مذهب المشبهة عند الشهرستاني والبغدادي
الحمد لله رب العالمين, والصلاة السلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد :
فقد مضت القرون الأولى والناس في الجملة على السنة في العقيدة، ثم بعد القرن الثاني بدأت الفرق الكلامية كالجهمية ثم المعتزلة بالكلام على صفات الله كلاما أنكره عليهم السلف ، وبدعوهم به، حتى آل إرثهم في كثير من الأحيان إلى الأشعرية, والتي حملت – بعدهم- لواء الكلام في نفي صفات الله.
إلا أن المشكل في ذلك أن كثير من هؤلاء الأشعرية جعلوا السلف من مفوضة الصفات, وأنهم لم يفهموا من النصوص معنى، كما جعلوا تلك الصفات التي أثبتها السلف هي من قبيل التشبيه!
ومن هؤلاء : الشهرستاني في كتابه الملل والنحل، والبغدادي في الفرق بين الفرق.
وهذا الأمر سيتم تناوله في هذا البحث الصغير من خلال كلامهم عن المشبهة.
الفصل الأول : منهج الشهرستاني في بيان مذهب المشبهة.
والحقيقة أن الشهرستاني توسع في الكلام عن المشبهة، وأدرج في عقائدها العديد من عقائد السلف، لكنه بإسلوب أساء فيه للسلف كما سيأتي.
المبحث الأول: استعمال أسلوب الالتواء والإيهام في عرض عقيدة السلف .
ويتبين ذلك بما يلي:
المطلب الأول / أنه أثنى على الإمام مالك وأحمد وبعض السلف وعلى منهجهم العقدي، ثم ضرب النماذج في الانحراف عن طريقهم, بذكر نماذج من التشبيه عند بعض السلف.
والمشكل في هذا, أن ما انتقده على هؤلاء الحشوية – كما يسميهم - هو عين ما يثبته أحمد وغيره من السلف – كما سيأتي - إلا أنه لا يجرؤ أن ينتقد أحمد وأمثاله من الأئمة المتبوعين, وجعل النقد على ما يقوله أتباعهم.(1/1)
قال : " فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف, فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث, مثل : مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان, وسلكوا طريق السلامة فقالوا : نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة, ولا نتعرض للتأويل, بعد أن نعلم قطعا أن الله عز وجل لا يشبه شيئا من المخلوقات, " (1)
وبعد عدة أسطر قال : " غير أن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل : الهشاميين من الشيعة ومثل مضر وكهمس وأحمد الهجيمي وغيرهم من الحشوية قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية وإما جسمانية ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن ..."
إلى قوله : "... وأما ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية, وغير ذلك, فأجروها على ظاهرها, أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام" (2)
فهذا قوله ، حيث برأ الإمام أحمد وغيره من السلف من مقولات المشبهة أولا، ثم أورد قول المشبهة, فخلط فيه بين قول المشبهة وقول السلف الذي يقول به أحمد, وجعله شيئا واحدا لم يفرق فيه.
فهذا المزلق الذي وقع فيه الشهرستاني مزلق خطير ، حيث جعل عقيدة السلف هي عينها عقيدة التشبيه، والمشبهة أطبقت فرق الأمة على ذمهم.
المطلب الثاني / الخلط في عرضه للصفات بين الصفات عند المشبهة , وبين الصفات التي يثبتها السلف ، بصورة تسئ لطريقة السلف في إثباتهم للصفات .
وهذه الطريقة تسئ لمذهب السلف، حيث أن النفوس تأنف التشبيه ، فكيف إذا كانت صور التشبيه المحكية عن المشبهة صور شنيعة يُدخل ضمنها عقيدة السلف بطريقة غريبة، فهذا يؤدي لرد عقيدة السلف واستشناعها.
__________
(1) الملل ص 104
(2) ص 105(1/2)
حكى الشهرستاني عن المشبهة وحشوية أهل الحديث أنهم قالوا أن : " معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض, إما روحانية وإما جسمانية, ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن " (1)
ثم حكى بعد ذلك شناعات في التشبيه من بعض غلاة التشبيه, وكأنها شيئا واحدا.
كقوله عن داود الخوارمي أنه قال : "أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك.
وقال : إن معبوده جسم ولحم ودم, وله جوارح وأعضاء, من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين, ومع ذلك جسم لا كالأجسام, ولحم لا كاللحوم, ودم لا كالدماء, وكذلك سائر الصفات, وهو لا يشبه شيئا من المخلوقات, ولا يشبهه شيء" (2)
فأنت ترى أخي القارئ كيف أدخل بعض صفات الله - والتي يثبتها السلف والتي قد وردت في الآيات والأحاديث الصحيحة - مع صفات المشبهة , كصفة النزول لله سبحانه للسماء الدنيا والثابتة ، في حديث : " يَنْزِلُ ربُّنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر 000" (3)
وهو حين يحكي مذهب المشبهة كأنه يحكي مذهب أهل السنة عندما يذكرون أن له يدا أو رجلا بلا كيف ، بل كما تليق به. ولذا تجده هنا يحكي الثابت في النصوص من اليد والرجل والعين ويجعله من قبيل التشبيه، ثم يمزجه مع صفات أخرى لم يأت بها النص والتي يتوقف في إثباتها فلا تنفى ولا تثبت لله لعدم ورود النص المنزل , وذلك كالرأس واللسان وغيرهما.
ثم ذكر الشهرستاني كلاما أخطر من سابقه حيث صور مذهب المشبهة وكأنه في الحقيقة يصور مذهب السلف .
قال : " وأما ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك فأجروها على ظاهرها, أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام.
__________
(1) الملل ص 105
(2) الملل ص 105
(3) البخاري (7494) ، ومسلم(758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/3)
وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها, في قوله عليه الصلاة والسلام : (خلق آدم على صورة الرحمن ), وقوله : ( حتى يضع الجبار قدمه في النار ), وقوله: ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ), وقوله : ( خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا ), وقوله : ( وضع يده أو كفه على كتفي ), وقوله : ( حتى وجدت برد أنامله في صدري ), إلى غير ذلك أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام " (1)
لا حظ قوله عنهم : " فأجروها على ظاهرها أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام"
وقوله في آخر النقل : " أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام"
فأما قوله أنهم أجروها على ظاهرها , قد جعله مذمة لهم!, مع أن السلف هم من أجراها على ظاهرها ، بل وأنكروا على من تأولها.
قال الإمام إسحاق بن راهوية : "من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي" (2)
وكان معمر الهذلي يقول: "من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم ولا يسمع, ولا يبصر, ولا يغضب, ولا يرضى, وذكر أشياء من هذه الصفات, فهو كافر بالله عز وجل, إن رأيتموه على بئر واقفا فالقوه فيها, بهذا أدين الله عز وجل, لأنهم كفار بالله تعالى" (3)
فماذا يقول الشهرستاني عن هذه النصوص الصريحة من السلف، أم أن هؤلاء من مشبهة السلف!!
وأما كونه فهم من هذه النصوص أن إطلاقها يفهم منه ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام فليس بصحيح. وأهل الكلام وإن توهموا أن ذمهم منصرف للمشبهة ، فهذا الذم في الحقيقة منصرف للسلف أيضا ، لأن أهل الكلام ينفون ويؤولون هذه الصفات لكونها أصلا موهمة للتشبيه، ولم يقولوا أنها تفهم كما يليق بالله سبحانه.
__________
(1) الملل ص 105-106
(2) السنة لعبد الله بن أحمد 1 / 123
(3) السنة لعبد الله بن أحمد 1 / 281(1/4)
ومما يدل على إنكار السلف على من تأولها أو أراد تكييفها، قصة الإمام مالك عندما سئل عن الاستواء ، فقال: (الكيف غير معقول, والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة, وإني أخاف أن تكون ضالا, وأمر به فأخرج) (1)
قال ابن تيمية : " فقول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة .
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ولما قالوا أمروها كما جاءت بلا كيف، فان الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم.
وأيضا فانه لا يحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا أثبتت الصفات" (2)
المطلب الثالث / تلبيس الشهرستاني في أن السلف منقسمون لقسمين في إثبات الصفات . صنف سكتوا ولم يتكلموا في الصفات، وجعلهم مفوضة الصفات.
وصنف سماهم المشبهة من السلف! – كذا صراحة –
وهذا الصنف الأخير ذكره في مبحث المشبهة من كتابه , وقد ذكرهم أيضا في أول باب الصفاتية (3) , قبل أن يتكلم عن الأشعرية ثم المشبهة (4) ، والذي ربطهم بالسلف .
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ص 116
(2) الفتوى الحموية ( ضمن مجموع الفتاوى 5 / 41)
(3) الملل ص 92
(4) الملل ص 103 , وقد عقد الشهرستاني فصل الصفاتية للأشاعرة، والمشبهة، والكرامية.(1/5)
قال : " ..ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف, يثبتون سمي السلف صفاتية, والمعتزلة معطلة ، فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات ... ومنهم من توقف في التأويل وقال : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء, فلا يشبه شيئا من المخلوقات, ولا يشبهه شيء منها, وقطعنا بذلك, إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه, مثل قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ), ومثل قوله : ( خلقت بيدي ), ومثل قوله : ( وجاء ربك), إلى غير ذلك.
ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها, بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له, وليس كمثله شيء, وذلك قد أثبتناه يقينا .
ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا : لا بد من إجرائها على ظاهرها, فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما اعتقده السلف... وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم: مالك بن أنس رضي الله عنهما إذ قال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم." (1)
وذكر نحو هذا الكلام في أول كلامه عن المشبهة ولكن ليس بمثل هذه الصراحة.
وعلى القارئ الحصيف أن ينتبه لتفريق الشهرستاني ، حيث أنه عندما ذكر بعض السلف في مقام المدح ، ذكر منهم الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما.
أما في مقام الذم – مقام التشبيه – تجده أطلق القول من غير تسمية لأحد، لأنه يعلم أنه لو سمى أحدا من هؤلاء المشبهة فلن يجد إلا أئمة يعظمهم الناس.
بقي أمر مهم في منهج الشهرستاني: وهو أنه بعد لمزه لمذهب السلف إما بكونهم مفوضة لا يفهمون النصوص ، أو مشبهة للصفات، جعل مذهب الأشاعرة هو الوارث الشرعي لمذهب السلف, وأنه ممثل مذهب أهل السنة ، حيث يقول :
__________
(1) الملل ص92-93(1/6)
" حتى انتهى الزمان إلى عبد الله بن سعيد الكلابي, وأبي العباس القلانسى, والحارث بن اسعد المحاسبي, وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية .... وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة, فأيد مقالتهم بمناهج كلامية, وصار ذلك مذهبا لأهل السنه والجماعة, وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية" (1)
وأمر آخر مهم, وهو أنه في موطن آخر نقل عن السلف كأحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان أنهم قالوا : "نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل " (2)
فمع حكايته منعهم التأويل إلا أنه جعل مذهب أهل السنة هو مذهب الأشاعرة والملئ بالتأويلات.
فإن كان السلف إما مشبهة أو ممن منع التأويل, كأحمد ومالك وغيرهم ممن ذكر، فلماذا تنحى الأشاعرة عن منهجهم ما دام أنهم خير القرون.
المبحث الثاني : بيان أن الصفات التي انتقدها على المشبهة هي صفات ثابتة لله، وهي سلفية محضة ، وأدخلها تشويها لعقيدة السلف.
وهذه بعض أقواله:
".... الحشوية قالوا : معبودهم على صورة ذات, أعضاء وأبعاض ... ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن...
وقال _ أي داود الخوارمي -: إن معبوده جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء, من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين ....
وأما ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية, وغير ذلك, فأجروها على ظاهرها, أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام" (3)
**فاليد فيها العديد من الأحاديث كحديث الشفاعة ، وفيه : "000 فيأتونه فيقولون : يا آدم! أنت أبو البشر ؛ خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه000" (4)
__________
(1) الملل والنحل ج1/ص93
(2) الملل 1/104
(3) الملل ص 105
(4) البخاري (3340) ، ومسلم (194).(1/7)
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة في ((كتاب التوحيد)): ((باب : ذكر إثبات اليد للخالق الباريء جلَّ وعلا ، والبيان أنَّ الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تَنْزيله 000 )) ، وسرد جملة من الآيات تدل على ذلك ، ثم قال : ((باب ذكر البيان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إثبات يد الله جل وعلا موافقاً لما تلونا من تَنْزيل ربنا لا مخالفاً ، قد نَزَّه الله نبيه وأعلى درجته ورفع قدره عن أن يقول إلا ما هو موافق لما أنزل الله عليه من وحيه)) (1)
**وأما صفة النزول فقد استفاض النقل عن السلف فيها:
قال أبو سعيد الدارمي في ((الرد على الجهمية)) بعد أن ذكر ما يثبت النُّزول من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن ، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا ، لا ينكرها منهم أحد ، ولا يمتنع من روايتها)) (2)
ونحوه عن الإمام الشافعي (3) – إمام مذهب الشهرستاني الفقهي -
** وأما الرجل فثابتة في صحيح السنة (4) .
قال ابن مندة في الرد على الجهمية (5) : "باب في قوله عز وجل: يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جل وعز يضع رجله في النار فتقول قط قط"
** وأما المجيء والإتيان : فثابتة أيضا : قال أبو الحسن الأشعري: ((وأجمعوا على أنه عَزَّ وجَلَّ يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً 000 ) (6)
*** قال الشهرستاني : "وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن : إن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية . وقالوا : لا يعقل كلام ليس بحروف ولا كلم.
__________
(1) 1/118
(2) ص 79
(3) انظر : مختصر العلو للذهبي ( اختصار الألباني ص176)
(4) البخاري (4850)
(5) 1/18
(6) رسالة إلى أهل الثغر ص227(1/8)
واستدلوا بأخبار منها ما رووا عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون )" (1)
والشهرستاني هنا ينص على أن الحرف والصوت من كلام المشبهة، وهو نص الحديث الذي ذكره .
واثبات الحرف والصوت هو عين ما نقل السلف ، الذين أثنى عليهم الشهرستاني بأهم لم يتكلموا في هذه الصفات ، وإنما تكلم عليها المشبهة منهم.
قال عبد الله ابن الإمام رحمهما الله : " سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون : لما كلم الله عَزَّ وجَلَّ موسى ؛ لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : بلى ؛ إن ربك عَزَّ وجَلَّ تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت" (2)
المبحث الثالث : جعله مسألة التأويل في الصفات إحدى طرق السلف في التعامل مع نصوص الصفات ، ونسبة الأشاعرة لمذهب السلف.
وهذا الأمر فيه إيهام، وذلك بجعله أن من طريقة السلف التأويل، وهم من حارب التأويل، وذم أهله.
قال: " فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات.
واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر, فافترقوا فرقتين:
فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.
ومنهم من توقف في التأويل وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء, فلا يشبه شيئا من المخلوقات, ولا يشبهه شيء منها, وقطعنا بذلك, إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد" (3)
__________
(1) الملل 106، ونص الحديث كما في صحيح البخاري (7045) : ( يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار )
(2) المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد 1/302
(3) لم يذكر ذلك في مبحث التشبيه ، وإنما ذكر في أول فصل الصفاتية، ص 93(1/9)
ومن المحتمل أنه أراد بالمؤله في هذا الباب, الكلابية ومنهم الأشعري ، حيث ذكر الشهرستاني أن الأشاعرة هم من ورث مذهب السلف، وهم أهل السنة. والأشاعرة عندهم تأويل كما هو معلوم، فجعل تأويلات الأشاعرة قولا آخرا في مذهب أهل السنة.
قال : " وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية, وصار ذلك مذهبا لأهل السنة والجماعة, وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية" (1)
والغريب هنا أن الشهرستاني قبل كلامه هذا ذكر عن السلف – مالك وأحمد وغيرهم – أنهم من "الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه".
والسلف عنده إما مفوضة أو مشبهة، فمن أين أتى أنهم مؤولة؟! وهم في الحقيقة لم يتعرضوا للتأويل بمعناه الكلامي، بل قد ذموه أشد الذم.
قال ابن مهدي : " إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى وأن يكون على العرش, أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم" (2)
وأيضا ، فإنك تجد أن أحمد بن حنبل انتقد سلف الأشاعرة, كالحارث المحاسبي لقوله ببعض كلام الكلابية كقوله في الصفات الاختيارية (3)
فكيف لو رأى أحمد وغيره من السلف ما آل إليه مذهب الأشاعرة, وخاصة في عصوره المتأخرة، لوجد أن ما خالف فيه السلف أكثر مما وافق. (4)
المبحث الرابع: شرحه لعقيدة السلف على أنهم ليس عندهم مذهب عقدي واضح، ولا يستطيعون المناظرة مع المتكلمين، بمنزلة الأميين.
__________
(1) الملل ص 93
(2) العلو للعلي الغفار للذهبي ص159
(3) انظر : مجموع الفتاوى 6/521
(4) انظر : منهج الاشاعرة في العقيدة للحوالي ص16(1/10)
قال الشهرستاني : " اعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين, ونصرهم جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر, وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن, تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم, وأخبار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم " (1)
انظر أخي هذا الاستهلال لمذهب المشبهة، حيث جعل السلف لا يفهمون نصوص الوحي, ولا يستطيعون الدفاع عنها، وإن تكلموا في نصوص الصفات فهم لن يسلموا من تهمة التشبيه، والتي ما زال الشهرستاني وغيرة يرميهم بها.
ولكي يلطف عبارته فقد أورد بعد عبارته السابقة كلاما يظهر فيه براءة الأئمة الكبار بجعلهم ممن يؤمن بالمعاني على ما يليق بالله، وأنهم يحترزون أشد الاحتراز من التشبيه.
المبحث الخامس: جعله منهج السلف في العقيدة هو التفويض.
وهذا الأمر له علاقة بما قبله، حيث جعل السلف إما مفوضة لا يثبتون للنصوص معان على ظاهرها اللائق بالله، وإما مشبهة في نصوص الصفات.
قال الشهرستاني : " وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم : مالك بن أنس رضي الله عنهما إذ قال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله وسفيان الثوري ..." (2)
وقال أيضا ناقلا عن السلف : " أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ), ومثل قوله : ( خلقت بيدي ), ومثل قوله : ( وجاء ربك ), إلى غير ذلك .ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها, بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وليس كمثله شيء وذلك قد أثبتناه يقينا " (3)
__________
(1) الملل ص 103
(2) الملل 1/93
(3) الملل 1 / 92 ذكر هذا في مدخل الفصل الثالث : الصفاتية.(1/11)
والظاهر أن سبب اللبس عند الشهرستاني وغيره هو عدم فهمه لأقوال السلف (1) - كقول مالك هذا - وعبارات بعض السلف ، مثل : "أمروها كما جاءت بلا كيف" ,ونحوها من العبارات, والتي ظن المتكلمون أنها دالة على التفويض (2) .
وقد سبق النقل عن ابن تيمية في بيان مراد السلف من هذه العبارات ، كما سبق نقل بعض النصوص في أثبات السلف الإثبات الحقيقي للنصوص على ظاهرها اللائق بالله, عند الكلام عن الصفات التي انتقدها الشهرستاني على المشبهة وأنها صفات ثابتة لله، وهي سلفية محضة.
المبحث السادس: جعله طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم .
وأشارالشهرستاني قائلا : " فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف, فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم, من أصحاب الحديث, مثل : مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وسلكوا طريق السلامة " (3)
وهذه هي العبارة المشهورة عن أهل الكلام في وصف أنفسهم " بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه أو الخطأ والجهل وغايتهم عندهم أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط " (4)
المبحث السابع : دعواه أن إثبات النصوص على ظاهرها اللائق يلزم منه التشبيه.
__________
(1) قال ابن تيمية : "وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل" منهاج السنة النبوية 6 / 304 ، وانظر:6/319-320، الدرء 2/307-308
(2) انظر تفصيلا واسعا في عبارات السلف وبيانها ، والرد على المخالفين في ذلك: "مذهب التفويض"، للقاضي ص356
(3) الملل 1/104
(4) مجموع الفتاوى 4 / 157 , وأنظر :5/8، 11/366 ،الدرء3/95 فتح الباري 13/352(1/12)
قال الشهرستاني : " ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا : لا بد من إجرائها على ظاهرها فوقعوا في التشبيه الصرف, وذلك على خلاف ما اعتقده السلف... وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر, فوقعت في التشبيه" (1)
الفصل الثاني : منهج الغدادي في بيان مذهب المشبهة.
لم يكن كلام البغدادي في المشبهة كثيرا، ولم يظهر عنده لمز السلف بمثل ما هو عند الشهرستاني، ولم يأت بجديد على ما سبق نقله عن الشهرستاني.
وهنا سأورد بعض الإشارات، والتي سبق تفصيلها عند الشهرستاني.
المبحث الأول :لمزه لعقيدة من عقائد السلف .
يقول : " ومنهم الذين شبهوا كلام الله عز وجل بكلام خلقه فزعموا أن كلام الله تعالى أصوات وحروف من جنس الأصوات والحروف المنسوبة إلى العباد وقالوا بحدوث كلامه " (2)
وقد سبق الكلام عن لمزهم السلف بهذا حيث أنهم هم ممن يقول أن الله يتكلم بحرف وصوت. وأيضا لمزهم السلف بأن الله يتكلم إذا شاء ، فسموا هذا حدوثا في كلامه، وهذا فيه ما فيه من التنفير من عقيدة السلف.
المبحث الثاني: الإيهام بتثريته على المعتزلة والكرامية عقائد هي في الجملة من قول السلف
قال البغدادي : " وشاركت الكرامية المعتزلة في دعواها حدوث قول الله... وزادت على المعتزلة قولها بحدوث قول الله عز وجل في ذاته بناء على أصلهم في جواز كون الإله محلا للحوادث" (3)
__________
(1) الملل ص 93
(2) الفرق بين الفرق ص 217
(3) الفرق بين الفرق ص 218 ، وقصده بالحدوث عند المعتزلة كونه مخلوقا [انظر : مقالات الجهم, لياسر قاضي 2/569]، لا كما تقول الأشاعرة بالكلام النفسي، والسلف على أنه تكلم به حقيقة، بحرف وصوت وهذا ما قصده أنه تكلم به في ذاته، وهذا ونحوه من الصفات الاختيارية ما يسمونه حلول الحوادث.(1/13)
المبحث الثالث: قسم المشبهة لمشبهة ذات وهم كفار عنده، ومشبهة في الصفات لم يكفرهم. وذلك لإقرارهم بالقران وأحكامه وأركان الإسلام والتزامها. وإن ضلوا وكفروا في بعض الأصول العقلية.
ومن هذا الصنف من اثبت الحرف والصوت، وأنه مماس لعرشه، ومحل اللحوادث. وهذه كلمات فيها إبهام, والأشعرية تثرب على أهل السنة بمثل هذا الكلام، حيث أن الاستواء فيه مماسة, وصفات الفعل يسمونها,حوادث وهكذا.(1/14)