصلوات، ويؤمن بالله وباليوم الآخر؛ خير له بكثير من هذا العرفان! وهذه الحقائق! ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة. (3)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) أحمد (1/424) والبخاري (1/663/401) ومسلم (1/400/572) وأبو داود (1/620/1020) والنسائي (3/33/1241) وابن ماجه (1/380/1203) من حديث عبدالله بن مسعود.
(2) الميزان (2/649-650).
(3) الميزان (3/660).(1/223)
- جاء في السير: بعد ذكره لترجمة الفأفاء رحمه الله قال: وكان الناس في الصدر الأول بعد وقعة صفين على أقسام: أهل سنة، وهم أولوا العلم، وهم محبون للصحابة كافون عن الخوض في ما شجر بينهم؛ كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأمم. ثم شيعة يتوالون وينالون ممن حاربوا عليا ويقولون: إنهم مسلمون بغاة ظلمة. ثم نواصب: وهم الذين حاربوا عليا يوم صفين، ويقرون بإسلام علي وسابقيه ويقولون: خذل الخليفة عثمان. فما علمت في ذلك الزمان شيعيا كفر معاوية وحزبه، ولا ناصبيا كفر عليا وحزبه، بل دخلوا في سب وبغض، ثم صار اليوم شيعة زماننا يكفرون الصحابة، ويبرؤون منهم جهلا وعدوانا، ويتعدون إلى الصديق قاتلهم الله. وأما نواصب وقتنا فقليل، وما علمت فيهم من يكفر عليا ولا صحابيا. (1)
__________
(1) السير (5/374).(1/224)
- وقال في موضع آخر من السير: وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا على النصب نعوذ بالله من الهوى، كما قد نشأ جيش علي - رضي الله عنه - ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه والقيام معه وبغض من بغى عليه والتبري منهم، وغلا خلق منهم في التشيع، فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليا في الحب مفرطا في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمن قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا، واستغفرنا وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علمنا الله: رَبَّنَا { اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ } آَمَنُوا (1) . وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق، وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا وكفروا الفريقين. فالخوارج كلاب النار قد مرقوا من الدين، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان. (2)
__________
(1) الحشر الآية (10).
(2) السير (3/128).(1/225)
- وفيها: قال في ترجمة ابن السمسار: مات ابن السمسار في صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وقد كمل التسعين، وتفرد بالرواية عن ابن أبي العقب وطائفة، ولعل تشيعه كان تقية لا سجية، فإنه من بيت الحديث، ولكن غلت الشام في زمنه بالرفض، بل ومصر والمغرب بالدولة العبيدية، بل والعراق وبعض العجم بالدولة البويهية، واشتد البلاء دهرا، وشمخت الغلاة بأنفها، وتواخى الرفض والاعتزال حينئذ والناس على دين الملك، نسأل الله السلامة في الدين. (1)
- وفيها: وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن وقتلوا وسبوا. (2)
" التعليق:
هكذا كان حال شيعة الأمس، وأما اليوم فيخدعون الناس بشعارات كاذبة، أنهم سيحررون القدس من اليهود، ولكن على طريق احتلال العالم الإسلامي وملئه بالرفض والتشيع، ولا يبقى في أمة الإسلام إلا من يتقرب إلى الله بسب خيرة الأمة، فهناك يحرر المجوس القدس من اليهود، ولا يدري المغفلون الذين ينخدعون بشعاراتهم أنهم أنجس من اليهود وأمريكا.
- وجاء في السير أيضا: وكان جوهر -الأمير أبو الحسن الرومي- هذا حسن السيرة في الرعايا، عاقلا أديبا، شجاعا مهيبا، لكنه على نحلة بني عبيد التي ظاهرها الرفض وباطنها الانحلال، وعموم جيوشهم بربر وأهل زعارة وشر، لا سيما من تزندق منهم، فكانوا في معنى الكفرة، فيا ما ذاق المسلمون منهم من القتل والنهب وسبي الحريم، ولا سيما في أوائل دولتهم، حتى إن أهل صور قاموا عليهم وقتلوا فيهم، فهربوا حتى إن أهل صور استنجدوا بنصارى الروم فجاءوا في المراكب، وكان أهل صور قد لحقهم من المغاربة من الظلم والجور وأخذ الحريم من الحمامات والطرق أمر كبير. (3)
__________
(1) السير (17/507).
(2) السير (16/232).
(3) السير (16/468).(1/226)
- وقال في ترجمة أبي بكر بن النابلسي: لا يوصف ما قلب هؤلاء العبيدية الدين ظهرا لبطن، واستولوا على المغرب ثم على مصر والشام وسبوا الصحابة. (1)
- وقال رحمه الله: فهذا ما تيسر من سيرة العشرة، وهم أفضل قريش، وأفضل السابقين المهاجرين، وأفضل البدريين، وأفضل أصحاب الشجرة، وسادة هذه الأمة في الدنيا والآخرة. فأبعد الله الرافضة، ما أغواهم وأشد هواهم، كيف اعترفوا بفضل واحد منهم وبخسوا التسعة حقهم، وافتروا عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة؟! فوالله ما جرى من ذلك شيء، وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم وخالفوا نبيهم وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم، يتجر ويتكسب، لا لرغبة في أمواله ولا لرهبة من عشيرته ورجاله، ويحك أيفعل هذا من له مسكة عقل؟ ولو جاز هذا على واحد لما جاز على الجماعة، ولو جاز وقوعه من جماعة لاستحال وقوعه والحالة هذه من ألوف من سادة المهاجرين والأنصار وفرسان الأمة وأبطال الإسلام، لكن لا حيلة في برء الرفض فإنه داء مزمن، والهدى نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فلا قوة إلا بالله. (2)
" التعليق:
انظر هداك الله إلى هذا النص المبارك، وهذا الرد المفحم على أعداء الله، فهل هناك حجة أكثر وضوحا من هذه، فمن قرأ سيرة هؤلاء الأفاضل، كيف يخطر في باله أنهم ينزلون إلى هذا التصور الخسيس الذي أنزلهم له هؤلاء المجوس! ويرد على تصورهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترضى على المنافقين وبشر بالجنة المنافقين، وكل ما ورد من النصوص في فضلهم فهو في المنافقين، ولكن كما قال الشيخ: الرفض داء مزمن لا برء له إلا بالسيف، وأما الحجة والبرهان فلا تنفع مع هؤلاء، والله المستعان.
- جاء في السير في ترجمة الرواجني المبتدع بعد كلامه من لم يبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد حشر معهم.
__________
(1) السير (16/149).
(2) السير (1/140-141).(1/227)
قال الذهبي: هذا الكلام مبدأ الرفض بل نكف ونستغفر للأمة، فإن آل محمد في إِيَّاهُمْ قد عادى بعضهم بعضا، واقتتلوا على الملك، وتمت عظائم فمن أيهم نبرأ؟! (1)
" التعليق:
ما أحسن هذا الكلام وما ألزمه للخصم، فمن نحب ونرفض، والسلف هم الوسط في هذا الباب وغيره، فترحموا على الجميع وأحبوا الجميع، واستغفروا للمسيء وهنئوا المصيب، والله المستعان.
- وجاء في السير في ترجمة محمد بن الحسن العسكري قال رحمه الله رادا على دعوى المهدية المتخيلة من دخول سرداب وغياب وانتظار:
نعوذ بالله من زوال العقل، فلو فرضنا وقوع ذلك في سالف الدهر، فمن الذي رآه؟ ومن الذي نعتمد عليه في إخباره بحياته؟ ومن الذي نص لنا على عصمته وأنه يعلم كل شيء؟ هذا هوس بين، إن سلطناه على العقول ضلت وتحيرت، بل جوزت كل باطل. أعاذنا الله وإياكم من الاحتجاج بالمحال والكذب، أورد الحق الصحيح كما هو ديدن الإمامية. (2)
- وجاء في الميزان: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا رضي الله عنه، وتعرض لسبهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضا، فهذا ضال معثر. (3)
__________
(1) السير (11/537-538).
(2) السير (13/122).
(3) الميزان (1/6).(1/228)
- وفيه: علي بن الحسين (العلوي الحسيني الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف. حدث عن سهل الديباجي، والمرزباني، وغيرهما. وولي نقابة العلوية، ومات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، عن إحدى وثمانين سنة؛ وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن الكتاب أكثره باطل. (1)
- وقال رحمه الله في ترجمة ابن خراش: هذا والله الشيخ المعثر الذي ضل سعيه، فإنه كان حافظ زمانه، وله الرحلة الواسعة، والاطلاع الكثير والإحاطة، وبعد هذا فما انتفع بعلمه، فلا عَتْب على حمير الرافضة وحواثر جَزِّين ومشغَرَا. (2)
- وقال في التذكرة في ترجمته أيضا: جهلة الرافضة لم يدروا الحديث ولا السيرة ولا كيف ثم، فأما أنت أيها الحافظ البارع الذي شربت بولك إن صدقت في الترحال، فما عذرك عند الله؟ مع خبرتك بالأمور، فأنت زنديق معاند للحق فلا رضي الله عنك. (3)
- وفي الميزان: عمران بن مسلم الفزاري، كوفي. عن مجاهد، وعطية. وعنه الفضل السيناني، وأبو نعيم.
قال أبو أحمد الزبيري: رافضي، كأنه جرو كلب.
قال الذهبي: خراء الكلاب كالرافضي. (4)
- وجاء في السير: قال الذهبي: لم يكن سعيد -يعني: ابن زيد- متأخرا عن رتبة أهل الشورى في السابقة والجلالة، وإنما تركه عمر رضي الله عنه، لئلا يبقى له فيه شائبة حظ، لأنه ختنه وابن عمه، ولو ذكره في أهل الشورى لقال الرافضي: حابى ابن عمه. فأخرج منها ولده وعصبته. فكذلك فليكن العمل لله. (5)
__________
(1) الميزان (3/124).
(2) الميزان (2/600).
(3) التذكرة (2/685).
(4) الميزان (3/242).
(5) السير (1/138).(1/229)
- وفيها: قال في ترجمة مسطح بن أثاثة المذكور في قصة الإفك:
إياك يا جري أن تنظر إلى هذا البدري شزرا لهفوة بدت منه، فإنها قد غفرت، وهو من أهل الجنة. وإياك يا رافضي أن تلوح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتها فتجب لك النار. (1)
- وفيها: وكان تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بها -أي عائشة رضي الله عنها- إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة في شوال بعد وقعة بدر. فما تزوج بكرا سواها، وأحبها حبا شديدا كان يتظاهر به، بحيث إن عمرو بن العاص، وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة" قال: فمن الرجال؟ قال: "أبوها" (2) .
وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه السلام ليحب إلا طيبا. وقد قال: "لو كنت متخذا خليلا من هذه الأمة، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل" (3) فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو حري أن يكون بغيضا إلى الله ورسوله.
وحبه عليه السلام لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته. (4)
__________
(1) السير (1/188).
(2) أحمد (4/203) والبخاري (7/22/3662) ومسلم (4/1856/2384) والترمذي (5/663/3885) والنسائي في الكبرى (5/36/8106).
(3) أحمد (1/270) والبخاري (1/734/466) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد اخدري وابن الزبير وأبي المعالي الأنصاري وجندب وأبي هريرة - رضي الله عنهم - .
(4) السير (2/141-142).(1/230)
- وصح من حديث عمارة بن عمير، قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فأتيناهم وهو يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخر عبيد الله، فمكثت هُنية، ثم خرجت، وغابت، ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.
قال الذهبي: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله، ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى الله. (1)
- وفيها: قال ابن سعد: أنبأنا محمد بن الصلت، حدثنا ربيع بن منذر، عن أبيه قال: كنا مع ابن الحنفية، فأراد أن يتوضأ، فنزع خفيه، ومسح على قدميه.
قال الذهبي: هذا قد يتعلق به الإمامية وبظاهر الآية، لكن غسل الرجلين شرع لازم بينه لنا الرسول -اللهم صل عليه- وقال: "ويل للأعقاب من النار" (2) وعليه عمل الأمة ولا اعتبار بمن شذ. قال رافضي: فأنتم ترون مسح موضع ثلاث شعرات بل شعرة من الرأس يجزئ، والنص فلا يحتمل هذا، ولا يسمى من اقتصر عليه ماسحا لرأسه عرفا، ولا رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أحدا من أصحابه اجتزأ بذلك ولا جوزه. فالجواب: أن الباء للتبعيض في قوله: } بِرُءُوسِكُمْ { (3) وليس هذا الموضع يحتمل تقرير هذه المسألة. (4)
- وفيها: قال في ترجمة أبي جعفر الباقر: وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وكان أهلا للخلافة. وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين. فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين، وكل أحد يصيب ويخطئ، ويؤخذ من قوله ويترك سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه معصوم، مؤيد بالوحي.
__________
(1) السير (3/549).
(2) أحمد (2/228-284-406-467) والبخاري (1/354/165) ومسلم (1/214/242) والترمذي (1/58/41) والنسائي (1/82/110) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن عبدالله بن عمرو وعائشة وغيرهما.
(3) المائدة الآية (6).
(4) السير (4/127).(1/231)
قال ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفرا عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى.
كان سالم فيه تشيع ظاهر، ومع هذا فيبث هذا القول الحق، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، وكذلك ناقلها ابن فضيل، شيعي ثقة. فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب، فينالون من الشيخين وزيري المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية.
وروى إسحاق الأزرق، عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. (1)
- وفيها: عن حنان بن سدير، سمعت جعفر بن محمد، وسئل عن أبي بكر وعمر، فقال: إنك تسألني عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة.
وعن عمرو بن قيس الملائي، سمعت جعفر بن محمد يقول: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر.
قال الذهبي: هذا القول متواتر عن جعفر الصادق، وأشهد بالله إنه لبار في قوله غير منافق لأحد، فقبح الله الرافضة. (2)
- وفيها: قال وكيع: حسن بن صالح عندي إمام. فقيل له: إنه لا يترحم على عثمان. فقال: أفتترحم أنت على الحجاج؟
قال الذهبي: لا بارك الله في هذا المثال. ومراده: أن ترك الترحم سكوت، والساكت لا ينسب إليه قول، ولكن من سكت عن ترحم مثل الشهيد أمير المؤمنين عثمان فإن فيه شيئا من تشيع، فمن نطق فيه بغض وتنقص فهو شيعي جلد يؤدب، وإن ترقى إلى الشيخين بذم، فهو رافضي خبيث، وكذا من تعرض للإمام علي بذم، فهو ناصبي يعزر، فإن كفره، فهو خارجي مارق، بل سبيلنا أن نستغفر للكل ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم. (3)
- وفيها: وروى أبو داود الرهاوي، أنه سمع شريكا يقول: علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر.
__________
(1) السير (4/402-403).
(2) السير (6/259-260).
(3) السير (7/369-370).(1/232)
قال الذهبي: ما ثبت هذا عنه. ومعناه حق. يعني: خير بشر زمانه، وأما خيرهم مطلقا، فهذا لا يقوله مسلم. (1)
- وفيها: قال الذهبي في عبيد الله بن موسى: كان صاحب عبادة وليل، صحب حمزة، وتخلق بآدابه، إلا في التشيع المشؤوم، فإنه أخذه عن أهل بلده المؤسس على البدعة. (2)
- وفيها: عن زر، عن علي رضي الله عنه، قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إلي، أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق (3) .
غريب عن شعبة، والمشهور حديث الأعمش عن عدي.
فمعناه أن حب علي من الإيمان، وبغضه من النفاق، فالإيمان ذو شعب، وكذلك النفاق يتشعب، فلا يقول عاقل: إن مجرد حبه يصير الرجل به مؤمنا مطلقا، ولا بمجرد بغضه يصير به الموحد منافقا خالصا. فمن أحبه وأبغض أبا بكر، كان في منزلة من أبغضه وأحب أبا بكر، فبغضهما ضلال ونفاق، وحبهما هدى وإيمان، والحديث ففي صحيح مسلم. (4)
- وفيها: وقد ذكره أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة معاوية، فقال: كان أبو عروبة غاليا في التشيع، شديد الميل على بني أمية.
قال الذهبي: كل من أحب الشيخين فليس بغال، بلى من تعرض لهما بشيء من تنقص، فإنه رافضي غال، فإن سب، فهو من شرار الرافضة، فإن كفر، فقد باء بالكفر، واستحق الخزي، وأبو عروبة فمن أين يجيئه الغلو، وهو صاحب حديث وحراني؟ بلى لعله ينال من المروانية فيعذر. (5)
- قال الذهبي في الحاكم بأمر الله (صاحب مصر): وكان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر جوادا ممدحا، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها. أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع. وأمر عماله بالسب. (6)
__________
(1) السير (8/205).
(2) السير (9/555).
(3) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(4) السير (12/509-510).
(5) السير (14/511).
(6) السير (15/174).(1/233)
- وفيها قال: ليس تفضيل علي برفض ولا هو ببدعة، بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة وجهاد، وهما متقاربان في العلم والجلالة، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام علي، وإليه نذهب. والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر، من خالف في ذا فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبهما واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة، أبعدهم الله. (1)
- قال في التذكرة: فيا أخي إن أحببت أن تعرف هذا الإمام -يعني عمر ابن الخطاب- حق المعرفة فعليك بكتابي 'نعم السمر في سيرة عمر'، فإنه فارق فيصل بين المسلم والرافضي، فوالله ما يغض من عمر إلا جاهل دائص، أو رافضي فاجر وأين مثل أبي حفص فما دار الفلك على مثل شكل عمر، وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب. (2)
- وقال في ترجمة محمد بن النعمان الأحول: عراقي شيعي جلد، يلقبه الشيعة بمؤمن الطاق. يعد من أصحاب جعفر بن محمد. صنف كتاب 'الإمامة' وكتاب 'الرد على المعتزلة' وكتاب 'طلحة وعائشة' وكتاب 'المعرفة' وكتاب 'في أيام هارون الرشيد'. (3)
موقفه من الصوفية:
- جاء في السير في ترجمة القرميسيني قال: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغالطة والزندقة.
قال الذهبي: صدقت والله، فإن الفناء والبقاء من ترهات الصوفية، أطلقه بعضهم فدخل من بابه كل إلحادي وكل زنديق، وقالوا: ما سوى الله باطل فَانٍ، والله تعالى هو الباقي وهو هذه الكائنات، وما ثم شيء غيره، ويقول شاعرهم:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه
ويقول الآخر: وما ثم إلا الله ليس سواه.
__________
(1) السير (16/457-458).
(2) التذكرة (1/6).
(3) السير (10/553).(1/234)
فانظر إلى هذا المروق والضلال، بل كل ما سوى الله محدث موجود. قال الله تعالى: خَلَقَ { السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ } أَيَّامٍ (1) . وإنما أراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات وتركها وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضا، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها وتعظيم خالقها، وقال تعالى: أَوَلَمْ { يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ } شَيْءٍ (2) وقال: قُلِ { انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ } وَالْأَرْضِ (3) .
وقال عليه السلام: "حبب إلي النساء والطيب" (4) . وقال: "كأنك علمت حبنا للحم". (5)
__________
(1) السجدة الآية (4).
(2) الأعراف الآية (185).
(3) يونس الآية (101).
(4) أحمد (3/128 و199 و285) والنسائي (7/72/3949) والحاكم (2/160) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وأخرجه: البيهقي (7/78) من حديث أنس.
(5) رواه أحمد (3/303،397-398) والدارمي (1/24) من طريقين عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر رضي الله عنه. وأصل الحديث عند: أبي داود (2/185/1533) والنسائي في الكبرى (6/112/10256) وغيرهما. وصححه ابن حبان (3/197/916).(1/235)
وكان يحب عائشة ويحب أباها (1) ويحب أسامة (2) ويحب سبطيه (3) ويحب الحلواء والعسل (4) ويحب جبل أحد (5) ويحب وطنه (6)
__________
(1) أحمد (4/203) والبخاري (7/22/3662) ومسلم (4/1856/2384) والترمذي (5/663/3885) والنسائي في الكبرى (5/36/8106).
(2) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه والحسن ويقول: اللهم أحبهما فإني أحبهما. أخرجه: أحمد (5/210) والبخاري (7/110/3735) واللفظ له. النسائي في الكبرى (5/53/8183).
(3) عن عبدالله بن مسعود قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره: فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهما أن دعو.هما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره قال: من أحبني فليحب هذين. أخرجه: النسائي في الكبرى (5/50/8170) والطبراني (3/40/2644) وأبو يعلى (8/434/5017) والبزار (5/226/1833و1834 البحر الزخار). ابن حبان (15/426-427/6970 الإحسان) وابن خزيمة (2/48/887). قال الهيثمي في المجمع (9/179-180): "رواه أبو يعلى والبزار والطبراني باختصار، ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم خلاف".
(4) أخرجه: أحمد (6/59) والبخاري (10/77/5599) ومسلم (2/1101-1102/1474(21)) مطولا. والترمذي (4/241/1831) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". وأبو داود (4/106-107/3715) والنسائي في الكبرى (4/370/7562) وابن ماجه (2/1104/3323) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) أحمد (3/149) والبخاري (7/480/4083) ومسلم (2/1011/1393) والترمذي (5/678/3922) من حديث أنس رضي الله عنه. ورواه البخاري معلقا (3/438) من حديث سهل بن سعد. وفي الباب عن أبي حميد وسويد بن عامر وغيرهما.
(6) كأنه يشير إلى ما رواه: أحمد (4/305) والترمذي (5/679/3925) والنسائي في الكبرى (2/479/4252) وابن ماجه (2/1037/3108) والحاكم (3/7) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي..ابن حبان (9/22/3708) كلهم من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عبدالله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله عز وجل ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".(1/236)
ويحب الأنصار (1) إلى أشياء لا تحصى مما لا يغني المؤمن عنها قط. (2)
- وقال بعد كلام في ترجمة ابن الأعرابي: إي والله، دققوا وعمقوا وخاضوا في أسرار عظيمة، ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوه بعباراتهم صديق ولا صاحب ولا إمام من التابعين، فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك وقالوا: محجوب، وإن سلمت لهم قيادك تخبط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البعد، وقلت: مساكين محجوبون، فلا حول ولا قوة إلا بالله. فإنما التصوف والتأله والسلوك والسير والمحبة؛ ما جاء عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من الرضى عن الله، ولزوم تقوى الله، والجهاد في سبيل الله، والتأدب بآداب الشريعة من التلاوة بترتيل وتدبر، والقيام بخشية وخشوع، وصوم وقت وإفطار وقت، وبذل المعروف، وكثرة الإيثار، وتعليم العوام، والتواضع للمؤمنين، والتعزز على الكافرين، ومع هذا فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (3) .
" التعليق:
كان الصحابة يهتدون بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتذون حذوه قدر ما يستطيعون، وكذلك السلف من بعدهم، الذين نهجوا نهجهم واقتدوا بسيرتهم، فأما ما ذكره الشيخ من نسبة التصوف إلى الصحابة فهذه هفوة منه، فهذا الاسم لا ينبغي أن يطلق في حقهم، فهم أشرف من ذلك، وهذا من مخترعات الرهبان ومن سار على دربهم.
__________
(1) عن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والصبيان -مقبلين قال: حسبت أنه قال من عرس- فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممثلا فقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إلي". قالها ثلاث مرار. رواه: أحمد (3/175-176) والبخاري (7/142-143/3785) ومسلم (4/1948/2508).
(2) السير (15/393-394).
(3) السير (15/409-410).(1/237)
- وقال في ترجمة "كرز" بعد أن حكى زهده وعبادته: هكذا كان زهاد السلف وعبادهم أصحاب خوف وخشوع، وتعبد وقنوع، ولا يدخلون في الدنيا وشهواتها، ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والمحو والاصطلام والاتحاد، وأشباه ذلك مما لا يسوغه كبار العلماء، فنسأل الله التوفيق والإخلاص ولزوم الاتباع. (1)
__________
(1) السير (6/86).(1/238)
- وقال بعد كلام في الجوع والسهر في ترجمة أحمد بن أبي الحواري: الطريقة المثلى هي المحمدية وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا { الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا } صَالِحًا (1) . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني" (2) فلم يشرع لنا الرهبانية ولا التمزق ولا الوصال بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه كما قال تعالى: لِيُنْفِقْ { ذُو سَعَةٍ مِنْ } سَعَتِهِ (3) . وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى.
__________
(1) المؤمنون الآية (51).
(2) أحمد (3/285) والبخاري (9/129/5063) ومسلم (2/1020/1401) والنسائي (6/368-369/3217) من حديث أنس. وليس عند البخاري ذكر أكل اللحم وعند الباقين ذكره في كلام النفر.
(3) الطلاق الآية (7).(1/239)
ثم العابد العري من العلم متى زهد وتبتل وجاع وخلا بنفسه وترك اللحم والثمار واقتصر على الدقة والكسرة صفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطابا يتولد من الجوع والسهر لا وجود لذلك الخطاب -والله- في الخارج وولج الشيطان في باطنه، وخرج فيعتقد أنه قد وصل وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء ويتذكر ذنوبهم وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانه، فالخلوة والجوع أبو جاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء، بلى، السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في المنطق وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم والسماحة وكثرة البشر، والانفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف والأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء وصفات المحمديين أماتنا الله على محبتهم. (1)
__________
(1) السير (12/89-91).(1/240)
- قال رحمه الله في ترجمة الأنصاري كما في السير: قد انتفع به خلق وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين وينتحلونه ويزعمون أنه موافقهم. كلا بل هو رجل أثري لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا، وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء، هو الغيبة عن شهود السوى ولم يرد محو السوى في الخارج، وياليته لا صنف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين؛ ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله وذلوا له، وتوكلوا عليه وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (1)
" التعليق:
قال جامعه غفر الله له: إضافته التصوف إلى الصحابة قد نبهنا عليه في التعليق السالف فلينظر.
- قال الذهبي في ترجمة محمد بن منصور الطوسي: متى رأيت الصوفي مكبا على الحديث فثق به، ومتى رأيته نائيا عن الحديث فلا تفرح به، لاسيما إذا انضاف إلى جهله بالحديث عكوف على ترهات الصوفية، ورموز الباطنية، نسأل الله السلامة، كما قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها (2)
- وقال في ترجمة ابن عطاء: ثبت الله علينا عقولنا وإيماننا، فمن تسبب في زوال عقله بجوع، ورياضة صعبة، وخلوة، فقد عصى وأثم، وضاهى من أزال عقله بعض يوم بسكر. فما أحسن التقيد بمتابعة السنن والعلم. (3)
- وقال: قال مكي بن عمر البيع: سمعت محمد بن عيسى يقول: صام طاهر أربعين يوما أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن، فَلِيُبْسِه قرع رأسه، واختلط في عقله، ولم أر أكثر مجاهدة منه.
__________
(1) السير (18/510).
(2) السير (12/213).
(3) السير (14/256).(1/241)
قال الذهبي: فعل هذه الأربعينات حرام قطعا، فعقباها موت من الخور أو جنون واختلاط، أو جفاف يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبدا في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطاب إِلِّي (1) . كلا والله. (2)
- وقال: قيل: إنه عمل له خلوة، فبقي خمسين يوما لا يأكل شيئا. وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما، فما الظن؟ وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع" (3) . ثم قل من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب، وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطابا لا وجود له في الخارج، فإن كان متمكنا من العلم والإيمان، فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلا بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده، وطمع فيه الشيطان، وادعى الوصول، وبقي على مزلة قدم، وربما تزندق، وقال أنا هو. نعوذ بالله من النفس الأمارة، ومن الهوى، ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا آمين. (4)
__________
(1) أي إلهي.
(2) السير (17/391).
(3) أبو داود (2/191/1547) والنسائي (8/656/5483) وابن ماجه (2/1113/3354) وابن حبان (3/304/1029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) السير (17/576-577).(1/242)
- وقال رحمه الله: أما 'الإحياء' ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: "من رغب عن سنتي، فليس مني" (1) ، فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النواوي وأذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم. (2)
- وفي السير: وقال ابن هلالة: جلست عنده -أي نجم الدين الكبرى - في الخلوة مرارا، وشاهدت أمورا عجيبة، وسمعت من يخاطبني بأشياء حسنة.
قال الذهبي: لا وجود لمن خاطبك في خلوتك مع جوعك المفرط، بل هو سماع كلام في الدماغ الذي قد طاش وفاش وبقي قرعة، كما يتم للمبرسم والمغمور بالحمى والمجنون، فاجزم بهذا واعبد الله بالسنن الثابتة تفلح. (3)
__________
(1) تقدم تخريجه قريبا.
(2) السير (19/339-340).
(3) السير (22/112).(1/243)
- وقال في ترجمة يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري القنيي الزاهد: أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي الزعارة والشطح والخواثة وخفة العقل. كان ذا كشف وحال، ولم يكن عنده كبير علم، وله شطح، وشعر ملحون ينظمه على لسان الربوبية، وبعضه كأنه كذب، والله أعلم بسره، فلا يغتر المسلم بكشف ولا بحال ولا بإخبار عن مغيب، فابن صائد وإخوانه الكهنة لهم خوارق، والرهبان فيهم من قد تمزق جوعا وخلوة ومراقبة على غير أساس ولا توحيد، فصفت كدورات أنفسهم وكاشفوا وفشروا، ولا قدوة إلا في أهل الصفوة وأرباب الولاية المنوطة بالعلم والسنن، فنسأل الله إيمان المتقين، وتأله المخلصين، فكثير من المشايخ نتوقف في أمرهم حتى يتبرهن لنا أمرهم، وبالله الاستعانة. (1)
- وقال في محمد بن إبراهيم الفخر الفارسي الصوفي: ومن تصانيفه كتاب الأسرار، وسر الأسكار، جمع فيه بين الحقيقة والشريعة فتكلف، وقال ما لا ينبغي. وله كتاب مطية النقل وعطية العقل في علم الكلام، وكتاب الفرق بين الصوفي والفقير، وكتاب جمحة النهى في لمحة المها. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال في السير: والمعتزلة تقول: لو أن المحدثين تركوا ألف حديث في الصفات والأسماء والرؤية والنزول لأصابوا. والقدرية تقول: لو أنهم تركوا سبعين حديثا في إثبات القدر. والرافضة تقول: لو أن الجمهور تركوا من الأحاديث التي يدعون صحتها ألف حديث لأصابوا، وكثير من ذوي الرأي يردون أحاديث شافه بها الحافظ المفتي المجتهد أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويزعمون أنه ما كان فقيها، ويأتوننا بأحاديث ساقطة أو لا يعرف لها، إسناد أصلا محتجين بها.
قلنا: وللكل موقف بين يدي الله تعالى. يا سبحان الله، أحاديث رؤية الله في الآخرة متواترة، والقرآن مصدق لها، فأين الإنصاف؟ (3)
" التعليق:
__________
(1) السير (22/178-179).
(2) الميزان (3/452).
(3) السير (10/455).(1/244)
ما ذكره الإمام الذهبي من أمنية هؤلاء المبتدعة، معناه رفض السنة من أَلِفِها إلى يائها، والعيش على الهوى والتخبط حتى تصير حالة أرباب هذا التصور الفاسد شرا من حالة عباد الأصنام في الجاهلية. نسأل الله العافية.
- قال في ترجمة علي بن عبيد الله: وله تصانيف فيها أشياء من بحوث المعتزلة بدعوه بها، لكونه نصرها وما هذا من خصائصه، بل قل من أمعن النظر في علم الكلام إلا وأداه اجتهاده إلى القول بما يخالف محض السنة، ولهذا ذم علماء السلف النظر في علم الأوائل، فإن علم الكلام مولد من علم الحكماء الدهرية، فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام، وبين علم الفلاسفة بذكائه، لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا ولم يتحذلق ولا عمق، فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا، فقد سلك طريق السلف الصالح، وسلم له دينه ويقينه. نسأل الله السلامة في الدين. (1)
" التعليق:
لله درك يا محدث الشام. ويا مؤرخ الإسلام، كم لك من الحسنات، وكم لك من الحكم، وهذه منها. غير أن الذين بعدوا عن السنة في هذا الزمان لا يعترفون إلا بمن تضلع في علم الكلام، وأما علم الأنبياء فيرونه علم الجهال لأن الأنبياء في نظرهم ما بعثوا إلا للجهال، نسأل الله العافية.
- قال في السير معلقا على قول أبي قربة: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال.
قلت أنا: وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد، وهات (العقل)؟ فاعلم أنه أبو جهل. وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر أو قد حل فيه فإن جبنت منه فاهرب، وإلا فاصرعه وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه. (2)
" التعليق:
__________
(1) الميزان (3/144).
(2) السير (4/472).(1/245)
وهل بعد هذا الوصف من وصف؟ ولو نطق أحدنا في هذا الزمان بهذه العبارات، لعد من كبار المتنطعين والمتشددين، فانظر -هداك الله- إلى هذه العبارات التي تستحق أن تكتب بماء الذهب، وهو فيها رخيص، والحمد لله رب العالمين.
- جاء في السير قال: قلت: الجهمية يقولون: إن الباري تعالى في كل مكان، والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله تعالى: وَهُوَ { مَعَكُمْ أَيْنَ مَا } كُنْتُمْ (1) ، يعني بالعلم. ويقولون: إنه على عرشه استوى كما نطق به القرآن والسنة.
وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف، إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة لا مثل لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة لا مثل لها. (2)
- جاء في السير: قال -عند قول أبي يوسف: العلم بالخصومات والكلام جهل- مثاله شبه وإشكالات من نتائج أفكار أهل الكلام، تورد في الجدال على آيات الصفات وأحاديثها، فيكفر هذا هذا، وينشأ الاعتزال والتجهم والتجسيم وكل بلاء. نسأل الله العافية. (3)
- وفيها أيضا: قال -بعد كلام نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر-: قلت: هذا الكلام حق نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فقه، وإنما بعد الإيمان بها هنا مقامان مذمومان:
تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، فما أولها السلف ولا حرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها وأمروها كما جاءت.
__________
(1) الحديد الآية (4).
(2) السير (8/402).
(3) السير (8/539).(1/246)
المقام الثاني: المبالغة في إثباتها وتصورها من جنس صفات البشر وتشكلها في الذهن، فهذا جهل وضلال. وإنما الصفة تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف عز وجل لم نره، ولا أخبرنا أحد أنه عاينه مع قوله لنا في تنزيله لَيْسَ { كَمِثْلِهِ } شَيْءٌ (1) . فكيف بقي لأذهاننا مجال في إثبات كيفية الباري تعالى الله عن ذلك، فكذلك صفاته المقدسة نقر بها ونعتقد أنها حق ولا نمثلها أصلا ولا نتشكلها. (2)
- جاء في السير: قال رحمه الله: ومسألة النزول، فالإيمان به واجب، وترك الخوض في لوازمه أولى، وهو سبيل السلف، فما قال هذا: نزوله بذاته، إلا إرغاما لمن تأوله وقال: نزوله إلى السماء بالعلم فقط. نعوذ بالله من المراء في الدين.
وكذا قوله: وَجَاءَ { } رَبُّكَ (3) ونحوه فنقول: جاء وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارات مبتدعة والله أعلم. (4)
" التعليق:
ينبغي أن يفهم مراد الشيخ، فالمقصود عنده إثبات الصفة كما ورد بذلك النص دون زيادة، فالله تعالى ينزل كما يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء بدون تحديد الكيفية.
- جاء في السير: قال أبو عبيد: -وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا وأين كان ربنا- فقال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره.
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) السير (10/610).
(3) الفجر الآية (22).
(4) السير (20/331).(1/247)
قال الذهبي: قلت: قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم، وما أبقوا ممكنا، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلا، وهي أهم الدين، فلو كان تأويلها سائغا أو حتما، لبادروا إليه، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات لله تعالى، استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين، فالكتاب والسنة نطق بها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ وما تعرض لتأويل، مع كون الباري قال: لِتُبَيِّنَ { لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ } إِلَيْهِمْ (1) فعلينا الإيمان والتسليم للنصوص، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (2)
- وفيها قال: -بعد كلام أبي العباس السراج في من أنكر الصفات أنه زنديق كافر- قلت: لا يكفر إلا إن علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله، فإن جحد بعد ذلك فهو معاند نسأل الله الهدى، وإن اعترف أن هذا حق ولكن لا أخوض في معانيه فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه فهو طريقة معروفة. (3)
- قال رحمه الله: هذه الصفات من الاستواء والإتيان والنزول، قد صحت بها النصوص، ونقلها الخلف عن السلف، ولم يتعرضوا لها برد ولا تأويل، بل أنكروا على من تأولها مع إصفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين، وأن الله ليس كمثله شيء، ولا تنبغي المناظرة، ولا التنازع فيها، فإن في ذلك محاولة للرد على الله ورسوله، أو حوما على التكييف أو التعطيل. (4)
__________
(1) النحل الآية (44).
(2) السير (10/505-506).
(3) السير (14/396-397).
(4) السير (11/376).(1/248)
- وقال: قلت: بل قولهم إنه عز وجل في السماء وفي الأرض لا امتياز للسماء، وقول عموم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - : إن الله في السماء يطلقون ذلك وفق ما جاءت النصوص بإطلاقه، ولا يخوضون في تأويلات المتكلمين، مع جزم الكل بأنه تعالى: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ } شَيْءٌ (1) .اهـ (2)
- جاء في السير: ذكر كلاما بعد حديث رأيت ربي (3) ثم قال: والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فإثبات ذلك أو نفيه صعب والوقوف سبيل السلامة والله أعلم. وإذا ثبت شيء قلنا به، ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا ولا من نفاها بل نقول: الله ورسوله أعلم. بلى، نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبت بنصوص متوافرة. (4)
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) السير (11/70-71).
(3) تقدم انظر مواقف البربهاري سنة (329هـ).
(4) السير (10/114).(1/249)
- قال أبو جعفر العقيلي في ترجمة عبدالله بن ذكوان: حدثنا مقدام بن داود، حدثنا الحارث بن مسكين، وابن أبي الغمر، قالا: حدثنا ابن القاسم قال: سألت مالكا عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: "إن الله خلق آدم على صورته" (1) فأنكر ذلك إنكارا شديدا، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل: إن ناسا من أهل العلم يتحدثون به قال: من هم؟ قيل: ابن عجلان، عن أبي الزناد، فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالما، ولم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم. قلت: الخبر لم ينفرد به ابن عجلان، بل ولا أبو الزناد، فقد رواه شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد، ورواه قتادة عن أبي أيوب المراغي عن أبي هريرة، ورواه ابن لهيعة عن الأعرج وأبي يونس عن أبي هريرة، ورواه معمر عن همام عن أبي هريرة، وصح أيضا من حديث ابن عمر. وقد قال إسحاق بن راهويه عالم خراسان: صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فهذا الصحيح مخرج في كتابي البخاري ومسلم. فنؤمن به ونفوض ونسلم، ولا نخوض فيما لا يعنينا، مع علمنا بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (2)
__________
(1) تقدم تخريجه بألفاظ مختلفة. انظر مواقف البربهاري سنة (329هـ).
(2) السير (5/449-450).(1/250)
- جاء في السير: عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أردت أخا لي في قرية كذا وكذا. قال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله. قال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه" (1) . أخرجه مسلم عن عبدالأعلى، فوافقناه بعلو، وهو من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت، وشاهده في القرآن وفي الحديث كثير، قال الله تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ } اللَّهُ (2) وقال: وَاتَّخَذَ { اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } (125) (3) .اهـ (4)
- قال في واصل بن عطاء: واصل بن عطاء البصري، الغزال المتكلم، البليغ المتشدق، الذي كان يلثغ بالراء. فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه. سمع من الحسن البصري وغيره. وقال أبو الفتح الأزدي: رجل سوء كافر. قلت: كان من أجلاد المعتزلة، ولد سنة ثمانين بالمدينة، ومما قيل فيه:
ويجعل البر قمحا في تصرفه ولم يطق مطرا في القول يجعله ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر
وله من التصانيف: كتاب أصناف المرجئة، وكتاب التوبة، وكتاب معاني القرآن. وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل، ويقول: إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم. مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. (5)
__________
(1) أحمد (2/292) ومسلم (4/1988/2567).
(2) آل عمران الآية (31).
(3) النساء الآية (125).
(4) السير (7/454-455).
(5) الميزان (4/329).(1/251)
- وقال في ضرار بن عمرو: نعم، ومن رؤوس المعتزلة ضرار بن عمرو، شيخ الضرارية. فمن نحلته قال: يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارا لجواز ذلك على كل فرد منهم. ويقول: الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة، وإن النار لا حر فيها، ولا في الثلج برد، ولا في العسل حلاوة، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس. (1)
- وقال في أبي الهذيل المعتزلي: ورأس المعتزلة أبو الهذيل، محمد بن الهذيل البصري العلاف، صاحب التصانيف، الذي زعم أن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي بحيث إن حركات أهل الجنة تسكن، حتى لا ينطقون بكلمة، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة، وقال: هما الله، وأن لِمَا يقدر الله عليه نهاية وآخرا، وأن للقدرة نهاية لو خرجت إلى الفعل، فإن خرجت لم تقدر على خلق ذرة أصلا. وهذا كفر وإلحاد. (2)
- وقال في أبي المعتمر معمر بن عمرو: وقيل: ابن عباد، البصري السلمي مولاهم العطار، المعتزلي. وكان يقول: في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها، ولا لها عند الله عدد ولا مقدار. فهذا ضلال، يرده قوله تعالى: وَأَحْصَى { كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } (28) (3) وقال: وَكُلُّ { شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } (8) (4) ولذلك قامت عليه المعتزلة بالبصرة، ففر إلى بغداد، واختفى عند إبراهيم ابن السندي. وكان يزعم أن الله لم يخلق لونا، ولا طولا، ولا عرضا، ولا عمقا، ولا رائحة، ولا حسنا، ولا قبحا، ولا سمعا ولا بصرا، بل ذلك فعل الأجسام بطباعها، فعورض بقوله تعالى: خَلَقَ { الْمَوْتَ } وَالْحَيَاةَ (5) فقال: المراد خلق الإماتة والإحياء، وقال: النفس ليست جسما ولا عرضا، ولا تلاصق شيئا ولا تباينه، ولا تسكن. وكان بينه وبين النظام مناظرات ومنازعات، وله تصانيف في الكلام. وهلك فيما ورخه محمد بن إسحاق النديم سنة خمس عشرة ومئتين. (6)
__________
(1) السير (10/544-546).
(2) السير (10/542-543).
(3) الجن الآية (28).
(4) الرعد الآية (8).
(5) الملك الآية (2).
(6) السير (10/546).(1/252)
- وقال في الجهم بن صفوان: أبو محرز الراسبي، مولاهم، السمرقندي، الكاتب المتكلم، أس الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال، كتب للأمير حارث بن سريج التميمي. وكان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن. ويقول: إن الله في الأمكنة كلها. قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم. وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب، وإن تلفظ بالكفر. قيل: إن سلم بن أحوز قتل الجهم، لإنكاره أن الله كلم موسى. (1)
- وقال في إبراهيم بن إسماعيل بن علية: ولابن علية ابن آخر، جهمي شيطان، اسمه إبراهيم بن إسماعيل، كان يقول بخلق القرآن، ويناظر. (2)
- وقال في بشر المريسي: ونظر في الكلام، فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالاته من أتباعه. (3)
- وقال في هشام بن عمرو: أبو محمد الفوطي، المعتزلي، الكوفي، مولى بني شيبان. صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال. أخذ عنه عباد بن سلمان وغيره. ونهى عن قول: حَسْبُنَا { اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (173) وقال: لا يعذب الله كافرا بالنار، ولا يحيي أرضا بمطر، ولا يهدي ولا يضل، ويقول: يعذبون في النار لا بها، ويحيي الأرض عند المطر لا به، وأن معنى: نعم الوكيل، أي المتوكل عليه. قال المبرد: قال رجل لهشام الفوطي: كم تعد من السنين؟ قال: من واحد إلى أكثر من ألف. قال: لم أرد هذا، كم لك من السن؟ قال: اثنان وثلاثون سنا. قال: كم لك من السنين؟ قال: ما هي لي، كلها لله. قال: فما سنك؟ قال: عظم. قال: فابن كم أنت؟ قال: ابن أم وأب. قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني، قال: ويحك، فكيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك.
__________
(1) السير (6/26-27).
(2) السير (9/113).
(3) السير (10/200).(1/253)
قلت: هذا غاية ما عند هؤلاء المتقعرين من العلم، عبارات وشقاشق لا يعبأ الله بها، يحرفون بها الكلم عن مواضعه قديما وحديثا، فنعوذ بالله من الكلام وأهله. (1)
- وقال في أبي موسى عيسى بن صبيح: الملقب بالمرداز، البصري، من كبار المعتزلة أرباب التصانيف الغزيرة. أخذ عن بشر بن المعتمر، وتزهد وتعبد، وتفرد بمسائل ممقوتة، وزعم أن الرب يقدر على الظلم والكذب، ولكن لا يفعله. وقال بكفر من قال: القرآن قديم، وبكفر من قال: أفعالنا مخلوقة، وقال برؤية الله، وكفر من أنكرها، حتى إن رجلا قال له: فالجنة التي عرضها السماوات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاث؟ فسكت. ذكره قاضي حماة شهاب الدين إبراهيم في كتاب 'الفرق'، وأنه مات سنة ست وعشرين ومئتين. (2)
- وقال في برغوث: وهو رأس البدعة، أبو عبدالله محمد بن عيسى الجهمي. أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة. صنف كتاب 'الاستطاعة' وكتاب 'المقالات' وكتاب 'الاجتهاد' وكتاب 'الرد على جعفر بن حرب' وكتاب 'المضاهاة'. (3)
- وقال في أبي سعد السمان: نقل الإمام الذهبي عن ابن عساكر في ترجمة السمان أنه قال: وكان يذهب مذهب الحسن البصري، ومذهب الشيخ أبي هاشم، ودخل الشام والحجاز والمغرب، وقرأ على ثلاثة آلاف شيخ، وقصد أصبهان في آخر عمره لطلب الحديث.
قال: وكان يقال في مدحه: إنه ما شاهد مثل نفسه، كان تاريخ الزمان وشيخ الإسلام.
قلت -أي الذهبي-: وذكر أشياء في وصفه، وأنى يوصف من قد اعتزل وابتدع، وبالكتاب والسنة فقل ما انتفع. فهذا عبرة، والتوفيق فمن الله وحده.
هتف الذكاء وقال لست بنافع إلا بتوفيق من الوهاب
__________
(1) السير (10/547).
(2) السير (10/548).
(3) السير (10/554).(1/254)
وأما قول القائل: كان يذهب مذهب الحسن، فمردود، قد كانت هفوة في ذلك من الحسن، وثبت أنه رجع عنها ولله الحمد. وأما أبو هاشم الجبائي، وأبوه أبو علي فمن رؤوس المعتزلة، ومن الجهلة بآثار النبوة، برعوا في الفلسفة والكلام، وما شموا رائحة الإسلام، ولو تغرغر أبو سعد بحلاوة الإسلام، لانتفع بالحديث. فنسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا وتوحيدنا. (1)
- وقال في ابن الوليد: وكان ذا زهد وورع وقناعة. شاخ فكان ينقض من خشب بيته ما يمونه، وكان يلبس القطني الخام، وكان داعية إلى الاعتزال، وبه انحرف ابن عقيل. مات في ذي الحجة، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة، وكان يدري المنطق جيدا. وما تنفع الآداب والبحث والذكاء، وصاحبها هاو بها في جهنم. (2)
- وقال: ومن رؤوس المعتزلة البغداديين العلامة أبو موسى الفراء، ومات سنة ست وعشرين ومئتين، أرخه المسعودي.
ومنهم ابن كيسان الأصم، قديم تخرج به إبراهيم ابن علية في الكلام. ومنهم جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وأبو غفار، وحسين النجار، والرقاش، وأبو سعيد بن كلاب، وقاسم بن الخليل الدمشقي صاحب التفسير، وثمامة بن أشرس النميري، وأشباههم ممن كان ذكاؤهم وبالا عليهم، ثم بينهم من الاختلاف والخباط أمر لا يخفى على أهل التقوى، فلا عقولهم اجتمعت، ولا اعتنوا بالآثار النبوية، كما اعتنى أئمة الهدى فَأَيُّ { الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ } (3) .اهـ (4)
- وقال في أبي القاسم عبدالواحد بن برهان العكبري: وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. (5)
__________
(1) السير (18/58-59).
(2) السير (18/490).
(3) الأنعام الآية (81).
(4) السير (10/555-556).
(5) السير (18/125).(1/255)
قال الذهبي: حجته في خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله: لَابِثِينَ { فِيهَا أَحْقَابًا } (23) (1) ولا ينفعه ذلك لعموم قوله: وَمَا { هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } (167) (2) ولقوله: خَالِدِينَ { فِيهَا } أَبَدًا (3) إلى غير ذلك، وفي المسألة بحث عندي أفردتها في جزء. (4)
- وقال في محمد بن كرام: محمد بن كرام السجستاني المبتدع، شيخ الكرامية، كان زاهدا عابدا ربانيا، بعيد الصيت، كثير الأصحاب، ولكنه يروي الواهيات كما قال ابن حبان. خذل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها، ثم جالس الجويباري، وابن تميم، ولعلهما قد وضعا مئة ألف حديث، وأخذ التقشف عن أحمد بن حرب. قلت: كان يقول: الإيمان هو نطق اللسان بالتوحيد، مجرد عن عقد قلب، وعمل جوارح. وقال خلق من الأتباع له: بأن الباري جسم لا كالأجسام، وأن النبي تجوز منه الكبائر سوى الكذب. وقد سجن ابن كرام، ثم نفي. وكان ناشفا عابدا، قليل العلم. قال الحاكم: مكث في سجن نيسابور ثماني سنين، ومات بأرض بيت المقدس سنة خمس وخمسين ومئتين. وكانت الكرامية كثيرين بخراسان. ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا. نعوذ بالله من الأهواء. (5)
- عن أحمد الدورقي: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في هؤلاء الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فرأيته استوى واجتمع، وقال: هذا شر من قول الجهمية. من زعم هذا، فقد زعم أن جبريل تكلم به بمخلوق، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق.
__________
(1) النبأ الآية (23).
(2) البقرة الآية (167).
(3) النساء الآية (169).
(4) السير (18/126).
(5) السير (11/523-524).(1/256)
قال الإمام الذهبي رحمه الله: فقد كان هذا الإمام - أي أحمد بن محمد ابن حنبل- لا يرى الخوض في هذا البحث خوفا من أن يتذرع به إلى القول بخلق القرآن، والكف عن هذا أولى. آمنا بالله تعالى، وبملائكته، وبكتبه، ورسله، وأقداره، والبعث، والعرض على الله يوم الدين. ولو بسط هذا السطر، وحرر وقرر بأدلته لجاء في خمس مجلدات، بل ذلك موجود مشروح لمن رامه، والقرآن فيه شفاء ورحمة للمؤمنين، ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب، القارئ غير الملفوظ، والقراءة غير الشيء المقروء، والتلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلو، وصوت القارئ من كسبه فهو يحدث التلفظ والصوت والحركة والنطق، وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يحدث كلمات القرآن، ولا ترتيبه، ولا تأليفه، ولا معانيه. فلقد أحسن الإمام أبو عبدالله حيث منع من الخوض في المسألة من الطرفين إذ كل واحد من إطلاق الخلقية وعدمها على اللفظ موهم، ولم يأت به كتاب ولا سنة، بل الذي لا نرتاب فيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. والله أعلم. (1)
قال الحافظ أبو بكر الأعين: مشايخ خرسان ثلاثة: قتيبة وعلي بن حجر ومحمد بن مهران الرازي. ورجالها أربعة: عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري -قبل أن يظهر منه ما ظهر- ومحمد ابن يحيى وأبو رزعة.
__________
(1) السير (11/290).(1/257)
قلت: هذه دقة من الأعين، والذي ظهر من محمد -يعني البخاري- أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن، وتسمى مسألة أفعال التالين، فجمهور الأئمة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. وبهذا ندين الله تعالى، وبدعوا من خالف ذلك، وذهبت الجهمية والمعتزلة، والمأمون، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي، وخلق من المتكلمين والرافضة إلى أن القرآن كلام الله المنزل مخلوق. وقالوا: الله خالق كل شيء، والقرآن شيء. وقالوا: تعالى الله أن يوصف بأنه متكلم. وجرت محنة القرآن، وعظم البلاء، وضرب أحمد بن حنبل بالسياط ليقول ذلك، نسأل الله السلامة في الدين. ثم نشأت طائفة، فقالوا: كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، يعنون: تلفظهم وأصواتهم به، وكتابتهم له ونحو ذلك، وهو حسين الكرابيسي، ومن تبعه، فأنكر ذلك الإمام أحمد، وأئمة الحديث، وبالغ الإمام أحمد في الحط عليهم، وثبت عنه أن قال: اللفظية جهمية. وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع، وسد باب الخوض في هذا. وقال أيضا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو جهمي. وقالت طائفة: القرآن محدث كداود الظاهري ومن تبعه، فبدعهم الإمام أحمد، وأنكر ذلك، وثبت على الجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه من علم الله، وكَفَّر من قال بخلقه وبدَّع من قال بحدوثه، وبدع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولم يأت عنه ولا عن السلف القول: بأن القرآن قديم. ما تفوه أحد منهم بهذا. فقولنا: قديم: من العبارات المحدثة المبتدعة. كما أن قولنا: هو محدث بدعة. وأما البخاري فكان من كبار الأئمة الأذكياء، فقال: ما قلت: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وإنما حركاتهم، وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلو الملفوظ المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق.(1/258)
وصنف في ذلك كتاب 'أفعال العباد' مجلد، فأنكر عليه طائفة، وما فهموا مرامه كالذهلي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي بكر الأعين، وغيرهم. ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلابية، والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنما هذا المنزل حكايته وعبارته ودال عليه. وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب، ولا التعدد. بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة، واتسع المقال في ذلك، ولزم منه أمور وألوان، تركها -والله- من حسن الإيمان وبالله نتأيد. (1)
-وقال في السير: قال عبدالله بن أحمد: فترحم عليه أبي -أي أبو بكر الأعين-، وقال: إني لأغبطه، مات وما يعرف إلا الحديث، لم يكن صاحب كلام.
قلت: هكذا كان أئمة السلف، لا يرون الدخول في الكلام، ولا الجدال. بل يستفرغون وسعهم في الكتاب والسنة، والتفقه فيهما، ويتبعون ولا يتنطعون. (2)
- أخبرنا الإمام أبو الحسين علي بن محمد، أخبرنا جعفر بن علي، أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ، أخبرنا ثابت بن بندار، أخبرنا أبو بكر البرقاني، قرأنا على أبي العباس بن حمدان، حدثكم محمد بن نعيم قال: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، وحيث تصرف، ولا نرى الكلام فيما أحدثوا فتكلموا في الأصوات والأقلام والحبر والورق، وما أحدثوا من المتلي والمُتلى والمقرئ، فكل هذا عندنا بدعة، ومن زعم أن القرآن محدث، فهو عندنا جهمي لا يشك فيه ولا يمترى.
قال الذهبي: كذا قال: المتلي والمتلى، ومراده المتلي والتلاوة، والمقرئ والقراءة. ومذهب السلف وأئمة الدين أن القرآن العظيم المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق. ومذهب المعتزلة أنه مخلوق، وأنه كلام الله تعالى على حد قولهم: عيسى كلمة الله، وناقة الله، أي إضافة ملك.
ومذهب داود وطائفة أنه كلام الله، وأنه محدث مع قولهم بأنه غير مخلوق.
__________
(1) السير (11/510-511).
(2) السير (12/120).(1/259)
وقال آخرون من الحنابلة وغيرهم: هو كلام الله قديم غير محدث، ولا مخلوق. وقالوا: إذا لم يكن مخلوقا فهو قديم. ونوزعوا في هذا المعنى وفي إطلاقه.
وقال آخرون: هو كلام الله مجازا، وهو دال على القرآن القديم القائم بالنفس.
وهنا بحوث وجدال لا نخوض فيها أصلا. والقول هو ما بدأنا به، وعليه نص أزيد من ثلاث مئة إمام. وعليه امتحن الإمام أحمد، وضرب بالسياط رحمه الله. (1)
- قال الذهبي -عقب قول ابن منده في مسألة الإيمان: صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان بأن الإيمان مخلوق، وأن الإقرار والشهادة وقراءة القرآن بلفظه مخلوق، ثم قال: وهجره على ذلك علماء وقته وخالفه أئمة خراسان والعراق-:
قلت: الخوض في ذلك لا يجوز، وكذلك لا يجوز أن يقال: الإيمان، والإقرار، والقراءة، والتلفظ بالقرآن غير مخلوق، فإن الله خلق العباد وأعمالهم، والإيمان: فقول وعمل، والقراءة والتلفظ: من كسب القارئ، والمقروء الملفوظ: هو كلام الله ووحيه وتنزيله، وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان، وهي قول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" داخلة في القرآن، وما كان من القرآن فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا، وأفعالنا مخلوقة، ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له، قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة. (2)
__________
(1) السير (12/289-290).
(2) السير (14/39-40).(1/260)
- وقال: قد صار الظاهر اليوم ظاهرين: أحدهما حق والثاني باطل، فالحق أن يقول: إنه سميع بصير، مريد متكلم، حي عليم، كل شيء هالك إلا وجهه، خلق آدم بيده، وكلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، وأمثال ذلك، فنمره على ما جاء، ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى، ولا نقول: له تأويل يخالف ذلك. والظاهر الآخر وهو الباطل، والضلال: أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد، وتمثل البارئ بخلقه، تعالى الله عن ذلك، بل صفاته كذاته، فلا عدل له، ولا ضد له، ولا نظير له، ولا مثل له، ولا شبيه له، وليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، وهذا أمر يستوي فيه الفقيه والعامي، والله أعلم. (1)
- قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان: وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمس مئة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبدالغني وإصراره على ما ظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على الفتيا بتكفيره، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب.
__________
(1) السير (19/449).(1/261)
قلت -أي الذهبي-: قد بَلَوت على أبي المظفر المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد، وكان يترفض، رأيت له مصنفا في ذلك فيه دواه، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حيا، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر، والعلامة شمس الدين البخاري، وسائر الحنابلة، وعدة من أهل الأثر، وكان بالبلد أيضا خلق من العلماء لا يكفرونه، نعم، ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه، ولو كف عن تلك العبارات، وقال بما وردت به النصوص لأجاد ولسلم، فهو الأولى، فما في توسيع العبارات الموهمة خير، وأسوأ شيء قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين، وأنه على الحق، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء، رحم الله الجميع وغفر لهم، فما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم. وبكل حال فالحافظ عبدالغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق، ومحاسنه كثيرة، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والافتراء، ونبرأ من كل مجسم ومعطل. (1)
__________
(1) السير (21/464).(1/262)
- وقال رحمه الله: وقد سئل أبو القاسم التيمي رحمه الله: هل يجوز أن يقال: لله حد أو لا؟ وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها، لكني أشير إلى بعض ما بلغني، تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحيط علمه تعالى بنفسه فهو ضال، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضا ضال. قلت -أي الذهبي-: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح، فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفا من أن يدخل القلب شيء من البدعة، اللهم احفظ علينا إيماننا. (1)
- وقال -يعني الغزالي-: ميزان الأعمال معيار يعبر عنه بالميزان، وإن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الجسم الثقيل، كميزان الشمس، وكالمسطرة التي هي ميزان السطور، وكالعروض ميزان الشعر.
__________
(1) السير (20/85-86).(1/263)
قلت: بل ميزان الأعمال له كفتان، كما جاء في الصحيح (1) ، وهذا المعتقد -يشير إلى ما نقله الغزالي- غالبه صحيح، وفيه مما لم أفهمه، وبعضه فيه نزاع بين أهل المذاهب، ويكفي المسلم في الإيمان أن يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، وأن الله ليس كمثله شيء أصلا، وأن ما ورد من صفاته المقدسة حق، يمر كما جاء، وأن القرآن كلام الله وتنزيله، وأنه غير مخلوق، إلى أمثال ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ولا عبرة بمن شذ منهم، فإن اختلفت الأمة في شيء من مشكل أصول دينهم، لزمنا فيه الصمت، وفوضناه إلى الله، وقلنا: الله ورسوله أعلم، ووسعنا فيه السكوت. فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول. (2)
- وهو القائل في كتاب السنة -أي القصاب-: كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصف بها نبيه فهي صفة حقيقة لا مجازا. قلت: نعم، لو كانت صفاته مجازا لتحتم تأويلها ولقيل: معنى البصر كذا، ومعنى السمع كذا، ومعنى الحياة كذا، ولفسرت بغير السابق إلى الأفهام، فلما كان مذهب السلف إمرارها بلا تأويل، علم أنها غير محمولة على المجاز وأنها حق بين. (3)
- وقد امتحن صاحب الترجمة -يعني رُوَيم- في نوبة غلام خليل، وقال عنه: أنا سمعته يقول: ليس بيني وبين الله حجاب. ففر إلى الشام واختفى زمانا.
__________
(1) أحمد (2/213؛221-222) والترمذي (5/25/2639) وقال: "هذا حديث حسن غريب" وابن ماجه (2/1437/4300) وابن حبان (1/461-462/225 الإحسان) والحاكم (1/6؛529) وقال في الموطن الأول: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وقال في الموطن الثاني: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. كلهم من طرق عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فذكر حديث البطاقة.
(2) السير (19/345-346).
(3) التذكرة (3/939).(1/264)
وأما الحجاب: فقول يسوغ باعتبار أن الله لا يحجبه شيء قط عن رؤية خلقه، وأما نحن فمحجوبون عنه في الدنيا، وأما الكفار فمحجوبون عنه في الدارين. أما إطلاق الحجب، فقد صح "أن حجابه النور" (1) فنؤمن بذلك، ولا نجادل، بل نقف. (2)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: عبدالرحمن بن ملجم المرادي، ذاك المعثر الخارجي، ليس بأهل أن يروى عنه؛ وما أظن له رواية، وكان عابدا قانتا لله، لكنه ختم بشر،فقتل أمير المؤمنين عليا متقربا إلى الله بدمه بزعمه، فقطعت أربعته ولسانه، وسملت عيناه، ثم أحرق. نسأل الله العفو والعافية. (3)
- وجاء في ميزان الاعتدال عن عبدالله بن عمرو، قال: يأتي على الناس زمان يجتمعون في مساجدهم ليس فيهم مؤمن.
قال الذهبي رحمه: ومعناه أي مؤمن كامل الإيمان، فأراد: ليس فيهم مؤمن سليم من النفاق، بحيث أنه غير مرتكب صفات النفاق من إدمان الكذب والخيانة، وخلف الوعد والفجور والغدر، وغير ذلك. ونحن اليوم نرى الأمة من الناس من أعراب الدولة يجتمعون في المسجد وما فيهم مؤمن، بل ونحن منهم. نسأل الله توبة وإنابة إليه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: قَالَتِ { الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا } أَسْلَمْنَا (4) . وهذا باب واسع ينبغي للشخص أن يترفق فيه بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يسلبهم الإيمان والإسلام، كفعل الخوارج والمعتزلة المكفرة أهل القبلة بالكبائر، ولا ننعتهم بالإيمان الكامل كما فعلت المرجئة، فالمسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده. (5)
موقفه من المرجئة:
- جاء في السير: قال هارون الحمال: "ما رأيت أخشع لله من وكيع، وكان عبدالمجيد أخشع منه".
__________
(1) تقدم تخريجه من حديث أبي موسى. انظر مواقف محمد بن خفيف سنة (371هـ).
(2) السير (14/235).
(3) الميزان (2/592).
(4) الحجرات الآية (14).
(5) الميزان (3/39).(1/265)
قال الذهبي عقبه: خشوع وكيع مع إمامته في السنة جعله مقدما، بخلاف خشوع هذا المرجئ -عفا الله عنه- أعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة، وقد كان على الإرجاء عدد كثير من علماء الأمة، فهلا عد مذهبا، وهو قولهم: أنا مؤمن حقا عند الله الساعة مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان، وهذه قولة خفيفة، وإنما الصعب من قول غلاة المرجئة: إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة، وإن تارك الصلاة والزكاة وشارب الخمر وقاتل الأنفس والزاني وجميع هؤلاء يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبدا، فردوا أحاديث الشفاعة المتواترة وجسروا كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات، نعوذ بالله من الخذلان. (1)
__________
(1) السير (9/435-436).(1/266)
- وفيها: بعد ذكر حديث "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ... " (1) قال الذهبي: وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص، فالكامل الإيمان من اتصف بفعل الخيرات، وترك المنكرات، وله قرب ماحية لذنوبه، كما قال تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ } قُلُوبُهُمْ إلى قوله: أُولَئِكَ { هُمُ الْمُؤْمِنُونَ } حَقًّا (2) ، وقال: قَدْ { أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } (1) إلى قوله: أُولَئِكَ { هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ } الْفِرْدَوْسَ (3) ودون هؤلاء خلق من المؤمنين، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ودونهم عصاة المسلمين، ففيهم إيمان ينجون به من خلود عذاب الله تعالى، وبالشفاعة. ألا تسمع إلى الحديث المتواتر: "أنه يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من إيمان" (4) .
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/357) والبخاري (1/120/33) ومسلم (1/78/59) والترمذي (5/20/2631) والنسائي (8/491/5036).
(2) الأنفال الآيات (2-4).
(3) المؤمنون الآيات (1-11).
(4) أحمد (3/94) والبخاري (13/517-519/7439) ومسلم (1/167-171/183) والترمذي (4/615/2598) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (8/486-487/5025) وابن ماجه (1/23/60) من حديث أبي سعيد الخدري.(1/267)
وكذلك شعب النفاق من الكذب، والخيانة، والفجور، والغدر، والرياء، وطلب العلم ليقال، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى. فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه غل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حرج من قضاياه، أو يصوم رمضان غير محتسب، أو يجوز أن دين النصاري أو اليهود دين مليح ويميل إليهم؛ فهذا لا ترتب في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، وصفاته الممقوتة عديدة في الكتاب والسنة من قيامه إلى الصلاة كسلان، وأدائه الزكاة وهو كاره، وإن عامل الناس فبالمكر والخديعة، قد اتخذ إسلامه جنة، نعوذ بالله من النفاق، فقد خافه سادة الصحابة على نفوسهم.
فإن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال، فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها، أما من كان في قلبه شك من الإيمان بالله ورسوله، فهذا ليس بمسلم، وهو من أصحاب النار، كما أن من في قلبه جزم بالإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه وبالمعاد، وإن اقتحم الكبائر فإنه ليس بكافر، قال تعالى: هُوَ { الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ } مُؤْمِنٌ (1) .
وهذه مسألة كبيرة جليلة قد صنف فيها العلماء كتبا، وجمع فيها الإمام أبو العباس شيخنا مجلدا حافلا قد اختصرته. نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا حتى نوافيه به. (2)
- قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا، قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.
قال الذهبي: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية. (3)
موقفه من القدرية:
- جاء في السير: وقد كان المنصور يعظم ابن عبيد ويقول:
__________
(1) التغابن الآية (2).
(2) السير (11/363-364).
(3) السير (5/233).(1/268)
كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
قال الذهبي: اغتر بزهده وإخلاصه، وأغفل بدعته. (1)
- وفيها قال: وكان عبدالواحد -بن زيد البصري- صاحب فنون، داخلا في معاني المحبة والخصوص، قد بقي عليه شيء من رؤية الاكتساب، وفي ذلك شيء من أصول أهل القدر، فإن عندهم: لا نجاة إلا بعمل. فأما أهل السنة فيحضون على الاجتهاد في العمل، وليس به النجاة وحده دون رحمة الله. وكان عبدالواحد لا يطلق: إن الله يضل العباد، تنزيها له، وهذه بدعة. (2)
- وفيها: عن أبي عوانة قال: دخلت على همام بن يحيى وهو مريض، أعوده، فقال لي: يا أبا عوانة، ادع الله أن لا يميتني حتى يبلغ ولدي الصغار. فقلت: إن الأجل قد فرغ منه، فقال لي: أنت بعد في ضلالك.
قال الذهبي: بئس المقال هذا، بل كل شيء بقدر سابق، ولكن وإن كان الأجل قد فرغ منه، فإن الدعاء بطول البقاء قد صح. دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أنس بطول العمر (3) ،
__________
(1) السير (6/105).
(2) السير (7/180).
(3) أخرجه بلفظ: "وأطل عمره": البخاري في الأدب المفرد (653) (انظر صحيح الأدب (243-244)) وابن سعد في الطبقات (7/19) والفسوي في المعرفة (2/532).
وأخرجه بدونها: أحمد (3/108) والبخاري (11/174/6344) ومسلم (1/457-458/660) والترمذي (5/639-640/3827).(1/269)
والله يمحو ما يشاء ويثبت. فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطا بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها من جور وعسف، و"لا يرد القضاء إلا الدعاء" (1) والكتاب الأول، فلا يتغير. (2)
- وفيها: قال في عبدالوارث بن سعيد: وكان عالما مجودا، من فصحاء أهل زمانه، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري مبتدع. (3)
- وقال رحمه الله في النظام: شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف،أبو إسحاق إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عباد الضبعي البصري المتكلم. تكلم في القدر، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ. وكان يقول: إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، ولو كان قادرا، لكنا لا نأمن وقع ذلك، وإن الناس يقدرون على الظلم، وصرح بأن الله لا يقدر على إخراج أحد من جهنم، وأنه ليس يقدر على أصلح مما خلق.
قال الذهبي: القرآن والعقل الصحيح يكذبان هؤلاء، ويزجرانهم عن القول بلا علم، ولم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم، وقد كفره جماعة. وقال بعضهم: كان النظام على دين البراهمة المنكرين للنبوة والبعث، ويخفي ذلك. (4)
أبو فارس عبدالعزيز بن محمد (5) (750 هـ)
__________
(1) أخرج هذا اللفظ من حديث سلمان: الترمذي (4/390/2139) والشهاب القضاعي في مسنده (2/36-37/832 و833) وهو حديث حسن للشاهد من حديث ثوبان وهو عند: أحمد (5/277،280،282) وابن ماجه (1/35/90) والحاكم (1/493). قال البوصيري في الزوائد (1/54): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن". وفي حديث ثوبان زيادة "وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب..." وهي ضعيفة (انظر الصحيحة (1/154).
(2) السير (8/219-220).
(3) السير (8/301).
(4) السير (10/541-542).
(5) شجرة النور الزكية (1/221) والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/284).(1/270)
العالم الصالح والإمام الفاضل أبو فارس عبدالعزيز بن محمد القروي الفاسي. أكبر تلاميذ أبي الحسن الصغير ومن المكثرين عنه، وعنه أخذ أبو عمران العبدوسي وغيره. له تقييد على المدونة. جاء في الفكر السامي: قال السلطان أبو الحسن المريني للمترجم: وليناك مع عامل الزكاة، فقال له: أما تستحيي من الله، تأخذ لقبا من ألقاب الشريعة، وتضعه على مغرم من المغارم، فضربه السلطان بسكين مغمد كان يعتاد حمله بيده، ثم تحلل منه فسامحه.
توفي رحمه الله سنة خمسين وسبعمائة.
موقفه من الصوفية:
- جاء في المعيار المعرب: وسئل الشيخ الصالح أبو فارس عبدالعزيز بن محمد القيرواني تلميذ سيدي أبي الحسن الصغير عن قوم تسموا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغنا، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاما كانوا أعدوه للمبيت عليه، ثم يصلون ذلك بقراءة عشر من القرآن والذكر، ثم يغنون ويرقصون ويبكون، ويزعمون في ذلك كله أنهم على قربة وطاعة، ويدعون الناس إلى ذلك، ويطعنون على من لم يأخذ بذلك من أهل العلم، ونساء اقتفين في ذلك أثرهم، وعملن في ذلك على نحو عملهم. وقوم استحسنوا ذلك وصوبوا فيه رأيهم. فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوز إمامتهم وتقبل شهادتهم أم لا؟ بينوا لنا ذلك.(1/271)
فأجاب: بأن قال: الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أكرمكم الله وإيانا بتقواه، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، لاتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى نلقاه، قد وقفنا على ما رستم (1) وتصفحنا فصوله. فالجواب فيه ما قاله بعض أيمة الدين، من علماء المسلمين الناصحين، حين سئلوا عن ذلك، من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر: أن بني إسرائيل افترقت على اثنين وسبعين فرقة، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنان وسبعون في النار وواحدة في الجنة (2) ، وقد ظهر ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من افتراق أمته على هذه الفرق، وتبين صدقه - صلى الله عليه وسلم - وتحقق. ولم يكن أحد في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأمية الجاهلة الغبية، الذين ولعوا بجمع أقوام جهال فتصدوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة، وعقولهم قاصرة، فدخلوا عليهم من طريق الدين، وأنهم لهم من الناصحين وأن هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبين، فصاروا يحضونهم على التوبة والإيثار والمحبة وصدق الأخوة، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بكلية، وصرفه إليه بالقصد والنية. وهذه الخصال محمودة في الدين فاضلة، إلا أن الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة، وطامات هائلة. وهذه الطائفة أشد ضررا على المسلمين من مردة الشياطين، وهي أصعب الطوائف للعلاج، وأبعدها عن فهم طرق الاحتجاج، لأنهم أول أصل أصلوه في مذهبهم، بغض العلماء والتنفير عنهم، ويزعمون أنهم عندهم قطاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق، فمن كان هذه حالته، سقطت مكالمته. وبعدت معالجته، فليس للكلام معه فائدة، والمتكلم معه يضرب في حديد بارد.
__________
(1) كذا بالأصل ولعلها: رسمتم.
(2) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).(1/272)
وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم، لعله يسلم من عاديتهم، وينجو من غاويتهم.
واعلموا أن هذه البدعة في فساد عقائد العوام، أسرع من سريان السم في الأجسام، وأنها أضر في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام، فإن هذه المعاصي كلها معلوم قبحها، عند من يرتكبها ويجتلبها، فلا يلبس مرتكبها على أحد، وترجى له التوبة منها والإقلاع عنها. وصاحب هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات، وأعلى القربات، فباب التوبة عنده مسدود، وهو عنه شرود مطرود. فكيف ترجى له منها التوبة، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة، بل هو ممن قال الله فيهم: قُلْ { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (1) ، وممن قال فيهم: أَفَمَنْ { زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ } حَسَنًا (2) . ثم ضرر المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة، وضرر هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة، فإذا فسد الأصل، ذهب الفرع والأصل، وإذا فسد الفرع بقي الأصل يرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع، لم تذهب منفعة الأصل. ثم إن الذي يغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته، يكون عليه وزره ووزر من استن بسنته، قال الله العظيم: لِيَحْمِلُوا { أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (25) وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ { أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } (13) (3)
__________
(1) الكهف الآيتان (103 و104).
(2) فاطر الآية (8).
(3) العنكبوت الآية (13)..(1/273)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" (1) . ولا تنشأ هذه العلل إلا من مرض في القلب خفي، أو حمق جلي، فاحذروها واحذروا أهلها. ولا تغتروا بهم ولو أنهم يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، فإن ذلك فتنة لمن أراد الله فتنته، وعلم شقوته. قال الله تعالى: وَمَنْ { يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ } شَيْئًا (2) . فلا يغتر أحدكم بما يظهر من الأوهام والخيالات، من أهل البدع والضلالات، ويعتقد بأنها كرامات، بل هي شرك وحبالات، نصبها الشيطان ليقتنص بها معتقد البدع ومرتكب الشهوات، وإنما تكون من الله الكرامة لمن ظهرت منه الاستقامة، وإنما تكون الاستقامة باتباع الكتاب والسنة، والعمل بما كان عليه سلف هذه الأمة، فمن لم يسلك طريقهم، ولم يتبع سبيلهم، فهو ممن قال الله فيهم: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ } الْهُدَى (3) .اهـ (4)
محمد بن منظور (5) (750 هـ)
محمد بن عبيد الله بن محمد بن يوسف بن منظور القيسي أبو بكر المالقي وأصله من إشبيلية. قرأ على الأستاذ أبي محمد بن السداد الباهلي، وسمع على مالك بن المرحل وأبي عبدالله بن الأديب وأبي عبدالله بن رشد وأبي العباس بن خميس وأبي عبدالله محمد بن أحمد بن أمين الأقشهري الفارسي وغيرهم.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).
(2) المائدة الآية (41).
(3) النساء الآية (115).
(4) المعيار المعرب (11/29-32).
(5) الدرر الكامنة (4/37) والأعلام (6/260).(1/274)
ولي قضاء طرابلس وكان صدرا رئيسا فاضلا في الأدب، مليح الإنشاء، كان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة. وله تصانيف منها: 'التبر المسبوك في شعر الخلفاء والملوك' و'خواص سور القرآن' و'الرد على المضنون به على غير أهله' و'أربعون حديثا في الرقائق بأسانيدها' و'نوازل أبي عبدالله بن منظور' وله شعر مقبول.
وكانت وفاته في صفر سنة خمسين وسبعمائة.
موقفه من الصوفية:
- له الرد على المضنون به على غير أهله للغزالي ذكره في الدرر الكامنة. (1)
العلامة ابن القيم (2) (751 هـ)
__________
(1) 4/37).
(2) البداية والنهاية (14/246-247) والدرر الكامنة (3/400-403) والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/384-385) والدر المنضد للعليمي (2/521-523) وشذرات الذهب (6/168-170) وذيل طبقات الحنابلة (2/447-452).(1/275)
الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي بل المجتهد المطلق المفسر النحوي الأصولي، الشهير بابن قيم الجوزية، وإمامها. ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة. وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين. سمع من التقي سليمان وأبي بكر بن عبدالدائم وابن الشيرازي وإسماعيل بن مكتوم وطبقتهم. وقرأ الفقه على المجد الحراني وشيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ أيضا على ابن أبي الفتح والصفي الهندي وعدة. ولما عاد الشيخ تقي الدين ابن تيمية من مصر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علما جما. فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا. قال ابن كثير: وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم من زماننا أكثر عبادة منه. وقال ابن رجب: كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان أعلم منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله. وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف. وقال الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف. وله مصنفات قيمة بلغت ستا وتسعين مؤلفا، منها: 'زاد المعاد' و'إعلام الموقعين' و'بدائع الفوائد' وغيرها. مات رحمه الله تعالى في ثالث عشر من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وعاش ستين سنة وكانت جنازته حافلة جدا.
موقفه من المبتدعة:(1/276)
هذا الإمام أحد التلامذة البررة لشيخ الإسلام ابن تيمية. نفعه الله بشيخ الإسلام فاستفاد منه العلم والعمل، أحيا كتب الشيخ ودعوته بعد وفاته ودافع عن العقيدة السلفية بقدر ما استطاع، ألف في ذلك الكتب القيمة التي سارت بها الركبان واستفاد منها الأنام، ولم يكن كغيره بالناقل المار الجامع، ولكن كان الناقد الفقيه المحلل. إذا تكلم في مسألة يظن القارئ له أنه لا يحسن غيرها لما يراه من كثرة العلم والحجج وكأنه بحر تتلاطم أمواجه لا تقف أمامه حبيبات الرمال (المبتدعة)، وكأن السنة والكتاب وضعت بين عينيه يأخذ منهما ما يشاء، إن تكلم في اللغة فهو الخليل فيها، وإن تكلم في التفسير فابن جرير قرينه، وإن تكلم في الحديث فالبخاري زميله. وهكذا في كل فن يقارن بأكبر أربابه. ولما له من هذه المكانة، اعترف بفضله وعلمه وحفظه كل من ترجم له حتى الأقران الذين يغلب عليهم التنافس، إلا من في قلبه مرض، فهؤلاء لا يُؤبَه لهم ولا لكلامهم، على حَدِّ قول القائل: القافلة تسير والكلاب تنبح، وكما جاء في الرسالة: ولا يستنجى من ريح.
فالشعوبي الخبيث الذي سخر لسانه في ثلب أئمة السلف، وعلى رأسهم الإمامان الحافظان الكبيران ابن تيمية وابن القيم -قد استوفى الشيخ الفاضل بكر أبو زيد الكلام في الرد على هذا المذموم في كتابه القيم 'ابن القيم وآثاره'، وقد طبع الكتاب واستفاد الناس منه فجزاه الله خيرا. والكلام على الإمام ابن القيم شيق جدا، وأكتفي بالإشارة في ذلك.(1/277)
- جاء في الدرر الكامنة: وكان جريء الجنان واسع العلم عارفا بالخلاف ومذاهب السلف، وغلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك. وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. وكان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات أفرج عنه، وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه. قال الذهبي في المختص: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للأشغال ونشر العلم. (1)
له آثار سلفية تدل على غزارة علمه وقد بينتها في كتابي 'المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية' والحمد لله رب العالمين.
ومن أقواله رحمه الله:
- وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها؛ فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها يرجعون. (2)
__________
(1) الدرر الكامنة (3/401) وذيل طبقات الحنابلة (2/448).
(2) شفاء العليل (1/48).(1/278)
- وقال: وذكر الصراط المستقيم مفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ } سَبِيلِهِ (1) فوحد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، وقال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: "هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ { ? هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } اتخجب" (2) . وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد؛ وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله. قال الله تعالى: t#x"yd { ? صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } (41) (3) .اهـ (4)
__________
(1) الأنعام الآية (153) .
(2) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(3) الحجر الآية (41).
(4) مدارج السالكين (1/14-15).(1/279)
- وقال: ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين: أَنْعَمَ { اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ } رَفِيقًا (1) . فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين (2) . وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق. واحرص على اللحاق بهم. وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لذلك مثلين. فليكونا منك على بال:
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها. فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة. وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت،لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
__________
(1) النساء الآية (69).
(2) تقدم من قول الفضيل بن عياض رحمه الله.(1/280)
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق، ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: "اللهم اهدني فيمن هديت" (1) أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم. (2)
- وقال: ثم قال تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (3) .
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/199،200) وأبو داود (2/133-134/1425) والترمذي (2/328/464) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي (3/275/1744-1745) وابن ماجه (1/372-373/1178) وابن خزيمة (2/151-152/1095-1096) وابن حبان (2/498-499/722) وفي (3/225/945) والحاكم (3/172) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إلا أن محمد بن جعفر ابن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده" كلهم من طريق أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر فذكره.
(2) مدارج السالكين (1/21-22).
(3) النساء الآية (59).(1/281)
وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله، لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى: إِنْ { كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } وهذا مما ذكرناه آنفا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانا وشفاء، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به، قال الله تعالى: لِيَهْلِكَ { مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ } عَلِيمٌ (1) .
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. (2)
- وقال: وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ } قَرِيبٌ (3) .
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فيا عجبا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟ ولكن من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
__________
(1) الأنفال الآية (42).
(2) الرسالة التبوكية (133-134).
(3) سبأ الآية (50).(1/282)
فأي ضلال أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيد وعمرو؟ فلقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: المص { (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (3) (1) .
فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل، أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لا يتبع الوحي فإنما اتبع الباطل، واتبع أولياء من دون الله، وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به. (2)
- وقال: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ } تُحْشَرُونَ (3) ، فتضمنت هذه الآية أمورا، أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. (4)
__________
(1) الأعراف الآيات (1-3).
(2) الرسالة التبوكية (141-142).
(3) الأنفال الآية (24).
(4) الفوائد (114-115).(1/283)
- وقال: قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ { ? نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ } الْمُجْرِمِينَ (1) ، وقال: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا } تَوَلَّى (2) . الآية.
والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه. فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل.
__________
(1) الأنعام الآية (55).
(2) النساء الآية (115).(1/284)
وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده، فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل.
فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع فرق:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا، وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام. وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه، وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.(1/285)
وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عزوجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولاتورثه شبهة ولا شكا، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوى إيمانه به. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب، فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أوحاجبا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته.(1/286)
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة، وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه، والله أعلم. (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك. ولكن ما لجرح بميت إيلام، فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
__________
(1) الفوائد (142-145).(1/287)
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولى العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام.(1/288)
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح، كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه. وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته. والشر والضلال في معصيته ومخالفته. (1)
- وقال: فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به،ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ، فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملا؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبت بكل سبب، وإن كان فيه كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعا وشرعا.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/304-305).(1/289)
فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله ألبتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله. ولم ينزل بها سلطانا.وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير. (1)
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/319-320).(1/290)
وقال: ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه، وهضم حقه، فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه. وذنبه عند أهل الشرك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله من جعله وثنا وعيدا، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد به وأن لا يعبد إلا الله، فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم. ووالوا أهل الشرك وعظموها. وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله. ويأبى الله ذلك. فما كانوا أولياءه. إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم -صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته- أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا، والنهي عن اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها، والنذر لها، واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الجباه في عرصاتها غض من أصحابها، ولا تنقيص لهم، ولا تنقص. كما يحسبه أهل الشرك والضلال. بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه.(1/291)
فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم. وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم. كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي، وأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل. وَالْمُؤْمِنُونَ { وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ } بَعْضٍ (1) وtbqà)دے"uZكJّ9$# { وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ } بَعْضٍ (2) .
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه، وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع، والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أعيادا. فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه، واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر. فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟.
وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة التي يكرهها الله ورسوله. لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفا بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح، مهتما بها كل الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك. (3)
__________
(1) التوبة الآية (71).
(2) التوبة الآية (67).
(3) إغاثة اللهفان (1/330-331).(1/292)
- وقال: ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان، وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به ضربا وقال هذا هو الجواب، فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب، فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إنما الكفار يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم، إقامة للحجة وإزاحة للعذر پخ=ôguٹدj9 { مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ } بَيِّنَةٍ (1) والسيف إنما جاء منفذا للحجة، مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: لَقَدْ { أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (25) (2) فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي.
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... يقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل (3)
__________
(1) الأنفال الآية (42).
(2) الحديد الآية (25).
(3) هداية الحيارى (ص.31-32).(1/293)
- وقال: وقد ذكرنا اتفاق أمة الضلال وعباد الصليب على مسبة رب العالمين أقبح مسبة، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفي عليهم أن هذا مسبة الله، وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم، فأمة أطبقت على أن الإله الحق -سبحانه عما يقولون- صلب وصفع وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية، وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وأنها شر من الحمير، بل هي شر الدواب عند الله. (1)
__________
(1) هداية الحيارى (ص 47-48).(1/294)
- وقال رحمه الله: وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة إذ صلب عليه إلهها الذي يقولون تارة: إنه الله، وتارة يقولون إنه ابنه، وتارة يقولون ثالث ثلاثة، فجحدت حق خالقها وكفرت به أعظم كفر وسبته أقبح مسبة، أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به، وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات أنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه، فأراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته فهبط بذاته من السماء، والتحم في بطن مريم، فأخذ منها حجابا، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت من قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت، وهو الإله التام والإنسان التام، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه، وغار دمه في أصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كلما كان على وجهها، فنبت في موضع صلبه النوار، ولما لم يكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الإلهية، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة، هذه ألفاظهم في كتبهم؟ فأمة أطبقت على هذا في معبودها، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله أنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا؟. (1)
__________
(1) هداية الحيارى (ص 48-49).(1/295)
- وقال: فيا معشر المثلثة وعباد الصليب، أخبرونا من كان الممسك للسماوات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السماوات والأرض خلوا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟ أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب وليذوق حر المسامير وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب. أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟ أم تقولون -وهو حقيقة قولكم- لا ندري، ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة، والجواب عليهم، فنقول لكم وللآباء معاشر المثلثة عباد الصليب، ما الذي دلكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال، وضربوا فيها المسامير وهو يستغيث، وتعلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه، فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام، وإن قلتم إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه لأنه لا أم له ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا لأنها لا أم لها وهي أعجب من خلق المسيح؟ والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبنيه إظهارا لقدرته وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى. وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله.(1/296)
فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا، فإن قلتم هذا غير إحياء الموتى، فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى وهم يقرون بذلك، وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟ وإن قلتم جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين، وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى؟ وهذا محمد بن عبدالله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا حتى شبعوا وملؤوا أوعيتهم (1) ، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملؤوا كل سقاء في العسكر (2) ،
__________
(1) أخرجه أحمد (2/421-422) ومسلم (1/55-56/27) من حديث أبي هريرة.
(2) أحمد (5/237-238) ومسلم (4/1784/706) من حديث معاذ..(1/297)
وهذا منقول عنه بالتواتر؟ وإن قلتم جعلناه إلها لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثنى عشر طريقا وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة، وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص، فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك، وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار وأنه مربوب مصنوع مخلوق، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى: وَمَنْ { يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ } جَهَنَّمَ (1) وكل من ادعى الإلهية من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوته ورسالته وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال! ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم فيقتله، ويظهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا، ولو كان إلها لم يقتل فضلا عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه، وإن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها ودل عليه العقل والفطرة وشهدتم أنتم له بالإلهية -وهذا هو الواقع- فلم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته وأنه مربوب مخلوق، وأنه ابن البشر، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه. (2)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) الأنبياء الآية (29).
(2) هداية الحيارى (275-279).(1/298)
- قال: ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بوساطة ونوع بغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا. وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: ثُلَّةٌ { مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ } (14) (1) ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد (2) وابن مسعود (3)
__________
(1) الواقعة الآيتان (13-14).
(2) أخرجه: البخاري (6/110/2897) ومسلم (4/1962/2532) وورد عند مسلم في رواية ذكر القرن الرابع. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/6): "وهذه رواية شاذة، وأكثر الروايات مقتصر على الثلاثة".
(3) رواه البخاري (5/324/2652) ومسلم (4/1962-1963/2533) والترمذي (5/652/3859) والنسائي في الكبرى (3/494-495/6031) وابن ماجه (2/791/2362)..(1/299)
وأبي هريرة (1) وعائشة (2) وعمران بن حصين (3) ، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأُخْذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس. (4)
-وفيه: وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقل ذلك عليهم جدا، وأنكرته قلوبهم، وهذا كله شبه ظاهر، ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء، فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم. (5)
__________
(1) رواه أحمد (2/228) ومسلم (4/1963-1964/2534).
(2) رواه أحمد (6/156) ومسلم (4/1965/2536).
(3) رواه البخاري (5/324/2651) ومسلم (4/1964/2535) والترمذي (4/434/2221)، وورد ذكر القرن الرابع من حديث عمران خارج الصحيحين ومن حديث غيره أيضاً كما تقدم بعض ذلك، ولا يصح شيء من ذلك كما حققه الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة برقم (3569)، والله أعلم.
(4) إعلام الموقعين (1/5-7).
(5) إعلام الموقعين (1/151-152).(1/300)
- وفيه أيضا: وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة؛ فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبدالله بن مسعود: كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم، وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه كما قال: إن ههنا علما لو أصبت له حملة. (1)
- وجاء في مدارج السالكين: فصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ } الْمُسْتَقِيمَ إلى آخرها.
ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام "منعم عليهم" وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه. و"مغضوب عليهم" وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه. و"ضالون" وهم الذين جهلوه فأخطأوه. فكل من كان أعرف للحق، وأتبع له: كان أولى بالصراط المستقيم.
ولا ريب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه الصفة من الروافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض.
__________
(1) إعلام الموقعين (1/21).(1/301)
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما. فرأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا بلاد الكفر، وقلبوها بلاد إسلام. وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان. فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام. وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية! وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام -من عسكر هولاكو وذويه من التتار- إلا من تحت رءوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم، إلا بسببهم ومن جرائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة، وآثارهم في الدين معلومة.
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟.
ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله: بأبي بكر وعمر، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورضي الله عنهم، وهو كما فسروه. فإنه صراطهم الذي كانوا عليه. وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم، وغضب على أعدائهم، وحكم لأعدائهم بالضلال، وقال أبو العالية -رفيع الرياحي- والحسن البصري، وهما من أجل التابعين: "الصراط المستقيم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه". وقال أبو العالية أيضا في قوله: صِرَاطَ { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ } عَلَيْهِمْ (1) : "هم آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر وعمر" وهذا حق. فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة. ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا، ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة. خاصها وعامها. وقال زيد بن أسلم: "الذين أنعم الله عليهم: هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر".
__________
(1) الفاتحة الآية (7).(1/302)
ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه، والمغضوب عليهم: هم الخارجون عن أتباعه، وأتبع الأمة له وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته. وأتبع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر. وأشد الأمة مخالفة له: هم الرافضة، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة. ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها. فهم أعداء سنته - صلى الله عليه وسلم - . وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا بل هم ورثته حقا.
فقد تبين أن الصراط المستقيم: طريق أصحابه وأتباعه. وطريق أهل الغضب والضلال: طريق الرافضة.
وبهذا الطريق بعينها - يرد على الخوارج. فإن معاداتهم الصحابة معروفة. (1)
__________
(1) مدارج السالكين (1/72-74).(1/303)
- وجاء في الصواعق المرسلة: السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر، نبيه الذكر من العقلاء، أو من آل البيت النبوي، أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال، فإن من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم، كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منا. وبهذه الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم، فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأولى الناس بهم، ثم نَفَّقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم. فلا إله إلا الله، كم من زندقة وإلحاد وبدعة وضلالة قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهم براء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءة المسيح من عبادة الصليب والتثليت، وبراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدع والضلالات. (1)
- وجاء في مفتاح دار السعادة: وحجج الله لا تقوم بخفي مستور -أي مهدي الرافضة- لا يقع العالم له على خبر، ولا ينتفعون به في شيء أصلا، فلا جاهل يتعلم منه، ولا ضال يهتدي به، ولا خائف يأمن به، ولا ذليل يتعزز به، فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص، ولا يسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان، ولا سيما على أصول القائلين به، فإن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم قالوا: لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله.
__________
(1) الصواعق المرسلة (2/441-443).(1/304)
فيا لله العجب، أي لطف حصل بهذا المعدوم المعصوم؟ وأي حجة أثبتم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟ فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به، فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ هل في العذر والحجة أبلغ من هذا؟
فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه، وكنتم في ذلك كما قيل:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقص بالصحابة الأخيار وبسادة هذه الأمة، وأن يري الناس عورته ويغريه بكشفها، ونعوذ بالله من الخذلان.
ولقد أحسن القائل:
ما آن للسرداب أن يلد الذي فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... حملتموه بزعمكم ما آنا
ثلثتم العنقاء والغيلانا (1)
- وفيه: ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله، وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه، ومحبة له، وجهادا لأعدائه، وتكلما بأعلامه، وتحذيرا من خلافه، لكمال علمهم بضده، فجاءهم الإسلام كل خصلة منه مضادة لكل خصلة مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفة وحبا، وفيه جهادا، بمعرفتهم بضده، وذلك بمنزلة من كان في حصر شديد وضيق ومرض وفقر وخوف ووحشة، فقيض الله له من نقله منه إلى فضاء وسعة وأمن وعافية وغنى وبهجة ومسرة، فإنه يزداد سروره وغبطته ومحبته بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه. (2)
- وقال في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار. أترى لم يسمع الروافض الكفار ثَانِيَ { اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي } الْغَارِ (3) ؟ دعي إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحجة فما زل ولا كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا.
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/452-453).
(2) مفتاح دار السعادة (2/288-289).
(3) التوبة الآية (40).(1/305)
تالله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار ثَانِيَ { اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي } ح'$tَّ9$#.
من كان قرين النبي في شبابه؟ من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟ من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه؟ من أول من صلى معه؟ من آخر من صلى به؟ من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟ فاعرفوا حق الجار.
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ. فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ. حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟.
كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس. فضائله جلية وهي خلية عن اللبس، يا عجبا، من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ما ظنك باثنين والله الثالث (1) . فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث. فزال القلق وطاب عيش الماكث. فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصارڑ†خT$rO { اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي } ح'$tَّ9$#.
حبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية. لولا صحة إمامته ما قيل ابن الحنفية. مهلا مهلا، فإن دم الروافض قد فار.
والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: "رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا". تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر. تالله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السنى عينا، فمن كان رافضيا فلا يعد إلينا وليقل لي أعذار. (2)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) ثبت هذا عند أحمد (1/4) والبخاري (7/10/3653) ومسلم (4/1854/2381) والترمذي (5/260/3096) من رواية أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما.
(2) الفوائد (ص.95-97).(1/306)
- قال رحمه الله في إغاثة اللهفان في معرض كلامه عن مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم: ومن كيده: ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن؛ فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا. فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب. فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات، فلا تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان، فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع الهذيان. وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم. (1)
- وقال رحمه الله: ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بها حسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم.
__________
(1) 1/188-189).(1/307)
فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحماني، وشيطانية، ونفسانية؛ كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ، فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطىء، وليس بحجة على الخلق.
وقد كان سيد المحدثين الملهمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه، فيتبين له الخطأ فيرجع إليه، وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها. وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما؛ ويقول حدثني قلبي عن ربي، ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم أخذتم الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء، ألا تذهب فتسمع الحديث من عبدالرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبدالرزاق من يسمع من الملك الخلاق؟!.
وهذا غاية الجهل؛ فإن الذي سمع من الملك الخلاق: موسى بن عمران كليم الرحمن، وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله، فيستغني به عن ظاهر العلم، ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعين ومنفردين.
ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا. وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان. (1)
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/192-193).(1/308)
- وقال رحمه الله: ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرا منه وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا؛ فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس.(1/309)
فلغير الله، بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا؛ حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟! وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد؟! وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات؟! ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدرا وشرعا، والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا، فمن أين هذا الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا؟ أَفَتَتَّخِذُونَهُ { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } (50) (1) ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
__________
(1) الكهف الآية (50).(1/310)
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي؟
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي؟
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله. وقال آخر:
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة. (1)
- وقال: قال أبو بكر الطرطوشي: وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة. وليس في الأمة من رأى هذا الرأي.
قلت: ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة، ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى، وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم، ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/344-346).(1/311)
فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني. (1)
موقفه من الجهمية:
لقد كان قلم هذا الإمام سيلا جرارا ينقض به أركان أهل الضلال على اختلاف مشاربهم وتنوع مرامهم، ومن أولئك: الجهمية المقيتة فقد تصدى لها الشيخ رحمه الله مبينا عوار أفكارها البائرة، وزيف أصولها الجائرة، بما ألفه من كتبه التي انتشرت في الآفاق منها:
1- القصيدة النونية -المسماة 'الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية'- وهي من أعظم القصائد وأطولها في العقيدة السلفية. واعتناء السلفيين بها قليل، بحيث لا يوجد إلى الآن -فيما أعلم- شرح واف بمقاصدها. وغاية ما هنالك شرح ابن عيسى، وشرح الشيخ الهراس. ويقال: إن للآلوسي شرحا عليها. وللشيخ عبدالرحمن السعدي توضيح مختصر بمقاصدها. فعسى أن تمتد بنا الحياة حتى نرى لها شرحا يثلج الصدر.
2- 'اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية' وهو من أنفع الكتب في بابه قد استوفى المؤلف فيه أدلة العلو من جميع الطبقات، وقد نفعنا الله به في هذه المسيرة المباركة. والكتاب طبع مرارا والحمد لله رب العالمين.
3- 'الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. ولم تر عيني مثله ولا رأيت أحدا حكى عن أحد أنه ألف مثل هذا الكتاب أو يقاربه. وقد استهله المؤلف بفصول نافعة، ثم بين التأويل وبطلانه وبين التأويل عند السلف. وأتى على بنيان هذا الطاغوت حتى خر من فوقه. ثم طاغوت المجاز، ثم أتى بأمثلة من الصفات التي أولها المؤولون وبين بطلان ذلك. وفي الكتاب بحوث قيمة في اعتماد السلف على العقل والنقل وأن الخلف لا النقل اتبعوا ولا بالعقل اهتدوا.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/353).(1/312)
- قال رحمه الله في أعلام الموقعين: وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، ويقول مخنثهم: سدوا عنا هذا الباب، واقرءوا شيئا غير هذا، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم. (1)
ومن دُرَرِ أقواله رحمه الله:
- قال في الصواعق مبينا وسطية أهل السنة في باب الصفات: وهدى الله أصحاب سواء السبيل: للطريقة المثلى فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل. (2)
__________
(1) أعلام الموقعين (1/151).
(2) الصواعق المرسلة (2/425-426).(1/313)
- وقال مبينا تضارب أهل التأويل واختلافهم في المسألة الواحدة على أقوال شتى لاختلاف مدارك عقولهم: لا ريب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه بالرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى، ووصف نفسه بما ذكره من الصفات، كسورة الإخلاص، وأول الحديد، وأول طه وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب، ويكره، ويمقت، ويرضى، ويغضب، ويأسف، ويسخط، ويجيء، ويأتي، وينزل إلى سماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما، وحياة، وقدرة، وإرادة، وسمعا، وبصرا، ووجها، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السموات مطويات بيمينه.
ووصفه رسوله بأنه يفرح، ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه، وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيقال للمتأول: هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره، وتمنع حمله على حقيقته، أم تقر الجميع على ظاهره، وحقيقته؟ أم تفرق بين بعض ذلك، وبعضه؟.
فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته، كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا، وجحدا للربوبية، وحينئذ فلا تستقر لك قدم على إثبات ذات الرب تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعل من أفعاله، فإن أعطيت هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقت بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يثبتون للعالم خالقا ولا ربا.
فإن قلت: بل أثبت أن للعالم صانعا وخالقا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوله.
قيل لك فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه، هل تدل على معان ثابتة هي حق في نفسها أم لا تدل؟(1/314)
فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل. وإن أثبت دلالتها على معان هي حق ثابت قيل لك فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض، وما الفرق بين ما أثبته ونفيته، وسكت عن إثباته ونفيه، من جهة السمع أو العقل.
ودلالة النصوص على أن له سمعا، وبصرا، وعلما، وقدرة، وإرادة، وحياة، وكلاما، كدلالتها على أن له رحمة، ومحبة، وغضبا، ورضى، وفرحا، وضحكا، ووجها، ويدين، فدلالة النصوص على ذلك سواء، فلم نفيت حقيقة رحمته، ومحبته، ورضاه، وغضبه،وفرحه، وضحكه، وأولتها بنفس الإرادة. فإن قلت: لأن إثبات الإرادة، والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه، والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسره عليه. قيل لك وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع، والبصر، والحياة، أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه. فإن قلت: لأني أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشابهها، قيل لك: فهلا أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها، ولم فهمت من إطلاق هذا التشبيه والتجسيم، وفهمت من إطلاق ذلك التنزيه والتوحيد، وهلا قلت أثبت له وجها ومحبة وغضبا ورضى وضحكا ليس من جنس صفات المخلوقين. فإن قلت هذا لا يعقل، قيل لك: فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين.(1/315)
فإن قلت: أنا أفرق بين ما يتأول وبين ما لا يتأول، بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر، وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى. فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل، وإحكامه دل على علمه. والتخصيص دل على الإرادة، فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل.
قيل لك أولا، وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيص بالكرامة، والاصطفاء، والاجتباء، دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة. والإهانة، والطرد، والإبعاد، والحرمان دال على المقت والبغض، كدلالة ضده على الحب والرضى.
والعقوبة، والبطش، والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى.
ويقال ثانيا: هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها، فإنه لا ينفيها. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله.
ويقال لك ثالثا: إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها أو تجسيما فهو يقتضيه في الجميع، فأول الجميع، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه، طولبت بالفرق بين الأمرين وعادت المطالبة جذعا.
ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال: ما دل عليه الإجماع كالصفات السبع لا يتأول وما لم يدل عليه إجماع فإنه يتأول. وهذا كما تراه من أفسد الفروق، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل على التجسيم والتشبيه، ولولا ذلك لتأولناه، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم.
وهذا قدح في الإجماع، فإنه لا ينعقد على باطل.
ثم يقال: إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصفات -وظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه- بطل نفيكم لذلك، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به.(1/316)
ثم يقال: خصومكم من المعتزلة لم يجمعوا معكم على إثبات هذه الصفات، فإن قلتم: انعقد الإجماع قبلهم. قيل: صدقتم والله. والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصفات، أجمعوا على إثبات سائر الصفات، ولم يخصوها بسبع، بل تخصيصها بسبع خلاف قول السلف، وقول الجهمية والمعتزلة، فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين القولين فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا. (1)
- وقال: وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول ما يخالف نحلتها ومذهبها، فالعيار على ما يتأول، وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه، والقواعد التي أصلتها فما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها فإن أمكنهم دفعه وإلا تأولوه. ولهذا لما أصلت الرافضة عداوة الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأولوه. ولما أصلت الجهمية أن الله لا يتكلم ولا يكلم أحدا، ولا يرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبائن لخلقه، ولا له صفة تقوم به، أولوا كل ما خالف ما أصلوه. (2)
- وقال في إلزام أهل التعطيل بالتعطيل في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه:
__________
(1) الصواعق المرسلة (1/220-226).
(2) الصواعق المرسلة (1/230-231).(1/317)
هذا فصل بديع لمن تأمله، يعلم به أن المتأولين لم يستفيدوا بتأويلهم إلا تعطيل حقائق النصوص، والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا مما ظنوه محذورا، بل هو لازم لهم فيما فروا إليه كلزومه فيما فروا منه، بل قد يقعون فيما هو أعظم محذورا كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء، فرارا من التحيز والحصر، ثم قالوا هو في كل مكان بذاته، فنزهوه عن استوائه على عرشه، ومباينته لخلقه، وجعلوه في أجواف البيوت، والآبار، والأواني، والأمكنة التي يرغب عن ذكرها، فهؤلاء قدماء الجهمية، فلما علم متأخروهم فساد ذلك، قالوا ليس وراء العالم، ولا فوق العرش، إلا العدم المحض، وليس هناك رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، ولا هو أيضا في العالم، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخس مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا... والمقصود أن المتأول يفر من أمر فيقع في نظيره.
مثاله: إذا تأول المحبة، والرحمة، والرضى، والغضب، والمقت، بالإرادة، قيل له يلزمك في الإرادة ما لزمك في هذه الصفات كما تقدم تقريره. (1)
- وقال في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل:
هذا الفصل من عجيب أمر المتأولين، فإنهم فهموا من النصوص الباطل الذي لا يجوز إرادته، ثم أخرجوها عن معناها الحق المراد منها، فأساءوا الظن بها وبالمتكلم بها، وعطلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. ونقتصر من ذلك على مثال ذكره بعض الجهمية ونذكر ما عليه فيه.
__________
(1) الصواعق المرسلة (1/234-235).(1/318)
قال الجهمي: ورد في القرآن ذكر الوجه، وذكر الأعين، وذكر العين الواحدة، وذكر الجنب الواحد، وذكر الساق الواحد، وذكر الأيدي، وذكر اليدين، وذكر اليد الواحدة فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخص له وجه وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة، وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد، ولا يرى في الدنيا شخص، أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة، ولا يظن أن عاقلا يرى أن يصف ربه بهذه الصفة.
قال السني المعظم لحرمات كلام الله: قد ادعيت أيها الجهمي أن ظاهر القرآن، الذي هو حجة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى الله به عباده، وجعله شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، ولم ينزل كتاب من السماء أهدى منه، ولا أحسن ولا أكمل، فانتهكت حرمته وَعَضَهْتَهُ، ونسبته إلى أقبح النقص والعيب، فادعيت أن ظاهره ومدلوله إثبات شخص له وجه وفيه أعين كثيرة، وله جنب واحد، وعليه أيد كثيرة، وله ساق واحد. فادعيت أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبحة، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصفات في ظاهر كلامه، فأي طعن في القرآن أعظم من طعن من يجعل هذا ظاهره ومدلوله، وهل هذا إلا من جنس قول الذين جعلوا القرآن عضين، فعضهوه بالباطل وقالوا هو سحر أو شعر، أو كذب مفترى، بل هذا أقبح من قولهم من وجه: فإن أولئك أقروا بعظمة الكلام وشرف قدره وعلوه وجلالته، حتى قال فيه رأس الكفر "والله إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لجنى، وإنه ليعلو وما يعلى، وما يشبه كلام البشر".(1/319)
ولم يدع أعداء الرسول، الذين جاهروه بالمحاربة، والعداوة، أن ظاهر كلامه أبطل الباطل، وأبين المحال، وهو وصف الخالق سبحانه بأقبح الهيئات والصور، ولو كان ذلك ظاهر القرآن، لكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا: كيف يدعونا إلى عبادة رب له وجه عليه عيون كثيرة، وجنب واحد، وساق واحد، وأيد كثيرة، فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير.
ثم استطرد في الرد عليهم من أحد عشر وجها (1) . فليرجع إليها من شاء الاستفادة.
- وقال رحمه الله في القصيدة النونية (2) :
فصل في بيان أن المصيبة التي حلت بأهل التعطيل والكفران من جهة الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان:
يا قوم أصل بلائكم أسماء لم ... ينزل بها الرحمن من سلطان
هي عكستكم غاية التعكيس واقتـ ... ـلعت دياركم من الأركان
فتهدمت تلك القصور وأوحشت ... منكم ربوع العلم والإيمان
والذنب ذنبكم قبلتم لفظها ... من غير تفصيل ولا فرقان
وهي التي اشتملت على أمرين من ... حق وأمر واضح البطلان
سميتم عرش المهيمن حيزا ... والاستواء تحيزا بمكان
وجعلتم فوق السموات العلى ... جهة وسقتم نفي ذا بوزان
وجعلتم الإثبات تشبيها وتجـ ... ـسيما وهذا غاية البهتان
وجعلتم الموصوف جسما قابل الأ ... عراض والأكوان والألوان
وجعلتم أوصافه عرضا وهـ ... ـذا كله جسر إلى النكران
وكذاك سميتم حلول حوادث ... أفعاله تلقيب ذي عدوان
إذ تنفر الأسماع من ذا اللفظ نفـ ... ـرتها من التشبيه والنقصان
فكسوتم أفعاله لفظ الحوا ... دث ثم قلتم قول ذي بطلان
ليست تقوم به الحوادث والمرا ... د النفي للأفعال للديان
فإذا انتفت أفعاله وصفات ... وكلامه وعلو ذي السلطان
فبأي شيء كان ربا عندكم ... يا فرقة التحقيق والعرفان
والقصد نفي فعاله عنه بذا التـ ... ـلقيب فعل الشاعر الفتان
وكذاك حكمة ربنا سميتم ... عللا وأغراضا وذان اسمان
لا يشعران بل ضدها ... فيهون حينئذ على الأذهان
__________
(1) الصواعق المرسلة (1/238-241).
(2) شرح القصيدة النونية (2/165-171) (هراس).(1/320)
نفي الصفات وحكمة الخلاق والأ ... فعال إنكارا لهذا الشان
وكذا استواء الرب فوق العر ... ش قلتم أنه التركيب ذو بطلان
وكذاك وجه الرب جل جلاله ... وكذاك لفظ يد ولفظ يدان
سميتم ذا كله الأعضاء بل ... سميتموه جوارح الإنسان
وسطوتم بالنفي حينئذ عليـ ... ـه كنفينا للعيب مع نقصان
قلتم ننزهه عن الأعراض والأ ... غراض والأبعاض والجثمان
وعن الحوادث أن تحل بذاته ... سبحانه من طارق الحدثان
والقصد نفي صفاته وفعاله ... والاستواء وحكمة الرحمن
والناس أكثرهم بسجن اللفظ مسـ ... ـجونون خوف معرة السبحان
والكل لا الفرد يقبل مذهبا ... في قالب ويرده في ثان
والقصد أن الذات والأوصاف والـ ... أفعال لا تنفى بذا الهذيان
سموه ما شئتم فليس الشأن في الـ ... أسماء بل في مقصد ومعان
كم ذا توسلتم بلفظ الجسم ... والتجسيم للتعطيل والكفران
وجعلتموه الترس إن قلنا لكم ... الله فوق العرش والأكوان
قلتم لنا جسم على جسم تعا ... لى الله عن جسم وعن جثمان
وكذاك إن قلنا القرآن كلامه ... منه بدا لم يبد من إنسان
كلا ولا ملك ولا لوح ولـ ... ـكن قاله الرحمن قول بيان
قلتم لنا أن الكلام قيامه ... بالجسم أيضا وهو ذا حدثان
عرض يقوم بغير جسم لم يكن ... هذا بمعقول لذي الأذهان
وكذاك حين نقول ينزل ربنا ... في ثلث ليل وآخر أو ثان
قلتم لنا أن النزول لغير أجـ ... ـسام محال ليس ذا إمكان
وكذاك إن قلنا يرى سبحانه ... قلتم أجسم كي يرى بعيان
أم كان ذا جهة تعالى ربنا ... عن ذا فليس يراه من إنسان
ما إذا قلنا له وجه كما ... في النص أو قلنا كذاك يدان
وكذاك إن قلنا كما في النص أ ... ن القلب بين أصابع الرحمن
وكذاك إن قلنا الأصابع فوقها ... كل العوالم وهي ذو رجفان
وكذاك إن قلنا يداه لأرضه ... وسمائه في الحشر قابضتان
وكذاك إن قلنا سيكشف ساقه ... فيخر ذاك الجمع للأذقان
وكذاك إن قلنا يجيء لفصله ... بين العباد بعدل ذي سلطان
قامت قيامتكم كذاك قيامة الآ ... تي بهذا القول في الرحمن
والله لو قلنا الذي قال الصحا ... بة والألى من بعدهم بلسان(1/321)
لرجمتمونا بالحجارة إن قدر ... تم بعد رجم الشتم والعدوان
والله قد كفرتم من قال بعـ ... ـض مقالهم يا أمة العدوان
وجعلتم الجسم الذي قدرتم ... بطلانه طاغوت ذا البطلان
وله رحمه الله غيرها من الأقوال السنية في نصر الطريقة السلفية يضيق المقام بذكرها.
موقفه من الخوارج:
- قال في تعليقه على سنن أبي داود: والذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمهم من طوائف أهل البدع: هم الخوارج. فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح. لأن مقالتهم حدثت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلمه رئيسهم (1) . (2)
وقال: ومن اعترض على الكتاب والسنة بنوع تأويل من قياس أو ذوق أو عقل أو حال ففيه شبه من الخوارج أتباع ذي الخويصرة. (3)
- وقال: فمن الكبائر تكفير من لم يكفره الله ورسوله، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتال الخوارج، وأخبر أنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ودينهم تكفير المسلمين بالذنوب، فكيف من كفرهم بالسنة ومخالفة آراء الرجال لها وتحكيمها والتحاكم إليها. (4)
- وقال: والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكُفْرَيْنِ، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطىء، له حكم المخطئين. (5)
__________
(1) يشير إلى حديث ذي الخويصرة، وقد تقدم في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) مختصر سنن أبي داود (7/61).
(3) الصواعق المرسلة (1/308).
(4) إعلام الموقعين (4/405).
(5) مدارج السالكين (1/336-337).(1/322)
- وقال: وها هنا أصل آخر: وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، هذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة.
قال تعالى: وَمَا { يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (106) (1) فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك. وقال تعالى: قَالَتِ { الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } رَحِيمٌ (2) فأثبت لهم إسلاما وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ } اللَّهِ (3) . وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين، وإن كان معهم جزء من الإيمان، أخرجهم من الكفر. (4)
موقفه من المرجئة:
- قال في حاشيته على سنن أبي داود تعليقا على قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يزني الزاني ... " (5) الحديث: وفي لفظ في الصحيحين "ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن -وزاد مسلم- ولا يغل حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم".
وزاد أبو بكر البزار فيه في المسند "ينزع الإيمان من قلبه. فإن تاب تاب الله عليه".
__________
(1) يوسف الآية (106).
(2) الحجرات الآية (14).
(3) الحجرات الآية (15).
(4) كتاب الصلاة وحكم تاركها (ص.60).
(5) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).(1/323)
وأخرج البخاري في صحيحه (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن" قال عكرمة: "قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا -وشبك بين أصابعه، ثم أخرجها- فإن تاب عاد إليه هكذا -وشبك بين أصابعه".
وروى ابن صخر في الفوائد من حديث محمد بن خالد المخزومي عن سفيان الثوري عن زبيد اليامي عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليقين الإيمان كله" وذكره البخاري في صحيحه موقوفاً على ابن مسعود. (2)
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم. فذكر الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال" الحديث (3) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله". قال: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قال: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". (4)
وفي لفظ: "إيمان بالله ورسوله" وترجم عليه البخاري: (باب من قال: إن الإيمان هو العمل. لقوله تعالى: وَتِلْكَ { الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ } تَعْمَلُونَ (5) وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا } يَعْمَلُونَ (6) : عن قول لا إله إلا الله).
__________
(1) البخاري (12/136/6809) والنسائي في الكبرى (4/268/7135).
(2) تقدم ضمن مواقفه سنة (32هـ).
(3) أخرجه: أحمد (5/297) ومسلم (3/1501/1885) والترمذي (4/184/1712) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/341/3156).
(4) أخرجه: أحمد (2/264) والبخاري (1/105/26) ومسلم (1/88/83) والنسائي (8/469/5000).
(5) الزخرف الآية (72).
(6) الحجر الآيتان (92 و93).(1/324)
وفي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري قال: "قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله" الحديث. (1)
وروى البزار في مسنده من حديث عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاث من جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار". (2)
وذكره البخاري في صحيحه عن عائشة من قولها.
وقال البخاري قال معاذ: (اجلس بنا نؤمن ساعة) (3) وقال البخاري في الصحيح: (باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعلم الساعة وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم قال "جاء جبريل يعلمكم دينكم" فجعل ذلك كله ديناً). (4)
__________
(1) أخرجه: أحمد (5/163) والبخاري (5/185/2518) ومسلم (1/89/84) والنسائي في الكبرى (3/172/4894) وابن ماجه (2/843/2523).
(2) تقدم تخريجه موقوفا ضمن مواقفه سنة (37هـ). وأما المرفوع فقال الحافظ في الفتح (1/112): "استغربه البزار، وقال أبو زرعة: هو خطأ. قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد، لأن عبدالرزاق تغير بآخرة، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع. وقد رويناه مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بينتها في تعليق التعليق".
(3) تقدم ضمن مواقفه سنة (18هـ).
(4) كتاب الإيمان (1/153).(1/325)
وما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان (1) وقوله تعالى: وَمَنْ { يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ } مِنْهُ (2) وفي حديث الشفاعة المتفق على صحته: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وفي لفظ: "مثقال دينار من إيمان" وفي لفظ: "مثقال شعيرة من إيمان" وفي لفظ: "مثقال خردلة من إيمان" وفي لفظ: "انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان" وفي لفظ: "إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة من إيمان، فيدخلون. ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء. قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وفي لفظ عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. ثم قال: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة. ثم يخرج من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
وترجم البخاري على هذا الحديث: (باب زيادة الإيمان ونقصانه وقوله تعالى: وَزِدْنَاهُمْ { } هُدًى (3) وقال: وَيَزْدَادَ { ? الَّذِينَ آَمَنُوا } إِيمَانًا (4) وقال: الْيَوْمَ { ? أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (5) فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص).
وكل هذه الألفاظ التي ذكرناها في الصحيحين، أو أحدهما. (6)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(2) آل عمران الآية (85).
(3) الكهف الآية (13).
(4) المدثر الآية (31).
(5) المائدة الآية (3).
(6) أحمد (3/116) والبخاري (1/138-139/44) وله أطراف، ومسلم (1/182/193[325]) والترمذي (4/613/2593) وابن ماجه (2/1442-1443/4312).(1/326)
والمراد بالخير في حديث أنس الإيمان، فإنه هو الذي يخرج به من النار. وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان، وبعضهم أرجح من بعض.
وقال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل". (1)
وقال البخاري أيضاً: (باب الصلاة من الإيمان وقوله عز وجل: وَمَا { كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ } إِيمَانَكُمْ (2) يعني صلاتكم عند البيت) ثم ذكر حديث تحويل القبلة. (3)
وأقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة: عمير بن حبيب الخطمي. (4)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقفه سنة (117هـ).
(2) البقرة الآية (143).
(3) أخرجه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أحمد (4/304) والبخاري (1/128/40) ومسلم (1/374/525) والترمذي (2/169-170/340) وقال: "حديث البراء حديث حسن صحيح". والنسائي (1/262-263/487و488) وابن ماجه (1/322-323/1010).
(4) مختصر سنن أبي داود (7/53-56).(1/327)
- وقال تمثيلاً لقاعدة الأمر المطلق ومطلق الأمر: إن من بعض أمثلة هذه القاعدة: الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل، ولهذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق، ولم ينف عنه مطلق الإيمان لئلا يدخل في قوله: وَاللَّهُ { وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } (68) (1) ولا في قوله: قَدْ { أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } (1) (2) ولا في قوله: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ } قُلُوبُهُمْ (3) إلى آخر الآيات ويدخل في قوله: فَتَحْرِيرُ { رَقَبَةٍ } مُؤْمِنَةٍ (4) وفي قوله: وَإِنْ { بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } اقْتَتَلُوا (5) وفي قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" (6) وأمثال ذلك. فلهذا كان قوله تعالى: قَالَتِ { الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا } أَسْلَمْنَا (7) نفياً للإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان لوجوه منها: أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك. ومنها أنها قال: قَالَتِ { } الْأَعْرَابُ ولم يقل: قال المنافقون، ومنها، أن هؤلاء الجفاة الذين نادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات ورفعوا أصواتهم فوق صوته غلظة منهم وجفاء، لا نفاقا وكفرا. ومنها أنه قال: وَلَمَّا { يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي } قُلُوبِكُمْ (8)
__________
(1) آل عمران الآية (67).
(2) المؤمنون الآية (1).
(3) الأنفال الآية (2).
(4) النساء الآية (91).
(5) الحجرات الآية (9).
(6) أخرجه: أحمد (1/79) والبخاري (1/271/111) والترمذي (4/17/1412) وقال: "حديث حسن صحيح" والنسائي (8/392/4758) وابن ماجه (2/887/2658) من حديث علي رضي الله عنه.
(7) الحجرات الآية (14).
(8) الحجرات الآية (14)..(1/328)
ولم ينف دخول الإسلام في قلوبهم، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى الإيمان. ومنها أن الله تعالى قال: وَإِنْ { ? تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ } شَيْئًا (1) أي لا ينقصكم والمنافق لا طاعة له. ومنها أنه قال: يَمُنُّونَ { ? عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ } إِسْلَامَكُمْ (2) فأثبت لهم إسلاما ونهاهم أن يمنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال لم تسلموا بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: نَشْهَدُ { إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } (3) لما لم تطابق شهادتهم اعتقادهم. ومنها أنه قال: بَلِ { اللَّهُ يَمُنُّ } عَلَيْكُمْ (4) ولو كانوا منافقين لما من عليهم. ومنها أنه قال: أَنْ { هَدَاكُمْ } لِلْإِيمَانِ ولا ينافي هذا قوله: قُلْ { لَمْ } تُؤْمِنُوا فإنه نفى الإيمان المطلق ومن عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمن لمطلق الإيمان. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قسم القسم قال له سعد أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن، فقال أو مسلم ثلاث مرات (5) وأثبت له الإسلام دون الإيمان. وفي الآية أسرار بديعة ليس هذا موضعها. والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان. فالإيمان المطلق يمنع دخول النار، ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها. (6)
موقفه من القدرية:
__________
(1) الحجرات الآية (14).
(2) الحجرات الآية (17).
(3) المنافقون الآية (1).
(4) الحجرات الآية (17).
(5) أحمد (1/176) والبخاري (1/108/27) ومسلم (1/132/150) وأبو داود (5/62-63/4685) والنسائي (8/477-478/5007) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه.
(6) بدائع الفوائد (4/16-17).(1/329)
لقد أبلى رحمه الله البلاء الحسن في الدفاع عن المنهج السلفي والرد على مناهج أهل البدع والزيغ والضلال، فكانت القدرية الخاسئة من جملة أهل الأهواء الذين رد عليهم وبين رحمه الله زيف أقوالهم وشبههم، فدحضها رحمه الله كلها وذلك في كتابه 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل'.
- قال في مقدمته: ولما كانت معرفة الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعة في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة، اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتهذيبه وتحريره وتقريبه، فجاء فردا في معناه بديعا في مغزاه، وسميته: 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل' وجعلته أبوابا. (1)
- قال رحمه الله: أما بعد، فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل، فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال النعمة. ولا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته، وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها.
__________
(1) شفاء العليل (1/22).(1/330)
فلا أحد إلا وهو يحدث نفسه بهذا الشأن، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه، أو مناظرا لبني جنسه، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه. وكلهم -إلا من تمسك بالوحي- عن طريق الصواب مردود، وباب الهدى في وجهه مسدود، تحسى علما غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب الأفكار، ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع، والنص المرفوع، حيران يأتم بكل حيران، يحسب كل سراب ماء، فهو طول عمره ظمآن، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى، وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: أَهَؤُلَاءِ { مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ } بِالشَّاكِرِينَ (1) .
ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره، فأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين، وتشكيكات المشككين، وتكلفات المتنطعين، واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين، فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم، وطريقه القويم، فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة، لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى.
__________
(1) الأنعام الآية (53).(1/331)
ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه.
ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة، الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، فمن شاء هدى نفسه، ومن شاء أضلها، ومن شاء بخسها حظها وأهملها، ومن شاء وفقها للخير وكملها، كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد. فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء، وفي مشيئته ما لا يكون.
ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا، وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا.
فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه.
والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام، ما تكلم ولا يتكلم، ولا أمر ولا يأمر، ولا قال ولا يقول، إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق، ولا استوى على عرشه فوق سماواته، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده، وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف، فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.
ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية -ولا اختيار- كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مقسور ومجبور.(1/332)
ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه وحققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة فاعلين.
ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد، فقالوا: ليس في الكون معصية ألبتة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد. كما قيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم.وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه.
وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبغض منه؟ قال الشيخ: فقلت له: إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له أو معاديا؟ قال: فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة.
وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون، وللقدر مثبتون، ولأقوال أهل البدع مبطلون. هذا وقد طووا بساط التكليف، وطففوا في الميزان غاية التطفيف، وحملوا ذنوبهم على الأقدار، وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار، وقالوا إنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم، وإذا سمع المنزه لربه هذا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فالشر ليس إليك والخير كله في يديك.(1/333)
لقد ظنت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن، ونسبته إلى أقبح الظلم. وقالوا إن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السموات، وكتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما لا يقدرون على تركه وعلى ترك ما لا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العازف منهم ينشد مترنما، ومن ربه متشكيا ومتظلما:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
وليس عند القوم في نفس الأمر سبب، ولا غاية، ولا حكمة، ولا قوة في الأجسام، ولا طبيعة ولا غريزة، فليس في الماء قوة التبريد، ولا في النار قوة التسخين، ولا في الأغذية قوة الغذاء، ولا في الأدوية قوة الدواء، ولا في العين قوة الإبصار، ولا في الأذن قوة السماع، ولا في الأنف قوة الشم، ولا في الحيوان قوة فاعلة ولا جاذبة، ولا ممسكة ولا دافعة، والرب تعالى لم يفعل شيئا بشيء ولا شيئا لشيء، فليس في أفعاله باء تسبيب ولا لام تعليل، وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولام العاقبة. (1)
- وقال في معرض ذكره لحديث احتجاج آدم وموسى (2) : وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك، وقال: لو صح لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذ صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.
__________
(1) شفاء العليل (1/17-21).
(2) تقدم في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).(1/334)
وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن. (1)
- وقال: وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم:ِ@è% { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ } أَجْمَعِينَ (2) .
فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه، ثم قرر تمام الحجة بقوله: فَلَوْ { شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (3) فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلها غيره؟.
فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد، فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك. فكانت حجة الله البالغة وحجتهم الداحضة، وبالله التوفيق.
__________
(1) شفاء العليل (1/46).
(2) الأنعام الآية (149).
(3) الأنعام الآية (149).(1/335)
إذا عرفت هذا، فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المعصية والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) وفي لفظ (خيبتنا).
فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة.
إلى أن قال: ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل. (1)
- وقال: والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم، وحكموا بقتلهم، الذين يقولون: لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها، ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها، فضلا عن أن يكون شاءها وكونها. وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين، وكتب الله المنزلة. وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - مملوء بتكذيبهم وإبطال قولهم، وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه، ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به. وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه ولا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها، كما قال الخضر لموسى، وهما أعلم أهل الأرض حينئذ: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر. (2)
__________
(1) شفاء العليل (1/55-57).
(2) جزء من حديث طويل لابن عباس أخرجه: أحمد (5/117-118) والبخاري (8/522-523/4725) ومسلم (4/1847-1850/2380) والترمذي (5/289-292/3149).(1/336)
ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته. فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته. وإذا كان أعلم الخلق على الإطلاق يقول: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". (1)
ويقول في دعاء الاستخارة: "فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب" (2) . ويقول سبحانه للملائكة: إِنِّي { أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (30) (3) .
ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - : كُتِبَ { عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (216) (4) . ويقول لأهل الكتاب: وَمَا { أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا } قَلِيلًا (5) . وتقول رسله يوم القيامة حين يسألهم ماذا أجبتم: قَالُوا { لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ } الْغُيُوبِ (6) .
__________
(1) أحمد (6/58،201) ومسلم (1/352/486) وأبو داود (1/547/879) والترمذي (5/524/3566) والنسائي (2/558/1099) وابن ماجه (2/1262-1263/3841) كلهم أخرجه من حديث عائشة.
(2) أخرجه من حديث جابر بن عبدالله: أحمد (3/344) والبخاري (11/218-219/6382) وأبو داود (2/187-188/1538) والترمذي (2/345-346/480) والنسائي (6/388-389/3253) وابن ماجه (1/440/1383).
(3) البقرة الآية (30).
(4) البقرة الآية (216).
(5) الإسراء الآية (85).
(6) المائدة الآية (109).(1/337)
وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر، فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس. فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك. فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون. (1)
- وقال: والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة: "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى". (2)
ونحن هكذا نقول بحمد الله، ومنه القول الوسط الصواب لنا، وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسل، وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية، وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية.
ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها، إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون، وإليه منقادون، وله ذاهبون. (3)
عمر بن عمران البِلاَلِي (4) (754 هـ)
__________
(1) شفاء العليل (2/79-81).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: مسلم (2/586/856) والنسائي (3/97/1367) وابن ماجه (1/344/1083).
(3) شفاء العليل (2/ 79).
(4) الدرر الكامنة (3/181)(1/338)
عمر بن عمران بن صدقة البلالي نسبة إلى بلال بن الوليد بن هشام بن عبدالملك بن مروان الأموي زين الدين البدوي. ولد سنة خمس وثمانين وستمائة. وسمع الصحيح على ابن الشحنة، وسمع من عبدالعزيز بن عبدالرزاق بن الشيخ عبدالقادر. وسمع منه ابن رجب، وذكره في معجمه وقال: رأيته ببغداد بالمستنصرية وجرت له قصة مع ملك التتار. وقدم دمشق، واتفقت له كائنة فسجن بقلعة دمشق حين كان الشيخ ابن تيمية بها وأقام بعده مسجونا خمس سنين ثم أطلق. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين وسبعمائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في الدرر الكامنة: ... وجرت له قصة مع ملك التتار، وذلك أنه اتهمه بمكاتبة المصريين بأخبارهم، فألقاه إلى الكلاب ومعه آخر، فأكلت الكلاب رفيقه ولم تؤذه، وكان في تلك الحالة ملازما للذكر فعظم في أعينهم وأكرموه، وأقام معهم مدة يجاهد الرافضة والمبتدعة، ثم قدم دمشق، واتفقت له كائنة فسجن بقلعة دمشق، حيث كان الشيخ ابن تيمية بها، وأقام بعده مسجونا خمس سنين ثم أطلق. وذكر أن ابن تيمية أنشده وهما في الاعتقال:
لا تُفكرن وثق بالله أن له يأتيك من لطفه ما ليس تعرفه ... ألطافا دقت عن الأذهان والفطن
حتى تظن الذي قد كان لم يكن (1)
موقف سلطان الوقت من
محمد بن عبدالمعطي المخرف (760 هـ)
جاء في الدرر الكامنة: وشهدوا عليه بأمور لا تليق بالحكام من أهل العلم، منها أنه كان إذا دخل الحجرة للزيارة يقبل الأرض، وسقطات كثيرة فأمر السلطان بعزله. (2)
" التعليق:
رحم الله هذا السلطان حيث عزل هذا الرجل الخرافي القبوري، الذي يفعل فعل المشركين الذين يتمسحون بالأحجار والأشجار.
موقف السلف من
محمد زبالة الزنديق (761 هـ)
__________
(1) الدرر الكامنة (3/181).
(2) الدرر الكامنة (4/31).(1/339)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الإثنين السادس والعشرين منه، قتل محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فضربت عنقه أيضا في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة. (1)
موقف السلف من
عثمان بن محمد الدقاق الزنديق (761 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان ابن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه. (2)
الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون (3) (762 هـ)
السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، بويع بالسلطنة بعد أخيه المظفر حاجي في رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، واستمر حتى خلع سنة اثنتين وخمسين بأخيه الصالح صلاح الدين، ثم أعيد إلى السلطنة بعد خلع هذا الأخير سنة خمس وخمسين وسبعمائة. قال ابن حجر: كان الناصر حسنُ مُفْرِطاً في الذكاء ضابطا لما يحصل له، ولما خلع وسجن اشتغل بالعلم كثيرا حتى نسخ دلائل النبوة للبيهقي بخطه، توفي مقتولا سنة اثنتين وستين وسبعمائة على يد الأمير يلبغا الخاصكي، وبويع بعده ابن أخيه المنصور محمد ابن المظفر حاجي.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) البداية (14/286).
(2) البداية (14/286).
(3) البداية والنهاية (14/291-292) والوافي بالوفيات (12/266-267) والدرر الكامنة (2/38) والعقد الثمين (4/180) وأعيان العصر (2/615-619) والنجوم الزاهرة (10/187).(1/340)
جاء في البداية والنهاية: ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها، ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة. وفرح أهل العلم بذلك وأهل الديانة، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه. وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك ولله الحمد والمنة. وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه وقاض ومفت، وعالم وعابد، وأمير وزاهد، ونائب سلطنة وغيرهم، ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسؤول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال. (1)
" التعليق:
وقد استجاب الله عز وجل دعوة الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فعاش السلطان بعد هذه الواقعة أحد عشر عاما.
__________
(1) البداية (14/247).(1/341)
ونحن نقول لو أن الله عز وجل قدر موت هذا السلطان في العام نفسه الذي أزال فيه هذه البدعة، لم يلق ذلك في قلوبنا ريبا ولا شكا أن هذه بدعة منكرة، وما ردنا ذلك عن بيان بطلانها والسعي في إزالتها وغيرها من البدع المنكرة، ولا نخاف عقبى إزالة هذه البدع. فهذه عقيدتنا لقول الله عز وجل: إِنَّمَا { ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (175) (1) .
__________
(1) آل عمران الآية (175).(1/342)
والله عز وجل كافينا وناصرنا عليهم لقوله عز وجل: أَلَيْسَ { اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ } دُونِهِ (1) ، ونعلم علما جازما أن ملء الدنيا من هؤلاء المبتدعة وشياطينهم ليس لهم على المؤمنين سبيل، وأن كيدهم ضعيف لقول الله عز وجل: فَقَاتِلُوا { أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ } ضَعِيفًا (2) ، وقوله تعالى: أُولَئِكَ { حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (19) (3) ، وأن النصرة والغلبة حسا ومعنى تكون لله عز وجل ولرسله، وأتباع رسله، قال الله تعالى: كَتَبَ { اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِن اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (21) (4) ، وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ { اللَّهُ مَنْ } يَنْصُرُهُ (5) ، وقال: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } (9) (6) ، وقال تعالى: إِنَّا { لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } (52) (7) .
__________
(1) الزمر الآية (36).
(2) النساء الآية (76).
(3) المجادلة الآية (19).
(4) المجادلة الآية (21).
(5) الحج الآية (40).
(6) محمد الآيات (7-9).
(7) غافر الآيتان (51و52).(1/343)
وننكر على المبتدعة بدعهم وضلالهم، فإن أصابنا شيء فبما كسبت أيدينا لا بتعرضنا وإنكارنا لهذه البدع، ونرى أن المبتدعة -أعداء السنة- ما علا شأنهم إلا وسفل وانقطع، قال عز وجل: إِن { شَانِئَكَ هُوَ } الْأَبْتَرُ (1) . فالواجب على أهل الحق أن ينكروا البدع ما ظهر منها وما بطن وألا يخافوا في الله لومة لائم، والله واقيهم، قال عز وجل: فَوَقَاهُ { اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا } مَكَرُوا (2) وأن يصبروا على ما ينالهم من الأذى، قال عز وجل: فَاصْبِرْ { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ $uZّٹs9*sù يُرْجَعُونَ } (77) (3) ؛ فإن أرانا الله عز وجل عقوبتهم في الدنيا فذاك، وإن توفانا فإليه نرجع فيجزي المبتدعة وأذنابهم بأعمالهم. قال تعالى: وَلَا { تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ } الظَّالِمُونَ (4) ، وقال: وَمَا { رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (132) (5) .
موقفه من الصوفية:
__________
(1) الكوثر الآية (3).
(2) غافر الآية (45).
(3) غافر الآية (77).
(4) إبراهيم الآية (42).
(5) الأنعام الآية (132).(1/344)
جاء في الخطط: وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة. حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة. ومد له شيخ الشيوخ سماطا، كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف علي شيخ زاوية القلندرية هذه، فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته واستتابه، وكتب له توقيعا سلطانيا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم، وأن من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرم، وأن يكون شيخا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية، وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة، وأول ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة. وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زي الأعاجم والمجوس ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزي المبتدع واللباس المستبشع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا، ويقلع من قراره قلعا. فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة. (1)
" التعليق:
هؤلاء السلاطين لو يسر الله لهم من يدلهم على السنة لكانوا خير مثال في تطبيقها، ولكن علماء السوء تسلطوا عليهم فدلوهم على البدع. فبنوا الزوايا وعمروها، ومع ذلك نحتفظ لهم ببعض المواقف كهذا الذي معنا.
جمال الدين بن إدريس الأنباري (2) (765 هـ)
__________
(1) الخطط (2/433).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/446-447) وشذرات الذهب (6/204) والمقصد الأرشد (2/294-296) والدر المنضد (2/539) والدرر الكامنة (3/154 و173) والسحب الوابلة (2/790-791).(1/345)
القاضي جمال الدين أبو حفص عمر بن عبدالمحسن بن إدريس الأنباري ثم البغدادي، وقد ينسب إلى جده، ووهم من جعلهما شخصين. محتسب بغداد وقاضي الحنابلة بها. الإمام الفاضل قرأ على البابصري وغيره، وتفقه حتى مهر في المذهب ونصره، وأقام السنة وقمع البدعة ببغداد وأزال المنكرات، وكان إماما في الترسل والنظم، وله نظم في مسائل الفرائض. قتله الروافض سنة خمس وستين وسبعمائة رحمه الله وتأسف عليه أهل بغداد، لحبهم له.
موقفه من الرافضة:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: فإنه نصر المذهب وأقام السنة وقمع البدعة ببغداد، وأزال المنكرات، وارتفع حتى لم يكن في المذهب أجمل منه في زمانه. ثم وزر لكبير بعض الرافضة فظفروا به، وعاقبوه مدة فصبر، ثم إن أعداءه أهلكهم الله تعالى عاجلا بعد استشهاده، وفرح أهل بغداد بهلاكهم وذلك عقيب موته في سنة خمس وستين وسبعمائة. (1)
موقف السلف من
محمود بن إبراهيم الشيرازي الرافضي (766 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي، اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنتهما. فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال: لا إله إلا الله علي ولي الله. ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر فالتهمه العامة، فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك. فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك. فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة وقال: كانوا على الضلال. فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنهم كانوا على الضلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله. (2)
" التعليق:
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (4/446-447) ونحوه في البداية (14/324-325).
(2) البداية والنهاية (14/325).(1/346)
جزى الله خيرا علماء الإسلام على هذه المواقف المشرفة التي سيؤجرون عليها عند ربهم. ولا أدري لو أحياهم الله إلى وقتنا هذا كيف تكون مواقفهم مع هذه الكثرة الكاثرة من الرافضة التي تنسب نفسها إلى الإسلام وهي إلى المجوسية أنسب؟
جمال الدين المسلاتي (1) (771 هـ)
القاضي محمد بن عبدالرحيم بن علي بن عبدالملك السلمي المسلاتي، جمال الدين ابن زين الدين المالكي. سمع من ابن مخلوف وابن المنير وأبي حيان والقونوي وغيرهم. ولي نيابة الحكم بدمشق، ثم استقر بالقضاء أكثر من عشرين سنة. صاهر السبكي، وكان رحمه الله عالما فاضلا، ينظم وينثر. وكانت له مواقف مشرفة من أهل البدع والضلال. توفي بمصر في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الأربعاء حادي عشر رجب الفرد من هذه السنة -أي ست وخمسين وسبعمائة- حكم القاضي المالكي، وهو قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي بقتل نصراني من قرية الرأس من معاملة بعلبك، اسمه داود بن سالم، ثبت عليه بمجلس الحكم في بعلبك أنه اعترف بما شهد عليه أحمد بن نور الدين علي بن غازي من قرية اللبوة من الكلام السيء الذي نال به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره، فقتل لعنه الله يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس وشفى الله صدور قوم مؤمنين ولله الحمد والمنة. (2)
الحافظ ابن كثير (3) (774 هـ)
__________
(1) السلوك للمقريزي (4/338) والنجوم الزاهرة (11/109-110) والدرر الكامنة (4/11-12).
(2) البداية والنهاية (14/265).
(3) شذرات الذهب (6/231-232) والدرر الكامنة (1/373-374) والبدر الطالع (1/153) والرد الوافر (154) والنجوم الزاهرة (11/123-124).(1/347)
الإمام العلامة، ثقة المحدثين وعمدة المؤرخين وعلم المفسرين، الحافظ الكبير، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي. ولد سنة سبعمائة، وقدم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. تفقه بالبرهان الفزاري والكمال بن قاضي شهبة، ثم صاهر المزي ولازمه وصحب ابن تيمية، وسمع من ابن عساكر. وكان رحمه الله جيد الحفظ والفهم، مستقل الرأي، يدور مع الدليل حيث دار ولا يتعصب لمذهب. قال عنه الذهبي: الإمام المحدث المفتي البارع فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال. وقال تلميذه شهاب الدين بن حجي: كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بتخريجها ورجالها، وصحيحها وسقيمها. وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك. وكان يستحضر كثيرا من التفسير والتاريخ، قليل النسيان. وكان فقيها جيد الفهم صحيح الذهن. وقال الحافظ ابن حجر: ولازم المزي، وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته، وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه، وامتحن بسببه، وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته. وقال ابن حبيب: إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بأقواله وشنف، وحدث وأفاد، وطارت فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، انتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. وهو القائل:
تمر بنا الأيام تترى وإنما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدر
له مؤلفات كثيرة كـ'التفسير' و'البداية والنهاية' و'جامع المسانيد والسنن' وغير ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:(1/348)
- ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، نقلا عن الذهبي في المعجم المختص أنه وقع بينه وبين ابن كثير منازعة في تدريس الناس، فقال له ابن كثير أنت تكرهني لأنني أشعري، فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك أنك أشعري، وشيخك ابن تيمية. (1)
__________
(1) الدرر الكامنة (1/58).(1/349)
- قال رحمه الله تعالى تحت قوله تعالى: وَمَا { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (36) (1) : فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (2) . وفي الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" (3) ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: وَمَنْ { يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا } مُبِينًا (4) ، كقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (5) .اهـ (6)
__________
(1) الأحزاب الآية (36).
(2) النساء الآية (65).
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/12/15) وابن بطة في الإبانة (1/387-388/279) من طيق نعيم بن حماد حدثنا عبدالوهاب الثقفي ثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره، عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبدالله بن عمرو مرفوعا. ونعيم بن حماد، قال الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ كثيرا". وقال ابن رجب في جامع العلوم: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدا".
(4) الأحزاب الآية (36).
(5) النور الآية (63).
(6) تفسير ابن كثير (6/419).(1/350)
- وقال رحمه الله: فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجئوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخويصرة- بقر الله خاصرته -: اعدل فإنك لم تعدل. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟! ..." فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية خالد بن الوليد- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله، فقال: "دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا -أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" (1) .
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم نبعت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي" (2) أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. اهـ (3)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(3) تفسير ابن كثير (2/7).(1/351)
- وقال عند تفسير قوله تعالى: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (32) (1) : ثم قال آمرا لكل أحد من خاص وعام: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ } تَوَلَّوْا أي: خالفوا عن أمره فَإِنَّ { اللَّهَ لَا يُحِبُّ } الْكَافِرِينَ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء -بل المرسلون، بل أولو العزم منهم- في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته. (2)
- وقال عند قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا { بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا } تَفَرَّقُوا (3) : أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثا، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". (4)
__________
(1) آل عمران الآية (32).
(2) تفسير ابن كثير (2/25).
(3) آل عمران الآية (103).
(4) انظر تخريجه في مواقف ابن عبدالبر سنة (463هـ).(1/352)
وقد ضمنت لهم العصمة، عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة (فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) (1) .اهـ (2)
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير في ترجمة السيدة نفيسة: وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة -أي سنة ثمان ومئتين- فيما ذكره ابن خلكان قال: ولأهل مصر فيها اعتقاد (أي السيدة نفيسة) .
- قال ابن كثير وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها، وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته. والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات. وأصل عبادة الأصنام من المغالات في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور وطمسها (3) . والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك؛ رحمها الله وأكرمها. (4)
- وقال أيضا وهو يتحدث عن حوادث (سنة تسع وثمانين ومائتين للهجرة): فيها عاثت القرامطة بسواد الكوفة، فظفر بعض العمال بطائفة منهم فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس، فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه ثم قطعتا مع رجليه، ثم قتل وصلب ببغداد.
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) تفسير ابن كثير (2/74).
(3) تقدم تخريجه في مواقف فضالة بن عبيد سنة (53هـ).
(4) البداية والنهاية (10/274).(1/353)
وفيها قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه، فهزموه مرات متعددة، وتفاقم الحال بهم، وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه ابن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبدالله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وزعم لهم أنه قد اتبعه على أمره مائة ألف، وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة. فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ، واتبعه طائفة من بني الأصبغ، وسموا بالفاطميين. وقد بعث إليهم الخليفة جيشا كثيفا فهزموه، ثم اجتازوا بالرصافة فأحرقوا جامعها، ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها، ولم يزل ذلك دأبهم حتى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا، وانتهبوا من أموالها شيئا كثيرا. فإنا لله وإنا إليه راجعون. (1)
- وقال عن الفارابي: وكان حاذقا في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في كامله، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم. (2)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) البداية والنهاية (11/91-92).
(2) البداية والنهاية (11/238).(1/354)
- قال في البداية والنهاية: في يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى، اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق، وهو يسب أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس ولا صلى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس، فأخذوه وإذا قاضى القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس. فجئت إليه واستنطقته، من الذي ظلم آل محمد؟ فقال: أبو بكر الصديق، ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي، واسم هذا اللعين، علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير قبحه الله وأخزاه، ثم لما كان يوم الخميس سابع عشرة، عقد له مجلس بدار السعادة، وحضر القضاة الأربعة، وطلب إلى هنالك فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعا فضرب عنقه تحت القلعة وحرقه العامة وطافوا برأسه البلد، ونادوا عليه هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ناظرت هذا الجاهل بدار القاضي المالكي، وإذا عنده شيء مما يقوله الرافضة الغلاة وقد تلقى عن أصحاب ابن مطهر أشياء في الكفر والزندقة قبحه الله وإياهم. (1)
__________
(1) البداية (14/262).(1/355)
- وقال رحمه الله في الكلام على الروافض العبيديين: وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب، كَأَنْ { لَمْ يَغْنَوْا } فِيهَا (1) . وكان أول من ملك منهم المهدي. وكان من سلمية حدادا اسمه عبيد، وكان يهوديا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي. وقال عن نفسه: إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة، كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم. والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة. ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه. وصار ملكا مطاعا، يظهر الرفض، وينطوي على الكفر المحض، ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبدالمجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبدالله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة. وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضا، ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة.
__________
(1) هود الآية (95).(1/356)
وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة -كما سيأتي- وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكة وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكيا، وجميع ما والى ذلك إلى بلاد إياس وسيس. واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين، وبلاد شتى غير ذلك. وقتلوا من المسلمين خلقا وأُمَماً لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف. وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم. وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم، أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته. وقد قال الشاعر المعروف عرقلة:
أصبح الملك بعد آل علي ... مشرقا بالملوك من آل شادي
وغدا الشرق يحسد الغر ... ب للقوم فمصر تزهو على بغداد
ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفولاذ في الأكباد
لا كفرعون والعزيز ومن ... كان بها كالخطيب والأستاذ
قال أبو شامة: يعني بالأستاذ كافور الإخشيدي، وقوله: آل علي، يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدا وكان يهوديا حدادا بسلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم.(1/357)
قال: وقد استقصيت الكلام في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبدالرحمن بن إلياس، ثم ذكر في الروضتين في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم.
قال أبو شامة: وقد أفردت كتابا سميته: 'كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد'. وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة من أجل ما وضع في ذلك: كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي سماه: 'كشف الأسرار وهتك الأستار'. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر:
أبدتم من بنى دولة الكفر من ... بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل ليستروا سابور عمهم الجهل (1)
يسرون كفرا، يظهرون تشيعا
" التعليق:
انظر حمانا الله وإياك من الرفض وأهله كيف كانت مواقف سلفنا الصالح معهم، هل كانت المسالمة والصمت الدائم، أو الذوبان في أحضانهم والتصفيق والتطبيل لهم في كل صغيرة وكبيرة، وادعاء أن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين الحنفي والشافعي، والتقارب بيننا وبينهم واجب، أو كان هؤلاء الفحول الأخيار لا يفهمون الرافضة، أو كانوا مؤجرين من قبل أحد حتى يتكلموا بلسانه وعقليته وشهوته على حسب ما يريد؟!
أم هو الصمود والوقوف في وجوه هؤلاء الكفرة الملاحدة بالسيف واللسان والقلب والجنان والكتاب والتعبير الصادق، كشف كامل لحقيقة الرافضة نسبا وسلالة؟! ولا التفات لما قاله عبدالرحمن بن خلدون والمقريزي، فهذه من سقطاتهم، وقد عاب عليهم جميع المؤرخين، وتعجبوا من حالهم. وفق الله أهل العلم في هذا الزمان للائتساء بسلفهم في كل صغير وكبير.
__________
(1) البداية والنهاية (12/286-288).(1/358)
وقال أيضا: وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ، وكتبوا أيضا: ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر، ومن أخرج العباس من الشورى، يعنون عمر، ومن نفى أبا ذر -يعنون عثمان- رضي الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده يعنون مروان بن الحكم، ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين، والتصريح باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لاجرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآبائهم وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع، والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء. (1)
__________
(1) البداية (11/256-257).(1/359)
- وفيها: وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية (1) ، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه. وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر؛ ومن زاد في هذا الحديث بعد "تقتلك الفئة الباغية": "لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة" فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم. وأما قوله: "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة. وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم. (2)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).
(2) البداية (3/216).(1/360)
- وفيها: وفي الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه. قال: خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال: "من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله وهذه الصحيفة -لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات- فقد كذب". وفيها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" (1) . وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ورسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتأتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام.
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/119) مختصراً. البخاري (13/341-342/7300) ومسلم (2/1147/1370) وأبو داود (2/529-530/2034) والترمذي (4/381-382-2127) والنسائي (8/387-388/4748) وابن ماجه (2/887/2658) مختصراً.(1/361)
ثم لو كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه نص فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم، فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال وافتراء وجهل وضلال. وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغتربين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذا بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان رحيم رحمن. (1)
__________
(1) البداية (5/221).(1/362)
- وفيها: وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه، فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" (1) وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث، كما خفي على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخبرتهن عائشة بذلك ووافقتها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها علمت أنها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريبا. ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك، وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصديق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثا أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو يرى أن فرضا عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويلي ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمرا كان يصنعه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا صنعته"، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الفشيديزجي سنة (424هـ).(1/363)
وهذا الهجران والحالة هذه فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا، وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. (1)
- وفيها قال ابن كثير: وما يتوهمه بعض العوام، بل هو مشهور بين كثير منهم، أن عليا هو الساقي على الحوض، فليس له أصل ولم يجئ من طريق مرضي يعتمد عليه، والذي ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يسقي الناس. وهكذا الحديث الوارد في أنه (ليس أحد يأتي يوم القيامة راكبا إلا أربعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البراق، وصالح على ناقته، وحمزة على العضباء، وعلي على ناقة من فوق الجنة رافعا صوته بالتهليل)، وكذلك (ما في أفواه الناس من اليمين بعلي يقول أحدهم: خذ بعلي، أعطني بعلي)، ونحو ذلك، كل ذلك لا أصل له بل ذلك من نزعات الروافض ومقالاتهم، ولا يصح من شيء من الوجوه، وهو من وضع الرافضة، ويخشى على من اعتاد ذلك سلب الإيمان عند الموت، ومن حلف بغير الله فقد أشرك. (2)
__________
(1) البداية (5/250).
(2) البداية (7/368-369).(1/364)
وفيها: وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء لَيْلَتَئِذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانا. ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم.
وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.(1/365)
وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه (1) وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاث المتقدم ذكرها، فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.
فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه. وليس كل ذلك الجيش كان راضيا بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك. وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك، والله أعلم.
__________
(1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عرفجة: "إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان". وفي رواية: "من أتاكم، وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه". رواه أحمد (5/24) ومسلم (3/1479-1480/1852) وأبو داود (5/120/4762) والنسائي (7/106-108/4032 و4033 و4034).(1/366)
فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين؛ ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك. (1)
__________
(1) البداية (8/204-205).(1/367)
- وفيها: ففيها -أي سنة اثنتين وعشرين ومائة- كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك. فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره -وهو بالحيرة يومئذ- خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذا؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل. فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية، وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبهم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة. (1)
__________
(1) البداية (9/342).(1/368)
- وفيها: إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة -أي بالدور- قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا. فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري.
وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره. قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما. وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد اسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا. ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم. (1)
- وفيها: وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرا، وليس له وجود، ولا عين، ولا أثر، بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبدالعزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الاثني عشر. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين: أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن، وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع، وهو الفلك الأثير، ويقال: الأطلس. وقد رد ذلك عليهم آخرون.
__________
(1) البداية (10/179).
(2) البداية (6/254).(1/369)
- وروى ابن جرير من طريق جويبر، عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش. والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبدالله ابن خليفة، عن عمر في ذلك، وعندي في صحته نظر، والله أعلم... وهذه الآيات (1) وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت، من غير تكييف ولا تشبيه. (2)
- وقال في البداية: وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليست في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا، فإنه إنما يقال استوى على الشيء: إذا كان ذلك الشيء عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء عبدالملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نَفَسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم. (3)
__________
(1) يعني آية الكرسي.
(2) تفسير القرآن العظيم (1/458-459).
(3) البداية والنهاية (9/273).(1/370)
- وقال أيضا: وفيها -أي سنة إحدى وثلاثين ومائتين- قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، فأجابوا إلا أربعة، فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة. وأمر الواثق أيضا بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة؛ فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء، شنعاء عمياء صماء، لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها كما هو مقرر في موضعه. وبالله المستعان. (1)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) البداية والنهاية (10/320).(1/371)
- قال رحمه الله في البداية والنهاية: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: قُلْ { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ ¾دmح !$s)د9ur فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (105) (1) والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها. ويكون اجتماعهم عليها.
__________
(1) لكهف الآيات (103-105).(1/372)
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السماوات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك؟ فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان. (1)
- وفيها: إن قال قائل: كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم؟ فجوابه من وجوه:
__________
(1) البداية (7/296-297).(1/373)
أحدها: أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة. وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع والله أعلم.
الثاني: أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد، عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية.
الثالث: أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم.(1/374)
الرابع: أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان - رضي الله عنه - ، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان - رضي الله عنه - ، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجيء الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان - رضي الله عنه - ، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم. (1)
- موقفه من عبدالرحمن بن الأشعث ومن بايع له:
قال رحمه الله: والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك، ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة الذي دعا إلى ذلك أولا ثم رجع عنه، كما قررنا ذلك فيما تقدم، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه وهو من صلبية قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟! ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (2)
موقفه من القدرية:
__________
(1) البداية (7/206-207).
(2) البداية والنهاية (9/57-58).(1/375)
قال رحمه الله في تفسيره: وقوله: إِنَّا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } بِقَدَرٍ (1) كقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ } تَقْدِيرًا (2) وكقوله تعالى: سَبِّحِ { اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ } فَهَدَى (3) أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل تبرمها. وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة. وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه الله. (4)
جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد السرمرِي (5) (776 هـ)
الشيخ الإمام العلامة الحافظ ذو الفنون البديعة والمصنفات النافعة، جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد العبادي ثم العقيلي السرمري نزيل دمشق الحنبلي. ولد في رجب سنة ست وتسعين وستمائة بسر من رأى، وتفقه ببغداد على الشيخ صفي الدين عبدالمؤمن وغيره، ثم قدم دمشق وتوفي بها.
من تصانيفه: 'نظم مختصر ابن رزين في الفقه' و'نظم الغريب في علوم الحديث' لأبيه. قال ابن حجي: رأيت بخطه ما صورته: مؤلفاتي تزيد على مائة مصنف كبار وصغار في بضعة وعشرين علما. أخذ عنه ابن رافع مع تقدمه عليه وحدث عنه.
توفي في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعمائة بدمشق رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الرد الوافر: ومن مؤلفاته النظامية، كتاب 'الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية'. (6)
__________
(1) القمر الآية (49).
(2) الفرقان الآية (2).
(3) الأعلى الآيات (1-3).
(4) تفسير القرآن العظيم (4/269).
(5) الرد الوافر (ص.216) والشذرات (6/249) والدر المنضد (2/554-555) والسحب الوابلة (3/1181-1188).
(6) الرد الوافر (216).(1/376)
موقفه من الرافضة:
من تصانيفه: 'غيث السحابة في فضل الصحابة'.
الكرماني محمد بن يوسف (1) (786 هـ)
محمد بن يوسف بن علي الكرماني ثم البغدادي. ولد في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة. وأخذ عن أبيه بهاء الدين وجماعة ببلده، ثم ارتحل إلى شيراز فأخذ عن القاضي عضد الدين ولازمه اثنتي عشرة سنة حتى قرأ عليه تصانيفه، ثم حج واستوطن بغداد ودخل الشام ومصر. وشرح البخاري، وسمعه بالجامع الأزهر من لفظ المحدث ناصر الدين الفارقي.. وسمى شرحه بالكواكب الدراري. سمع منه جماعة منهم القاضي محب الدين البغدادي وولده يحيى الكرماني. وصنف في العربية وغيرها. قال الشيخ شهاب الدين بن حجي: تصدى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة، وكان مقبلا على شأنه لا يتردد إلى أبناء الدنيا، قانعا باليسير، ملازما للعلم مع التواضع والبر بأهل العلم.
توفي رحمه الله تعالى راجعا من الحج في المحرم سنة ست وثمانين وسبعمائة.
موقفه من القدرية:
قال عقب ترجمة البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: فَلَا { تَجْعَلُوا لِلَّهِ } أَنْدَادًا (2) : المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر عليه، وتضمن الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلا، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله تعالى فيها، والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر بل أمر بين أمرين. (3)
أبو إسحاق الشاطبي (4) (790 هـ)
__________
(1) الدرر الكامنة (4/310-311) وشذرات الذهب (6/294).
(2) البقرة الآية (22).
(3) الفتح (13/491).
(4) معجم المؤلفين (1/118) والأعلام (1/75) وشجرة النور الزكية (1/231) وفهرس الفهارس (1/191).(1/377)
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بالشاطبي. أصولي حافظ محدث، لغوي مفسر مع الصلاح والعفة، والورع واتباع السنة واجتناب البدع. قيل ولد سنة عشرين وسبعمائة. نشأ بغرناطة، وأخذ عن أئمة منهم: ابن الفخار وأبو عبدالله البلنسي وأبو القاسم الشريف السبتي وأبو عبدالله الشريف التلمساني والإمام المقري وعدة. وعنه أبو بكر بن عاصم، وأخوه أبو يحيى محمد بن عاصم، وأبو عبدالله محمد البياني. كان رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها. قال أحمد التنبكتي: الإمام العلامة المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليا، مفسرا، فقيها، محدثا، لغويا... من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون، من التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشتهر. وقال أيضا: كان ثبتا ورعا صالحا زاهدا سنيا إماما مطلقا، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع. وقال محمد مخلوف: العلامة المؤلف المحقق النظار، أحد الجهابذة الأخيار، وكان له القدم الراسخ في سائر الفنون والمعارف. له تآليف نفيسة منها: 'الاعتصام' و'الموافقات' و'المجالس' شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري و'الإفادات والإنشاءات' وغيرها. توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:(1/378)
له من الآثار السلفية: كتاب 'الاعتصام' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. لم تر العين مثله في مناقشة البدع والمبتدعة، وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك. وهو مع الأسف لم يتمه صاحبه، وقد أتمَّه أحد علماء اليمن، فلعلنا نظفر بالتتمة، وهو كغيره من الكتب، قد تقع فيه بعض الهفوات، وكان ينبغي أن يكون على علم بهذه الأمور، فقد جعل إثبات الصفات لله رب العالمين من البدع، قال ما لفظه: ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب، المنزه عن النقائص، من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات.
ولعل العذر للشيخ أنه لم يفهم تفاصيل مذهب السلف في إثبات الصفات لله رب العالمين، فوقع في هذا الخلط وهذه التعابير المشينة. والله المستعان.
والكتاب مطبوع متداول غصة في حلق المبتدعة حتى إنهم بدؤوا يؤلفون بعض الكتب الركيكة السمجة ويسمونها بأسماء، كصاحب 'إتقان الصنعة في تعريف البدعة' (1) وهو أحق أن يسمى كتاب: 'الدعوة إلى البدعة' وكل ما فيه غث ليس فيه شيء من العلم، وإنما هو سباب وشتم وتنقيص من مكانة العلماء ومحاولة جعل الصحابة من كبار المبتدعة، وحاشاهم من ذلك. وتعرض لهذا الكتاب -الاعتصام- بنقد بارد لا يدل على إنصاف ولا علم.
وكذلك: "عزت" الذي ألف كتاب البدعة وصار له رواج في الأسواق، وهو أحق كذلك أن يسمى: الدعوة إلى بعض البدع، كالمولد وغيره، وقد أشاد بكتابه حتى جعل من قرأ المقدمة يشعر وكأنه حصل على علم لم يسبق به، وجعل الاعتصام بالمقارنة مع كتابه لا يساوي شيئا والله المستعان.
ومن أقوال الإمام الشاطبي رحمه الله في نصر السنة وذم البدعة:
- قال في الاعتصام: ثم استمر مزيد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم...
__________
(1) لعبدالله بن الصديق الغماري.(1/379)
إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة، كبدعة القدر، وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم" (1) ، يعني: لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر، كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول الله، وهذا كله في آخر عهد الصحابة.
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (2) .
وفي الحديث الآخر: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم". قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟. قال: "فمن؟" (3) .
وهذا أعم من الأول، فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء، وهذا الثاني عام في المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله: "حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم".
وكل صاحب مخالفة، فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحض سواه عليها، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين. (4)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(3) انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(4) الاعتصام (1/28-29).(1/380)
- وقال فيه أيضا: وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل، لقوله تعالى: وَمَا { أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ } بِمُؤْمِنِينَ (1) ، وقوله تعالى: وَقَلِيلٌ { مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (13) (2) ، ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة، طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال؛ ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعا، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم. (3)
__________
(1) يوسف الآية (103).
(2) سبأ الآية (13).
(3) الاعتصام (1/30-31).(1/381)
- وقال أيضا: ومن الآيات قوله تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (153) (1) . فالصراط المستقيم: هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة. والسبل: هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم، وهم أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبدالله، قال: "خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما -وخط لنا سليمان- خطا طويلا، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا } السُّبُلَ -يعني: الخطوط- فَتَفَرَّقَ { بِكُمْ عَنْ } سَبِيلِهِ (2) ".اهـ (3)
- وقال عقب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه (4) : فقرن عليه السلام -كما ترى- سنة الخلفاء الراشدين بسنته، وأن من اتباع سنته اتباع سنتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليس منها في شيء، لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه: إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنته - صلى الله عليه وسلم - في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله، لا زائد على ذلك. (5)
__________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(3) الاعتصام (1/75-76).
(4) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(5) الاعتصام (1/118).(1/382)
- وقال: والشواهد في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين، وَتَحْسَبُونَهُ { هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } (1) .اهـ (2)
- وقال: فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين، فخان. قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتي من ليس بعالم، فضل وأضل. (3)
- وقال: إن الإحداث في الشريعة إنما يقع: إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة. (4)
- وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل.
ولنذكر لذلك عشرة أمثلة: (فذكرها تِبَاعاً فمنها قوله):
والعاشر: رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع، إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال، وما توفيقي إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره.
ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم، علم ذلك علما يقينا. (5)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) النور الآية (15).
(2) الاعتصام (2/537).
(3) الاعتصام (2/680).
(4) الاعتصام (2/804).
(5) الاعتصام (2/863-872) باختصار.(1/383)
- جاء في الموافقات: وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال، وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا، وسارعوا إلى الصالحات فما لُحِقوا، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان، فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب، فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب؟ رضي الله عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (1)
- وفيها: ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على عليّ أنه الخليفة بعده، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء. (2)
__________
(1) الموافقات (1/7).
(2) الموافقات (3/281).(1/384)
- وفيها: وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح، فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: إِذَا { جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } وَالْفَتْحُ (1) . قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى: فبدل قوله: كُنْتُمْ { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } لِلنَّاسِ (2) بقوله: كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا، لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، وَرَأَيْتَ { النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) } فَسَبِّحْ (3) الآية فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله؟. (4)
- وقال خلال سرده لأدلة الرجوع إلى سنة الصحابة رضي الله عنهم:
الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة. (5)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) النصر الآية (1).
(2) آل عمران الآية (110).
(3) النصر الآية (2).
(4) الموافقات (4/226-227).
(5) الموافقات (4/462-463).(1/385)
جاء في المعيار المعرب: وسئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي عن حال طائفة ينتمون إلى التصوف والفقر، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى الغنا والضرب بالأكف والشطح هكذا إلى آخر الليل، ويأكلون في أثناء ذلك طعاما يعده لهم صاحب المنزل، ويحضر معهم بعض الفقهاء، فإذا تكلم معهم في أفعالهم تلك يقولون: لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرمة شرعا لما حضرها الفقهاء.
فأجاب بما نصه:
الحمد لله كما يجب لجلاله، والصلاة على محمد وعلى آله. سألت وفقني الله وإياك عن قوم يتسمون بالفقراء، يجتمعون في بعض الليالي، ويأخذون في الذكر، ثم في الغناء والضرب بالأكف والشطح إلى آخر الليل. وأن اجتماعهم على إمامين من أيمة ذلك الموضع يتوسمان بوسم الشيوخ في تلك الطريقة، وذكرت أن كل من يجزر عن ذلك الفعل، يحتج بحضور الفقهاء معهم، ولو كان حراما أو مكروها لم يحضروا معهم.(1/386)
والجواب والله الموفق للصواب: إن اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم، ولا عرف ذلك قط في شريعة محمد عليه السلام، بل هو من البدع التي سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلالة، وهي مردودة. ففي الصحيح أنه عليه السلام قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" (1) . يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول. وفي رواية "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو مردود" (2) وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (3) . وفي رواية "وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار". وهذا الحديث يدل على أن صاحب البدعة في النار. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وعن الحسن البصري أنه سئل وقيل له: ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربنا، ونصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين. قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين. وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح، فليس من الدين، فقد كانوا أحرص على الخير من هؤلاء، ولو كان فيه خير لفعلوه. وقد قال تعالى: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (4) .
__________
(1) أحمد (6/240) والبخاري (5/377/2697) ومسلم (3/1343/1718) وأبو داود (5/12/4606) وابن ماجه (1/7/14) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (6/180) ومسلم (3/1343-1344/1718(18)).
(3) أحمد (3/310-311) ومسلم (2/592/867) والنسائي (3/209-210/1577) وابن ماجه (1/17/45) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(4) المائدة الآية (3).(1/387)
قال مالك بن أنس: فما لم يكن يومئذ دينا لم يكن اليوم دينا. وإنما يعبد الله بما شرع. وهذا الاجتماع لم يكن مشروعا قط فلا يصح أن يعبد الله به. وأما الغنا والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح. فعن الضحاك: الغنا مفسدة للقلب مسخطة للرب. وقال المحاسبي: الغنا حرام كالميتة.
وسئل مالك بن أنس عن الغنا الذي يفعل بالمدينة، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وهذا محمول على غنا النساء. وأما الرجال فغناؤهم مذموم أيضا، بحيث إذا داوم أحد على فعله أو سماعه سقطت عدالته لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف. حكى عياض عن التنيسي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله. فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبدالله عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرا، ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون، فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ، وغير ذلك عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أحدا من أهل السلام (1) يفعل هذا.
انظر كيف أنكر مالك وهو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا وصبيا!! فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام ثم يقال: ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبي لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة، وترك هدى أهل الإسلام وأرباب العقول، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتعبد به. وأن فاعله أفضل من تاركه. هذا أدهى وأمر، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة، وذلك من أعظم البدع المحرمات، الموقعة في الضلالة، الموجبة للنار والعياذ بالله.
وأما ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا من ذلك. وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادح في عدالتهما فلا يصلى خلف واحد منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك، ويظهر عليما أثر التوبة، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء.
__________
(1) هكذا في الأصل ولعله: الإسلام.(1/388)
وعلى الجملة، فواجب على من كان قادرا على تغيير ذلك المنكر الفاحش، القيام بتغيره وإخماد نار الفتنة، فإن البدع في الدين هلاك. وهي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله. والسلام على من يقف على هذا من كاتبه: إبراهيم الشاطبي. (1) اهـ
الملك الهندي فيروز (2) (790 هـ)
أبو المظفر فيروز شاه بن رجب من أسرة آل تغلق. تولى -باتفاق الأمراء- بعد وفاة ابن عمه محمد شاه، وكان في بلاد السند فقدم إلى دهلي (3) ، واستقل بالملك. كان من خيار السلاطين ومن كبار المصلحين، بنى المساجد والمدارس والمستشفيات وأقام الحصون. ومن المساجد التي عمرها مسجد كبير في دهلي. ومن مدارسه المدرسة الفيروزشاهية، كما أسس مدينة فيروزأباد ومدينة كابنور. واستمر حكمه حتى عام تسعين وسبعمائة رحمه الله تعالى.
كان هذا الملك من خيرة ملوك الهند سيرة وعقيدة ووعيا للإسلام، وأكثر الملوك تفهما. ذكر مسعود الندوي في تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند أن له كتابا بين فيه خطته وأعماله التي سار عليها إلا أن عليه ملاحظات وقعت له بسبب الجهل. ويهمنا أن نذكر له بعض المواقف الطيبة التي توافق أهداف العقيدة السلفية.
موقفه من الزنادقة والمشركين:
__________
(1) المعيار المعرب (11/39-42).
(2) التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر (7/229).
(3) كذا في الأصل ولعله: دلْهي.(1/389)
جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند'، قال: سادساً: ظهرت فئة من الإباحية والملاحدة تدعو الناس إلى الزندقة والإلحاد، وكان ديدنهم أن يجتمعوا في الليالي ويتعاطوا الخمور ويحسبونها تعبداً منهم. وكانوا يأتون فيها بأمهاتهم وأخواتهم ونسائهم، يهتكون فيها أعراضهن ويتجاسرون على اقتراف الكبائر الشنيعة، ولا يفرقون في ذلك بين المحرمات والمحصنات، وإنما يباشر الرجل منهم كل من وصلت يده إليهن من النساء المحتشدة في تلك الأندية والليالي. فأمرنا بضرب أعناق رؤوسهم وشياطينهم وعاقبنا الآخرين بالحبس والجلاء وأنواع أخرى من التعذيب حتى لم تبق لهم عين ولا أثر.
سابعاً: نبتت جماعة من الملاحدة تظاهرت بالتقشف والزهد في الدنيا، وكان على رأسهم رجل اسمه أحمد البهاري، يدعي الألوهية وتبعه على ذلك عدد غير قليل من مريديه ...
فلما تحققنا من خبرهم وعرفنا من أمرهم ما صاروا إليه أخذنا رؤساءهم بذلك وجزيناهم بما يستحقونه من الحبس والتعذيب، وشردنا أتباعهم في البلاد كل مشرد حتى يتخلص العباد من شرهم ويكونوا في مأمن من ضلالاتهم.
ثامناً: رجل ادعى النبوءة وتلقب بالمهدي في دلهي، فتبعه خلق كثير واستفحل أمره وعظم شره حتى جيء به إلينا، فاعترف بالإثم غير هياب ولا وجل فأمرنا بقتله وقتل كل من يقتفي أثره وتقطيع لحومهم وأجسادهم إرباً إرباً. وبذلك جعلناهم مثلاً لكل من ينفخ في أوداجه شيطان الغرور فيجترئ على الزندقة والإلحاد والدعوة إليهما.
فانطفأت جذوة الشر ونجا الناس من ضلالاتهم. فالحمد لله الذي تفضل علي بنعمته أن وفقني لمقاومة تيار الشرور واجتثاث شجر البدع والمنكرات وهداني إلى إحياء السنن السنية. فمن استحسن هذه الطريقة واختار لنفسه هذه الجادة المستقيمة فليخترها وليؤثرها على غيرها. وإني أرجو بذلك حسن الجزاء في الدار الآخرة.(1/390)
فإن الدال على الخير كفاعله "ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من سار عليها من بعده" كما ورد في الحديث (1) .اهـ (2)
موقفه من الرافضة:
جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند' عند سرده لأعماله، قال: خامسا: شرعت الروافض في نشر عقائدها الباطلة ودعوة الناس إليها، واستعانوا في مهمتهم الواهية هذه بتأليف كتب ورسائل. وكذلك تجرأوا على إطالة لسان القدح في الخلفاء الراشدين وعائشة الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنهم، والطعن في سائر علمائنا ومشايخنا وقذفهم بالسباب المقذع الموجع، وغيرهما من أفعالهم الشنيعة التي يندى لها جبين المروءة والإنسانية ... فأخذناهم بأعمالهم المنكرة أخذا، وعاقبناهم عقابا، وأمرنا بإحراق كتبهم على مرأى من الناس ومسمع حتى انعدمت هذه الطائفة عن بكرة أبيها. (3)
موقفه من الصوفية:
جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند'، قال: تاسعاً: رجل من المتصوفة في كجرات اشتهر "بالشيخ" بين أتباعه ومريديه، وانخدعت نفسه بترهات الصوفية الوجودية، وجعل يجاهر بكلمات هي للكفر أقرب منها للإيمان.
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/357) ومسلم (4/2059-2060/2674) والترمذي (5/42-43/2675) والنسائي (5/79-80/2553) وابن ماجه (1/74/203) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه.
(2) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.33-35).
(3) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.33).(1/391)
وبلغ من سفاهة رأيه وعدم تضلعه في تعاليم الدين أن يقول كلمة "أن الحق" ويشير على مريديه أن يقولوا: "أنت أنت" كلما خرجت من فيه هذه الكلمة "أن الحق" وأيضاً كان يقول: "أن الملك الذي لا يموت"، وكذلك ألف رسالة كلها كفر وزندقة. فأمرنا، فأتي به إلينا مقيداً بالسلاسل. ولما تحققنا من ضلالته ودعوته الناس إليها، ولم يبق عندنا في ذلك أدنى شك عاقبناه بما يستحقه، وأمرنا بإحراق كتابه الذي ملأه كفراً وضلالاً حتى اندفع هذا الشر أيضاً، وأصبح المسلمون والمؤمنون بتوحيد الله عز وجل في مأمن من هذه الفتنة العمياء.
هذا برض من عد، وغيض من فيض من ترهات المتصوفة الوجودية، وأقاويلهم الباطلة المعادية للكتاب العزيز والسنة النبوية، اطلع عليه فيروز تغلق فكبح جماحه وأراد أن يقضي عليه قضاء لا حياة بعده.
لكن فتنة "وحدة الوجود" وما ينشأ عنها من الضلالات، كانت قد عمت البلاد وقتئذ واستولت على قلوب المتصوفة، وأخذت بمجامع ألبابهم ورسخت في أذهانهم أي رسوخ. وما كان اضطهاد رجل واحد منهم وعقابه ليهدأ من ثائر هذه الفتنة أو يفل من حدها. إلا أن فيروز تغلق ومن نحا نحوه من الأمراء والملوك مجزيون على أعمالهم ونياتهم، سواء نجحوا في مهمتهم أو لم ينجحوا. (1)
" التعليق:
جزى الله هذا الملك خيرا على هذه المواقف، ما أحسن ما عمل مع هؤلاء الملاحدة الذين كان ضررهم على الأمة بالغا. فعسى الله أن يرزق المسلمين أمثال هؤلاء الأبطال.
ابن أبي العز الحنفي (2) (792 هـ)
الإمام العلامة صدر الدين، أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن محمد، المعروف بابن أبي العز، الأذرعي الأصل، الدمشقي الصالحي الحنفي. ولد في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة.
__________
(1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.35-36).
(2) إنباء الغمر (3/50) وشذرات الذهب (6/326) وهدية العارفين (1/726) وكشف الظنون (ص.1143).(1/392)
نشأ في ظل أسرة كان لها علو شأن في مجال العلم والدعوة، متزعمة للمذهب الحنفي في دمشق، فأبوه هو القاضي علاء الدين علي بن أبي العز الحنفي، خطيب جامع الأفرم، وجده هو القاضي شمس الدين أبو عبدالله محمد بن محمد بن أبي العز، كان من مشايخ الحنفية وأئمتهم، وهو أول من خطب بجامع الأفرم ودرس بالمعظمية والقليجية والظاهرية، وكذا أبو جده محمد بن أبي العز، كان مدرسا بالمرشدية، وكان فيه صلاح.
أما عن مشايخه، فالمتتبع لكتاب 'شرح العقيدة الطحاوية' يجده كثير النقول عن الأئمة السلفيين كالإمام ابن القيم وشيخه ابن تيمية وكذا ابن كثير، وقد وصف هذا الأخير بأنه شيخه في أكثر من موضع من شرحه.
له عدة مؤلفات منها: 'شرحه على العقيدة الطحاوية' و'التنبيه على مشكلات الهداية' و'النور اللامع في ما يعمل به في الجامع' و'رسالة في الاتباع' وغيرها.
امتحن رحمه الله في أواخر حياته، عندما اعترض على ابن أيبك الشاعر الذي مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصيدة لامية على وزن "بانت سعاد" فأنكر أمورا: منها التوسل به والقدح في عصمته وغير ذلك، فرفع الأمر إلى السلطان، وعقد له عدة مجالس مع فقهاء عصره، وسئل عما أراد بما كتب فقال: ما أردت إلا تعظيم جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتثال أمره، فحكم بحبسه. فبقي رحمه الله بعد هذه الواقعة ملازما بيته إلى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة للهجرة، حيث أعيد إلى وظائفه بأمر من الأمير سيف الدين، فخطب بجامع الأفرم ودرس بالجوهرية.
وفي سنة ثنتين وتسعيين وسبعمائة توفي الشيخ رحمه الله رحمة واسعة، ودفن بسفح قاسيون.
موقفه من المبتدعة:(1/393)
قال رحمه الله في 'الاتباع': الواجب في مسائل النزاع الرد إلى الله والرسول؛ قال الله سبحانه: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (1) . والرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. وأهل التقليد لا يفعلون ذلك، بل يأخذ أحدهم بما يجد في كتب أصحاب ذلك الإمام الذي قلده، ولا يلتفت إلى قول من خالفه كائنا من كان. ونص ذلك الإمام والكتب عنده بمنزلة نص الشارع. وكثيرا ما يكون ذلك النص من كلام بعض الأصحاب في الفتاوى، ولم يكن لذلك الإمام في تلك المسألة قول منقول. (2)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله شارحا قول الإمام الطحاوي: ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليه السلام ...
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) ص.20).(1/394)
يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع. فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } جَاءُوكَ إلى أن قال: وَيُسَلِّمُوا { تَسْلِيمًا } (65) وقال تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (31) (1) . قال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه. والأمر كما قال: فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شبيه بقول الذين قالوا: قَالُوا { لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ } رِسَالَتَهُ (2)
__________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) الأنعام الآية (124)..(1/395)
وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت اليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء! ومنهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء! ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء! ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله! وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن اعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتا للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق، كابن عربي وأمثاله! وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل الى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها كما قال:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
وهذا قلب للشريعة، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين كما قال تعالى: أَلَا { إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (63) (1) والنبوة أخص من الولاية، والرسالة أخص من النبوة. (2)
__________
(1) يونس الآيتان (62و63).
(2) شرح الطحاوية (ص 492-493).(1/396)
- وقال رحمه الله: ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل وما خالفها رد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) فلا طريقة إلا طريقة الرسول، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا. ومن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ملتزما لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمنا، فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل! فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة الى سخطه وعذابه. (2)
موقفه من الخوارج:
قال رحمه الله في شرحه على العقيدة الطحاوية: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.
- ... يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم. فالناس فيه، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم، على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
__________
(1) تقدم تخريجها في مواقف الشاطبي سنة (790هـ).
(2) شرح الطحاوية (ص507).(1/397)
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، فتنفي التكفير نفيا عاما، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كافرا مرتدا. والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة، بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا { رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ } غَيْرِهِ (1) ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم. والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله اعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: ما لم يستحله، وفي قوله: ما لم يستحله، إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية. وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع. إلا أن يضمن قوله: يستحله، بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك. (2)
__________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) ص.316-317).(1/398)
وقال: فقوله: وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، رد لقول الخوارج والمعتزلة، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. (1)
__________
(1) شرح الطحاوية (ص.370).(1/399)
- وقال: فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: #qمèدغr& { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) كيف قال: وَأَطِيعُوا { } الرَّسُولَ ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله. وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله. وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى: وَمَا { أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ } كَثِيرٍ (2) وقال تعالى: أَوَلَمَّا { أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ } أَنْفُسِكُمْ (3) وقال تعالى: مَا { أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ } نَفْسِكَ (4) وقال تعالى: وَكَذَلِكَ { نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (129) (5) فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم. (6)
موقفه من المرجئة:
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) الشورى الآية (30).
(3) آل عمران الآية (165).
(4) النساء الآية (79).
(5) الأنعام الآية (129).
(6) المصدر نفسه (ص.381).(1/400)
قال رحمه الله: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرّامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحدُ رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: قَالَ { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } tچح !$|ءt/ (1) . وقال تعالى: وَجَحَدُوا { بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (14) (2) . وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:
ولقد علمتُ بأن دين محمد لولا الملامة أو حذار مسبَّة ... من خير أديان البرية دينا
لوجدتَني سمحاً بذاك مبينا
__________
(1) الإسراء الآية (102).
(2) النمل الآية (14).(1/401)
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قَالَ { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (36) (1) . قَالَ { رَبِّ بِمَا } أَغْوَيْتَنِي (2) . قَالَ { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } (82) (3) . والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر، بتفاصيل وقيود، أعرضتُ عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في 'تبصرة الأدلة' وغيره. (4)
وقال أيضاً: ...ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يُعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان؟ أم الإيمان أحدُهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع. وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان مَن قال: لما كان الإيمان شيئا واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلوّ منه. فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده. (5)
__________
(1) الحجر الآية (36).
(2) الحجر الآية (39).
(3) ص الآية (82).
(4) شرح الطحاوية (ص.332-333).
(5) شرح الطحاوية (333-334).(1/402)
وقال رحمه الله: وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليس المخبر كالمعايِن" (1) وموسى عليه السلام لما أخبِر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر، وإن جزم بصدق المخبِر، فقد لا يتصور المخبَر به نفسه، كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه: رَبِّ { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ } قَلْبِي (2) . وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمِر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يُسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمِروا به من الإيمان. ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة: لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية، فيغيبُ عنه التصديق والوعيد فيعصي.
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/215-271) والحاكم (2/321) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان (14/96/6213) من حديث ابن عباس.
(2) البقرة الآية (260).(1/403)
ولهذا -والله أعلم- قال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، الحديث (1) . فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده. فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: إِن { الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } (201) (2) . قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يَهُمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع. ثم قال تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } (202) (3) ، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيِّه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب، بما يغشاه من رَيْن الذنوب، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وجاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا زنا العبد نُزع منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه". (4)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) الأعراف الآية (201).
(3) الأعراف الآية (202).
(4) أخرجه: أبو داود (5/66/4690) والحاكم (1/22) من حديث أبي هريرة وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وصححه أيضاً الحافظ في الفتح (12/72).(1/404)
إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً، فلا محذور فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي. وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعا. (1)
__________
(1) شرح الطحاوية (ص.335).(1/405)
وقال أيضاً: والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جدا منها: قوله تعالى: وَإِذَا { تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ } إِيمَانًا (1) . وَيَزِيدُ { اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا } هُدًى (2) . وَيَزْدَادَ { الَّذِينَ آَمَنُوا } إِيمَانًا (3) . هُوَ { الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ } إِيمَانِهِمْ (4) . الَّذِينَ { قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ } الْوَكِيلُ (5) . وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: قَدْ { جَمَعُوا لَكُمْ } فَاخْشَوْهُمْ زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا إيماناً ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: هُمْ { لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ } لِلْإِيمَانِ (6) . وقال تعالى: وَإِذَا { مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } (125) (7) ...
وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، النساء بنقصان العقل والدين (8) .
__________
(1) الأنفال الآية (2).
(2) مريم الآية (76).
(3) المدثر الآية (31).
(4) الفتح الآية (4).
(5) آل عمران الآية (173).
(6) آل عمران الآية (167).
(7) التوبة الآيتان (124 و125).
(8) أخرجه: البخاري (1/534/304) ومسلم (1/87/80) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم.(1/406)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (1) . والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شُعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السموات والأرض سواء؟! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضا. منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "من فِقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فِقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص" (2) ، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزدد إيماناً"، فيذكرون الله تعالى عز وجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً" (3) . وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة" (4) . ومثله عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم" ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه (5) . وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق. (6)
عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (7) (795 هـ)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (728هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقفه سنة (32هـ).
(3) تقدم ضمن مواقفه سنة (32هـ).
(4) تقدم ضمن مواقفه سنة (18هـ).
(5) تقدم ضمن مواقفه سنة (37هـ). تخرج الموقوف منه أما المرفوع متقدم ضمن مواقف ابن القيم سنة (751هـ).
(6) شرح الطحاوية (ص.342-344).
(7) الدرر الكامنة (2/321) والبدر الطالع (1/328) وإنباء الغمر بأبناء العمر (3/175-176) وشذرات الذهب (6/339) والأعلام (3/295) والرد الوافر (106) والسحب الوابلة (2/474-476).(1/407)
عبدالرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي، الشيخ المحدث الحافظ الشهير بابن رجب. ولد ببغداد سنة ست وسبعمائة. سمع من محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز، وإبراهيم بن داود العطار وأبي الفتح الميدومي وغيرهم. قال ابن حجي: أتقن الفن -أي فن الحديث- وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق. قال ابن ناصر الدين: أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد. وقال ابن حجر: مهر في فنون الحديث أسماء ورجالا، وعللا وطرقا واطلاعا على معانيه، صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرة أسفار وشرح قطعة كبيرة من البخاري وشرح الأربعين للنووي، وعمل وظائف الأيام سماه 'اللطائف' وعمل طبقات الحنابلة ذيلا على طبقات ابن أبي يعلى. وقال العليمي: لازم مجالس الشيخ شمس الدين ابن القيم إلى أن مات، وكان أحد الأئمة الكبار، والحفاظ والعلماء والزهاد والأخيار، وكانت مجالس تذكيره للقلوب صادعة، وللناس عامة مباركة نافعة، اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه، وزهده وورعه فائق الحد. توفي رحمه الله سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'فضل علم السلف على علم الخلف': وهو عبارة عن رسالة صغيرة طبعت محققة في الكويت.
2- 'الكلام على لا إله إلا الله' طبع، وهو عبارة كذلك عن رسالة صغيرة.
3- 'صفة النار' طبع.
4- 'فتح الباري شرح صحيح البخاري'، طبع محققا في مصر. قال عنه ابن عبدالهادي: (وشرح قطعة من البخاري إلى كتاب الجنائز، وهي من عجائب الدهر ولو كمل كان من العجائب).
له مواقف مشرفة منها على سبيل المثال ما ذكره في جامع العلوم والحكم:(1/408)
- قال عقب حديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) : هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: "الأعمال بالنيات" (2) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. (3)
- وقال عند شرح حديث "الدين النصيحة" (4) : ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله -وهو مما يختص به العلماء- رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها، ومن ذلك بيان ما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما لم يصح منه بتبين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم ومن لا تقبل، وبيان غلط من غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم. (5)
__________
(1) أخرجه: أحمد (6/240) والبخاري (5/377/2697) ومسلم (3/1343/1718) وأبو داود (5/12/4606) وابن ماجه (1/7/14) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
(2) أخرجه: أحمد (1/25) والبخاري (1/11/1) ومسلم (3/1515-1516/1907) وأبو داود (2/651-652/2201) والترمذي (4/154/1647) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (1/62-63/75) وابن ماجه (2/1413/4227) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3) جامع العلوم والحكم (1/176).
(4) انظر تخريجه في مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ).
(5) جامع العلوم والحكم (1/223-224).(1/409)
- وقال في شرح حديث العرباض بن سارية (1) : وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته، وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة، كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. (2)
- وقال أيضا: فقوله - صلى الله عليه وسلم - : "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" (3) ، فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) جامع العلوم والحكم (2/121).
(3) تقدم تخريجه قريباً.(1/410)
وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك: قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة. وروي أن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه (1) ، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به (2) ، وهذا قد أمن بعده - صلى الله عليه وسلم - . وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (3) .
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/281) والبخاري (4/314/2008-2009) ومسلم (1/523/759[174]) وأبو داود (2/102-103/1371) والترمذي (3/171-172/808) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/223/1601-1602) كلهم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). وقد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة التأخر عن الناس وفي آخره (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغبهم في قيام شهر رمضان) الحديث، أخرجه ابن حبان (الإحسان 1/353-354/141).
(2) أخرجه: البخاري (3/12-13/1129) ومسلم (1/524/761) وأبو داود (2/104/1373) والنسائي (3/223-224/1603) كلهم من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذات ليلة ... فذكره.
(3) أخرجه: أبو داود (2/105/1375)..الترمذي (3/169/806) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". النسائي (3/93/1363). ابن ماجه (1/420-421/1327) كلهم من طريق جبير بن نفير عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث.(1/411)
ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي.
ومن ذلك: أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان.
ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت، وقال لأبي بكر وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بكتابة الوحي (1) ، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا، بل جمعه صار أصلح.
وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة، وكان ذلك عين المصلحة. (2)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/162،192) وأبو داود (4/60-61/3646) والحاكم (1/105-106) وقال: "رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه الوليد بن أبي الوليد الشامي، فإنه الوليد بن عبدالله. وقد علمت على أبيه الكتبة. فإن كان كذلك فقد احتج مسلم به وقد صحت الرواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: قيدوا العلم بالكتاب" ووافقه الذهبي. وقال العراقي كما في تخريج الإحياء (4/1804/2857): "رواه أبو داود بنحوه بإسناد صحيح". وقال الحافظ في الفتح: (1/276-277): بعد عزوه لأحمد وأبي داود: "ولهذا طرق أخرى عن عبدالله بن عمرو يقوي بعضها بعضا" كلهم من طريق الوليد بن عبدالله عن يوسف بن ماهك عن عبدالله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه ... الحديث وفيه: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" وفي الباب أحاديث في كتابة الوحي غير هذا.
(2) جامع العلوم والحكم (2/ 128-129).(1/412)
له كتاب: 'نزهة الأسماع في مسألة السماع'. ومما جاء فيه: أن يقع استماع الغناء بآلات اللهو أو بدونها على وجه التقرب إلى الله تعالى وتحريك القلوب إلى محبته، والأنس به والشوق إلى لقائه، وهذا هو الذي يدعيه كثير من أهل السلوك ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم، وإنما يستتر بهم ويتوصل بذلك إلى بلوغ غرض نفسه من نيل لذته، فهذا المتشبه بهم مخادع ملبس، وفساد حاله أظهر من أن يخفى على أحد؛ وأما الصادقون في دعواهم ذلك -وقليل ما هم- فإنهم ملبوس عليهم حيث تقربوا إلى الله بما لم يشرعه الله، واتخذوا دينا لم يأذن الله فيه، فلهم نصيب ممن قال الله فيه: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً } وَتَصْدِيَةً (1) .
والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد، كذلك قال غير واحد من السلف.
وقال تعالى: أَمْ { لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ } اللَّهُ (2) .
فإنه إنما يتقرب إلى الله بما يشرع التقرب به إليه على لسان رسوله، فأما ما نهي عنه فالتقرب به إليه مضادة لله في أمره.
__________
(1) الأنفال الآية (35).
(2) الشورى الآية (21).(1/413)
قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع: (اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع المسلمين، فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينا وطاعة، ولا أرى إعلانه في المساجد والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة، وكان مذهب هذه الطائفة مخالفا لما اجتمعت عليه العلماء؛ ونعوذ بالله من سوء الفتن). انتهى ما ذكره، ولا ريب أن التقرب إلى الله بسماع الغناء الملحن لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام بل ومن سائر شرائع المسلمين أنه ليس مما يتقرب به إلى الله ولا مما تزكى به النفوس وتطهر به، فإن الله تعالى شرع على ألسنة الرسل كلها ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوضارها، ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل أشياء من ذلك، وإنما يأمر بتزكية النفوس بذلك من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وذلك كله مما تحيى به النفوس الأمارة بالسوء لما لها فيه من الحظ، ويقوى به الهوى وتموت به القلوب المتصلة بعلام الغيوب، وتبعد به عنه، فغلط هؤلاء واشتبه عليهم حظوظ النفوس وشهواتها بأقوات القلوب الطاهرة والأرواح الزكية المعلقة بالمحل الأعلى. واشتبه الأمر في ذلك أيضا على طوائف من المسلمين بعد انقراض القرون الفاضلة. (1)
موقفه من الجهمية:
ذكر في رسالته اللطيفة 'فضل علم السلف على الخلف' أبحاثا منيفة منها قوله وهو يتحدث عن الكلام في الصفات: ومن ذلك أعني محدثات الأمور: ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله وصفاته بأدلة العقول، وهو أشد خطرا من الكلام في القدر، لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته.
وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
__________
(1) نزهة الأسماع (ص 80-82).(1/414)
أحدهما: من نفى كثيرا مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده التشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة: لو رؤي لكان جسما، ووافقهم من نفى الاستواء فنفوا لهذه الشبهة. وهذا طريق المعتزلة والجهمية. وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم. وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر، ورد على أولئك مقالتهم، كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم، وتابعه طائفة من المحدثين قديما وحديثا، وهو أيضا مسلك الكرامية، فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى.
ومنهم من أثبت لله صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.
وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه، ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره.
والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة، خصوصا الإمام أحمد، ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها.
وإن كان بعض من كان قريبا من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئا من ذلك اتباعا لطريقة مقاتل، فلا يقتدى به في ذلك، إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم.
وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح.
وقد قال أبو زرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه. (1)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) فضل علم السلف (28-31).(1/415)
- قال رحمه الله: وهذه المسائل -أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق- مسائل عظيمة جدا، فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء السعادة، والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم. (1)
- وقال: وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج وقتلهم. وقد اختلف العلماء في حكمهم.
فمنهم من قال: هم كفار، فيكون قتلهم لكفرهم.
ومنهم من قال: إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم، وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الأبتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم.
ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه، قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا، وهو نص عن أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة.
ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتالنا، وإنما يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه، كما روي عن على رضي الله عنه (2) ، وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال في جامع العلوم والحكم عند شرحه لحديث جبريل (4) : فإن قيل: فقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان: قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/114).
(2) تقدم مرارا.
(3) جامع العلوم والحكم (1/328).
(4) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).(1/416)
وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا. وممن أنكر ذلك على قائله، وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره (1) . وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل. (2)
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد، فإن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها، استكمل الإيمان. ومن لم يستكملها، لم يستكمل الإيمان، ذكره البخاري في صحيحه. (3)
قيل: الأمر على ما ذكره، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ôMnإ_ur قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ } حَقًّا (4) .
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس" (5) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (6) ولفظه لمسلم.
__________
(1) تقدم ضمن مواقفه سنة (161هـ).
(2) تقدم ضمن مواقفه سنة (157هـ).
(3) تقدم ضمن مواقف عمر بن عبدالعزيز سنة (101هـ).
(4) الأنفال الآيات (2-4) .
(5) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(6) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).(1/417)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (1) . فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان، لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها، لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته.
وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره، صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما، دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر، دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان: إذا أفرد أحدهما، دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما، دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي. (2)
- وقال رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل. وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث. وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا.
وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة. وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح.
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل:
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) جامع العلوم والحكم (1/104-106).(1/418)
الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبدالعزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وغيرهم، حتى قال كثير منهم:
إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام، منهم: الشعبي، والنخعي، وأحمد في رواية.
وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيره، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا: الإيمان: المعرفة مع القول.
وحدث بعدهم من يقول: المعرفة خاصة، ومن يقول: الإيمان: القول خاصة.
والبخاري عبر عنه بأنه: قول وفعل.
والفعل: من الناس من يقول: هو مرادف للعمل.
ومنهم من يقول: هو أعم من العمل.
فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الجوارح، والعمل لا يدخل فيه القول عند الإطلاق. (1)
وقال فيه أيضا: وقد تلا البخاري الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان، وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما، منهم: عطاء بن أبي رباح فمن بعده.
وتلا البخاري -أيضا- الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى؛ فإن المراد بالهدى هنا: فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد وإلى من قبله وباليقين بالآخرة، ثم قال: أُولَئِكَ { عَلَى هُدًى مِنْ } رَبِّهِمْ (2) ، فسمى ذلك كله هدى، فمن زادت طاعاته فقد زاد هداه.
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت: زيادته بزيادة الأعمال، ونقصانه بنقصانها. وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه: فهو كالعمل بالجوارح -أيضا-؛ فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه. (3)
__________
(1) 1/5-6).
(2) البقرة الآية (5).
(3) المصدر السابق (1/8-9).(1/419)
وقال: واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوم التصديق حتى ينفي الريب، ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله. وكذا قال الشعبي أيضا.
وهذا مما يتعلق به من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق؛ حيث جعل اليقين: الإيمان كله، فحصره في اليقين؛ ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان؛ إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين.
قال الحسن البصري: ما طلبت الجنة إلا باليقين، ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا أديت الفرائض إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين.
وقال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار. (1)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه" (2) . هذه رواية الإمام أحمد، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضا، والمراد: أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا.
__________
(1) المصدر السابق (1/15).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ).(1/420)
وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عزوجل: قُلْ { لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ } لَنَا (1) ، وقوله: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ } نَبْرَأَهَا (2) ، وقوله: ِِ@è% { لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى } مَضَاجِعِهِمْ (3) .
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه". (4)
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى ذلك أيضا.
__________
(1) التوبة الآية (51).
(2) الحديد الآية (22).
(3) آل عمران الآية (154).
(4) رواه أحمد (6/441) قال الهيثمي (7/197): "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في الأوسط".(1/421)
واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده، فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عزوجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئا، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا، وأن يتقي سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال الله عز وجل: قُلْ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ } الْمُتَوَكِّلُونَ (1) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا" يعني: أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خير كثير.
__________
(1) الزمر الآية (38).(1/422)
وفي رواية عمر مولى غفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام، وهي: "فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، وإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا". (1)
وفي رواية أخرى من رواية علي بن عباس عن أبيه، لكن إسنادها ضعيف، زيادة أخرى بعد هذا، وهي: قلت: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال: "أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أنت أحكمت باب اليقين" (2) . ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أصابه، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور، فليفعل، فإن لم يستطع الرضا، فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا.
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما: أن يرضى بذلك، وهذه درجة عالية رفيعة جدا، قال الله عز وجل: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ } قَلْبَهُ (3) . قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (7/203/10000) وهناد في الزهد (1/304/536) وله طريق آخر عن ابن عباس من رواية عبدالملك بن عمير عنه أخرجها الحاكم (3/541) وقال: "إن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين..." وأقره الذهبي وزاد: "لأن القداح قال أبو حاتم: متروك، والآخر مختلف فيه، وعبد الملك لم يسمع من ابن عباس فيما أرى". انظر الضعيفة (5107).
(2) انظر الذي قبله.
(3) التغابن الآية (11).(1/423)
وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (1) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "أسألك الرضا بعد القضاء" (2) .
ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له:إن أصابته سراء شكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن" (3) .
وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة، فقال: "لا تتهم الله في قضائه" (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/519/2396) وابن ماجه (2/1338/4031). وقال الترمذي: "حسن غريب".
(2) أخرجه النسائي (3/62/1304) وصححه ابن حبان (5/304-305/1971) والحاكم (1/524-525). وأخرجه أحمد (4/264) دون ذكر محل الشاهد. كلهم من حديث عمار بن ياسر مطولا.
(3) سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن صالح العثيمين سنة (1421هـ).
(4) أخرجه من حديث عبادة بن الصامت: أحمد (5/318-319). قال البوصيري في (مختصر اتحاف السادة المهرة رقم:1): "رواه أبو يعلى الموصلي واللفظ له وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والطبرني بإسناد حسن"، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/289).(1/424)
قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به، وقال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما. وقال عمر بن عبدالعزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشه كله في نعيم وسرور، قال الله تعالى: مَنْ { عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً } طَيِّبَةً (1) ، قال بعض السلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة. وقال عبدالواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين...
والدرجة الثانية: أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه، مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به، ووعد عليه جزيل الأجر. قال الله عزوجل: إِنَّمَا { يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ } حِسَابٍ (2) ، وقال: وَبَشِّرِ { الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ } الْمُهْتَدُونَ (3) . قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن.
والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر:كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق. (4)
__________
(1) النحل الآية (97).
(2) الزمر الآية (10).
(3) البقرة الآيات (155-157).
(4) جامع العلوم والحكم (1/483-488).(1/425)
إبراهيم بن داود الآمدي (1) (797 هـ)
إبراهيم بن داود بن عبدالله الآمدي ثم الدمشقي برهان الدين. مات أبوه وهو صغير على دين النصرانية فحمله وصيه الشيخ عبدالله الدمشقي وأحضره مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فأسلم على يده وصحبه، ثم صحب أصحابه وأخذ عنهم، وتفقه على مذهب الشافعي، وسمع الحديث. روى عن إبراهيم بن الخيمي والحسن بن عبدالرحمن الإربلي وشمس الدين بن السراج وغيرهم. كان دينا خيرا فاضلا. توفي سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
محنته ومناظرته على عقيدته السلفية:
قال في الدرر الكامنة: قلت له مرة: أخبركم رضي الله عنكم وعن والديكم، فنظر إلي منكرا وقال: ما كانا على الإسلام. وكان ممتحنا بحب ابن تيمية، ونسخ غالب تصانيفه بخطه، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر برياضة وتؤدة، ويناظر في مسائل ابن تيمية من غير مماراة. (2)
" التعليق:
هذا من أعمال الشيخ ابن تيمية المباركة؛ حيث أسلم على يديه، وبقي سلفيا يناظر على العقيدة السلفية، فرضي الله عنك يا شيخ الإسلام، يا أبا العباس ورضي عن المترجم له.
محمد بن عرفة (3) (803 هـ)
__________
(1) الدرر الكامنة (1/25-26) وشذرات الذهب (6/347).
(2) 1/25-26).
(3) الشذرات (7/38) والبدر الطالع (2/255-256) والديباج المذهب (2/331-333) والأعلام (7/43).(1/426)
أبو عبدالله محمد بن محمد بن محمد بن عرفة الوَرْغَمِي التونسي المالكي، شيخ الإسلام بالمغرب. ولد سنة ست عشرة وسبعمائة. روى عن المحدث أبي عبدالله بن جابر الوادي والفقيه القاضي أبي عبدالله بن عبدالسلام وأبي عبدالله محمد بن محمد بن حسين بن سلمة الأنصاري. لم يرض لنفسه الدخول في الولايات، بل اقتصر على الإمامة والخطابة بجامع الزيتونة، وانقطع للاشتغال بالعلم والتصدر لتجويد القراءات. وصار المرجوع إليه بالمغرب. قال ابن ظهيرة: برع في الأصول والفروع والعربية والمعاني والبيان والفرائض والحساب، وسمع من الوادي آشى الصحيحين، وكان رأسا في العبادة والزهد والورع ملازما للشغل بالعلم، رحل إليه الناس وانتفعوا به ولم يكن بالعربية من يجري مجراه في التحقيق ولا من اجتمع له في العلوم ما اجتمع له، وكانت الفتوى تأتي إليه من مسافة شهر. له أوقاف جزيلة في وجوه البر وفكاك الأسارى، ومناقبه عديدة وفضائله كثيرة.
توفي رحمه الله سنة ثلاث وثمانمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين: وقد سئل عنه -أي عن ابن عربي- وعن شيء من كلامه شيخنا العلامة أبو عبدالله محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي، عالم إفريقية بالمغرب. فقال ما معناه: من نُسب إليه هذا الكلام، لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته. (1)
سراج الدين البُلْقِينِي (2) (805 هـ)
__________
(1) العقد الثمين (2/288).
(2) شذرات الذهب (7/51) والبدر الطالع (1/506) وإنباء الغمر بأبناء العمر (5/107-109) والضوء اللامع (6/85-90).(1/427)
عمر بن رسلان بن بصير، السراج البلقيني ثم القاهري الشافعي. ولد سنة أربع وعشرين وسبعمائة ببلقينة، فحفظ بها القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ المحرر في الفقه والكافية لابن مالك في النحو، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، والشاطبية في القراءات. سمع من الميدومي وابن القماح وابن عقيل وابن عدلان وغيرهم، وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي وغيرهما، وفاق الأقران واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، ووقع الاتفاق على أنه أحفظ أهل عصره وأوسعهم معارفا وأكثرهم علوما، وكان معظما عند الأكابر عظيم السمعة عند العوام، إذا ذكر البلقيني خضعت الرقاب. قال ابن حجي: كان أحفظ الناس لمذهب الشافعي واشتهر بذلك وطبقة شيوخه موجودون، قدم علينا دمشق قاضيا وهو كهل فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته وجودة معرفته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت واعترفوا بفضله، ثم رجع وتصدى للفتيا فكان معول الناس عليه في ذلك وكثرت طلبته، فنفعوا وأفتوا ودرسوا وصاروا شيوخ بلادهم وهو حي. قال برهان الدين المحدث: رأيته فريد دهره فلم تر عيناي أحفظ للفقه ولأحاديث الأحكام منه. قال له ابن كثير: أذكرتنا سمت ابن تيمية. وكذلك قال له ابن شيخ الجبل: ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظ منك. أخذ عنه حافظ دمشق ابن ناصر الدين والحافظ ابن حجر وغيرهما.
توفي رحمه الله سنة خمس وثمانمائة بالقاهرة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين: وقد سمعت صاحبنا الحافظ الحجة القاضي شهاب الدين أبا الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، وهو الآن المشار إليه بالتقدم في علم الحديث -أمتع الله بحياته- يقول: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني شيئا من كلام ابن عربي المشكل. وسأله عن ابن عربي فقال له شيخنا البلقيني: هو كافر. (1)
الهيثمي (2) (807 هـ)
__________
(1) العقد الثمين (2/288).
(2) الضوء اللامع (5/200-203) وشذرات الذهب (7/70) وذيل تذكرة الحفاظ (5/239-244).(1/428)
علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر نور الدين أبو الحسن الهيثمي. ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قرأ القرآن وهو نشأ ثم صحب الزين العراقي وهو بالغ ولم يفارقه سفرا وحضرا. وسمع من ابن عبدالهادي والميدومي ومحمد بن إسماعيل بن الملوك ومحمد بن عبدالله النعامني وغيرهم. كان إماما عالما حافظا زاهدا متواضعا متوددا إلى الناس ذا عبادة وتقشف وورع. وهو أشهر من ألف في الزوائد. فمن ذلك مجمع الزوائد، ومجمع البحرين، والبدر المنير في زوائد المعجم الكبير، وغاية المقصد في زوائد أحمد، والمقصد الأعلى في زوائد أبي يعلى، وموارد الظمآن وغيرها.
توفي في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانمائة بالقاهرة ودفن من الغد خارج باب البرقية منها.
موقفه من الجهمية:
قال الهيثمي تعليقا على بعض الأحاديث: رواه الطبراني وفيه عمرو بن عبيد وهو من أعداء الله. (1)
أحمد الناشري (2) (815 هـ)
الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن علي بن محمد الناشري، أبو العباس الزبيدي اليمني الشافعي. ولد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. سمع الحديث من أبيه والمجد الشيرازي وطائفة. ولي قضاء زبيد وأعمالها فراعى الحق في أحكامه فتعصبوا عليه فعزل.
تفقه به جمع كثيرون في المملكة اليمنية منهم الموفق علي بن أبي بكر الناشري وولده الجمال محمد الطيب، والجمال بن الخياط والكمال موسى بن محمد الضجاعي وغيرهم.
انتهت إليه رحمه الله رئاسة الفتوى ببلده، وكان شديدا على الصوفية وكانت لهم شوكة قائمة، ومع ذلك فكان لا يفتر عن الإنكار والرد عليهم.
قال عنه السخاوي: وكان عالما عاملا فقيها، كاملا فريدا تقيا ذكيا، غاية في الحفظ وجودة النظر في الفقه ودقائقه، مقصودا من الآفاق بحيث ازدحم عليه الخلائق.
__________
(1) المجمع (4/288).
(2) الضوء اللامع (1/257-258) وإنباء الغمر (7/80-81) وذيل الدرر الكامنة (ص.158-159) وشذرات الذهب (7/109).(1/429)
وقال ابن حجر: اجتمعت به واستفدت منه بزبيد، ونعم الشيخ كان.
مات رحمه الله سنة خمس عشرة وثمانمائة، وقد جاوز السبيعن.
موقفه من الصوفية:
- جاء في الضوء اللامع: وجرت له مع الصوفية بزبيد، لما أنكر عليهم الاشتغال بكتب ابن عربي واعتقاد ما فيها، لاسيما الفصوص. وشق ذلك على أكابرهم فتعصبوا عليه بسبب ذلك والتمسوا من السلطان منعه من التعرض لهم، وكان للسطان فيه حسن اعتقاد، فلم يزده إلا حمية لله ولرسوله صلى على الله عليه وسلم، ولقب في وقته لذلك بناصر السنة وقامع المبتدعة. (1)
- وفيه: وعمل كتابا حافلا بين فيه فساد عقيدة ابن عربي ومن ينتمي إليه. (2)
أبو زرعة العراقي (3) (826 هـ)
__________
(1) الضوء اللامع (1/257/258).
(2) المصدر السابق (1/258).
(3) شذرات الذهب (7/173) والبدر الطالع (1/72-74) والضوء اللامع (1/336-344) وإنباء الغمر بأبناء العمر (8/21-22).(1/430)
أحمد بن عبدالرحيم بن الحسين العراقي الإمام ابن الإمام، والحافظ ابن الحافظ، وشيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام، الشافعي ويعرف كأبيه بابن العراقي. ولد سنة اثنتين وستين وسبعمائة بالقاهرة. سمع من أبي الحرم القلانسي وأبي الحسن العرضي وأبي البقاء السبكي والبهاء بن خليل والبهاء ابن عقيل وغيرهم. تدرب بوالده في الحديث وفنونه وكذا في غيره من فقه وأصول وعربية ومعان وبيان، وبرع في جميع ذلك. وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس. كان من خير أهل عصره بشاشة وصلابة في الحكم وقياما في الحق وطلاقة وجه وحسن خلق وطيب عشرة. قال التقي الفاسي: هو أكثر فقهاء عصرنا هذا حفظا للفقه وتعليقا له وتخريجا، وفتاويه على كثرتها مستحسنة، ومعرفته للتفسير والعربية والأصول متقنة، وأما الحديث فأوتي فيه حسن الرواية وعظيم الدراية في فنونه. وقال الجمال بن موسى: الإمام العلامة الفريد، شيخ الحفاظ، هو أشهر من أن يوصف. وقال البدر العيني: كان عالما فاضلا، له تصانيف في الأصول والفروع وفي شرح الأحاديث، ويد طولى في الإفتاء، كان آخر الأئمة الشافعية بالديار المصرية، له مصنفات كثيرة. توفي رحمه الله سنة ست وعشرين وثمانمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين: وسئل عنه -أي ابن عربي- شيخنا العلامة المحقق الحافظ المفتي المصنف أبو زرعة أحمد بن شيخنا الحافظ العراقي الشافعي -أبقاه الله تعالى- فقال: لا شك في اشتمال: 'الفصوص' المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يُشك فيه، وكذلك 'فتوحاته المكية'. فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك. (1)
تقي الدين الفاسي (2) (832 هـ)
__________
(1) العقد الثمين (2/294).
(2) العقد الثمين (2/44-71) والضوء اللامع (7/18-20) وطبقات الحفاظ (ص.544-545) وإنباء الغمر (8/187-188).(1/431)
محمد بن أحمد بن علي يكنى أبا عبدالله وأبا الطيب وبها اشتهر أخيرا، ويلقب تقي الدين الحسيني الفاسي المكي القاضي المالكي. ولد في ليلة الجمعة العشرين من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وسبعائة بمكة.
حفظ القرآن من سن مبكرة وصلى بالناس التراويح بمقام الحنابلة بالمسجد الحرام. ودرس عدة متون في صغره منها الأربعين النووية وكتاب الرسالة لابن أبي زيد وعمدة الأحكام ومختصر ابن الحاجب والألفية لابن مالك والورقات.
وحبب إليه سماع الحديث فسمع على المسند أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي المعروف بابن الرسام المنتخب من مسند عبد بن حميد ثم صحيح البخاري ومسند الدارمي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه وعدة أجزاء. كما أنه سمع على شهاب الدين القرافي صحيح مسلم وجامع الترمذي وسنن أبي داود. وعلى القاضي علي بن أحمد النويري الموطأ لمالك برواية يحيى بن يحيى. وقرأ على العراقي شرحه لألفيته في الحديث المسماة بالتبصرة. كما أنه قرأ على البلقيني وابن الملقن والهيثمي والتنوخي وغيرهم. واعتنى بأخبار بلده فأحيا معالمها وأوضع مجاهلها وترجم أعيانها فكتب لها تاريخا حافلا.
قال ابن حجر: رافقني في السماع كثيرا بمصر والشام واليمن وغيرها، وكنت أوده وأعظمه وأقوم معه في مهماته، ولقد سائني موته وأسفت على فقد مثله.
مات رحمه الله ثالث شوال سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة بمكة.
موقفه من المشركين:
له العقد الثمين ضمنه مبحثا نفيسا جدا في عقيدة ابن عربي الطائي وأقوال أهل العلم فيه، مبينا ضلاله وكفره وزيغه عن الصراط السوي المستقيم. (1)
ابن الجزري (2) (833 هـ)
__________
(1) ينظر العقد الثمين (2/277-300).
(2) غاية النهاية في طبقات القراء للمترجم (2/247-251) والضوء اللامع (9/255-260) وإنباء الغمر بأبناء العمر (8/245-248).(1/432)
الإمام المقرئ محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري، شمس الدين أبو الخير العمري الدمشقي ثم الشيرازي. ولد في ليلة السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق. وحفظ القرآن سنة أربع وستين وصلى به سنة خمس، ولهج بطلب الحديث وبرز في القراآت، وذكر أن ابن الخباز أجاز له، واتهم في ذلك، واحتمله السخاوي لأنه خال جده.
سمع الحديث من جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري وغيرهم، وأفرد القراآت على أبي محمد بن السلار وأحمد بن إبراهيم بن الطحان وأحمد بن رجب وغيرهم، وأجاز له وأذن له بالإفتاء الشيخ أبو الفداء ابن كثير والشيخ ضياء الدين والشيخ البلقيني. تصدى للإقراء تحت النسر من الجامع الأموي سنين، وولي مشيخة الإقراء بالعادلية، ثم مشيخة دار الحديث الأشرفية، ثم مشيخة تربة أم الصالح بعد شيخه ابن السلار. وولي قضاء الشام وكان يلقب في بلاده الإمام الأعظم.
ووصفه ابن حجر بالحافظ الإمام المقرئ، وقال: إنه كان مثريا وشكلا حسنا وفصيحا بليغا كثير الإحسان لأهل الحجاز، انتهت إليه رياسة علم القراآت في الممالك، وممن أخذ عنه القراآت ابنه أبو بكر أحمد والشيخ محمود ابن الحسين الشيرازي والشيخ أبو بكر الحموي والشيخ أحمد بن محمود الحجازي والمحب محمد بن أحمد بن الهائم وغيرهم.
صنف كتاب 'الحصن الحصين' في الأدعية، لهج به أهل اليمن واستكثروه وتنافسوا في تحصيله وروايته، وحصل له رواج عظيم، وذيل طبقات القراء للذهبي وجمع النشر في القراآت العشر، وله كتاب أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب والجوهرة في النحو وغيرهما كثير.
وكانت وفاته بشيراز في ضحوة الجمعة لخمس خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة للهجرة فرحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:(1/433)
قال رحمه الله في النشر: ومنها ما يكون حجة لأهل الحق ودفعا لأهل الزيغ كقراءة وَمُلْكًا { كَبِيرًا } (20) (1) بكسر اللام وردت عن ابن كثير وغيره وهي من أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة. (2)
شرف الدين ابن المقري (3) (837 هـ)
أبو محمد إسماعيل بن أبي بكر بن عبدالله اليمني الشافعي المعروف بابن المقري. عالم البلاد اليمنية وإمامها ومفتيها. تفقه على جمال الدين شارح التنبيه وغيره، وقرأ في عدة فنون وبرز في جميعها وفاق أهل عصره وطال صيته واشتهر ذكره ومهر في صناعة النظم والنثر.
قال ابن حجر: وله تصانيف وحذق تام ونظر مليح، ما رأيت باليمن أذكى منه.
وقال الموفق الخزرجي: إنه كان فقيها محققا بحاثا مدققا مشاركا في كثير من العلوم والاشتغال بالمنثور والمنظوم، إن نظم أعجب وأعجز، وإن نثر أجاد وأوجز، فهو المبرز على أترابه والمقدم على أقرانه وأصحابه. كان رحمه الله إماما في الفقه والعربية والمنطق والأصول، وله اليد الطولى في الأدب نظما ونثرا، وكان متفردا بالذكاء وقوة الفهم وجودة الفكر، وكان ينكر نحلة ابن عربي وأتباعه، وبينه وبين متبعيه معارك وله في ذلك رسالتان وقصائد كثيرة.
توفي سنة سبع وثلاثين وثمانمائة.
موقفه من المشركين:
لهذا الإمام قصيدة من أجمل القصائد في بيان زندقة ابن عربي وكفره، وهي قصيدة بليغة، ينبغي لمن وقف عليها أن يحفظها حتى تكون زندقة هذا الضال معروفة محفوظة. وإليك بعض القصيدة منقولا من العقد الثمين.
__________
(1) الإنسان الآية (20).
(2) النشر (1/29).
(3) شذرات الذهب (7/220-222) والبدر الطالع (1/142-145) وإنباء الغمر (8/309) والضوء اللامع (2/292-295).(1/434)
قال التقي الفاسي: وقد بين شيخنا فاضل اليمن شرف الدين إسماعيل ابن أبي بكر المعروف بابن المقري الشافعي من حال ابن عربي مالم يبينه غيره، لأن جماعة من صوفية زبيد أوهموا من ليس له كثير نباهة علو مرتبة ابن عربي ونفي العيب عن كلامه. وذكر ذلك شيخنا ابن المقري مع شيء من حال الصوفية المشار إليهم في قصيدة طويلة من نظمه فقال فيما أنشدنيه إجازة (1) :
ألا يا رسول الله غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر
يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالفواقر
فقد حدثت بالمسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر
حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغر بها من غر بين الحواضر
تجاسر فيها ابن العريبي واجترى ... على الله فيما قال كل التجاسر
وقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوبي بغير تعاير
وأنكر تكليفا إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حائر
وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر
وقال تجلى الحق في كل صورة ... تجلى عليها فهي إحدى المظاهر
وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر
كما ظل في التهليل يهزا بنفيه ... وإثباته مستجملا للمغاير
وقال الذي ينفيه عين الذي ... أتى به مثبتا لا غير عند التجاور
فأفسد معنى ما به الناس أسلموا ... وألغاه إلغا بينات التهاتر
فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاديه من أمثال هذي الكبائر
فقال عذاب الله عذب وربنا ... ينعم في نيرانه كل فاجر
وقال بأن الله لم يعص في الورى ... فما ثم محتاج لعاف وغافر
وقال مراد الله وفق لأمره ... فما كافر إلا مطيع الأوامر
وكل امرئ عند المهيمن مرتضى ... سعيد فما عاص لديه بخاسر
وقال يموت الكافرون جميعهم ... وقد آمنوا غير المفاجا المبادر
وما خص بالإيمان فرعون وحده ... لدى موته بل عم كل الكوافر
فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر
وأثنى على من لم يجب نوحا إذ دعا ... إلى ترك ود أو سواع وناسر
وسمى جهولا من يطاوع أمره ... على تركها قول الكفور المجاهر
__________
(1) العقد الثمين (2/296-298).(1/435)
ولم ير بالطوفان إغراق قومه ... ورد على من قال رد المناكر
وقال بلى قد أغرقوا في معارف ... من العلم والباري لهم خير ناصر
كما قال فازت عاد بالقرب واللقا ... من الله في الدنيا وفي اليوم الآخر
وقد أخبر الباري بلعنته لهم ... وإبعادهم فاعجب له من مكابر
وصدق فرعونا وصحح قوله: ... أنا الرب الأعلى وارتضى كل سامر
وأثنى على فرعون بالعلم والذكا ... وقال بموسى عجلة المتدابر
وقال خليل الله في الذبح واهم ... ورؤيا ابنه تحتاج تعبير عابر
يعظم أهل الكفر والأنبياء ... لا يعاملهم إلا بحط المقادر
ويثني على الأصنام خيرا ولا يرى ... لها عابدا ممن عصى أمر آمر
وكم من جراءات على الله قالها ... وتحريف آيات لسوء تفاسر
ولم يبق كفرا لم يلابسه عامدا ... ولم يتورط فيه غير محاذر
وقال سيأتينا من الصين خاتم ... من الأولياء للأولياء الأكابر
له رتبة فوق النبي ورتبة ... له دونه فاعجب لهذا التنافر
فرتبته العليا تقول لأخذه ... عن الله لا وحيا بتوسيط آخر
ورتبته الدنيا تقول لأنه ... من التابعية في الأمور الظواهر
وقال اتباع المصطفى ليس واضعا ... لمقداره الأعلى وليس بحاقر
فإن تدن منه لاتباع فإنه ... يرى منه أعلى من وجوه أواخر
ترى حال نقصان له في اتباعه ... لأحمد حتى جا بهذه المعاذر
فلا قدس الرحمان شخصا يحبه ... على ما يرى من قبح هذي المخابر
وقال بأن الأنبياء جميعهم ... بمشكاة هذا تستضى في الدياجر
وقال فقال الله بي بعد مدة ... بأنك أنت الختم رب المفاخر
أتاني ابتدا بيضاء سطر ربنا ... بإنفاذه في العالمين أو أمري
وقال فلا تشغلك عني ولاية ... وكن كل شهر طول عمرك زائري
فرفدك أجزلنا وقصدك لم يخب ... لدينا فهل أبصرت يابن الأخاير
بأكذب من هذا وأكفر في الورى ... وأجرا على غشيان هذى الفواطر
فلا يدعوا من صدقوه ولاية ... وقد ختمت فليؤخذوا بالأقادر
فيا لعباد الله ماثم ذو حجا ... به بعض تمييز بقلب وناظر
إذا كان ذو كفر مطيعا كمؤمن ... فلا فرق فينا بين بر وفاجر
كما قال هذا إن كل أوامر ... من الله جاءت فهي وفق المقادر(1/436)
فلم بعثت رسل وسنت شرائع ... وأنزل الله بهذي الزواجر
أيخلع منكم ربقة الدين عاقل ... بقول غريق في الضلالة حائر
ويترك ما جاءت به الرسل من هدى ... لأقوال هذا الفيلسوف المغادر
فيا محسني ظنا بما في 'فصوصه' ... وما في فتوحات الشرور الدوائر
عليكم بدين الله لا تصبحوا غدا ... مساعر نار قبحت من مساعر
فليس عذاب الله عذبا كمثل ما ... يمنيكم بعض الشيوخ المدابر
ولكن أليم مثل ما قال ربنا ... به الجلد إن ينضج يبدل بآخر
غدا يعلمون الصادق القول منهما ... إذا لم يتوبوا اليوم علم مباشر
ويبدو لكم غير الذي يعدونكم ... بأن عذاب الله ليس بضائر
ويحكم رب العرش بين محمد ... ومن سن علم الباطل المتهاتر
ومن جا بدين مفترى غير دينه ... فأهلك أغمارا به كالأباقر
فلا تخدعن المسلمين عن الهدى ... وما للنبي المصطفى من مآثر
ولا تؤثروا غير النبي على النبي ... فليس كنور الصبح ظلما الدياجر
دعو كل ذي قول لقول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
وأما رجالات الفصوص فإنهم ... يعومون في بحر من الكفر زاخر
إذا راح بالربح المتابع أحمدا ... على هديه راحوا بصفقة خاسر
سيحكي لهم فرعون في دار خلده ... بإسلامه المقبول عند التجاور
ويا أيها الصوفي خف من فصوصه وخذ نهج سهل والجنيد وصالح ... خواتم سوء غيرها في الخناصر
على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة ... وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر
رجال رأوا ما لدار دار إقامة ... ولا لحلول الحق ذكر لذاكر
فأحيوا لياليهم صلاة وبيتوا ... لقوم ولكن بلغة للمسافر
مخافة يوم مستطير بشره ... بها خوف رب العرش صوم البواكر
فقد نحلت أجسادهم وأذابها ... عبوس المحيا قمطرير المظاهر
أولئك أهل الله فالزم طريقهم ... قيام لياليهم وصوم الهواجر
وعد عن دواعي الابتداع الكوافر
" التعليق:
قول ابن المقري: وخذ نهج سهل والجنيد وصالح، فيه دعوة إلى اتباع هؤلاء المتصوفة، والواجب الدعوة إلى الاستنان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أبرِّ هذه الأمة قلوبا وأعمقِها علما وأقلها تكلفا وبالصالحين بعدهم المتمسكين بهديهم.(1/437)
ابن الوزير (1) (840 هـ)
الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى المعروف بابن الوزير اليماني. ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة بهجرة الظهراوين من شَظَب شمال غرب صنعاء. نشأ في بيت علم ودين، فقرأ على أخيه الهادي بن إبراهيم ومحمد بن حمزة وعلي بن محمد بن أبي القاسم وغيرهم. اشتغل في أول طلبه بعلم الكلام والجدال ثم تحول إلى علوم الكتاب والسنة فانشرح صدره وصلح أمره. رحل إلى تعز ثم إلى مكة.
كان رحمه الله من أبرز علماء اليمن المجتهدين على الإطلاق، تبحر في جميع العلوم وفاق الأقران، واشتهر صيته وبعد ذكره وطار علمه في الأقطار. كان بينه وبين بعض علماء عصره منازعات وردود، وذلك لذبه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسكه بها، قال رحمه الله:
يا حبذا يوم القيامة شهرتي ... بين الخلائق في المقام الأحمد
لمحبتي سنن الرسول وأنني ... فيها عصيت معنفي ومفندي
وتركت فيها جيرتي وعشيرتي ... ومحل أترابي وموضع مولدي
__________
(1) البدر الطالع (2/81-93) وإنباء الغمر (7/372) والضوء اللامع (6/272) والأعلام (5/300) ومقدمة كتاب العواصم والقواصم (1/12-81) والتاج المكلل لصديق حسن خان (ص.340-347).(1/438)
قال أحمد بن عبدالله الوزير: له في علوم الاجتهاد المحل الأعلى، والقدح المعلى، وبلغ مبلغ الأوائل، بل زاد واستدرك، واختار وصنف، وألف وأفاد وجمع وقيد، وبنى وشيد، وكان اجتهاده اجتهادا كاملا مطلقا، لا كاجتهاد بعض المتأخرين. وقال عبدالرحمن العطاب: الإمام الحافظ أبو عبدالله شيخ العلوم وإمامها، ومن في يديه زمامها، قلد فيها وما قلد، وألفى جيد الزمان عاطلا فطوقه بالمحاسن وقلد، صنف في سائر فنونها، وألف كتبا تقدم فيها وما تخلف، وله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الباع المديد، والشأو البعيد الذي ما عليه مزيد. وقال الحافظ ابن حجر عند ترجمته لأخيه الهادي: وله أخ يقال له محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته.
قال الإمام الشوكاني: ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه. وقال أيضا: لو قلت: إن اليمن لم ينجب مثله لم أبعد عن الصواب. له مؤلفات عديدة مفيدة منها: 'إيثار الحق على الخلق' وهو آخر مؤلفاته، و'العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم' ومختصره 'الروض الباسم' وغيرها.
توفي رحمه الله في الرابع والعشرين من محرم سنة أربعين وثمانمائة، وله من العمر أربع وستون سنة.
موقفه من المبتدعة:
فمن مواقفه الطيبة قال في 'إيثار الحق':
- فإن قيل: فمن أين جاء الاختلاف الشديد؟ فاعلم أن منشأ معظم البدع يرجع إلى أمرين واضح بطلانهما، فتأمل ذلك بإنصاف وشد عليه يديك. وهذان الأمران الباطلان هما:
الزيادة في الدين بإثبات ما لم يذكره الله تعالى ورسله عليهم السلام من مهمات الدين الواجبة.
والنقص منه بنفي بعض ما ذكره الله تعالى ورسله من ذلك بالتأويل الباطل. (1)
__________
(1) إيثار الحق على الخلق (85).(1/439)
- وقال: فاعلم أن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام، راجع إلى هذين الأمرين الباطلين، الواضح بطلانهما كما تقدم. وهما الزيادة في الدين والنقص منه، ثم يلحق بهما التصرف فيه بالعبارات المبتدعة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
- وقال: أما الأمر الأول: وهو الزيادة في الدين، فسببه تجويز خلو كتب الله تعالى وسنن رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام عن بيان بعض مهمات الدين اكتفاء بدرك العقول لها، ولو بالنظر الدقيق، ليكون ثبوتها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق النظر العقلي. هذا مذهب أهل الكلام، ومذهب أهل الأثر أنه ممنوع. (2)
- وقال: ومن ذلك قوله تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (3) . واتفق أهل الإسلام على أن المراد بالرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولو لم يكونا وافيين ببيان مهمات الدين ما أمرهم الله بالرجوع إليهما عند الاختلاف. (4)
- وقال: والمسلم بالفطرة ينكر هذه البدع، وبالرسوخ في علم الحديث يعلم بالضرورة حدوثها وأن عصر النبوة والصحابة بريء منها. (5)
- وقال: بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: وَأُشْرِبُوا { فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } بِكُفْرِهِمْ (6) . وهي من عجائب العقوبات الربانية. والمحذرات من المؤاخذات الخفية: وَمَكَرُوا { وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (54) (7) .
__________
(1) إيثار الحق على الخلق (100).
(2) إيثار الحق على الخلق (103).
(3) النساء الآية (59).
(4) إيثار الحق على الخلق (107).
(5) إيثار الحق على الخلق (130).
(6) البقرة الآية (93).
(7) آل عمران (54).(1/440)
وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عند (د ت) (1) ، وعن ابن عمر مرفوعا: "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه". (2)
__________
(1) أخرجه: أبو داود (4/512/4341) والترمذي (5/240/3058) وقال: "حسن غريب". وابن ماجه (2/1330-1331/4014) وابن حبان (2/108-109/385 الإحسان) وصححه الحاكم (4/322) ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه من حديث ابن عمر: الطبراني في الأوسط (6/351-352/5750) من طريق الوليد بن عبدالواحد التميمي عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن سعيد بن جبير إلا عطاء بن دينار، ولا عن عطاء إلا ابن لهيعة، تفرد به الوليد بن عبدالواحد، ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد". وذكره الهيثمي في المجمع (1/90-91) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف". قال المناوي في الفيض (3/308): "قال العلاء: سنده ضعيف. وعده في الميزان من المناكير".
وأخرجه من حديث أنس: العقيلي في الضعفاء الكبير (3/447) والدينوري في المجالسة وجواهر العلم (3/256-262/899)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/214-215/325) وأبو نعيم في الحلية (2/343)، والهروي في ذم الكلام (ص.310) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (ص.144 حديث رقم:367) والبيهقي في الشعب (1/471/745) والبزار (كشف الأستار 1/60/81) وقال: "قال البزار: وهذا لم يروه هكذا إلا الفضل ولا عنه إلا أيوب". كلهم من طرق عن أيوب بن عتبة عن الفضل بن بكر العبدي عن قتادة عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وقال العقيلي عقبه: "وقد روي عن أنس من غير هذا الوجه وعن غير أنس بأسانيد فيها لين" وقال قبله: "الفضل بن بكر العبدي عن قتادة ولا يتابع عليه من وجه يثبت". وقال أبو نعيم في الحلية: "هذا حديث غريب من حديث قتادة، ورواه عكرمة بن إبراهيم عن هشام عن يحيى ابن أبي كثير عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه".
وقال الذهبي عن الفضل بن بكر في الميزان (3/349): "الفضل بن بكر عن قتادة لا يعرف وحديثه منكر" ثم ذكر له هذا الحديث. والحديث ضعف إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/1902/3016).
وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/59-60/80) وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (1/102/33) و(2/403/525) والهروي في ذم الكلام (ص.310-311) وأبو نعيم (6/268-269) كلهم من طريق زائدة ابن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس رفعه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/91) وقال بعد عزوه للبزار والطبراني في الأوسط ببعضه: "وفيه زائدة بن أبي الرقاد وزياد النميري وكلاهما مختلف في الاحتجاج به".===
===وأخرجه: الطبراني في الأوسط (6/214-215/5448) وابن حبان في المجروحين (1/263) كلهم من طريق حميد بن الحكم قال: سمعت الحسن، يقول حدثنا أنس بن مالك. قال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن الحسن إلا حميد بن الحكم تفرد به محمد بن عرعرة". وإسناده ضعيف جدا فإن حميد بن الحكم هذا قال عنه ابن حبان: "منكر الحديث جدا".
وأخرجه: ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1/568/961) من طريق يغنم بن سالم عن أنس رفعه. ويغنم كان يضع على أنس كما في المجروحين (2/498). وقال ابن يونس: "حدث عن أنس فكذب". وقال الذهبي كما في الميزان (4/459): "أتى عن أنس بعجائب".
وأخرجه من حديث ابن عباس: ابن عدي في الكامل (5/1882) وأبو نعيم في الحلية (3/219) والهروي في ذم الكلام (ص.311) عن شيبان بن فروخ عن عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب عنه بذكر المهلكات فقط. وعيسى هذا الظاهر أنه المديني وهو منكر الحديث كما قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ت:2781). وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/60/82) من طريق محمد بن عون الخراساني عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وذكره الهيثمي في المجمع (1/92) وقال بعد عزوه للبزار: "وفي سنده محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا".
وأخرجه من حديث ابن أبي أوفى: البزار (كشف الأستار 1/60/83) وقال الهيثمي في المجمع (1/92): "وفي سند ابن أبي أوفى محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: الهروي في ذم الكلام (ص.311) وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/174/346) من طريق سعيد بن سعيد عن عبدالله ابن سعيد عن أبيه عنه بذكر المهلكات. وعبدالله بن سعيد متروك واتهم.
وأخرجه: البيهقي في الشعب (5/452-453/7252) من طريق عبيد الله بن محمد حدثني بكر بن سليم الصواف عن أبي حازم عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه بذكر المنجيات والمهلكات. وفيه بكر بن سليم الصواف قال عنه ابن عدي في الكامل: (2/462): "يحدث عن أبي حازم عن سهل بن سعد وعن غيره ما لا يوافقه أحد عليه". وحديثه هذا من هذا الباب. وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/386-387): "شيخ يكتب حديثه". وقال المنذري في الترغيب (1/286) بعد عزوه للبزار والبيهقي عن أنس: "وهو مروي عن جماعة من الصحابة، وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى" ووافقه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:1802). وهذه الطرق كما ترى كلها شديدة الضعف والجبر إنما يكون في الضعف اليسير والله أعلم.(1/441)
وعن أنس وابن عباس وابن أبي أوفى كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله مثل ذلك، رواها الهيثمي في مجمعه، ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عجبا وتيها وتهليكا للناس واستحقارا لهم، نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله. (1)
- وله قصيدة دالية طويلة يعتز فيها بالتمسك بالكتاب والسنة فمنها:
قالوا: الأدلة ليس تخفى جملة ... قلنا لهم: ذا قول من لم ينقد
إن كان للإسلام عشر دعائم ... فانقص من العشر الدعائم أوزد
تجد الزيادة في الدليل محالة ... والنقص للبرهان أعظم مفسد
يا لائمي في مذهبي بالله قل ... لم زدت في الإسلام ما لم يعهد
ما للسنين قضت ولم ينطق بذا ... خير البرية مرة في مشهد؟
أو لم يكن أولى بتبيين الهدى ... والمشكلات لأحمر ولأسود
ما كان أحمد في المرا متدربا ... كلا، ولا للمشكلات بمورد
بل كان يأمر بالجهاد لكل من ... جحد الدليل وكل باغ معتد
حتى استقام الدين وانتعش الهدى ... بالمشرفية والقنا المتقصد
قامت شريعته لكل مجرب ... ماضي المضارب لا يكل مجلد
وكذاك أهل البيت ما زالوا على ... منهاجه من قائم أو سيد (2)
إلى أن قال:
وكذا الصحابة والذين يلونهم ... سل كل تاريخ بذاك ومسند
وكذلك الفقهاء قالوا وامتحن ... قولي وسل كتب التراجم وانقد
ما كنت بدعا في الذي قد قلته ... يا لائمي فدع الغواية ترشد
وإذا أبيت وكنت لا تدري فقم ... عن مجلس العلما وقف بالمربد
فلأجهرن بما علمت فإن أعش ... أنصح وإن أقضي فغير مخلد
هذا وما اخترت العتيق لحيرتي ... في الغامضات، ولا لفرط تبلد
فأنا الذي أفنيت شرخ شبيبتي ... في بحث كل محقق ومجود
والافتخار مذمة مني فسل ... عني المشايخ فالمشايخ شهدي
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فافهم فتلك كناية عن سؤددي
وإذا شككت بأن تلك فضيلة ... فاستقر -ويحك- وصف كل محسد
فلحسدي ما في الضمائر منهم ... أبدا ولي ما هم عليه حسدي (3)
- وقال في 'الروض الباسم':
__________
(1) إيثار الحق على الخلق (385-386).
(2) من مقدمة العواصم والقواصم (1/35-36).
(3) العواصم والقواصم (1/37).(1/442)
فإذا عرفت هذا تبين لك أن المحدثين هم الذين اختصوا بالذب عن السنن النبوية والمعارف الأثرية، وحموا حماها من أكاذيب الحشوية، وصنفوا كتب الموضوعات، وناقشوا في دقائق الأوهام حفاظ الثقات، وعملوا في ذلك أعمالا عظيمة، وقطعوا فيها أعمارا طويلة، وقسموا الكلام فيه في أربعة فنون:
أحدها: معرفة العلل.
وثانيها: معرفة الرجال.
وثالثها: معرفة علوم الحديث.
ورابعها: معرفة الحديث وطرقه.
واشتملت هذه الفنون من المعارف النبوية والقواعد العلمية على ما يضطر كل عارف إلى أنهم أتم الخلق عناية بحماية علم الحديث عن التبديل والتحريف، وأنهم الجهابذة النقاد بعلم المتن والإسناد، فإنهم الذين بينوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم، مثل التدليس والإعضال، والاضطراب والإعلال، والنكارة والإرسال، والوصل والقطع، والوقف والرفع، وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة، وفوائده العزيزة، ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه سير الكواكب، وانتفع بكلامهم فيه الولي الصادق والعدو المناصب، والمتهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التامة، دع عنك أهل المعارف من الخاصة، وذلك أنه لا خفاء على العاقل أن أئمة الفن لا يكونون هم المتهمين فيه، إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرة، فإنا لو اتهمنا النحاة في النحو واللغويين في اللغة، والفقهاء في الفقه، والأطباء في الطب لم يتعلم جاهل ولا تداوى مريض. فيا هذا من للحديث إذا ترك أهله؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه، لأظلمت الدنيا على طالبه وأوحشت المسائل على مريده.(1/443)
يا هذا، فكر لم سموا أهل الحديث، ولم سمي أهل الكلام بذلك، وكذلك أهل النحو وسائر الفنون؟! فإن كان أهل الحديث قد سموا بذلك عندك مع عدم معرفتهم به وكذبهم فيه فهلا جوزت مثل ذلك في سائر أهل الفنون، بل في سائر أهل الصناعات، بل في جميع أهل الأسماء المشتقات، فيجوز أن يسمى الفقيه نحويا والمتكلم عروضيا والغني فقيرا والصغير كبيرا. وهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل!!
ومن أحب أن يعرف حق المحدثين واجتهادهم في التحري للمسلمين فليطالع تآليف نقادهم في الرجال والعلل والأحكام، مثل 'ميزان الاعتدال في نقد الرجال' للذهبي، و'التهذيب' للمزي، و'العلل' للدارقطني، و'علوم الحديث' لابن الصلاح وزين الدين العراقي وغير ذلك، ثم ليطالع بعد ذلك كتب الصحاح والسنن لاحظا لما فيها من اختيار أصح الأسانيد، والإشارة إلى مهمات ما يتعلق بالأحاديث من العلل القادحة والمرجحات الواضحة. ثم ليوازن بينها وبين سائر مصنفات الفرق في الحديث، يجد الفرق بين التصانيف واضحا، والبون بين الرجال نازحا، ومن موازين الإنصاف العادلة وأدلة الأوصاف الفاضلة أنك تراهم يضعفون الضعيف من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويصدعون بالحق في ذلك، وكذلك يضعفون ما يدل على مذهبهم متى كان ضعيفا، ويضعفون كثيرا من علمائهم إذا كانوا ضعفاء، نصيحة منهم للمسلمين واحتياطا في أمر الدين.
وهذه إشارة مختصرة دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليات، ودافع ما هو كالمعارف الأوليات، إذ من المعلوم أن أهل الحديث اسم لمن عني به وانقطع في طلبه، كما قال بعضهم:
إن علم الحديث علم رجال فإذا جن ليلهم كتبوه ... تركوا الابتداع للاتباع
وإذا أصبحوا غدوا للسماع(1/444)
فهؤلاء هم أهل الحديث من أي مذهب كانوا، وكذلك أهل العربية وأهل اللغة، فإن أهل كل فن هم أهل المعرفة فيه، والتحقيق لألفاظه ومعانيه، وقد ذكر أئمة الحديث ما يتقضى ذلك، فإنهم يجمعون على أن أبا عبدالله الحاكم بن البيع من أئمة الحديث مع معرفتهم أنه من الشيعة، وقد ذكروا في كتب الرجال كثيرا من أئمة الحديث، ورواة الصحيح منسوبا إلى البدع. وبهذا يزداد قول المعترض بطلانا في نسبة المحدثين إلى الحشوية، ويظهر له أنه قد نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه وسائر الفرق، بل نسبة ذلك إلى خير القرون، فإن المتمكن من الآثار النبوية هم خير الفرق الإسلامية، لأنهم أشبه الخلق خلقا وسيرة وعقيدة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والمحدث إن كان مراعيا للسنة مجانبا للبدعة ملاحظا لما كان عليه السلف فهو جدير بإجماع من يعتد به بصحة ما هو عليه وقوة ما استند إليه، وإن كان من بعض الفرق المبتدعة، فهو خير تلك الفرقة وأشبههم خلقا وسيرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الغالب، ولا عبرة بالنادر ولا بمن ليس من أهل الديانة، فنسبة خير الفرق إلى شر فرقة وتلقيبهم بأخس لقب من التهافت في مهاوي الضلال، والخبط في تيه الوبال.(1/445)
ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقا وتزيد أئمة الحديث توثيقا، وهي أن من المشهور بتجويز الكذب في الحديث من الحشوية الطائفة المعروفة بالكرامية، وقد يطلق الرازي نسبة هذا إلى الكرامية، وحققه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلق بالأحكام مما يتعلق بالترغيب والترهيب، والمحدثون براء من هذه الطائفة، وقد تكلموا عليهم في غير كتاب؛ ممن تكلم عليهم الذهبي في 'ميزان الاعتدال' فإنه قال في ترجمة ابن كرام شيخ هذه الطائفة ما لفظه: محمد بن كرام العابد المتكلم، ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد الجويباري ومحمد بن تميم السعدي وكانا كذابين، قال ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أرذلها ومن الأحاديث أوهاها (1) . وقال أبو العباس: شهدت البخاري ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث، منها الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فكتب البخاري على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. وقال ابن حبان: جعل ابن كرام الإيمان قولا بلا معرفة. وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه. قال شيخ أهل الحديث الذهبي: هذا منافق محض في الدرك الأسفل من النار، فإيش ينفع ابن كرام أن نسميه مؤمنا؟ قال الذهبي: وقد سجن ابن كرام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في تاريخي الكبير. انتهى كلامه.
__________
(1) في الأصل: "أوهاما" والتصحيح من "الميزان".(1/446)
فيا من لا يفرق بين الحشوى والمحدث، انظر إلى نصوص أئمة الحفاظ في إنكار مذهب ابن كرام في رواية الأحاديث الواهية وفي القول بالإرجاء، وقد نص البخاري على أن راوي الحديث المقدم الذي هو حجة المرجئة يستوجب الضرب الشديد والحبس الطويل، وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدثين، وقل لي من الذي حبس ابن كرام في نيسابور على بدعته، ولمن كانت الشوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المائتين؟ فإن قلت: إنك إنما أسميت المحدثين بالحشوية لكون الحشوية من فرقهم والجامع لهم ردهم لمذهب الشيعة والمعتزلة، قلت: ليس هذا مما يعتذر به، فإن المنصور بالله روى عن المطرفية وهم من فرق الزيدية أنهم يستجيزون الكذب في الحديث في نصرة ما اعتقدوه حقا، وذكر أنهم صرحوا له بذلك في المناظرة، وقد صح عنهم من البدع ما هو شر من هذا. وكذلك الحسينية قد صح وتواتر عنهم أنهم يفضلون الحسين ابن القاسم العياني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم من فرق الزيدية، والزيدية يكفرون هاتين الطائفتين، فكما لم تلزم الزيدية بشيء من هذه البدع، لقول بعض جهالهم بها مع إنكارهم على من قالها، فكذلك لا يلزم أهل الحديث كل بدعة قيلت في بلادهم وقالها من وافقهم في بعض عقائدهم، فزن الأشياء بالموازين العلمية وتعرف من الحشوية، واحذر أن تكون من هذه الفرقة الغوية، لقبولك لكثير من الأحاديث الفرية، المدسوسة في الأحاديث المروية. (1)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) الروض الباسم (ص.180-184)(1/447)
- جاء في إيثار الحق على الخلق: وكذلك دلت النصوص المتواترة على وجوب حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وتعظيمهم وتكريمهم، واحترامهم وتوقيرهم، ورفع منزلتهم والاحتجاج بإجماعهم، والاستنان بآثارهم، واعتقاد ما نطق به القرآن الكريم، والذكر الحكيم، من أنهم خير أمة أخرجت للناس وفيهم يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ { مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (1) الآية. (2)
- وجاء في الروض الباسم عنه قال: فإن قلت: فما الفرق بين مذهب الشيعة وأهل الحديث في الصحابة؟ قلت: من وجوه:
الأول: في الخلافة وهو معروف.
والثاني: أن أهل الحديث يحملون من أظهر التأويل من الصحابة على أنه متأول.
الثالث: أن أهل الحديث لا يكرهون العاصي من الصحابة، وإنما يكرهون معصيته، ويحبونه لإسلامه وصحبته، ويترحمون عليه ويترضون عنه ويذكرون ما له من الفضائل ولا يسبونه ولا يؤذونه، وتفصيل المقاصد والحجج مما لا يتسع له هذا الموضع. (3)
- وقال عند قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: "لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" (4) : على أن بغض علي رضي الله عنه إنما كان علامة للنفاق في أول الإسلام، فإن المنافقين كانوا يبغضون من فيه قوة على الحرب لكراهتهم لقوة الإسلام، ولذلك جاء في الحديث أيضا: إن بغض الأنصار علامة النفاق (5) لهذا المعنى، وكذلك حبهم وحب علي كان في ذلك الزمان علامة للإيمان لهذا المعنى.
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) إيثار الحق على الخلق (ص.417).
(3) الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (ص.191-192).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).
(5) أحمد (3/134،249) والبخاري (1/85/17) ومسلم (1/85/74).(1/448)
وأما في الأعصار المتأخرة عن أول الإسلام فلا يدل على ذلك، فإن الخوارج يبغضون عليا ويكفرونه، مع الإجماع على أنهم غير منافقين وأن ذنبهم عظيم، ومروقهم من الإسلام منصوص، والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، وكذلك الروافض يحبونه مع ضلالهم وفسوقهم نعوذ بالله. (1)
سبط ابن العجمي إبراهيم بن محمد أبو الوفاء (2) (841 هـ)
برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل سبط ابن العجمي الطرابلسي، الشيخ الإمام الحافظ الحلبي الشافعي. ولد سنة ثلاث وخمسين وسبع مائة بالجلوم، مات أبوه وهو صغير جدا فكفلته أمه، وحفظ القرآن وقرأ القراءات على عدة شيوخ. سمع من الحافظ ابن المحب وصلاح الدين ابن أبي عمر والحافظ زين الدين العراقي وغيرهم. وسمع منه ابن حجر وابن ناصر الدين وغيرهما.
قال البقاعي: إنه كان على طريقة السلف في التوسط في العيش وفي الانقطاع عن الناس لا سيما أهل الدنيا، عالما بغريب الحديث، شديد الاطلاع على المتون، بارعا في معرفة العلل، إذا حفظ شيئا لا يكاد يخرج من ذهنه. وقال السخاوي: كان إماما علامة حافظا خيرا دينا ورعا متواضعا، وافر العقل حسن الأخلاق.
ألف التآليف المفيدة الحسنة الدالة على سعة علمه واطلاعه. توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.
موقفه من المبتدعة:
دفاعه عن شيخ السلفيين في وقته وبعده:
__________
(1) الروض الباسم (ص.215-216).
(2) الضوء اللامع (1/138-145) والبدر الطالع (1/28-30) وشذرات الذهب (7/237-238) والأعلام (1/65).(1/449)
جاء في الضوء اللامع: ولما دخل التقي الحصني (1) حلب، بلغني أنه لم يتوجه لزيارته -أي سبط- لكونه كان ينكر مشافهة على لابسي الأثواب النفيسة على الهيئة المبتدعة وعلى المتقشفين، ولا يعدو حال الناس ذلك. فتحامى قصده. فما وسع الشيخ إلا المجيء إليه. فوجده نائما بالمدرسة الشرفية، فجلس حتى انتبه، ثم سلم عليه فقال له: لعلك التقي الحصني فقال: أنا أبو بكر. ثم سأله عن شيوخه فسماهم له فقال: إن شيوخك الذين سميتهم هم عبيد ابن تيمية أو عبيد من أخذ عنه، فما بالك تحط أنت عليه. فما وسع التقي إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر يرد عليه. ولم يزل على جلالته وعلو مكانته حتى مات مطعونا في يوم الاثنين. سادس عشر شوال سنة إحدى وأربعين بحلب ولم يغب له عقل بل مات وهو يتلو. (2)
" التعليق:
1- هذا النص يدل دلالة واضحة على حب هذا المحدث الكبير لشيخ الإسلام، فسياق القصة من أولها إلى آخرها يدل على ذلك.
2- عدم ذهابه لزيارة أكبر عدو للسلفية في وقته، على شهرته، واحتفاء أمثاله به. ولو كان من السلفيين لذهب الشيخ إليه، وكان في مقدمة من يستقبله ويعتبر ذلك شرفا له.
3- سؤاله له بتلك الصيغة مما يدل على احتقاره له وعدم المبالاة به.
4- عدم الاعتراف بشيوخ المخرف وأنهم في مرتبة العبيد، أو أقل.
5- المقارنة بين شيوخ المخرف ونسبتهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية.
6- تأنيبه للمخرف وأن هذا الفعل الذي يفعله لا يليق به، وأن قدر شيخ الإسلام لا يدانيه مثل هذا المخرف.
7- إغلاظه القول للمخرف فانصرف ذليلا حقيرا.
ابن ناصر الدين الدمشقي (3) (842 هـ)
__________
(1) كان من الذين يطعنون في ابن تيمية ويصرحون بكفره.
(2) الضوء اللامع (1/145).
(3) شذرات الذهب (7/243-244) والبدر الطالع (2/198-199) والضوء اللامع (8/103-106) والنجوم الزاهرة (15/465) والأعلام (6/237) وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص.40).(1/450)
الشيخ المحدث أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن أحمد الدمشقي الشافعي الشهير بابن ناصر الدين. ولد في العشر الأول من المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة بدمشق وبها نشأ وحفظ القرآن وعدة متون في صغره، وحبب إليه علم الحديث، فوجه همته إليه وعكف ليله ونهاره عليه. سمع من بدر الدين بن قوام ومحمد بن عوض الابناسي وقرأ على ابن حجر وقرأ ابن حجر عليه. وأجاز له من القاهرة الحافظ الزين العراقي والسراج ابن الملقن وغيرهما.
كان إماما علامة حافظا كثير الحياء سليم الصدر حسن الأخلاق دائم الفكر متواضعا محببا إلى الناس حسن البشر والود لطيف المحاضرة والمحادثة بحيث لا تمل مجالسته. ذكره المقريزي فقال: طلب الحديث فصار حافظ بلاد الشام بغير منازع، وصنف عدة مصنفات، ولم يخلف في الشام بعده مثله. وأثنى عليه البرهان الحلبي بقوله: الشيخ الإمام المحدث الفاضل الحافظ، إلى أن قال: وقد اجتمعت به فوجدته رجلا كيسا متواضعا من أهل العلم وهو الآن محدث دمشق وحافظها. وقال المحب بن نصر الله: لم يكن بالشام في علم الحديث آخر مثله ولا قريب منه.
خرج في ربيع الثاني سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة مع جماعة لقسم قرية من قرى دمشق، فسمهم أهلها، فتوفي ودفن بمقابر العقيبة عند والده.
موقفه من المبتدعة:
- 'الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر'، والكتاب مطبوع متداول. جمع فيه من أقوال فحول العلماء الذين شهدوا لشيخ الإسلام بالإمامة والفضل.
- 'إتحاف السامع بافتتاح الجامع في فضل الحديث وأهله'، ذكره في كشف الظنون (1) وقال: ذكر فيه فضل الحديث وأهله وفضل الصحيحين وتدريسه. أوله: "الحمد لله الذي افتتح كتابه بعد ذكر اسمه.." وذكره البغدادي في هدية العارفين. (2)
من مواقفه الطيبة ما جاء في الرد الوافر:
__________
(1) 1/6).
(2) 2/193).(1/451)
- قال: فالواجب على كل مسلم اتباع السنة المحمدية، واقتفاء الآثار النبوية الأحمدية، التي منها: التمسك بسنة الخلفاء الراشدين، والتبرك (1) بآثار الأئمة المهديين، ولقد أقام الناس على ذلك بعد عصر النبوة زمانا، تابعين للشريعة النبوية احتسابا وإيمانا. كما أشار إليه الإمام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب: 'الحجة'، فقال: وقد كان الناس على ذلك زمانا بعده، إذ كان فيهم العلماء، وأهل المعرفة بالله من الفهماء، من أراد تغيير الحق منعوه، ومن ابتدع بدعة زجروه، وإن زاغ عن الواجب قوموه، وبينوا له رشده وفهموه، فلما ذهب العلماء من الحكماء ركب كل أحد هواه، فابتدع ما أحب وارتضاه، وناظر أهل الحق عليه، ودعاهم بجهله إليه، وزخرف لهم القول بالباطل فتزين به، وصار ذلك عندهم دينا يكفر من خالفه، ويلعن من باينه، وساعده على ذلك من لا علم له من العوام، ويوقع به الظنة والاتهام، ووجد على ذلك الجهال أعوانا، ومن أعداء العلم أخدانا، أتباع كل ناعق، ومجيب كل زاعق، لا يرجعون فيه إلى دين، ولا يعتمدون على يقين، قد تمكنت لهم به الرئاسة، فزادهم ذلك في الباطل نفاسة، تزينوا به للعامة، ونسوا شدائد يوم الطامة.
ثم روى الشيخ نصر بإسناده إلى محمد بن عبدالله ابن أبي الثلج، قال: حدثنا الهيثم بن خارجة، ثنا هيثم بن عمران العبسي، سمعت إسماعيل بن عبيدالله المخزومي يقول: ينبغي لنا أن نتحفظ ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله عز وجل قال: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } فَانْتَهُوا (2) فهو بمنزلة القرآن. (3)
تقي الدين المقريزي (4) (845 هـ)
__________
(1) لعله يقصد الاهتداء بما أثر عن الأئمة المهديين وهو الموافق لسياق الكلام.
(2) الحشر الآية (7).
(3) ص.29-30).
(4) شذرات الذهب (7/254-255) والبدر الطالع (1/79) وإنباء الغمر (9/170-172) والضوء اللامع (2/21-25) والأعلام (1/177-178).(1/452)
الإمام المؤرخ أحمد بن علي بن عبدالقادر أبو العباس تقي الدين الحسيني العبيدي، البعلي الأصل، القاهري المقريزي -نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة. ولد سنة ست وستين وسبعمائة بالقاهرة. نشأ نشأة حسنة، فحفظ القرآن وسمع من جماعة من الشيوخ كالآمدي والبلقيني والعراقي والهيثمي والتنوخي وغيرهم. ولي الحسبة والخطابة والإمامة مرات في القاهرة. كان إماما بارعا مفننا متقنا ضابطا دينا خيرا محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر، حسن الصحبة حلو المحاضرة. وكان متبحرا في التاريخ على اختلاف أنواعه، ومؤلفاته تشهد له بذلك. قال السخاوي: وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلدة كبار، وأن شيوخه بلغت ستمائة نفس. وقال الحافظ ابن حجر: له النظم الفائق، والنثر الرائق، والتصانيف الباهرة، وخصوصا في تاريخ القاهرة، فإنه أحيا معالمها وأوضح مجاهلها، وجدد مآثرها وترجم أعيانها. وقال أيضا: أولع بالتاريخ فجمع منه شيئا كثيرا وصنف فيه كتبا، وكان لكثرة ولعه به يحفظ كثيرا منه. توفي رحمه الله سنة خمس وأربعين وثمانمائة.
موقفه من المبتدعة:(1/453)
- قال في الخطط: القسم الثاني: فرق أهل الإسلام الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة: ثنتان وسبعون هالكة وواحدة ناجية" وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (1) ... واعلم أن فرق المسلمين خمسة: أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والشيعة والخوارج، وقد افترقت كل فرقة منها على فرق. فأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا ونبذ يسيرة من الاعتقادات، وبقية الفرق الأربع منها من يخالف أهل السنة الخلاف البعيد، ومنهم من يخالفهم الخلاف القريب فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان معا فقط، وأن الأعمال إنما هي فرائض الإيمان وشرائعه فقط، وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان ومحمد بن كرام. وأقرب فرق المعتزلة أصحاب الحسين النجار وبشر بن غياث المريسي، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف وأقرب مذاهب الشيعة أصحاب الحسن ابن صالح بن حي، وأبعدهم الإمامية؛ وأما الغالية فليسوا بمسلمين ولكنهم أهل ردة وشرك. وأقرب فرق الخوارج أصحاب عبدالله بن يزيد الإباضي، وأبعدهم الأزارقة. وأما البطيخية ومن جحد شيئا من القرآن أو فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم فكفار بإجماع الأمة. وقد انحصرت الفرق الهالكة في عشر طوائف -ثم ذكرها-. (2)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).
(2) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار "المعروف بالخطط المقريزية" (2/345).(1/454)
- وقال: والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمٍّ على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده - صلى الله عليه وسلم - سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه؛ ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمة. وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول. (1)
- وقال: واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين:
أحدهما: الظن بالله ظن السوء.
والثاني: لم يقدروا الرب حق قدره. (2)
موقفه من المشركين:
جاء في الخطط له: هذا وقد كان المأمون عبدالله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم من عرَّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. (3)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) الخطط (2/362).
(2) تجريد التوحيد المفيد (ص.49-50).
(3) الخطط (2/357).(1/455)
- جاء في الخطط: وقام في زمنه -أي علي بن أبي طالب- رضي الله عنه عبدالله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته على أمته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وزعم أن عليا لم يقتل وأنه حي، وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لابد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة وصاروا يقولون بالوقف يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق. وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح. وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر. وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى، وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدا للخوارج وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر. (1)
__________
(1) الخطط (2/356-357).(1/456)
- وقال: واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم شنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع. فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واستبشاع ظلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى. فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهدي عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار إذ نسبوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكفر. وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبدالله بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيا صفريا. وقد أظهر عبدالله بن سبأ الحميري اليهودي الإسلام، ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأحرق علي رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة.(1/457)
والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عم على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده - صلى الله عليه وسلم - سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا، فهو كافر بإجماع الأمة. وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول، حتى بالغ القدري في القدر، فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبري في مقابلته، فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته، فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزلي في التخليد في العذاب، وبالغ الناصبي في دفع علي رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السني في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضي في تأخيره حتى كفره، وميدان الظن واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشر والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا، واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدول، واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظن لا يبعد عن الظن كثيرا، ولا ينتهي في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل، لكنهم أبوا إلا ما قدمنا ذكره من التدابر والتقاطع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. (1)
" التعليق:
يتلخص من هذه الكلمة المباركة الأمور الآتية:
1- السبب في خروج الطوائف عن ملة الإسلام. ومكائد المنافقين الذين أظهروا إسلامهم خداعا.
__________
(1) الخطط (2/362).(1/458)
2- ليس في الإسلام ظاهر وباطن، بل كله ظاهر يشترك في فهمه والعمل به كل على قدر استطاعته.
3- لم يخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحدا بشيء من شرعه، بل بلغه للجميع القريب والبعيد والأحمر والأسود، كلهم سواء. ومن قال غير هذا فهو كافر مرتد.
4- بيان أصل البدع والسبب في وجودها: البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول.
موقفه من الجهمية:
هذا المؤرخ الكبير كان من أفاضل علماء زمانه. له اطلاع واسع وباع طويل ومعرفة واسعة بالعقيدة السلفية والخلفية، وقد أبدى في كتابه الخطط إعجابا بالعقيدة السلفية وبين أنها عقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فقال:(1/459)
- فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: وَمَا { خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (56) (1) قال ابن عباس وغيره: يعرفون، فخلق تعالى الخلق، وتعرف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه سبحانه منهم على ما عرفهم فيما تعرف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع ببعثة الرسل عليهم السلام علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث وعن التركيب وعن الافتقار، ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعداه عقل أصلا.
__________
(1) الذاريات الآية (56).(1/460)
فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية والأخرى المعرفة التي جاءت بها الإخبارات الإلهية وأن يرد علم ذلك إلى الله تعالى ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى من غير تأويل بفكره، ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم الله وأنى لها ذلك؟! وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الإطلاع على حكمه في ذلك كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره يجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة وإلا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها، وبموجب أحكامها وآثارها، إلا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها ويهديها إلى الحق فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (1)
__________
(1) الشورى الآية (11)..(1/461)
ولقول الله تعالى: قُلْ { هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد } (4) وهذه السورة يقال لها سورة الإخلاص، وقد عظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأنها ورغب أمته في تلاوتها حتى جعلها تعدل ثلث القرآن، من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأما الكاف التي في قوله تعالى: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ } شَيْءٌ فإنها زائدة وقد تقرر أن الكاف والمثل في كلام العرب أتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء؛ نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار: هو طبيعة، وقال آخرون منهم: هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه.(1/462)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكل منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كل ضال معطل مبتدع، يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة. وقد قال الشافعي رحمه الله: الإثبات أمكن؛ نقله الخطابي. ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أولوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا أنزل القرآن بصفة من صفات الله كقوله سبحانه: يَدُ { اللَّهِ فَوْقَ } أَيْدِيهِمْ (1) فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى: بَلْ { يَدَاهُ } مَبْسُوطَتَانِ (2) عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل.
__________
(1) الفتح الآية (10).
(2) المائدة الآية (64).(1/463)
فقال تعالى: بَلْ { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ } يَشَاءُ فإن نفس تلاوة هذا، مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل، نحو قولهم في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (1) الاستواء الاستيلاء كقولك استوى الأمير على البلد وأنشدوا:
قد استوى بشر على العراق
فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهوا جلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرجوا أن يقولوا مشتركة لأن الله لا شريك له، ولذلك لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات مع علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها لصفات المخلوقين، وتأمل تجد الله تعالى لما ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه: جَعَلَ { لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } (2) علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق فقال عز من قائل: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (3) .اهـ (4)
" التعليق:
يتلخص من هذه العقيدة المباركة الأمور الآتية:
1- سلفية الشيخ ودفاعه عن العقيدة السلفية، وأنها هي الأصل، وهي الموافقة للفطرة السليمة. وما سوى ذلك طارئ وحادث.
2- معرفة الله بالفطرة والشرائع مفصلة ومبية لذلك.
3- آيات الصفات وأحاديثها جاءت ردا على المعطلة والملاحدة في القديم والحديث، وهي العمدة في معرفة الله، فهي ترد وهم الطبائعيين وخيالات المتفلسفين وأوهام المعطلين.
4- لازم التأويل التشبيه، ولا يمكن أن يكون تأويل إلا بذلك.
__________
(1) طه الآية (5).
(2) الشورى الآية (11).
(3) الشورى الآية (11).
(4) الخطط (2/360-362).(1/464)
- وفيها أيضا: اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه - صلى الله عليه وسلم - الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى؛ فلم يسأله - صلى الله عليه وسلم - أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية: من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام والجلال، والإكرام والجود والإنعام، والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا، وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء(1/465)
الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة. (1)
- وفيها: وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال منذ زمن الحسن بن الحسين البصري رحمه الله بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر، وجهروا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم؛ فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أيمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض. (2)
موقفه من الخوارج:
قال: وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار. ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعد منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله. (3)
موقفه من المرجئة:
قال: واعلم أن العبادة أربع قواعد، وهي: التحقيق بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح، فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب العبادة حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله تعالى عن نفسه وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك.
__________
(1) الخطط (2/356-357).
(2) الخطط (2/357).
(3) الخطط (2/356).(1/466)
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعاء إليه، والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره تعالى وتبليغ أمره.
وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه، والإنابة والخوف، والرجاء والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه، وإقراره والرضاء به وله وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والإخبات إليه والطمأنينة، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح، ومستحبها إلى الله تعالى أحب من مستحب أعمال الجوارح.
وأما أعمال الجوارح فكالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فقول العبد في صلواته: إِيَّاكَ { } نَعْبُدُ التزام أحكام هذه الأربعة وإقرار بها.
وقوله: وَإِيَّاكَ { نَسْتَعِينُ } (5) طلب الإعانة عليها والتوفيق لها.
وقوله: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (6) متضمن للأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله تعالى، والله الموفق بمنه وكرمه، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وآله وصحبه ووارثيه وحزبه. (1)
" موقفه من القدرية:
__________
(1) تجريد التوحيد المفيد (ص.82-84).(1/467)
قال رحمه الله: قضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا -أي على ما تركهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحق الذي أنزل عليه- إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر وأن الأمر أنفة -أي أن الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئا مما هم عليه-. وكان أول من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري. فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبدالملك بن مروان سنة ثمانين؛ ولما بلغ عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ السلف رحمهم الله في ذم القدرية وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث. وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري فيقولان له: إن هؤلاء يسفكون الدماء، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا ومثله. (1)
ابن حجر العسقلاني (2) (852 هـ)
__________
(1) الخطط (2/356).
(2) النجوم الزاهرة (15/532-534) والضوء اللامع (2/36-40) وفهرس الفهارس (1/321-337) وحسن المحاضرة (1/363-366) والبدر الطالع (1/87-92) وشذرات الذهب (7/270-273) ومعجم المؤلفين (2/20-21).(1/468)
شيخ الإسلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الشهير بابن حجر -وهو لقب لبعض آبائه- الكناني العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، الشافعي. ولد في ثاني عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بالقاهرة ونشأ بها يتيما في كنف أحد أوصيائه الزكي الخروبي. فحفظ القرآن وتولع بالنظم. ثم حبب الله إليه طلب الحديث فأقبل عليه، ورحل من أجله إلى قوص ثم إلى الإسكندرية والحجاز واليمن والشام. ودرس على عدة شيوخ بلغوا ستمائة نفس، منهم: البلقيني وابن الملقن والعراقي والهيثمي ومحمد المنبجي وعدة. واجتمع له من ذلك ما لم يجتمع لغيره. وأدرك من الشيوخ جماعة كل واحد رأس في فنه الذي اشتهر به. تتلمذ عليه السخاوي والسيوطي والديلمي وابن مرزوق وغيرهم.
مؤلفاته كثيرة مشهورة وصلت إلى أكثر من مائة وخمسين مؤلفا منها: 'شرح البخاري' و'تهذيب التهذيب' و'التقريب' و'الإصابة' و'لسان الميزان' و'الدرر الكامنة'. وكان رحمه الله تعالى كثير الصوم ملازما للعبادة واقتفاء السلف الصالح، وأوقاته مقسمة للطلبة مع كثرة المطالعة والتصنيف والإفتاء والتدريس. أثنى عليه جمع من أهل العلم، وخصه بعضهم بالترجمة كالإمام السخاوي في كتابه 'الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر'.(1/469)
قال البرهان الحلبي: ما رأينا مثله. وقال العلامة التقي الفاسي: هو أحفظ أهل العصر للأحاديث والآثار وأسماء الرجال، المتقدمين منهم والمتأخرين، والعالي من ذلك والنازل، وصنف عدة تصانيف في علل الأحاديث، وبراعته حسنة في الفقه وغيره، ويبدي في دروسه للفقه أشياء حسنة. وقال أيضا: إن الله لا يستحيي من الحق، ما رأينا مثل الشيخ شهاب الدين ابن حجر، قيل له: ولا شيخكم العراقي، قال: ولا العراقي، رحمهم الله. وقال محدث الحجاز نجم الدين بن فهد: كان رحمه الله فريد عصره ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال وأحوال الرواة والجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ والمشكلات، تشد إليه الرحال في معرفة ذلك.
توفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في شرحه حديث حذيفة: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" (1) : يؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتاب والسنة وجعلهما فرعا لذلك الأصل الذي ابتدعوه، وفيه وجوب رد الباطل وكل ما خالف الهدي النبوي ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع. (2)
__________
(1) أخرجه: البخاري (6/763-764/3606) ومسلم (3/1475-1476/1847) وابن ماجه (2/1317/3979) من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: فذكره.
وأخرجه: أحمد (5/386-387) وأبو داود (4/447/4246) وابن حبان (الإحسان 13/298-299/5963) من طرق عن سليمان بن المغيرة عن حميد عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط ... فذكره.
(2) الفتح (13/37).(1/470)
- وقال في شرحه حديث ابن عباس: "أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين.." (1) : فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعصية باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلا أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر. (2)
- وقال في شرحه حديث عبدالله بن عمر (3) وذكروا له نجدا فقال - صلى الله عليه وسلم - : "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان"، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. (4)
- وقال: وأما قوله في حديث العرباض (5) : "فإن كل بدعة ضلالة" بعد قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور" فإنه يدل على: أن المحدث يسمى بدعة. وقوله: "كل بدعة ضلالة": قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال: "حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة" فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله "كل بدعة ضلالة" ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام. (6)
موقفه من المشركين:
__________
(1) أخرجه: البخاري (13/47/7085).
(2) الفتح (13/38).
(3) أخرجه: أحمد (2/118) والبخاري (2/662/1037) والترمذي (5/689/3953) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث ابن عون".
(4) الفتح (13/47).
(5) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(6) الفتح (13/254).(1/471)
- قال في قوله تعالى: فَلَا { تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا } مِثْلُهُمْ (1) ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإسراع في الخروج من ديار ثمود (2) .اهـ (3)
موقفه من الرافضة:
جاء في الفتح:
- واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين. (4)
__________
(1) النساء الآية (140).
(2) أحمد (2/9 و58 و72) والبخاري (6/467/3381) ومسلم (4/2286/2980(39)) من حديث ابن عمر.
(3) الفتح (13/61).
(4) الفتح (13/34).(1/472)
- وقال عند حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة..." الحديث (1) : قوله: "كلهم يزعم أنه رسول الله" ظاهر في أن كلا منهم يدعي النبوة، وهذا هو السر في قوله في آخر الحديث الماضي "وإني خاتم النبيين" (2) ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها، وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابا فقط لكن يدعو إلى الضلالة، كغلاة الرافضة، والباطنية، وأهل الوحدة، والحلولية، وسائر الفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويؤيده أن في حديث علي عند أحمد، "فقال علي لعبدالله بن الكواء: وإنك لمنهم" وابن الكواء لم يدع النبوة وإنما كان يغلو في الرفض. (3)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) أحمد (2/313-530) والبخاري (6/764/3609)و(13/102/7121) ومسلم (4/2239-2240/157) وأبو داود (4/506-507/4333) والترمذي (4/432/2218) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ورواه ابن ماجه (2/1304/3952) من حديث ثوبان - رضي الله عنه - .
(2) ذكره في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - : (قريب من ثلاثين). من رواية حذيفة "سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون: منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي" أخرجه: أحمد (5/396) والطبراني في الكبير (3/188/3026) والأوسط (6/214/5446) والبزار (7/294/2888) البحر الزخار) مختصراً. وذكره الهيثمي في المجمع (7/332) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح". وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/108).
(3) الفتح (13/108).(1/473)
قال رحمه الله: المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد، وهذا الذي يسميه بعض غلاة الصوفية توحيد العامة، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما، أحدهما: تفسير المعتزلة كما تقدم، ثانيهما: غلاة الصوفية، فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء، وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهى المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود. (1)
- وقال رحمه الله: واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب (2) على إباحة الغناء وسماعه بآلة، وبغير آلة، ويكفى في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. (3)
- وقال أيضا: واستدل قوم من الصوفية بحديث الباب (4) على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي، وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين. فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو والله أعلم. (5)
__________
(1) الفتح (13/348).
(2) أي حديث عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ... الحديث. أخرجه أحمد (6/84) والبخاري (2/559/949-950) ومسلم (2/609/892 (19)) والنسائي (3/218/1596).
(3) فتح الباري (2/562).
(4) يعني حديث الحبشة.
(5) فتح الباري (6/686).(1/474)
- وقال رحمه الله في شرحه لحديث: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" (1) : وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ. وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عاداهم فقد يخطأ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ، وأما من بالغ منهم فقال: حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خطأ، فإنه لا يأمن أن يكون قلبه إنما حدثه عن الشيطان والله المستعان. (2)
موقفه من الجهمية:
- وقد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول. (3)
__________
(1) أخرجه البخاري (11/414/6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) فتح الباري (11/419-420).
(3) الفتح (13/234).(1/475)
- واعترض بعض المخالفين بأن إرسالهم -يعني معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما- إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك وهي مكابرة، فإن العلم حاصل بإرسال الأمراء لأعم من قبض الزكاة وإبلاغ الأحكام وغير ذلك، ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل وأمره له وقوله له: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فأعلمهم أن الله فرض عليهم" (1) إلخ، والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة، وفي أحاديث هذا الباب كثير من ذلك. واحتج بعض الأئمة بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ } رَبِّكَ (2) مع أنه كان رسولا إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم، وهو مسلك جيد ينضم إلى ما احتج به الشافعي ثم البخاري... ومن حيث النظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتبليغ الأحكام، وصدق خبر الواحد ممكن فيجب العمل به احتياطا، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر، فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة. (3)
- وفيه: وقد نقل بعض العلماء لقبول خبر الواحد: أن كل صاحب وتابع سئل عن نازلة في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم أنه لم يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك حتى يسأل غيره فضلا عن أن يسأل الكواف، بل كان كل منهم يخبره بما عنده فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. (4)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن خزيمة سنة (311هـ).
(2) المائدة الآية (67).
(3) الفتح (13/235).
(4) الفتح (13/238).(1/476)
- وفيه: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها،ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق. (1)
- وفيه: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات. حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق. (2)
- وفيه: والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد، وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها؛ وهذا هو محض التقليد، فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى، والقول بإيمان من قلدهم. وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين: فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا، وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أولى منها. (3)
__________
(1) الفتح (13/253).
(2) الفتح (13/345).
(3) الفتح (13/354).(1/477)
- وفيه: واحتج المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ والله منزه عن الجوارح، وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله سبحانه وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيا موجودا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات. (1)
- وفيه: وبأن أصل ما ذكروه -أي أهل الكلام- قياس الغائب على الشاهد وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال وبالله التوفيق، ولو لم يكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازما بتأويله بخلاف صاحب التفويض. (2)
-وقال: قوله: "وأنا معه إذا ذكرني" (3) أي بعلمي، وهو كقوله: إِنَّنِي { مَعَكُمَا أَسْمَعُ } وَأَرَى (4) والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى: مَا { يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ } رَابِعُهُمْ -إلى قوله- إِلَّا { هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا } كَانُوا (5) .اهـ (6)
- وفيه: وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف، إذ ليس كمثله شيء وبالله التوفيق. (7)
__________
(1) الفتح (13/373).
(2) الفتح (13/383).
(3) أحمد (2/251؛413) والبخاري (13/473-474/7405) ومسلم (4/2061/2675) والترمذي (5/542/3603) وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في الكبرى (4/412/7730) وابن ماجه (2/1255-1256/3822).
(4) طه الآية (46).
(5) المجادلة الآية (7).
(6) الفتح (13/386).
(7) الفتح (13/413).(1/478)
- وفيه: وفي الحديث (1) إثبات الشفاعة، وأنكرها الخوارج والمعتزلة، وهي أنواع أثبتها أهل السنة، منها: الخلاص من هول الموقف، وهي خاصة بمحمد رسول الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بيان ذلك واضحا في الرقاق، وهذه لا ينكرها أحد من فرق الأمة. ومنها: الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، وخص هذه المعتزلة بمن لا تبعة عليه. ومنها: الشفاعة في رفع الدرجات، ولا خلاف في وقوعها. ومنها: الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم وهذه التي أنكروها، وقد ثبتت بها الأخبار الكثيرة، وأطبق أهل السنة على قبولها وبالله التوفيق. (2)
- وفيه: قال الأئمة: هذه الآية -أي قوله تعالى: N¯=x.ur { اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (164) (3) - أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة. (4)
تنبيه:
لابن حجر رحمه الله تأويلات لجملة من صفات الله عز وجل منها تأويله:
- صفة العين. (5)
- صفة الوجه: قال في قول الله تعالى: كُلُّ { شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا } وَجْهَهُ والمراد بالوجه الذات ... (6)
- كما تردد في الصوت بين التفويض والتأويل. (7)
- تبنيه لقول الأشاعرة في القرآن ونفيه الصوت والحرف. (8)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) أي حديث: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة في صفوان ... " الحديث. أخرجه: البخاري (13/555/7481) وأبو داود (4/288-289/3989) والترمذي (5/337/3223) وابن ماجه (1/69-70/194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الفتح (13/459-460).
(3) النساء الآية (164).
(4) الفتح (13/479).
(5) انظر الفتح (13/389).
(6) انظر الفتح (13/402).
(7) انظر الفتح (13/458).
(8) انظر الفتح (13/493-494).(1/479)
- قال الحافظ عقب حديث أبي بكرة "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار" (1) : قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا. وقيل هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم من قوله: "فهما في النار" استمرار بقائهما فيها. (2)
- وقال في شرح حديث ابن عمر أنه لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (3) ، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه.
وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لا ينخلع بالفسق. (4)
__________
(1) أحمد (5/43) والبخاري (1/115/31) ومسلم (4/2214/2888(15)) وأبو داود (4/462/4268) والنسائي (7/142/4132). وأخرجه ابن ماجه (2/1311/3965) بمعناه. عن أبي بكرة. وورد أيضا عن عدة من الصحابة.
(2) الفتح (13/33).
(3) أحمد (2/48،96) والبخاري (13/85/7111) ومسلم (3/1360/1735(10)) وأبو داود (3/188/2756) والترمذي (4/122/1581) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(4) الفتح (13/71-72).(1/480)
- وقال: أما الخوارج فهم: جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم، كذا قال. وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليا فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق. ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك، وكان علي أرسل اليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك.(1/481)
وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصدا إلى قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهرا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصا القراء القتال بسبب ذلك تدينا، واحتجوا بقوله تعالى: أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ } بَيْنَهُمْ (1) الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حكما منكم وحكما منا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين علي معاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا أكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضا، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكانا يقال له حروراء بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم: الحرورية.
__________
(1) آل عمران الآية (23).(1/482)
وكان كبيرهم عبدالله بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري، وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليا فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: "لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا".(1/483)
وخرجوا شيئا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل. فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبدالله بن خباب بن الأرت وكان واليا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سرية وهي حامل، فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة.(1/484)
فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم إلى من بقى منهم من مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبدالرحمن بن ملجم الذي قتل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة، ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولى الخلافة عبدالله ابن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الابط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا، وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم، فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب. وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف -بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى- كتابا لخصه الطبري في تاريخه.(1/485)
وصنف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد بن قدامة الجوهري -أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح- كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه 'الكامل'، لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضى بالتحكيم كفار. والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. (1)
موقفه من المرجئة:
__________
(1) فتح الباري (12/351-353).(1/486)
قال رحمه الله: قوله: (وهو) أي الإيمان (قول وفعل ويزيد وينقص) وفي رواية الكشميهني: "قول وعمل" وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله (وهو) إلى آخره مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف. والكلام هنا في مقامين: أحدهما كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص. فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا: فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبتت المعتزلة الواسطة. فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.(1/487)
وأما المقام الثاني: فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص. وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا: متى قبل ذلك كان شكا. قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: 'تعظيم قدر الصلاة' عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبدالرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك ابن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم. وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في 'كتاب السنة' عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة، وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية (1) من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ثم تلا: وَيَزْدَادَ { الَّذِينَ آَمَنُوا } إِيمَانًا (2) الآية.
ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة. (3)
موقفه من القدرية:
__________
(1) 9/114-115).
(2) المدثر الآية (31).
(3) فتح الباري (1/64-65).(1/488)
- قال في الفتح: وأما قوله في الأنعام: سَيَقُولُ { الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا } آَبَاؤُنَا (1) فقد تمسك بها المعتزلة، وقالوا إن فيها ردا على أهل السنة. والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين: وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا، والإرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه، فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق، وهي حجة مردودة لأن القدر لا تبطل به الشريعة وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه العقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب، وحرف المسألة أن المعتزلة قاسوا الخالق على المخلوق وهو باطل، لأن المخلوق لو عاقب من يطيعه من أتباعه عد ظالما لكونه ليس مالكا له بالحقيقة، والخالق لو عذب من يطيعه لم يعد ظالما لأن الجميع ملكه فله الأمر كله يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. (2)
__________
(1) الأنعام الآية (148).
(2) الفتح (13/449).(1/489)
- وقال: قوله: يُرِيدُ { اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ } الْعُسْرَ (1) هذه الآية مما تمسك بها المعتزلة لقولهم فقالوا: هذا يدل على أنه لا يريد المعصية، وتعقب بأن معنى إرادة اليسر التخيير بين الصوم في السفر ومع المرض، والإفطار بشرطه. وإرادة العسر المنفية الإلزام بالصوم في السفر في جميع الحالات، فالإلزام هو الذي لا يقع لأنه لا يريده وبهذا تظهر الحكمة في تأخيرها عن الحديث المذكور والفصل بين آيات المشيئة وآيات الإرادة، وقد تكرر ذكر الإرادة في القرآن في مواضع كثيرة أيضا، وقد اتفق أهل السنة على أنه لا يقع إلا ما يريده الله تعالى، وأنه مريد لجميع الكائنات وإن لم يكن آمرا بها. وقالت المعتزلة لا يريد الشر لأنه لو أراده لطلبه، وزعموا أن الأمر نفس الإرادة، وشنعوا على أهل السنة أنه يلزمهم أن يقولوا إن الفحشاء مرادة لله وينبغي أن ينزه عنها، وانفصل أهل السنة عن ذلك بأن الله تعالى قد يريد الشيء ليعاقب عليه، ولثبوت أنه خلق النار وخلق لها أهلا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا؛ وألزموا المعتزلة بأنهم جعلوا أنه يقع في ملكه ما لا يريد. (2)
- وقال: والمراد هنا الإشارة إلى أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه يكون كمن جعل لله ندا، وقد ورد فيه الوعيد الشديد فيكون اعتقاده حراما. (3)
الجزولي وضلاله (870 هـ)
ذكر صاحب 'الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام' نقولاً للجزولي يظهر منها إغراقه في التصوف والضلال منها قوله:
قال رضي الله عنه: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أنا زين المرسلين، وأنت زين الأولياء. (4)
وقال رضي الله عنه: معشرَ الإخوان ليس هنا معكم إلا جسمي، وأما أنا قد مشيت إليه وصرت معه، معشر الإخوان تهت ووصلت وصولاً لم يصله أحد قطّ. (5)
__________
(1) البقرة الآية (185).
(2) الفتح (13/451).
(3) الفتح (13/495).
(4) الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام (ص.47).
(5) الإعلام (ص.47).(1/490)
وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي، من أراد أن ينظر في وجه أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلينظر في وجهك، وقال رضي الله عنه: لا تقولوا رحمكم الله إني آخذ العلم من الأرض أو من السماء، بل آخذه من الملك الحقّ من غير أرض ولا سماء، وقال رضي الله عنه: معشر المريدين انظروا إلى مولاكم وهو معي ليس لي نظر إلا فيه، كماله قد عمّ صدري وعم حياتي وعمني طول حياتي، كماله قد أفناني عما سواه، وقال رضي الله عنه: معشر المريدين فرّحوني بتعظيم ربي وإجلاله وجماله، أنا معه وأنتم لم تشتغلوا بشيء، غبت في أنوار كماله ومشاهدة جلاله وجماله، ألا لعنة الله على من عبر عن مقام غير مقامه. (1)
وقال رضي الله عنه: يا من كان ينظر إليّ في الأرض فانظر إلي في السماء وفي العرش وفوق ذلك، أما علمتم أن الأقطاب تحتاج إليهم جميع المكونات هم في مقام النبوة يفشون السر، يا من كان سعيداً فعليك بالمشي إليهم ولو كان من بغداد، المشي إليهم نور ورحمة وسر في القلوب. (2)
__________
(1) الإعلام (ص.47-48).
(2) الإعلام (ص.48).(1/491)
وقال: ليس العزيز من تعزز بالقبيلة وحسب الجاه، وإنما العزيز من تعزز بالشرف والنسب، أنا شريف في النسب، جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا أقرب إليه من كل ما خلق الله، وعنايتي في الأزل مصبوغة بالذهب والفضة، يا من أراد الذهب والفضة فعليك باتباعنا، ومن تبعنا يسكن في أعلى عليين في دار الدنيا والآخرة، ودولتنا كانت الأمم الماضون تدعو أن يلحقوا بها، ولكن لا يلحق بها إلا من سبقت له السعادة، ودولتنا دولة المجتهدين المجاهدين في سبيل الله القاتلين أعداء الله، ملوك الأرض كلها في يدي وتحت قدمي، معشر المسلمين أما علمتم أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قريب مني وحكمه في يدي، من تبعني فهو متبع له، ومن لم يتبعني فليس بمتبع له، سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنت المهدي، من أراد أن يسعد فليأت إليك، معشر المسلمين كونوا من أمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تكونوا من أعدائه بالتكذيب والنكران والغش والخيانة، معشر المسلمين خلق الله لكم من يهديكم في آخر الزمان فاحمدوه، معشر المسلمين لا يبغضنا على دين الله عز وجل إلا من ليس له دنيا ولا آخرة، ولا يحسدنا على طاعة الله عز وجل إلا من ليس له حظ عند الله عز وجل، وقال رضي الله عنه: قيل لي يا عبدي خصصتك بعنايتي في الأزل، فلا أحد يصل إلى عنايتك، يا عبدي سيادتك على أهل المشرق والمغرب الماضين والباقين، يا عبدي وصلتك إلى مقام لا يصل إليه أحد من الواصلين، وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي تاهت العقول فيما أعطيتك، وما بقي لك عندي أكثر وأعظم من قبل إقدامك بالحب والشوق أُثبته يوم القيامة بالعفو والصفح، يا عبدي تنافست الأولياء فيما أعطيتهم ولا يبلغ أحد ما أعطيتك من كرامتي، يا عبدي لو كانت الملائكة كتابا، والأشجار أقلاما، والبحار مداداً، لا يكتبون من أحوالك السنية إلا مقدار ما يكتب الولد الصغير في اللوح من الأسطار، يا عبدي لا يبلغ أحد مقامك من(1/492)
أوليائي، سبق ذلك في علم الغيب عندي، وعزتي وجلالي لأعطيتك يوم القيامة حكما على أوليائي. (1)
وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي فضلتك على جميع خلقي بكثرة صلاتك على نبيي يا عبدي من أطاعك من الأولياء فقد أطاعني ومن عصاك من الأولياء فقد عصاني، ومن تكبر عليك من أولياء الزمان سلبته من نوري. (2)
ثم ذكر له كرامات منها قوله:
من كرامات القطب الجزولي رضي الله عنه أن بعض من احترم به لما أخرج كرهاً عليه من ضريحه الشريف رأى بعضهم مناما الشيخ رمى بيدي ورجلي من أخرجه في طنجير يغلي بباب قبته، فأصبح المجترئ المذكور معطَّل الجوارح المذكورة وما زال يُبلى بالمصائب والعياذ بالله من التجرئ على أوليائه، فإن الله تعالى يغارُ لهم، وهذه القضية وقعت في عصرنا، أصحبنا الله تعالى السلامة والعافية في الدارين، وأدام ستره علينا آمين. (3)
__________
(1) الإعلام (ص.48-49).
(2) الإعلام (ص.51).
(3) الإعلام (ص.93).(1/493)
وقال: وقد ذكر في 'تحفة الإخوان' العلامة الطاهري ما نصه: ومن كراماته رضي الله عنه ما أخبرني سيدي ومولاي قاسم في هذا المعنى: قال لي رحمه الله: كنت أعرف رجلاً من أصحاب سيدي محمد بن ناصر رحمه الله، وكان أخذ عنه ولازمه إلى أن مات، فلم يستخلف من بعده أحداً، لا ولده سيدي أحمد ولا غيره، وظهر له أنه حصل على شيء وأنه استغنى عن معرفة الأشياخ، فتولته الشياطين، وصحبه الجان، وجعلوا ينصحونه في زعمه ويطلعونه على العجائب مما هو مخصوص بجنسهم، ويطوفونه على قبائلهم حتى كان يعرف جمّاً غفيرا منهم، فركن لذلك وفُتن به، وشغله عن ورده وعبادته، وجعل يكثر من لغو الكلام والفضول ويهرتل ولا يعلم ما يقول، قال مولاي قاسم رحمه الله: فكان ذلك الرجل يحدثني بما وقع له لما تحقق ذلك من نفسه، ولما سبق له من السعادة ببركة شيخه، قال لي: لما اشتد علي الحال جعلت أرقى على الآكام والجبال وأنادي بأعلى صوتي: الغياث الغياث يا أولياء الله، الغياث الغياث، تشفعت لكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويذكر ويعيّن كل من يعرف من الأولياء باسمه، ويكثر من النداء على شيخه، قال فبينما أنادي في بعض الأيام إذ أقبلت علي كتيبة من الخيل، فلما دنت مني جاءني عدو من الجن كان يعرفني وخطفني ووضعني على عنقه وفرّ بي أمامهم، فجعلت الكتيبة من الخيل تتبعنا وهو يسبق أمامهم وهم في طلبه، يسمع جريهم وصياحهم وجعلوا يتأخرون عنا زمراً زمراً حتى لم يبق في طلبنا إلا أربعة رجال؛ اثنان منهم على فرسين أحدهما أدهم والآخر أشهب، واثنان طائران. قال: فخاض بي البحر فخاضوا في طلبه فخرج إلى البر فتبعونا، فلما تحقق الهلاك وتعذر له منهم الفكاك رماني وفر أمامهم، فلحقوه وقتلوه وجاؤوا بي.(1/494)
فقلت لهم: نشدتكم الله أخبروني من أنتم الذين تفضل الله علي بهم؟ قال: فقال له صاحب الفرس الأشهب: أنا عبدالسلام بن مشيش، وقال صاحب الأدهم: أنا أبو يعزى، وقال أحد الطيور: أنا محمد بن سليمان الجزولي أو قال: أبو سلهام، الشك من مولاي قاسم رحمه الله، قال: والغالب على ظني أنه قال: أبو سلهام، وقال الرابع: أنا عبدالله بن إبراهيم -يعني شيخنا مولانا عبدالله الشريف- نفعنا به وحشرنا في زمرته. انتهى ما كتبت في 'إظهار الكمال'. (1)
وله كتاب 'دلائل الخيرات' جمع فيه من الحديث الضعيف والمكذوب ومن الصلوات المبتدعة صيغةً وعدداً الشيء الكثير ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء وأوصاف لم ترد في الكتاب ولا في السنة إلى كثير من العقائد الباطلة التي بثها في كتابه كقوله بوحدة الوجود وكتوسله بالمخلوقات وذلك مبسوط في كتابنا 'وقفات مع الكتاب المسمى بدلائل الخيرات' وهو مطبوع متداول فليرجع إليه من شاء الوقوف على ذلك.
وإليك بعض النماذج من هذا الكتاب المشؤوم:
قال في الدلائل مقرِّراً لعقيدة وحدة الوجود (2) : اللهم جدد من صلواتك التامات وتحياتك الزاكيات على الذي أقمته لك ظلاًّ، وجعلته لحوائج خلقك قبلة ومحِلاًّ، وأظهرته بصورتك، واخترته مستوى لتجليك، ومنزلاً لتنفيذ أوامرك ونواهيك في أرضك وسمواتك، وواسطة بينك وبين مكوَّناتك. (3)
وقال وهو يتوسل بالمخلوقات: أسألك بحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام والمشعر الحرام وقبر نبيك عليه السلام. (4)
وقال وهو يمجد الله بزعمه: يا أزلي يا أبدي يا دهري يا ديمومي. (5)
وقال وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف لا تليق إلا بالله: اللهم صل على مجلي الظلمة اللهم صل على مولي النعمة اللهم صل على موتي الرحمة. (6)
__________
(1) الإعلام (ص.96-97).
(2) ص.38).
(3) انظر كتب ليست من الإسلام للإستانبولي (ص.28).
(4) الدلائل (ص.122-123).
(5) الدلائل (ص.152).
(6) الدلائل (ص.62).(1/495)
ووصفه أيضاً بقوله: محيي، مدعو، مجيب، متين، غوث، غياث، جبار، مهيمن، شاف، كاشف الكرب، رافع الرتب، صاحب الفرج، حق، عفو، وكيل.
وسماه أيضاً بأسماء لم ترد في الكتاب ولا في السنة، بل بعضها مستهجن لا يقره عاقل كتسميته بأحيد، رسول الراحة، إكليل، حريص عليكم، معلوم، شهير، سراج، مصباح، هدى، قدم صدق، رحمة، بشرى، غيث، عروة وثقى، حزب الله، النجم الثاقب، أجير، مبرّ، مقدس، روح القدس، روح الحق، روح القسط، موصول، مفتاح، دليل الخيرات، مصحح الحسنات، مقيل العثرات، صفوح عن الزلات، صاحب القدم، صاحب الإزار، صاحب الرداء، صاحب القضيب، أذن خير، عين النعيم، عين الغرّ، عز العرب، ...إلخ. (1)
إبراهيم بن عمر البِقَاعِي (2) (885 هـ)
الإمام الكبير برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط البقاعي، الشافعي المحدث المفسر، الإمام العلامة المؤرخ. ولد سنة تسع وثمانمائة بقرية من عمل البقاع، ونشأ بها ثم تحول إلى دمشق ثم فارقها ودخل بيت المقدس ثم القاهرة. قرأ على التاج بن بهادر في الفقه والنحو. وعلى ابن الجزري القراءات، وأخذ عن ابن ناصر الدين وابن حجر والعماد بن شرف وغيرهم.
وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وناظر وانتقد حتى على شيوخه، وصنف تصانيف عديدة من أجلها: 'نظم الدرر في تناسب الآي والسور' و'الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل' و'القول المألوف في الرد على منكر المعروف' و'تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي'.
وقد تعرض رحمه الله تعالى لعدة محن وشدائد ومناهدة العظائم من معاصريه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد أن تفتت كبده في ليلة السبت ثامن عشر رجب سنة خمس وثمانين وثمانمائة.
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية:
__________
(1) الدلائل (ص.26-33).
(2) الضوء اللامع (1/101-111) وفهرس الفهارس (2/619-620) والبدر الطالع (1/19-22) وشذرات الذهب (7/339-340) ومعجم المؤلفين (1/71) والأعلام (1/56).(1/496)
1- 'تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي'.
2- 'تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد' وطبع الكتابان تحت عنوان: 'مصرع التصوف' بتحقيق عبدالرحمن الوكيل رحمه الله.
ابن حجر الهيتمي (973 هـ)
هذا الشخص معروف بالتصوف مما أورثه عداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن له كلمات جيدة في القبورية وفي فضح الروافض وبيان ضلالهم.
موقفه من المشركين:
- قال في الزواجر: ومن الكبائر اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانا، والطواف بها واستلامها والصلاة إليها. (1)
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/326).(1/497)
- وقال: وأما اتخاذها أوثانا فجاء النهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تتخذوا قبري وثنا يعبد بعدي" (1) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه ...قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بها عين المحادة لله ورسوله، وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها، ثم إجماعا: فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه نهى عن ذلك وأمر - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة. وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. (2)
موقفه من الرافضة:
- له كتاب 'الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الابتداع والضلال والزندقة' وله رسالة أخرى ملحقة بالصواعق بعنوان 'تطهير الجنان واللسان عن الخطر والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان'.
- قال في الصواعق: اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم. (3)
__________
(1) أخرجه أحمد (2/246) وابن سعد (2/241-242) وأبو يعلى (12/33-34/6681) والحميدي (2/445/1025) وأبو نعيم (7/317) كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وتمامه: "لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (25) وأورد له شاهدين مرسلين: الأول عن زيد بن أسلم، والآخر عن عطاء. قال ابن عبدالبر تعليقا على مرسل عطاء في التمهيد (فتح البر: 1/281): "فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات".
(2) الزواجر (1/328).
(3) 2/603).(1/498)
- وقال في الزواجر: عد ما ذكر -أي بغض الأنصار وشتم واحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين- كبيرتين هو ما صرح به غير واحد وهو ظاهر، وقد صرح الشيخان وغيرهما أن سب الصحابة كبيرة، قال الجلال البلقيني: وهو [أي سب الصحابة] داخل تحت مفارقة الجماعة، وهو الابتداع المدلول عليه بترك السنة، فمن سب الصحابة رضي الله عنهم أتى كبيرة بلا نزاع. (1)
__________
(1) 2/509).(1/499)
- وقال أيضا: فقد نص الله تعالى على أنه رضي عن الصحابة في غير آية قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ { الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (100) (1) فمن سبهم أو واحدا منهم فقد بارز الله بالمحاربة، ومن بارز الله بالمحاربة أهلكه وخذله، ومن ثم قال العلماء: إذا ذكر الصحابة بسوء كإضافة عيب إليهم وجب الإمساك عن الخوض في ذلك، بل ويجب إنكاره باليد ثم اللسان ثم القلب على حسب الاستطاعة كسائر المنكرات، بل هذا من أشرها وأقبحها، ومن ثم أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحذير من ذلك بقوله: "الله الله" أي احذروا الله أي عقابه وعذابه على حد قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ { اللَّهُ نَفْسَهُ } وكما تقول لمن تراه مشرفا على الوقوع في نار عظيمة: النار النار أي احذرها. وتأمل أعظم فضائلهم ومناقبهم التي نوه بها - صلى الله عليه وسلم - حيث جعل محبتهم محبة له وبغضهم بغضا له، وناهيك بذلك جلالة لهم وشرفا، فحبهم عنوان محبته وبغضهم عنوان بغضه. ثم قال: وإنما يعرف فضائل الصحابة من تدبر سيرهم معه - صلى الله عليه وسلم - وآثارهم الحميدة في الإسلام في حياته وبعد مماته، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وأفضله، فقد جاهدوا في الله حق جهاده حتى نشروا الدين وأظهروا شرائع الإسلام ولولا ذلك منهم ما وصل إلينا قرآن ولا سنة ولا أصل ولا فرع، فمن طعن فيهم فقد كاد أن يمرق من الملة؛ لأن الطعن فيهم يؤدي إلى انطماس نورها: وَيَأْبَى { اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (32) (2)
__________
(1) التوبة الآية (100).
(2) التوبة الآية (32)..(1/500)
وإلى عدم الطمأنينة والإذعان؛ لثناء الله ورسوله عليهم، وإلى الطعن في الله وفي رسوله؛ إذ هم الوسائط بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والإزراء بالناقل إزراء بالمنقول عنه، وهذا ظاهر لمن تدبره، وقد سلمت عقيدته من النفاق والغلو والزندقة، فالواجب على من أحب الله ورسوله؛ حب من قام بما أمر الله ورسوله به، وأوضحه وبلغه لمن بعده، وأداه جميع حقوقه، والصحابة هم القائمون بأعباء ذلك كله. (1)
عبد الوهاب الشعراني: ترهاته ومخازيه (973 هـ)
كان هذا الرجل من أكابر مخرّفي الصوفية -في القرن العاشر- الذين تخرّج على أيديهم فئام من الجهلة، يُساقون سَوق النَّعَم، ولا يدري المساكين إلى أين؟
له مصنفات في التصوف، ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قِبَله الخسران والنقمة. قامت دعوته على مناقضة التوحيد، ونشر الشرك، وكتبه خير شاهد بذلك.
ولولا أمانة حماية التوحيد؛ لما سطرتُ ما سطرت، ولما أضعت الوقت في قراءة مثل هذه الكتب التي تفسد على المرء دينه ودنياه.
ويكفي القارئ المنصف -مريدَ الحق- نماذج نذكرها من مخازي هذا الشعراني، يتبين له من خلالها صدق ما نقول.
ولا يهولنك -أخي- ما قد تسمعُه من الألقاب التي تضفى على مثل هذا الرجل، كالإمام، والهيكل الصمداني، والقطب الرباني، وغيرها، فإنما هي ألقاب عارية عن المضمون، وشعارات واهية لا تنبئ عن المكنون. فكن أخا الإسلام منها على حذر! وفرَّ منها تنجُ من الشرر!
ولنأخذ على سبيل المثال كتابه الطبقات، ولنُجِلِ النظر فيه، لنرى هل هذا الكتاب يطابق اسمه مسماه؟ أم العكس؟
فاسم الكتاب: 'لواقح الأنوار في طبقات الأخيار'، وهو عبارة عن تراجم صنعها مؤلفه لأئمة طريقته ومشايخهم، وأقحم -غير مبالٍ- تراجم بعض الصحب والتابعين، وزمرة من أئمة الحديث المجتهدين، وختمها بشيوخ وقته الذين عاصرهم.
__________
(1) الزواجر (2/510-511).(2/1)
وقد ضمن التراجم ألواناً من الشرك، وأنواعاً من الكفر والزندقة، وشذوذاً في السلوك والأخلاق.
أقول: كيف طاب لهذا الجرّيء أن يجمع بين خير الناس بعد النبيين، وبين شرهم من الزنادقة الهالكين كابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وغيرهم، تلبيساً منه وتدليساً.
والعجب ادعاؤه اتباع سنن المحَدِّثين ومنهجهم في انتقاء هذه الأخبار، فلم يروِ -كما زعم- في كتابه هذا إلا ما صح بالسند الصحيح عند القوم. وما أدري أين يتجلى انتقاؤه المزعوم؟ أَكُلُّ هذه الطّامّات العقدية والتعبدية والخلقية منتقاة؟ فماذا لو لم ينتقِ!!
وإليك أخي القارئ أقوال الشعراني في كتابه، ولا تعجل بالإنكار علينا إلا بعد قراءتك لهذه الأقوال. وقارنها بأقوال من تشبّع بالكتاب والسنة من الصحب ومن اتبعهم بإحسان، تجد البون شاسعاً، رغم ما زعمه الشعراني في مقدمة طبقاته من أن القوم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا من طريق الكتاب والسنة وتشبثهم بهما.
1- مشاركة أولياء الشعراني لله عز وجل في التصريف والتدبير:
قال الشعراني:
- وكان رضي الله عنه يقول: فقدت قلبي منذ عشرين سنة مع الله تعالى، وتركت قولي للشيء كن فيكون منذ عشرين سنة أدباً مع الله عز وجل... (1)
- وكان رضي الله عنه يقول: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والأبدال أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، والنجباء مصر، والأبدال بالشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، والغوث مسكنه بمكة. فإذا عرض حاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد ثم الغوث. (2)
__________
(1) الطبقات (1/102).
(2) الطبقات (1/110).(2/2)
- ...مات رضي الله عنه عن أربعين مريداً كلهم من أرباب الأحوال. وحكى أنه لما مات اجتمع هؤلاء المريدون في روضة تجاه زاويته، فجعل كل منهم يأخذ من تلك الروضة قبضة من بنائها، ويتنفس عليها فتزهر من جميع الأزهار المختلفة الألوان من أصفر وأخضر وأزرق وأبيض وغير ذلك، حتى أقرّ بعضهم لبعض بالتمكين والتصريف. (1)
- وكان يقول: إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى، وصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال برجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء، وصار الحق تعالى يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، قال ويدل لما قلناه ما ورد في بعض الكتب الإلهية، يقول الله عز وجل: يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم، وأحبوني أحبكم، وراقبوني أراقبكم، وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون. (2)
- ومنهم الشيخ سويد السنجاري رضي الله عنه... وهو أحد من ملكه الله تعالى التصرف في العالم، وجمع له بين علمي الشريعة والحقيقة. (3)
- ومنهم الشيخ حياة بن قيس الحراني رضي الله تعالى عنه... وهو أحد الأربعة الذين يتصرفون في قبورهم بأرض العراق. (4)
- وكان يقول: كل بدل في قبضة العارف؛ لأن ملك البدل من السماء إلى الأرض، وملك العارف من العرش إلى الثرى. (5)
- وقد كان سهل بن عبدالله التستري رضي الله عنه يقول: أعرف تلامذتي من يوم أَلَسْتُ { } بِرَبِّكُمْ (6) ، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني، ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا، نقله ابن عربي رضي الله عنه في الفتوحات. (7)
__________
(1) الطبقات (1/138).
(2) الطبقات (1/142).
(3) الطبقات (1/152).
(4) الطبقات (1/153).
(5) الطبقات (1/156).
(6) الأعراف الآية (172).
(7) الطبقات (1/183).(2/3)
- وكان رضي الله عنه يقول: ...حركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة. (1)
- وسافر إلى العراق فتلقاه أشياخها منهم سيدي عبدالقادر وسيدي أحمد بن الرفاعي فقالا: يا أحمد مفاتيح العراق والهند واليمن والروم والمشرق والمغرب بأيدينا، فاختر أيّ مفتاح شئت منها، فقال لهما سيدي أحمد رضي الله عنه: لا حاجة لي بمفاتيحكما، ما آخذ المفتاح إلا من الفتّاح. (2)
- فدار الكلام بينهما فقال سيدي علي: ما تقول في رجل رحى الوجود بيده يدورها كيف شاء؟ فقال له سيدي محمد رضي الله عنه: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور؟ فقال له سيدي علي: والله كنا نتركها لك، ونذهب عنها... (3)
- كان رضي الله عنه من الرجال المتمكنين أصحاب التصريف... وكان رضي الله عنه يقول كثيراً: كنت أمشي بين يدي الله تعالى تحت العرش، وقال لي كذا وقلت له كذا، فكذبه شخص من القضاة فدعا عليه بالخرس، فخرس حتى مات... (4)
" التعليق:
انظر رعاك الله إلى هذه الأقوال المشينة المخالفة لأبجديات عقيدة المسلم، كيف يتفوّه امرؤ عاقل بمثلها؟ بل كيف يترضى على أصحابها؟
2- اطلاع أولياء الشعراني على الغيب ورؤيتهم اللوح المحفوظ:
قال الشعراني:
- هو أحد أئمة القوم، ومن أكابر علمائهم المتكلمين في علوم الإخلاص والرياضات وغيوب الأفعال... (5)
- وكان يقول في قوله تعالى: لَعَلِمَهُ { الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } مِنْهُمْ (6) : المستنبط هو الذي يلاحظ الغيب أبداً، فلا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء. وقال في قوله: لَآَيَاتٍ { } لِلْمُتَوَسِّمِينَ (7) : المتوسم هو الذي يعرف الوسم وهو العارف بما في سويداء القلب... (8)
__________
(1) الطبقات (1/183).
(2) الطبقات (1/183).
(3) الطبقات (2/90).
(4) الطبقات (2/104).
(5) الطبقات (1/77).
(6) النساء الآية (83).
(7) الحجر الآية (75).
(8) الطبقات (1/92).(2/4)
- وكان يقول: إذا امتحن القلب بالتقوى ترحل عنه حب الدنيا وحب الشهوات، واطلع على المغيبات، ومن لم يمتحن قلبه بالتقوى لا يبرح عن حبّ الدنيا، ولم يزل محجوباً عن المغيبات... (1)
- ...وحفظ حكم السر يوسع قدرة الاطلاع على مكامن المكنونات... (2)
- هو أوحد الأئمة، أبرز الله تعالى له المغيبات، وخرق له العادات... (3)
- وكان يقول: ما أخذت العهد قط على مريد حتى رأيت اسمه مكتوباً في اللوح المحفوظ، وأنه من أولادي... (4)
- وكان رضي الله عنه يقول: العارف من جعل الله تعالى في قلبه لوحاً منقوشاً بأسرار الموجودات، وبإمداده بأنوار حق اليقين يدرك حقائق تلك السطور على اختلاف أطوارها، ويدرك أسرار الأفعال فلا تتحرك حركة ظاهرة أو باطنة في الملك والملكوت إلا ويكشف الله تعالى له عن بصيرة إيمانه وعن عيانه فيشهدها علماً وكشفاً... (5)
- وكان رضي الله عنه يقول: إذا كمل العارف في مقام العرفان أورثه الله علماً بلا واسطة، وأخذ العلوم المكتوبة في ألواح المعاني ففهم رموزها وعرف كنوزها.. وأطلعه الله على العلوم المودعة في النقط، ولولا خوف الإنكار لنطقوا بما يبهر العقول... وكذلك لهم الاطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء، وما في البر والبحر، وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء، وما في جباه الإنس والجان، مما يقع لهم في الدنيا والآخرة، وكذلك لهم الاطلاع على ما هو مكتوب بلا كتابة من جميع ما فوق الفوق وما تحت التحت، ولا عجب من حكيم يتلقى علماً من حكيم عليم... (6)
- وكان رضي الله عنه يقول: إن أولياء الله يطلعون على أمور لم يطلع عليها العلماء، فلا يسع الخائف على دينه إلا الأدب والتسليم. (7)
__________
(1) الطبقات (1/125).
(2) الطبقات (1/137).
(3) الطبقات (1/139).
(4) الطبقات (1/149).
(5) الطبقات (1/153).
(6) الطبقات (1/169-170).
(7) الطبقات (2/76).(2/5)
- وهو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود وصرفه في الكون... وأنطقه بالمغيبات... (1)
- عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه كان يقول: سيظهر بمصر رجل يعرف بمحمد الحنفي يكون فاتحاً لهذا البيت، ويشتهر في زمانه ويكون له شأن عظيم، وفي رواية أخرى عن الشاذلي رضي الله عنه: يظهر بمصر شاب يعرف بالشاب التائب، حنفي المذهب اسمه محمد بن حسن وعلى خده الأيمن خال، وهو أبيض اللون مشرب بحمرة، وفي عينيه حور ويربى يتيماً فقيراً. (2)
- ...فيقول الشيخ رضي الله عنه لذلك الشخص: أما تسأل؟ فلو سألتني شيئاً لم يكن عندي أجبتك من اللوح المحفوظ... (3)
- وكان آخر عمره مقعداً، ويتكلم على أخبار سائر الأقاليم من أطراف الأرض، وكانت له نصرانية تعتقده في بلاد الإفرنج، فنذرت إن عافى الله ولدها أن تصنع للفرغل بساطاً، فكان يقول: هاهم غزلوا صوف البساط، هاهم دوروا الغزل على المواسير، هاهم شرعوا في نسجه، هاهم أرسلوه، هاهم نزلوه المركب، هاهم وصلوا إلى المحل الفلاني ثم الفلاني، فقال يوماً: واحد يخرج يأخذ البساط؛ فإنه قد وصل على الباب فخرجوا فوجدوا البساط على الباب كما قال الشيخ رحمه الله. (4)
- كان رضي الله عنه إذا دخل بلداً سلم على أهلها كباراً وصغاراً بأسمائهم حتى كأنه تربّى بينهم. (5)
- وكان رضي الله عنه يخبر بالوقائع في مستقبل الزمان للولاة، فيقع كما أخبر لا يخطئ. (6)
- وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار. (7)
- وكان محل كشفه اللوح المحفوظ... (8)
__________
(1) الطبقات (2/89).
(2) الطبقات (2/90).
(3) الطبقات (2/97).
(4) الطبقات (2/104).
(5) الطبقات (2/142).
(6) الطبقات (2/143).
(7) الطبقات (2/150).
(8) الطبقات (2/150).(2/6)
- وكان يخبر بوقائع الزمان المستقبل، وأخبرني سيدي علي الخواص رضي الله عنه أن الله تعالى يطلع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوباً على العباد. (1)
" التعليق:
ما ترك هؤلاء لله عز وجل من علم الغيب؟ وهو القائل سبحانه: قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا } اللَّهُ (2) و¼çny‰Yدم { ?? مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا } هُوَ (3) والقائل: إِنَّ { اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (34) (4) .
وأين هم من النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل كما حكى الله عنه آمراً له بذلك: قُلْ { ?? لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (188) (5) .
بل لِمَ لُعن الكهنة والعرافون إلا لادعائهم الغيب؟
3- تلقي أولياء الشعراني الوحي عن الله مباشرة، أو بواسطة المَلَك:
__________
(1) الطبقات (2/185).
(2) النمل الآية (65).
(3) الأنعام الآية (59).
(4) لقمان الآية (34).
(5) الأعراف الآية (188).(2/7)
قال الشعراني في كتابه الأنوار القدسية وهو يحكي عن نفسه: فبينما أنا بالفسطاط مقابل الروضة بمصر، أخذتني حالة بين النائم واليقظان، فسمعت هاتفاً أسمع صوته ولا أرى شخصه، يقول على لسان الحق سبحانه وتعالى: عبدي لو أطلعتك على جميع الكائنات وعدد الرمال واسم كل ذرة منه، والنبات وأسمائها وأعمارها، والحيوانات وأعمارها وأنسابها إلى أصولها من الوحش والطيور والحشرات وسائر الدواب، وكشفت لك عن ملكوت السموات والأرض والجنة والنار وما فيهن ظاهراً وباطناً... (1)
وقال أيضاً عن نفسه: ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله، وأخبرهم بتنزل الملك على الولي، لقبلوا ذلك، ولم ينكروه، وقد نزل علينا ملك ولله الحمد. (2)
قال: وقد كان سهل بن عبدالله التستري رضي الله عنه يقول: أعرف تلامذتي من يوم: أَلَسْتُ { بِرَبِّكُمْ } (3) ، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني، ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا.. وكان رضي الله عنه يقول: أشهدني الله تعالى ما في العلا وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته... (4)
وقال الشعراني عن أوليائه: وكان رضي الله عنه يقول: إذا صلح القلب صار مهبط الوحي والأسرار. (5)
- وكان رضي الله عنه يقول: لو أخذت من ربي عز وجل عهداً أن لا تحرق النار جسداً دخل تربتي. (6)
__________
(1) انظر هامش الطبقات (1/2-3).
(2) الطبقات.
(3) الأعراف الآية (172).
(4) الطبقات (1/183).
(5) الطبقات (1/141-142).
(6) الطبقات (1/132).(2/8)
- فرأيت الحق جل وعلا، فقال لي: يا عبدي قد جعلتك من صفوتي في أرضي، وأيدتك في جميع أحوالك بروح مني، وأقمتك رحمة لخلقي، فاخرج إليهم، واحكم فيهم بما علمتك من حكمي، وأظهر لهم بما أيدتك به من آياتي، فاستيقظت وخرجت إلى الناس فهرعوا إليَّ من كل جانب، رضي الله عنه. (1)
- وكان رضي الله عنه يقول: عليكم بتصديق القوم في كل ما يدعون، فقد أفلح المصدقون، وخاب المستهزئون، فإن الله تعالى يقذف في سرّ خواصّ عباده ما لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل. (2)
- وكان رضي الله عنه يقول: أنا موسى عليه السلام في مناجاته... أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته.. وما كان ولي متصلاً بالله تعالى إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه... وإن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي. (3)
" التعليق:
فما عسى أن يقول العاقل إذا قرأ أو سمع مثل هذا الكلام! متى سُمع عن صحابيّ من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن الله كلّمه مباشرة أو جالسه، أو أنزل عليه مَلَكاً؟ وهم رضي الله عنهم خير الناس بعد الأنبياء على الإطلاق. فكيف يزعم الشعراني وأضرابه مرتبة لهم أفضل من مرتبة الصحابة؟ بل كيف يتخذ هؤلاء الأنذال لأنفسهم طريقاً غير طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ والأولى أن نقول: كيف يزعم هؤلاء أنه يوحى إليهم مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ يكفينا فيهم قول الله تعالى: وَمَنْ { أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ } اللَّهُ (4) .
4- اجتماع أولياء الشعراني بالخضر عليه السلام:
__________
(1) الطبقات (1/139).
(2) الطبقات (1/173).
(3) الطبقات (1/181).
(4) الأنعام الآية (93).(2/9)
زعم المتصوفة اجتماعهم بالخضر صاحب موسى عليهما السلام، ومذاكرتهم له، وأخذهم العلم عنه.
قال الشعراني في طبقاته:
- ...وكان يجتمع بالخضر عليه السلام، وذلك أدلّ دليل على ولايته، فإن الخضر لا يجتمع إلا بمن حقت له قدم الولاية المحمدية. (1)
- وكان رضي الله عنه يقول: دخلت داري يوماً فإذا رجل جالس في الدار، فقلت له: كيف دخلت داري بغير إذني، فقال: أنا أخوك الخضر، فقلت: ادع الله تعالى لي. فقال عليه السلام: هوّنَ الله عليك طاعته. (2)
- وكان يقول: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة، فقال لي: اجتمعت بالخضر عليه السلام، فقدم لي قدحاً أخضر فيه رائحة السكباج، فقال لي: كل يا إبراهيم، فرددته عليه، فقال: إني سمعت الملائكة تقول: من أُعطِيَ فلم يأخذ سأل فلا يُعطى. (3)
- وكان رضي الله عنه يقول: علّمني الخضر عليه السلام رقية للوجع، فقال: إن أصابك وجع فضع يدك على الموضع وقل: وَبِالْحَقِّ { أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ } نَزَلَ (4) فلم أزل أقولها على الوجع فيذهب لساعته. (5)
- وكان يقول: لقيت الخضر عليه السلام في بادية، فسألني الصحبة فخشيت أن يفسد عليّ توكلي بالسكون إليه ففارقته. (6)
- وكان رضي الله عنه كثيراً ما يجتمع بالخضر عليه السلام، وكان يطبخ طعام القمح كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه: إن الخضر عليه السلام زارني ليلة فقال: اطبخ لي شوربة قمح، فلم أزل أحبها لمحبة الخضر عليه السلام لها. (7)
- وكان الخضر عليه السلام يحضر مجلسه مراراً، فيجلس على يمينه، فإن قام الشيخ، قام معه، وإن دخل الخلوة شيعه إلى باب الخلوة... (8)
" التعليق:
__________
(1) الطبقات (2/125).
(2) الطبقات (1/72).
(3) الطبقات (1/76).
(4) الإسراء الآية (105).
(5) الطبقات (1/82).
(6) الطبقات (1/97).
(7) الطبقات (1/159).
(8) الطبقات (2/100).(2/10)
انظر رعاك الله كيف لَبَّسَ الشيطان على هؤلاء المغفلين فأراهم أشباحاً لا حقيقة لها، ثم هم يزعمون أنه الخضر، أيّ خضر هذا؟ أما خضر موسى فقد مات منذ أمد بعيد، هذا الذي عليه المحققون من أهل العلم، وأما خضر هؤلاء الصوفية فهو من شياطين الجن، إن صدق القوم في دعواهم، وإلا فهو أسطورة من اختلاق أربابهم وكبرائهم.
5- زعمهم أن موتاهم من الأولياء يتصرفون ويقضون حوائج الناس:
قال الشعراني وهو يحكي عن بيعته التي بايع بها السيد أحمد البدوي وهو في قبره: ...قد كان أخذ عليَّ العهد في القبلة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه، وسلمني إليه بيده فخرجت اليد الشريفة من الضريح وقبضت على يدي، وقال: سيدي يكون خاطرك عليه، واجعله تحت نظرك، فسمعت سيدي أحمد رضي الله عنه من القبر يقول: نعم... وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل وطبخ لي حلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه وقال: أزل بكارتها هنا... وأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ويقول أبطأ عبدالوهاب ما جاء... ثم أراني خلقاً كثيراً من الأولياء وغيرهم الأحياء والأموات. (1)
- قال الشعراني: ...فلما مات وسوّوا عليه اللبن وقعت عليه لبنة فإذا هو قائم يصلي في قبره... ولما مات كان الناس يسمعون من قبره تلاوة القرآن رضي الله تعالى عنه. (2)
- وقال أيضاً: ولما وضعوه في لحده نهض قائماً يصلي واتسع له القبر وأغمي على من كان نزل قبره... (3)
وغير هذه كثير، وإنما هي غيض من فيض، يكفينا منها ما ذكرنا للدلالة على المقصود.
أقول: هذه هي الصوفية المسعورة، وهؤلاء هم رجالاتها، ومربّو أجيالها.
أما حمق مشايخها وجنونهم فلدينا منه الأمثلة الكثيرة، أعرضنا عن ذكرها قصداً.
__________
(1) الطبقات (1/186).
(2) الطبقات (1/36).
(3) الطبقات (1/140).(2/11)
وأما سلوكاتهم وأخلاقهم فاسمعها من الشعراني يحكيها عن أوليائه، وليته ما ذكرها!! فهي تنبئ عن سفاهة، وقلة مروءة، وذهاب حياء. والعجب كيف يترضّى الشعراني عن أصحابها ومرتكبيها.
قال الشعراني:
- وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه في الرؤية والخلوة، فأنكر عليه بعض الفقهاء، فقال: يا فقيه اشتغل بنفسك، فإنه بقي من عمرك سبعة أيام وتموت، فكان كما قال. (1)
- وقد رأى السيد عبدالقادر الجيلي لمريده أنه لا بد له أن يزني بامرأة سبعين مرة، فقال: يا رب اجعلها في النوم، فكان كذلك... وكان رضي الله عنه يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لي: كَنِّ أصحابك فلاناً كذا، وفلاناً كذا، وكَنِّ فلاناً أبا الظهور لأنه يتبع ظهور النساء ببصره ولا عليك منه. (2)
- وكان الشويمي رضي الله عنه يدخل بيت الشيخ يحسس بيده على النساء، فكنَّ يشكين لسيدي مدين رضي الله عنه فيقول: حصل لكم الخير فلا تشوّشوا. (3)
- وأخبرني الشيخ شمس الدين البوصيري رضي الله عنه أَجَلُّ أصحابه قال: لم يزل الشيخ يمتحنني إلى أن مات، وأراني ضرب المقارع على أجنابي من الدعاوي التي كان يدعيها علي عند الحكام، قال: وكنت أعترف عند الحكام إيثاراً لجناب الشيخ أن يُرَدَّ قوله، فإذا قال: هذا زنى بجاريتي، أقول: نعم، أو يقول: هذا أراد الليلة أن يقتلني، أقول: نعم، أو يقول: هذا سرق مالي، أقول: نعم. (4)
- وكان رضي الله عنه إذا غلب عليه الحال نزع ثيابه وصار عرياناً ليس في وسطه شيء. (5)
- وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه، وحسس على مقعدته، سواء كان ابن أمير أو ابن وزير، ولو كان بحضرة والده أو غيره، ولا يلتفت إلى الناس ولا ينكر عليه من أحد. (6)
__________
(1) الطبقات (1/157).
(2) الطبقات (2/72).
(3) الطبقات (2/103).
(4) الطبقات (2/130).
(5) الطبقات (2/130).
(6) الطبقات (2/135).(2/12)
- وكان يتكلم بالكلام الذي يستحى منه عرفاً، وخطب مرة عروساً فرآها فأعجبته فتعرى لها بحضرة أبيها، وقال لها: انظري أنت الأخرى حتى لا تقولي بعد ذلك بدنه خشن، أو فيه برص أو غير ذلك، ثم مسك ذكره، وقال: انظري هل يكفيك هذا؟ وإلا فربما تقولي هذا ذكره كبير لا أحتمله، أو يكون صغيراً لا يكفيك فتقلقي مني وتطلبي زوجاً أكبر آلة مني. (1)
- وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له: أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه. (2)
- وكان رضي الله عنه عرياناً لا يلبس إلا قطعة جلد أو بساط أو حصير أو لباد، يغطي قبله ودبره فقط، وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب. (3)
" التعليق:
فهل يسع عاقلاً بعد هذا أن ينسب نفسه إلى هذا المستنقع الذي هؤلاء هم أسياده وأشياخه؟ اللهم، فلا. ونعوذ بالله من أناس هذا حالهم، وهذه أخلاقهم وصفاتهم. ونعوذ بالله من منافح عنهم وعن أفكارهم. ونسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه.
علي بن سلطان القاري (4) (1014 هـ)
نور الدين علي بن سلطان بن محمد الهروي المكي الحنفي، وقد عرف بالقاري لأنه كان إماما في القراءات، وكان أيضا فقيها محدثا أصوليا مفسرا مقرئا مؤرخا نحويا أدبيا. ولد بهراة من مدن خراسان، وتلقى عن علمائها ثم رحل إلى مكة فاستقر بها.
أخذ العلم في مكة عن أبي الحسن البكري والسيد زكرياء الحسيني تلميذ العالم الرباني إسماعيل الشرواني وعبدالله السندي وغيرهم. صنف القاري في علوم كثيرة منها: الفقه والحديث والتفسير والقراءات وأصول الفقه وعلم الكلام والفرائض وغيرها.
__________
(1) الطبقات (2/184).
(2) الطبقات (2/150).
(3) الطبقات (2/186).
(4) البدر الطالع (1/445-446) والأعلام للزركلي (5/12-13).(2/13)
أهم مؤلفاته: مرقاة المفاتح شرح مشكاة المصابيح، وفتح باب العناية بشرح النقاية، وشرح ثلاثيات البخاري، وشرح الفقه الأكبر، والمصنوع في معرفة الموضوع وغيرها.
وقد تأثر القاري بصوفية أهل زمانه، فشغف بهم وألف في فنونهم، لكن لم يصل به الحد إلى الحلول والاتحاد.
كانت وفاته بمكة في شوال في سنة أربع عشرة وألف ودفن بالمعلاة.
موقفه من المشركين:
له كتاب رد الفصوص (1) ، وكتاب فر العون ممن يدعي إيمان فرعون (2) سخر قلمه فيهما للرد على قائد الاتحادية ابن عربي الحاتمي محذرا منه ومن مذهبه الخبيث، مع أن القاري نفسه ينتسب إلى طريقة التصوف بل وألف لهم مؤلفات في ذلك، فتنبه.
موقفه من الرافضة:
له مؤلفات طيبة في ذم الروافض:
1- 'رسالة في سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - '، ذكره القاري نفسه في كتابه 'الأسرار المرفوعة' (3) حين تكلم عن سب الصحابة فقال: وقد كتبت في المسألة رسالة مستقلة.
2- 'سلالة الرسالة في ذم الروافض من أهل الضلالة'.
3- 'شم العوارض في ذم الروافض'.
علي الهِيتِي (4) (كان حيا سنة 1025 هـ)
علي بن أحمد الهيتي لغوي متفقه. نسبته إلى هِيت في العراق. كان إماما في جامع الحسين بالقاهرة.
موقفه من الرافضة:
ألف في الرد على أهل هذه النحلة كتابان:
- 'السيف الباتر لرقاب الشيعة والرافضة الكوافر'، وهو مطبوع محقق.
- 'فضائل الصحابة والحث على محبتهم'.
مَرْعِي بن يوسف الحنبلي (5) (1033 هـ)
__________
(1) انظر الأعلام (5/13).
(2) انظر إيضاح المكنون (4/187).
(3) ص.219).
(4) معجم المؤلفين (7/32) هدية العارفين (1/754) والأعلام (4/258).
(5) الأعلام (7/203) والسحب الوابلة (3/1118-1125) ومعجم المؤلفين (12/218).(2/14)
مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي ثم المقدسي، العالم المفسر المحدث الفقيه الأصولي النحوي. أخذ عن محمد المرداوي والقاضي يحيى الحجاوي وأحمد الغنيمي وغيرهم. تصدر للإقراء والتدريس بجامع الأزهر، وكان منهمكا على تحصيل العلوم انهماكا كليا. قال المحبي: كان فقيها، محدثا، إماما، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائقه، ومعرفة تامة بالعلوم النقلية والعقلية وجميع العلوم المتداولة، له فيها اليد الطولى. كانت وفاته بمصر سنة ثلاث وثلاثين وألف.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار:
1- 'أقاويل الثقات في الأسماء والصفات' وقد سجل رسالة علمية في جامعة أم القرى ونوقش. وهو عبارة عن مقارنة بين بعض أقوال شيخ الإسلام الذي يمثل الاتجاه السلفي وغيره ممن يمثل الاتجاه الخلفي، وقد اعتمد في هذا الاتجاه الأخير على القرطبي، وكذلك الطوفي الرافضي. والكتاب قليل الفائدة في نظري.
2- 'ترجمة لشيخ الإسلام ابن تيمية' وهو مطبوع كذلك مع مجموعة من الكتب السلفية.
أحمد بن عبدالأحد السرهندي (1) (1034 هـ)
أحمد بن عبدالأحد الفاروقي السرهندي مجدد الألف الثاني من الهجرة النبوية، ولد من بيت عريق في المجد والعلم سنة إحدى وسبعين وثمانمائة للهجرة، ونشأ في بيئة دينية صالحة.
من علماء الهند الأفذاذ الذين أحيى الله بهم السنة وأمات بهم الكفر والبدعة، فتابعه على هذا الأمر خلق كثير نفعهم الله بدعوته. وكان رحمه الله سيفا مسلولا على الصوفية وأذنابهم. توفي رحمه الله سنة أربع وثلاثين وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (97-117) وأبجد العلوم (3/180-181) وهدية العارفين (1/186) والأعلام (1/142-143).(2/15)
- جاء في تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند عنه قال: ومن حيث أن البدعة قد ظهرت وفشت، يتراءى أن العالم غارق في بحر من الظلمات، قد غرق العالم كله في بحر البدعة وارتطم في ظلماتها، فمَنْ للسنة يقوم لها ويذب عنها ويرد كيد المبتدعين في نحورهم؟! وعلماء عصرنا أكثرهم من الممالئين للبدعة وأعداء السنة الساعين في القضاء عليها. (1)
- وقال أيضاً: النصيحة هي الدين، ومتابعة سيد المرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام وإتيان السنة السنية، والاجتناب عن (كذا) البدعة اللامرضية، وإن كانت البدعة ترى مثل فلق الصبح، لأنه في الحقيقة لا نور فيها ولا ضياء، ولا للعليل منها شفاء، ولا للداء منها دواء. كيف والبدعة إما رافعة للسنة أو ساكتة عنها. والساكتة لا بد وأن تكون زائدة على السنة، فتكون ناسخة لها في الحقيقة أيضاً، لأن الزيادة على النص نسخ له. فالبدعة كيف كانت تكون رافعة للسنة، نقيضة لها، فلا خير فيها ولا حسن فيها. ليت شعري من أين حكموا بحسن البدعة المحدثة في الدين الكامل؟!
- وورد في مكتوب له آخر إلى بعض أصحابه: يسأل هذا الفقير إلى الله متضرعا إليه تعالى سبحانه أن يقيه والذين معه شرور كل ما استحدث في الدين وابتدع مما لم يكن له أثر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، وأن يتراءى للناظر مستنيرا مثل فلق الصبح، يدعو الله أن يجعلنا في منجاة من تلك البدع المستحدثة. يقولون: إن البدعة تنقسم إلى نوعين: الحسنة والسيئة. أما هذا العاجز فلا يرى في شيء من هذه البدعة حسنا ولا نورا، ولا يشاهد فيها إلا ظلمة وقذرا.
__________
(1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.100-101).(2/16)
وقد قال سيد البشر عليه وعلى آله التسليمات: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (2) ، فإذا ثبت أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، فأي معنى لوجود الحسن في البدعة وأي علاقة بينهما؟! (3)
موقفه من الرافضة:
قال: ... ولكنه لما ألف كتابه في الرد على الروافض، وانتقد أعمالهم وعقائدهم علنا، كاد له بعض أفراد الشيعة، وأضمروا له في قلوبهم العداوة يتحينون الفرص لاضطهاده، فوشوا به إلى الملك ... حتى أرسل إليه الملك وأمر بإحضاره ... ولما دخل على الملك حياه بتحية الإسلام ولم يسجد له شأن أهل زمانه، فاستشاط أمراء المملكة غضبا، وانتهزوا الفرصة للتنكيل به. لكن المجاهد أبى إلا أن يصدع بالحق ويندد برجال الملك وأعمالهم المنكرة المعادية للدين الحنيف، فما كان من الملك إلا أن أمر بحبسه في سجن كوايار. (4)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله في تاريخ الدعوة الإسلامية عنه: إياك وأن تنخدع بترهات الصوفية، وتزعم أن غير الحق والحق جل وعز شأنه كلاهما واحد لا فرق بينهما. (5)
وقال: إنما المعتبر في إثبات الأحكام الشرعية الكتاب والسنة، والقياس والإجماع أيضا مما تثبت به الأحكام. وليس هناك حجة أخرى غير هذه الأربعة في إثبات الأحكام الشرعية، أما إلهام الأولياء فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا. وكذلك (كشوف) الصوفية لا عمل لها في وجوب شيء من الأحكام أو جعلها سنة، والذين حظوا بالولاية الخاصة من الصوفية لا فرق بينهم وبين العامة في تقليدهم الأئمة المجتهدين. (6)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(3) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.109-110).
(4) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.101).
(5) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.114).
(6) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.115-116).(2/17)
أحمد بن عبدالقادر الرومي (1) (1041 هـ)
أحمد بن عبدالقادر الرومي: فاضل ومحدث من أهل آقحصار في تركيا. له كتب منها مجالس الأبرار ومسالك الأخيار. ومختصر إغاثة اللهفان. والمجالس الرومية في نهار العربية. توفي سنة إحدى وأربعين وألف.
موقفه من المبتدعة:
قال: في 'مجالس الأبرار': فلابد لك أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليه الجمهور، فلا يغرنك اتفاقهم على ما أحدث بعد الصحابة، بل ينبغي لك أن تكون حريصا على التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله أشبههم بهم وأعرفهم بطريقهم إذ منهم أخذ الدين، وهم أصول في نقل الشريعة عن صاحب الشرع وقد جاء في الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" (2) والمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف كثيرا، لأن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم. (3)
عبد الباقي بن عبدالباقي (ابن فقيه فصة) (4) (1071 هـ)
عبد الباقي بن عبدالباقي بن عبدالقادر البعلي، الأزهري، الدمشقي، الأثري، المشهور بـ"البدر" ثم بـ "ابن فقيه فصة". وفصة: قرية ببعلبك من جهة دمشق. ولد في السنة الخامسة بعد الألف للهجرة. وارتحل إلى دمشق، وأخذ عن مجموعة من الشيوخ كأمثال الشيخ أحمد المفلحي والعلامة عمر القارئ وغيرهما. وأخذ عنه ولده أبو المواهب والشيخ إبراهيم الكوراني وغيرهما.
توفي رحمه الله سنة إحدى وسبعين وألف للهجرة، ودفن في مقبرة الفراديس.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار:
- 'العين والأثر في عقائد أهل الأثر' وقد طبع الكتاب بحمد الله.
__________
(1) معجم المؤلفين (1/224) الأعلام (1/153)
(2) انظر تخريجه في مواقف الطوسي سنة (242هـ).
(3) صيانة الإنسان (308).
(4) الأعلام (3/272) وهدية العارفين (1/497) والسحب الوابلة (2/439-443).(2/18)
ناصر الدين أبو بكر بن أبهم (1) (1085 هـ)
الإمام الفقيه المجاهد ناصر الدين أبو بكر بن أبهم بن الفغ الشمشوي، عاش في القرن الحادي عشر الهجري، في وسط قبائل من الزوايا تسود فيها المثل العليا والاستقامة والمحافظة على شعائر الإسلام، وتُولِي العلم أهمية قصوى، وقد درس في المحاضر حتى أكمل دراسته فيها، وبرز في العلوم الشرعية، اشتهر بالتقوى والورع والعفة ونصرة السنة ورفع راية الجهاد ضد النصارى. وكان يحث على اتباع السنة ومحاربة البدعة، وكان يتولى تدريس العلم بنفسه ويركز على صحيح البخاري، ويدعو إلى الله تعالى وينظم الإدارة والشؤون المالية. وقد توفي رحمه الله تعالى في جهاد مانعي الزكاة في موقعة ترتلاس عام خمس وثمانين وألف.
موقفه من المبتدعة:
جاء في كتاب السلفية وأعلامها في موريتانيا:
- وقبل دخول الإمام ناصر الدين في حرب ضد مانعي الزكاة من بني حسان وجه لهم خطابا قال فيه: "اتركونا نحيي السنة، ونقيم حدود الله، ونخدم العلم، ونعمر البلاد، ونعدل فيها".
غير أن هذا الخطاب -وللأسف- لم يجد آذانا صاغية من بني حسان الذين يقف وراءهم الفرنسيون، إبان ذاك، واندلعت الحرب وعرفت [بشرببه].
وكادت دعوة الإمام ناصر الدين الإصلاحية أن تنجح فيما تسعى إليه من نشر العقيدة الإسلامية، وتحكيم شرع الله عز وجل، على أرضه، لولا أن قبائل بني حسان أدركت تعارض هذه الدعوة مع ما تسعى إليه من سيطرة على البلاد، وأحس كشافة الغرب الرابضون على سواحل المنطقة بتهديدها لسياستهم التي أقاموها مع زعماء بني حسان.
لذلك كان لهذه الدعوة أعداء في الداخل، وهم قبائل بني حسان الذين يخشون من قيام دولة إسلامية منظمة ذات سلطة مركزية تحد من نفوذهم وتصرفاتهم .. وأعداء في الخارج ممثلين في الفرنسيين. (2)
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا للشيخ الطيب بن عمر بن الحسين (245 وما بعدها).
(2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (252-253).(2/19)
- وفيه: إن دعوة الإمام ناصر الدين دعوة سلفية، قامت على التمسك بالكتاب والسنة، واقتفاء آثار السلف الصالح، والجهاد في سبيل الله، ونشر العقيدة الإسلامية، ومحاربة البدع والمنكرات، ومحاولة استنهاض القوى الإسلامية، والعودة بالمجتمع إلى ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام، وأعادت هذه الدعوة إلى الأذهان صورة المجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين. (1)
عثمان بن أحمد بن قائد النَّجْدِي (2) (1097 هـ)
عثمان بن عثمان بن أحمد بن قائد النجدي ثم الدمشقي ثم القاهري. ولد في مدينة العيينة، ونشأ فيها، وأخذ عن علمائها، ثم ارتحل إلى دمشق. أخذ عن الشيخ محمد بن موسى البصيري النجدي، ومحمد أبي المواهب مفتي الحنابلة في دمشق وعبد الحي بن العماد صاحب الشذرات وغيرهم. وانتفع به خلق كثير منهم أحمد بن عوض المرداوي النابلسي، ومحمد بن الحاج مصطفى الجيتي ومحمد الجيلي.
قال الشيخ محمد حسنين مخلوف: أما الشارح -يعني ابن القائد- فيظهر من شرحه أنه فقيه متبحر، وعالم ضليع في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، حسن التأليف جيد السبك والتصنيف.
والمترجم ليس على طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين في صفات الله تعالى بل هو محقق على طريقة السلف، يظهر ذلك من خلال مصنفاته. توفي سنة سبع وتسعين وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار:
1- 'نجاة الخلف في اعتقاد السلف'.
2- 'تلخيص نونية ابن القيم'.
ذكر ذلك صاحب علماء نجد. (3)
إبراهيم بن سليمان الحنفي الأزهري (كان حيا سنة 1100 هـ)
موقفه من المشركين:
جاء في دائرة المعارف الإسلامية: له 'الرسالة المختارة في مناهي الزيارة' بين فيها أن لمس القبور عند زيارتها وتقبيلها والاتكاء عليها مخالف للشرع. (4)
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (246-247).
(2) علماء نجد (3/683-685) والأعلام (4/202-203) ومعجم المؤلفين (6/249) والسحب الوابلة (2/697-699).
(3) 3/685-686).
(4) دائرة المعارف الإسلامية (3/225).(2/20)
محمد بن حمد بن عباد الدوسري (1) (1175 هـ)
الشيخ محمد بن حمد بن عباد الدوسري من آل عوسج، ولد في بلدة البير، إحدى قرى المحمل ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ فوزان بن نصر الله والشيخ عجلان بن منيع. عين قاضيا لبلدة ثرمداء إحدى مدن الوشم. وكانت له مراسلات مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب في أول بدء الدعوة. له تاريخ عن حوادث وأخبار نجد مختصر. توفي رحمه الله سنة خمس وسبعين ومائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له مراسلات مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب حول مسائل في التوحيد يتحرى فيها مذهب السلف. (2)
الأمير محمد بن سعود (3) (1179 هـ)
الإمام الرئيس محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان، أول من لقب بالإمامة من آل سعود في نجد. استقر في الدرعية، ثم ولي الإمارة بعد وفاة أبيه ببضع سنين، وفي سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف وفد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية، فاستقبله الأمير ورحب به، ونصره باللسان والسنان، حتى اتسعت دائرة الدعوة السلفية وامتدت إلى بلدان وأمصار شتى. أحيا السنة وأمات البدعة وجدد الدعوة والجهاد، وأظهر التوحيد، وحارب الشرك. قال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف مادحا له ولذريته:
ومهما ذكرت الحي من آل مقرن ... تهلل وجه الفخر وابتسم المجد
هموا نصروا الإسلام بالبيض والقنا ... فهم للعدا حتف وهم للهدى جند
غطارفة ما إن ينال فخارهم ... ومعشر صدق فيهم الجد والحد
وهم أبحر في الجود إن ذكر الندى ... وأن أشعلت نار الوغى فهم الأسد
وقال فيه الشيخ سليمان بن سحمان بعد ثنائه على الشيخ محمد بن عبدالوهاب:
وساعده في نصرة الدين والهدى ... أئمة عدله مهتدون ذووا رشد
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/516-518).
(2) انظر روضة ابن غنام (2/71-76). الدرر السنية (1/67-69). علماء نجد (5/517).
(3) روضة ابن غنام (1/80-81) والتاج المكلل (ص.300-301) والأعلام (6/138) والدرر السنية (12/25-30).(2/21)
وقد نال مجدا أهل نجد ورفعة ... بآل سعود واستطالوا على الضد
بإظهار دين الله قسرا ودعوة ... إلى الله بالتقوى وبالصارم الهند
قال الشيخ صديق خان: وكان عالي الهمة، ثابت العزم، حزوما، ذا خبرة بتقلبات الأيام، بصيرا بعواقب الأمور، حسن الخلق، عذب الفكاهة، أديبا متفننا، زاد في عمارة الدرعية وبنى فيها المساجد والقصور وجعلها حاضرة أمارته، وكان الناس يميلون إليه ويرغبون التقرب منه لكثرة حلمه واتضاع جانبه، وكان يأبى سفك الدماء.
وقال الشيخ عبدالرحمن بن محمد العاصمي: وهو أشهر من أن ينبه على سيرته، قد انصبغت في القلوب مودته وظهر حسن خليقته، ونطقت الألسن بحسن طريقته وسارت الركبان بنشر فضيلته، كان في العبادة والزهادة فردا، محافظا على أوراده متأهبا لمعاده. توفي رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
لقد انتهى بنا المطاف في هذه المسيرة المباركة إلى رجل جعل الله إنقاذ العالم على يديه من ورطة الشرك والخرافات، التي أطبقت على العالم الإسلامي. وقد بين المؤلفون في ترجمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حالة العالم الإسلامي -الأصدقاء والأعداء منهم- بيانا شافيا. ولنمسك الأقلام عن ذكر أعمال هذا الإمام، فإنها تحتاج إلى تأليف خاص وهو جدير بذلك. وينبغي أن يعترف بالفضل لأهله، فإن هذا الرجل له حق الدعاء بالخير على كل سلفي يأتي بعده، فإن الله تعالى بارك في مسيرته، حتى وصلت إلى أرجاء العالم الإسلامي. وسأكتفي بذكر صلته بشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ولقائه به، وبيان الشيخ لهذا الإمام المبارك الدعوة السلفية.(2/22)
- جاء في روضة ابن غنام: ... فخرج الشيخ سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف من العيينة إلى بلدة الدرعية، فنزل في الليلة الأولى على عبدالله بن سويلم، ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم، فلما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، قام من فوره مسرعا إليه ومعه أخواه ثنيان ومشاري، فأتاه في بيت أحمد بن سويلم، فسلم عليه، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده.
فأخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما دعا إليه، وما كان عليه صحابته رضي الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه، وأن كل بدعة ضلالة، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا. ثم أخبره بما عليه أهل نجد في زمنه من مخالفتهم لشرع الله وسنة رسوله بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والظلم.
فلما تحقق الأمير محمد بن سعود معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه؛ فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترتحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية: أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا.
فقال الشيخ: أما الأولى فابسط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها.
فبسط الأمير محمد يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقر عنده. (1)
" التعليق:
__________
(1) روضة ابن غنام (80-81).(2/23)
1- في هذا النص منقبة للأمير محمد بن سعود وللشيخ محمد بن عبدالوهاب حيث إن كل واحد منهما تفرس شيئا فحقق الله فراستهما وأمنيتهما.
2- فضيلة العقيدة السلفية.
3- حرص الأمير على الشيخ مما يدل على فضله، وحبه لأهل العلم وخصوصا من كانوا على منهج الشيخ.
4- لا تقوم دعوة إلا بالطريق الذي رسمه الشيخ محمد بن عبدالوهاب للأمير من غير خرافة ولا رفض ولا دجل، إنما هو القرآن والسنة واتباع السلف الصالح.
الشيخ مربد بن أحمد بن عمر التميمي
وعداؤه للدعوة السلفية (1181 هـ)
هذا الرجل وأمثاله من الذين عارضوا وعادوا هذه الدعوة الطيبة، وعملوا جاهدين لتشويه سمعتها وطمس معلمها، وذلك بتلفيق الأكاذيب بها وأهلها والتحذير منها، وممن كان ضحية تلبيسه الأمير الصنعاني الذي كان قد أثنى على الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ثم تراجع عن ذلك بسبب هذا الأفاك الأثيم والعدو اللئيم، عامله الله بما يستحق.
- جاء في علماء نجد: قال الأمير الصنعاني العالم المشهور: لما طارت الأخبار بظهور عالم في نجد، يقال له محمد بن عبدالوهاب، ووصل إلينا بعض تلاميذه، وأخبرنا عن حقائق أحواله، وتشميره في التقوى، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اشتاقت النفس إلى مكاتبته بهذه الأبيات سنة 1163هـ وأرسلناها من مكة المشرفة وهي:
سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
إلى آخر القصيدة التي مدح فيها الشيخ محمدا رحمه الله، ودعوته.
ثم قال الأمير بعد ذلك: لما بلغت هذه الأبيات نجد، وصل إلينا بعد أعوام من أهل نجد عالم يسمى: مربد بن أحمد التميمي، وكان وصوله في شهر صفر سنة 1170هـ وأقام لدينا ثمانية أشهر، وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه، وفارقنا في عشرين شوال سنة 1170هـ راجعا إلى وطنه ووصل من طريق الحجاز مع الحجاج.(2/24)
وكان قد تقدمه في الوصول إلينا الشيخ عبدالرحمن النجدي، ووصف لنا من حال محمد بن عبدالوهاب أشياء أنكرناها، فبقينا مترددين فيما نقله الشيخ عبدالرحمن النجدي، حتى وصل إلينا الشيخ مربد، وله نباهة وأوصل بعض رسائل ابن عبدالوهاب، وحقق لنا أحواله، وكانت أبياتنا قد طارت كل مطار، وأتتنا فيها جوابات من مكة المشرفة ومن البصرة وغيرهما، إلا أنها جوابات خالية من الإنصاف.
ولما أخذ علينا الشيخ مربد تأكدنا من ذلك، ورأينا أنه يتعين علينا نقض ما قدمناه، وحل ما أبرمناه، فكتبت أبياتا وشرحها هي:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
وقد جاءنا من أرضه الشيخ مربد ... فحقق من أحواله كل ما يبد
إلى آخر القصيدة. (1)
محمد بن بدر الدين (2) (1182 هـ)
محمد بن بدر الدين الشافعي، سبط الشمس الشرنبابلي. أحد أذكياء العصر ونجباء الدهر، ولد قبل القرن الثاني عشر الهجري بقليل. له شعر جيد وميل لعلم اللغة ومعرفة بالأنساب.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، وصلي عليه بالأزهر، ودفن بالقرافة عند جده لأمه.
موقفه من المشركين:
- له من الآثار: الرد على ابن عربي. (3)
محمد بن إسماعيل الصنعاني (4) (1182 هـ)
__________
(1) علماء نجد (6/417-418).
(2) معجم المؤلفين (9/100) وهدية العارفين (2/338) وتاريخ الجبرتي (1/368).
(3) انظر عجائب الآثار (1/368).
(4) تاريخ المخلاف السليماني (429) وتاريخ المملكة العربية السعودية (44) والأعلام (6/38) والبدر الطالع (2/133-139) ومعجم المؤلفين (9/56) وأبجد العلوم (3/156-157).(2/25)
محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، صاحب سبل السلام، يعرف بالأمير كأسلافه، الإمام الكبير المجتهد. ولد سنة تسع وتسعين وألف بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى صنعاء -وكان من الفضلاء الزاهدين- وأخذ عن علمائها كالعلامة زيد بن محمد بن الحسن والعلامة صلاح الأخفش وغيرهما. وأخذ عنه الشيخ عبدالقادر بن أحمد والشيخ محمد بن إسحاق بن المهدي وأحمد بن محمد قاطن وغيرهم. أصيب رحمه الله بمحن كثيرة من الجهال والعوام.
قال عنه الشوكاني: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد، وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد، وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية. وقال: وبالجملة، فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين. وقال العلامة محمد بن إسحاق المهدي فيه أبياتا، منها:
لله درك يا ابن إسماعيلا ... لم تتركن فتى سواك نبيلا
حزت الفخار قليله وكثيره ... هلا تركت من الفخار قليلا
وسلكت نهج الحق وحدك جاعلا ... نور البصيرة لا سواه حليلا
وصرفت عمرك في العبادة والإ ... فادة والإجادة بكرة وأصيلا
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- هذا الرجل كان من فحول اليمن، وعاصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتأثر بدعوته ومدحه بقصيدة مشهورة بليغة منها (1) :
سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد
سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ... ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد
يذكرني مسراك نجدا وأهله ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد
قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الطرد والرد
__________
(1) القصيدة الدالية (9-11).(2/26)
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل ياذا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف لما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
- ومنها (1) :
لقد سرني ماجاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي
وأقبح من كل ابتداع سمعته ... وأنكاه للقلب الموفق للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها ... يعض بأنياب الأساود والأسد
يصب عليه سوط ذم وغيبة ... ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويعزى إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي
فيرميه أهل النصب بالرفض فرية ... ويرميه أهل الرفض بالنصب والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا ... يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال الرسول محمد ... وهل غيره بالله في الناس من يهدي
وإن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي
علام جعلتم أيها الناس ديننا ... لأربعة لاشك في فضلهم عندي؟
هم علماء الدين شرقا ومغربا ... ونور عيون الفضل والحق والزهد
ولكنهم كالناس ليس كلامهم ... دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي
ولا زعموا -حاشاهم- أن قولهم ... دليل فيستهدي به كل مستهدي
بلى صرحوا أنا نقابل قولهم ... إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
سلامي على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي
هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد
وأعني بهم أسلاف أمة أحمد ... أولئك في بيت القصيد هم قصدي
أولئك أمثال البخاري ومسلم ... وأحمد أهل الجهد في العلم والجد
بحور وحاشاهم عن الجزر إنما ... لهم مدد يأتي من الله بالمد
رووا وارتووا من علم سنة أحمد ... وليس لهم تلك المذاهب من ورد
كفاهم كتاب الله والسنة التي ... كفت قبلهم صحب الرسول ذوي الرشد
أأنتم أهدى أم صحابة أحمد ... وأهل الكسا هيهات ما الشوك كالورد
أولئك أهدى في الطريقة منكم ... فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي
__________
(1) القصيدة الدالية (13-17).(2/27)
وشتان ما بين المقلد في الهدى ومن ... يقتدي والضد يعرف بالضد
تنبيه:
للصنعاني قصيدة أخرى نقض فيها هذه الأبيات، ورجع عما كان يعتقده في الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقد ذكرنا آنفا أن سبب تراجعه تلبيس الشيخ مربد عليه وسقنا الخبر كاملا في مواقف 1181هـ.
وله هنات بعضها في المعتقد ذكرها عبدالله آل بسام في 'علماء نجد'. (1)
ومن مواقفه المشرفة:
- قال في كتابه 'الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف':
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي له الملك والملكوت، الحي الجبار الذي لا يموت، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إِنْ { كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } (93) (2) ، فليس للعبد تصرف مع مولاه، ولا له تقدم بين يديه ولا شفاعة ولا غيرها إلا بإذنه ورضاه.
والصلاة والسلام على من تركنا على الواضحة البيضاء، ليلها كنهارها، وأشرقت شمس نبوته، فامتلأت الأرض بأنوارها. أخرج ابن ماجه، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر الفقر ونتخوفه، فقال: "آلفقر تخافون، والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا، حتى قال: لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء" (3) . وعلى آله الذين بهديه يهتدون، وبه يقتدون.
__________
(1) 6/418-419).
(2) مريم الآية (93).
(3) أخرجه ابن ماجه (1/4/5) وصححه الألباني (انظر الصحيحة (688)).(2/28)
واعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته من الابتداع، لما أعلمه الله أن أمته تأتي بالابتداع بأجناس وأنواع، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1) . وقال: "خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (2) . وقال: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين" (3) . أخرج هذه الأحاديث ابن ماجه وغيره.
قلت: ووجه عظمة الابتداع في الدين أنه كالرد على قول الله تعالى: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ } دِينًا (4) .
فالابتداع بزيادة في الدين أو نقصان منه، فلهذا عظم شأن البدعة التي خرج بها صاحبها من الدين كما تخرج الشعرة من العجين. (5)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).
(3) أخرجه ابن ماجه (1/19/49) وفيه محمد بن محصن العكاشي. قال عنه البخاري: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "كذاب". وقال الدارقطني: "يضع الحديث". انظر الميزان (3/476) والحديث حكم عليه بالوضع الشيخ الألباني (انظر الضعيفة 1493).
(4) المائدة الآية (3).
(5) الإنصاف (ص.1-2).(2/29)
- وقال رحمه الله في كتابه 'إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة': ولنقدم قبل المقصود أصلا مهما وهو أن الله تبارك وتعالى قد أخبر عن الكفار بأن نظرهم مقصور على اتباع الآباء في كتابه العزيز في غير آية عايبا عليهم ذلك، مثل: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا } يَهْتَدُونَ (1) ، قَالَ { مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ } مُقْتَدُونَ (2) مَا { يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ } آَبَاؤُهُمْ (3) أي ليس لهم مستند سوى ذلك قَالُوا { بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ } يَفْعَلُونَ (4) قَالُوا { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ } آَبَاءَنَا (5) فهم في جميع الآيات قاصرون نظرهم على اتباع الآباء لحسن الظن بهم، حتى صار ذلك عادة لهم، بل فخرا يعيرون به من خالفهم ويضربون به المثل، حتى سموا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبي كبشة لأنه عبد ما لم يعبد آباؤه كما عبد أبو كبشة الشعرى، وحتى ذكروا بذلك أبا طالب وهو في طريق الموت وقالوا له: أترغب عن ملة عبدالمطلب (6) ، ولذلك خص الأبوان في الإخبار عن تغيير الفطرة وأنهما يهودانه وينصرانه (7) ولذلك مقت الله الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
__________
(1) البقرة الآية (170).
(2) الزخرف الآية (23).
(3) هود الآية (109).
(4) الشعراء الآية (74).
(5) يونس الآية (78).
(6) أخرجه: أحمد (5/433) والبخاري (3/284-285/1360) ومسلم (1/54/24) والنسائي (4/395-396/2034) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن.
(7) أخرجه: أحمد (2/393) والبخاري (3/281/1358) ومسلم (4/2047/2658) والترمذي (4/389-390/2138) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(2/30)
وفسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذهم بأنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، كما أخرجه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (1) ، فمن عقل وأنصف، فلينظر إلى جميع بني آدم في القديم والحديث في الملل الكفرية ثم المذاهب الإسلامية بعد إخراجه للأنبياء صلى الله عليهم ومن سار سيرتهم من السابقين والتابعين، وقليل ما هم، بالنظر إلى الخليقة فإنه يجد الناس تبعا لما ألفوه من اتباع الآباء بمجرد تقليد وهوى ومحبة للجمود على دين الآباء. (2)
-وقال رحمه الله: وكذلك أهل المذاهب على مذاهب آبائهم منذ أسس الشيطان بدعة التمذهب، لا يتحنف الشافعي ولا يتشفع الحنفي ولا يتشيع الناصبي والخارجي ولا يقول بالاعتزال الجبري ولا بالجبر المعتزلي، وإن وجدت في الألف بل الألوف فردا واحدا فارق ما عليه آباؤه، فلا يخلو عن دسيسة هوى أو غرض دنيوي، وهو الغالب، إذ الأديان صارت تبعا للدنيا. ولقد اتفق لبعض الشافعية أنه تمذهب بمذهب الزيدية، إما عن نظر منه وهو بعيد جدا أو لغرض آخر، فرماه قومه عن قوس واحدة حتى كأنه ارتد عن الدين ولحق بعبدة الأوثان فقال:
إذا ما رأوني من بعيد تغامزوا فوالله ما بعت الهدى بضلالة ... علي وقالوا شافعي تزيدا
ولكنني بعت الضلالة بالهدى
وكذلك اتفق لآخر كان شافعيا فانتقل إلى مذهب ابن حنبل، أو حنفيا أو حنبليا فانتقل إلى أحدهما، فقيل فيه أبيات منها أنه سيصير إلى مالك (3) وقصده التورية فحكم أنه من أهل النار، وكذلك يزداد من يوم إلى يوم الشر، ويوطن كل البلا نفسه على اتباع الآباء. (4)
- وله من الآثار السلفية:
1- 'تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد' وهو مطبوع.
2- 'إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد'.
__________
(1) سيأتي تخريجه في مواقف المعصومي سنة (1380هـ).
(2) إيقاظ الفكرة (45-48).
(3) ذكرناها في مواقف المؤيد أبي البركات محمد التكريتي سنة (599هـ).
(4) إيقاظ الفكرة (52-54).(2/31)
3- 'حسن الاتباع وقبح الابتداع'.
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: فهذا 'تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد' وجب علي تأليفه، وتعين علي ترصيفه، لما رأيته وعلمته من اتخاذ الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدا، ولا يرى لله راكعا ولا ساجدا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب.
فواجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. (1)
- وقال أيضا: وكذلك تسمية القبر مشهدا، ومن يعتقدون فيه وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، من قولهم: على الله وعليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها، وكل قوم لهم رجل ينادونه. فأهل العراق والهند يدعون عبدالقادر الجيلي. وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه يقولون: يا زيلعي، يا ابن العجيل، وأهل مكة وأهل الطائف، يا ابن العباس، وأهل مصر: يا رفاعي، يا بدوي والسادة البكرية وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يا ابن علوان. وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادوهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر. وهذا هو بعينه فعل المشركين في الأصنام كما قلنا في الأبيات النجدية:
أعادوا بها معنى (سواع) ومثله ... (يغوث) و(ود) بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا في سوحها من نحيرة ... أهلت لغير الله جهلا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلا ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي
__________
(1) تطهير الاعتقاد (18-19).(2/32)
فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه. فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال نعم: فقل: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدا له. ثم كذلك دعاؤهم له.
فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب.
وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء وينادونه في الشدة والرخاء وهو عاكف على القبائح والفضائح، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة، ولا يكتسب حلالا، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عشش في قلوبهم، وباض فيها وفرخ، يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه، ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا، فيا للعقول أين ذهبت؟ ويا للشرائع كيف جهلت؟ إِنَّ { الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ } أَمْثَالُكُمْ (1) فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين، كالذين يعتقدون في الأصنام؟
قلت: نعم، قد حصل منهم ما حصل من أولئك، وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد: فلا فرق بينهم.
فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل له ندا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركا.
__________
(1) الأعراف الآية (194).(2/33)
قلت: نعم يَقُولُونَ { بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي } قُلُوبِهِمْ (1) ولكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك. فإن تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك. والله تعالى يقول: فَصَلِّ { لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (2) (2) أي لا لغيره، كما يفيد تقديم الظرف ويقول تعالى: وَأَنَّ { الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ } أَحَدًا (3) ، وقد عرفت بما قدمناه قريبا أنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الرياء شركا، فكيف بما ذكرناه؟.
فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئا؛ لأن فعلهم أكذب قولهم.
فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه.
قلت: قد خرج الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها. وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة أَلَّا { تَعْبُدُوا إِلَّا } اللَّهَ (4) وإخلاصها له: وَمَا { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ } الدِّينَ (5) الآية. ومن نادى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، وخوفا وطمعا، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ } عِبَادَتِي (6) بعد قوله: ادْعُونِي { أَسْتَجِبْ } ِ/ن3s9.
موقفه من الصوفية:
- قال في تطهير الاعتقاد: فإن قلت: قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق من الأفعال، يتسمون بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون من تلك الأمور، فإنها مما جلبت القلوب إلى الاعتقاد بها؟.
__________
(1) آل عمران الآية (167).
(2) الكوثر الآية (2).
(3) الجن الآية (18).
(4) هود الآية (2).
(5) البينة الآية (5).
(6) غافر الآية (60).(2/34)
قلت: أما المتسمون بالمجاذيب الذين يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويخرجونها من لفظها العربي، فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حمر الكون الذين ألبستهم الشياطين حلل التلبيس والتزيين، كما أن إطلاق الجلالة مفردا عن إخبار عنها بقولهم: "الله، الله" ليس بكلام ولا توحيد، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي، ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني، ولو أن رجلا عظيما صالحا يسمى بزيد، وصار جماعة يقولون: زيد، زيد، لعد ذلك استهزاء وإهانة وسخرية،ولا سيما إذا زاد إلى ذلك تحريف اللفظ.
ثم انظر: هل أتى في لفظة من الكتاب والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؟ إذ الذي فيهما هو طلب الذكر والتوحيد والتسبيح والتهليل. وهذه أذكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده من هو عن الله وعن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمته ودله في مكان سحيق، ثم قد يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى، مثل ابن علوان أحمد بن الحسين، وعبدالقادر، والعيدروس.بل قد ينتهي الحال إلى أنهم يفرون إلى أهل القبور من الظلم والجور، كعلي رومان، وعلي الأحمر، وأشباههما، وقد صان الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكساء وأعيان الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الضلال، فيجمعون أنواعا من الجهل والشرك والكفر.
فإن قلت: إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة ويضيفون إليها عمل أهل الخلاعة والبطالة خوارق عادات، وأمورا تظن كرامات كطعن أنفسهم بالآلات الحادة، وحملهم لمثل الحنش والحية والعقرب وأكلهم النار، ومسحهم إياها بالأيدي وتقلبهم فيها بالأجسام.(2/35)
قلت: هذه أحوال شيطانية، وإنك لملبس عليك إن ظننتها كرامات للأموات، أو حسنات للأحياء، لما هتف هذا الضال بأسمائهم جعلهم أندادا وشركاء لله تعالى في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء الله تعالى، فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكا له تعالى وندا؟ وإن زعمت ذلك فقد جئت شيئا إدا، وصيرت هؤلاء الأموات مشركين، وأخرجتهم -وحاشاهم عن ذلك- عن دائرة الإسلام والدين، حيث جعلتهم أندادا لله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال المشركين، التابعين لكل باطل، المنغمسين في بحار الرذائل، الذين لا يسجدون لله سجدة، ولا يذكرون الله وحده، فإن زعمت هذا فقد أثبت الكرامات للمشركين الكافرين وللمجانين، وهدمت بذلك ضوابط الإسلام وقواعد الدين المبين، والشرع المتين. وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين، علمت أن هذه أحوال وأفعال طاغوتية، وأعمال إبليسية، يفعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين، معاونة من الفريقين، وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان، وهذا أمر مقطوع بوقوعه، فهم الثعابين التي يشاهدها الإنسان في أيدي المجاذيب. وقد يكون ذلك من باب السحر، وهو أنواع، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه الأعظم: هو الكفر بالله، وإهانة ما عظمه الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه.
فلا يفتر من يشاهد ما يعظم في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها خوارق، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال، وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها.
وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات حتى أوجس في نفسه خيفة موسى عليه السلام، وقد وصف الله بأنه سحر عظيم، والسحر يفعل أعظم من هذا. (1)
- وله رسالة 'الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف'، وهي رسالة جيدة في بابها بين فيها شطط أهل التصوف وغلوهم في باب الكرامات.
موقفه من الجهمية:
__________
(1) تطهير الاعتقاد (62-66).(2/36)
قال: إذا عرفت هذا. فقد سمع الصحابة ومن بعدهم هذه الصفات الشريفة مدحوه بها وأجرَوها عليه كما أجراها على نفسه وتمدح بها، ساكتين عن التأويل والمناقشة لم يقولوا: يلزم من إثبات صفة السميع الصماخ، ومن صفات البصير الحدقة وغير ذلك غير سائلين لمن أرسل إليهم ليبين لهم ما أنزل إليهم عن ذلك... (1) ثم استرسل في الرد على المؤولة من كلام أهل العلم.
موقفه من القدرية:
وقد حكى في كتابه إيقاظ الفكرة (2) ما دار بينه وبين أحد علماء المدينة في القدر، قال: لقد اتفق لشيخنا عبدالرحمن بن أبي الغيث ونحن نأخذ عنه في صحيح مسلم في المدينة النبوية سنة أربع وعشرين ومائة وألف أنه أملى في أول حديث القضاء والقدر منه بعد أن سئل عن الكسب وحقيقته فكأنما نشط من عقال فقال: المعتزلة قالت إنها خالقة لأفعالها والله يقول: اللَّهُ { خَالِقُ كُلِّ } شَيْءٍ (3) فردوا قول الله تعالى، فقلت له: هل القرآن شيء؟ قال: نعم، فقلت: هل هو مخلوق؟ قال: لا، فقلت: قد خصصتم تلك الكلية كما خصصتها المعتزلة فقال: لا سواهم خصصوها بأفراد تعد فقلت: هذا لا يقوله عالم إذ لا فرق بين تخصيصها بفرد واحد أو بأفراد ملء الدنيا. ثم أخذ يفسر الكسب فقال: هو تصميم العبد فقلت له: من أي المقولات التصميم فقال: من مقولات الفعل. قلت: العبد يوجده؟ قال: نعم، وبهذا فارقنا الجهمية. قلت: قد أثبت كون العبد موجدا كما تقوله المعتزلة فما زاد إلا أن قال: اصبر علي احلم عني. فقلت له: لغير هذا جئنا استمر في الإملاء وهذه الأبحاث من البدع ما خاض فيها الصحابة ولا التابعون، فتكدر صفو المقام بعد ذلك، وهذا الرجل من العلماء في المدينة والخطباء وهذا قصارى بحثه. هذا معنى ما دار بيننا وبينه لا لفظه.
أحمد بن مانع بن إبراهيم التميمي (4) (1186 هـ)
__________
(1) إيقاظ الفكرة (ص.82).
(2) ص.257-258).
(3) الزمر الآية (62).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/504-507) وروضة ابن غنام (1/134).(2/37)
الشيخ أحمد بن مانع بن إبراهيم بن مانع بن حمدان الوهيبي التميمي. نشأ في بلدة أشيقر، ثم انتقل إلى الدرعية، فقرأ على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب. وله ردود في الدفاع عن العقيدة. توفي رحمه الله في الدرعية في شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- له رسالة رد بها على عبدالله المويس النجدي جاء فيها:
من أحمد بن مانع إلى جميع الإخوان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد بلغني أن المويس ثبط جماعتكم عن المحافظة على صلاة الجماعة وهون أمرها، فيا عجبا هل كان المويس أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
إلى أن قال: فإن تثبيط (المويس) من جهة أن الإمام من أتباع ابن عبدالوهاب، فهذا مذهب ابن عبدالوهاب بيناه وأنه يدعو الناس إلى التوحيد والتبرؤ من الشرك وأهله، وإذا كان هذا دين النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يسعنا ويسعكم غيره.(2/38)
وأما عبدالله المويس وغيره، فلا يصرفكم عن صلاة الجماعة بقوله: هم خوارج يعني أهل العارض، فليس هو بأكثر من صد الناس عن دين نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، وما نقم عليهم إلا أنهم يعلمون الناس دينهم الذي أعظمه شهادة أن لا إله إلا الله، ويعلمونهم أنواع الشرك، ويأمرون بالمحافظة على الصلاة مع الجماعة، ويأمرون بالزكاة، وينهون عن المنكرات التي أكبرها الشرك بالله، وينهون عن الفواحش، ويقيمون الحد، وينهون عن الظلم، حتى إن الضعيف يأخذ الحق ممن هو أقوى منه، وقد كان الناس قبل هذا الأمر بعكس ذلك، ولم يوجد أحد يعيب عليهم ذلك، فلما بين لهم أمر الدين واشتغلوا بالعلم وتعليمه وبإقامة أمر الله، وحض الناس عليه، قام (المويس) وأمثاله يصيحون ويقولون: أهل شقراء وأهل العارض مرتدون، وأهل العارض خوارج، فإذا قيل له: أهل العارض وأهل شقراء يطلبون منك الدليل على ما قلت إن كنت صادقا، فرد عليهم من كتاب الله أو سنة رسول الله ولو في مسألة واحدة حتى يقبل كلامك. غضب على من قاله. (1)
حسين بن مهدي النُّعْمِي (2) (1187 هـ)
حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني، من أهل "صبيا" في تهامة اليمن، تعلم وأقام في صنعاء. وعمل رحمه الله على إحياء السنن في "مسجد القبة"، بعد توليه إماما للصلاة فيه من طرف الإمام المهدي العباسي آنذاك. توفي رحمه الله سنة سبع وثمانين و مائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية: 'معارج الألباب في مناهج الحق والصواب' (3) .
__________
(1) علماء نجد (1/504-506).
(2) الأعلام (2/260).
(3) والكتاب مطبوع وهو من أجود الكتب التي ردت على القبوريين برد علمي رصين وبأسلوب بليغ وهو عبارة عن رد على بعض مخرفي أهل اليمن.(2/39)
- قال فيه: والقصد، أن الله جعل الكتاب والسنة أمرا خالدا على مر الأزمان، ليتعلم الجاهل ويسترشد الضال، ويأمن الخائف، ويتذكر المتذكر، ويعتبر المعتبر، ويستمد المؤمن، ويهتدي الحيران، وليقضي بين الناس بما هنالك، وليكون ملاذا عند الاختلاف، وبيانا عند اللبس، ورسما متبعا في الاعتقاد والتعبد والإفتاء، والحكم والتحكم والتحكيم، والتحليل والتحريم، والأبحاث وغيره من أحكام العليم الحكيم، ومستندا يرجع إليه الأمر كله في التأخير والتقديم.
فتعطيله عن هذه الثمرة، أو منع المجتني لها، وهو المقصود بها، مناقضة ظاهرة وعناد أوفى، ومضادة جلية.
والمحروم الذي أضاف المنع أيضا لمن سواه يقول: مالي في هذه الحياض من مشرب، هي للإمام يروى منه، ويخبر عما وجد، ولا سبيل لغيره إليها، بل يكون في أيدينا الأوصاف بأن في ذلك الحوض كذا، وصفته كذا، وفائدته كذا.
فإذا جاءهم من يقول: بعض هذه الحياض لم يبلغه الإمام، ولا ادعى لنفسه الإحاطة، أو بلغه ولكني وجدت نعته أو فائدته غير ما ذكر لكم، بعد أن باشرت بنفسي مذاقه. فما تقولون؟ وليس لكم على دفعي حجة، ولا إلى مصادرتي سبيل، إلا دعوى مالها مستند. اللهم إلا إذا باشرتم كما باشرت، فاضطررتم إلى إكذابي. فذاك ما أمرتم به. ويصح منكم -والحال هذه- المدافعة والممانعة، وأما مكاذبة في شيء قد أعربتم عن أنفسكم أنكم ما تبوأتم له منزلا، ولا جسستم له عرقا ولا مفصلا، فغريب منكم التوثب على حماه، والساقي يقول: هلموا، فليس الخبر كالعيان، ولم يحط الإمام بما لدينا خبرا، وربما يخطئ الخبر ويخالف، إذ مبناه على مبلغ صاحبه علما وفهما.
ومن علم حال البشر اضطر إلى الحكم بعدم براءتهم من قصور الفهم ونقصان العلم في حالات كثيرة. (1)
__________
(1) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب (69-70).(2/40)
- وقال: ولقد جر سوء هذه المقالة -وهي القول بتعذر الاجتهاد- إلى ما أشرنا إليه، من سلب منافع الكتاب، وكونه عدة للدفع والنفع، ومحلا للاهتداء، وميزانا يعرف به الرشاد والفساد. فقد حيل الآن بينه وبين طالب ما فيه من غيوث الرحمة، وصيب النعمة، وكذا ما يتصل به من حوافل تفسيره. والكلام على نكت فرائده، وعجائب فوائده، وبيان إشارته ومقاصده. فكل ذلك عند المقلدين لغو محض، إذ ما لا تصل إليه -وإن زعمت ذلك- قضت عليك الحقيقة بأنك مكذبه بالكذب، فوجوده وعدمه عندك سيان.
وهكذا المؤلفات المشتملة على الأخبار النبوية، وعلومها ووسائلها، ككتب الجرح والتعديل، وطبقات الرواة، وشرح أحوالهم، وعلم غريب الكتاب والسنة وأحكامهما، وكذا المؤلفات في سائر الفنون. كالنحو والتصريف، وأصول الفقه والمعاني، التي يقول مؤلفوها: إن الحكمة من تأليفها هي التوصل إلى تصحيح المطالب بالذات، مع أن عقلاء الفضلاء لا زالوا على ممر الأزمان تتجدد لهم التصانيف، أعلى بصيرة ذلك، وللتبصير ما هنالك، أم دأب فيما لا سبيل إلى الغاية المقصودة به؟.
فنقول: أيها الملأ، وإن كان البشر قد علم ضعفه، ونقصه وجهله، فلقد ساءنا أن بلغتم إلى هذه الغاية، وما زدتم على المضادة لله ولرسوله، والتلعب بدينه وبشرائعه وإضاعة مساعي الباحثين والمؤلفين، وأهل التصانيف، وذوي العلم والنظر. فما شأن ما صنعوا؟ وهل للدأب في ذلك الجمع والتأليف، وبيان الصحيح من الفاسد والراجح من الخفيف فائدة وغاية؟ وما بقاء ذلك واستمراره على تعاقب الأحقاب، بل هل لبقاء كتاب الله كثير حاصل؟ إذ مبنى جميع ذلك على فتح باب الاجتهاد، وأن كثيرا من المطالب، أو كلها، أو إلا النادر منها لا طريق إلى تحصيله إلا البحث والنظر. (1)
__________
(1) معارج الألباب (104-105).(2/41)
- وقال وهو يتحدث عن آفة التقليد: ومن ذلك -وهو منهم قياس للغائب على الشاهد- وذلك أنهم لما كانوا لا يعرفون إلا حرفة التقليد. واستقر في فكرهم وفطرهم أن من أفتى أو تكلم أو عمل ما لا يصنع شيئا من ذلك. إلا لأنه قاله المقلَّد فلان، أو الإمام علان. أو محصلو مذهبه -بزعمهم- قالوا: إن قائل تلك المقالة -وهي اتجاه وجوب تخريب المشاهد- قلد ابن تيمية في ذلك. ومن تدبر أصول القوم، وجدهم دلوا على أنهم من جملة العامة. ولا أدري من أين جاء لهم ذلك؟
نعم هو نتيجة من نتائج الحكم بتعذر الاجتهاد.
ومن حق الباحث أن يدلي بما يوافق خصمه على صحته، أو بحجة قاهرة تؤذن أن دفعها مكابرة، وأن التمسك بمعارضها قصور أو ضلال.
وكون من ذكروه قلد ابن تيمية بطلانه معلوم غير موهوم، لما أنه ينهى عن التقليد وينادي بمنعه. ولأن عامة مباحثه مبنية على تحرير المقام بمبلغ نظره، وإن كان لا سبيل إلى رفع الخطأ جملة في كل بحث.
وذلك منه من دون تقليد لابن تيمية ولا غيره، ولا احتجاج بقول أحد قط، أو التدين به من دون استبانته منه حسبما علم. وليس معصوما كغيره أيضا. ولأنه في خصوص هذه المسألة أبرز حجته، وحرر من البرهان ما استطاع.
فأي معنى لقولكم إنه قلد ابن تيمية؟ والحال أنكم لم تأتوا عن أنفسكم ولا فيما نقلتم بشيء يقابل بعض ما أقامه في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، التي لا يردها إلا مشاق لله ولرسوله؟ ولأنه قد ناقض ابن تيمية في كثير من المسائل ذهب إليها، لظهور ضعف كلامه عنده. فلو كان واقفا على تقليده -كما وقفتم على رسوم شرح المنهج وغيره- لما فعل. فما باله يسوغ لنفسه تقليد ابن تيمية في هذه المسألة دون غيرها؟ فلقد حكيتم عجبا.
وقد قرأنا عليه وعرفنا مذهبه، وأنتم لا تعرفونه،إنما يبلغكم عنه ما يبلغ، فتأخذون في مضادته بلا بصيرة، ولا وازع لكم عن الرجم بالظنون والأوهام، ولا علم يهدي إلى تمييز الصحيح من ذي السقام.(2/42)
فالعتب عليكم: أترضون أن يكون من خطاب ما لا يفهم؟
وكفى دليلا على تنكبكم الصواب ذكركم الأقوال من فروع المذهب في مقابلة مناهي صريحة صحيحة مشهورة في الصحاح وغيرها، ثم تعرضكم لشيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من جلة الأئمة الأعلام -وهو ابن تيمية- بأنه ضال مضل، وما كان -رحمه الله تعالى- أهلا لهذا. والرجل أمره شهير. وأقواله ومذاهبه يتناقلها الجم الغفير. وما مثله يحتاج إلى كشف عن رفيع محله، وقد تعرض له ولتلميذه الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي -هو ابن قيم الجوزية- رحمه الله تعالى بعض القائلين. وهما إمامان جليلان لاحقان بأماثل السلف كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومؤلفاتهما وتراجمهما، ونقل أهل العلم لأقوالهما ومذاهبهما ونفائس تحقيقهما كافية شافية مقنعة لمن عدل وأنصف. (1)
- وقال رحمه الله: وأما أنتم معشر المغرمين بالمذاهب الراضين بقيود التقليد في أعناقكم وقلوبكم، فقد جعلتم تلك المتون والمختصرات أظهر عبارة، وأوضح معنى وإشارة، وأصح مسلكا وأبين مدركا، لما أنها -بزعمكم- خلاصة تلك المحاسن.
وكيف يكون ذلك كذلك؟ وفيها من التباين والتدافع والاختلاف، وخفاء السند والدليل أو ضعفه، أو مصادمة المأثور الصحيح ما لا يخفى على ذي بصيرة صالح السريرة، قد مارس الحقائق وسبر الطرائق، ورضي بالله ربا ومشرعا حكيما عن جميع الخلائق، وحظي بالتمييز بين الخطأ والصواب، وبالانتفاع بما وهبه الله من عقل وفهم حاذق.
وما اشتبه على الناظر من الأدلة نفسها، أو ظهر عنده تعارض فالقطع عنده بأن مفيضها هو محل القدس والبراءة من كل نقص، فإن علم كيفية العمل في ذلك بتعليم المفيض سبحانه، وإلا وقف لقصوره في نفسه، لا لتطرق أمر في المصدر المذكور، بخلاف غيره، فأمره ما ذكرنا.
والغافل يقول بجمود خاطره: كل ذلك المختلف فيه بين المختلفين، أو بعضه رشد، لا بل الرشد منه ما سلكه سلفي، واتبعتهم فيه.
__________
(1) معارج الألباب (119-120).(2/43)
وقد يكون أيضا كاذبا عليهم أو مفتريا عليهم بذلك ما لا يرضونه له، لجهله ما صدر عنهم، كما جهل الأدلة. وقد صح لنا كل ما ذكرنا وتواتر وروده علينا حتى استيقناه ضرورة، ودان به كل من على وجه الأرض، إلا القلة النادرة. (1)
- وقال أيضا في معرض رده على مقلدة المذاهب، وما هم عليه من الاهتمام بكتب الخلاف الخالية من الأدلة الشرعية: وأين هي من موائد الكتاب والسنة؟ التي مذاقها يبرئ العاهات، ويقدس من السفاهات، ويعرفك قدر ما حرمت منه هذه الجماعات، وسوء ما وقعوا فيه من فساد الأحوال، بسبب هجرانهم المباشرة لما هنالك، وما ضمن من الدلالات والإشارات، وصنوف التأديب والتهذيب والتثقيف والإفادات.
فذاك -بعد استظهار الكون عليه، وتصحيح الطريق إليه وتنقيحه دراية ورواية- هو الباب الذي إن ولجته للاعتصام به من المخاوف نجوت، وإن سلكته كنت على هدى وبصيرة من أمرك، وإن أردت أن تستمد منه حجة تأثرها، أو طريقة تعبرها، أو برهانا تقيمه، أو هدى تلتمسه، أو تصحيحا لاعتقاد أو عمل، أو دليلا قاهرا لخصمك، هاديا لمسترشدك، وجدته صالحا لجميع ذلك. قائما بأعباء هذه المدارك، ولا يعرف ذوو الألباب، ومن رزق صلابة في دينه ما يستأهل القيام بهذه الأثقال، سوى ذلك الباب، لا الرد إلى شرح المنهج وما ذكروه معه وأشباهها من كتب المقلدين.
ولو كان البناء دائما على ما أشرنا من ذلك الأساس، لكانت ثمرات الكتاب والسنة يستمتع باقتطافها عامة الناس، ولما عفت رسوم الهدى، واندرست معالم الاهتداء، ولكان أمرهما مشهورا مذكورا، مأنوسا منشورا، متداولا بين الناس، حتى تزاحم الأصاغرُ الأكابر، وينال القاصر حظه من مواهب الله، وإن لم يبلغ شأو الماهر. ولم يؤكد الحكم باستحالة التحلي بتلك الرغائب، بؤسا لها من رزية.
__________
(1) معارج الألباب (73-74).(2/44)
ولا يضر في هذا الموضع تفاوت معارف الناس في هذا الباب، ومع ورود الجميع المنهل الراوي متحد. والفاضل يحذو حذو المفضول من عين ذلك الماء المعين، ويتعاورون ذلك فيما بينهم "تسمعون، ويسمع منكم" (1) ، "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (2) .اهـ (3)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله في 'معارج الألباب في مسألة البناء على القبور': ...على أنا لا نسلم أيضا أن أحدا من الأربعة رضي الله عنهم، ذهب إلى ما ضمه نقل هذه المختصرات في هذه المسألة، فهاتوا نصوصهم في ذلك، فإنا لم نرهم نقلوا في جواباتهم هذه حرفا واحدا عن أحد من الأربعة في جواز البناء على القبور، بل نقل المالكي عن إمامه مالك -رضي الله عنه-: أنه كره البناء على القبر، وقال: لا خير فيه، فاعجب لها من طريقة طريفة، حيث يعمل أتباعه على خلاف مذهبه، ويفصلون المسألة بما يباين إطلاق الإمام، ويكون قولهم فيها في شق، وقول الإمام في الشق الآخر، واجعلها لك عبرة في غيره من المفتين الثلاثة، ولا تثق بأن ما حصلوه في كتب المذاهب رأي للأئمة.
فإنا لم نسمع عن الإمام الشافعي -رحمه الله- إلا أنه قال: "أدركت الأئمة بمكة يهدمون البناء على القبور" ولا يحضرني الآن محله فأعينه لك، ومثله لا يخفى.
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/321) وأبو داود (4/68/3659) وابن حبان (الإحسان (1/263/62)) والحاكم (1/95) كلهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ولم يخرجاه، وفي الباب أيضا عن عبدالله بن مسعود وثابت بن قيس بن شماس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ووافقه الذهبي.
(2) سيأتي تخريجه في مواقف فالح بن مهدي الدوسري سنة (1392هـ).
(3) معارج الألباب (79-80)(2/45)
فنحن الآن نطالبهم بنقل صحيح: أن كل واحد من الأئمة الأربعة قائل بما نقلوه عن فروع مذاهبهم، حتى يصححوا دعواهم عليهم فقط، إن كانت أيضا، لا أن يكون ذلك حجة لهم في الباب، فذلك معلوم الانتقاء (1) بلا شك ولا ارتياب.
فإن يأتوا به -ولا نخالهم يجدون له أثرا- وإلا فليعلموا أنهم بعد يقولون ما لا يعلمون، حتى في مذاهب أئمتهم الذين هم من جلة أعلام أئمة المسلمين. وبعد تصحيحه عنهم: فهو اجتهاد في مقابلة نص، ورأي صادم أثرا، فسقوطه معلوم لا يخفى إلا على أغفال المقلدين. (2)
- وقال: ومن ذلك: أنا تصفحنا أوراقهم هذه، فوجدنا لباب تحقيقها: دعاوى تعاقب أخواتها، وبراهينها عيون دعاويها، ثم ترتبون المقاصد على هذا الخطأ المتباعد، حتى جعلتم هدم القباب والمشاهد أذية لأولياء المليك الواحد، وهل يقال لمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به: آذيت ولي الله، وكيف تكون الولاية -وذلك الولي يؤذيه- حكم المولي؟
وليت شعري، كيف يكون أمرهم إذا لم يرعهم إلا نزول الإمام الأطهر وصاحب السبق الأشهر: علي -رضي الله عنه ونضَّر- بساحتهم يقول: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته". (3)
فعلى الذي يشاهد من حالهم: كأنا بهم وقد ثاروا ذلك المثار، وأخذوا لتلك المعاقل بالثأر، وأرجعوا عليا القهقرى، وتركوه زاحفا على الوراء، وقالوا: أذية لأولياء الله، ورأى من درى، فالأمر الآن هو ذاك بعينه، ما الذي ترك الناس سدى، أو نسخ معالم الهدى؟
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: الانتفاء.
(2) معارج الألباب (ص 38).
(3) انظر تخريجه في مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة (40هـ).(2/46)
ثم كيف الخطب لديهم في هذه الأبنية على الأموات المعدة للتلاوة والصلوات، المشتملة على المحاريب والفرش والسرج، وسائر الآلات، إذا أتاهم في شأنها رسول صاحب الوحي المنزل، والهدي السوي الأعدل، يقول: بعثني لإزالة ما قد تقدم إليكم بالنهي عنه من اتخاذ القبور مساجد (1) ، ورواه لكم عدد من صحابته الجلة الأماجد، وقد أكد الله عليكم في الإجابة له ولرسوله، فماذا أنتم صانعون؟.
وهذا كله بالنظر إلى نفس البناء على القبر، لا إلى ما ترتب عليه من الوثنية والشرك، وعلى إحياء هذه المشاهد من كلم الإسلام، وفقء عين شريعة المختار عليه الصلاة والسلام، وما يقع في الزيارات من أنواع الشرك بدعاء المقبورين، والطواف بتلك الأنصاب، والعكوف عندها، والنذر والتقرب لها بأنواع القربات، وما ترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات، كترك الصلاة المكتوبة، وما يقولون من أقاويلهم المفتراة المكذوبة، قد حملوا الولي، أو حملها عنه، واختلاط الرجال بالنساء، وأرباب الملاهي، واتخاذ الزينات، والمجاهرات بالبدع والمعاصي، والمخالفات لله، التي لا طمع في حصرها في الرقاع، وكيف وقد امتدت في أقطار البسيطة، على ما فيها من الاتساع فما أكثر ما ترى هنالك من نسيان الله ونبذ لعهوده، ومحادة له ولكتابه وتعدي لحدوده.
ولعمر الله، من رضي بقاء هذه الرسوم، شارك في هذا الخطب المشؤوم، إلا متبرئ لله من هذه الأحداث، وغائر لله مما حل بدينه من خطوب الأبنية، وزوار الأجداث، الذين أعطوها حق ربنا الذي هو أحق أن يدعى ويستغاث، وانهمكوا في صنوف من أنكر الأعمال، وجسائم الأخباث.
وأنتم معشر المفتين، أترضون لأنفسكم أن تلقوا الله بشيء من إشادة هذا البنيان؟ فاستعدوا للسؤال. فللأعمال ديان.
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).(2/47)
اللهم فهذه براءة إليك مما تكاد السموات يتفطرن منه. وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أتتنا المناهي عن رسولك في هذا الباب، كما نهى رأي عين في سد ذرائعه، وهدم شرائعه، وطمس رسومه وشنائعه، ثم عمد قوم أضاعوا عهد التحقيق ولم يراعوا مشاعر تأديبك وتعليمك، التي تهدي إلى سواء الطريق. فانتصبوا لرفع رايات سوء، كان ينبغي أن تكون مخفوضة معزولة بحكمك الوثيق، وإلا فكل من آمن بك، وعقل عنك، وتحقق بمعرفة دينك، لا يجهل ما في طيها من عظيم المشاقة لك ولرسولك.
اللهم فمن زعم عليك أنك رفعت شأن القباب والمشاهد، والزيارات المعروفة من هذه الطوائف، ومواطن الأموات، وجعلتها ترياقا لقضاء الحوائج، ومثابة للناس، وأعيادا لهم، وزعم على سلفنا الصالح من أمة نبيك الأكرم أنهم دانوا بذلك، أو بذرة منه. اتباعا لأمرك، ورضاء بحكمك، وصار من غاية سعيه زيادة ازدراع هذه المفاسد، وإيقاد نيرانها. فاحكم بيننا وبينه بالحق، وأنت خير الحاكمين.
فإن القوم قد أبدلوا -وأنت أعلم- رسوم شرعك بسواها، واستولى اللعين على فطرهم، فثناها عن الهدى ولواها، وسول لهم أن يبدلوا الزيارة التي شرعتها للادكار، والاستغفار والاعتبار، بضدها من التضرع عند القبر، والرقص واللهو، وإبداء الفاقة والافتقار، وأنواع الفجور، والهتف، والتملق، والتأدب مع الرمم، والحكم لها بنفع وإضرار.
وكيف لا؟ وقد أصلوا أن لها التصرف والتصريف في البادين والحضار، وصاروا يستمدون من نفحاتهم جسائم الآمال، ويضربون قباب الطلبات بفناء أعتاب قباب الأموات، يا بئس الأعمال.
فمن الذي بوأكم هذه المشارع، وسن لكم هذه الآداب والشرائع؟ ووضع لكم هذه الرسوم التي تبعتم آثارها؟ فائتونا بسلطان مبين. نتبعه ونشكر لكم إن كنتم صادقين، أو فامحوا عنكم -عافاكم الله- عارها، وحاشا بعد أن نقول لكم -إن أتيتم بحجة بينة-: دعونا، فقد صرح الشيخ بخلافها، لأن ذا من الحيف بمكان.(2/48)
ثم اللهم، إن القوم أبدلوا مناهي رسولك، الذي جعلته العصمة من الضلال، عن البناء على القبور، وتشريفها، وتجصيصها، والكتابة عليها (1) ، وجعلها مساجد (2) ، وما جاء عنه من النهي عن اتخاذ قبره عيدا (3) بأضدادها، فبنوا وشرفوا وجصصوا، وكتبوا، وجعلوها أعيادا ومساجد، كأنه - صلى الله عليه وسلم - أغراهم بذلك الأمر الأسوإ، بل لو كانوا مأمورين بذلك لما حفظوه ورعوه، كما هم الآن، بشهادة المناهي في هذه المسألة، إذ أضيعت، وشهادة غيرها في غير هذا الباب، مما لا يحتاج إلى شرح.
وليتهم اقتصروا على هذه المخالفات، بل جاوزوا مما ينسيها إلى أضعاف مضاعفات، واقتدت العامة بمن تخيلوا عنده علما، وهو في الواقع منهم لا يملك رأيا ولا عقلا للحقائق ولا فهما، فهو معهم غارق في باطل لغوهم، حريص على شهود مجالس إفكهم، وإثمهم ولهوهم، لا يهدي ولا يهتدي، ولا تراه في طلب العلم صدقا يروح ولا يغتدي.
__________
(1) وردت أحاديث كثيرة في هذه المسألة منها حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، أو يزاد عليه، أو يكتب عليه".
أخرجه: أحمد (3/332) ومسلم (2/667/970) وأبو داود (3/552/3226) والترمذي (3/368-369/1052) والنسائي (4/392/2026) وابن ماجه (1/498/1562) بعضهم مطولا وبعضهم مختصرا.
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).
(3) وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى عن جمع من الصحابة، منها: حديث أبي هريرة: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". أخرجه: أحمد (2/367) وأبو داود (2/534/2042). وقال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (111): "وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبدالله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به". وحسن إسناده الألباني، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب. انظر تحذير الساجد (142).(2/49)
حتى أنا وجدنا في أفعالهم لدى هذه المشاهد ما كان صنيع الجاهلية عند بيوت الأوثان، وزيادة غلو على من ضاد الله ورسوله باتخاذ إلاه ثان. فإنا سمعنا الله يقول في كتابه إذ سجل على أولئك الأقوام وَإِذَا { مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا } إِيَّاهُ (1) أي: هو تعالى ذو الجلال والإكرام.
وطالما شاهدنا عباد أرباب هذه القباب. إذا التطمت عليهم أمواج البحر العباب. سمعت ذكر الزيلعي والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب، إذ لكل طريقة لا ينتحى سواها في الهتف والانتساب، ولكل من الجيلاني، وابن علوان، والعيدروس،والحداد، وغيرهم من آلهة هذه الطوائف طائفة من العباد، ويذكرون الله في جملة من ذكرنا، كما سمعناهم أيضا، كأنه واحد من تلك الأعداد. وحاشا كل من يؤمن بالله واليوم الآخر -خصوصا صلحاء الأمجاد- أن يرضى شيئا من هذا، وإلا كان شريكا لمن حاد الله ورسوله وضاد. (2)
- وقال: ومن أذيال مصيبة المشاهد -التي أصيب بها الإسلام وشعائره- ما ظهر وانتشر في العامة في جهات كثيرة. كما هو معلوم مشاهد: أن المساجد ربما تكون متروكة مهجورة. وفيها من التراب والعيدان والأوساخ، وزبل الأنعام، وحراق التمباك، وغير ذلك ما يجعلها مزابل، ومشاهد الأموات محترمة مكرمة، مجمرة بالظفر والعطور، مفروشة بالسجاد الفاخر، وعلى القبور ستور الحرير الثمينة، بها الشمعدانات الفضية ما جعلها مرعية مقامة متحاماة. (3)
__________
(1) الإسراء الآية (67).
(2) معارج الألباب (43-47).
(3) معارج الألباب (ص 214).(2/50)
- وقال: تأمل دين عباد القبور اليوم، خصوصا الغالين منهم فيها، إذا مسهم الضر أنابوا إليها. ويروون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- إذا دهمتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور (1) ، ثم يذوقون الرحمة من الله مع كفرهم هذا. فيقولون: كرامة الشيخ وبرهانه، وإذا أخفق سعيهم يقولون: هو غائب أو ساخط.
وهذه قضية واقعة فاشية في الكثير، أو الأكثر، أو أن السالم من حماها نزر لا يكاد يذكر (2) .
- له أيضا من الآثار السلفية كتاب: 'مدارج العبور على مفاسد القبور'.
أبو العون السَّفَارِينِي (3) (1188 هـ)
محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني، أبو العون، شمس الدين، العلامة، الحافظ. ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، بقرية سفارين (من قرى نابلس)، قرأ القرآن صغيرا وحفظه وأتقنه، ثم رحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها منهم الشيخ عبدالقادر التغلبي والشيخ عبدالغني النابلسي والشيخ أحمد المنيني وغيرهم. قال صاحب السحب الوابلة: برع في فنون العلم، وجمع بين الأمانة والفقه والديانة والصيانة، وفنون العلم والصدق، وحسن السمت والخلق والتعبد وطول الصمت عما لا يعني، وكان محمود السيرة، نافذ الكلمة، رفيع المنزلة عند الخاص والعام. وكان رحمه الله ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، قوالا بالحق مقبلا على شأنه، توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين ومائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) ذكره صاحب كشف الخفاء (1/88/213) بلفظ: "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور" وعزاه لابن كمال باشا في الأربعين. كما ذكره محمد بشير الأزهري في تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين، انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة (1/1297).
(2) معارج الألباب (ص 239).
(3) الأعلام (6/14) وهدية العارفين (2/340) وتاريخ الجبرتي (1/468-470) والسحب الوابلة (2/839-846) ومعجم المؤلفين (8/262) وفهرس الفهارس (2/1002-1005).(2/51)
- له المنظومة المشهورة المسماة: 'الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية'، وقد شرحها المؤلف بشرح مطول، نقل معظمه من بحوث ابن تيمية وابن القيم في كتبهما.
وهذا مما يزين الشرح ويجعله ذا قيمة علمية. والكتاب مطبوع متداول.
- قال فيها (1) :
اعلم هديت أنه جاء الخبر ... عن النبي المقتفى خير البشر
بأنّ ذي الأمة سوف تفترق ... "بضعا وسبعين" اعتقادا والمحق
ما كان في نهج "النبي" المصطفى ... و"صحبه" من غير زيغ وجفا
وليس هذا النص جزما يعتبر ... في فرقة إلا على "أهل الأثر"
- وقال (2) :
والحمد لله على التوفيق ... لمنهج الحق على التحقيق
مسلما لمقتضى الحديث ... والنص في القديم والحديث
لا أعتني بغير "قول السلف" ... موافقا أئمتي وسلفي
ولست في قولي بذا مقلدا ... إلا النبي المصطفى مبدي الهدى
صلى عليه الله ما قطر نزل ... وما تعانى ذكره من الأزل
وما انجلى بهديه الديجور ... وراقت الأوقات والدهور
وآله وصحبه أهل الوفا ... معادن التقوى وينبوع الصفا
وتابع وتابع للتابع ... خير الورى حقا بنص الشارع
ورحمة الله مع الرضوان ... والبر والتكريم والإحسان
تهدى مع التبجيل والإنعام ... مني لمثوى عصمة الإسلام
أئمة الدين هداة الأمة ... أهل التقى من سائر الأئمة
لا سيما "أحمد" و"النعمان" ... و"مالك" "محمد" الصنوان
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله في كتابه 'لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية':
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (ص.63).
(2) شرح العقيدة السفارينية (ص.78-79).(2/52)
قد أكثر السلف رضي الله عنهم في ذم الكلام والخوض فيه والتقصي عن دقائقه والتدقيق فيما يزعمون أنه قضايا برهانية وحجج قطعية يقينية، وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية والمدارك الفلسفية والتخيلات الكشفية والمباحث القرمطية، وكان أئمة الدين مثل الإمام مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي يبالغون في ذم الكلام وفي ذم بشر المريسي وتضليله. (1)
- وقال: وقد أجمع أئمة الهدى على ذم الفرقة المريسية وأكثرهم كفروهم وضللوهم وذموا الكلام وأهله بعبارات رادعة وكلمات جامعة. (2)
- وقال: وفي قوله: مُنَزَّلٌ { مِنْ } رَبِّكَ (3) دلالة على أمور:
منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة، كما هو قول الجهميين الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم. فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات، وقال إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة جهميا. فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه وإن كان الجعد بن درهم سبقه إلى بعض ذلك. (4)
موقفه من الخوارج:
- قال في منظومته 'الدرة المضية':
فصل في الكلام على الذنوب:
ويفسق المذنب بـ (الكبيره) ... كذا إذا أصر بـ (الصغيره)
لا يخرج المرء من (الإيمان) ... بـ (موبقات الذنب) و(العصيان)
وواجب عليه أن يتوبا ... من كل ما جر عليه حوبا
ويقبل المولى بمحض الفضل ... من غير عبد كافر منفصل
ما لم يتب من (كفره) بضده ... فيرتجع عن (شركه) وصده
ومن يمت ولم يتب من الخطا ... فأمره مفوض لذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم ... وإن يشأ أعطى وأجزل النعم (5)
__________
(1) لوائح الأنوار (1/184-185).
(2) لوائح الأنوار (1/187).
(3) الأنعام الآية (114).
(4) لوائح الأنوار (1/219-220).
(5) شرح العقيدة السفارينية (68).(2/53)
- وقال فيها أيضا: الباب السادس في ذكر الإمامة:
ولا غنى لأمة الإسلام ... في كل عصر كان عن (إمام)
يذب عنها كل ذي جحود ... ويعتني ب (الغزو) و(الحدود)
و(فعل معروف) و(ترك نكر) ... و(نصر مظلوم) وقمع كفر
و(أخذ مال الفيء) و(الخراج) ... ونحوه والصرف في منهاج
ونصبه ب (النص) و(الإجماع) ... و(قهره) فحل عن الخداع
وشرطه (الإسلام) و(الحريه) ... (عدالة) (سمع) مع (الدرية)
وأن يكون من (قريش) (عالما) ... (مكلفا) ذا (خبرة) و(حاكما)
وكن مطيعا أمره فيما أمر ... ما لم يكن ب (منكر) فيحتذر (1)
موقفه من المرجئة:
- قال في منظومته الدرة المضية: (فصل في الكلام على الإيمان...)
إيماننا قول وقصد وعمل ونحن في إيماننا نستثني نتابع الأخيار من أهل الأثر ... تزيده التقوى وينقص بالزلل
من غير شك فاستمع واستبن
ونقتفي الآثار لا أهل الأشر (2)
- وقال في لوائح الأنوار: تنبيه: هل القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان مختص بمذهب السلف ومن تبعهم -ممن يدخل الأعمال فيه من الخلف- كالقلانسي وغيره من الأشاعرة، أو يعم مذهب من قال إنه التصديق فقط؟
الحق كما قاله الإمام النووي وغيره، وجماعة من مُحَقِّقي علماء الكلام؛ أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان، ولو قيل إنه التصديق والإذعان، لأن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح البرهان، وعدم ذلك، وما اعترض على هذا القول -من أنه متى قبل ذلك كان شكا- مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوتة، مع أنها لا شك معها. وفي القرآن العظيم ما حكى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم: `إ3"s9ur { £`ح³yJôـuٹدj9 } سة<ù=s% (3) .
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (77).
(2) شرح العقيدة السفارينية (69).
(3) سورة البقرة الآية (260).(2/54)
وتقدمت قصة موسى الكليم لما رأى قومه عاكفين على عبادة العجل، مع ما كان أخبره الله تعالى به من ذلك، فحصل له من الغضب، وإلقاء الألواح، وأخذه بلحية أخيه هارون عليه السلام ورأسه، ما لم يحصل له بإخبار الله تعالى، مع جزمه وتيقنه صدق الخبر، ووقوع المخبر عنه بخبر من لا يبقى في القلب أدنى شك ولا ريبة، وبالله التوفيق.
تتمة: مذهب السلف ومن وافقهم من الأشعرية جواز الاستثناء في الإيمان، يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، خلافا لمن يمنعه كالجهمية والمرجئة. وخلافا لمن يوجبه كابن كلاب ومن وافقه.
والقول بجواز الاستثناء مذهب أصحاب الحديث كالثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة، وهو مذهب الإمام أحمد، وغيره من علماء السنة، فإنهم يستثنون في الإيمان. وهذا متواتر عنهم، لأن الإيمان عندهم يتضمن فعل جميع الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى من غير شك في إيمانهم كما هو منصوص الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. (1)
موقفه من القدرية:
- ذكر رحمه الله في الدرة المضية مسائل القدر فقال: (الباب الثاني في الأفعال المخلوقة):
وسائر الأشياء غير الذات ... وغير ما الأسماء والصفات
مخلوقة لربنا من العدم ... وضل من أثنى عليها بالقدم
وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار
لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى
أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لاهي
وكل ما يفعله العباد ... من طاعة أو ضدها مراد
لربنا من غير ما اضطرار ... منه لنا فافهم ولا تمار
وجاز للمولى يعذب الورى ... من غير ما ذنب ولا جرم جرى
فكل ما منه تعالى يجمل ... لأنه عن فعله لا يسأل
فإن يثب فإنه من فضله ... وإن يعذب فبمحض عدله
فلم يجب عليه فعل الأصلح ... ولا الصلاح ويح من لم يفلح
__________
(1) لوائح الأنوار السنية (2/343-345).(2/55)
فكل من شاء هداه يهتدي ... وإن يرد ضلال عبد يعتدي (1)
- وقال: (فصل في الكلام على القضاء والقدر):
وكل ما قدر أو قضاه ... فواقع حتما كما قضاه
وليس واجبا على العبد الرضا ... بكل مقضي ولكن بالقضا
لأنه من فعله تعالى ... وذاك من فعل الذي تقالى (2)
حسين العُشَارِي (3) (1194 هـ)
حسين بن علي بن حسن بن محمد العشاري، نجم الدين، أبو عبدالله البغدادي الشافعي. ولد سنة خمسين ومائة وألف للهجرة ببغداد، وتعلم فيها، وغلب عليه الفقه حتى كان يسمى الشافعي الصغير. وبعث رحمه الله إلى البصرة للقضاء والتدريس فيها، فتوفي في تلك السنة (أي سنة أربع وتسعين ومائة وألف).
موقفه من الرافضة:
- له: 'الأبحاث الرفيعة في الرد على الشيعة'، ذكره في هدية العارفين. (4)
محمد بن عبدالعزيز بن سلطان (5) (من القرن الثاني عشر)
الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن سلطان ولد في بلدة البير. قرأ على علماء الدرعية آنذاك، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وعينه الإمام محمد ابن سعود قاضيا لبلدان المحمل والشعيب، ثم انتقل إلى قضاء الدرعية. توفي رحمه الله في بلدته البير.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في علماء نجد: ولما قامت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كان المترجم -أي محمد بن عبدالعزيز بن سلطان- من الشباب الراغبين في العلم، فانتقل إلى الدرعية، فدرس فيها على الشيخ محمد وعلى عدد من علماء الدرعية المقيمين فيها والواردين إليها، فلما أدرك عَيَّنه الإمام محمد بن سعود بمشورة الشيخ محمد بن عبدالوهاب قاضيا لبلدان المحمل والشعيب. (6)
صفي الدين محمد بن أحمد البخاري (7) (1200 هـ)
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (ص66).
(2) شرح العقيدة السفارينية (ص68).
(3) هدية العارفين (1/328) والأعلام (2/248) ومعجم المؤلفين (4/28).
(4) 1/328).
(5) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/71).
(6) علماء نجد (6/71).
(7) فهرست الفهارس (1/214-215) وتاريخ الجبرتي (1/652-653) والأعلام (6/15) ومعجم المؤلفين (9/5).(2/56)
محمد بن أحمد بن محمد بن خير الله البخاري الأصل المحدث الأثري نزيل نابلس، أبو الفضل صفي الدين. ولد سنة أربع وخمسين ومائة وألف. قال الزبيدي في معجمه: يعرف فن الحديث معرفة جيدة لا نعلم في هذا العصر من يدانيه فيها مع ما عنده من قوة الحافظة والفهم السريع وإدراك المعاني الغريبة. وقال الشمس ابن عابدين: كان في حفظ متون الأحاديث والرجال عديم المثيل، كاد أن يشبه بصاحب الصحيح لو كان أباه إسماعيل. وقال الزركلي: (فاضل من أعلم أهل الشام بالحديث في عصره). وقال الجبرتي: (وكان إنسانا حسنا مجموع الفضائل رأسا في فن الحديث) توفي سحر ليلة الأحد سابع وعشرين رمضان سنة مائتين وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له: 'القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي'؛ والكتاب مطبوع بهامش جلاء العينين.
- وله: 'الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة المتزندقة'؛ مطبوع متداول.
- قال في 'الصاعقة المحرقة': واعلم أن المعصية إذا عملها صاحبها مع اعتقاد أنها معصية يسمى فاسقا ولا يسمى مبتدعا، فإن اعتقد مع ذلك كونها مشروعة في الدين جوازا أو ندبا أو وجوبا فهو مبتدع.
فالفسق: أعم من البدعة، فكل بدعة فسق ولا عكس، فيكون هؤلاء بفعلهم هذا فساقا مبتدعين لعملهم المعصية معتقدين أنها طاعة، كذا في الرهص والرقص. (1)
- وقال: فصل: وإذا تقرر كراهة رفع الصوت بالذكر مع الجنازة في مذاهب الأئمة الأربعة. ففي نحو الذكر قدام العروس بالطريق الأولى.
وبالجملة، فالذكر بالصوت الشديد في الطرقات بدعة، لكونه غير معهود في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في القرون المشهود بخيريتها، ولا له سند ظاهر ولا خفي، ولا يجوز قياسه على التلبية والتكبير في طريق يوم العيد لعدم شرط القياس.
__________
(1) الصاعقة المحرقة (ص.62).(2/57)
على أن التلبية لم يشرع الجهر بها إلا لكل فرد بنفسه لا بهيئة الاجتماع والاتفاق في الصوت بالرفع والخفض ومراعاة الأنغام والزيادة والنقص والتمطيط والإبدال في الحروف، لأجل ذلك، فإن ذلك كله حرام في الذكر كما يحرم في قراءة القرآن، كذا في الرهص والرقص. (1)
- وقال: فالجهر المذكور يدافع السنة الثابتة بالحديث المتقدم ذكره الذي أخرجه البيهقي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنازة وعند القتال وعند الذكر.
وإذا استقرئت البدع التي في العبادات المحضة فلا بد أن يوجد فيها مزاحمة لسنة، ولو لم تكن تلك السنة إلا متابعة الصحابة لكان فيها كفاية لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم بخلاف غير العبادات المحضة فإنها قد تكون لسبب تجدد بعدهم أو كان تركهم لها المانع ثم زال على ما تقدم. الكل في الرهص والرقص. (2)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله في مقدمة 'الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة المتزندقة'- وهو كتاب جيد في بابه، ملأه صاحبه بالنقول عن أصحاب المذاهب، وخصوصا المذهب الحنفي... وقد طبع الكتاب ولله الحمد-: إني أردت أن أكتب أوراقا في شرح أحوال المتصوفة في هذه الأيام مشتملا على فصول للاهتمام. وسميتها: الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة.
وذلك أن طائفة ممن يدعي التصوف وهو فيه دعي بالتصلف قد اتخذوا الرقص واللعب ديدنا واعتقدوه تدينا، وخلطوا العبادة باللعب، وافتروا على الله الكذب، يأخذ بعضهم بيد بعض ويتحلقون حلقة، ويدورون محركين أيديهم إلى وراء وقدام، ورءوسهم بالتصعيد والتسفيل والتلوي كالهيئة التي يفعلها بعض النصارى في لعب لهم (يسمونهم) بركض الديك. ألا ساء ما يصنعون. (3)
__________
(1) الصاعقة المحرقة (ص.66-67).
(2) الصاعقة المحرقة (ص.71).
(3) الصاعقة المحرقة (ص.17).(2/58)
السلطان محمد بن عبدالله (1) (1204 هـ)
محمد (المتوكل على الله، المعتصم بالله) بن عبدالله بن إسماعيل بن الشريف الحسني، المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا. ويعتبر الأمير من ملوك الدولة السجلماسية العلوية بالمغرب، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وبويع رحمه الله بعد وفاة أبيه سنة إحدى وسبعين ومائة وألف للهجرة.
قال صاحب 'الاستقصا': كان السلطان محمد بن عبدالله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم، لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات. ثم قال: وجلب من بلاد المشرق كتبا نفسية من كتب الحديث لم تكن بالمغرب، مثل مسند الإمام أحمد، ومسند أبي حنيفة وغيرهما. وقال: ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها.
وقال صاحب 'نشر المثاني': وهو نصره الله وأيده في العلم بحر لا يجارى، وفي التحقيق والمعارف لا يمارى، وقد جمع من دراية العلم ما تقف العلماء دونه، وتود زواهر الأفق أن تكونه، فكملت بذلك سنة الله على العباد، وأحيا به الله الدين في كل الأرض والبلاد، مع فرط الكرم والجود. وكان رحمه الله له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه، وهابته ملوك الإفرنج، ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف، وقام بمجموعة من الإصلاحات الداخلية كبناء المدن والمساجد والمدارس. توفي رحمه الله سنة أربع ومائتين وألف، بالقرب من رباط الفتح.
__________
(1) الفكر السامي (2/293-294) والاستقصا (8/3-72) والأعلام (6/241-242) وهدية العارفين (2/347) والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (6/109-133).(2/59)
وقال صاحب 'الفكر السامي': عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفا على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيار ملوك العلويين بالمغرب؛ اعتنى بالعلم حتى وصل إلى درجة التأليف، وكان سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات.
- جاء في الفكر السامي:
وقال: إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه -أي كتاب 'الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية'- بعقيدة رسالة ابن أبي زيد ... وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة كما صرح بذلك في تآليفه ... ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة؛ ولو عملوا برأيه لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال. (1)
" التعليق:
افتتاحه رحمه الله كتابه مما يؤكد سلفيته في الأسماء والصفات، فرحمة الله عليه وجعل الباقي على نهجه.
- وفي الاستقصا: وكان السلطان سيدي محمد بن عبدالله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين، وله في ذلك أخبار. (2)
__________
(1) 2/293-294).
(2) 8/68).(2/60)
- وفيه: ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية. ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما. ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك، حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل، وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبدالله الغربي وأبو عبدالله المير وغيرهما من أهل مجلسه.
ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر، ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة، والكل مأجور على نيته وقصده. (1)
" التعليق:
قال صاحب الاستقصا: إنا نقول: الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله، وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي، والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي، والعلامة الواعية أبي زيد عبدالرحمن بن خلدون وغيرهم، أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة، ولعمري لا يعلم هذا يقينا إلا من جربه وذاقه.اهـ (2)
قلت: وأما الناس اليوم، فأقبلوا عما نهى عنه هذا السلطان الصالح محمد ابن عبدالله؛ إذ المتمسك منهم الذي سلم من الإلحاد الشيوعي والاشتراكي، لا يعرف غير هذه المختصرات؛ فـ'مختصر خليل' هو قرآنهم، و'السنوسية' و'أم البراهين' و'مقدمة ابن عاشر' هي معتقدهم. والله المستعان.
موقفه من الجهمية:
__________
(1) 8/67).
(2) الاستقصا (8/67).(2/61)
- قال رحمه الله في آخر 'الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية' (1) : فصل في بيان قولي في الترجمة: المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا، والأيمة رضي الله عنهم اعتقادهم واحد، فأردت أن أشرح قولي: المالكي مذهباً الحنبلي اعتقاداً؛ وأبين المقصود بذلك والمراد، ليلا يفهمه بعض الناس على غير وجهه؛ وذلك أن الإمام أحمد -ثبت الله المسلمين بثبوته- سد طريق الخوض في علم الكلام، وقال: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا ترى أحدا ينظر في علم الكلام إلا وفي قلبه مرض وهجر أبا عبدالله الحارث بن أسد البصري المحاسبي وكان ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن وذلك لتصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال له ويحك ألست تحكي بدعتهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة والتكلم فيه فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث فاختفى المحاسبي فلما مات لم يصل عليه إلا أربعة، وإلى ذلك ذهب الشافعي ومالك وسفيان وأهل الحديث قاطبة، حتى قال الشافعي رضي الله عنه لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام فلزم الناس السكوت عن الخوض في علم الكلام إلى أن نبغ الإمام الأشعري فاشتغل يرد على المعتزلة أقوالهم الفاسدة ويجيب عن آرائهم الواهية فاتبعه المالكية على ذلك وسموه ناصر السنة وهو ومن ابتعه على صواب موافقين في اعتقادهم للسنة والكتاب لا في الخوض مع الخائضين والتصدي لذكر شبه المبطلين وتخليدها في الأوراق إلى يوم الدين.
__________
(1) مخطوط بخزانة القرويين بفاس (ص.320-322).(2/62)
وأما الحنابلة فأنكروا ذلك عليه، وفوقوا سهام الانتقاد إليه، وقالوا له كان ينبغي لك أن تسكت كما سكت الأيمة قبلك من السلف الصالح المهتدين الذين يرون أن الخوض في علم الكلام من البدع المحدثة في الدين، أما لك فيهم إسوة أفلا وسعك ما وسعهم من السكوت عن تلك الهفوة. فطريق الحنابلة في الاعتقاد سهلة المرام، منزهة عن التخيلات والأوهام، موافقة لاعتقاد الأيمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام أعاشنا الله على ما عاشوا عليه وأماتنا على ما ماتوا عليه.
قال عبدالحفيظ الفاسي في 'الآيات البينات' (1) : ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب (2) وصرح في أول كتابه الفتوحات الكبرى (3) بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة (4) لكونها على مذهب السلف وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية. وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول، فنزل عن كرسيه وقال كنزولي هذا، ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية.
__________
(1) ص.301).
(2) أي مذهب السلف.
(3) هو الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية.
(4) رسالة ابن أبي زيد القيرواني.(2/63)
- أصدر مرسوما ملكيا سنة ثلاث ومائتين وألف للهجرة في إصلاح المنهج التعليمي بالمغرب، وألزم العلماء والوعاظ به، وتوعد بالعقوبة كل من خالفه، ومما قال فيه: "ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبي زيد رضي الله عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين". ثم قال: "ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص؛ فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذركنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها؛ ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة، وأن يضلوا طلبة البادية، فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها؛ يظنون أنهم يحصلون على فائدة بها، فيتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإصلاح ألسنتهم بالعربية، فيكون ذلك سببا في ضلالهم". (1)
__________
(1) نقلا عن النبوغ المغربي لعبد الله كنون (ص.277).(2/64)
محمد بن عبدالوهاب (1) (1206 هـ)
لقد بزغت شمس الهداية في القرن الثاني عشر الهجري، الذي وصل فيه العالم الإسلامي إلى حالة أجمع المؤرخون على وصفها؛ بأنها حالة ظلام دامس، لقد غطته القبورية والقبوريون. وأصبحت الأرض والسماء تشتكيان من رفع أصوات القبوريين بالاستغاثة بالأموات والأشجار والأحجار. وكذلك انزعجت السماوات بزعقات المتصوفين وصراخهم، وارتجت الأرض من شطحهم ورقصهم، وكادت أن تنشق وتتزلزل من فعلهم ومنكرهم، أما طغيان المعاصي الأخرى فلا تسأل عن وصفها والحالة التي بلغتها. أما السنة وكتبها فقد سفت عليها الرمال، وأصبح طلبة العلم لا يعرفون إلا قول فلان وعلان. وأما عقائد الأشعرية والماتوريدية فأصبحت هي الغيم والمطر في قلوب علماء ذلك الزمان، وبها حياتهم.
فلكل ما ذكرنا يمكن الجزم بأن شمس الهداية قد بزغت من جديد على يد هذا الإمام بهضاب نجد، وفي الدرعية بالضبط. فانتشر نورها في تلك البقعة، وطهرها من كل الظلمات التي كانت حالكة فيها منذ سنين. ثم تابعت مسيرتها إلى آخر نقطة من الشرق ثم إلى آخر نقطة من الغرب. فوجدت حواجز كثيرة من جبال للشرك والدجل، وغيوم مختلفة من ألوان من الضلال، ولكن لقوة نورها وعدم تكدرها لم تتأثر بأي حاجز يحجزها، وما تزال والحمد لله مشرقة صافية يستضيء بها أهل المشرق والمغرب. وكيف لا وهي شعاع من شمس النبوة التي وعد الله بحفظها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
__________
(1) روضة ابن غنام (1/75-84) والأعلام (6/257) وعلماء نجد (1/25) وأبجد العلوم (3/158-160).(1/1)
وإليك نبذة عن شخصيته، فهو الشيخ الإمام، شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي. ولد سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في العيينة (بنجد). حفظ القرآن قبل العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد الذهن، سريع الحفظ، فصيحا فطنا. نشأ الشيخ في أحضان بيت علم كبير توارثوه أبا عن جد. أخذ عن أبيه وعن الشيخ المحدث محمد حياة السندي والشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف بن عبدالله الشمري وغيرهم. رحل طالبا للعلم إلى الحجاز ثم إلى البصرة، لكنه أوذي فيها، وعاد إلى نجد، فسكن "حريملا" مع أبيه يقرأ عليه إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف للهجرة. وكان له اهتمام خاص بمطالعة كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم. وبدأ الشيخ رحمه الله بإظهار دعوته منكرا لجميع مظاهر الشرك والبدع، مجددا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وناهجا منهج السلف الصالح في الدعوة إلى التوحيد الخالص. وكان من المساندين له أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر، فناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره، فهدمت قبور ومشاهد وقطعت أشجار، وعلت كلمة الحق. لكن سرعان ما تخلى الأمير عن الشيخ وخذله، وأمره بالخروج من العيينة، فتلقاه أمير "الدرعية" محمد بن سعود بالإكرام، وقبل دعوته، وتعاهدا على إعلاء كلمة الله وسنة رسوله، فأيدهما الله سبحانه وتعالى بنصره، فملكوا مكة والمدينة وقبائل الحجاز وأمصارا أخرى. وقد تخرج على يده وأخذ عنه علماء أجلاء منهم: أبناؤه علي وحسين وإبراهيم وعبدالله، والشيخ أحمد بن راشد العريني والشيخ حمد بن إبراهيم والشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن معمر وغيرهم.(1/2)
قال حسين بن غنام: كان رحمه الله يحيي غالب الليل قائما، يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن، وكان من دأبه التأني والتثبت في تنفيذ الأحكام، لا يميله الهوى عن الشرع، ولا تصده عداوة عن الحق، بل يحكم بما ترجح له وجه الصواب فيه، فإن وجد نصا في كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التزمه ولم يعدل عنه، وإلا رجع إلى كتب الأئمة الأربعة، وأخذ نفسه بدقة المراجعة والتحقيق للنص، وشدة البحث والكشف والتنقيب. من مؤلفاته: 'كتاب التوحيد' و'مختصر زاد المعاد' و'مسائل الجاهلية' و'الكبائر' و'كشف الشبهات' وغيرها.
توفي رحمه الله سنة ست بعد المائتين والألف، وله اثنتان وتسعون سنة.
ولكثرة ما لهذا الإمام من الآثار في العقيدة السلفية سأقتصر على بعض المسائل التي نشرف بحثنا بها.
موقفه من المبتدعة:
- رسالة الشيخ إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم:(1/3)
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: سُبْحَانَ { رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ } الْعَالَمِينَ (1) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
__________
(1) الصافات الآيات (180-182).(1/4)
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد فَمَنْ { ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } (103) (1) وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وأومن بحوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأومن بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعالى: وَلَا { يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ } ارْتَضَى (2) وقال تعالى: مَنْ { ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا } بِإِذْنِهِ (3) وقال تعالى: وَكَمْ { مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (26) (4) وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: فَمَا { تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (48) (5) وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا تفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
__________
(1) الأعراف الآيتان (102 و103).
(2) الأنبياء الآية (28).
(3) البقرة الآية (255).
(4) النجم الآية (26).
(5) المدثر الآية (48).(1/5)
وأومن بأن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ { جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (10) (1) وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.
__________
(1) الحشر الآية (10).(1/6)
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل. ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي. فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد، وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور. قال تعالى: إِنَّمَا { يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ } اللَّهِ (1) الآية، بهتوه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار. فأنزل الله في ذلك: إِنَّ { الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } (101) (2)
__________
(1) النحل الآية (105).
(2) الأنبياء الآية (101)..(1/7)
وأما المسائل الأخر، وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها. ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا } بِجَهَالَةٍ (1) الآية. (2)
موقفه من المشركين:
- محنة الشيخ بسبب عقيدته السلفية:
جاء في روضة ابن غنام: وكان في أثناء مقامه في البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وينشر أعلام التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله يكفر من صرف شيئا منها إلى سواه. وإذا ذكر أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا يعبدونهم مع الله نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب وقال له: إن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع هديهم وآثارهم. وليست باتخاذهم آلهة من دون الله، وكان كثير من أهل البصرة يأتون إليه بشبهات يلقونها عليه، فيجيبهم بما يزيل اللبس، ويوضح الحق، ويكرر عليهم دائما أن العبادة كلها لا تصلح إلا لله، وكان بعض الناس يستغربون منه ذلك، ويعجبون لما يظهر لهم من شدة إنكاره لعبادة الصالحين والأولياء، والتوسل بهم عند قبورهم ومشاهدهم. وكانوا يقولون: إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء.
__________
(1) الحجرات الآية (6).
(2) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (6/8-13).(1/8)
فلما تكرر منه ذلك، آذاه بعض أهل البصرة أشد الأذى وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فاتجه إلى الشام، ولكن نفقته التي كانت معه ضاعت منه في الطريق، فانثنى عائدا إلى نجد، ومر في طريقه إليها بالأحساء، ونزل فيها على الشيخ العالم عبدالله بن محمد بن عبداللطيف الشافعي الأحسائي، ثم اتجه منها إلى بلدة حريملا، وكان أبوه عبدالوهاب قد انتقل إليها من العيينة، سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، بعد أن توفي حاكمها عبدالله بن معمر وتولى بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب خرفاش، فعزل الشيخ عبدالوهاب عن قضاء العيينة لنزاع بينهما.
فأقام الشيخ محمد في حريملا مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف.
فأعلن دعوته واشتد في إنكاره مظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام وجدد سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يخش في الحق لومة لائم، وحذر الناس والعلماء منهم خاصة تحقق وعيد الله في قوله تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) (1) .
فذاع ذكره في جميع بلدان العارض: في حريملا والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وأتى إليه ناس كثيرون وانتظم حوله جماعة اقتدوا به واتبعوا طريقه ولازموه وقرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير. وصنف في تلك السنين كتاب التوحيد.
وانقسم الناس فيه فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه، وفريق عاداه وحاربه وأنكر ذلك عليه وهم الأكثر.
__________
(1) البقرة الآية (159).(1/9)
وكان رؤساء أهل حريملا قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكان كل فريق يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يزع الجميع. وكان في البلد عبيد لأحد القبيلتين، كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن يمنعهم عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه سرا بالليل، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا.
فانتقل الشيخ من حريملا إلى العيينة، ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر فأكرمه وتزوج فيها الجوهرة بنت عبدالله بن معمر. ولما عرض على عثمان دعوته اتبعه وناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره. وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء والأشجار التي يعظمونها ويتبركون بها: كقبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة وكشجرة قريوة وأبي دجانة والذئب.
فخرج الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذئب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود، ومشارى بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم.(1/10)
وهكذا لم يبق وثن في البلاد التي تحت حكم عثمان وعلت كلمة الحق، وأحييت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما شاع ذلك واشتهر وتحدثت به الركبان أنكرته قلوب الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وقالوا مثل ما قال الأولون: أَجَعَلَ { الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (5) (1) . فتجمعوا على رده والإنكار عليه، ومخاصمته ومحاربته، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين يؤلبونهم عليه، فناصرهم في ذلك أهل الباطل والضلال من علماء تلك البلاد، وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع والسنة وجهله وغوايته، وأغروا به الخاصة والعامة، خصوصا السلاطين والحكام، وادعوا أن ليس للشيخ وأصحابه عهد ولا ذمام لرفضه سنة الرسول وتغييره أحكام الدين وخوفوا الحكام والولاة منه، وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال والطِّغام بكلامه ويغويهم بطريقته فيخرجون على حكامهم وولاتهم ويعلنون العصيان.
والشيخ -رحمه الله- صابر على ما يقولون، محتسب أجره عند الله، يتعزى بما قاساه قبله الموحدون، وما لقيه المؤمنون من أنواع البلاء، وما سعى لهم به أهل الشرك والضلال. وهذه سنة الله تعالى في عباده جارية في جميع الأزمان، يختبر بها المؤمنين ويمتحن بها الصابرين، فقد قال تعالى: الم { (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } (2) (2) وقال تعالى: وَلَقَدْ { فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (3) (3) .اهـ (4)
- ومن رسائله رحمه الله إلى أهل الآفاق قال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
__________
(1) ص الآية (5).
(2) العنكبوت الآيتان (1و2).
(3) العنكبوت الآية (3).
(4) روضة ابن غنام (1/76-79).(1/11)
من محمد بن عبدالوهاب إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيى بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد، وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة وقطع العذرة، ولكن الأمر كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" (1) فلما عظم العوام قطع عاداتهم وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم وهو من أبعد الناس عنه -إذِ العالم من يخشى الله- فأرضى الناس بسخط الله، وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله، وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين، وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب، ليس له من الأمر شيء، قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا هؤلاء لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون.
__________
(1) مسلم (1/130/145) وابن ماجه (2/1319-1320/3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وغيرهما.(1/12)
وها أنا أذكر مستندي في ذلك من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. فأما كلام الحنابلة فقال الشيخ تقي الدين رحمه الله لما ذكر حديث الخوارج (1) : فإذا كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضا، وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى، كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل ليعبد وحده لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصالحين أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هَؤُلَاءِ { شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2) فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.اهـ
__________
(1) أحمد (1/404) والترمذي (4/417-418/2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/59/168) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) يونس الآية (18).(1/13)
- وقال في الاقتناع في أول باب حكم المرتد أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فهو كافر إجماعا. وأما كلام الحنفية فقال الشيخ قاسم في شرح درر البحار: النذر: الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا باطل إجماعا، بوجوه منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر؛ إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي، وقال الإمام البزازي في فتاويه: إذا رأى رفض صوفية زماننا هذا في المساجد مختلطا بهم جهال العوام، الذين لا يعرفون القرآن والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، فويل للقضاة والحكام حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم.(1/14)
وأما كلام الشافعية فقال الإمام محدث الشام أبو شامة وهو في زمن الشارح وابن حمدان في كتاب 'الباعث على إنكار البدع والحوادث': لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من مؤاخاة النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم، وأطال رحمه الله الكلام -إلى أن قال-: وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر وهي ما بين عيون وشجر وحائط، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة، ثم ذكر رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال له بعض من معه: اجعل لنا ذات أنواط قال: "الله أكبر؛ قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" (1) .
__________
(1) أخرجه أحمد (5/218) والترمذي (4/412-413/2180) وقال: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (15/94/6702).(1/15)
انتهى كلامه رحمه الله، وقال في 'اقتضاء الصراط المستقيم': إذا كان هذا كلامه - صلى الله عليه وسلم - في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها؟ وأما كلام المالكية فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب 'الحوادث والبدع' لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أين ما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (1) قال: في البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي ... فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة، فما ظنك بزمانك هذا والله المستعان. وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين:
الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي، ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى، وعيسى عليه السلام بريء منهم.
__________
(1) أحمد (4/126) وأبو داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/16/43) والحاكم (1/95-96) وقال: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي.(1/16)
والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (1)
موازنة بين دعوة التوحيد ودعوة الشرك:
__________
(1) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (6/175-180).(1/17)
- جاء في تاريخ عجائب الآثار: ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وما تجدد بها من الحوادث فكان ابتداء المحرم بالرؤية يوم الخميس في عاشره، وصل كثير من كبار العسكر الذين تخلفوا بالمويلح، فحضر منهم حسين بك دالي باشا وغيره، فوصلوا إلى قبة النصر جهة العادلية، ودخلت عساكرهم المدينة شيئا فشيئا وهم في أسوأ حال من الجوع وتغير الألوان وكآبة المنظر والسحن، ودوابهم وجمالهم في غاية العي، ويدخلون إلى المدينة في كل يوم، ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم وقد سخط عليهم الباشا ومنع أن لا يأتيه منهم أحد ولا يراه، وكأنهم كانوا قادرين على النصرة والغلبة، وفرطوا في ذلك، ويلومهم على الانهزام والرجوع. وطفقوا يتهم بعضهم البعض في الانهزام، فتقول الخيالة: سبب هزيمتنا القرابة، وتقول القرابة بالعكس. ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر، وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم، ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد، بخشوع وخضوع. وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن، وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات.(1/18)
وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر، فوجدوهم غلفا غير مختونين، ولما وصلوا بدرا واستولوا عليه وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم، ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون: هؤلاء الكفار الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد. (1)
" التعليق:
هذا النص الذي نقله هذا المؤرخ، فيه عبرة لمن اعتبر، فاعتبروا يا من يريدون تحرير المقدسات الإسلامية، مثل فلسطين وغيرها من البلاد المغصوبة، أو البلاد التي في طريقها إلى الغصب. يحلم كثير من الناس، فيستلذ بحلمه الذي هو عبارة عن المؤتمرات والمنظمات التي تعقد وقرار اللجان والاقتراحات، وإذا سمعت الإذاعات أو قرأت الجرائد العالمية أو المحلية تظن أن الأمر قد انتهى، ويمكن في الأسبوع القادم أو الشهر الآتي على الأكثر، أن تحرر المقدسات وتقوم الخلافة الإسلامية التي تعقد راية الجهاد تحتها.
فلا تحرير ولا جهاد، ويبقى الناس هكذا حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله من هذا التردي أولا، الذي هم فيه، أما الاستخفاف بالشعوب والتلاعب بعقولهم، فما أكثر من يحسنه. والله المستعان.
مقارنة بين الدعوة الشركية ودعوة التوحيد الخالص وآفات الأولى وبركة الثانية:
- جاء في تاريخ الجبرتي:
__________
(1) تاريخ الجبرتي (3/341-342).(1/19)
وفي هذه الأيام أيضا، وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين، وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية، حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمس مائة ريال، والأردب من البر ثلاثمائة وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك. فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها، وشرب الأراجل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة بالملازمة على الصلوات في الجماعة ودفع الزكاة وترك لبس الحرير والمقصبات وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسه وعشرة بحسب حاله. وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه، فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم. فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه.(1/20)
إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر، فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخاريف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها، ليكون الدين كله لله. فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة، لأنها من الأمور المحدثة، التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية، وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك. فعند ذلك أمنت السبل. وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربع ريالات، واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون وأنا آخذ من المشركين لا من الموحدين (1) .
" التعليق:
يستفاد من هذا النص الذي ساقه هذا المؤرخ الأمور الآتية:
__________
(1) تاريخ الجبرتي (3/116-117).(1/21)
1- تصوير الحالة التي كانت عليها الحجاز قبل تشرفها بدعوة التوحيد الخالصة. وهي ما نعت هذا المؤرخ أصحابها بالوهابيين.
2- وجود مماثلة لها الآن في العالم الإسلامي إلا من شاء الله، فكل تلك الأوصاف السلبية قلما يخلو منها مكان.
3- عاقبة المشركين والمفسدين الذين أشركوا بالله فاستحلوا محارمه، فجزاهم الله بما سطره هذا المؤرخ.
4- بركة دعوة التوحيد الخالصة.
5- منقبة للشريف الذي عرف الحق واقتنع به. وطبقه في رعيته، وما أقل أمثاله في زماننا هذا. والله المستعان.
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: إن مفيدهم ابن المعلم قال في كتابه 'روضة الواعظين': إن الله أنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة الوداع فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: انصب عليا للإمامة ونبه أمتك على خلافته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يا أخي جبريل، إن الله بغض أصحابي لعلي، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري، فاستعف لي ربي". فصعد جبريل وعرض جوابه على الله تعالى فأنزله الله تعالى مرة أخرى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلما قال أولا، فاستعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المرة الأولى، ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره الله بتكرير نزوله معاتبا له مشددا عليه بقوله: يَا أَيُّهَا { الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ } رِسَالَتَهُ (1) فجمع أصحابه وقال: "يا أيها الناس إن عليا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"اهـ.
__________
(1) المائدة الآية (67).(1/22)
فانظر يا أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة ألفاظه وبطلان أغراضه، ولا يصح منه إلا: "من كنت مولاه" (1) ، ومن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك، إذ فيه اتهام المعصوم قطعا من المخالفة بعدم امتثال أمر ربه ابتداء، وهو نقص، ونقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر، وأن الله تعالى اختار لصحبته من يبغض أجل أهل بيته، وفي ذلك ازدراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة لما مدح الله به رسوله وأصحابه من أجل المدح، قال الله تعالى: ‰£Jpt'C { رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (29) (2) واعتقاد ما يخالف كتاب الله والحديث المتواتر كفر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خاف إضرار الناس، وقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ { يَعْصِمُكَ مِنَ } النَّاسِ (3) قبل ذلك كما هو معلوم بديهة، واعتقاد عدم توكله على ربه فيما وعده نقص، ونقصه كفر. وإن فيه كذبا على الله تعالى: وَمَنْ { أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ } كَذِبًا (4)
__________
(1) تقدم في مواقف الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ).
(2) الفتح الآية (29).
(3) المائدة الآية (67).
(4) الأنعام الآية (21)..(1/23)
وكذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن استحل ذلك فقد كفر، ومن لم يستحل ذلك فقد تفسق، وليس في قوله: "من كنت مولاه" أن النص على خلافته متصلة، ولو كان نصا لادعاها علي رضي الله عنه لأنه أعلم بالمراد، ودعوى ادعائها باطل ضرورة، ودعوى علمه يكون نصا على خلافته، وترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل.
ما أقبح ملة قوم يرمون إمامهم بالجبن والخور والضعف في الدين مع أنه من أشجع الناس وأقواهم. (1)
- وقال: ومنها أنه روى الكشي منهم -وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله- وغيره عن الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - وحاشاه من ذلك- أنه قال: لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - : ارتد الصحابة كلهم إلا أربعة؛ المقداد وحذيفة وسلمان وأبو ذر - رضي الله عنهم - فقيل له: كيف حال عمار بن ياسر قال: حاص حيصة ثم رجع.
هذا العموم المؤكد يقتضي ارتداد علي وأهل البيت وهم لا يقولون بذلك. وهذا هدم لأساس الدين لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث، نعوذ بالله من اعتقاد يوجب هدم الدين، وقد اتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا: كيف يقول الله تعالى: كُنْتُمْ { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } لِلنَّاسِ (2) وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلا نحو خمسة أو ستة أنفس منهم لامتناعهم من تقديم أبي بكر على علي وهو الموصى به، فانظر إلى كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة. فهؤلاء أشد ضررا على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه:
فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه.
وتجوز كتمان ما عورض به القرآن.
__________
(1) 'رسالة في الرد على الرافضة'، مطبوعة ضمن مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/5-7).
(2) آل عمران الآية (110).(1/24)
وتجوز تغيير القرآن وتخالف قوله تعالى: رَضِيَ { اللَّهُ عَنِ } الْمُؤْمِنِينَ (1) ، وقوله تعالى: سإج' { اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا } عَنْهُ (2) وقوله فيمن آمن قبل الفتح وبعده: وَكُلًّا { وَعَدَ اللَّهُ } الْحُسْنَى (3) .اهـ (4)
- وقال: ومنها إيجابهم سب الصحابة لاسيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله، رووا في كتبهم المعتبرة عندهم عن رجل من أتباع هشام الأحول أنه قال: كنت يوما عند أبي عبدالله جعفر بن محمد، فجاءه رجل خياط من شيعته وبيده قميصان فقال: يا ابن رسول الله خطت أحدهما وبكل غرزة إبرة وحدت الله الأكبر، وخطت الآخر وبكل غرزة إبرة لعن الأبعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم نذرت لك ما أحببته لك منهما، فما تحبه خذه وما لا تحبه رده. فقال الصادق: أحب ما تم بلعن أبي بكر وعمر، واردد إليك الذي خيط بذكر الله الأكبر. فانظر إلى هؤلاء الكذبة الفسقة، ماذا ينسبون إلى أهل البيت من القبائح حاشاهم، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى } النَّاسِ (5) فإذا لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطا فمن يكون غيرهم. (6)
__________
(1) الفتح الآية (18).
(2) المائدة الآية (119).
(3) النساء الآية (95).
(4) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/12-13).
(5) البقرة الآية (143).
(6) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/15-16).(1/25)
- وقال: ومنها أنهم جعلوا مخالفة أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصلا للنجاة، فصاروا كلما فعل أهل السنة تركوه وإن تركوا شيئا فعلوه، فخرجوا بذلك عن الدين رأسا، فإن الشيطان سول لهم وأملى لهم، وادعوا بأن هذه المخالفة علامة أنهم الفرقة الناجية. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "الفرقة الناجية هي السواد الأعظم" (1) و"ما أنا عليه وأصحابي" (2) . فلينظر إلى الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم، فما وافقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هي الفرقة الناجية، وأهل السنة هم المتبعون لآثاره - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه كما لا يخفى على منصف ينظر بعين الحق، فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية، وآثار النجاة الظاهرة فيهم لاستقامتهم على الدين من غير تحريف، وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد، ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم، وقد نزع الولاية عن الرافضة، فما سمع فيهم ولي قط. (3)
موقفه من الخوارج:
__________
(1) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/34/68)، الطبراني في الكبير (8/268/8035) وفي الأوسط (8/98/7198) البيهقي (8/188) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وذكره الهيثمي في المجمع (7/258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير".
(2) أخرجه الترمذي (5/26/2641) والحاكم (1/128-129) من طريق عبدالرحمن بن زياد عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو مرفوعا. وفيه عبدالرحمن بن زياد الأفريقي. وقال فيه الحافظ: "ضعيف في حفظه"، ولكن للحديث شواهد، كشاهد أبي هريرة ومعاوية وأنس وعوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنهم - .
(3) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/30-31).(1/26)
- قال: وأما الكذب والبهتان؛ فقولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس الذي دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبدالقادر، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال: وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان: فهو التصديق، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة وينقص بضدها، قال الله تعالى: وَيَزْدَادَ { الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (2) وقوله: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (124) (3) وقوله تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ } إِيمَانًا (4) وغير ذلك من الآيات.
قال الشيباني رحمه الله:
وإيماننا قول وفعل ونية ... ويزداد بالتقوى وينقص بالردى
__________
(1) الدرر السنية (1/66) وعقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1/337). نقلا عن مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/133).
(2) المدثر الآية (31).
(3) التوبة الآية (124).
(4) الأنفال الآية (2).(1/27)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (1) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (2) . وقوله تعالى: وَمَنْ { يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (25) (3) وَإِذْ { بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ڑْüدےح !$©ـ=د9 ڑْüدJح !$s)ّ9$#ur وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (26) (4) فقال الطواغيت الذي (5) قال الله فيهم: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ } اللَّهِ (6) : إن فساق مكة حشو الجنة مع أن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات، فانقلبت القضية بالعكس حتى آل الأمر إلى الهتيميات المعروفات بالزنا والمصريات يأتون وفودا يوم الحج الأكبر، كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهارا، وأن أهل اللواط وأهل الشرك والرفضة، وجميع الطوائف من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات يجيرون من استجار بهم، سبحانك هذا بهتان عظيم وَمَا { كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا } يَعْلَمُونَ (7) .اهـ (8)
موقفه من القدرية:
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2) أحمد (3/10،20،49،50) ومسلم (1/69/49) وأبو داود (1/677-378/1140) والترمذي (4/407-408/2172) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/485-486/5023) وابن ماجه (1/406/1275) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) الحج الآية (25).
(4) الحج الآية (26).
(5) كذا بالأصل والصواب (الذين).
(6) التوبة الآية (31).
(7) الأنفال الآية (34).
(8) مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (6/96-98).(1/28)
- قال رحمه الله: وأومن بأن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. (1)
- له كتاب التوحيد ضمنه باب: ما جاء في منكري القدر.
حامد بن محمد بن حسن بن محسن من علماء (أول القرن الثالث عشر)
موقفه من القدرية:
__________
(1) مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (6/9).(1/29)
- له شرح جيد لكتاب التوحيد، قال في شرحه لـ (باب ماجاء في منكري القدر): باب ما جاء في بيان أن منكري القدر قد خالفوا الكتاب والسنة واتبعوا أهواءهم، وأنهم في ضلال مبين وما لهم على الله إلا مجرد دعوة الشيطان، كما قال تعالى عنه لعنه الله أنه يقول يوم القيامة: وَمَا { كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } (1) فقد بين الله تعالى أنه يخاطبهم بأنهم تبعوه بلا سلطان، بل أن دعاهم إلى الباطل فاستجابوا له إما بمخالفتهم الكتاب، فقوله تعالى: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } (2) أي نخلقها، وقوله تعالى: مَا { فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (3) . قال البغوي: أي في اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: وَكُلُّ { صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } (53) (4) . وقوله تعالى: يَمْحُوا { اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (39) (5) . روي عن عمر أنه كان يطوف ويبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، ومعلوم بالضرورة أن المحو لم يكن إلا بعد الكتابة، والقرينة عليه قوله تعالى: وَعِنْدَهُ { أُمُّ الْكِتَابِ } (39) فإنه ورد في الحديث الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (6) .اهـ (7)
__________
(1) إبراهيم الآية (22).
(2) الحديد الآية (22).
(3) الأنعام الآية (38).
(4) القمر الآية (53).
(5) الرعد الآية (39).
(6) تقدم تخريجه في مواقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة (34هـ).
(7) فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد (ص.451)..(1/30)
- وقال بعد ذكره النصوص التي ساقها ابن عبدالوهاب في الأصل:
قلت: وهذه السنة نطقت صريحا بالقدر، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولكنهم كما قال تعالى: بَلِ { اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) . قال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: إن الناس في الأمر الشرعي الديني والقضاء المقدور الكوني انقسموا أربعة أقسام، فمنهم يرى الأمر المقدر الكوني وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ولكن لا يفرق بين المؤمنين وبين الفجار الكافرين، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن من الناس من يفرق بين المؤمن والكافر ولايفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق في آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان، بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى والفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه. ومنهم من أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وذاك من القدرية والمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وكان معترضا على ربه في أحكامه فهو كإبليس الذي اعترض على ربه وخاصمه.
__________
(1) الروم الآية (29).(1/31)
ومنهم من أقر الأمر الكوني المقدور والأمر الشرعي المأمور فيفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على ما يصيبه من المقدور، وهؤلاء هم أهل إياك نعبد وإياك نستعين، وإذا أذنب استغفر وتاب ولا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ويؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" (1) . فيقر بنعمة الله في الحسنات ويعلم أنه هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما ذكر عن بعضهم: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك والحمد لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي، وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (2) . والقسم الرابع: شر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية ولما مع القدرية. (3)
محمد بن علي بن غريب (4) (1208 هـ)
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/122) والبخاري (11/117/6306) والترمذي (5/436/3393) والنسائي (8/674-675/5537) كلهم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(2) أحمد (5/154) ومسلم (4/1994-1995/2577) والترمذي (4/566-567/2495) وابن ماجه (2/1422/4257) كلهم من حديث أبي ذر الطويل: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...".
(3) فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد (ص.453-454).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/312-316) وانظر هامش السحب الوابلة (2/690-692).(1/32)
الشيخ محمد بن علي بن غريب النجدي. تزوج بنت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعدما مات عنها زوجها حمد بن إبراهيم بن مشرف قاضي بلد "مرات". أخذ عنه الشيخ سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب والشيخ عبدالعزيز بن حمد بن مشرف والشيخ عبدالعزيز بن حمد ابن معمر وغيرهم.
قال ابن حميد: ورد على مخالفيهم -يعني المخالفين للدعوة السلفية- وأجاب عن عدة فنون أرسلت إليهم من بغداد، فكان عندهم مقبولا عظيما.
وفي سنة ثمان ومائتين وألف قتل الشيخ محمد بن غريب في الدرعية، لأجل أمور قيلت عنه.
موقفه من المشركين:
- له: 'التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق' وهو رد على شبه أرسلها عبدالله أفندي البغدادي إلى علماء الدرعية يتحداهم بها. إلا أن المؤلف -عفا الله عنه- أورد فيه مسائل ليست على مذهب السلف في العقيدة. (1)
فائز بن يوشع بن عبدالله آل رحمة (2) (1215 هـ تقريبا)
الشيخ فائز بن يوشع بن عبدالله بن محمد بن حسين آل رحمة الناصري التميمي. ولد في بلدة الغاط، وذلك في حدود سنة عشر ومائة وألف للهجرة، ثم انتقلت أسرته إلى بلدة الفرعة من بلدان الوشم. عاصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، واستجاب لدعوته. لم يل منصبا لتعففه وإقباله على العلم.
توفي رحمه الله سنة خمس عشرة ومائتين وألف للهجرة تقريبا، وقد تجاوز المائة من عمره.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في علماء نجد: ولما أخذت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تمتد، ووصلت إلى الوشم، وحاصر الإمام عبدالعزيز بن محمد الفرعة عام 1175هـ، وكان الشيخ فائز من الذين استجابوا للدعوة، بينما امتنعت بلدته، فانتقل إلى بلدة شقراء، وأخذ يدعو جماعته إلى الطاعة والانقياد للدعوة، إلا أنهم بقيادة أميرهم منصور بن حمد آل فائز رفضوا ذلك.
__________
(1) علماء نجد (6/313).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/356-357).(1/33)
ولكن بفضل من الله تعالى، ثم بإلحاح من هذا الداعية الحكيم الرشيد الشيخ فائز، هداهم الله تعالى، فكونوا وفدا، ووفدوا على الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الدرعية، فبايعوا على السمع والطاعة والمتابعة. (1)
موقف السلف من
محمد بن عبدالله بن محمد بن فيروز (1216 هـ)
عداؤه للدعوة السلفية:
هذا الرجل النجدي الأصل وأتباعه من الذين قاوموا وحاربوا دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية، فتصدوا لها بكل الوسائل، من تحريض السلاطين وتأليف القصائد والرسائل.
- جاء في علماء نجد: وقال قصيدة يذم فيها أهل نجد والدعوة السلفية ومطلعها:
سلام فراق لا سلام تحية ... على ساكني نجد وأرض اليمامة
إلى أن قال:
ومن أين هذا العلم جاء إليكم ... أمن أرض نجد أم من رأس خيمتي
فرد عليها الشريف الشيخ عبدالله بن محمود من أهل نجد وقد جاء إلى الشارقة في حدود عام 1318هـ بقصيدة مطلعها:
سلام ثقيل قد أتى بالمسرة ... علينا من نفحات رب البرية
إلى أن قال:
على قدم لاعظم الله أمرها ... سعت يومها جاءت لمحو الشريعة (2)
- وقال محرضا لباشا بغداد عندما أراد الإغارة على نجد أولها:
أنامل كف السعد قد أثبتت خطا ... بأقلام أحكام لنا حررت ضبطا
فنقضها عليه الشيخ حسين بن غنام الأحسائي بقصيدة قال فيها:
على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا ... عروس هوى ممقوتة زارت الشطا
تخطت فأخطت في المساعي مَرامَها ... ومرسلها عن نيل مقصودها أخطا
وثارت لنار الشرك تُذْكي ضِرامَها ... وسارت فبارت والإله لها قطا
لقد شوهت ما زخرفته بزورها ... كما أنها بالْمَيْن قد أحكمت ربطا
لقد جاء منشيها بزور ومنكر ... وفحش وبهتان يَغُطُّ به غَطَّا
وحاد به داعي العناد لِمَهْيَعٍ ... تنكب عن سبل الهداية واشتطا
عبدالعزيز بن محمد بن سعود (3) (1218 هـ)
__________
(1) علماء نجد (5/356-357).
(2) 6/244).
(3) الأعلام (4/27) روضة ابن غنام (1/125) والتاج المكلل (ص.301-304) والدرر السنية (12/30-36).(1/34)
الخليفة الراشد والإمام المجاهد عبدالعزيز بن محمد بن سعود، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين بعد المائة والألف للهجرة. تولى بعد وفاة أبيه محمد ابن سعود سنة تسع وسبعين ومائة وألف للهجرة، فأسقط جميع المظالم والمغارم، وارتفع عمود الحق، وأقبلت الدنيا على رعيته، وسارت بفتوحه الركبان، وطارت قلوب أهل الضلال فزعا. وكان رحمه الله مغوارا شديد البأس، لا يمل الحروب، يباشرها بنفسه ولا يخاف في الله لومة لائم. قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني:
وقام فاروق الزمان المؤتمن ... عبدالعزيز من ومن ومن
فسار في الناس كسيرة الأشج ... ودوخ البر وخاض للثبج
يسوس بالآثار والقرآن ... على طريق العدل والإحسان
يدعو إلى الله بحزب غالب ... مجاهد بالأربع المراتب
ونفسه لله والنفيس ... والصدق للقلوب مغناطيس
وقال الشيخ حسين بن غنام: كان الإمام عبدالعزيز رحمه الله كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، كثير الرأفة والرحمة بالرعية.
قتله رافضي من أهل العمادية في جامع الدرعية سنة ثمان عشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى.
موقفه من المشركين:
تربى منذ ولادته إلى إمارته تحت رعاية سلفية؛ أب سلفي، وأم سلفية صالحة، وأستاذ ومعلم أحيى الله به الأرض بعد موتها. فكان نتيجة ذلك كله إماما عالما سلفيا، يطمح لنشر هذه العقيدة المباركة في أرجاء المعمورة. لقد ذكر من أرخ لهذا الإمام ونقل عنه رسائل متعددة أرسلها إلى مجموعة من القرى والبلدان، يبين لهم فيها العقيدة السلفية والحالة المحزنة التي هم عليها من الشرك والخرافات. ومن أهم هذه الرسائل رسالة أرسلها إلى الحرمين ومصر والشام ... ونذكر نموذجا من رسائله كشاهد، ومن شاء التقصي فعليه بتواريخ نجد والدرر السنية.(1/35)
- رسالة أرسلها إلى أهل المخلاف السليماني مع الشيخ أحمد الفلقي، الذي زار الدرعية وتعلم العقيدة السلفية، فطلب من الأمير أن يبعثه داعية إلى أهل المخلاف، فاستجاب له، وكتب معه الرسالة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من عبدالعزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، خصوصا الأمراء أبناء حمد بن أحمد، وحمود وناصر ويحيى وسائر إخوانهم وآل النعمي وكافة أهل تهامة، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية، أما بعد، فالموجب لهذه الرسالة أن أحمد بن حسين الفلقي قدم إلينا، فرأى ما نحن عليه وتحقق صحة ذلك، فالتمس منا أن نكتب لكم ما يزول به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فاعلموا رحمكم الله، أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل بالدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته: إخلاص العبادة لله تعالى لا شريك له والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله الخلق لأجله ودل الكتاب على فضله كما قال تعالى: وَلَقَدْ { بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا } الطَّاغُوتَ (1) . وقال تعالى: وَمَا { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ } الدِّينَ (2) وإخلاص الدين هو صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وذلك بأن لا يدعى إلا الله ولا يستغاث إلا بالله ولا يذبح إلا لله ولا يخشى إلا الله ولا يرجى سواه ولا يرهب ولا يرغب إلا في ما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه.
وأن كل ما كان لله تعالى لا يصلح شيء منه لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وهذا بعينه توحيد الألوهية الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم دون الكافر، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
__________
(1) النحل الآية (36).
(2) البينة الآية (5).(1/36)
فلما من الله علينا بمعرفة ذلك وعلمنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن كنا قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم، والتقرب بالذبح لهم وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات وارتكاب المحرمات وترك الصلوات وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد اندثاره على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب أحسن الله له في آخرته المآب. فأبرز لنا جهة الحق ووجهة الصواب من كتاب الله المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فبين لنا أن الذي نحن عليه وهو دين غالب الناس من الاعتقاد في الصالحين وغيرهم ودعوتهم والتقرب إليهم والنذر لهم والاستغاثة بهم في الشدائد وطلب الحاجات منهم، أنه الشرك الأكبر الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه، قال تعالى: إِنَّ { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ } يَشَاءُ (1) . وقال تعالى: إِنَّهُ { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ } النَّارُ (2) وقال تعالى: وَالَّذِينَ { تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } (14) (3)
__________
(1) النساء الآية (48).
(2) المائدة الآية (72).
(3) فاطر الآيتان (13 و14)..(1/37)
فحين كشف الله لنا الإسلام، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر بالنصوص القاطعة والأدلة الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله وكلام أئمة الأعلام، الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر، وأن الله أول ما أخبرنا به أن ندعوه وحده، وذلك كما قال تعالى: وَأَنَّ { الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (18) (1) . وقال تعالى: وَمَنْ { أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ َOخgح !%tوكٹ غَافِلُونَ } (5) (2) إذا عرفتم هذا فاعلموا رحمكم الله أن الدين الذي ندين لله تعالى به، هو إخلاص العبادة لله وحده ونفي الشرك، وإقامة الصلاة جماعة وغير ذلك من أركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا يخفى على ذوي البصائر والأفهام والمتدبرين من الأنام، أن هذا هو الدين الذي جاءنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى: وَمَنْ { يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ } مِنْهُ (3) . وقال تعالى: Pِquّ9$# { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ } دِينًا (4) . فمن قبل هذا ولزم العمل به، فهو حظه في الدنيا والآخرة، ونعم الحظ دين الإسلام، ومن أبى غير ذلك واستكبر فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره وسناه، نهيناه عن ذلك وقاتلناه، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ } لِلَّهِ (5) .
__________
(1) الجن الآية (18).
(2) الأحقاف الآية (5).
(3) آل عمران الآية (85).
(4) المائدة الآية (3).
(5) الأنفال الآية (39).(1/38)
وقصدنا بهذه، النصيحة إليكم والقيام بواجب الدعوة، قال الله تعالى: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (1) وصلى الله على محمد.
وصل الفلقي بالكتاب وكان يحمل معه مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبعد ذلك استوطن أسفل وادي بيش عند قبائل الجعافرة وقام بالوعظ والإرشاد، فالتف الناس حوله واجتمعت القلوب عليه وفشت الدعوة بين المجاورين لتلك القبيلة. (2)
" التعليق:
لله درك من أمير أجدت وأفدت. بينت لنا البيان الكافي. صورت الحالة التي كانت تعيشها نجد خاصة والعالم الإسلامي عامة. أسندت الفضل لأهله ولم تدعه لنفسك، يشهد الله أنك ذكرتنا منهاج الصحابة رضوان الله عليهم، في دعوتهم وتواضعهم أمام الناس وبيانهم لدعوتهم السلفية. وذكرتنا حادثتك على يد الأشقى الرافضي قتله الله بحادث عمر مع المجوسي، فتلك كانت مع مجوسي القرن الأول، وهذه مع مجوسي القرن الثالث عشر.
فرحمة الله عليك الرحمة الواسعة.
صالح بن محمد الفُلاَّنِي (3) (1218 هـ)
الإمام الأثري الشيخ صالح بن محمد بن نوح بن عبدالله بن عمر العمري، المالكي، المشهور بالفلاني. و"فلان أو فلانة" نسبة إلى قبيلة بالسودان. ولد سنة ست وستين ومائة وألف من الهجرة في بلد أسلافه (نُس) من إقليم (فوت جلوا)، ونشأ بها. طلب العلم وعمره إذ ذاك نحو اثني عشر عاما، فرحل إلى مراكش، وتونس، ومصر، والحجاز، آخذا عن علمائها وأعلامها كالشيخ أبي عبدالله محمد بن سنة الفلاني وأبي الحسن علي الصعيدي والسيد مرتضى الزبيدي وغيرهم.
__________
(1) يوسف الآية (108).
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/146-148) بتصرف.
(3) الأعلام (3/195) ومعجم المؤلفين (5/12) وهدية العارفين (1/424-425) وفهرس الفهارس (2/901-906) وأبجد العلوم (3/139-140).(1/39)
قال تلميذه عبدالرحمن بن أحمد الشنقيطي: شيخنا الفقيه المحدث النحوي البياني، العالم بجميع فنون المعقول والمنقول. وقال الشيخ عابد السندي: الإمام الذي لا يجارى، والفهامة الذي لا يمارى، ملحق الأصاغر بالأكابر. وذكره محدث الشام الوجيه الكزبري فقال: ومن سادات أشياخي الشيخ الإمام العلامة المتفنن الهمام المشهور بالإسناد العالي، ذو الذهن الوقاد المتلالي، علم الدين الشيخ صالح بن محمد الفلاني.
توفي رحمه الله سنة ثماني عشرة بعد المائتين والألف.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية:
'إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار' والكتاب مطبوع متداول، وهو من خيرة الكتب في الرد على المقلدة. وعنوانه دال على ذلك.
- قال في مقدمته: حمدا لمن جعل أهل الحديث حراس الدين وصرف عنهم كيد المعاندين، وشكرا لمن ألهمهم التمسك بالشرع المبين، وهداهم لاقتفاء آثار الصحابة والتابعين، وصلاة وسلاما على من ببعثته كل منكر متروك وموضوع، وكل معروف موصول غير مقطوع ولا ممنوع، المنزل عليه أحسن الحديث والمبجل بين الورى في القديم والحديث، ورحمة موصولة بطرائق الإكرام من الملك العلام، مكفولة لأنصار السنة المطهرة وحماتها وإبطال الكفاح عنها وكماتها الرامين بشبه التحقيق الثاقبة شبهة التحريف والانتحال، المحرقين بصواعق الحجج البالغة بدع أهل الزيغ والضلال، الذين جعلهم الله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة. (1)
إبراهيم بن عبدالقادر (2) (1223 هـ)
__________
(1) إيقاظ الهمم (ص.2).
(2) البدر الطالع (1/17-18) ونيل الوطر لزبارة (1/61-67) والأعلام (1/48).(1/40)
العلامة الحافظ إبراهيم بن عبدالقادر بن أحمد صارم الدين الكوكباني الأصل الصنعاني المولد والوفاة. مولده بصنعاء في ثامن عشر رمضان سنة تسع وستين ومائة وألف ونشأ بكوكبان، وتخرج بوالده في عدة علوم وما زال مكبا على القراءة، ثم انتقل مع والده إلى صنعاء وعكف على التدريس بها. أخذ عنه عدة مشايخ منهم إبراهيم الحوتي والقاضي عبدالرحمن البهكلي التهامي، والوزير الحسن بن علي حنش. له مؤلفات منها: 'فتح المنان في بيان حكم الختان' و'إنباه الأنباه في حكم الطلاق المعلق بإن شاء الله' و'فتح المتعال بجوابات صاحب رجال'.
قال عنه الشوكاني: وبعد موت والده، قصده الطلبة إلى منزله وقرأوا عليه في فنون متعددة، وله رسائل ومسائل مفيدة، مع تواضع وحسن أخلاق وكرم وعفاف وشهامة نفس، وصلابة دين، وحسن محاضرة، وقوة عارضة وفصاحة ورجاحة وقدرة على النظم والنثر.
توفي رحمه الله تعالى بصنعاء في يوم الأربعاء سنة ثالث عشر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف.
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه الشوكاني في 'البدر الطالع': والمترجم له عافاه الله لا يتقيد بمذهب ولا يقلد في شيء من أمور دينه، بل يعمل بنصوص الكتاب والسنة ويجتهد رأيه وهو أهل لذلك. (1)
حمد بن ناصر (2) (1225 هـ)
__________
(1) البدر الطالع (1/18).
(2) علماء نجد (1/239-243) والأعلام (2/273-274).(1/41)
الشيخ العلامة الفقيه حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي. ولد في العيينة موطن أسرته عام ستين ومائة وألف من الهجرة وقت إمارة جده عثمان بن حمد على العيينة، وبها نشأ، وانتقل إلى الدرعية. ولازم شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وأخذ عنه وعن غيره من العلماء، كالشيخ سليمان بن عبدالوهاب والشيخ حسين بن غنام والشيخ حمد بن مانع وغيرهم. عينه الإمام سعود في قضاء الدرعية، ثم رئيسا لقضاة مكة المكرمة. تصدى للتدريس والقضاء والإفتاء، فصار مرجعا لطلاب العلم، تضرب إليه أكباد الإبل، فتخرج على يديه علماء أجلاء كالشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ وابنه الشيخ عبدالعزيز بن حمد والشيخ إبراهيم بن سيف الدوسري والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين وغيرهم كثير. وكان رحمه الله نظارا شجاعا، لا يخاف في الله لومة لائم. مكث في القضاء حتى توفي سنة خمس وعشرين بعد المائتين والألف، وصلى عليه الإمام سعود في البياضية ودفن فيها رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:(1/42)
- جاء في تاريخ علماء نجد: ولما كان في سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة هجرية، طلب الشريف غالب بن مساعد أمير مكة من الإمام عبدالعزيز بن محمد آل سعود أن يبعث إليه عالما ليناظر علماء مكة المكرمة في شيء من أمور الدين، فبعث إليه الإمام عبدالعزيز المترجم له الشيخ حمد بن ناصر على رأس ركب من العلماء، فلما وصلوا مكة أناخوا رواحلهم أمام قصر الشريف غالب. فاستقبلهم وأكرمهم وأنزلهم المنزل اللائق بهم. فلما فرغوا من عمرتهم واستراحوا من وعثاء السفر وعنائه، جمع الشريف بينهم وبين علماء الحرم الشريف من أرباب المذاهب الأربعة ما عدا المذهب الحنبلي، والمقدم فيهم مفتي الأحناف الشيخ عبدالملك بن عبدالمنعم القلعي، فصار بينهم وبين الشيخ حمد بن ناصر ورفاقه مناظرة عظيمة هامة عقد لها عدة مجالس بحضرة والي مكة الشريف غالب، وبمشهد كبير من أهل مكة. وذلك في شهر رجب من ذلك العام المذكور، فظهر عليهم الشيخ حمد بن ناصر بحجته وأسكتهم بأدلته وبراهينه، فسلموا له وأذعنوا لأقواله ودلائله (1) .
- وقال مؤلف تاريخ علماء نجد: حدثني وجيه الحجاز الشيخ السلفي محمد بن حسين بن عمر بن عبدالله نصيف قال: حدثني رجل ثقة من آل عطية من أهل جده عن أبيه قال: جمعنا في مسجد عكاشة حينما قدم حمد ابن ناصر بكتاب الصلح بين سعود وغالب، فصعد المنبر وخطب خطبة بليغة تدور حول تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة ثم حذر من ترك الصلوات، وأمر بأدائها في المساجد، وعن شرب الدخان وعدم بيعه وتعاطيه بحال من الأحوال، كما أمر بهدم القباب التي على القبور، وأمر بالحضور إلى المساجد لسماع رسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فامتثل الناس هذا كله، فصرت لا ترى الدخان، لا استعمالا ولا بيعا، وصارت المساجد تزدحم بالمصلين، وهدمت القباب التي على القبور وصار الناس يحضرون لسماع الدرس. (2)
" التعليق:
ما تقدم يدل على:
__________
(1) 1/241-242).
(2) 1/242-243).(1/43)
1- إخلاص هذا الشيخ لعقيدته السلفية وقوة علمه وذكائه رضي الله عنه. وأن الخرافيين دائما حججهم كبيت العنكبوت تذهب بأقل شيء، فكيف تثبت أمام نور السنة النبوية.
2- ما كان عليه الناس من اقتداء بالعلماء في ذلك الزمان، فلو قام عالم الآن بمثل ما قام به الشيخ حمد، لا أظن الناس يمتثلون بهذه السرعة التي تحققت للشيخ. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على إخلاصهم.
- وله من الآثار: 'الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب'. وهو مطبوع.
حسين بن غنام (1) (1225 هـ)
الشيخ حسين بن أبي بكر آل غنام، من قبيلة بني تميم. ولد في بلدة المبرز، ونشأ في الأحساء، وقرأ على علمائها وأعلامها، ثم انتقل إلى الدرعية، فاتصل بالشيخ محمد بن عبدالوهاب، فدرس عليه وعلى أبنائه، حتى أدرك وصار في عداد علماء عصره.
قال ابن بشر: كانت له اليد الطولى في العلم ومتونه، وله معرفة في الشعر والنثر، وصنف المصنفات. ألف تاريخ نجد المسمى بـ'روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام' وهو عبارة عن تاريخ الدعوة السلفية وأعلامها.
توفي رحمه الله في شهر ذي الحجة سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيرة تلامذة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وأفضل من جمع أخبار الشيخ في كتابه: روضة الأفكار. وله في العقيدة السلفية:
'العقد الثمين في شرح أصول الدين' ويوجد مخطوطا في المكتبة السعودية بالرياض. وقد سجل رسالة علمية في جامعة الإمام.
وله مواقف طيبة:
__________
(1) الأعلام (2/251) ومعجم المؤلفين (3/317) وهدية العارفين (1/328) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (2/56-58).(1/44)
- منها قوله: ومعنى ظهور الإسلام غريبا أن الخلق -قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - كانوا على ضلالة، فدعا إلى الإسلام فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة. وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى ويشرد ويعذب ويقتل، فيهربون إلى البلاد النائية كالحبشة، ثم إلى المدينة بعد الهجرة.
فصار الداخلون في الإسلام قبل الهجرة غرباء. ثم أتم الله تعالى نعمته على المسلمين، وأكمل لهم دينهم، فلما قبض سيد المرسلين استمروا على الاستقامة والتعاضد والنصرة في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أعمل الشيطان مكايده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، فأضل أكثر المسلمين بهما معا أو بإحداهما. فكان ذلك كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي صحيح البخاري: عن عمرو بن عوف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم" (1) .
وفي صحيح مسلم: عن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم؟ أي قوم أنتم؟" قال عبدالرحمن ابن عوف: نقول كما أمر الله تعالى. قال: "أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون" (2) .
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/137) والبخاري (11/292-293/6425) ومسلم (4/2273-2274/2961) والترمذي (4/552-553/2462) وابن ماجه (2/1324-1325/3997).
(2) أخرجه مسلم (4/2274/2962) وابن ماجه (2/1324/3996).(1/45)
وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضا. (1)
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى وقال: (إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل بأسهم بينهم) أو كما قال.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى على أمته هاتين الفتنتين، كما في مسند الإمام أحمد، عن أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن". وفي رواية: "ومضلات الهوى" (2) .
فلما عمت فتنة الشهوات وأصبح هم الخلق منصرفا إلى الدنيا وزينتها، ارتكبوا المعاصي والكبائر، وأصبحوا متباغضين متدابرين، بعد أن كانوا إخوانا متناصرين.
__________
(1) ولفظ الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم. وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض- وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها". أخرجه: أحمد (4/149) والبخاري (11/293/6426) ومسلم (4/1795/2296) وأبو داود (3/551/3223) مختصرا دون ذكر محل الشاهد والنسائي (4/363/1953).
(2) أخرجه: أحمد (4/420و423) والبزار (الكشف (1/82/132)) والطبراني في الصغير (2/204/502) وذكره الهيثمي في المجمع (1/188) وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح".(1/46)
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة، فسببها تفرق المسلمين، فصاروا شيعا وفرقا وأحزابا: يعمهون في الضلال، ويفتحون أبواب البدع والغي، فتحاسدوا وتباعدوا وتقاطعوا، بعد أن كانوا على قلب رجل واحد. ولم ينج منهم إلا الفرقة الناجية، وهم المذكورون في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (1) .
وهم الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل.
وخرج الطبراني من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشراط الساعة قال: "وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أقل من النقد" (2) . أي صغار الغنم.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجل من أصحابه: "يوشك إن طالت بكم حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأعاده وأبدأه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، ونزل عند منازله، ما يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار".
ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: (سيأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة).
وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد والضلال، ومباينته لهم في قصدهم، ومخالفته طريقهم.
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف عبدالله بن المبارك سنة (181هـ).
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/440-442/4858) وقال الهيثمي في المجمع (7/322-323) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه يوسف بن مسكين وهو ضعيف.(1/47)
قال أحمد بن أبي عاصم -وكان من كبار العارفين في زمن أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا، وعاد وصف الحق غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته، مخدوعا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها.. إلى آخره. خرجه أبو نعيم في 'الحلية'.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده إلى الحسن قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لئن عاش على هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله تعالى وقلبه يحن إلى ذكر السلف، فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبليهم؛ كان له أجر عظيم.
ولقد مدح كثير من السلف السنة، ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس.
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء.
والمراد بالسنة عند هؤلاء الأئمة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، وهي التي ورد أن للمتمسك بها والعامل أجر خمسين ممن قبلهم، والمتمسك بدينه كالقابض على الجمر (1) .
ثم صارت السنة في عرف كثير من العلماء المتأخرين هي السالمة من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة.
وصنفوا في هذا الباب تصانيف سموها 'كتب السنة'. وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا جرف. (2)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(2) تاريخ نجد (1/28-31).(1/48)
التجاني وضلاله (1230 هـ)
من قرأ هذه الطامات الكبرى العقدية يتعجب من حال القائل والمقول له، والكاتب والمكتوب له، والأمة التي تلقى فيها هذه العظائم والموبقات العقدية، فهل هي عاقلة ومستيقظة ومنتبهة، أم هي أمة حمقاء لا تميّز بين لون ولون، ولا بين ذات وذات، أو هي نائمة تعيش في أحلام لا حصر لها، أو هي مؤامرة كبرى على أهل الإسلام خطط لها اليهود والنصارى والمجوس وكلّ عدوّ لله ولرسوله ولكتابه ولسنته. ولله درّ الإمام البخاري رحمه الله إذ قال في كلام الجهمية: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضلّ في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم" (1) . وقال رحمه الله في خلق أفعال العباد: "ما أبالي صلّيت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم" (2) .
فكيف إذا رأى الإمام البخاري رحمه الله هذه الطامات؟ ماذا سيقول؟ وقد قيل: "شر البلايا ما يضحك!" فالسكوت على هذه العظائم يغني عن التعليق عليها، والله المستعان.
__________
(1) خلق أفعال العباد (ص.13) وشرح السنة للبغوي (1/228) والفتاوى الكبرى (5/47).
(2) خلق أفعال العباد (ص.16).(1/49)
وإليك هذه المصائب والطامات، وارجع إلى مصادرها لتقف على صفحاتها وأجزائها ولعلك تكون ممن ابتلي بالاعتذار لهؤلاء المنافقين الزنادقة الذين ملؤوا الأمة كفراً وضلالاً لمصلحة مادية أو رئاسة منشودة أو تمرير باطل تقصده، أو غير ذلك مما ابتلي به أهل الزندقة والإلحاد الذين فتحوا باب التأويل حتى أنكروا الحساب والمعاد، وجعلوا ذلك رموز خير وشر لا أقلّ ولا أكثر، واستباحوا المحرمات القطعية، وجعلوها مجرد حجب وحرمان لعموم الأمة، وأما خواصها فألذ ما يتمتع به الواحد منهم قريبته التي هي من صلبه، وأخته التي شاركته في رحم أمه، وأما أمه وجدته فالرجوع إلى الأصل أصل. وما عبد الإنسان إلا نفسه، فهنيئاً لعبّاد الأصنام، وهنيئاً لفرعون وهامان وقارون الذين كانوا على أكمل الإيمان، إلى آخر ما سطره أهل الوحدة والاتحاد.
فرحم الله الإمام الذهبي إذ يقول في ترجمة ابن العربي الطائي: فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلي بها الصلوات ويؤمن بالله واليوم الآخر خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق، ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة. (1)
- ادعاؤه إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له في تلقين الخلق:
"قال في جواهر المعاني: ...ثم رجع إلى قرية أبي سمغون وأقام بها واستوطن، وفيها وقع له الفتح، وأذن له - صلى الله عليه وسلم - في تلقين الخلق، وعين له الورد الذي يلقنه في سنة 1196هـ، وعين له - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الورد في تلك المدة إلى رأس المائة، كمل الورد - صلى الله عليه وسلم - بكلمة الإخلاص...". (2)
- زعمهم أن صلاة الفاتح وحي:
__________
(1) ميزان الاعتدال (3/660).
(2) 'التجانية' لعليّ بن محمد آل دخيل الله (ص.64).(1/50)
"يقول صاحب الجواهر: صلاة الفاتح لما أغلق، لم تكن من تأليف البكري، ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات... فأتاه الملك بهذه الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور". (1)
- فضل صلاة الفاتح:
"من ذلك قول التجاني: واعلم أن كل ما تذكره من الأذكار والصلوات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأدعية، لو توجهت بجميعها مائة ألف عام كل يوم تذكرها مائة ألف مرة، وجميع ثواب ذلك كله ما بلغ مرة واحدة من 'صلاة الفاتح لما أغلق' فإن كنت تريد نفع نفسك للآخرة فاشتغل بها على قدر جهدك، فإنها كنز الله الأعظم.
..وتحدث التجاني أيضاً عن فضل هذه الصلاة فقال: "كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو: أن المرة الواحدة منها بستمائة ألف صلاة... إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون، فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من 'دلائل الخيرات' تركت 'الفاتح لما أغلق' واشتغلت بها... ثم أمرني صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق... فأخبرني أولاً بأن المرة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة.
وقال أيضاً: من صلى بها -أي: بالفاتح لما أغلق- مرة واحدة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة، من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها.
__________
(1) 'تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي' لمحمد أحمد لوح (1/291).(1/51)
وقال أيضاً: فلو قدرت مائة ألف أمة في كل أمة مائة ألف قبيلة في كل قبيلة مائة ألف رجل وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق، وجميع ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح". (1)
"ولما سئل التجاني عن تفضيله لورده على القرآن أجاب عن هذه المعارضة قائلاً: لا معارضة بين هذا وبين ما ورد من فضل القرآن والكلمة الشريفة؛ لأن فضل القرآن والكلمة الشريفة عام أريد به العموم وهذا خاص، ولا معارضة بينهما؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الأحكام للعامة في حياته، يعني إذا حرم شيئاً حرمه على الجميع وإذا افترض شيئاً افترضه على الجميع، وهكذا سائر الأحكام الشرعية الظاهرة، ومع ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الأحكام الخاصة للخاصة.. فلما انتقل إلى الدار الآخرة -وهو كحياته - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا سواء- صار يوحي إلى أمته الأمر الخاص للخاص، ولا مدخل للأمر العام؛ فإنه انقطع بموته - صلى الله عليه وسلم - ...إلخ". (2)
- جوهرة الكمال من إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"يقول الشيخ الرباطي: وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسيدنا الشيخ... يقظة لا مناماً". (3)
- فضائلها وأحكامها:
"من فضائلها:
1- أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات.
2- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها، ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها.
3- أن من قرأها اثنتي عشرة مرة وقال: هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء والصالحين من أول الوجود إلى وقته.
__________
(1) تقديس الأشخاص (1/292-293).
(2) التجانية (ص.113).
(3) تقديس الأشخاص (1/296).(1/52)
4- أن من نزلت به شدة أو ضيق وقرأها خمساً وستين مرة فرج الله عنه في الحين.
5- إذا داوم على ذكرها صار وليّاً من أولياء الله.
وفي بعض هذه الفضائل يقول صاحب 'منية المريد':
ومن تلا جوهرة الكمال ... سبعاً يكون سيد الأرسال
والخلفاء الراشدون الأربعة ... ما دام ذاكراً لها بعد معه
وذاك بالأرواح والذوات ... وليس للمنكر من نجاة
من أحكامها:
1- أن لا تقرأ إلا بالطهارة المائية.
2- إذا لم يكن الذاكر متوضئاً يبدلها بعشرين من صلاة الفاتح لما أغلق ولا تقرأ بالتيمم في الوظيفة ولا خارجها.
3- يجوز للمسافر أن يقرأ أوراده على ظهر الدابة فإذا وصل إلى جوهرة الكمال نزل عن الدابة وذكر ماشياً فإذا وصل إلى السابعة جلس حتى يتمّ الوظيفة إلا لضرورة فادحة فإنه يذكرها ماشياً على رجليه، بشرط أن لا يطأ نجاسة.
4- يستحب لذاكر الجوهرة نشر ثوب طاهر محقق الطهارة وإن كانت البقعة طاهرة حكماً.
وفي المنية:
ونشرنا للثوب ليس يجب ... على الذي يذكرها بل يندب
وشيخنا فعل ذا بمحضره ... فدع مقالة جهول منكره" (1)
- الهيللة:
"يقول الشيخ التجاني -مثلاً-: من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة، وإن كان له إخوان في البلد فلا بد من جمعهم وذكرهم جماعة، وهذا شرط في الطريقة". (2)
- قول التجاني بوحدة الوجود:
"قال في جواهر المعاني: ...وإبطال ما قاله أهل الظاهر من إحالة الوحدة وبطلان ما ألزموه لِمن قال بها، قال رضي الله عنه: بيانها من وجهين:
__________
(1) تقديس الأشخاص (1/296-297).
(2) تقديس الأشخاص (1/336).(1/53)
الوجه الأول: أن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل، فإنك إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة والخاصية من شعر وجلد ولحم وعظم وعصب ومخ، وكذلك اختلاف جوارحه وطبائعه التي ركبت فيه وبها قيام بنيانه. فإذا فهمت هذا ظهر لك بطلان ما ألزموه من نفي الوحدة؛ لاستلزام تساوي الشريف والوضيع واجتماع المتنافيين والضدين إلى آخر ما قالوه. قلنا: لا يلزم ما ذكره هنا؛ لأنه وإن كانت الخواص متباعدة فالأصل الجامع لهذا ذات واحدة كذات الإنسان سواء بسواء.
الوجه الثاني: اتحاد ذات العالم في كونه مخلوقاً كله للخالق الواحد سبحانه وتعالى وأثراً لأسمائه، فلا يخرج فرد من أفراد العالم عن هذا الحكم وإن اختلفت أنواعه، فالأصل الذي برز منه واحد. فبهذا النظر هو متساوٍ فيلزم اتحاده وإن اختلفت أجزاؤه، كما ذكر في ذات الإنسان وأنها تختلف نسبه بحسب ما فصلته مشيئة الحق فيه من بين شريف ووضيع، وعالٍ وسافل، وذليل وعزيز، وعظيم الشأن وحقيره، إلى آخر النسب فيه، ولم تخرجه تفرقة النسب عن وحدة ذاتيته، كما أن ذات الإنسان واحدة، ووحدتها لا تنافي اختلاف نسب أجزائها واختصاص كل جزء بخاصية، فإن خاصية اليد غير خاصية الرجل، وخاصيتها غير خاصية العين، وهكذا سائر خواص الأعضاء والأجزاء، وإن ارتفاع وجهه في غاية الشرف، وانخفاض محله في غاية الضعة والإهانة، ولم يخرجه عن كون ذاته واحدة مع اختلاف الخواص مثل ما قلنا في ذات الإنسان..(1/54)
ثم قال رضي الله عنه: وهناك وجه ثالث في إيضاحه وهو اتحاد وجوده من حيث فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضاً متحداً، ثم مثاله في الشاهد مثال المداد، فإن الحروف المتفرقة في المداد والكلمات المتنوعة والمعاني المختلفة التي دلت عليها صوره لم تخرجه عن وحدة مداديته، فإنه ما ثم إلا المداد تصور في أشكاله الدالة على المعاني المختلفة والحروف المتفرقة والخواص المتنوعة غير المؤتلفة ولا المتماثلة، فإنك إذا نظرت إلى عين تلك الصور التي اختلفت حروفها وكلماتها لم تر إلا المداد تجلى في أشكالها بما هو عين المداد فتتحد بالمدادية وتختلف بالصور والأشكال والكلمات والمعاني، فكما أن المداد في تلك الحروف عين تلك الحروف، والحروف في ذلك المداد عين ذلك المداد، وهي مختلفة الأشكال والأسرار والخواصّ والمعاني، كذلك نهاية الوجود في ذوات الوجود عين تلك الذوات، وتلك الذوات في ذلك الوجود عين ذلك الوجود، لم تخرجها عن اختلاف أشكالها وأسرارها ومعانيها وخواصها، ولا افتراقها في هذه الأمور لم يخرجها عن اتحادها في ذلك المداد. ثم قال قدس الله سره العزيز: وقد اتضح الحق لمن فهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل". (1)
- معنى الشيخ الواصل عندهم:
"قال في جواهر المعاني: اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: وأما ما هو حقيقة الشيخ الواصل، فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً، فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب ولكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عيناً وأثراً، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق.
__________
(1) التجانية (ص.91).(1/55)
فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ... فلا ثَمَّ موصول ولا ثَمَّ واصل" (1)
- من كمالات الشيخ التجاني:
"قال في الجواهر: ..ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النوارنية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب، وفي غيرها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات". (2)
- ادعاؤه رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقيه عنه وسؤاله عن نسبه وعن روايات الحديث:
"قال في جواهر المعاني: قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناماً قال لي: أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان.. إلخ". (3)
"قال مؤلف جواهر المعاني عن الصلاة المسماة بياقوتة الحقائق: هي من إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا مناماً". (4)
"وقال أيضاً: ..سأل سيد الوجود، وعلم الشهود - صلى الله عليه وسلم - في كل نفس مشهود، عن نسبه وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: 'أنت ولدي حقاً' كررها ثلاثاً - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح، وهذا السؤال من سيدنا رضي الله عنه لسيد الوجود يقظة لا مناماً، وبشره - صلى الله عليه وسلم - بأمور عظام جسام - صلى الله عليه وسلم - وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم". (5)
"وقال أيضاً فيما يرويه عن شيخه التجاني: قال: رأيته مرة - صلى الله عليه وسلم - ، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى عليه السلام، قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان، واحدة قلت فيها يمكث بعد نزوله أربعين، وقلت في الأخرى سبعاً.. ما الصحيحة منها؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : رواية السبع". (6)
- إخباره بالمغيبات:
__________
(1) التجانية (ص.97).
(2) التجانية (ص.103).
(3) التجانية (ص.121).
(4) التجانية (ص.136).
(5) التجانية (ص.136).
(6) التجانية (ص.137).(1/56)
"قال في بغية المستفيد: وأما مكاشفته رضي الله عنه، بمعنى إخباره بالأمر قبل وقوعه فيقع وفق ما أخبر به، فلا يكاد ينحصر ما حدث به الثقات عنه رضي الله عنه.. ومن إخباره بالغيب عن طريق كشفه رضي الله عنه إخباره بأمور لم تقع إلا بعد وفاته إما بالتصريح أو بالتلويح". (1)
- اتهامه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتمان بعض الأمر ومن ذلك صلاة الفاتح:
"قال مؤلف جواهر المعاني: وسألته رضي الله عنه: هل خبر سيد الوجود بعد موته كحياته سواء؟ فأجاب رضي الله عنه بما نصه: الأمر العام الذي كان يأتيه عاماً للأمة طوي بساط ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم - ، وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص فإن ذلك في حياته وبعد مماته دائماً لا ينقطع". (2)
"وقال مؤلف الجيش الكفيل: وسئل: هل كان - صلى الله عليه وسلم - عالماً بفضل صلاة الفاتح لما أغلق؟ فقال: نعم، كان عالماً به. قالوا: ولِمَ لم يذكره لأصحابه؟ قال: لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير وقته وعدم وجود من يظهره الله على يديه في ذلك الوقت". (3)
- ادعاؤه بأن روحه تمد الأقطاب والعارفين والأولياء:
"نقل مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم عن التجاني قوله: إن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - وروحي هكذا -وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها- فروحه تمد الأنبياء وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء". (4)
- ادعاؤه تلقي الفيوض من ذوات الأنبياء وتفريقها على جميع الخلائق:
__________
(1) التجانية (ص.103).
(2) التجانية (ص.141).
(3) التجانية (ص.141).
(4) التجانية (ص.164).(1/57)
"قال مؤلف بغية المستفيد: قال رضي الله عنه: إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور.. وقال: لا يتلقى ولي فيضاً من الله تعالى إلا بوساطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به إنما يتلقاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ". (1)
- كلامه عن حقيقة الولاية:
"قال مؤلف جواهر المعاني: ..وسألته رضي الله عنه عن حقيقة الولاية، فأجاب رضي الله عنه بما نصه، قال: الولاية خاصة وعامة، فالعامة: هي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، والخاصة: هي من سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - إلى الختم، والمراد بالخاصة هي من اتصف صاحبها بأخلاق الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحد، إن لله تعالى ثلاثمائة خلق من اتصف بواحد منها دخل الجنة، وهذا خاص بسيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - ومن ورثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم.. هكذا قال، ونسبه للحاتمي رضي الله عنه. ثم قال سيدنا رضي الله عنه: لا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال أن يكونوا كلهم أعلى من غيرهم في كل وجه، بل قد يكون من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام، وأظنه يشير إلى نفسه رضي الله عنه وبعض الأكابر، لأنه أخبره سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - بأن مقامه أعلى من جميع المقامات... انتهى من إملائه علينا رضي الله عنه". (2)
- ادعاؤه أنه الخاتم المحمدي:
__________
(1) التجانية (ص.164-165).
(2) التجانية (ص.175).(1/58)
"قال مؤلف بغية المستفيد: فقد ثبت عنه من طريق الثقات الأثبات من ملازميه وخاصته، أنه أخبر تصريحاً على الوجه الذي لا يحتمل التأويل أن سيد الوجود أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف عند جميع الأقطاب والصديقين، وبأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة بالله". (1)
"..ومعنى كونه خاتماً لمنصب الولاية المحمدية ألا يظهر أحد في ذلك المنصب بمثل الظهور الذي ظهر به فيه، فهو خاتم لكمال الظهور في ذلك المنصب لا لنفس الظهور". (2)
- ضمانه الجنة بغير حساب ولا عقاب لأتباعه وذويهم ولو عملوا من الذنوب والمعاصي ما عملوا:
"قال مؤلف الجواهر: اطلعت على ما رسمه وخطه، ونصه: ..أسأل من فضل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث.. وكل من أحسن إليّ بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر.. وكل من لم يعادني من جميع هؤلاء، أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخاً أو أخذ عني ذكراً، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة.. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم.. يضمن لي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولجميع هؤلاء أن نموت وكل حي منهم على الإيمان والإسلام.. ثم قال: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبداً إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين، وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضماناَ لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام.. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا مناماً". (3)
__________
(1) التجانية (ص.176).
(2) التجانية (ص.176).
(3) التجانية (ص.196).(1/59)
"ونقل مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم عن التجاني قوله: ..وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك ما ذكر لي فيهم وضمنه لهم - صلى الله عليه وسلم - أمر لا يحل ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة". (1)
"وقال مؤلف بغية المستفيد: إن من جملة ما ذكره سيدنا رضي الله عنه من فضل هذا الورد العظيم عن نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، أن كل من أخذه عن الشيخ أو عمن عنده الإذن الصحيح في التلقين، يكون مقامه ومستقره من فضل الله تعالى في أعلى عليين بجوار سيد المرسلين وإمام المتقين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين، ويغفر الله له تعالى بفضله من ذنوبه الكبائر والصغائر، وتؤدى عنه التبعات من خزائن الرب المجيد القادر، ولذلك كان آمناً من أن يروعه هول المحشر، أو يؤلمه ضنك القبر، وأزواجه وأولاده المنفصلون عنه دنية، وكذا أبواه داخلون معه في هذا الخير الجزيل، بشرط ألا يصدر بغض من الجميع في هذا الشيخ الجليل وجانبه الأعز المنيع". (2)
"وقال في الجيش الكفيل بأخذ الثأر: وسألته - صلى الله عليه وسلم - لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، وأن تودى عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته... وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : ضمنت لك هذا ضماناً لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين". (3)
- ضمانه الجنة لمن نظر إليه يوم الجمعة والاثنين ولمن رأى حلته:
__________
(1) التجانية (ص.196).
(2) التجانية (ص.197).
(3) التجانية (ص.197).(1/60)
"ذكر مؤلف جواهر المعاني عن التجاني أنه قال: ..من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب، إن لم يصدر منه سب في جانبنا ولا بغض ولا إذاية، ومن حصل له النظر في هذين اليومين فهو من الآمنين إن مات على الإيمان، وإن سبق أنه يحصل له العذاب في الآخرة فلا يموت إلا كافراً فهذا ما يمكن إعلامكم به في هذا الوقت، وفي وقت آخر يفعل الله ما يشاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". (1)
"قال مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم: ..رأيت شيخنا التجاني رضي الله عنه وأرضاه -وعنّا به- في واقعة من الوقائع وبيده حلة من نور وقال لي رضي الله عنه وأرضاه -وعنّا به-: من رأى هذه الحلة دخل الجنة. ثم ألبسني إياها رضي الله عنه". (2)
"وقال مؤلف بغية المستفيد: وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بإخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه بعزة ربي: يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة وأنا شاهد على ذلك، ولتكثر من الصلاة عليّ في هذين اليومين فكل صلاة تصليها عليّ نسمعك ونرد عليك، وكذلك جميع أعمالك تعرض عليّ والسلام". (3)
سليمان بن عبدالله آل الشيخ (4) (1233 هـ)
__________
(1) التجانية (ص.210).
(2) التجانية (ص.210).
(3) التجانية (ص.210-211).
(4) علماء نجد (1/293-298) ومعجم المؤلفين (4/268) والأعلام (3/129) وهدية العارفين (1/408) والدرر السنية (12/48).(1/61)
سليمان بن عبدالله بن الإمام محمد بن عبدالوهاب النجدي، العلامة، المجاهد. ولد في الدرعية سنة مائتين وألف من الهجرة، واشتغل بالعلم بحثا ومراجعة على مجموعة من الشيوخ منهم والده الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد والشيخ حمد بن معمر والشيخ عبدالله الغريب والشيخ حسين بن غنام والشيخ محمد بن علي الشوكاني وغيرهم. جعله الإمام سعود قاضيا في مكة المكرمة مع حداثة سنه وطراوة شبابه، ثم رجع إلى الدرعية وصار قاضيا أيضا واختاره الإمام سعود مدرسا في قصره. قال عنه ابن بشر: فيا له من عالم قدير وحافظ متقن خبير إذا شرع يتكلم على الأسانيد والرجال والأحاديث وطرقها وروايتها فكأنه لا يعرف غيرها في إتقانه وحفظه. أخذ عنه العلم عدد كثير من أهل الدرعية وغيرهم منهم الشيخ محمد بن سلطان وغيره.
توفي سنة ثلاث وثلاثين بعد المائتين والألف قتله إبراهيم باشا غدرا بعد أمان الدرعية، فرحمة الله عليه.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
'تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد'، والكتاب مطبوع متداول وهو من أحسن الشروح وأطولها -فيما نعلم- جمع فيه المؤلف آثارا وأحاديث كثيرة، وقد يسر الله بعض إخواننا من أهل الكويت، فاعتنى بالكتاب، فخرج أحاديثه تخريجا جيدا مع فتح المجيد في كتاب سماه: 'النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد'.
'الدلائل في عدم موالاة أهل الشرك' ذكره في علماء نجد.
- مقتل الشيخ سليمان في سبيل عقيدته السلفية:
"لم يزل على حاله الحميدة من الانقطاع للعلم والإقبال عليه والإعراض عن الدنيا والعبادة والصلاح والتقى حتى أصيبت الدرعية بجيش الدولة العثمانية بقيادة إبراهيم باشا، الذي انتهى بالاستيلاء على المدينة بالصلح وتأمين الأنفس والأموال، إلا أن رجلا بغداديا في جيش الباشا، وشى بالشيخ سليمان وبأفراد معه، فغدر بهم الباشا وقتلهم". (1)
من مواقفه رحمه الله:
__________
(1) علماء نجد (1/298).(1/62)
- قال في التيسير: كرر الله تعالى الأمر بمتابعة الكتاب والسنة في مواضع كثيرة من القرآن، وضرب الأمثال لذلك، وأكده وتوعد على الإعراض عنه، وما ذاك إلا لشدة الحاجة، بل الضرورة إلى ذلك فوق كل ضرورة، فإنه لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بذلك، ومتى لم يحصل ذلك للعبد فهو ميت.
كما قال تعالى: أَوَمَنْ { كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (122) (1) .
فسمى سبحانه وتعالى الخالي عن هذا الهدى والنور ميتا، وسمى من حصل له ذلك حيا، وذلك أنه لا مقصود به في حياة الدنيا إلا توحيد الله تعالى، ومعرفته وخدمته، والإخلاص له، والاستلذاذ بذكره، والتذلل لعظمته، والانقياد لأوامره، والإنابة إليه، والإسلام له، فإذا حصل هذا للعبد، فهو الحي، بل قد حصلت له الحياة الطيبة في الدارين.
كما قال تعالى: مَنْ { عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا } يَعْمَلُونَ (2) فإذا فاته هذا المقصود فهو ميت، بل شر من الميت.
__________
(1) الأنعام الآية (122).
(2) النحل الآية (97).(1/63)
قال الله تعالى: اتَّبِعُوا { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (3) (1) ، وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (153) (2) ، وقال تعالى: قَدْ { جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (16) (3) . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } (174) (4) . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ } تَأْوِيلًا (5) . وَمَا { أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا } رَحِيمًا (6) .
__________
(1) الأعراف الآية (3).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) المائدة الآيتان (15و16).
(4) النساء الآية (174).
(5) النساء الآية (59).
(6) النساء الآية (64).(1/64)
فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) . وقال تعالى: وَنَزَّلْنَا { عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (89) (2) . وقال تعالى: وَقَدْ { آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا } (101) (3) . وقال تعالى: فَإِمَّا { يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (124) (4) قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (52) (5) .
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) النحل الآية (89).
(3) طه الآيات (99 -101).
(4) طه الآيتان (123 و124).
(5) الشورى الآية (52).(1/65)
فيا عجبا ممن يزعم أن الهداية والسعادة لا تحصل بالقرآن ولا بالسنة، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهتد إلا بذلك. كما قال تعالى: قُلْ { إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } (50) (1) ثم بعد ذلك يحيلها على قول فلان وفلان. وقال تعالى: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } فَانْتَهُوا (2) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوجب على كل من عقل عن الله أن يكون على بصيرة ويقين في دينه. كما قال تعالى: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (3) .
ومحال أن يحصل اليقين والبصيرة إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف ينال الهدى والإيمان من زعم أن ذلك لا يحصل من القرآن، إنما يحصل من الآراء الفاسدة التي هي زبالة الأذهان. تالله لقد مسخت عقول. هذا غاية ما عندها من التحقيق والعرفان.
وهذه المتابعة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي حقيقة دين الإسلام، الذي افترضه الله على الخاص والعام، وهو حقيقة الشهادتين الفارقتين بين المؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، إذ معنى الإله: هو المعبود المطاع، وذلك هو دين الله الذي ارتضاه لنفسه وملائكته ورسله وأنبيائه. فبه اهتدى المهتدون، وإليه دعا المرسلون.
!
__________
(1) سبأ الآية (50).
(2) الحشر الآية (7).
(3) يوسف الآية (108).(1/66)
$tBur { أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } brك‰ç7ôم$$sù (1) أَفَغَيْرَ { دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (83) (2) فلا يتقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين. (3)
موقفه من الرافضة:
- جاء في تيسير العزيز الحميد: قوله: "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" (4) . فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له بذلك، ولكن ليس هذا من خصائصه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرءون منه ولا يتولونه، بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا. (5)
الحسن بن خالد الحَازِمِي (6) (1234 هـ)
العلامة الحسن بن خالد بن عز الدين بن محسن بن عز الدين، الحازمي التهامي. مولده في هجرة "ضمد" سنة ثمان وثمانين ومائة وألف من الهجرة. أخذ العلم عن القاضي أحمد بن عبدالله الضمدي، وكان وزيرا للشريف حمود بن محمد، وشهد ما ينيف على عشرين وقعة.
__________
(1) الأنبياء الآية (25).
(2) آل عمران الآية (83).
(3) تيسير العزيز الحميد (ص.18-21).
(4) أحمد (4/52) والبخاري (6/137-138/2942) ومسلم (4/1872/2406) وأبو داود (4/69/3661) والنسائي في الكبرى (5/46/8149).
(5) تيسير العزيز الحميد (ص.125).
(6) الأعلام (2/189) ومعجم المؤلفين (3/221) ونيل الوطر (1/462).(1/67)
قال القاضي حسن عاكش: إن صاحب الترجمة أربى في تحقيقه على الأقران، وسارت بذكره الركبان، وبرع في علمي التفسير والحديث، وإليه الغاية في معرفة الفقه والعلوم الآلية، وآخر أمره جعل همه الاشتغال بعلمي الكتاب والسنة والعمل بما قاد إليه الدليل، والميل عما اختاره العلماء من الأقاويل، وجزم بتحريم التقليد.
توفي رحمه الله في معركته مع الأتراك بعد انهزام هذه الأخيرة، برصاصة أزهقت روحه، فسقط على إثرها ميتا، سنة أربع وثلاثين بعد المائتين والألف.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية:
1- رسالة جيدة وجهها إلى الأمير عبدالله بن سعود، ذكرها صاحب تاريخ المخلاف السليماني (1) .
2- نثر الدرر على منظومة الشيخ محمد سعيد سفر في عدم التعصب والابتداع. ذكره في نيل الوطر (2) .
3- 'وجوب هدم المشاهد والأضرحة والقباب'.
4- 'قوت القلوب بمنفعة توحيد علام الغيوب'.
ذكرهما صاحب 'أثر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب'. (3)
علي بن محمد السُّوَيْدِي (4) (1237 هـ)
العلامة المحدث أبو المعالي علي بن أبي السعود محمد سعيد بن عبدالله ابن الحسين السويدي العباسي البغدادي. ولد في بغداد، وأقام بدمشق. أخذ عن أبيه أبي عبدالله محمد سعيد وعمه عبدالرحمن، وبه تخرج، والشيخ محمد الكزبري والشيخ مرتضى الزبيدي ومفتي بغداد محمود الآلوسي وغيرهم.
قال عنه صاحب جلاء العينين: أمير المؤمنين في الحديث. وقال أبو الثناء الآلوسي: كان لأهل السنة برهانا، وللعلماء المحدثين سلطانا، ما رأيت أكثر منه حفظا، ولا أعذب منه لفظا، ولا أحسن منه وعظا، ولا أفصح منه لسانا، ولا أوضح منه بيانا، ولا أكمل منه وقارا، ولا آمن منه جارا، ولا أكثر منه حلما، ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علما.
__________
(1) ص.478).
(2) 1/323).
(3) ص.141و142).
(4) الأعلام (5/17) ومعجم المؤلفين (7/200) وهدية العارفين (1/773) وجلاء العينين (42-43) وفهرس الفهارس (2/1008-1010).(1/68)
توفي رحمه الله في دمشق سنة سبع وثلاثين بعد المائتين والألف.
موقفه من المبتدعة:
الشيخ علي السويدي، من أكابر علماء العراق في وقته، اشتهر بالمعقول والمنقول.
- له من الآثار السلفية:
- 'العقد الثمين في بيان أصول الدين'، والكتاب مطبوع وتوجد منه نسخة مخطوطة ومطبوعة في المكتبة السعودية. وقد مدحه الشيخ محمد خليل الدمشقي بقصيدة طويلة جيدة منها:
عقائد هي عين الحق هادية ... إلى صراط سوي جل عن دغل
من سنة المصطفى والآي قد نسجت ... تلك البرود فكانت أشرف الحلل
وطرزت بدراري العقل ساطعة ... منها البراهين تمحو غيهب الزلل
قد أظهرت بدعا صارت ترى سننا ... لدى الآلي سكروا عن شرعة الرسل
قوم هم نهجوا سبل الغواية إذ ... زاغوا فعندهم إبليس خير ولي
قال صاحب غاية الأماني: وكان هذا الفاضل رحمه الله تعالى، من أعيان دمشق، علماء دمشق الشام، وكان سلفي العقيدة. وكم له من قصائد غراء منع فيها الاستغاثة والالتجاء بغير الله تعالى، وكان سيفا في أعناق الغلاة المبتدعة عبدة القبور. (1)
عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد الحُصَيِّن (2) (1237 هـ)
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد الحصين الناصري العمري التميمي. ولد في قرية الوقف من قرى الوشم سنة أربع وخمسين ومائة وألف. وأخذ الفقه منذ صغره عن الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل، ثم أخذ العلم عن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وابنه الشيخ عبدالله والشيخ حسين والشيخ حمد بن ناصر بن معمر وغيرهم. كان رحمه الله عالما عاملا زاهدا ورعا، مهيبا فقيها، واسع الاطلاع، وأوقاته كلها معمورة بالعبادة والتعليم، وجعل الله في علمه البركة وانتفع به خلق كثير، وله مواقف مشرفة مع الملوك والأمراء.
__________
(1) غاية الأماني (2/321).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/454-464) والدرر السنية (12/49-50) والأعلام (4/22).(1/69)
قال ابن بشر: وكان يحب طالب العلم محبة عظيمة كأنه ولده، بالتودد إليه وتعليمه وإدخال السرور عليه، والقيام بما ينوبه من بيت المال، وكانت كلمته مسموعة، وقوله نافذا عند الرؤساء ومن دونهم. ولي القضاء في الوشم في ولاية الإمام عبدالعزيز بن محمد والإمام سعود بن عبدالعزيز وعبدالله بن سعود. وأخذ عنه عدة من العلماء منهم الشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ إبراهيم بن سيف والشيخ محمد بن نشوان والشيخ محمد بن عبدالله الحصين وغيرهم.
توفي رحمه الله في بلدة شقراء في رجب سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
- جاء في علماء نجد: وكان موضع الثقة عند ملوك آل سعود وعند أئمة الدعوة، ولذا أرسله الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب سنة 1185هـ إلى والي مكة المكرمة آنذاك الشريف أحمد بن سعيد لمناظرة علماء مكة، وأرسل معه الشيخ محمد رسالة إلى الشريف المذكور، فقدم مكة ونزل عند الشريف الملقب -الفعر- واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي وعبدالوهاب بن حسن التركي -مفتي السلطان- وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقت المناظرة فيها.
الأولى: ما ينسب إلى أهل نجد من التكفير بالعموم.
الثانية: هدم القباب التي على القبور.
الثالثة: إنكار دعوة الصالحين لطلب الشفاعة منهم.
وبعد البحث أذعنوا بأن الصواب في المسألة الثانية والثالثة هو هدم القباب، ومنع طلب الشفاعة إلا من الله تعالى، وأنه مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد. كما بين لهم الشيخ الحصين أن نسبة تكفير عموم المسلمين إلى أهل نجد كذب وبهتان، فرجع منهم ظافرا مكرما.(1/70)
ولما كانت سنة أربع ومئتين وألف من الهجرة أرسل الشريف غالب بن مساعد أمير مكة كتابا إلى الإمام عبدالعزيز بن محمد ذكر له فيه أن يبعث إليه رجلا عارفا من أهل الدين يعرفه حقيقة أمر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فأرسل إليه المترجم -أي الشيخ عبدالعزيز الحصين-، وكتب معه الشيخ محمد بن عبدالوهاب رسالة إلى علماء مكة المكرمة بين لهم فيها دعوته، ونفى ما يشاع عنه وعن دعوته من الأكاذيب.
فقدم الشيخ عبدالعزيز الحصين مكة، فأكرمه الأمير غالب واجتمع معه مرات، وعرض عليه رسالة الشيخ، فعرف ما بها من الحق والهدى، فأذعن لذلك وأقر به، ولكنه بعد زمن أبى وتمسك بقديم سنته، فطلب منه الشيخ عبدالعزيز الحصين أن يحضر العلماء ليقف على كلامهم ويناظرهم في أصول التوحيد، فأبوا الحضور، وقالوا للشريف: هؤلاء الجماعة ليس عندهم بضاعة إلا إزالة نهج آبائك وأجدادك ورفع يدك عما يصل إليك من خير بلادك، فطار لبه حين سمع هذا الكلام، وأصر على ما كان عليه، فمنها ثار الخلاف بين الإمام عبدالعزيز بن محمد آل سعود والشريف غالب، ثم تطور إلى القتال، وانتهى باستيلاء الحكومة السعودية على الحجاز. (1)
السلطان المولى سليمان (2) (1238 هـ)
سليمان بن محمد بن عبدالله العلوي، أبو الربيع، سلطان المغرب الأقصى، بويع بفاس سنة ست ومائتين وألف من الهجرة، بعد وفاة أخيه يزيد ابن محمد إثر معركته مع أخيه هشام.
__________
(1) علماء نجد (3/459-461).
(2) الاستقصا (8/119-123) والفكر السامي (2/297) وشجرة النور الزكية (1/380) والأعلام (3/133-134) ومعجم المؤلفين (4/275) وفهرس الفهارس (2/980-984).(1/71)
قال الكتاني: كان من نوادر ملوك البيت العلوي في الاشتغال بالعلم وإيثار أهله بالاعتبار. وقال صاحب الاستقصا: وأما الدين والتقوى، فذلك شعاره الذي يمتاز به، ومذهبه الذي يدين الله به، من أداء الفريضة لوقتها المختار حضرا وسفرا، وقيام رمضان وإحياء لياليه. وقال أيضا: وكانت القبائل في دولته قد تمولت ونمت مواشيها وكثرت الخيرات لديها من عدله وحسن سيرته. وكان رحمه الله في أواخر أيامه قد سئم الحياة ومل العيش، وأراد أن يترك أمور البلاد لابن أخيه المولى عبدالرحمن بن هشام، وأن يتجرد لعبادة ربه حتى يأتيه اليقين. وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، مرض السلطان مرضا أدى إلى وفاته بعد أن عهد كتابة بالإمارة للمولى عبدالرحمن، ودفن رحمه الله بباب آيلان من مراكش.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الملك من أعقل ملوك أهل زمانه، وأذكاهم وأعلمهم وأفضلهم. حيث إن الملوك الآخرين لما وصلتهم خطابات أمير الرياض والحرمين الشريفين، تسرعوا في الرد عليه، والهجوم بألسنة علمائهم وكتابهم، في وصفه بالمروق والخروج عن الدين، ولكن هذا الملك الفاضل أرسل ابنه الأمير إبراهيم إلى الحج لمشاهدة الحال، فجهزه وأرسل معه مجموعة من العلماء والعقلاء، فذهب الأمير والمرافقون فوجدوا من الخير والحق، ما كان مصورا خلافه في أذهانهم، فرجعوا مقتنعين بالدعوة السلفية بعد المناظرات التي جرت في الحجاز والاستفسارات التي كانت نتيجتها معرفة الحق الواضح.
- قال صاحب الاستقصا (1) : وفي هذه المدة أيضا، وصل كتاب عبدالله بن سعود الوهابي النابع من جزيرة العرب المتغلب على الحرمين الشريفين. المظهر لمذهبه بهما إلى فاس المحروسة.
__________
(1) 8/119).(1/72)
- وقال (1) : ولما استولى ابن سعود على الحرمين الشريفين، بعث كتبه إلى الآفاق كالعراق والشام ومصر والمغرب، يدعو الناس إلى اتباع مذهبه والتمسك بدعوته، ولما وصل كتابه إلى تونس بعث مفتيها نسخة منه إلى علماء فاس، فتصدى للجواب عنه الشيخ العلامة الأديب أبو الفيض حمدون ابن الحاج.
قال صاحب الجيش العرمرم: كان تصدى الشيخ أبو الفيض لذلك الجواب بأمر السلطان وعلى لسانه، وذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سليمان حين سافر للحج.
قال صاحب الاستقصا: وهذا يقتضي أن كتاب ابن سعود ورد على السلطان المولى سليمان بالقصد الأول، لا أن نسخة منه وردت بواسطة علماء تونس والله تعالى أعلم.
- وجاء في الفكر السامي: ومن خطبه، خطبته في ردع رعيته عن بدع المواسم التي تجعل للصالحين، نقلتها بلفظها في كتاب برهان الحق. وكان شديد الإنكار لمثل هذه البدع واقفا مع السنة شديد التحري. (2)
- قال عبدالحفيظ الفاسي: وأمر بقطع المواسم التي هي كعبة المبتدعة والفاسقين، وكتب رسالته المشهورة، وأمر سائر خطباء إيالته بالخطبة بها على سائر المنابر إرشادا للناس لاتباع السنن ومجانبة البدع، ولولا مقاومة مشايخ الزوايا من أهل عصره له؛ وبَثهم الفتنة في كافة المغرب وتعضيد من خرج عليه من قرابته وغيرهم؛ واشتغاله بمقاتلتهم وإنكاره أمامهم، لولا كل ذلك لعمت دعوته الإصلاحية كافة المغرب، ولكن بوجودهم ذهبت مساعيه أدراج الرياح، فذهبت فكرة الإصلاح ونصرة مذهب السلف بموته. (3)
- وفي الاستقصا: بعد كلامه على حج الأمير إبراهيم بن سليمان وبيان ما شاهدوه من الأمير ابن سعود وأتباعه من اتباعهم للسنة المحمدية قال: إن السلطان المولى سليمان رحمه الله، كان يرى شيئا من ذلك، ولأجله كتب رسالته المشهورة التي تكلم فيها على حال متفقرة الوقت وحذر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة. (4)
__________
(1) 8/120).
(2) 2/297).
(3) الآيات البينات (ص.301).
(4) 8/123).(1/73)
ونص الخطبة قد نشره عبدالسلام السرغيني في رسالته 'المسامرة'، وعبدالله كنون في 'النبوغ المغربي'، وإبراهيم الكتاني، ثم محمد تقي الدين الهلالي في رسالة صغيرة مطبوعة مستقلة، وقبلهم أبو القاسم الزياني في 'الترجمانة الكبرى' وهو مطبوع متدوال.
وهذا نصها: (الحمد لله الذي تعبدنا بالسمع والطاعة. وأمرنا بالمحافظة على السنة والجماعة. وحفظ ملة نبيه الكريم، وصفيه الرؤوف الرحيم من الإضاعة إلى قيام الساعة، وجعل التأسي به أنفع الوسائل النافعة، أحمده حمدا ينتج اعتماد العبد على ربه وانقطاعه، وأشكره شكرا يقصر عنه لسان البراعة، وأستمد معونته بلسان المذلة والضراعة. وأصلي على محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة، على العموم والإشاعة، والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة.
أما بعد:
أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدوركم، وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه آمركم ومأموركم. فإن الله قد استرعانا جماعتكم، وأوجب لنا طاعتكم. وحذرنا إضاعتكم. يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ } مِنْكُمْ (1) ، سيما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية الَّذِينَ { إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } (2) . ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم، فألقوا لأمر الله آذانكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم. وطهروا من دنس البدع إيمانكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانكم.
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) الحج الآية (41).(1/74)
واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرق السنة لتسلكوها. وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها. وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرفوا فضله عليكم وعوه، واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون. وافترقوا أوزاعا، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا، فيما هو حرام كتابا وسنة وإجماعا، وتسموا فقراء، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا، قُلْ { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (1) . وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة، وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة، وتلبيس وضلال، وتدليس شيطاني وخبال، زينه الشيطان لأوليائه، فوقتوا له أوقاتا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأقواتا، وتصدى له أهل البدع من عيساوة وجلالة وغيرهم، من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة، وصاروا يترقبون للهوهم الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعصيه منهم الجماعات، وكل ذلك حرام ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع.
__________
(1) الكهف الآيتان (103و104).(1/75)